[أبوعمر السحيم]

بسم الله الرحمن الرحيم
شيخ يركض في الحرم !! وش عنده ؟
كنت أتجول في رحبات بيت الله المحرم .. في مكة المكرمة .. حيث الراحة النفسية .. والطمأنينة التامة .. والسكينة الخالصة .. ولاسيما مع منظر غروب الشمس الهادئ البديع .. إلا أنه استوقفني منظر غريب جداً !! حيث استغربته فاستنكرته !! حيث أبصرت عيناي خيشاً –أأقصد : شيخاً- يجري في الحرم ..ويسابق الريح أمام هذه الجموع الغفيرة ..وقد جمع عباءته في إحدى يديه .. ورفع ثوبه إلى أنصاف ساقيه .. ووضع يده الأخرى على عمامته .. فدققت النظر .. وأمعنت الرؤية .. لأتأكد مما تراه عيني ولا أكاد أصدقه .. فإذا به حقيقة لا خيال .. وعلم لا حلم .. ولعلك تستغرب مثلي .. إلا أنه زال عجبي .. وذهب ذهولي .. حينما دل الموقف على أن هذا المعمم ما هو إلا شيخ رافضي .. فزال الاستغراب لأن الشيء من معدنه لا يستغرب ..
ولما انقضت صلاة المغرب .. جلست أتأمل في هذا الموقف .. وأتفكر فيه .. لأني رأيت أنه مليء بالعبر .. ثقيل بالدروس .. حيث تظهر واضحة جلية حينما تعقد مقارنة بين هؤلاء المعممين وبين علماء أهل السنة والجماعة .. حيث البون الواضح .. والفرق الشاسع .. فبينهما من المفاوز والمسافات ما لا يحده حد .. حيث أن من رأى علماءنا وجالسهم استفاد من سمتهم .. وتعلم من خلقهم .. وربما كانت استفادة الجالس عندهم من سمتهم أعظم من استفادته من علم العالم في هذه الجلسة .. فسمت وسكينة .. وهيبة وطمأنينة .. حيث المظهر الموقر .. والسير المهذب .. والخلق الحسن .. والعلم الجم .. والتقى والخفاء والنقاء .. وليس هذا بغريب عليهم !! وهم (ورثة الأنبياء) .. وهل ورث الأنبياء إلا مثل هذا .. وأما أولئك علماء الشبهات والشهوات والأهواء المضللة .. فهم أتباع إبليس الرجيم لعنهم الله جميعاً .. واتِّباعهم له أثَّر في مظاهرهم وسلوكياتهم .. وكل إناء بما فيه ينضح .. وسوف يتبرأ منهم كما أخبر الله بذلك .. ويحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم .. وهل عرفتَ مخلوقاً أشرَّ من الذي يتبرأ منه إبليس ؟ كما ألمح إلى ذلك ابن القيم رحمه الله ..وتذكرت قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ((ليس العلم بكثرة الرواية .. إنما العلم الخشية)) .. وتأمل : أي خشية في ركض وجري في حرم الله .. وسقوط مهابة .. وانعدام سمت ..وهؤلاء لا علم ولا خشية :  أولئك كالأنعام بل هم أضل  ..
فخرجت من هذه الجلسة التي جلست أتأمل الفرق بينهما بعدد من الفروق .. أنقله إليكم .. لعل منكم من يوافقني فيه .. ومن رأى الاختلاف فليبن عن رأيه .. عل لنا منه فائدة ..
= حينما تقلب ناظريك في صفحات التاريخ .. في كتب التراجم بالتحديد .. تجد العجب الذي يشد ناظريك من سير العلماء الأفذاذ .. كيف لا !! وهم يقرأون قول نبيهم صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي)) أو كما قال ..فهم أئمة التقوى .. وسادات النقاء .. وأهل الخفاء .. لا يريدون الشهرة ولا يحبونها .. ويرون أن المعافاة منها هي المعافاة الحقيقية .. كما قال الإمام أحمد رحمه الله .. وقد تأذى من الشهرة .. وقد طرد ابن مسعود رضي الله عنه من يمشي خلفه و لا يريد شيئاً .. فقال : اذهب ؛ فإنها فتنة للمتبوع وذلة للتابع .. والمواقف من مثل هذا قد أثقلت قراطيس الكتب ..وقد كتب : تقي الدين الهلالي قصيدة في امتداح الإمام : عبد العزيز بن عبد الله بن باز –رحمه الله- والثناء عليه .. وأرسلها إلى مجلة ما .. فتم نشر القصيدة وبعث بنسخة من المجلة إلى الإمام تقرباً إليه .. فما الظن بموقف الإمام حينما أتاه حادي القصيد .. في المدح والثناء !! فما كان منه إلا أن بعث بخطاب اعتراض شديد إلى إدارة المجلة .. وطالب بنشره .. وأن ترسل إليه نسخة من المجلة بعد نشر الاعتراض .. رحمك الله يا إمام !! لقد خلف من بعدك خلف انتصبوا في المجالس .. واستمعوا المدائح .. وطالبوا بالثناء .. وحصَّلوا حظوظ النفوس تامة كاملة .. وقد قال قائل لابن عثيمين رحمه الله في قصيدة يمدحه فيها :
يا أمتي إن هذا الليل يعقبه * فجر وأنواره في الأرض تنتشر
والخير مرتقب والفتح منتظر * والحق رغم جهود الشر منتصر
وبصحوة بارك الباري مسيرتها * نقية ما بها شوب ولا كدر
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا * بمثله يرتجى التأييد والظفر
فرد عليه الإمام المتواضع الزاهد قائلاً : ((أنا لا أوافق على هذا البيت .. لأني لا أريد أن يربط الحق بالأشخاص .. كل شخص سيفنى .. فإذا ربطنا الحق بالأشخاص فمعناه أن الإنسان إذا مات فقد ييأس الناس )) ..وحاول الشيخ أن يغير البيت إلى قوله ((ما دام فينا كتاب الله سنة رسوله)) .. فلم يوافق الشاعر .. فقال الشيخ رحمه الله : ((ما له داعي يا رجال ... وأنا أنصحكم من الآن وبعد الآن : ألا تجعلوا الحق مربوطاً بالرجال .. الرجال يضلون .. حتى ابن مسعود رضي الله عنه يقول : من كان مستناً فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .. الرجال إذا جعلتم الحق مربوطاً بهم يمكن يغتر الإنسان بنفسه نعوذ بالله من ذلك .. ويسلك طرقاً غير صحيحة .. ولذلك أنا أنصحكم الآن ألا تجعلوا الحق مقيداً بالرجال .. الرجل أولًا : ما يأمن الإنسان اسأل الله أن يثبتنا وإياكم .. ما يأمن من الزلل والفتنة .. وثانياً : أنه سيموت .. ما هنا أحد سيبقى ..  وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون  .. وثالثاً : أن بني آدم بشر .. ربما يغتر إذا رأى الناس يبجلونه ويكرمونه ويلتفون حوله .. ربما يغتر ويظن أنه معصوم ..ويدعي لنفسه العصمة وأن كل شيء يفعله فهو الحق ..وكل طريق يسلكه فهو مشروع .. ويحصل بذلك الهلاك .. ولهذا امتدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : ((ويحك ! قطعت عنق صاحبك)) .. أو قال : ((ظهر صاحبك)) .. وأنا أشكر الأخ مقدماً وإن لم أسمع ما يقوله فيَّ .. على ما يبديه من الشعور نحوي .. واسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر ..وأنا أجازيك مجازاة –إن شاء الله تعالى – اسأل الله أن يجازيك عني خيراً .. وأن يثيبك)) انتهى هذا الموقف المهيب مع هذا العلامة .. فرحمه الله رحمة واسعة .. لقد كان مدرسة علم .. وإمام هدى .. ومحضن تربية ..يعز مثيله .. ويندر قرينه ..واسمعوا إن شئتم مقدمة شريط (الهمة في طلب العلم) لشيخ الزهاد د. عبد الكريم بن عبد الله الخضير .. حفظه الله ..
لم أكلف نفسي كثيراً في تقليب صفحات الزمان .. لأنبش عن مثل هذه المواقف .. بل اكتفيت بإمامي الزمان لقرب العهد .. وقصر الأمد .. وقارن معي بينهما وبين أئمة الهدى والضلال هؤلاء .. حشد لحشود الأتباع .. وجمع لجموعهم .. فلا يمشي إلا ومعه حشود غفيرة.. وقد قابلت الإمام ابن جبرين حفظه الله في الحرم المكي في المطاف قد أنزل رأسه .. وغطى وجهه .. فسلمت عليه فتضايق من معرفتي به .. وأمرني بالابتعاد .. فلله در أمثال هؤلاء الربانيين .. وأخزى الله أولئك الطاغين ..

= إن مما جرت به سنة الله في خلقه : ما يحصل بين الأقران من التنافس وتلبية حظوظ النفس .. مما يؤدي إلى بعض المشكلات .. تصغر الفتنة أو تكبر بحسب ما في نفوس الطرفين .. فقد تكون فتنة كبيرة يسطرها التاريخ ملحمة من ملاحمه المشهودة ..أو تقيدها الدنيا بمداد من أريج حينما يتقابل الخصمان وأحدهما يقابل الآخر بكل سماحة وطيب نفس وخلق حسن رفيع !! فكم حمل لنا التاريخ من مواقف العلماء المجملة بالصفح .. المحملة بالغفران .. المعنونة بالعفو عند المقدرة .. إنها مواقف كثيرة يؤمها مواقف عظيمة ناءت بحملها قراطيس الجلود عن نبي الرحمة والملحمة : محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه .. وموقف الإمام الأعظم والخليفة الأول : أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه ولعن من لعنه – في قصته المشهورة مع : مسطح .. حيث نزل قوله جل وعلا :  وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم  ؟حيث سطر رضي الله عنه موقفاً عظيماً عل الصفح والمغفرة والعفو مقابل عفو الله ومغفرته ورضاه عنه !! وهذا إمام أهل السنة قاطبة : أحمد بن حنبل رحمه الله أتاه طلابه يوماً .. فقال لهم : من أين أتيتم ؟ قالوا : من عند ابن أبي كريب .. فأثنى عليه وامتدحه وأوصاهم بالطلب عنده .. فقالوا : إنه يتكلم فيك يا إمام !! فقال : وما أفعل !! شيخ صالح ابتلي بي !! يا له من موقف عظيم .. يربى عليه الأجيال في التعامل مع الخصوم والأقران .. كيف لا !! وهو القائل : ((ما عبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق .. وإن كان يختلف معي في أشياء .. فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً)) .. ولم يكتف رحمه الله بالقول والتنظير .. بل صار إماماً في هذا المجال بعمله واحتسابه .. حيث صفح وغفر عمن أساء إليه وعذبه .. وسجنه وضربه .. وهو القائل : ((لو علمت لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان...)) .. وهذا السلطان : هو الذي جلده وضربه وعذبه وفتنه بفتن عديدة عن دينه .. ويسطر لنا شيخ الإسلام وعلامة الأنام : أحمد بن تيمية رحمه الله رحمة واسعة مواقف رائعة في هذا المجال .. وأباح كل من ظلمه وتكلم فيه واعتدى عليه .. وذكر ابن القيم رحمه الله عن شيخه ابن تيمية : أن أحد خصومه قد مات .. فبشره بموته وأنه قد استراح منه .. فغضب ابن تيمية رحمه الله على من بشره .. وذهب إلى أهله وعزاهم وقال لهم : أنا بمنزلة أبيكم لكم .. وقال مرة : لا أحل أحداً أن يؤذي مسلماً بسببي .. وقال بعض أهل العلم : وددنا أننا لأصحابنا كابن تيمية لأعدائه .. ومكنه السلطان مرة منهم : فصفح عنهم وسامحهم .. ونقل التاريخ لنا عن الإمام المجدد : محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن تعامله مع خصومه عجباً .. واقرؤوا رسائله إليهم وتعلموا من رقته وتلطفه معهم ..
فاقرأوا التاريخ إذ فيه العبر * ظل قوم ليس يدرون الخبر
ومن حوى التاريخ في صدره * أضاف أعماراً إلى عمره
واقرأ هذه المعلومة لترى الفرق : ((الرافضة لهم فرق .. وكل فرقة لها أحزاب وفئات .. وكل حزب يكفر أرباب فرقته .. ومن باب أحرى : الفرق الأخرى)) .. لترى مقدار الصراع بينهم .. وخفاياه بينهم أعظم .. والله المستعان ..

= إن من أعظم الدروس المستفادة من هذا الموقف : هو التشبث بالعلماء الناصحين المخلصين .. الصالحين المصلحين .. والأخذ منهم .. والنيل مما عندهم .. والجلوس معهم .. والاستفادة مما عندهم .. وثني الركب بالطلب عندهم .. فهم مصابيح الدجى .. وأنوار الهدى .. بهم يستظيء الناس ويسيرون .. فقدهم مصيبة .. وموتهم رزية .. وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد .. فاستمسكوا بهم .. وعضوا على ما عندهم بالنواجذ .. فليس لنا والله بعد الله : إلا هم .. ((فما من مصيبة في الأرض إلا وسببها الجهل والجهال .. ولا نفع في الأرض إلا وسببه العلم والعلماء)) كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله .. وتصفحوا إن شئتم الفصل الأول من سفره العظيم الموسوم بـ (مفتاح دار السعادة) لتعرفوا فضل العلم والعلماء ..
عباد الله .. هذه نهاية المطاف .. وختام الكلم .. سطرها اليراع المقصر .. والبنان الخطَّاء .. فما كان في هذه الأسطر من صواب فمن توفيق الله وحده وإعانته .. وما كان منه خطأ : فهو بنا لائق .. وهو من أنفسنا والشيطان .. والله ورسوله منه بريئان .. والله أعلم .. اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك وأفضل رسلك محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين ..


وكتب : أبو عمر السحيم ..
6/10/1428 ..

[وحيد المعنى]

باركـ الله فيكـ يا غالي ، كم نحن بشوق للقائك ، اوافقك فيما قلت كيف لا وهذا إمام المدينة مالك : إن حقاً على من طلب العلم أن يكون عليه وقار وسكينة وخشية وأن يكون متبعاً لآثار من مضى قبله ، ويكفي شرفاً لأهل العلم والعلماء مقولة العلامة ابن القيم رحمه الله حيث قال: ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين والالتحاق بعالم الملائكة لكفى به شرفاً وفضلاً ، فكيف وعزّ الدنيا والآخرة منوط به مشروط بحصوله .

[إكسير]

تحية وتقدير لكاتب الموضوع . .

[أبو عبدالله القصيمي]

سلمت يمينك على هذا المقال المبارك...

[عنود نجد]

[الشاعر]

اللــه لاتبقي منهم احدا ولاتجعلهم رايه وكسر شوكتهم

[محب أرض بريدة]

مقال رائع شكراً لك .

[ابن رجب]

بارك الله فيك .

[abo suliman]

والله يأنت توحش على هالأسلوب ..

الله يزيدك .. ويبارك فيك ويجعل ماسطرت في ميزان حسناتك ..

والله لايبلانا ..

[أبوعمر السحيم]

= وحيد المعنى ..
جزاك الله خيراً على إضافتك القيمة بالنقل عن إمامين من أئمة الأمة .. والله المستعان ..
أسعدني تواجدك ..

= أبو فهد بريدة ..
تقبلت تحاياك العطرة بشكر وتقدير على تشريفك ..
تقبل تحايا محبك ..

= وسيلة القصيم ..
آمين .. وجزيت الجنة ..
وسلمت عين قرأت .. وأنامل كتبت ..

= عنود نجد ..
جزيت الجنة على المرور ..

= الشاعر ..
اللهم آمين ..
اللهم إن كنت أردت بأحدهم هداية ونفع فعجل به .. وإلا فعجل بهلاكه يا رب العالمين ...
وبورك فيك ..

= محب أرض بريدة ..
العفو يأ أخي ..
وزاده روعة تشريفك ..

= ابن رجب ..
وفيك بارك الله ..

= الجني العبد ..
بيض الله وجهك بطاعته وتقواه ..
لا سلم الله من وحّشك ..
وبورك فيك ..

وفق الله الجميع ؛؛