بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » على ثلوج حزرين للشيخ علي الطنطاوي

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 04-07-2007, 03:32 PM   #1
:: رويــال ::
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2007
المشاركات: 637
على ثلوج حزرين للشيخ علي الطنطاوي

على ثلوج حزرين

خطر لي من سنوات أن أرى لبنان في الشتاء . ولبنان في الشتاء له فتنة الراهبةالصبوح بجلبابها الأبيض الذي لا يبدي من جمالها الا قليلا يثير الرغبة في الكثير كالجرعة من الكأس لا تبل الصدى ولكن تزيد العطشى ، والفصل من الرواية لايغنيك عنها . ولكن يشوقك اليها . فرحلت بالسيارة. مع جماعة من الإخوان من بيروت إلى عاليه . حتى اذا بلغناها . تركنا الطريق المعبد الذي يمر على بحمدون وصوفر . وصعدنا في الجبل . نمشي على غير طريق . وكان الصعود أول النهار سهلأ . وكنا أقوياء أولي نشاط . فما قارب المساء وجاوزنا قرية حزرين حتى توغرت السبل . و تبددت القوى ، وتشابهت المسالك . فلم نعد نرى من حولنا على مد البصرالا

ذرى متعممة بالسحاب . وتلالأ مكسؤة بالثلج . تبدو القرى في سفوحها البعيدة . وكان بيوتها المتفرقة بمداخنها ، بواخر تمخر العباب . فجعلنا نفتش عن طريق نعودمنه فلم نجد.الا ثلجأ منبسطأ . يخفي السبل ويغطي الأرض . فلا نتبين مواضع الهوى لنتجنبها . ولا نرى الحفر لنحيد عنها . فلم تكن تمر لحظة حتى نقع في حفرة ، أو نقدم على السقوط . في هؤة . فآثرنا التفرق عل واحدأ منا يرى منزلأ فيدل عليه إخوانه . واظلم الليل . وانفودت في مهامه الجبل . واختلطت علئ الأرض بالسمأء . تقى الثلج بالسحاب ، وهبت الرياح متجمدة من القر، كأنها المبارد الخشنة .تحمل بردأ ثقيلأ جعل يتساقط على وجهى ، كالرصاص المندفع من الرشاشات .وألهب الخوف أعصابي وان كان البرد يجمد أطرافي ، وصؤر لي الوهم أشباحا مرعبة تحيط بي . فكنت أعدو هاربأ منها حتى تكل قواي . فأقف لأستريح قليلأ .فأحس كأن جنيآ جبارأ يسوقنى فأعود إلى العدو. . وطال المسير وطال الليل ،وتهت فما أهتدي الى منزل . وتاه الفجر فما يهتدي الى مطلع ، ونفدت قواي وحطمني الجهد ، فتمنيت الموت وعزمت عليه . وجعلت أفتش عن واد أتردى فيه ،فرأيت من بعيد نورأ خافتأ ، يحاول أن يخترق حجب الظلام . فيعجز ويرتجف كأنه مقرور مثلي يقضقض عظامه القر ، وأعصابه من التوتر والفزع كالأسلاك المحماة بالنار، أو كأنه خائف مثلي من الوحدة في هذه الأعالي الموحشة فهو يرتجف من الخوف . فأسرعت اليه إسراع المشرف على الغرق في اللجة الهائجة الى السفينة المنجية يرى ضوءها ، أو الى الشاطىء الآمن يبصر منا ره ، وهبطت واديأ كأنما تعزف فيهالشياطين من أصوات رياحه . ثم صعدت جبلأ كأنه من استوائه صرح قائم . حتى وصلت الى النور. فاذا بيني وبينه سور كأنه كان يومأ . . . سور حديقة ، فعالجت بابه لأفتحه فاذا هو صدىء المفاصل كأنه لم يفتح من دهور. فحططت عليه بمنكبي . ودفعته دفعة الآيس . فصز صريرآ مخيفأ .رددته هانيك البطاح . فكان له مائة صدى انبعثت كلها معأ ثم حملتها الرياح الى بطون الأودية . وعاد السكون .فولجت أحسب أن الرحمة في باطن البا ب ، الذي كان في ظاهره العذاب . وإذا أنابشبح أسود يثب الى وجهي ويتعلق بي ، وله صوت لم يقع في أذني أفظع منه ، فنظرت اليه وقد شل الفزع أعضائي ، وسمرت قدماي بالأرض . فإذا هو كلب ضار.يهم بأن ينشب فيّ مثل أنياب الذئب الكاسر، فتبلد حسى واستسلمت للقضاء .وتوقعت الشر. . . ولكني رأيت الكلب يدعني ويبتعد عني ، قد دعاه صوت من0داخل البيت . فانصرف اليه مزمجرا ثم أقعى غير بعيد .

ومشيت إلى البيت ..


فدخلت الى ردهة دافئة ، فيها كهل وامرأة وشيخان عجوزان . فسلمت فلم يرد أحد منهم . ولبثوا يحدقون في جميعأ بعيون فيها الدهشة والبغضاء ، شاخصة لا تطرف . كأنهم يرون في مخلوقأ عجيبآ انشقت عنه الأرض ، فلما طال ذلك منهم . ملكتني الحيرة وأخذني من الخوف ما لم يأخذنى وأنا معلق بين السماء والأرض ، تائه لا أعرف لي متجهأ . وهممت بالفرار ثم خفت أن يلحقنى الكلب ، وذكرت الكلب فنظرت اليه فاذا هو رابض يزمجر يريد أن يثب علي فيكفه الكهل بقدمه .


وتجلدت فقلت لهم .


أنا غريب ضل في هذه الجبال حتى وقع عليكم . وأنا أعتذر أن أزعجكم .وأرجوا أن تمنوا علي بقدح شاي أطفىء به حز جوفي الذي ألهبه الخوف . وأدفى ء بهأطرافي التي جمدها البرد .فنظرت المرأة الى الكهل نظرة لمحت فيها خليطأ من الحب والبغض . والشفقةوالرهبة ، ولبثت لحظة متسائلة . فهز رأسه كالموافق . فقامت تعد الشاي . وألقيتبنفسي على مقعد قريب من النار . وجعلت أمارق القوم النظر . فأرى الكهل قويأمتين البناء ، لم يجاوز الخمسين . ولكن الهم الذي تبدو عليه ظواهره قد شيخه قبلأوان الشيوخة (الشيوخة هي الشيخوخة) ، وأرى المرأة في نحو الأربعين . ذات جمال وادع قد حجبه ستار منالكآبة والغم . فهو يضيء من ورائه كما تضيء الحلية النفيسة من تحت الغبارالمتراكم ، وجاءت بالشاي فشعرت وأنا أشربه أنه يمشي في عروقي كما يمشي الريفي النبتة الذاوية تسقيها الماء ، ثم قلت لهم . هل تأذنون لي أن أرقد ما بقي من الليلةعلى هذا الكرسي؟


فقال الكهل بيده أن لا . وأشار الى الخادم الشيخ . فسلك بى ممرات وجازأبوابأ كأنها ممرات قصر كبير، لا كوخ منقطع في رأس جبل لا يبلغه جن ولا بشر. حتى دخل بي بهوا فسيح الجوانب . تفوح منه رائحة القدم والهجران ، أحسست لما ولجته أني ولجت جوف مقبرة من المقابر، فوضع الشمعة التى كان يحملها علىالموقد . وأحنى رأسه وخرج . وتلفت فرأيت الشمعة قد رمت ظلالا على الجدرانصورها لي الرعب شاطين ذات قرون وأنياب فذهبث الى الباب أريد الخروج فوجدتهمقفلأ علي ، فلعبت بي ظنون السوء . وزاد بي الفزع حتى رأيت الجدران تنأىعنى . والمكان يكبر، ووجدت أن الأرض تدور بي ، فصرخت ، فعاد الخادم الشيخ


فقال . مالك ؟


فاستحييت أن أقول له إني خائف . فقلت . ألا تتكرم بإيقاد النار؟


قال : إن الموقد لم يستعمل من عشرين سنة .


قلت . كيف تهملونه عشرين سنة ؟


قال . لقد أهملنا البهو كله . منعنا هاني أن ندخله بعدها ؟


قلت : بعد من ؟


فانتبه وقد كان غافلا ونظر حوله جزعا يخاف أن يكون قد سمعه أحد ثم قال لي : تصبح على خير .


وانحنى وخرج مسرعأ .


وغطى التعب أخيرأ على مخاوفي . وخفق رأسي . فجئت الفراش لأنام فاذا عليهأرطال من الغبار . فنفضته فهبت زوبعة محملة ترابأ فأغمضت عيني وغصت فيالفراش . لم أعد أبالي من الونى أن يكون مثواي قبر أو مزبلة أو جحر ثعبان . فلمأكد أغفي حتى سمعت مثل أصوات المدافع . تدوي في أذني فتبدد النوم من عينئ ثمضعف الصوت حتى سمعت منه وأنا بين النائم واليقظان : هاني . هاني .

ففتحت عييني ، فرأيت الفجر قد بدا . ورأيت الرياح تحرك باب النافذة فيكون منه هذاالصوت ، فأغلقته ، ولكن الصوت لم يبرح يطن في أذني ينادي . هانى . هاني .فذهبت الى آخر البهو ، وهو يلاحقنى . فعاودنى الفزع فصرخت ، حتى سمعني أهلالدار كلهم . وأقبل الكهل مغضبأ يقول . ماهذا ؟0قلت . هل في هذه الدار من اسمههانى ؟ ففتح عينه وقال . ولمه؟


قلت : صوت لا يفتأ ينادي . هاني . هاني .

قال : سمعته ؟ أنت سنعته ؟ أهو صوت امرأة ؟

وجعل يهزني كالمجنون قلت : نعم .


فأرسلني وفتح الباب ، وعدا يخب في الثلج .


ولحقته الرأة كأنها تحاول رده ، ولكنها وقفت في الباب ، وألجم الخوف لسانهافلم تنطق ولكن نطقت عيناها . فأبانتا . وأطل منهما الحب لحظة ثم ارتد . كمايرتد عن النور سجين طال عهده بالظلام . . .وقرأت في وجهها صحائف تاريخ لم أفهم منها شيئآ . فتركتها وأقبلت علىالعجوز . وقد انتحت ناحية تبتسم ابتسامة غريبة . كأنها تقول : أنا أفهم مالا تفهمون . وأنتظر من زمان هذا الذي ترونه الآن وتعجبون منه !>>



فأشرت إليها أسألها .


قالت : سأحدثك . سأشرح لك . انه تاريخ طويل ختم في هذه اللحظة . إنهاقصة هائلة مشت بأحاديثها الركبان . وكتبتها الأقلام . وصورتها ( الأفلام ) وصارتمن روائع الأدب ، لقد مثئت على هذا المرح قبل أن تمثل في ( السينما ) ولكنانتهت الرواية ولم يزح الستار . فلبث الممثلون حائرين لا يدرون ماذا يصنعون ؟وعيون النظار تكاد تأكلهم . تصؤر هذه اللحظات وشدتها ، إنها لا تحتمل وإن كانت لحظات قصارأ ، فكيف إن دامت عشرين سنة . . .


عشرين سنو ونحن بلا عمل ننتظر أن يرخى الستار على هذه المأساة التي مثلناها فلم يرخ إلا الآن ...

قلت وأين ذهب الرجل ؟

قال: ذهب يلبي نداءها .

قلت : وأين هي التي كانت تناديه ؟

قالت : لقد ماتت .

قلت : ماتت . وهل يرجع من مات ؟

قالت : نعم إن في الوجود قوة ترجع الموتى . إنها قوة الحب فإن كنت في شك فاستمع قصتها .




بدأت هذه القصة منذ أربعين منة ، ولم تكن هذه الضهور موحشة مقفرة كما تراها اليوم ، ولم يكن القصر مهجورا خربا ، بل كان حافلأ بالأنس . فياضأ بالنعيم . يمرح فيه الصبا ، ويضحك الطهر ، وان كان قد خلا من هيبة السلطان ، وهجره الجند والأعوان ، بعد ما قضى بمذبحة عين دارة (يسأل عن خبرها الرجل الذي لم يبقى من سلالة الأمراء التنوخيين إلا هو عز الدين التنوخي وهو الذي قص علي القصة وعنه أحكيها) الأمراء التنوخيون سادة الجبل . ودالت دولتهم وذهبت أيامهم ، فلم يبق لسيدي الشيغ ناصر رحمه الله ( مشيخة ) بعدهم على هذي البقاع ، وكان هو ( شيخها )وحاكمها . فما خلا من النبل والفضل . ولا هجره العافون ولا الوافدون . بل كانوا يؤمونه أبدأ فينصرفون وقد حفل وطاب كل واحد منهم بما يشتهي وما يريد من مال الشيغ ومن طيب قلبه ، ونبل نفسه . واشراق وجهه . فكان مجده في عزلته أكبر من مجده فى إمرته .
وكانت ربة القصر قد مضت جميلة طاهرة كزنبقة الجبل ، شابة ناضرة كطلائع الربيع . وكانت تنشر عطر الحب أينما سارت فتترك حبها في كل قلب . فلما تولت أبقت في كل قلب أعطر الذكريات ، وأحر اللوعات . ورعى سيدي الشيخ عهدها ، وحفظ ودها ، فلم يحل محلها من قصره أو فؤاده امرأة غيرها ، ووقف نفسه على ولديها . علأم وليلى . فكان لهما من بعدها أبأ وكان لهما أمأ . ولم يكن في القصر امرأة إلا أنا . وكنت غضة الإهاب ، ريانة الشباب . فكنت أقوم على خدمتهما وتربيتهما .
وكنا نعيش سعداء لا ندري ما الهموم . ولا نسأل عن الغد ، كنا كالمسافر يقف على العين الباردة ، يتمتع بالماء العذب ، والظل الظليل ، ثم يسير لا يحمل معه قربة ماء ولا يتزود زادأ . لأنه يعلم أن الطريق أمامه شمس كله وعطش وجوع وضلال ولا بد له من سلوك هذا الطريق . . .
كانت حياتنا كالبركة الساكنة . ولكن الأيام ألقت في بركتنا حجرأ كبيرأ .أزعج مكونها ، وعكر ماءها . فلم تصف من بعد أبدأ . وكان الحجر الذي رمتنا به الأيام غلامأ قذرأ حمله سيدي من أزقة بيروت . . .

وهنا تبدأ القصة التي أروي لك مقاطع منها . لأنها لا تروى كلها من يستطيع أن يروي قصة حب . بكل ما فيها من عواطف وأفكار ، وآلام وآمال ؟
إن النفس البشرية أعمق من البحر . فمن دخل البحر غرق فيه فلم يخرج منه ليخبر عما رأى ، ومن وقف عل الشاطئ لم يلمس منه إلا الزبد الذي يحمله إليها الموج ، وإن أعظم القصص التي كتبها الأد باء لم تكن إلا زبدا يلقيه الموج إلى الشاطئ . أما اللجة الكبرى فلم يصل إليها قلم أديب . ولا غاص على جواهرها . ولا وصل إلى عجائبها .
هل رأيت الأفق عند الغروب والشمس تلونه كل لحظة بلون . تخلق فيه عجائب لم تعرفها الأرض ثم تبيدها وتأتي بغيرها . وتخط فيه خطوطأ سحرية بألوان ما عرفها الفن ثم تمحوها وترسم سواها . كذلك النفس البشرية . إنها تبني وتهدم في ( الثانية ) من الأفكار والعواطف ، والخواطر والتأملات ، ما يعجز أدباء الأرض جميعأ عن حبسه في القرطاس . فكيف يصف حياة امتدت أربعين منة . من عجز عن وصف حياة ثانية واحدة ؟ وكيف يصور ألوان النفس الخفية من لم يستطع أن يصور ألوان الأفق الظاهرة ؟
إن الأدباء لم يأخذوا من قصص الحياة إلا حوادثها . وما الحوادث ؟ ما خطرها ؟ إنها جسم القصة . فهل رأيت محبا يقتل حبيبته ثم يعانق جسدها يحسب يحسب أن الجسد هو الحبيبة ؟

أروي لك حوادث هذه القصة وأدع لك أن تفهم ما وراءها . وأن تلمس بيد بصيرتك روحها حتى لا تكون جسمأ بلا روح ، وأن تسمعها بأذن نفسك لا بأذن رأسك . فإن النفوس متشابهات ورب إشارة أو كلمة أدل عند النفس من كتاب ضخم عند العقل .
بدأت حوادث هذه القصة يوم عاد سيدي الشيخ من بيروت راكبأ فرسه ، إذ لم تكن قد وطئت حرم الجبل الأشم هذه السيارات . . . وقد لف عباءته على غلام وضعه بين يديه لا يبدو منه الا رأسه ، فلما وصل كشفها عنه فإذا غلام ( شحاد ) عمره نحو عشر سنين ، وسخ الجسم ، قذر الأسمال ، فقال لنا :

-إني وجدته في رأس بيروت يهم بأن يلقي نفسه في البحر فحملته معي .

وجعل الولد يتفلت منه كأنه قط وحشي يريد أن يفر من الصياد ، فشد يدهعليه ، ودفعه إلي وقال لي :
_ خذيه فأطعميه
وياليته تركه يرمي بنفسه في البحر ، أو ياليته خلاه ليهرب ولا يعود ، إذن لما
شقينا به ولما شقي بنا أربعين سنة كوامل ، لم نستمتع فيها بشباب ، ولم نعرف السعادة ولا الاطمئنان .
وسحبته من ذراعه . وهو يحاول التملص مني . ويعض يدي ، وينطحني ويثبت قدميه مستعصما بالأرض كالتيس العنيد ، حتى بلغت به المطبخ ووضعت له الطعام فأكل أكل من لا يخشى الفزر . فلما شبع عدت به إليه وكان يحدث الولدين ويدفع إليهما هداياه التى طلباها منه . القيثارة للصبي والسوط المرصع اليد للبنت . فلما رأته ليلى .

قالت : . بابا . أنه قذر.

ورحمته . أما علام فقد أبغضه منذ اللحظة الأولى .
فقال لي سيدي الشيخ _ خذيه فاغسلي جلده .
ففعلت فرأيته قد استحال انسانا آخر، وخيل الي أني لمحت على وجهه وميض نبل قديم . فلما أنعمت النظر فيه وجدته قد انطفأ وعاد وجهأ عاديأ لغلام وضيء رائع المحيا .
وعدت به الى الشيخ فسر به وقال :
. لقد أسميته ( هاني ) وجعلته مني كولدي .
ونظرت الى الولد فأبصرت عينيه تلمعان ، ثم رأيته يسرع الى الشيخ فيخبئ وجهه في طيات جبته ويبكي ، يعبر بالدمع عن الشكر الذي يقصر عن التعبير عنه اللسان .
وكانت ليلى ترمقه باسمة ، أما علام فكان يأكل قلبه البغض ويجلل وجهه الغضب .
ومرت الأ يام . وألفته ليلى اذ كان في مثل سها وألفها . أما علام فلم تزده له الأ يام الا كرهأ . وكان الشيخ قد اشترى لكل من الثلاثة فرسأ ، فأقبل علام يومأ على هاني وكان يساير بفرسه ليلى . فقال له آمرا . . انزل عن الفرس وهاته . فإن فرسي قد أصا به العرج . فأبى . فسبه وأخذ الفرس منه قسرأ ، وآلمه عدوانه عليه . وأنساه كرم الولد أصله . وأنه لقيط من الطريق . وأن ( علام ) هو الولد والوارث والفرس فرس أبيه ، وأنه أكبر منه سنأ . وأقوى ساعدأ ، فهجم عليه يريد أن يسترجع الفرس منه فضربه علام على وجهه وصدره . ثم أخذ حجرأ ضخمأ فرماه به . فشجه وكاد يقضي عليه لولا أن أقبلت ليلى تدافع عنه بسوطها . تنزل به على وجه أخيها حتى حجزته عنه .
في هذه اللحظة ولد المخلوق الجبار الذي اسمه الحب .
أشفقت عليه . وشفقة الفتاة على الفتى الجميل بذر ة الحب تختفي في قلبها . فلا تحس هي بها . كما تختفي حبة الصنوبر الصغيرة في خدور الجبل تطؤها الأقدام وتتجاوزها الأبصار . ولا يدري بها أحد . ثم لا تلبث أن تكون شجرة باسقة الفرع . ممتدة الأمل . شامخة الهام .
وجعلت تواسيه فيعرض عنها . يستحى برجولته ( الصغيرة ) أن تراها كليم مهزومة وهي تلح عليه . حتى قالت له .
هلم نقطف أزهار الجبل
فأبى . فرفعت ذيلها وانحنت له متشبهة بالعقائل على عادتهن في تلك الأيام . فاستلت بدلالها غضبه . وابتسمت فأنارت بابتسامتها قلبه . فأطاعها وغلبت أنوثتها على رجولة الرجل . . . ولا تزال المرأة غالبة ما حاربت بالأنوثة ، فان زهدت فيها وحاولت أن تجاري الرجل في ميدانه . وتسابقه في حلبته . وتقاتله بسلاحه ، اصتكت ركبتاها ، وكلت قدماها . وعجزت يداها وسقطت.

ومسحت دمه ، وعصبت جراحه ، وأركبته فرسها . ومشت به الهوينى . تلقى في أذنه كلامأ من كلام الطفولة العاشقة . يرفعه في عين نفسه ويحقق فيه عندها ما تتمناه هي في رجل أحلامها . ولكل بنت حلم ولو كانت بنت عشر . ولا يخلو حلم بنت من رجل . ولو كان رجلا ابن عشر ! حتى اذا اقتربا من هذه الصخرة التى تراها قائمة على شفير الوادي . كأنها قلعة من قلاع الجن . أمامها خندق لا تبلغ قرارته الشياطين ، ولا تصل الى ذروته المردة . قالت له .
. اسمع ما أنت بالوضيع ولا اللقيط . أنت سليل الأمراء التنوخيين . أنت الذي نجا يوم ( عين دارة ) وهذا قصر أجدادك .
فنظر مشدوهأ . وقال . هذه صخرة !
. قالت : كلا أنعم النظر إنها قصر أجدادك وهذا الفارس الأسود بالباب يمنعك من دخوله فخذ هذا السيف واعد إليه فاقتله .اعد ...اعده .
قال : هذا سوط .
فصاحت متحمسة ، وضربت الأرض دلالأ بقدمها ، وانتشرشعرها الذهبي
زادها الغضب جمالأ على جمالها . فأراه غضها الصخرة قصرأ ، والسوط سيفأ . وأي
رجل لا تخدعه الجميلة عن الأوهام حتى يراها حقائق . ولا يندفع من أجلها اذا
دفعته الى المهالك ؟
وعثر به الفرس . وكاد يهوي الى الأعماق المظلمة . ولكنه قفز الى الأرض ، وانطلق يقارع بسوطه الهواء وهو يرى أنه يجالد الفارس الأسود ، حتى اذا قتله . . . مسح سيفه من دمه . . . ووضع قدمه على عنقه . . . وصرخ بها صرخة الظافر. فأقبلت اليه وقالت . . أنت الملك . وانا أمتك . . قال : بل أنت مليكتي وانحنى أمامها فقبل يدها . وذهب يقطفف زهور الجبل ليصنعها لها تاجا . . . ونما الحب الوليد فجأة ، فكانت له قوة هذه الصخرة ومسوها . وله طهارة هذه الثلوج ونقاؤها . وله خلود هذه الجبال وبقاؤها . قال صديقي . وسكتت العجوز . ثم قالت : انظر إلى ما تحت قدميك .
فنظرت وإذا أنتن منظر وقعت عليه عينا سائح وأبدعه . قالت :
هذا هو المشهد الذي كنت تراه في ظلام الليل أسود مخيفأ . يبعث الرعب ، ما
تبدل . ولكن غابت عنه الشمس فاستحال جماله قبحأ ، وكذلك الدنيا تكون في عين
سوداء وفي عين بيضاء . وتكون يومأ حلوة حبيبة . ويومأ مرة كريهة ، ولقد اسودت
دنيانا منذ مات سيدي الشيخ ، وغربت منها شمسه المضيئة فشملها الظلام . وذهبت

منها حلاوة نفسه ، فصارت مرة لا تطاق .



تبدلت الدنيا مذ مات ، وشب الصغار. فلم يعد في القصر ثلانة أطفال يلعبون قد ساوى بينهم كرم الوالد ، بل سادة وخدم . وظالم ومظلومون . صار علام سيد القصر . فكشفت منه السيادة عن نفس عبد . وأظهر السلطان منه طبع سوقة . فامتبد بأخته واستأثر الخير من دونها . وجعل هاني خادم الاسطبل ، وسائس الخيل . يمسك له فرسه . وينحني له ليضع نعله الدنسة على كتفه ليركب، ويعدو معه في ركابه ، ويذيقه ألوان الذل ، ويتعمد أن يحمله صنوف الأذى . وهو صابر من أجل حبه ، وهي ترى هذا فينقطع نفسها حسرات . ويمزق فؤادها أن ترى حبيبها و(ملكما ) ذليلأ ممتهنا . ولا تدري ما اللذة ولا تعرف طعم الحياة الا اذا غاب الأخ .
فهرعت الى الصخرة تسبقه أو يسبقها اليها . فألقت بنفسها بين ذراعيه . ما تبالي حطة منزلته ولا وساخة بزته . لقد كانت هذه الصخرة ملاذهما . وعش هواهما يستندان اليها . فاذا الصخرة التي كانت صماء خرساء . قد عاشت بالحب ، وغدتها حيانه الخالدة ، فصارت قلبأ كبيرأ أحنى من قلوب الأمهات . ولسانأ أحلى من ألسنة العشاق ، وعز كل شيىء حواليها وغلا . فالشمس عندها أضوأ في عينهما من شمس القصر ، والليل أعذب . والورد أعطر . والثلج أطهر . وكان يحس وهو معانقها أن هذه السفوح المتسلسلة الى سيف البحر . وهذه القرى المنثورة على السفوح . وهذه الأحراش المطيفة بالقرى ، وهذه السواقي المنبثقة من الأحراش . وهذه الذرى العالية . وهذه الحدور المتتالية وهذا البحر العظيم الذي يمتد حتى يصعد الى السماء أو تنزل هي اليه . فيكون البحر سماء والسماء ماء . كل ذلك ملك له وحده ! ويشعر بالقوة قد ملأت نفسه حتى كادت تتفجر نشاطأ واندفاعأ . وبالعاطفة يكاد يتمزق من طغيانها قلبه . وأنه لم يعد يحتمل السكون والانطواء. على نفسه بعدما حركه الحب . فهو يريد أن يصنع المعجزات . أن يزيح الجبال . أن يكون قائدأ فيفتح بحبها الأرض . أن يكون شاعرأ فيملأ بوصفها الأسماع . أن يكون كاتبأ فيخلدها بروائع الآداب . بكل مقالة هي أعظم من قلعة يشيدها ملك . وأمتن منها بناء . وأعلى . وأبقى ءلى وجه الدهر . تتخرب القلاع وهي باقية . وتنسى أسماء الملوك . وأسماء قائليها درر في صحائف التاريخ . وجمال للماضي . . .
وتنالها من خمرة الحب مثل نشوته . وتغيب معه في سكرة الغرام . فتهمس وشفتاها على خده .
_ هل في الدنيا أسعد منا يا هاني ؟ هل في الوجود متعة أعظم مما نحن فيه :؟
_ فيقول ، نحن الوجود يا ليلى . نحن المحبة والمحبة سر الوجود . هذه الصخرة
ما رست هنا منذ الأزل الا لنأوي اليها . هذه الفوح مابطت الا لنطل عليها . والقمرما طلع من وراء الأفق الا لينظر الينا . والنجوم ما أطلت من فرج السماء الا لتناجينا . والفلك كله يدور من حولنا . نحن قطب الوجود . أنا وأنت يا ليلى . لقد كنا متحابين من قبل أن نلتقي . وقبل أن نولد . وسنبقى متحابين بعد أن نموت . وهذا هو الحب أن يعرف الحبيبة قبل أن تقع عليها عينه .وتسمع باسمها أذنه . يعرفها في سبحاث التأمل في ليالي الوحدة . في ثوران الميل في أعصاب الشباب . في خفقات القلب للجمال . في تطلع الفكر للمجهول . في فراغ النفس . في صراخ الأعصاب ، في كل فرحة ، وفي كل ألم . وكل ذهول . هذا هو الحب الذي لا يعرف طريق الحبيب.
ليس الحب ضمة ولا شمة ولا قبلة . ألحب أن يرى المحبوبة فيحس في نفسه جوعأ سماويأ اليها . رغبة جامحة في أن يفتح قلبه ويضعها فيه ويضمه عليها . الحب أن تفنى هي فيه ، وأن يفنى هو فيها . أن لا يفرق بين الحبيبين الزمان ولا المكان ولا الميول ولا الأهواء . فيكون أبدأ معها . هواه هواها . وميوله ميولها . ويكون في رأسه صداعها . وفي معدته جوعها ، وفي قلبه مسرتها وأحزانها . وأن تكون له ويكون لها . وأن يدخلا معأ مصنع القدرة الالهية مرة ثانية ويخرجا وقد صارا إنسانأ واحدا في جسمين اثنين . فأين تروي جرعات اللذائذ الحسية هذا الظمأ الروحي ؟ ! إنها كالخل للعطشان . يشربه فيحرق أمعاءه ويزيد ظمأه .

فتقول: ياليتنا نموت الآن يا هاني . حسبنا هذه الساعة من العمر . أو ياليت الزمان يقف فلا يدور أبدأ . ولا نعود الى القصر ولا نرى الناس .

_ فيقول . ما الناس ؟ وما القصر ؟ كله باطل ! كل ما عند الناس أوهام ! الحق هنا . هذا وحده الحق . هذا هو الواقع . هنا الدنيا !

ويعجز النطق . وتضيق اللغة . فيتكلمان باللغة التي يفهمها البشر كلهم ، لأن لغة البشرية ليست لغة أمم ولا أقوام ، اللغة التي ليس فيها الا كلمة واحدة ولكن معانيها أوسع من كل ماحوت المعاجم ، اللغة التي لا يفهم الرجل عن المرأة ، ولا تفهم المرأة من الرجل . الا بها . لغة القبل !

وتكون وسوستها الخافتة أبلغ من كل ما قال الشعراء .

ولو استجاب لهما الكون فثبت الفلك . ووقف الزمان . لكانا أسعد سيدين عرفتهما الأرض . ولكن هيهات ... فالفلك دوار . والزمان سيار . والأيام لا تستقر على حال . ورب يوم يحمل محض السعادة . يتبعه يوم يحمل الشقاء . ورب فرح بالولادة والموت متوقب على بابه ، ومسرور بالوصل والهجر متربص على أعتابه . ولو كشف للناس الغطاء لضحك باك. وبكى ضاحك . واستحالت مأتم أفراحأ وأفراح مأتم .
لقد غابا عن الدنيا في عناق لذ تهون معه الدنيا وما عليها . وتدنو به الآمال حتى لا مأمل بعده الا أن يدوم . ولكن الدنيا لا يدوم فيها شيء؟ .

لقد وقف هذا الطفل الجبار الذي ولد بلا حمل ، ونما بلا زمن ، يعبث بهما . هذا الطفل الذي اسمه الحب ... فلما شبع من العبث نام ، وترك الفتاة لشياطين اللهو والترف والغنى تلعب بها ، كما تلعب بكل فتاة في الدنيا.. نام في صدرها الحب أو شبع .

ولقد كانت تستطيع أن تجمع الحب والغنى . والعاطفة والمال . لولا أن هذا الطفل كان ( على جبروته ) أعمى لا يبصر، أمسك بيد ليلى فانقادت له وهي لا تشعر. ثم جرها وهو يتلمس طريقه في الظلام حتى اذا وقعت يده على أول رجل لقيه . عقد قلبها بقلبه . عقدا شيطانيا بلا شرع ولا عقل . وقال لها . هذا هو الحبيب .

وكان أول رجل لقيته هاني . هاني الذي لا يستطيع أن يصعد إليها ليعقد له عليها عقد الشريعة والعرف . ولا تقدر أن تنزل هي اليه . ولولا أن سيدي الشيخ رحمه الله أشق عليه فحمله معه . ما علقت به ولا علق بها . ولا كان هذا القيد الذي ألقاهما معأ في جحيم الدنيا .

أفرأيت كيف يعلق القدر سعادة الناس وشقاءهم بأوهى الأسباب حكمة الهية تخفى عن أفهام البشر !
****
هذا هو الحب . ثوب براق تحمله المرأة وتمشي حتى تلقى رجلا . فتخلعه عليه فتراه به أجمل الناس . وتحسب أنه هو الذي كانت تبصر صورته من فرج لأحلام ، و تراها من ثنايا الأمانى .

مصباح في يد الرجل . يوجهه الى أول امرأة يلقاها . فيراها مشرقة الوجه بين
نساء لا تشرق بالنور وجوههن . فيحسبها خلقت من النور وخلقن من طين . فلا
يطلب غيرها . ولا يهيم بسواها . لا يدري أنه هو الذي أضاء محياها بمصباح حبه .

خدعة ضخمة من خدع الحياة . خفيت عن المحبين كلهم من عهد آدم الى هذا
اليوم.

هذي هي حقيقة الحب . فلا تسمع ما يهذى به المحبون !




لقد قبضت ليلى على الحاضر. وهي عند الصخرة ، واطمأنت عليه ففكرت في المستقبل . فقالت لهاني :
_ ماذا تنتظر يا هاني ، اذهب فاضرب في الأرض وعد إلي غنيا قويا فاحملني معك الى حيث تشاء .
_ قال : كيف أفارقك يا ليلى ، كيف أعيش بعيدأ عنك وأنت حياتي؟ ولكن تعالي نذهب معا.
ولو سمعت هذه الكلمة قبل لحظات ، قبل أن يشبع هذا ( الطفل الجبار ) وينام . لوثب قلبها الى لسانها ليقول نعم . ولانطلقت معه الى البحار لتخوضها . والجبال لتقطعها . ولكنها سمعتها والحب شبعان نائم ، فقالت :

_وكيف نعيش يا هانى ، ومن أين ننفق ؟ أننام على بلاط الشارع ؟

وتصور هذا المصير الذى لا يرضاه لها . فذابت كبده رقة عليها . وقال لها : اذن أبقى معك . وأحتمل كل شيء من أجلك .

وسكتا . وتكلم في أذنها شيطان اللهو والترف . وغمز فؤادها فنظرت تحتها . فرأت أضواء تلمع في أوائل الليل تبدو من ( عاليه ) من بيت فارس أفندي طنوس الذي عاد اليها من أمريكا وفي جيبه نقد جديد لم يألفه أهلوها . وعلى جسده ثياب لم يلبسوها . وفي رأسه أفكار لم يعرفوها . ولمحت بريقأ وحركة فعلمت أنها حفلة من حفلاته الراقصة التي أرقصت أحاديثها صبايا الجبل وشبابه . وأغضبت مشايخه وكهوله . فاسطارت قلبها الرغبة في رؤيتها . وقالت :

. هذا ما أبتغي . هذا ما أريد . فتعال ، تعال نرها من قريب .

وسحبته من يده وانطلقت به . يقفزان كغزالين روعهما الصياد . لا يشعران بقسوة الحجر . ولا بصعوبة المنحدر ولا ببعد الطريق ، حتى وصلا ( عاليه ) وكانت دار فارس أفندي التي بناها عل الطراز الأمريكي أول دار فيها . فوقفا على صخرة أشرفا منها عل الدار . وطفقا ينظران .

رأيا الأبهاء قد حفلت بنساء يلبسن الثياب الكواشف من الحرير . ورجال يلبسون السراويل الضيقة من ( الجوخ ) ، وهم يرقصون متحاضرين حينا متباعدين حينا ، ينقلون الخطا على رنات العيدان . وسجحات المزامير. ورأت الرجال يأخذون بأطراف أنامل الفتيات وهم يحنون لهن رؤوسهم . ويبدون اعجابهم فتخيلت نفسها في هذا النعيم . وتصورت هؤلاء الرجال ذوي السراويل الأمريكية الضيقة ينحنون لها . وقابلت في أعماق سرها بينهم وبين هاني . ثم طردت هذا الخاطر . وأبعدته عن حسها وحسبت أنها تخلصت منه . لم تدر أن ( السوسة ) بدأت تنخر جذع السنديانة

_ قالت . هل ندخل.

_ قال . ومن أين ندخل يا ليلى ؟

_ قالت : أريد أن ندخل . أريد أن ندخل.

.وألحت إلحاح الولد المدلل . فأطاعها . وهل يخالف العاشق معشوقه ؟ انه لا يستحق اسم العاشق حتى يرى كل نزوة للمعشوق حكمة بالغة . وكل رغبة فرضا لازبا ،وكل نقيصة كمالا ما بعده من كمال .
وتسلق الجدار. وهبط بها . فلم تكد تستقر على أرض الحديقة . حتى أحس بها كلبان كأنهما ذئبان . فوثبا اليها فأنشبا فيها أنيابا من حديد . ولم يستطع هاني دفعهما عنها.. وأسرع القوم الى الصوت . فرأوا المشهد . رأوا فتاة ناضرة الصبا . نقية الثياب . وفتى قذرا . فحملوها مكرمين ، وأمروا الخدم بالقبض على ( اللص ) .

فأمسكوا به ونزلوا عليه ضربا حتى هدوه .

ثم جاؤوا به الى البهو ، وكانت على كرسي والخادمات يعالجن جروح قدميها فاقترب منها فسألها أن تعود معه . فاعتذرت بعجزها . وزجره القوم . فقام بينهم فاستنزل اللعنة عليهم وأوعدهم أنه سيرجع فيهدم هذه الدار على رؤوسهم . وبصق على الأرض وذهب . وبقيت هي في الدار التي كانت تحن إليها.
لا لا تلمها أن فكرت في الترف . ومدت عينيها الى متع المال ، وهي عند الصخرة . محراب الحب الأقدس . وجرت هذا البلاء على حبيبها . فإنه لا بد للحبيبين من مشغلة فإن لم يجداها وظلا متعانقين العمر كله والحب بينهما فإنه يختنق .

وكيف يعيش الحبيبان إن اقتصرا على حديث الحب ؟ وهل في لغة الحب إلا ( أحبك ) و ( أحبك ) ؟ كررها عشرين مرة تنم . . . وهل في دنيا الحب إلا العناق والقبل ؟ فهل تمضي الحياة تقبيل وتعانق ؟ ألا تمل ؟ ألا تكل ؟ ألا تجوع ؟ ألا تظمأ ؟ إن حياة كهذه خير منها السجن . وأحلى منها الموت . وأولى بالعاشق أن يفر منها ولو إلى سقر .

ذاقت ليلى في هذه الدار لذة الغنى . وعرفت متعة الترف . واستمرأت الرقص والغناء . وتخطرت في الثياب الغاليات . وأصغت إلى حفيف الحرير من أردانها والى منمقات الألفاظ من القوم العلية من حولها . فتملك شيطان الترف روحها فأفسدها كما تفسد جراثيم السل أجساد الأصحاء . وشغلها بفقاقيع البحر عن جواهره . وأبداها لها تلمع في أشعة الشمس فحسبتها أكرم من الجواهر وأغلى . وزاغت من بريقها عيناها .

فلم تعد ترى وجه الحب ، ولم تعد تذكر الحبيب . ولبثت شهرا كاملا تتقلب في الحرير ، وتمشي على الذهب وهو ينام على الجمر . ويخطو على الشوك ، حتى تم شفاؤها ولم يبق بد من عودتها الى المنزل . فحملتها العربة الفخمة . تجرها الجياد المطهمة حتى بلغت بها الباب ، فنزلت منها . وأقبلت على دنياها التي لم تكن تعرف غيرها . ولا تطمح الى سواها . فرأتها ضيقة مقفرة . وأحست بأن قلبها قد بقي في تلك الدار ، فتمسكت بأسعد ( ا بن فارس أفندي ) الشاب المهذب الأنيق الذي رافقها الى منزلها . تتذكر به الشهر الذي مضى كأنه رؤيا منام .

وإنها لفي هذا الشعور ، وإذا بهاني قد وقف أمامها بثيابه الوسخة ثياب الاسطبل ، فابتعدت عنه . وضمت إليها ذيل ثوبها الأبيض . ولم تكن تعرفه من قبل الا في هذه الثياب ، ولكن الحب كان صابونا يزيل أوضارها . وطيبا يذهب ريحها . وصبغة زاهية تفيض عليها ، فأين الحب الآن ؟ انه نائم لم يفق بعد في قلبها . لذلك أنكرت هذه الثياب . وفرت منها ، وأبدت الترفع والاستعلاء. . ولم تذكر الا أنها ابنة صاحب القصر . وأنه صبي لقيط سائس خيول يقابل أدبارها ، ويرفع أقذارها ، وتألمت لدخوله عليها أمام أسعد . ورأت في ذلك صغارا لها في عينه وخافت أن يظن أنها ليست من طبقة الأكابر المتمدنين . . .

غضبت لعدوان هاني على كرامتها ، وتخطيه قدره الى محاذاتها ، ولم ير هو فيها إلا الحبيبة قد لبست هذه الثياب التي تكشف مفاتنها التي يعبدها . وأبدت أعضاءها التي يقدسها ، لغريب عنها ، فغضب للحشمة الجبلية أن يذهب بها هذا التكشف . وللحب أن يهينه هذا العبث وقال لها :
_ما هذا؟

_ قالت : وأنت من أذن لك أن تدخل علي ؟

_ قال . أنا . . . من أذن لي . . . يا ليلى ؟

_ قالت . لا أسمح لك أن تناديني باسمي لقد عدوت حدك .

ودخلت الخادم فقالت لهاني :
_ امسك عربة أسعد أفندي .
. فصاح بها . ليمسكها هو . وخرج مغضبا .
وقال أسعد : أنا لا أفهم ما صبرك على هذا الخادم القذر . الخادم القذر؟ لقد كانت هذه الكلمة صرخة عالية أيقظت الحب النائم ، فقالت. أنا لا أسمح لك . انه صديقي . لا أسمح لك ، اخرج من داري اخرج
وتركته حيران مشدوها . وانطلقت الى ( صخرة الملتقى ) .انطلقت إلى ( الصخرة ) حين لم تجد في دنياها كلها ، أحنى عليها منها ، وأروح لقبها . لقد كانت ملاذها والحبيب راض مواصل ، والقصر عامر زاهر ، أفلا تكون مثابتها وقد غضب الحبيب . وأقفر القصر . ولم يبق لها في الوجود غيرها ؟ ولمن تلجأ وقد فقدت صدر الأب الذي كانت تهرع اليه كلما دهتها من الحياة دهياء لم تستطع احتمالها ، فتخفي وجهها فيه ، وتبثه شكاتها ألما خفيا خافتا ، فيمسح دمع عينيها . ويرقأ جرح قلبها ، ويرجع اليها سكينة النفس ، وفرحة الحياة ، وفقدته الى الأبد . حين احتوته تلك الحفرة الضيقة على شفير الوادي ؟
ولمن تلجأ وقد أغضبت الحبيب ، الذي نما حبه في فؤادها . وخالط لحمها وعظمها ، ونشأت عليه ، وعاشت به ، وكان منبع ذكرياتها ، ومجمع آمالها ، وغذاء روحها ؟
ولمن تلجأ وما في القصر ملجأ ولا ملاذ . . . لقد أقفر من بعد سيده ، وضل طريقه اليه المجد ، وانصرف عن أبوابه العافون والزائرون ، حين انصرف من مطالب النبل الى مطارح الهوى ومشارب الخمر، سيده الجديد .

انطلقت الى الصخرة وقد علمت لما تيقظ في نفسها الحب أن كل ما في الدنيا من متع المال ونعم الغنى ، هو للمحب كأحلام النائم . لا يجد في يده اذا صحا حبه شيئا منه ، وأنها كموائد الرؤى يفيق الرائي فلا يلقى لها في معدته أثرا ، ولا في جوارحه خبرا وماذا يفيد العاشق فقد الحبيب أن يخطر بغالى الثياب ، وأن يأكل أطايب الطعام ؟ وهل تدفىء الثياب قلبا فيه رغبة الى دفء القلب المحب ؟ وهل تشبع الموائد نفسا فيها جوع الى ثمار الثغور ، وظمأ الى رحيق اللمى؟

ولقد علمت الآن أن صخرة منقطعة مع الحبيب أجمل من قصور الأرض . وساعة معه أطول من سني الدهر . ونومة على فخذه أحلى من نوم على وسائد الحرير بريش النعام عل سرير الذهب وشمة منه واحدة أطيب من انتشاق العطور ، وأن خفقات قلبه عند العناق أعذب من رنات العيدان . وعبقريات الأغاني . . .

ولما دنت من الصخرة نعش نفسها نسيمها . وشفاها مرآها وأحست بعد حياة ( الحضار . . . ) في عاليه ، أنها كالغريق يخرج من الماء وينشق الهواء ، ونظرت الى قصر فارس أفندي فلم تره إلا نقطة في هذه السفوح التي تمتد وكأنها لا آخر لها حتى تتصل بالبحر فيصلها البحر إلى السماء فأحست أنه قد صغر مكانه في نفسها كما صغر منظره في عينها ، ولم تعد تذك رإلأا أماسي الحب وليالي الوصل عند هذه الصخرة التي قدسها الحب .

ووجدت هاني قائما فأسرعت إله وألقت بنفسها بين ذراعيه ، ما أحست وسخ ثيابه ولا شمت فبح ريحه إذ لم يدع لها الهوى أنفا يشم ولا عينا تبصر ... وسكرت من رحيق الغرام وخيل اليها السكر أن لها هذه الدنيا كلها التي تبصرها تحت قدميها ، وأنها أسعد فتاة فيها . وأنها قد أمسكت بكفها الأماني ، وقبضت على الأحلام . .
فأنتصبت والهواء ينثر الحرير الذهبي من شعرها . ومدت يديها وصاحت نشوى .
- املأ يدى من ( أزهار الجبل ) . فراح يقطفها ويملأ منها يدها .

******* وهبط الليل رفيقا حانيا . فأحاطهما بذراعي أم حنون ورد عليهما كل همسة حب كان قد سعما منذ مر على الدنيا، وكل وسوسة قبلة .وطلع الهلال رقيقا زاهيا فعرض عليهما كل مشهد غرام رآه منذ ولد القمر. وكل منظر هوى . فلم يجدا في حديث الليل ، وصور القمر الا تاريخهما هما ، وقصة حبهما ، وأفقر قصة في الحياة قصة الحب ، فهي تتكرر دائما بمشاهدها وفصولها . لا يتبدل فيها الا أشخاص الممثلين .

قصة ألفها هذا الطفل الجبار فضاق به الخيال . وقعد به العجز . فلم يستطع خلال ألف قرن من الزمان ، أن يزيد عليها شيئا أو ينقص منها شيئا ، فهي تمثل في غابة بولونيا وفي مسارب هايدبارك كما كانت تمثل في مغارات سرنديب ، وكهوف بابل .
وهو أبدا يعبث بالمحب ويسيره على هواه . ويضيق عليه دنياه حتى يجد صد الحبيب يسند اليه رأسه أوسع من رحب الفضاء وأفسح من جو الأماني. . ويسود عليه عيشه فلا يبيض إلا إن بدت فيه طلعة الحبيب . ويزهده في المجد والجد . فلا يجد إلا لوصوله إليه . ولا يرى مجده الا في رضاه عنه . . . حتى اذا مل العبث . عاد فنام . . .
********

وعادت ليلى الى القصر وقد نام الحب في صدرها كرة أخرى واستيقظت فيه شياطين اللهو والترف . . . وجاء أسعد يزورها واشتهت أن تلبس الثياب التي أهداها إليها . ما آثرت جمال الثياب على متع الحب . ولكنها كانت كالغني يأكل الحلوى حتى يشتهي الزيتون . ويسكن القصر حتى يستحلي الخيمة . ويركب السيارة حتى يتمنى ركوب الحمار. . . .هذه هي النفس البشرية . يطغيها الغنى وينسيها لذة النعمة وجودها . ولا تعرفها إلاعند فقدها . .
لبست الثياب ونظرت في مرآتها . ومرآة الحسناء من أدوات شيطانها . فرأت في مكانها فتاة من فتيات بيروت ، وأعجبها جمالها. ونظرت الى ثيابها الجبلية التي
نضتها عنها ، والتي تستر كل شيء الا الوجه . كما ينظر المرء الى دودة كانت عالقة به وتخلص منها ، وأحست في نفسها الشوق إلى الإطراء الذي ألفته في ( عاليه ) أذناها . ترقبت قدوم أسعد ، واستطالت الوقت في انتظاره . .
ثم رأته يفتح الباب ويدخل . فتهيأت لاستقباله ونظرت فإذا القادم هاني
وعاد الخصام ولكنه كان شديدا عنيفا هذه المرة . . قال لها :
ثقي يا ليلى أنك لا تحبينه ، وإنما تحبين مظاهر الترف .
- قالت : وأنت ما شأنك بذلك ؟ ولماذا تدخل نفسك فيما لا يعنيك ؟


وامتد الجدال وأطلق لسانه في سعد .
فصاحت به : هو خير منك على كل حال . انه خير ممن يسأل الصدقة بيد قذرة خدعتها ظواهر الحب الناعمة فنسيت الرجولة الخشنة الكامنة وراءهما . فلم تقدرها ولم تحسب حسابها . لعبت بالقنبلة لما غرها بريقها ولمعانها . فلمست زرها فتفجرت . لقد انقلب لما سمع هذه الكلمة من سبع الملعب ( السيرك ) الأليف ، الى أسد الغاب الضاري . لم يعذرها . ولم يضع نفسه في مكانها فينظر ماذا يصنع وهو في مثل حالها النفسية . وهاله أن تترفع عنه وكان يراها مثله . لم يجد نفسه دونها لأن الحب سوى بينهما . والحب ( مذ كان الحب ) مظهره البذل وحقيقته الأخذ ، ورداؤه الايثار ، وجسمه الأثرة . وكان يحتمل منها كل شيء إلا أن تمس رجولته . كالمرأة تحتمل من الرجل كل شيء إلا أن يحقر جمالها وأنوثتها . ولم يعد يرى أمامه الفتاة التي ألبسها حبه ثوب الملك . وحوطها بهالة التقديس ورآها مثال الجمال وغاية الآمال . ولكن امرأة من النساء تهينه . وهو الرجل المعتد برجولته . وهو الذي لم يحتمل المهانة من أخيها الا حبا بها . واشتعل دمه نارا . وجن قلبه في صدره . وأراد أن يتكلم فشعر كأن لسانه قد وقف . وحلقه قد جف . ولم نع على نفسه إلا ويده ترتفع وتهوي على وجه ليلى بلطمة دوت في أذنيه كأنها طلقة مدفع . فصحا فجأة . وهاله ما فعل ، فانطلق هاربا إلى الاسطبل . وخلا بنفسه يفكر فيما صنع . لقد أفرغ غضبه في هذه اللطمة فلم يبق في قلبه إلا الحب . وما يتبع الحب من تقديس ، فكيف فعل هذه الفعلة ؟ وهل فعلها حقا ؟ هل لطم محبوبته التي يشتري اللمسة منها بالحياة ، ويدفع عنها بروحه مس النسيم . وشعاع الشمس ؟ أيكسر الوثني صنمه ... ويبصق المجوسي على ناره ؟
وصارت يده أكره شيء إليه ، هذه اليد التي هدمت مستقبله وطوحت بأمانيه، وملكته نوبة هياج . فضرب يده بالنافذة فحطم زجاجها ، وأطار شظاياها ، وغسل كفه بالدم قالت العجوز .
وسمعت الضربة فأسرعت اليه . وقلت له .
_ما هذا ؟ ماذا صنعت بنفسك ؟ وخرجت لآتيه بضاد ، واذا أنا بليلى ، تدخل علي بثياب المدينة . متوثبة فرحى تقول
_ اسمعي ، اسمعي البشارة. . . .
_ قلت . أي بشا ة ؟
_ قالت . لقد خطبني ، انه سيتزوجني .
_ قلت . من ؟
_ قالت . أسعد . لقد أعلن خطبته لي الآن . وقال إن أباه موافق وأخي . . .
_ قلت . وهل تحبينه يا ليلى ؟

وسكت ، وحبست أنفامسي في انتظار جوابها ، لأني أعلم أن هاني يستمع اليها .
فأحببت أن أذكرها بحبها . ولكن الحمقاء اندفعت بلا وعي تصيح .
_إنني أحبه ، أحب الأرض التي يمشيى عليها . أحب الهواء الذي ينشقه ، أحب . .
وسمعت الباب يصفق ...

_قالت : ما هذا ؟
فلم أشأ أن أخبرها وتريثت وسألتها :

_ أتحبينه أكثر من هاني .؟

فتنبهت كأنها كانت في حلم وأفاقت منه على الحقيقة . وتصورت حياتها بغير هاني فلم تجد فيها شيئا جميلا ولا بهيا ، وهل الحياة إلا الذكريات والآمال ؟ وهل لها ذكرى حلوة إلا معه ، وهل لها أمل الا فيه ؟ واذا هي تركته وتزوجت أسعد فهل يترك حبه قلبها ؟ هل يذهب من ذاكرتها ؟ ألا تذكرها به صخرة الملتقى كلما نظرت اليها . والليل كلما اشتمل عليها ، والقمر الذي كان يرعاها . والسماء التي كانت تصغي كواكبها لنجواهما . والبحر الذي كانت تستمع أمواجه الى أحاديثهما . والتلول والوهاد ، والنسيم العليل ، والثلج وأزهار الجبل . ؟
والتفتت إلي فجأة ، وقالت :
_ كلا . لست أحبه أحب هاني . .إن هاني هو حياتي . ان الفقر معه هو الغنى ، والجوع معه هو الشبع . والسجن معه جنة الأرض .
_ قلت . فلم إذن . زعمت أنك تحبين أسعد ، لقد سمع هاني منك تلك الكلمة . وفتح الباب . وألقى بنفسه يائسا في خضم الليل . . .


_ قالت : ماذا ؟ أسمعني هاني ؟!

وشخصت لحظة وقد جمد تفكيرها . فما يسيل ، ووقف عند هذه النقطة فما يتحرك ..

أهى تحب أسعد ؟

فما هذه الكلمة التي نطق بها لسانها في غيبة قلبها، وزورها على نفسها تزويرا .

أهي تحب أسعد ؟ ومن أسعد ؟ وماذا بينه وبينها ؟ ما يربطه بها ؟ وهل تنسى هاني وعهود الطفولة ؟ ألم ترضع هواه مع اللبن وليدة وتنشأ عليه ؟ ألم تسلك معه طرق الحياة سهلها ووعرها ؟ ألم تأكل معه على مائدة الحياة حلوها ومرها ؟ ألم تشاركه أفكار الحياة خيرها وشرها ؟ أفتهدم سعادتها كلها بكلمة رعناء . . . أنفخة في الهواء تقتلع صرحا ممردا ثابت الأساس ، رفيع الشرفات ؟
ووثبت الى الباب . فتحته واقتحمت اظلإم .
وكانت ليلة قارسة البرد . عاصفة الريح ، جنت فيها الطبيعة . فهي تضرب بيديها. وتنثر البرد والثلج ، وتلطم الوجوه والبنى . فخرجنا وراءها نناديها . . . وهي تعدو متحدرة ، تثب على الصخور وتقفز الى الأعماق . تنادي . هاني . هاني . فيضيع صوتها في عويل الرياح . وعزيف العواصف . ثم انقطع الموت . وخفي الشخص ، وضاعت منا ، فلم نجدها . . .
ورأينا أخاها مقبلا سكران . فخبرناه ، فقال :

_ سأشرب كأسا أخرى على هذه البشرى وقهقه كأن ابليس يضحك بفيه . وأم القصر، ولبثنا نفتش حتى بدا الصباح فاذا هي ملقاة في حفرة . قد علاها الثلج . فتعاونا حتى حملناها الى دار أسد في عاليه . لتلقى ناسا يعنون بها . وطبيبا يداويها . . .
أما هانى فلم يعد ولم نسمع عنه خبرا . . .
أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكف . مفداة بالأرواح ، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية . وأحيطت بكل مظاهر الترف ، وسيق لاسعادها كل ما وصلت اليه الحضارة ، وأبدعه العقل ، فلا ترى الا جميلا . ولا تشم الا طيبا . ولا تسمع الا سارا، ولا تأكل إلا لذيذا ، ولكنها لم تكن سيدة . . . ولم تر حسن ما هى فيه . لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب .
ولم يكن لها ما تشكو منه ، فقد أعطاها أسعد كل شىء ، ولم يطلب منها شيئا . وكان يسرها محضره ، ويهزها كرمه ، ويعجبها أدبه ، ولكنها لا تحس الفراغ في نفسها لغيبته ، ولا تجد الخفقان في قلبها لحضوره ، ولا يحملها حديثه على أجنحة الخيال إلى العالم المسحور الذى كانت تحملها اليه أحاديث هانى . على جفوتها وفراغها ، . .
ولقد أحب أن يتم عليها سعادتها بالبحث عن هاني . فبعث الرسل ينفضون الأرض ، ويفلون المدن . ويبحثون في الهضاب والشعاب ، فلم يقعوا له عل أثر. وطفقت ليلى تفكر فيه حتى خدر فكرها وكل ، وانطوى على هذه ( الفكرة ) الواحدة . فلا يعنى بغيرها . ولا يفرغ لسواها . وأدركت أن هذا العالم الذي بدا لها أول مرة بهيا في فاتنا : عالم الذهب والحرير والزهر والعطر، جميل ، ولكنه كجمال الدمية الفنية ، لها المقلة الساحرة . والقامة الفتانة . ولكنها باردة ليس فيها روح . وهل روح الحياة الا الحب ؟
جز بأجمل البقاع ، واسمع أحلى الأغاني ، وشم أطيب العطور، وافتقد الحبيب لا تحس لذلك لذة . ولا تجد طيبا. . .



. . . ولكن الأيام تبدل كل شيء . وقد بدل ليلى كر الأيام . فلم يجف الجرح في قلبها . ولكن مس الحنان قد راضه على السكون . ولم يذهب الحب من نفسها ، ولكن عرفان الجميل . قد ألقى عليه غطاء فأخفاه ، ولم تنسى حياة القصر وساعات الصخرة . ولكن غياب هاني قد حملها على الأنس بهذه الحياة الناعمة المرفهة التى نشأت عليها وتعودتها . هذه هي معيشتها لا معيشة هاني ، الذي ألقته المقادير أمامها . وقد ولد في غير بيئتها . وجبل من غير طينتها .
ويا ليتها لم تكن عرفت هاني . ويا ليت أسعد كان الاسبق اليها ، اذن لوجدت السعادة كاملة ، لا ينقصها شيىء ، ويا ليت الحب . هذا الطفل الأعمى ، لم يكن رماها بهاني ، وبالغلام القذر الذي جيء به من أزقة بيروت . فتعلقت به . كما يتعلق المرء بكأس الخمر . تهري أمعاءه . وتشتاقها نفسه ، بل هو القدر . القدر الذي جعل جسدها منعما في هذه الجنة . وقلبها معذبا في ذلك ( الاسطبل ) . وكتب عليها أن تعيش مع أسعد ، ويكون حبها لهاني .
ولم يكن أسعد وأخته يدعانها لحظة كيلا ينبثق جرح قلبها ، وكانا يطرفانها أبدا بأجمل الطرف . وأرق الأحاديث . ويجددان لها كل ساعة مسرة . ولكنها كانت كلما خلت بنفسها . أو لمحت الصخرة من بعيد . ذكرت ليالي الحب عند الصخرة ، وعادت تفكر في هاني أي أرض تحمله . وأي سماء تظلله . وهل هو حي لا يزال ، أم قد طواه الثرى ؟ ويا ليتها تستيقن موته . فتستريح الى اليأس ، وتتعزى بالعجز . . . وكان أسعد يوما من أيام النقاهة الى جانبها ، وقد أضجعها على أريكة في الحديقة . تضحى بشمس الصباح تظللها بواسق الصنوبر. وتحف بها فواتن الأزهار، وقعد على كرسي صغير، ينظر اليها كما ينظر الوثني الى صنمه . يطل قلبه من عينيه حبا . ويقف لسانه هيبة . وتنقبض يده إكبارا فلا يمسه إن مسه إلا بأطراف الأنامل ، وكان يتأمل شفتيها . حتى اذا تحركت طالبة شيئا جاءها به قبل أن يتم اللفظ . ويلحظ عينيها حتى إذا مالت إلى شيء حمله إليها قبل أن يرتد الطرف .
وطغت عليها عاطفة الشكر وعرفان الجميل . فأمرت أصابعها على شعره فأحس رجفة الكهرباء العلوية التي لا تمشي في اسلاك ولكن تسر في الأعصاب ولا تضيء البيوت ولكن تنير القلوب ولا تحرك الآلات ولكن تحرك الكون . الكهرباء التي اسمه الحب وتجرأ فقال الكلمة التي كان يرددها في نفسه على عدد القائق والثواني ولا يجرؤ أن يقولها لها .
هل تقبلين بي زوجا ؟
وسكت يرقب الكلمة التي تعرفه مصيره في هذه الدنيا إما إلى جنة الحب أو إلى نار الهجران وسكتت ليلى لحظة ولكنها لم تذكر ماضيا ولم تفكر في مستقبل ولكنها نظرت إلى الحاضر وحده كما تفعل أي امرأة في الدنيا .

وقالت : نعم .
ونم الزواج .

ومرت سنوات طويلة . ناعمة هادئة ، كأنها مياه البحر في خليج جونيه ، واستقر الجرح في قلب ليلى ، حتى ظنته قد التأم ، ومنعته عناية أسعد ومحبته أن ينفجر أو يتسع . واتصلت المودة بينها وبين أسعد ، والمودة إن اتصلت بين الرجل والمرأة لا تلبث تصير حب . وكاد يجيء الحب ، لولا أن عصف البحر في الخليج فجأة وماج واضطرب ، حين دخل الخادم يعلن قدوم هاني .


انفجر الجرح . وعاش الماضي . ونظرت ليلى إلى حاضرها الذي كانت تأنس به وتطمئن اليه ، فوجدته يتهدم ويكاد يضمحل حين داهمه هذا الماضي بسلبه الدفاع ، فتمسكت بأسعد الذي هو رمز هذا الحاضر ، كما بتمسك الغريق ببقايا الزورق وهتفت به أن يمنعه من الدخول . فأبى أسعد . وحسب لغروره وجهله بطباع المرأة . أن الحب قد مات ودفن . لا يدري أنه دفن في القلب ، ودفين القلب يحيا اذا ناداه الماضي . وأذن له بالدخول ، وقام لاستقباله ، وبقيت ليلى جالسة ، ساكنة الجوارح وقلبها في زلزال ، معرضة عنه وكل شعرة في جسمها تنظر إليه وتحس به ، قد شحب لونها ، واصفر وجهها حتى لم يبق فيه قطرة واحدة من الدم . ورفعت إليه عينيها أخيرا ، فوجدته قد عاد بأبهى حلة . وأكمل زينة ، تبدو عليه مظاهر الغنى . وعلائم الثروة ، وتخاطبت العينان في لحظة . فألقتا ألف سؤال وسمعتا ألف جواب . وروتا قصصا وساقتا أخبارا ، ولم يدر حديثهما أحد ، ثم أغضت . وأخذها مثل الدوار .
وسمعت وهى في غيبتها أطرافا من الحديث ، فعلمت أن هاني قد عاد من أمريكا غنيا . وأنه قد اشترى قصر أبيها . وصار مالكه .
وكان لكل كلمة يقولها . وحرف ينطق به . معنى في نفسها . لا يدركه الزوج ولا ينتبه له ، لقد كان يفهم معاني الكلمات في المعجم وهى تفهم معانيها في القلب المحب ، وفي الماضي المبعوث . وتحس أن الحديث بينه وبينها ، وإن كان الذي يرد عليه زوجها . ثم غشي عليها فلم تعد تشعر بشىء .


وذهب هانى الي القصر ، وقعد على كرسي سيدي الشيخ رحمه الله وراح ينظر حوله : لقد خرج من القصر أجيرا ذليلا ، وعاد إليه سيدا مالكا ، وصار علام تحت يده ، يجرعه إن شاء المر من كأس الانتقام ويجزيه بالسيئة قدمها له عشرا ، وحالفه الحظ . وسعى اليه المال . ولكن ما فائدة هذا كله . وفي نفسه هذا الفراغ الذي لا يملؤه مال ولا قصر ، ولا تسده لذة الانتقام ، لقد ذهبت نشوة الظفر وعلم الآن أنه لن يسره شيء مما على ظهر الأرض الا هذه المرأة التي اسمها ليلى . و صارت ليلى لغيره . . . فهل يسعده شيء .
وعرض ماضيه كله . فتمنى أن تعود أيام الفاقة والعوز . وأن يعود خادما ذليلا يحيا بقربها . لقد كان في الحنان الذي ينبثق من عينيها . والفتون الذي يبدو في صوتها وحديثها . والعطر الذي يشمه من جسدها الغالي . ما يغنيه عن المال والجاه فهل يغنيه الجاه والمال اليوم عن حنانها وفتونها ، لقد كان يفر الى الصخرة الجامدة .
فينسى القصر وعذابه ، فهل ينسيه القصر ونعيمه اليوم تلك العشايا الحبيبة عند الصخرة؟
لقد ضرب في الأرض . وخاض البحار، وذهب الى أمريكا ليعود بالمال الذي يشتري به قلبها الذي صبا إلى المال ، فماذا ينفعه الآن إن اشترى القصر وخسر القلب ؟ ألهذا كد ونصب ، وحمل الجوع والتعب ، وسامر طيف الحب في ليالى الغربة ، وتجرع مرارة الهجر في دار النوى ؟
وانتظر أن تلبي صوت القلب ، وتستجيب الى دواعي الحب ، فلما رآها صنعت ما تصنع كل فتاة خيرة شريفة ، فآثرت الزوج على العاشق . والفضيلة على اللذة . تبدل بنفسه التي كان عليها نفسا جديدة ، نفخت فيها سبعة شياطين ، فامحت منها كل صفات الإنسان ، ونظر الى الدنيا ومن فيها بعين الحاقد الحاسد المنتقم ، وكان من سوء حظ سلمى ( أخت أسعد ) . وهي المرأة التي رأيتها حين دخلت هذه الدار، أن مالت إلى هاني وشغفها حبا ، والحب جنون يدفع الى كل حماقة وشر ، ففرت إليه ، وألقت نفسها على قدميه ، وتزوجها بأسرع من كرة الطرف ، وما تزوجها عن حب لها واليسعدها ويبرها ، بل لينتقم بها من أخيها . كره الناس كلهم ولكنه بقي على حبه لليلى وحدها ، فلما ماتت بعد ذلك على يديه ، وهي تنظرالى الصخرة التي كانت مرتع صباها ، ومربع هواها لم يبق في قلبه إلا البغضاء .
ولبثت سلمى معه هذه السنين الطوال ، عشرين سنة ، ما أطولها . وهي تقاسي منه أكثر مما يقاسي السجين من جلاده . والأسير من آسريه ولم تفقد حبها إياه . أرأيت حب المرأة ؟ ! انها تحب بقلبها . والرجل يحب بشهوته . فحبها باق وحبه متحول . ولم تنقص مع ذلك كراهته إياها وايذاؤه لها . .
_ قلت . ماذا تقولين يا امرأة ؟ انك تسردين قصة أدبية مشهورة ، هى (مرتفات وزرنج ) ؟
فضحكت وقالت :
_ أما قلت لك ،انها قصة كتبتها الأقلام ، وصورتها ( الأفلام ) ؟ وزرنج ؟ وما وزرنج ؟ إنها حزرين يا سيدي . ولكن سرقوا القصة . وحرفوا الاسم .
ولما أصبح الله بالصباح . فررت من هذه الدار . وأنا لا أدري أتقرل العجوز حقا ؟ أم هي تسخر مني ؟ أم أنا قد أمضيت ليلتي في مستشفى مجانين !
__________________
أجمل مافي الألم أن حروفه مصنوعة من الأمل


الآن
جميع الأجزاء

:: صور من رحلتي الى صلالة ::
:: رويــال :: غير متصل  


قديم(ـة) 04-07-2007, 09:33 PM   #2
:: رويــال ::
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2007
المشاركات: 637
شكرا لك مشرفنا الغالي أبو محمد النجدي
على الرد الرائع
__________________
أجمل مافي الألم أن حروفه مصنوعة من الأمل


الآن
جميع الأجزاء

:: صور من رحلتي الى صلالة ::
:: رويــال :: غير متصل  
قديم(ـة) 04-07-2007, 11:48 PM   #3
مُسعر قلم
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Jun 2006
البلد: الظهران :(
المشاركات: 149
لي موضوع
أديب الفقهاء وفقيه الأدباء
يحكي سيرة الطنطاوي وقد أعددته بعد قراءة لغالب كتب الشيخ رحمه الله
من الممكن الإطلاع عليه
http://www.buraydahcity.net/vb/showt...292#post470292
__________________
.
مُسعر قلم غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية

أدوات الموضوع
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 08:42 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)