[د. صالح التويجري]

بسم الله الرحمن الرحيم

إصلاح ذات البين 18/5/1425هـ

[align=justify] إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد :

عباد الله : يقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ) .
ويقول تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه أجراً عظيما ) [النساء 114]، وروى أبي الدرداء (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.

عباد الله: وحين تعصف بالمجتمع أعاصير الخلافات ويقطِّع أواصره فسادُ ذات البين، ويُذكى نار الخصومة تخاذلٌ أو تبرِّي وتحامل أو تعدِّي، فإن لذلك أسباباً وخلفه مؤثرات ويغذي شجرته قنوات .
وفي ذات الوقت ينبري أصحاب القلوب الكبيرة والأنفس الرحيمة سعياً في رأب الصدع ودرء الكارثة الاجتماعية، باذلين الجاه والوقت والمال لتضييق دائرة الخلاف ويزداد تلاحم الأرواح، وتعود المياه إلى مجاريها، أولئك هم المصلحون، فكم جمع الله بهم شمل أسرة فرّقتها المشاكل ووصل بهم رحماً كانت تشكو القطعية .

أيها الناس : ومن أسباب فساد ذات البين عاهاتٌ جبلت عليها بعض النفوس وأمراضٌ تراكمت بسبب الغفلة عن دين الله تعالى، ولسوء الظن حظٌ وافرٌ من ذلك، كما أن فساد الفهم وشيوع النميمة يدفعان بعجلة العلاقات إلى الهاوية .

* وحين يتعثر سير الإصلاح فلأمور، منها :
1 ـ رغبة بعض الأطراف بسرعة الحسم والتعامل مع القضية حين تأجج اللهب وكان الأولى ترك المجال حتى تهدأ النفوسُ، وتلين الأعصاب المتوترة ويراجع المتشاكسون الحسابات، ويتذكر بعضهم فضائل الآخر .
2 ـ ومنها إدخال عناصر وأفراد في الوساطة وهم لا يحسنون فض الخلاف، وكان الأولى أن تعطي القوس باريها ولكل ميدان رجاله .
3 ـ ومنها كون الوسيط مرفوضاً من أحد الأطراف في القضية .

عباد الله : والإصلاح عام في جميع شؤون الأمة وعلى مستويات متعددة ويستطيع كل مسلم مهما كانت قدرته أن يختار من مجالات الإصلاح ما يناسبه، إذ هو من النصح لأئمة المسلمين وعامتهم . .
وقد ورد الإصلاح في القرآن الكريم متعدّد المعاني فجاء بمعنى الرفق والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فيا ترى ما هي صفات المصلحين ومن يتصدى لمهمة الإصلاح بين الناس، إن الصمود والاستقامة ومواصلة المسير رغم الصعوبات وعدم اليأس أمرٌ مشترك بين المصلحين أجمع . . ولأنهم مصلحون فهم لا يريدون شراً بمن آذاهم، خاصة وأن النهوض الحضاري بالأمة إلى مدارج الكمال يحتاج إلى قادةٍ في الإصلاح من أعظم مقوماتهم حُسن العلاقة مع المجتمع والإحساس بآلامه وآماله، والنـزاهة مما يقدح في العدالة والمروءة ، وأن يكون أميناً يستوعب أسرار الناس حين يفضي إليه المكلوم بمكنونه ، وغير خافٍ التعليل ( يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) فإن القوة أياً كان جنسها عسكرية، علمية، اقتصادية، شعبية، فإنها تصبح لا شيء إذ لم تقترن بالأمانة .
وحسب المصلحين أن الله يحفظ حقوقهم وإن نسيها الناس، قال تعالى: ( إنا لا نضيع أجر المصلحين ) وأجرهم جاء وصفه في القرآن، فإنه أجر كريم، أجر عظيم، أجر كبير، أجر غير ممنون، أجراً حسناً، ومن أهم ما يتحلى به المصلحون ما يُستخرج من كلام ابن القيم قال: (فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين، فهذا أعدلُ الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدلَ فيكون المصلح عالماً بالوقائع عارفاً بالواجب قاصداً للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم" [أعلام الموقعين 1/109].
ولأهمية الإصلاح بين الناس وعظيم نفعه لهم، جاز فيه الكذب، قال ابن شهاب رحمه الله: ( ولم أسمع يُرخّص في شيء مما يقول الناس كذبٌ إلا في ثلاث . . الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها" البخاري في الفتح 5/353.
وفي هذا إشارة إلى محاورة جرت في زمن عمر رضي الله عنه (حين سأل زوجة ابن أبي عَذْرة الدُؤلي عن قولها لزوجها حين سألها عن حبها له قالت: إني أبغضك، قالت: أفأكذب يا أمير المؤمنين، قال: نعم، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك فإن أقل البيوت الذي بُني على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والإحسان) إحياء علوم الدين .
فالوفاء وحسن العهد وفضل الكرام يستر زلاّت يقف عندها اللَّئام طويلاً، قال الله تعالى: (وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) [الشورى 40]، بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعنا بما فيه من الذكر والبيان . . .[/CENTER]

الخطبة الثانية

[align=justify] الحمد لله يقول في كتابه المبين: ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما والصلح خير وأحضرت الأنفس الشحُّ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) [النساء 128] .
وصلى الله وسلم على من شغله الإصلاح بين المتخاصمين حتى أقيمت الصلاة، وما ذاك إلا لأن إصلاح ذات البين همٌ يسيطر على العظماء، فقد يطالُ حياتهم عنتٌ وإعياءٌ، ولكن ليسعد من حولهم من الأقوياء والضعفاء .

عباد الله: والتصدع الاجتماعي وقطيعة الرحم والتهاجر والشحناء ليست حكراً على قومٍ دون آخرين، ولكنها أمراض تنشط في الأجواء المتردية من حيث ضعفُ التمسك بهذا الدين، وارتكاب أحد الطرفين خللاً فيما أسند إليه، وتضعف وتغيرب تلك الظواهر المنكرة حين يشعر الناس بالأمان والعدل والإنصاف.

أيها الناس: الحياة جبلت على الكدر، وخلق الإنسان في كبد، والمؤمن مبتلى، فماذا نقول للمتخاصمين حتى نقرب بين وجهات النظر ونقف مع إخواننا لتجاوز المشكلة .
تأملوا معي قول الله تعالى: ( إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ) فإرادة الصلح مهمة والعناد والمكابرة قاطعة الطريق على المصلحين، والتوفيق بين المختلفين يملكه الله وحده إذا علم منهما التراجع والرغبة في الصلح والمساهلة .
كما أنه لا بد لمن كانت بينهما خصومة من الزوجين أو الأخوين أو الشريكين أن يحمل كل واحدٍ منهما كرم النفس بتقديم شيء من التنازلات ومجانبة الاستقصاء، فإن الملاحاة ليست من صفات الكرماء .
ومن ذلك الإعراض عن الحديث عن الأشخاص والذوات وحصر الحوار في دائرة المشكلة، لأن الحديث عن العيوب الجانبية يُعكر صفو النفوس ويؤخر خطوات الإصلاح، ونبش الماضي أنكى جرحٍ يوغر الصدور.
ومن أعظم ما يؤثر في النفوس فتح باب العفو وفضله ومحبة الله تعالى له وللعافين عن الناس، فمن اشتكى إليك أحداً فأرشده إلى العفو فإنه أوسع الأبواب، وصاحب العفو ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلب الأمور، ويتربص الدوائر، قال ابن القيم: ( لأن تكون مظلوماً تنتظر النصر خيرٌ من أن تكون ظالماً تنتظر العقوبة).
ويقال للمتخاصمين أيضاً ما يؤثر في نفوسهم من جهة العاطفة وتحريك الرقة لديهم، كما هو هدي القرآن ( إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) [الحجرات 3]، فلاحظ كلمات مؤمنون، أخوة، أخويكم، ترحمون، ويا لها من أوصاف تقود عند تأملها إلى العفو والصفح والإنصاف .
وقد صدرت الأخوة في دعوة الأنبياء وإصلاحهم قومهم: "إذ قال لهم أخوهم صالح، أخوهم هود، أخوهم نوح، أخوهم لوط، لتكون عملية الإصلاح أكثر رأفة ورحمة، لا يدفع إليها حب الشهرة وطلب الوجاهة من الأمور الدنيوية ( وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) .
وأنت أيها المظلوم وإن بدا لك أن في الصلح هضمٌ لك فارجع إلى قوله تعالى: ( والصلح خير )، فإن مآلات الأمور التي تنتهي بالصلح من الحل والتجاوز والإعراض والتغافل وبناء الجسور وتواصل الأرحام يفوق ما قد يحصل عليه الإنسان عند المشاحنة والاستقصاء .
وأنت يا صاحب الحق المهضوم، والقلب المكلوم، استمع إلى هذه المحاورة بين الله وبين أحد المظلومين يوم القيامة، وأرجو أن لا تخرج من هذا المسجد في قلبك شيء على أخيك .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالسٌ إذ رأيناه ضحك، حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال يا رب فليحمل من أوزاري، قال: وفاضت عينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالبكاء، ثم قال: إن ذاك اليوم عظيمٌ يحتاج الناس أن يُحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذه؟ ولأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ قال هذا لمن أعطى الثمن، قال يا رب ومن يملك ذلك، قال: أنت تملكه، قال فبماذا؟ قال بعفوك عن أخيك، قال يا رب قد عفوت عنه، قال الله عزّ وجل فخذ بيد أخيك فادخل الجنة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين" أخرجه الحاكم في المستدرك (4/576)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجه، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/309)، وأشار إلى تصحيح الحاكم وأخرجه البيهقي .
ولم يكتمل الموضوع بعد، فصلوا وسلموا على رسول الله كما أمر الله ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم . . .
اللهم أقل عثرات المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام، اللهم أعز دينك وانصر أوليائك . . . . [/CENTER]

خطبة د. صالح بن عبد العزيز التويجري
جامع الرواف - بريدة

[سراج الخير]

بارك الله فيك ونقع بعلمك
شيخنا صالح .. أرى انك لو قمت بإنزال المواضيع كل يومين ثلاثة أيام كان افضل حتى يتسنى للعضو قراءة المشاركة السابقة ..


وشكرا لك

[الإعصار]

جزاك الله كل خير يا شيخنا الفاضل وبارك الله فيك

نسأل الله أن تكون في موازين أعمالك