|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
![]() |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
|
![]() |
#1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jul 2008
البلد: ببريده بعد وينهوبه
المشاركات: 280
|
( أ ) استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود و ابن عباس و بعض التابعين : أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالى : ( وَ مِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي لَهُوِ الحَدِيثِ لِيضِلَّ عَن سَبِيلِ الَلهِ بِغَيُرِ عِلُمِ وَ يَتَّخِذَهَا هزوًا أولَيكَ لَهمُ عَذَاب مهِين) لقمان (6) ؛ و فسروا لهو الحديث بالغناء .
قال ابن حزم : « ولا حجة في هذا لوجوه : أحدها : أنه لا حجة لأحد دون رسول الله ( صلي الله عليه و آله و سلم ) . و الثاني : أنه قول خالف غيرهم من الصاحبة و التابعين . والثالث : أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها ؛ لأن فيها : ( وَ مِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي لَهُوَ الُحَدِيثِ لِيضِلَّ عَن سَبِيلَ اللَهِ بِغَيُرِ عِلُمِ وَ يَتَّخِذَهَا هزوًا ) ، و هذه صفة من فعلها كان كافراً بلا خلاف ، إذا اتخذ سبيل الله هزواً . قال : « و لو أن امرءاً اشترى مصحفاً ليضل به عن سبيل الله ، و يتخذه هزواً ، لكان كافراً ! فهذا هو الذي ذم الله تعالى ، و ما ذم قط – عز و جل – من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح نفسه ، لا ليضل عن سبيل الله تعالى . فبطل تعلقهم بفول هؤلاء ، و كذلك من اشتغل عامداً عن الصلاة بقراءة القرآن ،أو بقراءة السنن ، أو بحديث يتحدث به ، أو بغناء ، أو بغير ذلك ، فهو فساق عاص لله تعالى ، و من لم يضيع شيئاً من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن » (المحلى لابن حزم : 9/60 ) . (ب) و استدلوا بقوله تعالى في مدح المؤمنين : ( وَ إِذَا سَمِعواُ اللّغُوَ أَعُرَضواُ عَنُه ) القصص(55) و الغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه . و يجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو : سفه القول من السب والشتم و نحو ذلك ، و بقية الآية تنطق بذلك . قال تعالى : ( وَ إِذَا سَمِعوُاُ اللَغُوَ أَعُرَضواُ عَنُه وَقَالواُ لَنا أَعُمَالنَا وَلَكمُ أَعُمَالَكمُ سَلَم عَلَيُكمُ لَا نَبُتَغِي الُجَاهِلِيُنَ ) القصص (55) ، فهي شبيهة بقوله تعالى في وصف عباد الرحمن : ( وَ إِذَا خَاطَبَهم الُجَاهِلونَ قَالواُ سَلَمَا) الفرقان (63) . و لو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه تمدحه ،و ليس فيها ما يوجب ذلك. و كلمة «اللغو » ككلمة « الباطل » تعني ما لا فائدة فيه ، و سماع ما لا فائدة فيه ليس محرماً ما لم يضيع حقاً ، أو يشغل عن واجب . روي عن ابن جريج : أنه كان يرخص في السماع فقيل له : أيؤتى به يوم القيمة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال : لا في الحسنات و لا في السيئات ؛ لأنه شبيه باللغو ، قال تعالى : (لا يؤَخِذ كم اللَه بِالَلغُو ِفِي أَيُمَانَكمُ ) (البقرة : 225 ، المائدة : 89 ) . قال الإمام الغزالي : « إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه و لا تصميم ، و المخالفة فيه – مع أنه لا فائدة فيه – لا يؤاخذ به ، فكيف يؤاخذ بالشعر» ؟ ! (- إحياء علوم الدين ، كتاب « السماع » ص 1147 – طبعة دار الشعب بمصر). على أننا نقول : ليس كل غناءٍ لغواً ؛ إنه يأخذ حكمه و فق نية صاحبه ، فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة ، و المزح طاعة ، و النية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة . باطنه الرياء : « إن الله لا ينظر إلى صوركم و أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم » (رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، كتاب « البر و الصلة و الآداب » ، باب : تحريم ظلم المسلم) . و ننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في « المحلى » ردا على الذين يمنعون الغناء قال : « احتجوا فقالوا : من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ و لا سبيل إلى قسم ثالث ، و قد قال الله تعالى : ( فَمَا ذَا بَعُدَ الُحَقِ إلا الضَلال ) يونس( 32) ، فجوابنا – و بالله التوفيق - : أن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) قال : « إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرىء ما نوى » (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ، و هو أول حديث في صحيح البخاري . ) فمن نوى باستماع الغناء ، و من نوى به ترويح نفسه ، ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل ، و ينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن ، و فعله هذا من الحق ، ومن لم ينو طالعة و لا معصية فهو لغو معفو عنه ، كخروج الإنسان إلى بستانه ، و قعوده على باب داره متفرجاً و صبغه ثوبه لا زورديّاً أو أخضر أو غير ذلك ، و مد ساقه و قبضها ، و سائر أفعاله » (المحلى : 9/60) . ( ج ) و استدلوا بحديث : « كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، و تأديبه فرسه ، و رميه عن قوسه » (رواه أصحاب السنن الأربعة ، و فيه اضطراب . قاله الحافظ العراقي في تخريج أحاديث « الإحياء » .) . و الغناء خارج عن هذه الثلاثة . و أجاب المجوزون بضعف الحديث ، ولو صح لما كان فيه حجة ، فإن قوله : « فهو باطل » لا يدل على التحريم ، بل يدل على عدم الفائدة . فقد ورد عن أبي الدرداء قوله : « إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق » . على أن الحصر في الثلاثة غير مراد ، فإن التلهي بالنظر إلى الحبشة و هم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة ، و قد ثبت في الصحيح ، و لا شك أن التفرج في البساتين و سماع أصوات الطيور ، و أنواع المداعبات مما يلهو به الرحل ، لا يحرم عليه شيء منها ،و إن جاز و صفه بأنه باطل . ( د ) و استدلوا بالحديث الذي رواه البخاري – معلقاً – عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري – شك من الراوي – عن النبي عليه الصلاة و السلام قال : « ليكو نن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر : بكسر الحاء و تخفيف الراء - : أي الفرج ، و المعنى : يستحلون الزنى . و رواية البخاري : الخزّ.) والحرير والخمر والمعازف». والمعازف: الملاهي ، أو آلات العزف. و الحديث و إن كان في صحيح البخاري : إلا أنه من « المعلقات » لا من « المسندات المتصلة » و لذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده و مع التعليق فقد قالوا : إن سنده و متنه لم يسلما من الاضطراب . و قد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث ، ووصله بالفعل من تسع طرق ، و لكنها جميعاً تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ، ألا و هو : هشام ابن عمار (انظر تغليق التعليق – للحافظ ابن حجر : 5/17 – 22 ، تحقيق سعيد القزقي – طبع المكتب الإسلامي و دار عمار ) . و هو – و إن كان خطيب دمشق و مقرئها و محدثها وعالمها ، ووثقه ابن معين و العجلي – فقد قال عنه أبو داود : حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها . و قال أبو حاتم : صدوق و قد تغير ، فكان كل ما دفع إليه قرأه ، و كل ما لقنه تلقّن . و كذلك قال ابن سيار . و قال الإمام أحمد : طياش خفيف . و قال النسائي : لا بأس به ( و هذا ليس بتوثيق مطلق ) . و رغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال : صدوق مكثر له ما ينكر (- انظر ترجمته في ميزان الاعتدال ( 4/302 ) ترجمة ( 9234 ) ، و في « تهذيب التهذيب » ( 51/11 – 54 ) . ) . وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدّث إلا بأجر ! و مثل هذا لا يقبل حديثه في مواطن النزاع ، و خصوصاً في أمر عمت به البلوى . و رغم ما في ثبوته من الكلام ،فقي دلالة كلام آخر؛ فكلمة «المعازف » لم يتفق على معناها بالتحديد : ما هو ؟ فقد قيل : الملاهي ،وهذه مجملة ، وقيل : آلات العزف . ولو سلّمنا بأن معناها : آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى . فلفظ الحديث المعلّق في البخاري غير صحيح في إفادة حرمة « المعازف » لأن عبارة « يستحلون » - كما ذكر ابن العربي – لها معنيان : أحدهما : يعتقدون أن ذلك حلال ، والثاني : أن تكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ؛ إذ لو كان المقصود بالاستحلال : المعني الحقيقي ، لكان كفراً ، فإن استحلال الحرام المقطوع به – مثل الخمر والزنى المعبر عنه ب « الحر » كفر بالإجمال . و لو سلمنا بدلالتها على الحرمة ، فهل يستفاد منها تحريم المجموع المذكور من الحر و الحرير و الخمر و المعازف ، أو كل فرد منها على حدة ؟ و الأول هو الراجح . فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من الناس : انغمسوا في الترف و الليالي الحمراء ، و شرب الخمور . فهم بين خمر نساء ، و لهو و غناء ، و خزّ و حرير . و لذا روي ابن ماجه هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بالفظ : « ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ، يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المعنيات ، يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير » ، و كذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، و البخاري في تاريخه . و كل من روي الحديث من طريق غير هشام ابن عمار ، جعل الوعيد على شرب الخمر ، و ما المعازف إلا مكملة و تابعة . ( هـ ) و استدلوا بحديث عائشة : « إن الله تعالى حرم القينة ( أي الجارية ) و بيعها و ثمنها و تعليمها » و الجواب عن ذلك : أولاً : أن الحديث ضعيف ، و كل ما جاء في تحريم بيع القيان ضعيف. (انظر تضعيف ابن حزم لهذه الأحاديث و تعليقه عليها في « المحلى » : 9/56 – 59 .) . ثانياً : قال الغزالي : « المراد بالقينة الجارية التي تغني للدجال في مجلس الشرب ، و غناء الأجنبية للفسّاق و من يخاف عليهم الفتنة حرام ، و هم لا يقصدون بالفتنة إلا ما محذور . فأما غناء الجارية لمالكها ، فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث . بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة ، بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها. (الإحياء ص 1148 .) ثالثاً : كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصراً هاماً من نظام الرقيق ، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجياً ، فلم يكن يتفق و هذه الحكومة : إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي ، فإذا جاء حديث بالنعي على امتلاك « القينة » ، و بيعها ، و المنع منه ، فذلك لهدم ركن من بناء « نظام الرق » العتيد . ( و ) و استدلوا بما روي نافع : أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع أصبعيه في أذنية ،و عدل راحلته عن الطريق ، و هو يقول : يا نافع أستمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتى قلت : لا . فرفع يده و عدل راحلته إلى الطريق ، و قال : « رأيت رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) يسمع زمارة راع فصنع مثل هذا » . و الحديث قال عنه أبو داود : حديث منكر . و لو صح لكان حجة على المحرمين لا لهم ، فلو كان سماع المزمار حراماً ما أباح النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لا بن عمر سماعه ، و لو كان عند ابن عمر حراماً ما أباح لنافع سماعه ، و لأمر عليه السلام بمنع و تغيير هذا المنكر ، فإقرار النبي ( صلي الله عليه و سلم ) دليل إباحه . و إنما تجنب – عليه السلام – سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا ، كتجنبه الأكل متكئاً ، و أن يبيت عنده دينار أو درهم . . . إلخ . ( ز ) واستدلوا أيضاً بما روي : « إن الغناء ينبت النفاق في القلب » ولم يثبت هذا حديثاً عن نبي ( صلى الله عليه و سلم ) و إنما ثبت قولاً لبعض الصحابة أو التابعين ، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره . فمن الناس من قال – وبخاصة الصوفية - : إن الغناء يرقق القلب ، ويبعث الحزن والندم علي المعصية ، و يهيج الشوق إلى الله تعالى ، و لهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم ، و تنشيط عزائمهم ، و إثارة أشوقهم . قالوا : و هذا أمر لا يعرف إلا بالذوق و التجربة و الممارسة ، و من ذاق عرف ، و ليس الخبر كالعيان ! على أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع ، إذ كان غرض المغني أن يعرض نفسه على غيره ، و يروج صوته عليه ، و لا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه . و مع هذا قال الغزالي : « و ذلك لا يوجب تحريماً ، فإن لبس الثياب الجميلة ، و ركوب الخيل المهملجة ، و سائر أنواع الزينة ، و لا يطلق القول بتحريم ذلك كله ، فليس السبب في ظهور النفاق في القلب : المعاصي ، بل إن المباحات ، التي هي مواقع نظر الخلق ، أكثر تأثيراً » (الإحياء : كتاب « السماع » ص 1151 ) ( ح ) و استدلوا على تحريم غناء المرأة خاصة ، بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة ، و قد كان النساء يسألن رسول الله ( صلي الله عليه و سلم ) في ملاٍ من أصحابه ، و كان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين و يستفتونهن و يفتينهم ويحدثنهم ،و لم يقل أحد : إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر . مع أن نساء النبي عليهن من التغليظ ما ليس على غير هن. وقال تعالى : ( وًقلُنَ قَوُلاَ مَّعُروفَاَ) الأحزاب (32 ) . فإن قالوا : هذا في الحديث العادي لا في الغناء ، قلنا : روي في الصحيحين أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) سمع غناء الجاريتين و لم ينكر عليهما ، و قال لأبي بكر : « دعهما » ، و قد سمع ابن جعفر و غيره من الصحابة و التابعين الجواري يغنين . ( ط ) و استدلوا بحديث الترمذي عن علًّى مرفوعاً : « إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة ، حلّ تها البلاء . . . » ، وذكر منها : « واتخذت القينات و المعازف » , وهو حديث مـتـفـق على ضعفه ،فلا حجة فيه . و الخلاصة أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح ، أو صريح غير صحيح و لم يسلم حديث واحد مرفوع إلى رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) يصلح دليلاً للتحريم ، و كل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية و المالكية و الحنابلة و الشافعية . قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب « الأحكام » : لم يصح في التحريم شيء . و كذا قال الغزالي و ابن النحوي في العمدة . و قال ابن طاهر في كتابه في « السماع » : لم يصح منها حرف واحد . و قال ابن حزم : « و لا يصح في هذا الباب شيء ، و كل ما فيه فموضوع . و والله لو أسند جمعية ، أو واحد منه فأكثر ، من طريق الثقات إلى رسول الله ( صلي الله عليه و سلم ) ، لما ترددنا في الأخذ به » (انظر المحلى 9/59) |
![]() |
![]() |
#2 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jul 2008
البلد: ببريده بعد وينهوبه
المشاركات: 280
|
تلك هي أدلة المحرمين ، قد سقطت واحداً بعد الآخر ، و لم يقف دليل منها على قدميه . و إذا انتفت أدلة التحريم بقي حكم الغناء على أصل الإباحة بلا شك ، و لو لم يكن معنا نص أو دليل واحد على ذلك غير سوط أدلة التحريم . فكيف و معنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة ، وروحه السمحة ، و قواعده العامة ، و مبادئه الكلية ؟
أولاً: من حيث النصوص استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة ، منها : حديث غناء الجاريتين في ليت النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) عند عائشة ، وانتهار أبي بكر لهما ، و قوله : مزمور الشيطاني في ليت النبي ( صلي الله عليه وسلم ) ، و هذا يدل على أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم ، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلى هذا الحد . و المعول عليه هنا هو رد النبي ( صلي الله عليه و سلم ) على أبي بكر ربضي الله عنه و تعليله : أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة ، و إنه بعث بحنيفية سمحة . و هو يدل على وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدى الآخرين ، و إظهار جانب اليسر و السماحة فيه . و قد روي البخاري و أحمر عن عائشة ذات قرابة لها من الأنصار ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فقال : « أهديتم الفتاة » ؟ قالوا : نعم . قال : « أرسلتم معها من يغني » ؟ قالت : لا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) « إن الأنصار قوم فيهم غزل ، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم أتيناكم . . فحيانا و حياكم » ؟ و هذا الحديث يدل على رعاية أعراف الأقوام المختلفة ، و اتجاههم المزجي ، ولا يحكم المرء مزاجه هو في حياة كل الناس . و روي النسائي و الحاكم و صححه عن عامر بن سعد قال : دخلت على قرظة بن كعب و أبي مسعود الأنصاري في عرس ، و إذا جوار يغنين . فقلت : أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم ؟ ! فقالا :اجلس إن شئت فاستمع معنا ، وإن شئت فاذهب ، فإنه قد رخص لنا اللّهو عند العرس . و روي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين : أن رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فأتى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه ،فأمر جارية منهن فغنّت ، و ابن عمر يسمع ، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة ، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال : ني أبا عبد الرحمن ؛ غبنت بسبعمائة درهم ! فأتى ابن عمر إلى عبد الله بي جعفر فقال له : إنه غبن بسبعمائة درهم ،فإما أن تعطيها إياه ، و إما أن ترد عليه بيعه ، فقال : بل نعطيه إياها . قال ابن حزم : « فهذا ابن عمر قد سمع الغناء و سعي في بيع المغنية ، و هذا إسناد صحيح ، لا تلك الملفقات الموضوعية » (انظر المحلى : 9/63 ) . و استدلوا بقوله تعالى : ( وَ إِذَا رَأَوُاُ تَجِارَةً أَوُ لَهُوًا انفَضّواُ إِلَيُهَا وَتَرَكوكَ قَآئمَاَ قلُ مَا عِنُدَ الّلَه خَيُر مِّنَ اللَهُوِ وَمِنُ التِجَارَة وَ الّلَه خَير الرَازِقِين) الجمعة( 11 ). فقرن اللهو بالتجارة – و هي حلال بيقين - ، و لم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما – بمناسبة قدوم القافلة و ضرب الدفوف فرحاً بها – عن خطبة النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) ، و تركه قاماً . و استدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم : أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه . وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي . و استدلوا بما نقله غير واحد من الإجماع على إباحة السماع ، كما سنذكره بعد . - ثانيا:ً من حيث روح الإسلام و قواعده : ( أ ) لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، و تستطيبها العقول، و تستحسنها الفطر، و تشتهيها الأسماع، فهو لذة المعدة . و المنظر الجميل لذة العين، و الرائحة الذكية لذة الشم . . إلخ، فهل الطيبات - أي المستلذات - حرام في الإسلام حلال ؟ من المعروف أن الله تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على سوء ما صنعوا ، كما قال تعالى : ( فَبِظلُمِ مِنَ الَذِينَ هَادواُ حَرَّمُنَا عَلَيُهِمُ طَيِبَاتٍ أحِلَّتُ لَهمُ وَ بِصَدِهِمُ عَن سَبِيل اللَه كَثِيرَاَ (60)وَ أَخُذِهِم الّرِبَواُ وَ قَدُ نهواُ عَنُه وَأَكُلِهِمُ أَمُوَالَ النَاسِ بِالُبَاطِلِ ) النساء(60-61) ، فلما بعث الله محمداً ( صلي الله عليه و آله و سلم ) جعل عنوان رسالة في كتب الأولين أنه : ( يَأُمرهم بِالُمَعُروفِ وَيَنُهَهمُ عَنِ الُمنكَرَ وَ يحِلّ لَهم الُطَيِبَاتِ وَ يحَرِم عَلَيُهِم الُخَبَثَ وَيَضَع عَنُهمُ إِصُرَهمُ وَالأغُلالَ الَتِي كَانَتُ عَلَيُهِمُ ) الأعراف (157) . فلم يبق في الإسلام شيء طيب – أي تستطيبه الأنفس و العقول السليمة – إلا أحله الله ، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها و خلودها . قال تعالى : ( يَسُئَلونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهمُ قلُ أحِلَ لَكم الطَيِبَات )المائدة (4) . و لم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئاً من الطيبات مما رزق الله ، مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه ، فإن التحليل و التحريم من حق الله وحده . و ليس من شأن عباده ، قال تعالى : ( قلُ أَرَءَ يُتمُ مَّآ أَنزَلَ اللَه لَكم مِن رِزُقِ فَجَعَلُتمُ مِنُه حَرَمَا وَحَلَالَاَ قلُ ءَآلّلَه أَذُنَ لَكمُ أَمُ عَلَى الّلَه تَفُترونَ) يونس (59 ) ، و جعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرم من المنكرات ، كلا هما يجلب سخط الله و عذابه ، ويردي صاحبه في هاوية الخسران المبين ،و الضلال البعيد ، قال جل شأنه ينعي على من فعل ذلك من أهل الجاهلية : ( قَدُ خَسِرَ الَذِيُنَ قَتِلواُ أَولَادَهمُ سَفَهَا بِغَيُرِ عِلُمِ وَ حَرَمواُ مَا رَزَقُهمُ الّلَه افُتِرَآءً عَلَى الله قَدُ ضَلّواُ وَمَا كَانواُ مهُتَدِيُنَ) الأنعام ( 140 ) . ( ب ) و لو تأملنا لوجدنا حب الغناء و الطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية و فطرة بشرية ، حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه ، و تنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه . و لذا تعودت الأمهات و المرضعات و المربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم . بل نقول : إن الطيور و البهائم تتأثر بحسن الصوت و النغمات الموزونة حتى قال الغزالي في « الإحياء » : « من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال ، بعيد عن الروحانية / زائد في غلظ الطبع و كثافته على الجمال و الطيور و جميع البهائم ، إذ الجمل – مع بلادة طبعه – يتأثر بالحداء تأثر يستخف معه الأحمال الثقيلة و يستقصر – لقوة نشاطه في سماعه – المسافات الطويلة ، و ينبعث فيه من النشاط ما يسكره و يولهه . فترى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها ، و تصغي إليه ناصبة آذانها ، و تسرع في سيرها ، حتى تتزعزع عليها أحمالها و محاملها » . و إذ كان حب الغناء غريزة و فطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز و الفطر و التنكيل بها ؟ كلا ، إنما جاء لتهذيبها و السمو بها ، و توجيهها التوجيه القويم . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : إن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة و تقريرها لا بتبديلها و تغييرها . و مصداق ذلك أن رسول الله ( صلي الله عليه و آله و سلم ) قدم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : « ما هذان اليمان » ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية . فقال عليه السلام : « إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما : يوم الأضحى و يوم الفطر » (رواه أحمد و أبو داد و النسائي . ) . و قالت عائشة : « لقد رأيت النبي يسترني بردائه ،و أنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا التي أسأمه - أي اللعب -فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو » . و إذ كان الغناء لهواً و لعباً فليس اللهو و العب حراماً ، فالإنسان لا صبر له على الجد المطلق و الصرامة الدائمة . قال النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) لحنظلة – حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده ،و تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله (صلي الله عليه و سلم):« يا حنظلة, ساعة و ساعة» ( رواه مسلم ) و قال علي بن أبي طالب : روحوا القلوب ساعة بعد ساعة ،فإن القلوب إذا أكرهت عميت . و قال كرم الله وجهه : إن القلوب تمل كما تمل الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمة . و قال أبو الدرداء : إني لأستجم نفسي بالشي ء من اللهو ليكون أقوى لها على الحق . و قد أجاب الإمام الغزالي عمن قال :إن الغناء لهو ولعب بهوه :هو كذلك ، و لكن الدنيا كلها لهو و لعب . . و جميع المداعبة مع النساء لهو ، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد ،كذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال ، نقل ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) و عن الصحابة . و أي لهو يزيد على لهو الحبشة و الزنوج في لعبهم ، فقد ثبت بالنص إباحته . على أني أقول : اللهو مروح القلب ، و مخفف عنه أعباء الفكر ، و القلوب إذا أكرهت عميت ، و ترويحها إعانة لها على الجد ، فالمواظب على التفقه مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة ؛ لأن عطلة يوم تساعد على النشاط في سائر الأيام ، و المواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات ،فالعطلة معونة على العمل ، و اللهو معين على الجد ،ولا يصبر على الجد المحض ، و الحق المر ،إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام . فاللهو دواء القلب من داء الإعياء و الملل ،فينبغي أن يكون مباحاً ، و لكن لا ينبغي أن يستكثر منه ،كما لا يستكثر من الدواء ، فإذن اللهو على هذه النية يصير قربة،هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها ،بل ليس له إلا اللذة و الاستراحة المحضة ، فينبغي أن يستحب له ذلك ،ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه . نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ، و لكن حسنات الأبرار سيئات المقربين ،و من أحاط بعلم علاج القلوب ، ووجوه التلطف بها ، وسياقتها إلى الحق ،علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه » (الإحياء ص 1152 ، 1153 .) . . انتهي كلام الغزالي ، و هو كلام نفيس يعبر عن روح الإسلام الحق . آخر من قام بالتعديل كريّم; بتاريخ 13-11-2008 الساعة 12:37 PM. |
![]() |
![]() |
#3 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jul 2008
البلد: ببريده بعد وينهوبه
المشاركات: 280
|
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام و قواعده ، فيها الكفاية كل الكفاية و لو لم يقل بموجبها قائل ، و لم يذهب إلى ذلك فقيه ، فكيف و قد قال بموجبها الكثيرون من صحابة و تابعين و أتباع و فقهاء ؟
و حسبنا أن أهل المدينة - على ورعهم – و الظاهرية – على حرفيتهم و تمسكهم بظواهر النصوص – و الصوفية – على تشددهم و أخذهم بالعزائم دون الرخص – روي عنهم إباحة الغناء . قال الإمام الشوكاني في « نيل الأوطار » : « ذهب أهل المدينة و من وافقهم من علماء الظاهر ، و جماعة الصوفية ، إلى الترخيص في الغناء ، و لو مع العود و البراع . و حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع : أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأساً ، ويصوغ الألحان لجواريه ، ويسمعها منهن على أوتاره . و كان ذلك في زمن أمير المؤمنين على رضي الله عنه . و حكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضاً عن القاضي شريح ،وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، و الزهري ، و الشعبي . و قال إمام الحرمين في النهاية ، و ابن أبي الدنيا : نقل الأثبات من المؤرخين : أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات ، و أن ابن عمر دخل عليه و إلى جنبه عود ، فقال : ما هذا يا صاحب رسول الله ؟ ! فناوله إياه ، فتأمله ابن عمر فقال : هذا ميزان شامي ؟ قال بن الزبير : يوزن به العقول ! و روي الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال : « إن رجلاً قدم المدينة بجوار فنزل على ابن عمر ، و فيهن جارية تضرب . فجاء رجل فساومه ، فلم يهو فيهن شيئاً ، قال : انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا . قال : من هو ؟ قال : عبد الله بن جعفر . . فعرضهن عليه ، فأمر جارية منهن ، فقال لها : خذي العود ،فأخذته ، فغنت ، فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر . . . إلى آخر القصة . وروي صاحب «العقد» العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي : أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ، ثم قال لا بن عمر : هل ترى بذلك بأساً ؟ قال : لا بأس بهذا . و حكى الماوردي عن معاوية و عمرو بن العاص : أنهما سمعا العود عند ابن جعفر . و روي أبو الفرج الأصبهاني : أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره . و ذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك . و المزهر عند أهل اللغة العود . و ذكر الأدفوي : أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل الخلافة . و نقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس ، و نقله ابن قتيبة و صاحب « الإمتاع » عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن الزهري من التابعين . و نقله أبو يعلى الخليلي في « الإرشاد » عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة . و حكى الروياني عن القفال : أن مذهب مالك بن أنس أباحة الغناء بالمعازف ، و حكى الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود ، و ذكر أبو طالب المكي في « قوت القلوب » عن شعبة : أنه سمع طنبوراً في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور . و حكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفة في « السماع » : أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود . قال ابن النحوي في « العمدة » : و قال ابن طاهر : هو إجماع أهل المدينة . قال ابن طاهر : و إليه ذهبت الظاهرية قاطبة . قال الأدفوي : لم يختلف النقلة في نسبتة الضرب إلي إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر ، وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم ( يعني بالجماعة : أصحاب الكتب الستة ، من الصحيحين و السنن ) . و حكي الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية ، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن ابن اسحاق الشيرازي ، وحكاه الأسنوي في «المهمات » عن الروياني و الماوردي ، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور ، وحكاه ابن الملقن في «العمدة » عن ابن طاهر ، وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الذين بن عبد السلام ، وحكاه صاحب «الإمتاع » عن أبي بكر بن العربي ، و جزم بالإباحة الأدفوي . هؤلاء جميعاً قالوا بتحليل السماع ، مع آلة من الآلات المعروفة - أي آلات الموسيقي . و أما مجرد الغناء من غير آلة ، فقال الأدفوي في « الإمتاع »: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله ، و نقل ابن طاهر إجماع الصحابة و التابعين عليه ، و نقل التاج الفزاري و ابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه ، و قال المارودي : لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة و الذكر . قال ابن النحوي في « العمدة » : و قد روي الغناء و سماعه عن جماعة من الصحابة و التابعين ، فمن الصاحبة عمر – كما رواه ابن عبد البر و غيره ، و عثمان – كما نقله الماوردي و صاحب البيان و الرافعي ، و عبد الرحمن بن عوف – كما رواه ابن أبي شيبة ، و أبو عبيدة بن الجراح – كما أخرجه ابن قتيبة ، و أبو مسعود الأنصاري – كما أخرجه البيهقي ،و بلال ، و عبد الله بن الأرقم ، و أسامة بن زيد – كما أخرجه البيهقي أيضاً ،و حمزة - كما في الصحيح ، و ابن عمر – كما أخرجه ابن طاهر ، و البراء بن مالك – كما أخرجه أبو نعيم ، و عبد الله بن جعفر – كما رواه ابن عبد البر ، و عبد الله بن الزبير – كما نقل أبو طالب المكي ،و حسان – كما رواه أبو الفرج الأصبهاني ، و عبد الله بن عمرو – كما رواه الزبير بن بكار . و قرظة بن كعب – كما رواه ابن قتيبة ، و خوات بن جبير ، و رباح بن المعترف – كما أخرجه صاحب الأغاني و المغيرة بن شعبة - كما حكاه الماوردي ،عائشة و الربيع – كما في صحيح البخاري و غيره . و أما التابعون فسعير بن المسيب ، و سالم بن عبد الله بن عمر ، و ابن حسان ،و خارجة بن زيد ، و شريح القاضي ، و سعيد بن جبير ، و عامر الشعبي ، و عبد الله ابن أبي عتيق ، و عطاء بن أبي رباح ، و محمد بن شهاب الزهري ، و عمر بن عبد العزيز ، و سعد بن إبراهيم الزهري . و أما تابعوهم ، فخلق لا يحصون ، منهم : الأئمة الأربعة ، و ابن عيينة ، و جمهور الشافعية » . انتهي كلام ابن النحوي . هذا كله ذكره الشوكاني في « نيل الأوطار » (نيل الأوطار : 8/264 – 266 – طبع دار الجيل – بيروت . ) . * * * * * - قيود و شروط لابد من مراعاتها : و لا ننسى أن نضيف إلى هذا الحكم : قيوداً لا بد من مراعاتها في سماع الغناء : 1- نؤكد: إن ما أشرنا إليه أنه ليس كل غناء مباحاً ، فلا بد أن يكون موضوعة متفقاً مع أدب الإسلام و تعاليمه . مثلا لا يجوز التغني بقول أبي نواس : دع عنك لومي ، فإن اللوم إغراء و داوني بالتي كانت هي الداء ! ولا بقول شوقي : رمضان ولي هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق و أخطرها منها : قول إيليا أبي ماضي في قصيدته « الطلاسم » : جئت لا أعلم من أين ، و لكنى أتيت ! و لقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت ! كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟ لست أدري ! لأنها تشكيك في أصول الأيمان : المبدأ ، و المعاد ،و النبوة . و مثلها : ما عبر عنه بالعامية في أغنية « من غير ليه » و ليست أكثر من ترجمة من شك أبي ماضي إلى العامية ، ليصبح تأثيرا أوسع دائرة . و مثل ذلك الأغنية التي تقول : « الدنيا سيجارة و كاس » . فكل هذه مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجساً من عمل الشيطان ، ويلعن شارب « الكأس » و عاصرها و بائعها وحملها و كل من أعان فيها بعمل . و التدخين أيضاً آفة ليس وراءها إلا ضرر الجسم و النفس و المال . و الأغاني التي تمدح الظلمة و الطغاة و الفسقة من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا ، مخالفة لتعاليم الإسلام ، الذي يلعن الظالمين ، و كل من يعينهم ، بل من يسكت عليهم ، فكيف بمن يمجدهم ؟! و الأغنية التي تمجد صاحب العيون الجريئة – أو صاحبة العيون الجريئة – أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه : ( قل لِلُمؤمِنينَ يَقُضواُ مِنُ أَبُصَارِهِمُ . . . ) النور(30) ، ( وَقل لِلُمؤُمِنَاتِ يَغُضضُنَ مِنُ أَبُصَارِهِنَ ) النور(31)، و يقول ( صلي الله عليه و سلم ) : « يا علي ؛ لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة » . 2 – ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها ، فقد يكون الموضوع لا بأس به و لا غبار عليه ، و لكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول ، و تعمر الإثارة ، و القصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة كما يشاهد اليوم على الفضائيات، و إغراء القلوب المرضية – ينقل الأغنية من دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع على الناس و يطلبه المستمعون و المستمعات من الأغاني التي تلح على جانب واحد ، هو جانب الغريزة الجنسية و ما يتصل بها من الحب والغرام ، و إشعالها بكل أساليب الإثارة و التهيج ، و خصوصاً لدى الشباب و الشابات . إن القرآن يخاطب نساء النبي ( صلي الله عليه و سلم ) فيقول : ( فَلا تَخُضَعُنَ بِالُقَوُلِ فَيَطُمَعَ الَذِي فِي قَلُبِهِ مَرَض ) الأحزاب(32) . فكيف إذا كان مع الخصوص في القول الوزن و النغم و التطريب و التأثير . 3- و من ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم ، كشرب الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال و النساء ، بلا قيود ولا حدود، و هذا هو المألوف في مجالس الغناءو الطرب من قديم . و هي الصورة الماثلة في الأذهان عندما يذكر الغناء ، و بخاصة غناء الجواري و النساء . و هذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجه و غيره : « ليشربن ناس من أمتي الخمر ، يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المغنيات ، يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير » . و أود أن أنبه هنا على قضية مهمة ، و هي : أن الاستماع إلى الغناء في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء ، و مخالطة المغنيين و المغنيات و حواشيهم ، و قلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها الشرع ، ويكرهها الدين . أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلى الأغاني و هو بعيد عن أهلها و مجالسها ، و هذا لا ريب عنصر مخفف في القضية ، ويميل بها إلى جانب الإذن و التيسير . 4- الغناء – ككل المباحات – يجب أن يقيد بعدم الإسراف فيه ، و بخاصة غناء العاطفة فهي ليست حباً فقط ، و الحب لا يختص بالمرأة وحدها ، و المرأة ليست جسداً و شهوة لا غير ، لهذا يجب أن نقلل من هذا السيل الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية ، و أن يكون لدينا من أغانينا و برامجنا و حياتنا كلها توزيع عادل ، و موازنة مقسطة بين الدين و الدنيا ، و في الدنيا بين حق الفرد و حقوق المجتمع ، و في الفرد بين عقله و عاطفته ، و في مجال العاطفة بين العواطف الإنسانية كلها من حب و كره و غيره و حماسة و أبوة و أمومة و بنوة و أخوة و صداقة . . . الخ ، فلكل عاطفة حقها . أما الغلو و الإسراف و المبالغة في إبراز عاطفة خاصة ، فذلك على حساب العواطف الأخرى ، و على حساب عقل الفرد و روحه و إرادته ، و على حساب المجتمع و خصائصه و مقوماته ، و على حساب الدين و مثله و توجيهاته . إن الدين حرم الغلو و الإسراف في كل شيء حتى في العبادة ، فما بالك بالإسراف في اللهو ، و شغل الوقت به و لو كان مباحاً ؟! إن هذا دليل على فراغ العقل و القلب من الواجبات الكبيرة ، و الأهداف العظيمة و دليل على إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود و عمره القصير ، و ما أصدق و أعمق ما قال ابن المقفع : « ما رأيت إسرافاً إلا و بجانبه حق مضيع » ، و في الحديث : « لا يكون العاقل ظاعناً إلا لثلاث : مرمة لمعاش ، أو تزود لمعاد ،أو لذة في غير محرم » ، فلنقسم أوقاتنا بين هذه الثلاثة بالقسط ، و لنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره :فيم أفناه ، و عن شبابه : فيم أبلاه ؟ 5- و بعد هذا الإيضاح تبقى هناك أشياء يكن كل مستمع فيها فقيه نفسه و مفتيها ، فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزة ، و يغريه بالفتنة ، و يسبح به في شطحات الخيال ، و يطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني ، فعليه أن يتجنبه حينئذ ، و يسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه و دينه و خلقه ، فيستريح و يريح . - الغناء و الطرب في واقع المسلمين : و من نظر في أحوال المسلمين ، و تأمل في واقعهم المعيشي ، لم يجد خصومة بين المسلم المتدين و بين الاستمتاع بطيب السماع . إن أذن المسلم العادي موصولة ب « طيبات السماع » تلتذ بها ، و تتغذى عليها كل يوم . من خلال القرآن الكريم الذي تسمعه مرتلاً و مجوداً و مزيناً بأحسن الأصوات ، من أحسن القراء . و من خلال الأذان ، الذي تطرب لسماعه كل يوم خمس مرات بالصوت الجميل . و هو ميراث من عهد النبوة ، فقد قال النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) للصحابي الذي كشف له عن ألفاظ الأذان في رؤيـا صادقة : « علمه بلا لاً ، فإنه أندى منك صوتاً » . و من خلال الابتهالات الدينة ، التي تنشد بأعذب الألحان ، و أرق الأصوات ، فتطرب لها الأفئدة ، و تهتز لها المشاعر : و من خلال المدائح النبوية التي توارثها المسلمون منذ سمعوا ذلك النشيد الحلو من بنات الأنصار ، ترحبياً بمقدم الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام : طــلـع الـبـدر عـلـيـنـا من ثـنـيـات الـوداع وجـب الـشـكـر عـلـيـنـا مــا دعـا لـلـه داع و أذكر أني منذ نحو عشرين سنة سمعت هذا النشيد من تلميذات مدرسة إسلامية في إندونيسيا ،يغنينه بلحن جماعي مؤثر رقيق ، و كنا و فداً من دولة قطر . فرقت له قلوبنا ، و سالت أدمعنا على خدودنا من فرط الرقة و التأثر . و في الأعصر الماضية المسلمون أن ينشئوا ألواناً من « طيبات السماع » يروحون بها أنفسهم ، و يجملون بها حياتهم ، و خصوصاً في القرى و الريف . و قد أدركنا ذلك في عهد الصبا و مطالع الشباب . و كلها ألوان فطرية نابعة من البيئة ، معبرة عن قيمها ، و لا غبار عليها . من ذلك : فن المواويل : يتغنّى بها الناس في أنفسهم ، أو يجتمعون على سماعها ، ممن كان حسن الصوت منهم ، و أكثرهم يتحدث عن الحب و الهيام و الوصل و الهجران ، و بعضها يتحدث عن الدنيا و متاعها و يشكو من ظلم الناس و الأيام . . . الخ . و أكثرهم كان يتغنى بها بغير آلة ، و بعضهم مع « الأرغول » ، و من هؤلاء الفنانين الفطريين : من كان يؤلف « الموال » و يلحنه و يغنيه في وقت واحد . و منها : القصص المنظومة ، التي تتغنى ببطولات بعض الأبطال الشعبيين ، أبطال الكفاح ، أو أبطال الصبر ، يسمعها الناس ، فيطربون بها ، ويرددونها ،و يكادون يحفظونها عن ظهر قلب ، مثل قصة « أدهم الشرقاوي » ، و شفيقة و متولي » ، و « أيوب المصري » ، و « سعد اليتيم » ، و غيرها . و منها : الملاحم الشعبية للأبطال المعروفين ، مثل « أبي زيد الهلالي » ، و التي كان يجتمع لها الناس ، ليسمعوا القصة ، و يستمعوا معها إلى أشعار أبطالها على نغمات « الربابة » من « الشاعر الشعبي » الذي تخصص في هذا اللون ، و كانت هذه الملاحم لها عشاقها و تقوم مقام « المسلسلات » في هذا العصر . و منها : أغاني الأعياد و الأفراح و المناسبات السارة ، مثل : العرس ، وولادة المولود ، و ختان الصبي ، وقدوم الغائب ، و شفاء المريض ، و عود الحاج . . . و نحوها . و قد ابتكر الناس أغاني و أهازيج لحنوها ، وغنوها بأنفسهم في أحوال و مناسبات مختلفة ، مثل جني الثمار أو القطن و غيرها . و مثل : أهازيج العمال و الفعلة ، الذين يعملون في البناء و حمل الأثقال و نحوها ، مثل : « هيلا ، هيلا . . صل على النبي » . . و هذا له أصل شرعي من عمل الصحابة ، و هم يبنون المسجد النبوي و يحملون أحجاره على مناكبهم . و هم ينشدون : اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار و المهاجرة حتى الأمهات ، حين يهدهدن أطفالهن ، و يهيئنهم للنوم ، يستخدمن الغناء ، و لهن كلمات مشهورة ، مثل : « يا رب ينام ، يا رب ينام . . . » . ولازلت أذكر « المسحراتية » في شهر رمضان المبارك ، و هم يوقظون الناس بعد منتصف الليل بمنظومات يلذ سماعها منغمة مع دقات طبولهم . و من جميل ما يذكر هنا : ما اخترعه الباعة في الأسواق ، و الباعة المتجولون : من النداء على سلعهم بعبارات منظومة موزونة ، يتنافسون في التغني بها ، مثل بائع العرقسوس ، و باعة الفواكه و الخضروات ، و غيرهم . و هكذا نجد هذا الفن – فن الغناء – يتخلل الحياة كلها ، دينية و دنيوية ، و يتجاوب الناس معه بتلقائية و فطرية ، و لا يجدون في تعاليم دينهم ما يعوقهم عن ذك . و لم ير علماؤهم في هذه الألوان الشعبية ما يجب أن ينكر . بل أكثر من ذلك تجدها جميعاً ممزوجة بالدين و معاني الإيمان و القيم الروحية و المثل الأخلاقية ، امتزاج الجسم بالروح : من التوحيد ، و ذكر الله ، و الدعاء ، و الصلاة على النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) . . . و ما شابهها (لا أجد من الألحان و الأغاني الشعبية ما ينكره الدين ، إلا ما كانت تصنعه النائحة المستأجرة مما يهيج الأحزان ، و يثير الجزع ، و يحرم المصاب من الصبر على البلاء ، و الرضا بالقضاء . و هذا الذي لاحظته في مصر ، و جدت مثله في بلاد الشام ، و في بلاد المغرب ، و غيرها من بلاد العرب . * * * * * - لم شدد المتأخرون في أمر الغناء ؟ يلاحظ أن المتأخرين من أهل الفقه أكثر تشديداً في منع الغناء - و خصوصاً مع الآلات – من الفقهاء المتقدمين . و ذلك لأسباب : 1- الأخذ بالأحوط لا الأيسر إن المتقدمين كانوا أكثر أخذاً بالأيسر ، و المتأخرين أكثر أخذاً بالأحوط ، و الأحوط يعني : الأثقل و الأشد . و من تتبع الخط البياني للفقه و الفتوى منذ عهد الصحابة فمن بعدهم يجد ذلك واضحاً ، و الأمثلة عليه لا تحصر . 2- الاغترار بالأحاديث الضعيفة و الموضوعة إن كثيراً ك الفقهاء المتأخرين أرهبهم سيل الأحاديث الضعيفة و الموضوعة ، التي امتلأت بها الكتب ، و لم يكونوا من أهل تمحيص الروايات ، و تحقيق الأسانيد ، فراجت لديهم هذه الأحاديث ، و لا سيما مع شيوع القول بأن تعدد الطرق الضعيفة يقوي بعضها بعضاً . 3- ضغط الواقع الغنائي ضغط الواقع الغنائي بما يلا بسه من انحراف و تجاوز ، كان له أثره في ترجيح المنع و التحريم . و هذا الواقع له صورتان أثرت كل واحدة منهما على جماعة من الفقهاء . غناء المجون و الخلاعة الصورة الأولى : صورة « الغناء الماجن » الذي غدا جزءاً لا يتجزأ من حياة الطبقة المترفة ، التي غرقت في الملذات ، و أضاعت الصلوات ، و اتبعت الشهوات ، و اختلط فيها الغناء بملابسة الفجور ، و شرب الخمور ، و قول الزور ، و تلاعب الجواري الحسان المغنيات ( القيان ) بعقول الحضور ، كما شاع ذلك في حقب معروفة في العصر العباسي . و كان سماع الغناء يقتضي شهود هذه المجالس بما فيها من خلاعة ومجانة و فسوق عن أمر الله . و من المؤسف أن البيئة الفنية في يومنا لا زالت مشربة بهذه الروح ، ملوثة بهذا الوباء . و هذا ما يضطر كل عائد إلى الله ، من الفنانين و الفنانات – الذين أكرمهم الله بالهداية و التوبة – أن ينسحب من ذلك الوسط ، ويفر بدينه بعيداً عنه . غناء الصوفية و الصورة الثانية : صورة « الغناء الديني » الذي اتخذه الصفية وسيلة لإثارة الأشواق ، و تحريك القلوب في السير إلى الله ، مثلها يفعل الحداة مع الإبل ، فينشطونها ويستحثون خطاها ، حين تسمع نغم الحداء الموزون بصوت جميل . فتستخف الحمل الثقيل . و تستقصر الطريق الطويل ، و هم يعتبرون ذلك السماع عبادة و قربة إلى الله ، أو – على الأقل – عوناً على العبادة و القربة . و هذا ما أنكره عليهم أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، و تلميذه الإمام ابن القيم ، اللذين شنا على الغناء هجوماً عنيفاً حاداً ، و خصوصاً ابن القيم في « إغاثة اللهفان » الذي شحذ كل أسلحته ، و أجلب بخيله و رجله لتحريم الغناء ، واضح – على غير عادته – بغير الصحيح ، و غير الصريح ، إذ كان نصب عينيه ذاك النوع من الغناء ، و قد رأي فيه هو و شيخه أنه بقرب إلى الله بما لم يشرعه ، و إحداث أمر في الدين لم يكن على عهد النبوة ، و لا عهد الصحابة . و ربما لا بسه بعض البدع ، و لا سيما إذا وقع في المساجد . أنشد ابن القيم مشنعاً : تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق لاه ساهي ! و أتى الغناء فكالحمير تناهقوا و الله مار قصوا الأجل الله ! دف و مزمار ، و نغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي ؟ و في بعض فتاوى ابن تيمية ما يجيز الغنائ إذا كان لرفع الحرج و الترويح . * * * * * - تحذير من التساهل في إطلاق التحريم : و نختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلى السادة العلماء الذين يستخفون بكلمة « حرام » و يطلقون لها العنان في فتاواهم إذا أفتوا ، و في بحوثهم إذا كتبوا ، عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ، و يعلموا أن هذه الكلمة «حرام » كلمه خطيرة : إنها تعني عقوبة الله على الفعل ، و هذا أمر لا يعرف بالتخمين و لا بموافقة المزاج ، و لا بالأحاديث الضعيفة ، و لا بمجرد النص عليه في كتاب قديم ، إنما يعرف من نص ثابت صريح ، أو إجماع معتبر صحيح ، و إلا فدائرة العفو و الإباحة واسعة ، و لهم في السلف الصالح أسوة حسنة . قال الإمام مالك رضي الله عنه : ما شيء أشد على من أن أسأل عن مسألة من الحلال و الحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ، و لقد أدركت أهل العلم و الفقه ببلدنا ، و إن أحدهم إذا سئل عنه كأن ا الموت أشرف عليه ، و رأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا ، و لو و قفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا ، و إن عمر بن الخطاب و علياً و عامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل – و هم خير قرون الدين بعث فيهم النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) فكانوا يجمعون أصحاب النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) و يسألون ، ثم حينئذ يفتون فيها ، و أهل زماننا هذا قد صار فخرهم ، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم . . قال : و لم يكن من أمر الناس و لا من مضى من سلفنا الذين يقتدي بهم ، و معمول الإسلام عليهم ، أن يقولوا : هذا حلال و هذا حرام ، و لكن يقول : أنا أكره كذا و أرى كذا ، و أما «حلال » و « حرام » فهذا الافتراء على الله. أما سمعت قول الله تعالى: (قلُ أَرَءَيُتم مَّا أَنُزلَ الّلَه لَكمُ مِن رِزُقِ فَجَعَلُتمُ مِنُه حَرَامَا وَحَلَالَا قلُ ءَآلله أَذِنَ لَكمُ أَمُ عَلَى الله تَفُتَرونَ )(سورة يونس(59)) لأن الحلال ما حلله الله ، و رسوله ، و الحرام ما حرماه . ونقل الإمام الشافعي في « الأم » عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة : « أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا : هذا حلال و هذا حرام ، إلا ما كان في كتاب الله عز و جل بيناً بلا تفسير . وحدثنا لبن السائب عن الربيع بن خيثم – و كان أفضل التابعين – أنه قال : إياكم أن يقول الرجل : إن الله أحل هذا أو رضيه ، فيقول الله له : لم أحل هذا و لم أرضه ! و يقول : إن الله حرم هذا ، فيقول الله : كذبت ، لم أحرمه و لم أنه عنه ! وحدثنا بعض أصابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه : أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه ، قالوا : هذا مكروه ، و هذا لا بأس به ، فأما أن يقول : هذا حلال و هذا حرام ، فما أعظم هذا » . |
![]() |
![]() |
الإشارات المرجعية |
|
|