بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » شهيد العيد.

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 10-12-2008, 05:02 AM   #1
وحــي قلم !!
عـضـو
 
صورة وحــي قلم !! الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
البلد: السعودية، ، الرياض.
المشاركات: 72
شهيد العيد.

شهيد العيد


جلت في الأسواق، وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر، قد أوقدت فيها المصابيح، وفتحت المخازن، وانتشر الباعة، وتدفق عليها أهل البلد والفلاحون، بالأزياء المختلفة واللغات المتباينات، وكل بائع ينادي برفيع صوته، وكل مشتر يصيح، وكل مجتاز يتكلم، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظور ومشموم، وكل يريد أن يعدَّ الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه. . .
وكنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن، نازح الفكر، أعمل عقلي في هذه القصة. . . التي وعدت بها المحطة، فأعلنت عنها وبشرت بها، ثم لم أستطع أن أكتبها، حتى وصلت إلى (باب المصلى)، فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر، فأقبلت أدفع الناس بكتفي، وأشق طريقي بيديَّ كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من . . . النثر الفني . . الذي جادت به قرائحهم، فتدفق عليَّ من ألسنتهم، حتى بلغت المشهد ونظرت. . .



نظرت فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان، أما أحدهما فكان مسكيناً قميئاً أعزل عاجزاً، وأما الآخر فكان ضخماً طُوالاً كالح الوجه، مفتول العضل، وسخ الثوب، قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل، حديدية الشفرة، وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا ينكرون، وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تلفت المذعور، يطلب الغوث ولا يغيثه أحد، ويبتغي المهرب فيسد الناس عليه طريق الهرب . . .

وإني لأفكر ماذا أصنع . . . وإذا بالخبيث العاتي يذبحه والله أمامنا ذبحاً ويتركه يتخبط بدمه، ويوليه ظهره ويمضي إلى دكانه متمهلاً فيعالج فيها شأنه على عادته، كأنه لم يرتكب جرماً ولم يأت الأمر النكر جهاراً!

وكدت أهجم عليه، وأسلمه إلى الشرط، ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهور وحماقة، وأن المجرم بيده السكين، لا يمنعه شيء أن يَجأ بها من يريده من بشر، وطمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه وأشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم، ولا جَرُؤُ على ذلك، بل لقد تكلم واحد منهم، فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع، ويقول له بصوت مظطرب متلجلج: ( الله يسلم يديك )!

وحت ماذا أعمل: أَأُبلغ الشرطة، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عليَّ ولا لي؟، ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت، وأبعث به ليذاع ويعرفه الناس.

وهأنذا أتهم هذا الرجل بالقتل، وأدعوا الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر، ولا يحسبنَّ أحد أنه فرَّ، أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة، أو أنها من أساطير الأولين، أو من أخبار العصور الخوالي، فالقاتل موجود في دكانه، يغدوا إليها ويروح إلى بيته، والقصة صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه، متيقظ غير نائم ولا حالم، صاح غير مخدر ولا سكران، ثم إني رأيتها الليلة البارحة!.

هذه هي الحادثة الفظيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها؟ أفسدت الأخلاق، وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النكر، أم خارت العزائم، وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم؟ وهل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق؟


لقد سكت الجميع، حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه، وقعدوا عن الثأر له، ولم يتقدم أحد منهم شاكياً ولا مدعياً لأن القاتل كما قالوا، عازم على ذبحهم كلهم إن قدر عليهم، وماضيه حافل بمثل هذه الجرائم.

فما سر هذا السكوت؟
لقد علمتُ السرَّ بعدُ يا سادة . .
ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الضحية، وأن القاتل كان جزار الحارة، وأن الناس شاركوه في جرمه، فأكلوا لحم الذبيح مشوياً ومقلياً ومطهياً وأكلتُ معهم، ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد.

هذه هي سنة الحياة، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة، فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً، واشربوا مريئاً، واشتغلوا بالأكل عن مطالبتي بالقصة، وكل عام وأنتم بخير.


الكاتب الأديب الأريب: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى .
من كتابه: صور وخواطر.
نقلها: عبد الحميد بن عبدالرحمن اليحيى.
وحــي قلم !! غير متصل  


موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 05:09 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)