|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
![]() |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
|
![]() |
#1 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الثانية عشرة : أتباع الأنبياء وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} سورة المائدة . قرأتُ هذه الآيات الكريمة وتعجبت من جرأة الحواريين الذين طلبوا من نبي الله عيسى عليه السلام طلباً غريباً لدرجة أن عيسى عليه السلام أمرهم بالتقوى , وذكرهم بإيمانهم . ما هذا الطلب العجيب ؟ إنه مائدة من السماء ينزلها الله عليهم مملوءة طعاماً . لماذا ؟ لأربعة أسباب : 1. ليأكلوا منها . 2. لتطمئن قلوبهم بأن الله أرسل عيسى إليهم , أو لأن الله قد اختارهم لدعوته , أو تطمئن بأن الله قد أجاب دعاءنا ... [ تفسير القرطبي : 6/236 ] . 3. أن يعلموا أن عيسى صادق بادعاء الرسالة . 4. أن يكونوا شهداء لله بالوحدانية , ولعيسى بالرسالة , وقيل : نشهد بها لك عند مَنْ لم يَرَها إذا رجعنا إليهم . هذه أربعة أسباب دعت الحواريين لطلب المائدة , والحواريون هم أتباع عيسى المخلصون له , وهم الذين نصروه وآووه وأخلصوا بالإيمان ({فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (52) سورة آل عمران فقوم بهذه المنزلة عند نبي الله عيسى عليه السلام يطلبون منه هذا الطلب الغريب ؟ بل زادوا بذلك طريقة السؤال العجيبة : 1. مناداة نبي الله باسمه دون لقبه : يا عيسى بن مريم .. 2. الاستفهام بقدرة الله تعالى : هل يَستطيعُ ربُّك ؟ وهذا فيه سوء أدب مع الله تعالى , وقد حاول بعض المفسرين أن يعتذر لهم بأنهم قصدوا : هل يطيعُك ربُّك , لأن يستطيع بمعنى يطيع , كما صارت : استجاب بمعنى : أجاب . وهذا القول فيه نظر : لأنه لو كانت بهذا المعنى لكان اللفظ : هل يستطيعُكَ ربُّك . على أن بعض المفسرين قد اعتذر للحواريين أيضاً بأن طلبهم هذا كان في أول إيمانهم , وقبل أن يستحكم الإيمان في قلوبهم , وهذا قول له وجه , ولكنه يظل افتراضياً . ولم يكن من نبي الله تعالى الرحيم بأمته إلا أن يستجيب لطلب قومه فيدعو الله تعالى بأن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون لهم عيداً يفرحون فيها كلهم صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم , وآية منه وحجة على قومه , خاتماً دعاءه بلغة النبي العارف بربه سبحانه : وارزقنا وأنت خير الرازقين . ولأن الطلب عظيم , والله تعالى لا يعجزه شيء , فقد استجاب دعاء نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم مبيناً سبحانه أن من لم يؤمن بعد هذه الحجة القاطعة , والدليل الصريح فإن الله سوف يعذبه عذاباً لم يسبق ولن يسبق أن وقع على أحد من الناس . أقرأ هذا العرض السريع لأخلص أتباع عيسى عليه السلام وأكثرهم طاعة وإيماناً فأتذكر مواقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم لصحبة خاتم النبيين , حيث كانوا يسلمون أمرهم إليه , ولا يمكن أن يدرج الشك إلى قلوبهم حتى في أحلك الظروف وأقساها , بل كانوا مصدقين مذعنين استحقوا قول الله تعالى فيهم : {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (22) سورة الأحزاب , واستحقوا قول الله تعالى فيهم : {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (51) سورة النــور . واستحقوا قول الله تعالى فيهم : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة . والآيات في فضل صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له وإذعانهم لقوله كثيرة عند المتأمل , وربك يخلق ما يشاء ويختار . مواقف لغوية سريعة : يستطيع ربُّكَ : قرأ الجمهور ( يستطيعُ ربُّك ) بالياء والرب فاعل , وقرأ الكسائي : تستطيعُ ربَّك , بالتاء خطاباً لعيسى , ورب مفعول به , والمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك , أي هل تفعل ذلك لنا كما تقول للرجل : هل تستطيع أن تكلمني وأنت تعرف أنه يستطيع لأنك تريد : هل تفعل ذلك . [ الكشف عن وجوه القراءات السبع : 1 / 422 ] . المائدة : الْخُِوان ( بكسر الخاء وضمها ) الذي عليه الطعام , قال قطرب : لا تكون المائدة مائدةً حتى يكون عليها طعام , وإلا فهي خُِوان , وأصلها من الميد وهي الإعطاء والميرة والإطعام [ لسان العرب ( ميد ) 3 / 411 ] ومائِدَة فاعلة , وسميت بذلك لأنها تُطْعِم الآكلين منها , ويسمى الطعام مائدةً تجوزاً كما يسمى المطر سماء . [ تفسير القرطبي : 6 / 237 ] . ( نريد أن نأكل منها ) المصدر المؤول من ( أن والفعل في محل نصب على المفعولية ) والتقدير : نريد الأكل منها , والفعل : نأكل منصوب بأن , وقد عطفت عليه الأفعال بعده فأصبحت منصوبة : " وتطمئنّ , ونعلمَ , ونكونَ " . وقوله : ونعلم أن قد صدقتنا ( أنْ ) هنا : مخففة من الثقيلة , وهي مصدرية وأصلها : ونعلم أنك قد صدقتنا , والمعنى :ونعلم صدقك , لأن المصدر المؤول في محل نصب سد مسد مفعولي عَلِمَ , ولعلنا نلحظ أن الحواريين لم يصلوا لدرجة العلم واليقين إلا بعد أن رأوا المائدة , بخلاف الصحابة الكرام الذين آمنوا برسول الله وصدقوا كلامه دون أن يطلبوا منه مثل هذا الطلب . قوله : اللهم ربنا , هذان نداءان : أصلهما : يا ألله , ويا ربنا . فأما الأولى فحذفت ياء النداء مع لفظ الجلالة وعوض عنها ميم في الآخر ( اللهُمَّ ) , وهو منادى مبني على الضم لأنه مفرد علم , وربنا : منادى آخر ( عند سيبويه ) منصوب على الفتح لأنه مضاف . تكون لنا عيداً : ( لنا ) حال من كلمة عيداً , وأصلها نعت له , ولما قدمت عليه صارت حالاً , ولأولنا وآخرنا : بدل من ( لنا ) , وكأنه تفصيل للعموم , فلما قال : لنا , كان الضمير جمعاً مطلقاً , فجاء بالتفصيل بعده . ( فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه ) لدينا فعلان متكرران في اللفظ لكنهما مختلفان في المعنى : أعذبه , فهو في الأول يعود على من يأكل ولم يؤمن , والضمير يكون مفعولاً به منصوباً , وفي الثاني يعود الضمير على العذاب : أي لا أعذب هذا العذاب أحداً , ويكون الضمير نائباً عن المصدر ( وينصب على المفعول المطلق ) , وجملة لا أعذبه نعت لكلمة ( عذاباً ) أي أن هذا العذاب لن يحل بقوم آخرين , كما تقول : سأضربك ضربا لم أضربه أحداً من قبل . والله تعالى أعلم وأحكم . 12 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
![]() |
![]() |
#2 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الثالثة عشرة : اقتداء الفاضل بالمفضول : قال الله تعالى : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (90) سورة الأنعام . تتحدث هذه الآية عن أنبياء الله تعالى الوارد ذكرهم في سورة الأنعام , وأن الله هداهم وأمر نبيهم بالاقتداء بهم . فاسم الإشارة : أولئك يعود على أنبياء الله تعالى المذكورين قبل هذه الآية , وذلك في لآيات التالية : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ , وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ , وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ , وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (83-86) سورة الأنعام . وهؤلاء الأنبياء عليهم السلام هم صفوة خلقه , منذ بدء الخليقة إلى نهايتها , وأفضلهم وأكرمهم وأشرفهم هو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك فإن الله تعالى يأمر هذا النبي العظيم بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء , ولو كانوا أقل منه منزلة , لأن الحق أحقُّ أن يُتَّبَع . والسورة الكريمة ( سورة الأنعام ) مليئة بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء قبله , والاتعاظ بسيرتهم , لأنهم واجهوا في ذات الله من العَنَتِ والضيق من قومهم مثل ما واجهه صلى الله عليه وسلم فصبروا واحتسبوا , فليكن في ذلك قدوة لك يا محمد على صبرك واحتسابك . {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} (10) سورة الأنعام , {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } (34) سورة الأنعام . وإن قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيت لمقام خاتم المرسلين , لأن له فيهم أسوة حسنة , {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (120) سورة هود . نعود للآية في أول الوقفة . الآية مبدوءة باسم الإشارة ( أولئك ) وهو مكون من ( أولاء ) وكاف الخطاب , وهو جمع لاسم الإشارة : ذا , وقد يبدأ بهاء التنبيه فيقال : هؤلاء , ولكن حين تأتي كاف الخطاب في آخرها فإن الهاء في أولها تحذف لئلا تجتمع الزوائد على اسم الإشارة , فلا يقول : هؤلائك . واسم الإشارة هنا يعود على الأنبياء , فَتَمَّ جَمْعُه , والمخاطب به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم , فتم إفراد حرف الخطاب وهو الكاف , ولو كان المخاطب جماعة ذكور أو جماعة إناث لأتى الضمير مطابقاً لحال المخاطبين كما قال تعالى : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} (43) سورة القمر . والبدء باسم الإشارة هنا دال على تعظيم المشار إليه كما قال تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (2) سورة البقرة , {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } (88) سورة الأنعام . ثم أتى بعد اسم الإشارة اسم الموصول : الذين , وهو اسم مبهم لا يفهم إلا بصلته , وأتت الصلة بأعظم وصف وأشرفه , فقال : الذين هَدَى الله , أي هداهم الله , فأتى بالفعل مجرداً عن ضمير المفعول , ومتصلاً بالفاعل , ربما لعظم اتصال الهداية بالله تعالى , ولأن المهديين ( وهم الرسل ) معروفون بما سبق من الآيات , فلم يُحْتَجْ إلى إعادة الضمير , إضافة إلى أن الضمير مكني عنه قبلاً باسم الإشارة الدال على التعظيم . ثم قال سبحانه : فَبهداهم اقتدِه , الفاء سببية تدل على أن ما بعدها مُسَبَّبٌّ عما قبلها , أي أن هداية الله سبب للأمر بالاقتداء , والجار والمجرور ( بهداهم ) متعلق بالفعل بعده ( اقتدِ ) وقُدِّمَ الجار والمجرور لإرادة الحصر , أي لا تقتدِ إلا بِهُداهم , كما قال تعالى : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (122) سورة آل عمران . ونسبة الهُدى إلى الأنبياء بعد نسبته إلى الله فيه إضافة تشريف لأنبيائه عليهم السلام . ثم ( اقْتَدِ ) أمرٌ من الله لنبيه بأن يقتديَ بهؤلاءِ القوم العظماء . والهاء هنا للسكت , وهو ما يسمى بالوقف , كما قال تعالى : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } (259) سورة البقرة . وكأن الله تعالى أراد أن يبين أن الصلة بين محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء تنتهي بالاقتداء , ونِعمَ القدوة والمقتدِي والمقْتَدى به . ومن خلال هذا العرض الموجز للآية يتبين لنا كيف أن الله تعالى يأمر نبيّه أ يقتدي بمن دونه في الفضل ؛ لأنهم على الحق والهدى , ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة , فَحَقٌّ على المسلم أن يَقْبَلَ الحقَّ مهما كان , وأن يقتدِيَ بِمَن يحمل الحق ولو كان أقل منه فضلاً أو علماً . 13 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
![]() |
![]() |
#3 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jun 2008
المشاركات: 206
|
بارك الله فيكم يا شيخ علي، فنحن أحوج ما نكون في شهر القرآن إلى مثل هذه الفتوحات الربانية.
* وها هنا إضافة فائدة بالنسبة لدعاء الصائم؛ فإن الأحاديث المرفوعة فيه لا تخلو من مقال، بل قيل إنه لم يصح في ذلك شيء، لكن لعل الأمر كان مشهورًا عند السلف. ثم إن إدخال آية الدعاء بين آيات الصيام له دلالة لمن تأمله، قال ابن كثير في تفسيره -(1/509)-: "وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام؛ إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر..."، ثم ساق عددًا من الأحاديث الواردة في ذلك . |
![]() |
![]() |
#4 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
شكراً أخي ( يرموك ) على إطلالتك , وجزاك الله خيراً على ما أتحفتنا به من فوائد جليلة .
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
![]() |
![]() |
#5 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الرابعة عشرة : الإحسان للوالدين. قال تعالى : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ , وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } (152) سورة الأنعام هذه الآية بداية الوصايا العشر التي بين الله لعباده فيها المحرمات والواجبات , وقد تكلم المفسرون على تفسير الآيات بما لا مزيد عليهم , ولكني أقف هنا وقفة يسيرة حول قوله تعالى :" وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " . وحين نتأمل الآية كاملة نجد أنها اشتملت على عدة محرمات عظيمة جاء التعبير بالنهي عنها صراحة : ( لا تشركوا , ولا تقتلوا أولادكم , ولا تقربوا الفواحش , ولا تقتلوا النفس , ولا تقربوا مال اليتيم ) خمس نواهٍ متتالية لبيان هذه المحرمات التي أمر ربنا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوها علينا , ولكن بين هذه النواهي انسَلَّتْ جملة عظيمة لا تفيد النهي , وإنما تفيد الأمر المؤكد , وهي قوله تعالى : " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " . والمعنى والله أعلم : وأحْسِنُوا بالوالدين إحساناً , فالجار والمجرور ( بالوالدين ) متعلق بفعل محذوف دلّ عليه المصدر بعده , والتقدير : وأحسِنُوا , والمصدر ( إحسانا ) مفعول مطلق يفيد التوكيد . فنلحظ أن هذه الجملة تفيد أمراً بين منهيات : لا تشركوا > نهي وبالوالدين إحسانا > أمر ولا تقتلوا أولادكم > نهي ولا تقربوا الفواحش > نهي ولا تقتلوا النفس > نهي ولا تقربوا مال اليتيم > نهي السؤال المطروح هنا : ما الحكمة من وضع هذه الجملة هنا ؟ ولماذا جاءت بهذه الصيغة ؟ ولماذا أتت بعد النهي عن الشرك ؟ الجواب والله أعلم : أن الجملة هذه وضعت هنا لبيان عظيم شأن الوالدين , وعظيم حقهما , وأن الله تعالى يحث على برهما والإحسان إليهما , واختلف التعبير من النهي إلى الأمر لِشَدّ الانتباه لشيء عظيم , كما قال تعالى : {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (162) سورة النساء , فاختلف التعبير بلفظ : ( المقيمين الصلاة ) فجاء منصوباً بين مرفوعات لِشَدِّ الانتباه إلى هذه الشعيرة العظيمة . وجاء التعبير بهذه الصيغة صيغة الأمر , ولم يأت بالنهي , فلم يقل : ولا تهينوا والديكم مثلاً , لبيان أن الأصل في الإنسان إكرام والديه , ولكن المطلوب هنا شيء أكثر من مجرد الإكرام والاحترام , المطلوب هنا هو درجة الإحسان التام , إلى درجة مراعاة الكلمة الصغيرة التي تؤذيهما , فلا تخرج من فيك أيها الولد كما قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (23) سورة الإسراء . وأتى الأمر بالإحسان إلى الوالدين بعد النهي عن الشرك , لبيان عظيم حق الوالدين , وأنه يأتي بعد حق الله تعالى , فالله تعالى هو المنعِمُ والمربي سبحانه , والوالدان لهما الفضل بعد الله تعالى بالإنعام عليك وتربيتك , فليس أحد أحق بالإحسان له وطاعته بعد الله تعالى من الوالدين . وقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه وتوحيده في أكثر من آية كما قال تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } (83) سورة البقرة , وقال سبحانه : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (36) سورة النساء , وقال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (23) سورة الإسراء , وقال تعالى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (14) سورة لقمان . ونلحظ هنا إطلاق التعبير بالوالدين دون أي وصف آخر , فيكفي أن يكونا والديك لتحسنَ إليهما , من غير شرط لدينهما أو صلاحهما أو استقامتهما . قد يقول قائل : أليس حق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته مقدمة على حق الوالدين وطاعتهما ؟ فلماذا قرن الله حق الوالدين بحقه , ولم يقرن حق رسوله بحقه ؟ فالجواب : أن حق الرسول صلى الله عليه وسلم داخل في حق الله تعالى , فقوله : " لا تشركوا به شيئاً " تعني التوحيد وإخلاص العبادة لله , وهذا التوحيد من أين سنأخذه ونعرفه ؟ إنما هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب والحكمة , ولأن إرضاء الله تعالى وطاعته إرضاء لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة له كما قال تعالى : { وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} (62) سورة التوبة , وقرن الله طاعة رسوله بطاعة الله تعالى : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } (80) سورة النساء . والأدلة على ذلك كثيرة متظافرة . والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين . 14 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
![]() |
![]() |
#6 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الخامسة عشرة : حينما يكون التطهر مَثْلَباً ( قوم لوط أنموذجاً ) . قال الله تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (84) سورة الأعراف . تتحدث الآيات عن قوم لوط وتكذيبهم لنبي الله تعالى لوطٍ عليه السلام , والقصة معروفة واردةٌ في كتاب الله في أكثر من موضع وأكثر من سياق . وأقف هنا وقفة يسيرة مع قوله تعالى : " أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ " حكاية عن جواب قوم لوط لنبيهم الكريم . فهؤلاء القوم لم يجدوا عيباً في هذا النبي الكريم وأهله إلا أنهم قوم يَتَطَهَّرُون ! فالطهارة واجتناب الخبائث في عُرْفِ هؤلاء القوم الذين انتكست فطرتهم من الأمور الموجبة للطرد من ديارهم , وإخراج كل من اتصف بها , لئلا يشوه قذارتهم بطهارته . هؤلاء قوم اشتهروا بفعل الفاحشة الشاذة جهاراً نهاراً {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } (29) سورة العنكبوت . وحينئذٍ فأولئك أمة احترفت النجس والقذر , ولم يعد لديهم طاقة بمصاحبة أهل الطهر والصيانة والعفاف ! أي أمةٍ هذه التي تستحق المسخ من الوجود ؟ أيُّ أمة تلك التي قلبت الأخلاق عاليها سافلها ؟ فجاء عقابهم الشديد بمثل ما أفرزته أخلاقهم الخبيثة {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} (82) سورة هود . وكلُّ الأمم على مر التاريخ لا تقيم للطهارة والنقاء وزنا لا تستحق أن تكون أمة صالحة , فحينما تنتشر الفواحش بأنواعها من بِغَاءٍ وشُذوذ في مجتمعٍ ما فإنه ليس للصالحين والمتطهرين مكانٌ فيه , ذلكم أن الطهارة والنقاء لا تجتمع مع ضدها ونقيضها . وحينما نتأمل ديننا الإسلامي الحنيف نجد أنه عني بجانب الطهارة والنقاء من جميع جوانبها , فطهارة النكاح , وطهارة العبادة , وطهارة الملبس , وطهارة المكان , وطهارة البدن , كلها معتبرة شرعاً . فطهارة المنكح : أباح الله تعالى النكاح , وحرم السفاح , وحتى الوطء بين الزوجين لم يجعله الله تعالى إلا طاهراً نظيفاً : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222) سورة البقرة . وطهاة العبادة : شرع الله الطهارة والوضوء للصلاة ناصاً سبحانه على أنها طهارة عظيمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) سورة المائدة . وطهارة الملبس : يبينها قوله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف . وطهارة البدن يبينها قوله تعالى : " وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ " . وطهارة البقعة والمكان يبينها قوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125) سورة البقرة . والأدلة على هذا الموضوع أكثر من أن نحصرها في مثل هذا الموضوع المقتضب , فلله الحمد والمنة على الدين الحق الذي جاء بالطهر والنقاء , وحرم كل ما يلوث هذه المنقبة الإسلامية العظيمة التي سار عليها الأنبياء المكرمون عليهم السلام . مواقف لغوية حول آيات لوط السابقة : قوله تعالى : ( ولوطاً ) : مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره : وأرسلنا لوطاً . قوله : ( أتأتونَ ) استفهام داخل على فعلٍ مضارع , والتعبير هنا بالفعل المضارع دال على التجدد والاستمرار بالعمل القبيح , فهم يأتون الرجال مكررين عملهم ومستمرين عليه . قوله : ( ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين ) : هذه الجملة دلت بأسلوبها على أن عمل قوم لوط لم يحصل في تاريخ الإنسانية جمعاء قبل هؤلاء القوم الأنجاس , فكلمة : ( أحد ) نكرة تفيد العموم بلفظها , وتفيد العموم بدخول ( مِنْ ) عليها , وتفيد العموم لأنها نكرة في سياق النفي .ثم جاء العموم الآخر بختام الآية ( من العالمين ) , وليس بعد هذا العموم والتأكيد شيء . قوله : ( مسرفون ) اسم فاعل ناسب ما قبله , لأنه لما قال : ( ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين ) ناسَبَ أن يصفهم بالإسراف وتعدي الحدّ , لأن من يعمل عملاً سيئاً لم يُسبق إليه يكون عادة بسبب السَّرَف الذي يصيبه إلى أن يتجاوز المحدود والمعقول . وأيُّ مجاوزة للمحدود والمعقول أعظم مما يفعله قوم لوط ؟ إذن فهو الإسْرَاف بعينه . ونلحظ هنا أيضاً أنه قال ( مسرفون ) فعبر بالاسم , ولم يقل : تسرفون كما قال : تأتون ؟ والعلة في ذلك والله أعلم أن الإسرَافَ – غالباً - طبعٌ في النفس لا يتغير , والاسم يدل على الثبات دائماً . قوله : ( وما كان جواب قومه إلا أن .. ) أسلوب تعجبي كريم لبيان أن ردهم لكلام لوط عليه السلام أمر عجيب , فهؤلاء قومٌ بلغت فيهم الخسة والقذارة مبلغاً أنهم لم يجدوا جواباً جميلاً مقنعاً يجيبون به هذا النبي الكريم إلا أن أمروا بإخراجه وأهله ؟؟ وقد تكرر هذا الأسلوب في القرآن الكريم أربع مرات , ثلاث منها في قصة لوط وقومه : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (56) سورة النمل , {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (29) سورة العنكبوت ,وموضعٌ واحد في قصة إبراهيم وقومه {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (24) سورة العنكبوت . وهي أجوبة ظاهرة لكل متأمل أنها تدل على خسة في الطباع , وعدم مقارعة الحجة بالحجة , فيأتي التعجب القرآن بأن هؤلاء لم يجدوا جواباً إلا هذا ؟! . قوله : يتطهرون : جاء التعبير بالمضارع هنا لبيان التجدد والاستمرار في الحدث وهو التطهر , مضاداً لنجاستهم السابقة ( تأتون الرجال ) . قوله : ( أهله ) يطلق الأهل ويراد بهم الزوجة كما قال تعالى : { قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (25) سورة يوسف . ويطلق ويراد بهم ذوو الرجل وأبناؤهم وعشيرته كما في هذه الآية وآيات كثيرة . وقوله : ( الغابرين ) الغابر : من الأضداد يطلق على الماضي : غبر الشيء إذا مضى , ويطلق على الباقي , يقال : غبرتُ في المكان أي أقمت فيه , والغابرين هنا : الباقين [ الأضداد لابن الأنباري ص 129 ] . قوله ( مطراً ) المطر في القرآن لم يرد إلا في العذاب , وهو كثير , وقد أشار إلى ذلك الجاحظ في كتابه البيان والتبيين : 1 / 20 , والتنكير هنا ( مطراً ) لعله يراد به التهويل والتخويف , بأنه مطر عظيم شديد البأس . قوله : فانظر كيف .... هنا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يقرأ القرآن بالنظر في مصير هؤلاء القوم , إما بالنظر المعنوي , وهو نظر الاعتبار والتفكر , وإما النظر الحسي في قرية سدوم غربي الأردن في مكانها المعروف حالياً . وانتهت الآيات بلفظ ( المجرمين ) الدال على أنهم اتصفوا بهذا الوصف الشنيع , فكذبوا رسول الله , واستمروا على فعل الفاحشة المنكرة ( إتيان الرجال ) , وحاولوا طرد نبي الله تعالى عليه السلام , وأي إجرام أشد من هذا ؟ . هذا ما لدي هنا والله أسأل أن يرزقنا فهمَ كتابِه العزيز , والتأمل في آياته , والله أعلم وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين . 15 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
![]() |
![]() |
#7 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة السادسة عشرة : فروق بين التائبين : قال الله تعالى : {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (149) سورة الأعراف . قرأتُ هذه الآية فتذكرتُ آية آدم عليه السلام وتوبتَه في أول السورة حين قال هو وزَوْجُه – عليهما السلام - : {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف . فذهب بي الخيال إلى الفرق بين التوبتين هنا , والفرق بين الكلامين , وكلام الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . فآدم عليه السلام بَدأ بالمغفرة قبل الرحمة , وآية بني إسرائيل بُدِئَ فيها بالرحمة قبل المغفرة , والفرق بين التعبيرين والله أعلم : أن آدم عليه السلام أحسن دعاء , وأكمل توبة من بني إسرائيل , ولذلك بدأ بقوله ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) وهذا اعترافٌ بالخطأ ابتداءً , وهو خطأ يسير ( الأكل من الشجرة ) في مقابل خطأ بين إسرائيل العظيم ( عبادة العجل ) . فبيّنَ آدمُ وزوجه عليهما السلام أنهما ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة وعصيان أمر ربهما سبحانه , ولهذا ابتدآ التوبة بقولهما ( ربَّنا ) , وسميا الخطيئة ظُلماً لأنفسهما , لأنهما سيتحملان تعبة هذه الخطيئة , ولن يقع الذنب إلا عليهما أنفسِهما , فهما قد ظلما أنفسهما بهذا العصيان ( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . ثم قال آدمُ ملتمساً من ربه تعالى أن يغفر له هذا الذنب والخطيئة ( لئن لم يغفر لنا ) , فبدأ بالمغفرة لأن الذنب الحاصل منهما يحتاج مغفرة من ربهما سبحانه بعد اعترافهما بذنبهما , وإذا حصلت المغفرة فلم يبق إلا أمرٌ واحد , وهو أن يَرْحَمَهُمَا ربُّهُما بإبقائهما في الجنة بعد توبتهما . أما بنو إسرائيل فالأمر مختلف , فتوبتهم أقل من توبة آدم , مع عظيم ذنبهم , وسوء جرمهم , ولذلك جاء التعبير ( ولما سُقِطَ في أيديهم ) أي : لما جاءهم موسى عرفوا أنهم قد أذنبوا فقلبوا أيديهم حَسْرَةً , وعضُّوا أصابِعَهم نَدَماً , ورأوا أنهم قد ضلوا : أي علموا ضلالهم وعِصيانهم , قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا , فبدؤوا بالرحمة قبل المغفرة لأنهم يطلبون من الله تعالى أن يرحمهم أولاً , وأن ينظر إليهم بعين الرحمة الواسعة منه سبحانه , ثم يغفر لهم بعد ذلك , وإن حصل لهم ذلك فقد حصل مرادهم , وإن لم يحصل الأمران كانوا من الخاسرين , وكأنهم لم يكونوا جازمين بمغفرة ذنوبهم لعظيم ذنبهم من جانب , ولقلة إيمانهم وضعف ثقتهم بربهم من جانبٍ آخر , ولهذا لم يعترفوا بظلم أنفسهم كما فعل آدم عليه السلام , وإنما سُقِطَ الأمر في أيديهم من غير اختيارهم كما يقال : سُقِطَ في يده إذا وقع في أمرٍ يوجب الندامة كما قال تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا } (42) سورة الكهف , وحينئذ يَعَضُّ يديه ندامة على سوء ما صنع : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (27) سورة الفرقان . هذا ما تبيَّنَ لي في الفرق بين الآيتين الكريمتين فإن أصبتُ فمن الله , وإن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله وأتوب إليه . 16 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
![]() |
![]() |
الإشارات المرجعية |
|
|