|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
29-08-2010, 08:25 AM | #43 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: May 2010
البلد: القصيم
المشاركات: 1,380
|
جزاك الله خير الجزاء
__________________
اللهم ارزقني قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة |
30-08-2010, 04:40 PM | #44 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة العشرون : من حَفَرَ حُفْرَةَ لأخِيهِ وَقَعَ فِيها : نسمع بهذا المثل كثيراً منذ نعومة أظفارنا , وأخذناه في المدارس , وقرأنا قصصه , ويبدو أنه تحديثٌ لِقَولِ ( مَنْ حَفَرَ مُغَوَّاةًَ وَقَعَ فِيهَا ) , والمغَوَّاة ( بتشديد الواو ) حفرة تحفر لاصطياد الضَّبُع أو الذئب [ مجمع الأمثال : 3 / 306 ] , والمثل يدور حول مَنْ حاول إيذاء غيره ونصب الحبائل له , فإنه يقع في شر أعماله , ويعود وبال عمله عليه . وقد وجدتُ هذا المعنى في كتاب الله تعالى أبلغ وأكمل , وهو قوله سبحانه : {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } (23) سورة يونس . فقوله : (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ) يدور حول هذا المعنى بأسلوب أوجز وأبلغ , فالآية مبدوءة بأداة الحصر ( إنما ) للدلالة على تأكيد هذا المعنى , وأن من أراد الشر والإفساد في الأرض فإنما يعود عليه , وقوله : ( على أنفسكم ) هذا يسمى عند البلاغيين ( مقصوراً عليه ) أي أن البغي مقصورٌ على أنفسهم لا على أحد غيرهم , والتعبير بالأنفس هنا للتأكيد على أن الضرر يعود عليهم أنْفُسِهم لا على ديارهم ولا على أموالهم ولا على أولادهم , وربما كان الضرر يعود على جميع ما ذُكِرَ , ولكن اختار الأنفس لأنها أغلى موجود لدى الإنسان , فلعلَّهُ إذا عَلِمَ أن بغيه عائدٌ على أغلى ما لديه أن يرتدعَ ويتوب . ومثل هذا المعنى قوله تعالى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (43) سورة فاطر , وقوله سبحانه : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } (10) سورة الفتح , وآية الفتح مماثلة في تعبيرها آية يونس حيث القصرُ بإنما , والتعبير بالنفس , واختلف التعبير بآية فاطر حيث أتى الحصر بأسلوب النفي والإثبات ( لا ) ( إلا ) , وأتى بلفظ ( أهله ) بديلاً للنفس , ربما لأن التعبير هنا ليس فيه مخاطبين أو أناس تتحدث الآية عنهم , فأتت الآية قاعدة عامة , لتتحدثَ عن المكر نفسه , وليس عن الماكرين , بخلاف آيتي يونس والفتح , فهما تتحدثان عن الباغين والناكثين ( يبغون , فمن نَكَثَ ) . وقوله في سورة يونس : ( يبغون .. بغير الحق ) هذا قيد لا مفهوم له , أي ليس هناك بغي بحق , وبغي بغير حق , فالبغي كله بغير حق , وإنما أتى هنا لبيان حقيقة البغي وأنه بغير حق دائماً , ومثل هذا التعبير كثير في القرآن , إذ يأتي القيد لبيان حقيقة الحدث , لا لبيان مفهوم المخالفة فيه , ومثل ذلك قوله تعالى : {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (117) سورة المؤمنون , فقوله : لا برهان له به , قيد لا مفهوم له , لأن جميع من عبد غير الله فهو لا برهان له به , ومثله قوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } (112) سورة آل عمران , فهل هناك قتلٌ للأنبياء بحق ؟ وعليه فكل من بغى أو مكر بعباد الله تعالى وأراد بغيره سوءاً أو ضرراً فليَبشِرْ بوقوعه بشَرِّ أعمالهم من حيث لا يشعر { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (123) سورة الأنعام والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 20/9/1431هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
آخر من قام بالتعديل أبو سليمان الحامد; بتاريخ 30-08-2010 الساعة 04:46 PM. |
31-08-2010, 02:34 PM | #45 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الحادية والعشرون : أتباع الأنبياء ضعفاء : قال الله تعالى : {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } (27) سورة هود . تتحدث الآية الكريمة حول خطاب قوم نوح لنوحٍ – عليه السلام – وانتقادهم لشخصيته وأتباعه , وأن أتباعَه ما هُمْ إلا أراذِلُهم وسفهاء الناس فيهم , كما قالوا في آية أخرى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (111) سورة الشعراء , ولذلك قال نوح لهم : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ } (31) سورة هود , فأخبر أن عيونهم تزدري أتباعه وتحتقرهم , وهذا دَيْدَنُ أَهْل الضلال في كل زمان وآن , وقد قال كفار قريش عن المسلمين : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } (11) سورة الأحقاف , وقد أمر الله تعالى نبيه أن يصبر مع الضعفاء والمساكين , {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف , ونهاه عن طرد الضعفة حين أمره المشركون بذلك : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (52) سورة الأنعام . ولو وسعنا دائرة الأمر لوجدنا أن أهل الضلال والزيغ لا يفتؤون يسخرون من أهل الصلاح والاستقامة وأنهم سطحيون سُذَّجٌ , لا يفكرون أَبْعَدَ من أنوفهم , وكثيراً ما قرأنا هذه الشنشنة من كُتَّابٍ يزعمون المعرفة والثقافة ينعون على أهل الصلاح والاستقامة اتباعهم لعلمائهم , وموافقة نصوص الوحيين , وأن هذا دليل على سطحية تفكيرهم , ومحدودية عقولهم !! ولا شك أن التاريخ يعيد نفسه كثيراً كما قرر ذلك العلامة العظيم ابن خلدون رحمه الله . وقوله في الآية ( أراذلنا ) جمع : أرذل , وهو أفعل تفضيل أضيف لمعرفة فجاز فيه مطابقة المفضل عليه , كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحاسنكم أخلاقاً ) , ولو قال : أرذلنا لصَحَّ لغة كما قال تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } (96) سورة البقرة , وربما جاء الجمع هنا – والله أعلم – لأنهم أرادوا تعميم الذم على كل من اتبع نوحاً عليه السلام , لأن الإفراد لا يعطي قوة الذم كما يعطيه الجمع , كما أن ( أحاسنكم ) في الحديث الشريف تعطي قوة الثناء أكثر من ( أحْسَنِكُم ) . وقوله ( باديَ الرأي ) اختلف المفسرون فيها على عدة أقوال : القول الأول : أنها ظرف زمان , أي أول الأمر , ومعناه : أتبعك الأرذلون أول الأمر ثم لما عرفوا حقيقة دعوتك تركوك . القول الثاني : أنهم اتبعوك في بادئ أمرهم أي ظاهره , وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك . القول الثالث : أن هؤلاء اتبعوك في أول نظر , وبالرأي البادئ , وكما يقال : إياك والرأي الفطير , أي الرأي يظهر دون تروٍّ وتأنِّي . القول الرابع : أن تكون ( باديَ الرأي ) حال من الكاف في ( اتَّبَعَكَ ) العائدة على نوحٍ عليه السلام , أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة ولا عقل لك . القول الخامس : أن تكون منصوبة على النداء : يا باديَ الرأي , والمخاطب به نوح . هذه خمسة أقوال ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ( 6 / 141 ) . ولديَّ قولٌ سادسٌ لم يذكره العلامة أبو حيان , وأرى أنه مقبول لغوياً , وأنسب لبلاغة السياق , وذلك بأن نجعل ( باديَ الرأي ) حال من الفاعل ( أراذلنا ) ويكون المعنى أن هؤلاء الأراذل اتبعوك حال كون رأيهم باديا سطحياً لا يفقهون شيئاً , وجاء توحيد الحال مع أن صاحب الحال جمع لوجهين : الوجه الأول : أن جمع صفة الرذالة مقصود لتأكيد هذه الصفة في الأتباع كما أسلفنا , وتوحيد الحال للدلالة على أن هؤلاء الأرذلين يملكون عقل رجل واحد بادي الرأي , أي سفيهاً , وكأن جَمْعَتَهُمْ لم تنفعهم بارتقاء عقولهم , بل أصبحوا بعددهم كعقلية مُغَفَّلٍ واحد الوجه الثاني : أن أفعل التفضيل : أراذلنا أتى جمعاً والأصل فيه الإفراد , كما تقول : الصحابة أفضلُنا وأعظَمُنا , فجاء الحاء مراعاة للأصل . ومراعاة الأصل في الجمع والإفراد كثير في العربية , بل وفي القرآن الكريم كما قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (112) سورة البقرة , فبدأ بالإفراد وانتهى بالجمع , لأن الأمرين مرادان في سياقهما . وقوله تعالى : {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (33) سورة الزمر فبدأ بالإفراد وانتهى بالجمع لغرض بلاغي مذكور في موضعه . وقال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } (146) سورة آل عمران , فبدأ بالجمع ( ربيون ) وانتهى بالإفراد ( كثير ) لعلة نحوية مذكورة في موضعها . فمن خلال هذا العرض فإني أرى أن المعنى والله أعلم : ما نراك اتبعك إلا الأرذلون الذين عقولهم سطحية كعقل رجل مغفل . والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين . 21 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
01-09-2010, 08:10 PM | #46 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الثانية والعشرون : رحمة الله وعذابه : قال الله تعالى : {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (50) سورة الحجر . قرأت هاتين الآيتين الكريمتين فتأملتُ بينهما فرقاً عجيباً يدل على رحمة الله تعالى بخلقه , وأنَّ رحمتَه ومغفرتَه أعظم من سخطِه وعذابِه . فالآية الأولى بُدئت بفعل الأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالإنباء عن خبرٍ عظيم يستحقُّ التنبه له وإيقاظ الفكر لما بعده , وأن هذا الإنباء موجّهٌ لعبادِ الله الخاضعين لسلطته وقهره بشكل عام , أو لعبادِه الخاضعين لدينه وطاعته , والتعبير بكلمة ( عبادي ) فيها نوعٌ من أنواع العطف على المخاطبين , لأنك ما دمتَ من عباده فهو جل جلاله ربُّك وسَيِّدُك , فلن يظلمك . ينبئهم بماذا ؟ ينبئهم بأمرين : الأمر الأول : ( أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ), وهذه الجملة تتحدثُ عن الله تعالى , وقد بُدِئَتْ بحرف التوحيد ( أنّ ) واسمها الضمير ( الياء ) العائد على الله تعالى , والمؤكد بضمير الفصل ( أنا ) لدلالة الحصر وقوة الخطاب , والغفور الرحيم خبران , وهما اسمان كريمان لله تعالى , وصيغتهما صيغة مبالغة تدلُّ على عظمة المغفرة والرحمة عند الله تعالى . وإن شئتَ جعلتهما صفة مشبهة يدلان على الثبات والدوام . الأمر الثاني : (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ) هذا هو الإنباء الثاني لعباد الله بأن عذابه هو العذاب الأليم الشديد , والتعبير النحوي مطابق للآية التي قبله , ولكن الفرق المعنوي بين الآيتين أن الأولى تتحدث عن الله تعالى , وعن صفتين من صفاته الذاتية جل جلاله , وقد اشتملت على أربعة أسماء كلها تعود على الله تعالى [ الياء في أني , والضمير المنفصل ( أنا ) , والاسم الكريم ( الغفور ) , والاسم الكريم ( الرحيم ) ] , وأما الآية الثانية فهي تتحدث عن عذاب الله وليس عن الله تعالى , وهنا الفرق الكبير , فالله جل وعلا بذاته العليّة يخبر قربه من عباده وأنه غفور رحيم بهم , وأما من استحق العقوبة فله العذاب الأليم . ولعلنا نلحظ أن الآية الثانية ليس فيها ما يعود إلى الله تعالى غير ضمير واحد ( الياء في عذابي ) , وهذا من سعة رحمة الله تعالى ولطفه بعباده , فجاء التهديد والوعيد في الآية الثانية أقل من مرتبة الترغيب في الآية الأولى فلم يقل سبحانه : وأني أنا شديد العقاب لتوازي الآية الثانية , فتأمل معي ذلك يا عبد الله , وقارِنْ هذا أيضا بقوله سبحانه : { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (156) سورة الأعراف , فجعل ( العذابَ خاصاً , وواقعاً تحت المشيئة , وأما الرحمة فهي عامة لكل شيء . ولعل إبراهيم عليه السلام فهم هذا المعنى , وأن باب الرجاء أوسع من باب الخوف , وأن الله تعالى أرحم بعباده , وأن مغفرته ورحمته أقرب إليهم من عذابه وسخطه , فقد قال بعد الآيتين السابقتين في الحِجر {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (56) سورة الحجر , فقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد سياق الآيتين الدالتين على علو الرحمة والمغفرة على العذاب , وقد بُدئ سياق قصة إبراهيم عليه السلام بقوله ( ونبئهم ) وكأن فيه إشارة للانتباه لهذا المعنى اللطيف الدقيق . فسبحان من وسعت رحمته كل شيء , وسبحان من سبقت رحمتُه غضبه , وسبحان اللطيف بعباده . اللهم ارحمنا واغفر لنا وكفر عنا سيئاتنا , وتوفنا مع الأبرار . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين . 22 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
02-09-2010, 07:53 AM | #47 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
[COLOR="Teal"]
الوقفة الثالثة والعشرون : الاستواء على العرش ورحمة الله . قال الله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه . الآية الكريمة تتحدث صفة الاستواء على العرش على وجه يليق بجلال الله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تأويل . وهي إحدى سبع آيات في القرآن جاءت بهذه الصفة العظيمة لله تعالى : 1. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (54) سورة الأعراف . 2. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3) سورة يونس . 3. {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) سورة الرعد . 4. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه . 5. {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (59) سورة الفرقان . 6. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (4) سورة السجدة .[/ COLOR] 7. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (4) سورة الحديد . فهذه سبع مواضع في القرآن جاءت بذكر الاستواء على العرش جمعتُها بقولي : في سَجْدَةِ أعرافِ ثم الرّعْدِ ,,, ويونسٍ فطَهَ فالحديدِ كذا وفرقانٍ بلا خفــاءِ ,,, قد جاءَ فيها ذِكْرُ الاسْتِواءِ والحديث عن الاستواء على العرش تحدَّثَ عنه أهل العقيدة بما فيه الكفاية , ولكني أريد أن أتحدث عن عن آية ( طه ) : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} , وكيف اقترن العرش باسم الرحمن في هذا الموضع وفي آية الفرقان كذلك ؟ كلنا نعلم أن العرش أعظم المخلوقات وأكبرها , واسم الرحمن : اسم كريم من أسماء الله تعالى ,وهو صفة مشبهة جاءت بوزن ( فَعْلان ) وصيغة ( فَعْلان ) تدل على السعة والامتلاء كما يقال : ملآن , ريّان , غضبان .... , والصفة المشبهة تدل غالباً على الثبات والدوام .فدل الاسم الكريم على السعة العظيمة لصفة الرحمة . وسنفهم حينئذ ارتباط اسم الرحمن بالعرش كما في هذه الآية وآية الفرقان , وهذا يدل على أن الذي استوى على العرش قد وسعت رحمتُه كل من تحت العرش من جميع المخلوقات { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } (7) سورة غافر فجاء اسم الرحمن مع العرش هنا مناسباً لفظا ومعنى , ليدل على عظيم رحمة الله بخلقه , وعظيم لطفِه بهم , وقد كنتُ قديماً متأملاً هذا المعنى , ولم أقرأه من قبل , لكني بعد ذلك وجدتُ ابن كثير أشار له في تفسيره , في شرح البسملة , فلله الحمد والمِنة . واسم ( الرحمن ) لا يطلق إلا على الله تعالى , ولا يجوز أن يتسمى به أحد من البشر أو غيرهم , ولما تجرأ مسليمة بني حنيفة وسمى نفسه ( رحمن اليمامة ) وصمه الله بصفة الكذب , فلا تزال ملاصقة له إلى يوم القيامة , فلا يقال : مسيلمة إلا يقال بعدها : الكذاب . انظر تفسير ابن كثير : 1 / 38 عند شرح البسملة من سورة الفاتحة . 23 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
04-09-2010, 06:23 AM | #48 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الرابعة والعشرون : المشي والزحف ورقم أربعة . قال الله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (45) سورة النــور ذكر الله في هذه الآية الكريمة أنواع المخلوقات والدواب , وأصل خلقها , وأنها مخلوقة من ماء , وجاء هذا الماء نكرة , لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوعٍ من الماء مختص بتلك الدابة [ الكشاف : 3 / 246 ] . ثم قسم الله تعالى أنواع الدواب حسب دبيبها على الأرض , وهي ثلاثة أقسام : 1. الزواحف , وهي التي تمشي على بطنها , كالحيات ونحوها . 2. ما يمشي على رجلين كالإنسان والطير . 3. ما يمشي على أربع كالحيوانات البرية المعروفة . ثم بيّنَ سبحانه أنه يخلق ما يشاء , وفي هذا إشارة إلى أنه قد يوجد أنواع أخرى غير هذه , وذلك كالدوابّ التي تمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقارب ونحوها . ونستفيد من هذه الآية ما يلي : 1. أن غير العاقل إذا جاء مع العاقل فإنه يجوز أن يأخذ حكمه , فالتي تمشي على بطنها والتي تمشي على أربع دوابُّ غير عاقلة , ومع ذلك جاء التعبير عنها بما يعقل بشيئين : الأول : ضمير الجمع المذكر في : ( ومنهم ) وضمير الجمع المذكر خاص بالعقلاء , والآخَرُ قوله ( مَنْ ) واسم الموصول هذا خاص بالعقلاء , ولكن لأنَّ هذه الدوابّ جاءت مع الإنسان الذي يمشي على رجلين فقد غلب العاقل غير العاقل , ومثل هذا قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ } (18) سورة الحـج . 2. أن الزحف على البطن قد يسمَّى مشياً , وخاصة إذا كان سريعاً , كما في بعض الزواحف السريعة جداً , فسمى الله زحفها على البطن مشياً ( يمشي على بطنه ) كما قد يسمى المشي زحفاً إذا كان بطيئاً كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} (15) سورة الأنفال , فسمى مسي الجيش زحفاً ؛ لأنهم يمشون بثقل وبُطْء , والله تعالى أعلم . 3. نلحظ هنا أن العدد أربع هو أعلى شيء في أنواع الزواحف , وقد تكرر الحديث عن هذا العدد في سورة النور بأنه الغاية في جنسه في أكثر من موضع , فجعله الله تعالى أقصى أنواع الشهادة في الزنا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النــور , وجعله الله تعالى أعلى شهادة للمتلاعِنين : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (6) سورة النــور . وأيضاً جعله الله تعالى أقصى أنواع الانتظار بين الزوجين في الخصومة : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (226) سورة البقرة , وجعله الله عدة المتوفى عنها : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (234) سورة البقرة , وجعله الله مدة السياحة في الأرض : {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (2) سورة التوبة , وجعل الله الأشهر الحرم أربعة { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم} (36) سورة التوبة , وخلق الأرض في أربعة أيام : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} (10) سورة فصلت . فلا بد أن هناك سراً خلف هذا الرقم كما أن هناك سرا عجيبا خلف الرقم سبعة , ولله الأمر من قبل ومن بعد , وهو تعالى أعلم وأحكم .
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
05-09-2010, 06:11 AM | #49 |
كاتبة مميزة
تاريخ التسجيل: Apr 2010
البلد: أتدثر في الرياض
المشاركات: 398
|
,,,
__________________
×~~ ẫĽksẫndrẫ …oO •• |
05-09-2010, 06:59 AM | #50 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
بارك الله فيك أختي ألكساندرا
فقد أسعدتِني بإطلالتك قبل تعليقك ظنا مني أن الموضوع لا يقرؤه إلا كاتبه لعزوف الأعضاء عنه , ولهاثهم حول المثير من الأخبار . جزاكِ الله خيراً , وتقبل دعاءكِ وجعلَ لكِ مثله غير منقوص .
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
05-09-2010, 07:04 AM | #51 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الخامسة والعشرون : القرآن كلام الله غير مخلوق . قال الله تعالى : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (88) سورة القصص . تتحدث الآية الكريمة عن توحيد الله تعالى وألوهيته , وأنه هو الآخر الباقي جل جلاله , فبدئت بالنهي ( ولا تدعُ ) , والمخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم , وهو خطاب خاص يراد به العموم , فهو لجميع العالمين لقوله تعالى : " واعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً " , ثم جاء إثبات الألوهية الخالصة لله تعالى وحده بكلمة التوحيد (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) . ثم جاء موضع الاستشهاد وهو قوله : " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " , فهذه الجملة العظيمة تفيد أن كل شيءٍ هالكٌ , ومآلُه إلى الفناء إلا الله وحده جل جلاله فهو الباقي , وهو الحي القيوم كما قال تعالى : {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) سورة آل عمران, فقوله : وجهَه , أي ذاته , أي يبقى هو جل جلاله , وجاء التعبير بالوجه والمراد الذات , كما قال تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ , وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سورة الرحمن . وقال بعض المفسرين : إن المراد : ويبقى ما أريد به وجْهُه , وهو العمل الصالح .[ تفسير البغوي : 3 / 459 , تفسير ابن كثير : 3/531 ] والذي يظهر لي أن القول الأول أولى لمناسبة السياق , ولوجود ما يدل عليه وهو آية الرحمن السابقة . أما السياق فلأن الآية تتحدث عن التوحيد , وإخلاص الله بالعبادة , ولا يستحق هذا الأمر إلا من كان حيا لا يموت سبحانه , ولذا ارتبطت كلمة التوحيد بحياة الله تعالى وقيوميته اللائقة بجلاله وعظمته في أكثر من آية كما في آية الكرسي : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ } (255) سورة البقرة , فبعد التوحيد جاء ( الحي القيوم ) , وقوله تعالى {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (65) سورة غافر . فربطَ بينَ الحياة وبين إخلاص الله للعبادة . قد يقول قائل : ما علاقة هذه الآية بعنوان الوقفة , وهي : أن القرآن غير مخلوق ؟ فالجواب : أن هذه الآية أعطتنا عقيدة ثابتة لا تتزحزح , وهي أن الله تعالى لا يموت , وكل شيء ما سوى الله فهو هالكٌ لا محالة , وهناك آية أخرى أعطتنا عقيدة أخرى تفيد أن القرآن لا يمكن أن يهلك , بل تكفل الله بحفظه : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر , فالله تعالى أخبر أنه حافظٌ كتابه , وهو الذِّكْر , وجاء التعبير بقوله : لحافظون , وهو اسم فاعل دخلت عليه لام التوكيد , واسم الفاعل يدل على الثبات وعدم التغير , ولا سيما أن الجملة مبدوءة بحرف التوكيد ( إنّ ) وقد كررت مرتين في الآية , ودخلت اللام على خبر الثانية , ولم تدخل على خبر الأولى , لأن خبر الثانية وهو ( لحافظون ) قد يدخله الشك في بقائه , فجاء القطع بأنه محفوظ وباقٍٍ إلى ما لا نهاية . وإذا كان القرآن باقياً غير قابلٍ للهلاك , فهو صفة من صفات الله تعالى , لأن كل شيء سيهلك إلا الله تعالى . فدل على الربط بين الآيتين على أن القرآن منزلٌ غير مخلوق خلافا لما تقوله بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة والإباضية .. نسأل الله تعالى الفقه في دينه , وأن يعلمنا ما ينفعنا , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
آخر من قام بالتعديل أبو سليمان الحامد; بتاريخ 05-09-2010 الساعة 07:19 AM. |
05-09-2010, 06:40 PM | #52 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة السادسة والعشرون : الامتياز ليس جيداً دائما . اعتدنا في حياتنا على أن كلمة امتياز , ومُمَيّز , وامتاز ونحوها أنها كلمات ذات دلالة إيجابية , يسعدُ المرء إذا أطلقِتْ عليه , ولكن في النص القرآني جاء الامتياز في الجانب السلبي كما قال تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (59) سورة يــس . فقوله ( امتازوا ) فعل أمر من الفعل : امتاز , يمتاز , ومصدره : امتيازاً . والمعنى : تميزوا أيها المجرمون عن الصالحين , وكونوا على حِدة وجانب . فالامتياز هنا معناه : ظهور الباطل على حقيقته , وابتعاده عن الخير , فيتميز الخبيثُ من الطيب كما قال تعالى : {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (37) سورة الأنفال , وقال تعالى : {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآأَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (179) سورة آل عمران . فأفادت الآيتان على أن الله تعالى يُميِّزُ الخبيثَ , ويُظهر عُوارَه وسوءَه , ويتبينُ به أن الحق أعلى منه , وأطهر وأطيب . فالمميَّزُ هنا هو الخبيث والمجرِم , وليس الطيب والصالح . فهل يعيد النص القرآني العظيم قراءة التقويم لدينا حين نعطي الناجح والمتفوق لقب المتميز ؟ إذ إن مفهوم النص القرآني يقول العكس , وهو أن الامتياز والتميز يعطَى للمخذول , ومَنْ كان على الجانب السلبي . وقد جاء في الحديث الشريف : " من أنفقَ على أهله أو على نفسِه أو عاد مريضاً أو مازَ أذىً , فالحسنةُ بعشر أمثالها " أخرجه أحمد في مسنده , والخطابي في غريب الحديث ( 3 / 127 ) , فقوله : ( مازَ أذىً ) أي فصل الأذى وأبَعَدَه عن الطريق . وقوله تعالى : ( وامتازوا اليوم ) كلمة ( اليوم ) فيها دلالة عظيمة على أن المجرمين قد يخالطون الصالحين في الدنيا , ولا يتبينُ الحق من الباطل , ولكن في يوم القيامة يظهر التميُّز لأهل الباطل والإجرام , وينكشفون عن المؤمنين الصادقين . على أن كلمة الامتياز للأمر الإيجابي ليست خطأً , ولا أزعم ذلك , بل قد تكون صواباً نظراً لمعناه اللغوي ؛ إذ أصل الميز : الفصل بين الشيئين , فإذا اعتبرنا المتفوِّقَ قد انفصل عن المتكاسِل , وابتعد بنجاحاته عنه , فقد تمَيّزَ عليه . وكما قال المتنبي : وبضدها تتبيّنُ الأشياءُ وإنما قصدتُ هنا أن أبيِّنَ الاستعمال القرآني للكلمة , وأنه ولا شك أفصح وأكمل وأعلى . والله تعالى أعلم . 26 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
06-09-2010, 02:20 AM | #53 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Aug 2010
البلد: شواص؟!!!
المشاركات: 1
|
...
لديّ تأمّل في الوقفة 26: أن الامتياز غير التميّز من باب أنّ: الامتياز لا يحتمل غير أنه الجودة في قمّتها، كالآية المذكورة: "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" والتميّز يحتمل أمران: 1ـ أنه بمعنى الفرق بإيجاد التباين بين شيء وآخر، في مثل قوله تعالى: " ليمِيز الله الخبيث من الطيب"، أو أن نقول مثلاً: ميّز بين هذا وذاك _ بمعنى أوجد الفرق_ 2ـ أو أنه في معنى الامتياز المذكور. ومن المُحال أن يكون معنى الآية: "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" أجدتم ما عملتم فتألّقوا بمصيركم على سبيل التقرير، بل هي بقصد السخرية التي ظهرت في القرآن كثيراً حين توجيه الخطاب من الحق تبارك وتعالى إلى أهل النار، ومثاله قوله تعالى: "ذُق إنّك أنتَ العزيز الكريم" وقولنا أنه امتياز سلبي، أوقولنا: أن القصد ليس الامتياز الحقيقي وإنما السخرية بالمجرمين مجتمعة غير متعارضة. والله أعلم. هذا ما أردت أن أتابع به تأمّلاتكم الشيّقة والتي تزيّنت بسهولة تناولكم إيّاها، وهذا ليس بجديد على أطروحاتكم فبارك الله وقفاتكم .. |
06-09-2010, 07:14 PM | #54 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
شكرا أختي دع ما هويت على تعليقك الجميل , وإن كنتُ لا أفهم وجود السخرية في الآية , لأن السياق لا يدل عليه في نظري , بخلاف آية الدخان .
أحترم وجهة نظرك , ولو كان في الوقت متسع لأطلت الحوار معك حول هذا الجانب . لكِ شكري وتقديري .
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
06-09-2010, 07:19 PM | #55 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة السابعة والعشرون : الانتصار للذات والعفو . قال الله تعالى : {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} (41) سورة الشورى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} (42) سورة الشورى {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (43) سورة الشورى . تتحدث الآيات الكريمة عن الانتصار للنفس مِمَّنْ ظَلَمَها , وأنه يسوغ للإنسان أن يأخذ حقَّه ممن اعتدى عليه ؛ لأن الله تعالى لا يحب الظالمين , ولكن العفو أجمل وأعظم , والصبر أكْمَلُ وأعْزَم . والمعنى العام للآيات واضح لا إشكال فيه , وإنما سأتكلم عن فقرتين من هذه الآيات الكريمة : الأولى : قوله : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) : فالسيئة الأولى هي الاعتداء , وهي سيئة قولاً وفعلاً , وأما السيئة الثانية فهي أخذ الحق ورد الظلم , فكيف تكون سيئة ؟ للمفسرين عدة أقوال : 1. أنها من باب المشاكلة اللفظية كما قال تعالى : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ } (79) سورة التوبة [ أضواء البيان للشنقيطي : 3 / 389 ] . 2. لتشابههما في الصورة , لأن السوء إنما يجازى بمثله ؛ لأنه إذا قال : أخزاك الله , ورد عليه بمثله , فقد تشابَهَت الصورتان . [ معاني القرآن للزجاج : 4 / 401 , تفسير البغوي : 4/78 ] . 3. سميت الثانية سيئة لأنها تسوء مَنْ تنزلُ به , وتُكَدِّرُ صفوَه [ الكشاف : 4 / 229 ] . 4. أنها سيئة في مقابل العفو المذكور بعدها , فهي إذا قُورِنَت بالعفو والصلح كانت سيئة , قاله أبو سليمان عفا الله عنه . ومثل هذه الآية بهذه الأقوال قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (194) سورة البقرة , وقوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (126) سورة النحل , وقوله تعالى : {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (60) سورة الحـج . الثانية : قوله : " {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . تتحدث هذه الآية عن الصبر على الظلم , والعفو عن الظالم , فهي لا تكتفي بالصبر , بل تزيد عليه الغفران والمسامحة , وأي إنسان يستطيع ذلك ؟ إنه لا يقدر ذلك إلا من أوتي عزماً وقوةً وحظاً عظيماً كما قال تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (35) سورة فصلت . فمدافعة الظلم بالتي هي أحسن , والصبر على الظالم , وغفران ذنبه ومسامحته خلق عظيم حث عليه كتاب الله تعالى , وأخبر أن ذلك مِنْ عزمِ الأمور , وقوة النفس وشدتها , كما قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصُّرَعة , إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " متفق عليه . وأي أجر للصابرين العافين عن الناس أعظم من تكفل الله تعالى بأجره وثوابه " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ؟ وقد جعل الله تعالى هذه الخصلة من صفات عباد الله المتقين الذين يستحقون جنةً عرضها السماء والأرض : {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133) {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران . أعود لآية الشورى مرة أخرى , وأقارنها بآية أخرى في سياق متقارب غير متماثل , وذلك في سورة لقمان , حيث يقول لقمان لابنه : {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان , فقال هنا : " وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ " , وفي الشورى قال : " إن ذلك لَمِنْ عزم الأمور " فزاد لام التوكيد على خبر إنَّ , ولم يذكرها في آية لقمان , فلماذا ؟ الجواب والله أعلم : من وجهين : الوجه الأول : أن آية الشورى تتحدث عن ظلمٍ واقع على الإنسان , واعتداءٍ عليه , وأن له الحق في الانتصار لنفسه , وأخذ حقه , ولكن من يصفح ويغفر – وما أشد ذلك على النفس في مثل هذه المواطن – فإن ذلك لمن عزم الأمور , فجاءت اللام لتوكيد الخبر , بناء على قوة الحدث وهو الصبر بعد الإساءة . الوجه الثاني : أن آية الشورى فيها المسامحة والغفران زيادة على الصبر , فجاءت اللام لتقوية الخبر , نظراً لقوة الاسم . أما في آية لقمان فليس فيها إلا " واصبر على ما أصابك " وقد يصيبه الشيء اليسير الخفيف على النفس الذي تستطيع مواجهته بالصبر , ولم يذكر معه الغَفْر والصفح . والله تعالى أعلم 27 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
07-09-2010, 07:03 PM | #56 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
الوقفة الثامنة والعشرون : احترام العدو . قال الله تعالى : {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (16) سورة الفتح . تتحدث هذه الآية الكريمة عن خطاب النبي للأعراب الذين يزعمون أنهم يريدون المشاركة في الحرب والجهاد بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد , فلينظر الله منهم ماذا يصنعون ؟ ولن أتحدث عن تفسير الآية وسبب نزولها , فمرد ذلك كتب التفسير , ولكن لفت انتباهي جملة عظيمة في هذه الآية تغيب عن أذهان كثير من الناس , وتُنتِجُ في أدبياتنا السلفية أقوالاً مضادةً لما دلت عليه هذه الآية . وذلك قوله تعالى : " إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ " فوصَفَ الله العدو بأنهم قوم ذوو بأسٍ وشِدَّة وقُوّة , وهذا يدل على احترام العدو , وإبراز ما يتميز به , وعدم الاستهانة به , ويدل على ضرورة الإعداد لموجهته بكل سبيل , ليتوافق هذا الإنذار بالأمر بالإعداد الذي دلت عليه آية الأنفال : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (60) سورة الأنفال . فلم يأمرنا الله تعالى بالإعداد إلا لأن العدو يستحق ذلك , لما يمتلك من قوة وبأس , وسواء أكان القوم المذكورون في آية الفتح هم الفرس أو الروم أو المرتدين ( كما هو اختلاف المفسرين في ذلك ) , فإن إنصاف العدو وإبراز قوته واضح الدلالة من الآية . أقرأ هذه الآية بتمعن وأنا أشاهد وأقرأ وأسمع كلامَ أُغَيْلِمَةٍ من المسلمين يستهينون بقوة العدو , وأن أمريكا – مثلاً – أضعف من الصومال , وأن أوروبا منهارة اقتصادياً وعسكرياً , فأتعجب من هذا التفكير الأعوج الذي لا يعطي للعدو قيمته , ولا ينهج المنهج القرآني من الإنصاف حتى مع الأعداء . ولو عدنا للآية الكريمة لوجدنا أن الله تعالى وصفهم بوصف واحد وهو أنهم ( أولي بأس ) والبأس هي القوة والحرب والعتاد , ثم وصف هذا البأس بوصف قوي جداً , وهو كلمة ( شديد ) , فأيُّ احترام للعدو , وإبراز قوته أشد من هذا الوصف ؟؟ والله تعالى أعلم . 28 / 9 / 1431 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ [ محمود سامي البارودي ]
|
الإشارات المرجعية |
|
|