بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » حـصـاد الإنـتـرنـت » المنطق الاسلامي ..

حـصـاد الإنـتـرنـت حصاد شبكة الإنترنت و المواضيع المنقولة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 19-06-2014, 08:22 AM   #1
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
المنطق الاسلامي ..

- تعريف العلم:
ما هو المنطق؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الذي كثرت الإجابات عليه، لا بد ان نعرف ان طبيعة أي علم تحددها الغاية منه، قبل ان يحددها موضوعه، فكلما كانت الغاية مختلفة بين دراسة وأخرى وبحث وآخر، فإن كل دراسة تتم بعلم خاص، حتى وإن كان الموضوع واحدا ما دامت الغاية مختلفة.
فعلم النحو يشترك مع علم الصرف وعلم متن اللغة وعلم البلاغة و. و. و. في الموضوع، إذ الكلمة العربية هي موضوع كل هذه العلوم، الا ان كل علم يختلف عن غيره في الغاية المتوخاة منه.
وغاية العلم والهدف المتوخى منه لا يفرق فقط بين العلم والآخر، وانما يجمع أيضا بين موضوعات شتى كلها تخدم تلك الغاية.
فإذا سألنا أنفسنا: ما هي الرابطة بين الحديث عن المسند والمسند إليه وبين الحديث عن النواسخ (كان وأخواتها، وان وأخواتها) في علم النحو؟ لأجبنا على الفور ان الرابطة هي ان البحث في كلا الموضوعين يحقق هدفا واحدا، هو معرفة إعراب آخر الكلمة.
ولذلك فإن البحثين كلاهما يدخلان في علم واحد، هو علم النحو.
من هنا علينا قبل كل شيء ان نعرف الغاية، التي نتوخاها من أي علم قبل ان نخوض في مسألة تعريفه، إذ ان ذلك سوف يحدد بشكل قاطع علاقة هذا العلم بسائر العلوم، وعلاقة موضوعاته بعضها مع بعض.
وفي علم المنطق، لا بد ان تختلف التعريفات انطلاقا من اختلاف العلماء في مسألة تحديد الغاية من هذا العلم.
ولأننا تحدثنا في الفصل الماضي عن ان الغاية من المنطق هي تجنب الخطأ.. فإننا نسمح لأنفسنا بالقول (ان المنطق هو علم تجنب الخطأ) أو هو علم البحث عن الصواب، أو علم البحث، أو البحث في البحث، أو البحث في وسيلة العلم، أو أي تعبير آخر يعطينا نفس هذا المفهوم.
وهذا يعني ان الصلة بين الموضوعات التي يتحدث عنها المنطق هي صلة الاشتراك في تحقيق هذه الغاية، وهي التخلص من الخطأ.
فإبتداءا من معرفة الأخطاء الناشئة من التأثيرات النفسية على الفكر، والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والبيولوجية..
ومرورا بمعرفة الأخطاء الناشئة من (طبيعة المنهج) الخاطئ وطرق البحث غير السليمة..
وإنتهاءا بمعرفة الأخطاء الآتية من صور الفكر والفجوات الناشئة بينها…
كل تلك الأمور تدخل في رأينا ضمن اختصاصات المنطق، إذ ان هذه الموضوعات المتفرقة تشترك في البحث عن البحث، وتساهم في كيفية تجنب الأخطاء.
بهذا المفهوم الشامل للمنطق، يندمج علم المناهج بالمنطق، إذ ان هذا العلم جانب من جوانب السعي وراء الصواب وتجنب الأخطاء .
وهذا التعريف في المنطق يشمل، بعد تهذيب وتعديل، كثيرا من التعريفات الأخرى التي نسردها فيما يلي بإيجاز:
1- تعريف أرسطو:
قال أرسطو عن المنطق بأنه آلة العلم وموضوعه الحقيقي هو العلم نفسه أو صورة العلم . وابن سينا أحد شراح أرسطو المسلمين لم يتجاوز هذا التعريف حيث قال: (المنطق هو الصناعة النظرية التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح الذي يسمى برهانا) .
وقال الساوي، انه (قانون صناعي عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته..) .
أما القديس توما الأكويني، أحد تابعي ارسطو المسيحيين فقد قال عن المنطق: (انه الفن الذي يقودنا بنظام وسهولة وبدون خطأ في عمليات العقل الاستدلالية) .
نقد التعريف:
ترى ان هذا التعريف الأرسطي ناشئ من فلسفة أرسطو العامة، التي تفترض ان العلم ينشأ من التصور. لذلك فإن المنطق هو معرفة الصور التي تؤدي إلى التصور. وبالتالي يغفل التعريف دور المنطق التجريبي، لأنه يعرف بالأساس منطق أرسطو الشكلي فقط دون سائر أنواع المنطق.
ولكن التعريف لا يغفل بيان الغاية من المنطق، وإدخاله في التعريف، وهي التجنب من الخطأ، بل لا يغفل التعريف في بعض عباراته ذكر الوسيلة التي تحقق هذه الغاية وهي تنظيم الاستدلال.
2- تعريف مناطقة بورت رويال:
بالرغم من ان مناطقة بورت رويال يعتبرون من المحدثين، الا ان تعريفهم للمنطق لم يبعد عن حدود تعريف الأكويني السابق حيث قالوا، بأنه هو الفن الذي يقود الفكر أحسن قيادة في معرفة الأشياء سواء أراد ان يتعلمها هو بنفسه، أو ان يعلمها للآخرين.
وهناك تعريف آخر للمنطق هو انه العلم الذي يبحث في النواحي العامة للفكر الصحيح، وموضوعه هو بحث مميزات الحكم، لا كظواهر نفسيه ولكن كتعبير عن معارفنا، ويبحث على الخصوص في تحقيق الشروط التي نستطيع بواسطتها الانتقال من أحكام معينة إلى أحكام أخرى تنتج عن تلك الأحكام الأولى .
وتعريف رابييه بأنه علم العمليات التي بواسطتها يتكون العلم، ويقول: (المنطق هو اتفاق شروط العقل مع ذاته واتفاق العقل مع الأشياء) .
هذه التعريفات، هي الأخرى تستمد من التعريف الصوري أصولها حيث إنها:
أ- تهتم بصور الفكر وأشكال الاستدلال، دون ان تهتم بما خلف الصور والأشكال من حقائق. فتناقضات المادة وأسباب الخطأ، النفسية والاجتماعية وغيرهما، لا تهم هذا النوع من المنطق.
ب- نهتم بالشروط التي ينبغي توفرها في الفكر والتي يبحث عنها المنطق الشكلي، وهي: الشروط المجردة والصورية، والتي هي مرتبطة بأنواع القياس.
فالتعريف إذا هو تعريف نوع واحد من المنطق، هو المنطق الصوري.
3- تعريف ديوي:
وتعريف ديوي للمنطق يمثل وجهة نظر مفكر براجماتي، وهو تعريف فضفاض الا انه قد يتلخص فيما يلي:
ان الصور المنطقية (تنشأ) أصلا خلال إجراءات البحث؛ ولو وضعنا هذا القول في عبارة مألوفة قلنا ان معنى فكرتنا هو أنه إذا كان البحث في البحث يؤدي بنا إلى معرفة الصور المنطقية، فإن البحث الأول نفسه هو مجال (نشأة) تلك الصور التي يجيء البحث في البحث بعدئذ فيكشف عنها الغطاء .
بتعبير آخر، ان طرائق التفكير تنشأ في بداية أمرها حين يتعرض الإنسان فعلا لمشكلات حقيقية يريد حلها فيحاول (استخدام) هذه الوسيلة أو تلك حتى تنحل المشكلة القائمة، فإذا جاء مفكر آخر بعد ذلك وركز فكره على تلك الطرائق ليفهمها كان بمثابة من يبحث في طرائق البحث الأولية ليلقي عليها الضوء ويجعلها موضوع معرفة، أو بعبارة أخرى الصور المنطقية تنشأ في مجال العمل ثم يسلط عليها الضوء فتعرف .
وبعد أن نعرف تلك الطرائق نسميها بالمنطق. وعلى ذلك فكل طريق للبحث، هو منطق بحد ذاته، ومنهاج البحث لا يختلف عن المنطق في شيء.
وان هناك بحوثا متعددة في تنوعها شاملة في مداها قائمة بيننا بالفعل ولكل من شاء أن يضعها موضع الفحص. فالبحث لأي علم من العلوم هو منه بمثابة دم الحياة، ما دام كل شيء وكل صناعة وكل فكرة يخضع لما يقتضيه البحث، واختصارا فإن الفرض الذي أتقدم به إنما يمثل ما هو قائم بالفعل (في شتى العلوم) فلا عبرة بعد ذلك بالريبة التي قد يحاط بها عند تطبيقه على مجال المنطق .
وهذا التعريف يشمل ما يلي:
1- انه يغفل متعمدا ذكر طرق الاستدلال الثابتة، التي يكشف عنها المنطق في تعريف أرسطو، إذ ان ديوي لا يعترف بطرق معينة سلفا للاستدلال والبحث، بل يعتقد ان هناك طرقا لا تحصى للاستدلال، وقيمة كل طريق تظهر بالنهاية عند الوصول إلى النتيجة.
2- انه يدمج مناهج البحث بالمنطق، بالأحرى يدمج المنطق بمناهج البحث، ويزعم ان مناهج البحث هي المطلوبة أساسا، وإذا كانت هناك طرق عامة ومبادئ شاملة نسميها بالمنطق، فإنها تابعة لمناهج البحث لا أكثر إذ تهمه النتيجة أكثر من المقدمات، والهدف من البحث هو الوصول إلى الحقيقة حتى إذا كان من طرق غير ثابتة الصحة سلفا.
نقد التعريف:
ان أهم بند في تعريف المنطق هو غايته وهو التجنب من الخطأ، وهو بند مغفول في التعريف السابق بينما هو في الواقع غاية علم المنطق. ثم ان انكار البديهيات العقلية، ذلك الانكار الذي يعتمد عليه مبدأ براجماتزم، غير صحيح بالرغم من ان المزيد من الاعتماد على البديهيات والإيمان بها إيمانا مطلقا وبعيدا عن الواقع هو الآخر غير صحيح، وعلى أي حال فإن هذه البديهيات بحاجة إلى أن ننظم علاقتها بين بعضها البعض، وبينها وبين الواقع الخارجي، وجزء هام من المنطق يوفي بهذه الحاجة وهو القسم الصوري منه وإغفال هذه الحاجة ومن ثم إغفال هذا الجانب من المنطق هو إغفال غير صحيح، كما فعل ديوي.
علم المناهج:
كلمة المنهج مترجمة من كلمة (Methode) وهي مشتقة من كلمة تعني في اللغة اللاتينية، البحث أو المعرفة.
وتعني اليوم، طائفة من القواعد والأصول التي تهدف تعبيد طريق الباحث عن الحقيقة. وتفترق المناهج عن المنطق، لدى من يفرق بينهما، حيث المناهج تعني الجانب العملي منها. وعليه فإن المناهج هي مجال تطبيق نظرية البحث في المنطق.
وكل فرضية أو نظرية في المنطق، توصي بمناهج تكون منسجمة معها، ولذلك كانت هناك مناهج للاستدلال يوصي بها صاحب المنطق الصوري، وأخرى يوصي بها صاحب المنطق العلمي.
ولكن هل المناهج هي هي في كل العلوم ولكل الناس؟
بالطبع لا… فما دام المنهج هو السبيل إلى معرفة الحقيقة، وما دامت الحقائق مختلفة والذين يسعون لكشفها مختلفون فإن المناهج تختلف من باحث لآخر.
إذ إنها آتية من داخل البحث، فكل بحث يوصي بمناهج تخصه بالرغم من انه يشترك مع سائر البحوث في المناهج العامة، وهي التي تذكر في علم المناهج.
يقول كلود برنارد: (ولا بد للمجرب ان تختلف عمليات البرهان لديه إلى غير نهاية، وفقا للعلوم المختلفة. ان روح صاحب التاريخ الطبيعي ليست هي بعينها روح صاحب علم وظائف الأعضاء، وروح الكيميائي ليست روح الفيزيائي، والتعاليم النافعة هي وحدها الصادرة عن التفاصيل الخاصة بالممارسة التجريبية في علم معين بالذات) .
وبما أننا عرفنا المنطق بأنه علم تجنب الأخطاء، وبما ان المناهج وسيلة لتجنب الخطأ، فإن المناهج عندنا جزء من المنطق، وبهذه الرؤية سوف نعالج المناهج في فصول الكتاب.
العلاقة بين الفلسفة والمنطق:
ما هي بداية مسيرة الفكر البشري؟ هل هي الفلسفة أم المنطق؟..
الواقع ان الفلسفة هي مجموعة بحوث فكرية، تستهل بالبحث عن المعرفة، مصادرها وقيمتها… وهذا البحث هو أيضا مستهل البحوث المنطقية.. فلولا معرفة مصدر المعرفة الصحيحة وقيمتها، لما استطاع الإنسان أن يخطو أية خطوة لا في حقل الفلسفة ولا في حقل المنطق.
وسواء أدرجنا هذا البحث (البحث عن المعرفة) في الفلسفة أو المنطق، فإنه بداية مسيرة الفكر البشري، أما غيره من بحوث الفلسفة فهي تأتي بعد بحوث المنطق.. إذ انها تستهدف عصمة الإنسان من الخطأ.. في كل البحوث، والبحوث الفلسفية منها بالطبع.
وجون ديوي، يرى ان علاقة المنطق بالفلسفة، كما علاقة المنطق بالبحث ذاته، هي علاقة جدلية فكل تغيير في أحدهما ينعكس على الآخر ويقول:
(وعلى أية حال، فالمنطق من حيث الأصول الأولية لمادته، فرع مشتق من المذهب الفلسفي بحيث تجيء وجهات النظر المختلفة إلى موضوع دراسته معبرة في النهاية عن فلسفات مختلفة. ثم تعود النتائج التي ينتهي إليها المنطق فتتخذ أداة لتأييد الفلسفات التي ما كانت تلك النتائج الا نتائجها. وما يطرأ على الذهن هو ان ذلك يؤدي إلى التنقص من شأن المنطق بجعله عاجزا عن ان يكون مستقلا بذاته، ففي ظاهر الأمر قد يبدو من غير الملائم للنظرية المنطقية ان تتشكل تبعا للمذهب الفلسفي واقعيا أو مثاليا.. عقليا أو تجريبيا.. ثنائيا أو واحديا.. ذريا أو كليا.. عضويا في منحاه الميتافيزيقي).
ومع ذلك، فحتى لا يفصح المؤلفون في المنطق عن ميولهم السابقة في اتجاهاتهم الفلسفية فالتحليل يكشف عن الرابطة (بين تلك الميول وما يذهبون إليه من نظرية منطقية…) .
ثم يكمل ديوي نظريته عن جدلية العلاقة بين المنطق والبحث ذاته، فيقول:
(ان الصور المنطقية "تنشأ" أصلا خلال إجراءات البحث) .
والواقع ان عملية البحث تفيدنا وضوحا في الرؤية باعتبارها التصاقا بالواقع وممارسة حية له.. الا ان الرؤية الحقيقية لا تأتي مباشرة من الواقع انما من العقل، إذ العقل هو الذي يضع القواعد لمعرفة الواقع والمنطق هو من العقل فهو الذي يعطينا الرؤية.. ولكن لا مجردة عن الواقع بل ملتصقة به.
وبذلك نعرف ان المنطق والبحث يكتملان، لأن المنطق يعطينا الرؤية والبحث يبلورها.
وكذلك الفلسفة هي بحوث عقلية، وواقعية في ذات اللحظة. إذ أن أي خطوة نخطوها في حقل الفلسفة نعتمد فيها على عكازتين، على عقل هاد، وعلى توجيه هذا العقل على الواقع، وبالتالي على بصيرة، وبصر لا غنى لأحدهما عن الآخر. ومن هنا فإن الفلسفة ملتصقة بالمنطق، كما ان المنطق محتاج إلى الفلسفة.
فصول الكتاب ومنهجه العام
وفصول الكتاب تتوالى كما يلي:
1- تطور الفكر المنطقي
حيث يعالج فيه ثلاثة مواضيع رئيسية هي:
أ- دور نشوء المنطق القديم وتكامله ثم انحطاطه.
ب- المنطق الحديث؛ نشأته وتكامله ومذاهبه الحالية. وحاولنا في هذا الفصل إبعاد المنطق عن الفلسفة، قدر الإمكان بالرغم من ارتباطهما العضوي.
ثم حاولنا التبسيط قدر الإمكان بلغة مفهومة نسبيا. وأخيرا ألقينا نظرات فاحصة، على كل نوع من أنواع المنطق، كما أبدينا ملاحظاتنا عليها.
ج- وفي نهاية هذا الفصل ألقينا نظرة على المنطق الحديث وعما هي الأسئلة التي يعالجها، والاتجاهات المختلفة والتي تعالج تلك الأسئلة. وأخيرا الصيغة التي انتهى إليها هذا المنطق.
2- أصول المنطق الإسلامي:
حيث يكمن أهم فصول الكتاب بالرغم من صفحاته المعدودة..
والسبب ان الكتاب وضع لبيان المنطق الاسلامي، قواعده ومناهجه، وكل ما في الكتاب من بحوث منطقية، هي بمثابة تمهيد لمعرفة المنطق الإسلامي.
لكن لماذا أوجزنا الحديث حول هذا المنطق في هذا الفصل؟
الواقع، ان طريقة معالجتنا لسائر بحوث المنطق إنما كانت ببيان رؤية الإسلام فيها، وذكر نصوص من القرآن ومن السنة مرتبطة بها.
وهذه كفيلة بتوضيح المنطق الإسلامي في كل بحوث الكتاب، وإنما وضع هذا الفصل لوضع قواعد المنطق الإسلامي وبيان خلفياته.
3- كيف نتجنب الخطأ:
لأن جزءا كبيرا من مشكلة المنطق هي مشكلة نفسية، آتية من عقد نفسية، أو ضغوط اجتماعية أو تربوية، أو حتى ضغوط آتية من تركيب الجهاز العصبي، وبالتالي من العوامل المادية المؤثرة فيه..
لذلك خصصنا فصلا من الكتاب حول هذا الموضوع بالذات.
نبحث في هذا الفصل عن تداخل المشكلة الفلسفية بالمشاكل النفسية المؤثرة، ونبحث عن الغرائز: ما هي وهل هي متعددة أو واحدة؟ وعن الجذور النفسية للخطأ وامتداداتها، وعن وراثة الأفكار من الآباء ومعالجة مدى حرية الإنسان في رفض الأفكار الموروثة.
ثم بحثنا شيئا عن حب التوافق المتجذر في الإنسان، والذي يشكل خلفية المنطق الاجتماعي، الذي آمن به طائفة من المفكرين.
ثم بحثنا شيئا عن الأخلاق الذميمة، ومدى تأثيرها على البحث العلمي.
4- كيف نختار المنهج السليم:
يعتبر هذا القسم تمهيدا للفصول القادمة، وهو الحديث عن الأخطاء الآتية من منهج التفكير. فاختيار المنهج الخاطئ، أو المنهج الناقص، يؤثر بصورة حاسمة على نتائج البحث، ويقضي عليها سلفا بالفشل.
وفي مبتدأ الفصل، عالجنا جذور الاختيار للمنهج والضغوط النفسية التي تكمن وراء عملية الإختيار، بينما في نهاية الفصل بينا جانبا من تطبيقات الاختيار السيء، وهو اختيار المنهج الخاطئ أو الناقص.
5- مناهج الاستقراء:
وقد تحدثنا عن هذا الفصل بإسهاب، مما جعله اكبر فصول الكتاب حجما، ففي المقدمة تحدثنا عن طبيعة المنهج، ثم تعريف الاستقراء، ثم قواعد الاستقراء، من الملاحظة، والتجربة، والفرض، والنظرية، وطرق التجربة، وفكرة السبب، وطبيعة القانون.
6- مناهج العلوم الإنسانية:
في هذا القسم عالجنا تطبيقات المنطق الاستقرائي في علم الاجتماع، وعلم التاريخ، وقد استوعب البحث مجالا واسعا في هذين العلمين، وبينا فيه نظرات عديدة للإسلام في مختلف أقسام هذين العلمين الهامين.
7- مناهج القياس:
وقع هذا الفصل آخر الكتاب لأهميته المحدودة في مجال التطبيق، ويتناول المنطق القياسي؛ المنطق الشكلي الأرسطي، مع اضافات العلم الحديث، كما يتناول جوانب من المنطق الرمزي حيث ينتهي الكتاب بعون الله.

منهج الكتاب
على ضوء النقاط التالية حددنا منهج الكتاب:
1- ضرورة شمول المنطق واحتوائه على كافة أنواعه ومناهجه، ليضع عند القارئ عقلية نافذة تتجاوز التقسيمات المصطنعة، وتصل إلى روح المنهج السليم للتفكير وللبحث، وقد يقع الشمول عندنا على حساب الوضوح والشرح، وهذا أمر وقعنا فيه أحيانا بالرغم من محاولاتنا الجادة لتجنبه.
2- ضرورة تطعيم البحوث المنطقية الحديثة برؤى إسلامية أصيلة، إيمانا منا بأن هذه العملية تغني الفكر المنطقي الحديث، بمعاني جديدة ونافعة تقدر (هذه المعاني) من دفع التناقض الظاهري، بين أنواع المنطق، وكشف القواعد العامة، التي لا بد ان تحتكم إليها هذه الأنواع المختلفة من المنطق.
3- ضرورة الإيجاز غير المخل في كتاب يقدم ليكون تمهيدا لبحوث ودراسات، أكثر عمقا واتساعا.
وحسبي من هذا الكتاب رجاء رضا الله تعالى، وأن يطرح الكتاب أسئلة جديدة في مجال الفكر.

أصوله ومناهجه
المنطق الإسلامي
القسم الأول عن:
تطور البحث المنطقي
كلمة البدء
المنطق الاغريقي
المنطق الحديث
اتجاهات المنطق الحديث
آراء في المنطق
كلمة البدء
في حديثنا عن تطور المنطق نلقي نظرة على ثلاثة أدوار من تطور الفكر المنطقي:
1- دور نشوء المنطق القديم.
2- دور نضوج المنطق القديم.
3- دور المنطق الحديث، منشأه وواقعه.
وقد وجدنا صعوبة كبيرة في فصل الفكر المنطقي عن الفكر الفلسفي، في الوقت الذي كان الأول أم الثاني، وبالتالي لا تتكامل النظرة العلمية بدون معرفتهما معا.
لكن بالرغم من ذلك أجهدنا على إبعاد المنطق عن أمه الفلسفة، لسبب بسيط هو ان حديثنا في هذا الكتاب يختص بالمنطق، وحشر الفلسفة فيه يسبب التشويه والتعقيد.
ونتحدث عن سير الفكر المنطقي، من ثلاث زوايا:
1- زاوية تاريخية، تحدد مرحلة كل نوع من المنطق ـ الزمنية ـ وتعطينا فكرة عن دورها الإيجابي في بناء صرح المعرفة.
2- زاوية فلسفية، تبين القاعدة الفكرية التي ينطلق الفكر المنطقي منها ويعتمد عليها في صحتها.
3- زاوية الهدف، تشرح الغاية التي استهدفها المنطق.. ذلك لأن كل منطق، نابع من حقل اجتماعي يخلف عليه أثرا واضحا، حتى قال دركايم وتابعوه: إن المنطق ليس سوى وجه المجتمع الذي يظهر فيه لذلك يكون من الضروري التلميح بالظروف الاجتماعية التي ترافق تكوين المنطق.
فالمجتمع الاغريقي في عهد سقراط، وما نشأ فيه من أفكار متناقضة تعتمد على الجدول الفارغ لإثبات الآراء السياسية المتطرفة. هذا المجتمع كان ذا طابع بيّن في منطق سقراط ثم أفلاطون وأرسطو.
فشرح منطق سقراط دون معرفة الزاوية التاريخية منه يبدو ناقصا بعض الشيء.
البحث عن الأصول الفلسفية:
ولكن من الاجحاف بحق الفكر القول بأن المنطق ظاهرة اجتماعية تماما، كما ذهب إلى ذلك المنطق الاجتماعي. ذلك لأنه لا يدعنا نبحث عن نسبة الصحة فيه معتمدين على المقاييس العقلية الثابتة.
لذلك كان من الواجب البحث عن الأصول الفلسفية التي تفرع عنها الفكر المنطقي، مثلا نظرية المثل الأفلاطونية لا بد من معرفتها ولو اجمالا حتى نستطيع فهم منطقه بصورة أعمق، ذلك بالرغم من ان طائفة من العلماء وضعوا أفكارهم المنطقية ثم التمسوا لها مبررات فلسفية، حسبما يستطيع الباحث تلمس الهدفية في أفكارهم المنطقية بوضوح، أي تلمس هدف محدد يتطلع نحو إثباته الفيلسوف منذ ان يبدأ بشرح أفكاره.
معرفة الهدف:
ومعرفة هذا المنطق لا يمكن بدون معرفة الهدف منه، لأنه موظف أساسا في خدمة هذا الهدف.
وهذه هي زاوية الهدف، التي لا بد أن ننظر إلى كل نوع من المنطق عبرها.
بيد أنه ليس من الضروري إقحام هذه الزوايا الثلاث في كل منطق، حتى ولو لم يكن فيه وجه منها، لأنه بعيد عن الروح العلمية في البحث، إنما نلتمسها، فإن وجدناها أدرجناها، وإلا أعرضنا عنها.
ولا بد أن نسجل أخيرا هذه الملاحظة:
ان الحديث القادم يقتصر على بيان تاريخ المنطق، فلا يشمل تفاصيل كل منطق، لأنها إذا كانت مفيدة… ذكرناها عند بيان المنهج، مع حذف المكررات، والا أعرضنا عنها.
فإلى الدور الأول: للفكر المنطقي الذي يتمثل في المنطق الاغريقي بأبطاله الثلاثة: سقراط، أفلاطون، وأرسطو.

القسم الأول
عن تطور البحث المنطقي
البحث الأول عن:
المنطق الاغريقي
كلمة البدء
أفلاطون وأرسطو
منطق ارسطو والمنطق الرمزي
المسلمون والمنطق الاغريقي

كلمة البدء
يلاحظ الباحث في تاريخ الاغريق السياسي والاجتماعي، في الفترة التي ظهرت فيها الفلسفة الأفلاطونية ـ الإشراقية، والمنطق الأرسطي الشكلي… يلاحظ أنه كان يتسم بطابع الفوضى السياسية حيث ظهرت جماعات وصولية، كان همها الوحيد بلوغ مصالحها الخاصة واستخدمت لذلك الديمقراطية المحدودة التي كانت تتمتع بها البلاد الاغريقية آنئذ، كما وظفت الفلسفة الرائجة في خدمة أهدافها الرخيصة.
وكانت الجماعة السوفسطائية من أبرز هذه الجماعات.
إسم السوفسطاء يعني العالم. وكانت هذه الجماعة تطلق على نفسها اسم الحكيم ادعاءا للثقافة، وكانت تتخذ أسلوب الجدل الفارغ في سبيل دعم نظرياتها.
ولم تكن تعترف بمقاييس عقلية، لذلك كانت تشكك في كل شيء. وإذا اضطرها الأمر راحت تشكك حتى في وجود الأشياء وتأتي بالأدلة لدعم نظرتها التشكيكية، لذلك سميت كل طائفة مشككة بالسوفسطائية.
ونتج عن ذلك فوضى في الحقل السياسي وارتباك في الحقل الثقافي. مما أثار حفيظة المفكرين ـ وكان في طليعتهم سقراط ـ لوضع أسس رصينة للسياسة والثقافة تتصدى للجماعة الوصولية.
فجاء سقراط بأسلوب الحوار، وجاء أفلاطون بطريق التحليل، وجاء أرسطو بمنطقه التركيبي، ليكوّنوا تحديا قويا ضد الأفكار الوصولية والتي كانت في مقدمتها الأفكار السوفسطائية.
1- سقراط (469-399ق.م):
بما ان السوفسطائيين كانوا يتلاعبون بالألفاظ كأية جماعة وصولية أخرى..
فإن سقراط بدأ عمله بفن الحوار، أو حسب تعبير بعضهم (فن توحيد المعاني)، وكان هذا الفن يعتمد على البحث دون ملل عن التعريف الحقيقي للأشياء، أي التعريف الذي يعبر عن ماهية الشيء المعرَّف بغية سد الطريق أمام خصومه للتلاعب بالفظ عن طريق استخدامه في غير معناه الدقيق.
وهكذا كان سقراط واضع باب التعريف في المنطق القديم.
ولم يقتصر منطق سقراط في وضع التعاريف، بل إنه ـ كما يلاحظ في بعض أنواع حواره ـ كان يريد البدء بما يعتقد به الخصم، ثم ينطلق منه نحو أمور تترتب على قوله حتى يصل به، عن طريق وجدانية، إلى الأمر المطلوب.
لهذا نستطيع اعتبار سقراط من الذين اعتمدوا كليا على الأسلوب الوجداني، لمعرفة الأشياء.
ومهما يكن من أمر فإن منطقه لم يتبلور حتى إلى درجة اعتباره منطقا برأسه.
إنما نجح في هدفه الذي توخاه وهو إعادة الناس إلى أفكارهم.. واعطائهم الثقة بوجدانهم بعيدا عن فوضى السياسة وتشكيك الجدل.
أفلاطون وأرسطو
2- أفلاطون (427-347ق.م):
واتخذ تلميذ سقراط طريق التحليل لمتابعة مسيرة أستاذه ولكنه اهتدى إلى جذر مشكلة التشكيك، وهو عدم الإيمان بالمقاييس العقلية، فحاول وضع فلسفة ترد الاعتبار للعقل، وذلك عن طريق إيمانه بالمثل التي اشتهر بها.
يزعم أفلاطون أن الإنسان عاش بروحه المثالية قبل أن يعيش ببدنه، في عالم المثل الذي كان يعيش فيه أيضا صورة محدودة عن الأشياء. وهناك عرف مثال الإنسان، مثل الأشياء. وبتعبير آخر، علمت روح الإنسان، روح الحقائق.
وبعد ان جاء إلى هذا العالم نسي الإنسان بعض ما عرفه من الحقائق، وهو بحاجة إلى المنبهات الخارجية، لكي يتذكرها. ولكنه إذا تذكرها فهو ليس بحاجة إلى مزيد من الأدلة لتثبت صحة معارفه.
وهكذا استهدفت نظرية المثل الأفلاطونية وضع أسس ثابتة للفكر، عن طريق إثبات عالم سابق عرف الإنسان فيه جميع الأشياء.
وبعد ان وطد قدم العلم على أساس ثابت ـ بزعمه ـ مضى في طريق التحليل الذي يوجز في إتخاذ إحدى القضايا، وافتراض انها مسلمة لا ريب فيها بشرط ان تكون القضية منطبقة على الموضوع المبحوث عنه، ثم يستنبط منها النتائج. فإذا كانت النتائج صحيحة عرفت صحة القضية، واذا كانت فاسدة عرف بطلان القضية. وهذه الطريقة كثيرة الاستعمال في الرياضة وتسمى بطريقة التفنيد.
واستعار أفلاطون من الهندسة برهان الخلف، والذي يحتل مكانا بارزا في المنطق.
ولم يزل هنا تطور لم يبلغه أفلاطون في منطقه، إذ انه يدع الحد الأوسط الذي نجده في المنطق الأرسطي، وانه يدع الاختيار للطرف الثاني، بينما يحاول أرسطو إسكاته بإلزامه بالنتيجة.
وحتى نبلغ أرسطو، لم يزل المنطق الاغريقي في دور الطفولة، إذ انه يكتمل على يد أرسطو.
3- أرسطو (384-322ق.م):
توجهت همة أرسطو إلى وضع أسس للفكر سليمة، بحيث لا تستطيع السفسطة إحداث الفوضى في الأفكار. وفعلا قام بوضع هذه الأسس بالطريقة التالية:
حدد أشكالا للتفكير تعتمد على إظهار الرابط بين فكرة وأخرى مشتقة منه.
فمثلا: نحن نعلم أن زيدا واحد من البشر، فإذا عرفنا أن كل البشر يموتون، فلا بد ان نعرف ان زيدا أيضا يموت. هذا التفكير بسيط للغاية، ولكن أرسطو يضعه في قالب معين يبرز الواسط بوجه خاص، كالمسيرة المحددة التي تجري خلالها الفكرة فيقول:
زيد بشر ـ وكل بشر يموت ـ فزيد يموت.
وتبعا لوضع هذا الرابط، والذي يسميه أرسطو بالحد الأوسط، يختلف مدى قوة القالب في تناسبه مع النتيجة الصائبة.
لكن أرسطو لاحظ عجزا في قدرة القوالب الفكرية عن إعطاء النتائج الضرورية دون تحديد دقيق للأشياء، فأخذ يقسم الألفاظ ويحدد معانيها، لعله يتوصل عن طريق هذا التحديد إلى التعريف الحقيقي للاشياء.
من هنا كان أرسطو أول من بين ضرورة التمييز بين الكليات الخمس ونعني بها: الجنس والنوع والفصل والخاصة، والعرض العام.
تعريف الجنس:
فإذا اعتبرنا الحيوان جنسا فالإنسان نوع من أنواعه، والميزة التي تميزه عنه تمييزا قاطعا هي النطق، وهي ما عبر عنها أرسطو بـ(الفصل): و(الخاصة) وهي التي تميز الإنسان ـ مثلا ـ عن الحيوان أيضا، ولكن ميزتها له ليس فصلا كالنطق بل هي على سبيل المثال كالضحك وهو ما يدعوه أرسطو بالخاصة. وأما العرض العام فهو لا يميز الإنسان عن سائر الحيوان كالمشي على القدمين.
وخرج أرسطو من هذا، أن التعريف بالجنس والفصل هو التعريف الجامع المانع، كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق فهو ينطبق على الناس جميعا وبذلك يكون جامعا لأفراده، وفي الوقت ذاته يمنع سائر الكائنات الحية عن الاشتراك معه في هذا التعريف، وبذلك يسمى مانعا.
ولم يعد أرسطو أن بين خصائص التعريف الصحيح، والتي توجز في ضرورة إدخال الشيء في نوع معين وتمييز هذا النوع ـ عن سائر الأنواع ـ بصفة لا يشترك غيره فيها أبدا. ولكن، كيف نعرف هذه الصفة؟ كيف نعرف مثلا ان الانسان فقط ينطق وان الخيل فقط تصهل؟ هذا السؤال الذي يعتبر جوهر المشكلة عند الإنسان لم يتعرض له منطق أرسطو، لذلك أعتبر منطقا شكليا أو صوريا.
فلو أردنا تغيير الألفاظ، من حيوان وإنسان وناطق… عن صيغتها الأصلية (الإنسان حيوان ناطق) إلى رموز، فقلنا: ح = أ + ب، لم يمنعنا عنه منطق أرسطو. إذ إنه يبين فقط العلاقات الدقيقة التي تربط بين حقيقة فرضية وأخرى، تماما كالرياضة التي لا تهتم بمحتويات الأشكال بقدر ما تهتم بذاتها.
وقد وضع أرسطو إسما لمنطقه منتزعا من هذه الصفة التي فيه؛ أي صفة الصورية. والإسم هو (لوجيك) والاشتقاق الأصلي لهذا الإسم يعني الكلام، وسماه أيضا بما يعني اله العلم وهو (أورجانون).
وقد يكون لفظ (المنطق) بالعربي نابعا من ذات الصفة.
المنطق بعد أرسطو:
نجد تعريف المنطق عند توماس الأكويني في العصور الوسطى بأنه: فن يكفل لعمليات العقل الاستدلالية قيادة منظمة ميسرة خالية من الخطأ. وهذا التعريف شاع في كثير من تابعي المنطق الأرسطي.
هذا التعريف يدل على وظيفة المنطق عند علماء القرون الوسطى وهو توجيه علاقة فكرية بأخرى، من دون تخصيص ذات الفكرة، وذلك في مقابل المنطق التركيبي الذي يعتني بمادة الفكرة ومصدر معرفتها.
ولم يكن هم المدرسين، الذين اتبعوا منطق أرسطو، فيما بعد، سوى فهم هذا المنطق، مع المبالغة في الاعتماد عليه حتى نتج من ذلك الاعتقاد ان الصور الفكرية التي وضعها أرسطو، لكي تحدد علاقات الأفكار هي بذاتها أفكار تغنيهم عن العلم، وكان مثلهم في ذلك مثل من يتخذ من الأشكال الهندسية بيتا وهميا، إعتقادا منه بأن هذه الأشكال وحدها تكفي عن المواد التي يجب ان تتشكل بها.
وإنما تطور منطق أرسطو بسببين: الأول: دخول أفكار إسلامية فيه، حسبما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.. الثاني: تبدله إلى منطق رمزي. فما هو المنطق الرمزي؟
المنطق الرمزي:
منطق أرسطو كرس ذاته للكشف عن علاقة فكرة بأخرى، دون البحث عن مصادر هذه الفكرة، فهو يقول مثلا:
إذا كان الإنسان قادرا بذاته على بلوغ القمر، فإن زيدا قادر على ذلك أيضا، وذلك لأن:
الإنسان قادر على بلوغ القمر.. وزيد إنسان والنتيجة أن زيدا قادر على ذلك. فالعلاقة بين الفكرة الكلية والفكرة الجزئية هي علاقة إيجابية يفرضها أن الجزئي ـ زيد ـ ضمن أفراد الكلي ـ إنسان.
إيجاد الرمز لمعرفة العلاقة:
فالبحث عن العلاقة هو جوهر منطق أرسطو، وهو أيضا جوهر المنطق الرمزي، الذي يتلخص في أنه ما دمنا لا نعتني في المنطق الأرسطي بمادة الفكر ومصدره الذي نبع منه، بل نكرس جهدنا لمعرفة علاقة فكرة بأخرى، فالأفضل ايجاد رموز للأفكار لمعرفة العلاقة بينها، دون ذكرها هي، لأن النفس قد تتجه ـ إذا ذكرت الأفكار ـ إليها، وتترك البحث عن علاقتها ببعضها. ففي المثل السابق، ما دمنا لا نريد البحث حاليا عن صدق هذه الفكرة (قدرة الإنسان على بلوغ القمر) ولا عن صدق هذه الفكرة (زيد من أفراد الإنسان). بل إنما نريد أن نعرف العلاقة بين هذه الفكرة وتلك، فالأفضل ايجاد رمزين لهما لنركز أفكارنا حول علاقتهما ببعضهما فنقول أ = ب، ح = أ، ح = ب.
وهذا كما ترون ذات الصورة التي يشكلها المثال السابق، والتي نجعل بعضها تحت بعض هكذا:
أ = ب (الإنسان) (قادر على صعود القمر) ح = ب (زيد) (إنسان) النتيجة ح = ب (زيد) (قادر على صعود القمر).
هنا يكون المنطق الرمزي، هو الخطوة التالية في طريق الكشف عن علاقات الأفكار ببعضها.
فالمنطق الرياضي ليس جانبا آخر من المنطق يباين المنطق الأرسطي وإنما هو منطق صوري في ثوب جديد.
والفائدة الجديدة التي استطعنا تحقيقها من هذا المنطق تتلخص في أمرين:
1- القدرة على تحديد العلاقة الدقيقة بين الأفكار، والتي تنعقد حينما تتسابق الأفكار فنتمكن آنئذ من تحويل الأفكار، فورا، إلى رموز ثم تحديد العلاقات بينها، ثم إعادة فض الرموز وتحويلها إلى الأفكار وأخذ النتيجة منها.
2- القدرة على معرفة علاقات جديدة بين الأفكار، مما أفادتنا السرعة في اجتياز مراحل التفكير الدقيق.
والمعرفة الشاملة للمنطق الرمزي تعتمد على إلمام كاف بالجبر وقواعده العديدة.
والذي يعرف الجبر يعرف وجود فرص كبيرة للعقل في البحث عن أساليب جديدة لحل المشاكل الرياضية. وذات الفرص موجودة في المنطق الرمزي لإيجاد حلول جاهزة وسريعة للمشاكل الفكرية. وقد عمل الفلاسفة والعلماء في سبيل استثمار هذه الفرص وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الفكرية. ولا ريب أنهم وفقوا كثيرا في ذلك.
تقييم منطق أرسطو:
لقد تعرض منطق أرسطو لكثير من الهجمات ربما كانت تحاول مناهضة الإفراط في الثقة به خلال ألفي عام. لكن بعيدا عن روح التهجم أو الثقة، يقيّم هذا المنطق بأنه نظم مسيرة الفكر الإنساني في قبالة التطرف والفوضى والسفسطة. ولكنه من جهة أخرى، قيد هذا الفكر بتركيزه الكبير على الجانب الصوري منه، أي انه لم يحاول البحث عن مصدر الأفكار بمقدار ما كرس بحوثه حول علاقة الأفكار ببعضها، وكان مثله مثل من يبذل جهده في جمع الأعداد وتفريقها دون أن يفكر فيما وراء هذه الأعداد من حقائق تدل عليها.
فمنطق أرسطو الشكلي، بإهتمامه بشكل التفكير واغفاله عن البحث عن مادة التفكير وموضوعه، سبب تناسي دور السلبيات البشرية التي تدعو إلى الضلالة، كما تناسى دور العقل في تحدي هذه السلبيات. ولذلك لم يوفق هذا المنطق في إعطاء الإنسان مزيدا من التقدم الفكري.
وبسبب من تأثير المنطق الأرسطي الشكلي، والذي يبرز فيه جانب الإطلاق والعموم، انطبع المفكرون في القرون الوسطى بطابع الإطلاق وسرعة انتزاع الكلي من جزئيات صغيرة.
فكان يكفي الواحد منهم أن يلاحظ عدة أحداث جزئية… حتى يحكم بكلي يشمل ملايين من أمثال تلك الأحداث.
ثم تحول المفكرون إلى الاعتقاد بأن المنطق الأرسطي طريق الوصول إلى الحقائق، غافلين عن انه منهج للتفكير.. والتفكير هو الطريق.. فأخذوا يركبون القياسات بعضها فوق بعض لعلهم يقفون عليها ليروا الحقائق جميعا.
ان القوالب الفكرية تحولت عند هذا الفريق، إلى أفكار استغنوا بها عن التجربة. بل زعموا انها تغنيهم حتى عن عقولهم.. وهكذا لفهم الجمود.
وخلاصة القول، ان منطق أرسطو بالرغم من تنظيم الفكر، ابتلي بثلاثة نواقص:
1- تناسي دور السلبيات البشرية في تضليل الفكر.
2- إطلاقية توجيهه.. مما سبب في إيجاد طابع الإطلاق عند تابعيه.
3- تحول المنطق إلى أفكار بينما لم يكن سوى مناهج للتفكير.

المسلمون والمنطق الاغريقي
لا ريب أن الإسلام جاء بروح علمية جديدة تفتحت عن مناهج متطورة للبحث، ولكن المسلمين لم يستثمروا الا قدرا ضئيلا من إمكانات هذه الروح العلمية، وبنفس المقدار، اختلفت معارفهم عن معارف العصر الذي عايشوه.
بيد أن ذلك لا يعني أنهم سلموا تماما من جمود القرون الوسطى الفكري والذي ظهر في المنطق بشكل بارز، انما يعني انهم كانوا، خصوصا في بعض الفترات، يستضيئون بنور القرآن، وما يهدي إليه من روح البحث العلمي في مجال المنطق التركيبي.
وقد أثرت هذه الروح عميقة في كتب الفقه والرجال، لأنها كانت من اختصاص أشد فئات المجتمع المسلم تحفظا، وفي كتب الرياضيات نوعا ما لأنها لم تستطع التقدم الا بالانفصال عن الفلسفة. وقليلا ما أثرت في العلوم الطبيعية.
بينما كان أثر المنطق الصوري كبيرا في كتب الفلسفة، لأنها كانت غريبة على الواقع الفكري للمسلمين، وانما اختص بها، بادئ الأمر، أولئك الذين آثروا الابتعاد عن التعاليم الدينية.
بل لم يحتضن الفلسفة أول الأمر سوى الأقليات الدينية في البلاد وسربوها في الثقافة الإسلامية، عن طريق العلوم المفيدة كالطب والهندسة والفلك.
وبالرغم من ان المناهج العلمية، التي جاءت بها تعاليم السماء، خصوصا في حقل العلوم التجريبية، لم تتبلور لدى المسلمين، فإن المسلمين قد جمعوا هذه التعاليم وفرضوا دراستها على طلاب العلوم الدينية كجزء من مناهج دراستهم.
فهناك كتاب ألفه الشيخ عبد الباسط موسى بن محمد العلموي المتوفي في دمشق عام 981 هجرية، وسماه (المعيد في أدب المفيد والمستفيد) عالج فيه أسلوب الرواية المعروفة للعلم وأساليبها وطرقها وشروطها.
وكتاب مماثل لا يزال يدرس في بعض الجامعات الدينية ألفه الشيخ زين الدين العاملي وسماه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد).
ويوصي هذا الكتاب بأفضل التعاليم العلمية، التي يظهر منها مدى تشبع المسلمين بروح المنطق الإسلامي بالرغم من عدم بلورته لديهم.
كما يوصي الكتاب الأول بطرق مفيدة للمناهج العلمية، فمثلا يقول: (إذا اشترى (المتعلم) كتابا نظر أوله وآخره ووسطه وترتيب أبوابه وكراريسه واعتبر صحته، فإذا رأى فيه إلحاقا أو إصلاحا فإنه شاهد له بالصحة، ولا يهتم بالمبالغة في حسن الخط، وانما يهتم بحصته وتصحيحه، وعليه مقابلة الكتاب بأصل صحيح موثوق به، فالمقابلة متعينة للكتاب العربي الذي يرام النفع به).
ويرى كثير من مؤرخي الحضارة الغربية أنها وليدة الروح العلمية، التي تسربت إلى الغرب من بعض مراكز اشعاع الفكر الإسلامي كالأندلس.
ويقول بعضهم في معرض حديث عن أولى محاولات الفكر الأوروبي للتحرر من شكليات المنطق الأرسطي الجامد: (وترجع هذه المحاولة إلى القرن الثالث عشر الميلادي عندما نقل العرب الروح العلمية والرياضية إلى أوروبا، وقد أراد روجر بيكون تحرير معاصريه من التفكير المدرسي والتأليف بين التفكير الرياضي والتجربة).

القسم الأول
عن تطور البحث المنطقي
البحث الثاني عن:
المنطق الحديث
كلمة البدء.
المذهب الديكارتي في المنطق.
اسبينوزا ولابينتس.
لوك والقيمة الحسية.
كانت وبرمجة التفكير البشري.
فيخته.
شبلنك.
هيجل.. ونظريته المنطقية.
كلمة البدء
لم يكن هم المفكرين في أوروبا إلى القرن السادس عشر، سوى اعادة تركيب المنطق الارسطي واعادة هضمه والتدبر فيه.
وكانت المعرفة محصورة لديهم بما تمليه عليهم السلطات الدينية والزمنية، التي أحكمت قبضتها على الجماهير. وكان أعلم الناس عندهم أفهمهم لأفكار السابقين، وأكثرهم حفظا لنصوصها.
وكانت همة العلماء مشدودة بخدمة التقاليد السائدة والأوضاع السياسية القائمة.
وكانت الكنيسة، ترمي كل فكرة تحررية بالإلحاد وبالمشابهة مع المسلمين، الذين كانوا يشكلون حسب زعم (الدهماء) أخطر عدو للغرب.
ولكن منذ القرن السادس عشر أخذ الوضع يتطور، وتلاحقت التطورات الفكرية والسياسية في القرن السابع عشر، ثم الثامن عشر، حتى انفجرت في الحضارة الغربية الحديثة، التي بالرغم من فراغها الروحي الكبير فإنها ذات إطار مادي ضخم.
عوامل تطور المنطق:
ترى ما هي العوامل التي أدت إلى هذه التطورات؟
هناك عدة عوامل، سياسية واجتماعية وفكرية، لا يمكننا هنا تحديد الأهم منها فنكتفي بسردها لكي نستطيع فهم خلفية الأفكار المنطقية التي ظهرت في الغرب. هذه العوامل هي:
بماذا عاد المنهزمون؟
1- من الناحية السياسية؛ كانت الحروب الصليبية سببا لإفراز حضاري كبير. إذ أراد الغرب من ورائها اعادة سيطرته على الشرق الإسلامي. لذلك فإن خسارة هذه الحرب سببت صدمة نفسية قوية عند الغرب أيقظته على واقعه المر، وفرضت عليه إعادة النظر في كل مؤسساته، المادية والمعنوية.
لقد عاد المنهزمون في الحروب الصليبية، بتجربة واحدة هي ان المسلمين متقدمون عليهم حضاريا، وبالمقابل فإنهم متأخرون حضاريا. فأخذوا يبحثون عن سر تقدم المسلمين وتأخرهم فانتهوا إلى نتائج كبيرة ومتنوعة، تلخصت في ان الحرية الفكرية والسياسية ضرورية لأي تقدم.
ولم تستطع السلطات الدينية والسياسية كبح هذا الشعور، الذي أخذ يتنامى حتى أدى إلى واقع الحضارة الغربية الراهن.
صحيح أن مسيرة الغرب كانت مختلفة الاتجاه عن مسيرة المسلمين إذ كان الغرب متمحضا في المادية، وكان المسلمون يستفيدون من الإمكانات الروحية، أيضا.
ولكن الغرب إنما تعلم السير من المسلمين بالرغم من ان المسلمين أنفسهم نسوا السير، بعد ان علموا غيرهم بفعل الاكتساح المغولي، والغزو الصليبي، وضعف الروح الدينية.
كان هذا عاملا خطيرا في إيقاظ الغرب الفكري، وهو عامل سياسي في طابعه لعام.
حين استقر الفاتحون:
2- كانت القبائل البدوية تزحف على أوروبا منذ القرن الثالث عشر، فتحدث فيها هزات إجتماعية عنيفة. فلما استقرت هذه القبائل البدوية في القرن الرابع عشر ظهرت فرصة كبيرة لتحول اجتماعي ضخم وذلك:
أولا: لأن طبيعة البدو لو تحضرت تستطيع القيام بإنجازات رائعة ذلك أنها قد تعودت على الحياة الخشنة القاسية فأصبحت قادرة على تحمل القسوة الضرورية لبناء أية حضارة.
ثانيا: ان العناصر المغلوبة عسكريا تفكر في ان تربح الحياة بالطرق السلمية. والهدوء الذي خيم على أوروبا بعد أمواج الغزو البدوي كان أفضل فرصة للعناصر المغلوبة للقيام بمبادرات عملية، لإستعادة مراكزها. وكهذا كانت الأحوال الاجتماعية في أوروبا مستعدة في القرن الخامس عشر لتحول عظيم.. ظهر فعلا في الأفكار الثورية التي انتهت بنشوء الحضارة الأوروبية الراهنة. وهذا هو العامل الاجتماعي.
سقوط قسطنطينية:
3- كانت عاصمة الدولة البيزنطية (قسطنطينية) مجمعا لخيرة الفلاسفة المسيحيين واليهود. وبسقوطها بأيدي المسلمين، نزح عنها جميع المفكرين المتواجدين فيها إلى البلاد الأوروبية، والتقوا بزملائهم هناك ونشأت من التقائهم نهضة فكرية بطبيعة التلاقح الفكري الذي يأتي عادة بعد التقاء مدرستين فكريتين ببعضهما.
هذه هي العوامل الثلاثة الرئيسية التي يذكرها المؤرخون للنهضة العلمية في أوروبا..
وقد ابتدأت من أواسط القرن السادس عشر، والتي برزت في منطق فرنسيس بيكون، ورينيه ديكارت. فبيكون كان يتمتع بآراء جريئة؛ اعتمد على الاستقراء ودعا بإصرار إلى تكريس الجهود في العلوم الطبيعية، وبين أسس التجربة فيها، وبذلك فتح الطريق إلى المنطق التركيبي. وديكارت جاء بفكرة تحويل المنطق إلى (علم رياضي) وقام بتطبيق منطقه على العلوم الطبيعية والفسلفة العليا، وأحرز نجاحا باهرا بالنسبة إلى عصره.
وتابع المفكرون مسيرة بيكون في تجارب العلوم الطبيعية ومسيرة ديكارت في الفلسفة والرياصيات، وانتهوا بالمنطق الحديث بقسميه (المنطق التركيبي والمنطق الصوري) إلى الكمال. والآن لنعرف تفصيل هذه المسيرة.
بيكون:
فرنسيس بيكون (1560 – 1625م) ثار على الأوضاع القديمة في الثقافة بعنف ورمى السابقين بالجهل، ونسب جهلهم إلى عاملين:
1- إن مناهجهم لم تك توصلهم إلى نتائج عملية (أو بالأحرى لم يكونوا يهدفون من وراء مناهجهم الوصول إلى نتائج عملية).
2- إن المنطق الذين كانوا يعتمدون عليه، ويستقون منه أفكارهم كان المنطق الصوري الذي لا يفيد علما جديدا، انما ترسيخا للمعلومات السابقة وإلزاما للخصم بها، بل العلم الجديد، ينشأ من القياس والتعقل، واستخراج الكليات من الجزئيات، بعد الاستقراء فيها، وتنويعها، والتعقل فيها، وبدون ذلك يظل الاستدلال عقيما، وبدون أساس ثابت.
أخطاء الفلسفة القديمة:
وبعد أن بين بيكون عقم الفلسفة القديمة، شرع في بناء المنهج الصحيح للاستقراء. ولكنه قال: لا يمكن الوصول إليه بدون معرفة أسباب الخطأ والتخلي عنها. فما هي إذا أسباب الخطأ التي يسميها بيكون بالأصنام لأنها تُتَّبع بغير فائدة. يقول بيكون إنها أربعة أصنام:
1- أصنام الطائفة (أو الفرع) وهي مقتضيات طبيعة الإنسان التي تشبه المرآة المنحرفة فتعكس الحقائق بغير صورتها الأصلية.
وعلى الإنسان التخلص من صنم طبيعته… حتى يستطيع نيل المعرفة الصحيحة.
2- أصنام الشخص (الفرد ذاته) وهي التي تفرضها طبيعة الميول الخاصة بكل واحد منا، حيث تسبب هذه الميول الشخصية انحرافات بعيدة في فكر الإنسان.
3- أصنام السوق؛ أي سوق المعرفة وهي الأفكار الخاطئة التي تتسرب إلى أذهاننا بسبب العبارات الغامضة، فعلينا إذا تنقية العبارات حتى نستطيع الوصول إلى الحقائق.
4- أصنام المعرض (معرض الأفكار القديمة) التي تحتوي أفكار الفلاسفة السابقين، وتسبب ضغطا شديدا على أذهاننا، وبالتالي أخطاءا جسيمة.

المذهب الديكارتي في المنطق
رينيه ديكارت (1656 – 1695) تأخر عمره الثقافي عن بيكون بربع قرن، ولذلك اعتبرت نشاطاته الفكرية من نصيب القرن السابع عشر.
ذهب ديكارت إلى مساواة الناس في العقل واختلافهم في مدى استثماره، والسير به في الطريق الصحيح. لذلك رأى أن أفضل خدمة تسدى إلى العلم هي وضع منهج صحيح له ودعوة الناس إليه. فما هو هذا المنهج؟
إذا كان مقدار العقل واحدا عند الناس جميعا، فلا بد ان يكون الذي يتبعه العقل، ويسير فيه أيضا واحدا. وبالتالي يجب ألا يكون هناك أي فرق بين العلوم المختلفة في المنهج. فأي منهج موحد يجب أن تسير فيه العلوم جميعا؟ إنه منهج الرياضيات الذي يبحث عن الكم، لأنه منهج محدد وواضح. لذلك يجب بحث جميع العلوم حتى الطبيعيات في ضوء هذا المنهج. وهكذا أدخل ديكارت القياسات الكمية في العلوم الطبيعية ونحن اليوم نعرف ببساطة كيف نحول المرض والقوة والحرارة وما أشبه إلى أمور مقاسة بالكم (درجة الحرارة)، لكنه في ذلك اليوم كان أمرا جديدا بالمرة.
وشرح ديكارت طبيعة منهج الرياضيات، وحاول سحبها إلى كل حقول العلم، اعتقادا منه بأنه هو ذلك المنهج الواحد الذي يصلح لهداية العقل فما هو منهج الرياضيات؟
- افترض حلا مسبقا لمشكلتك ثم عدد النتائج التي قد تترتب على هذا الحل على افتراض صحته، ثم فتش عن هذه النتائج لترى هل هي موجودة فعلا أم لا. مثلا، لو كانت المسألة العملية هي: هل الحديد يتمدد بالحرارة؟ نفترض حلا للمسألة بأنه (نعم الحديد يتمدد بالحرارة) فما هي أولى النتائج المترتبة على ذلك؟ أولى النتائج أنه من تمدد الحديد لا بد أن تنعوج السكة الحديدية أو تنكسر أيام الحر لأنه حديد ممتد، أو لا بد أن يكون بين قطع الحديد فيها فواصل تظهر أيام الشتاء، وتختفي أيام الصيف، فهذه هي النتيجة المترتبة على الحل المفترض، ثم نلاحظ الواقع الخارجي فنرى صحة النتيجة خارجا، فنعرف صحة الفرضية. واقعا هذا هو منهج الرياضيات الذي يقترحه ديكارت للعلوم.
يبدأ ديكارت هجوما عنيفا على المنطق الأرسطي الذي ينعته بالعقم، بسبب أنه لا يزيدنا علما جديدا. فيقول: (ان النتيجة في هذا المنطق ليست سوى صيغة أخرى للمقدمة، فإن كانت المقدمة صحيحة فإن النتيجة معلومة بصورة آلية. وإن كانت إحدى المقدمات باطلة، فإن المنطق ليس سوى وبال). هكذا يكون منطق أرسطو عقيما عند ديكارت.
منهج ديكارت:
ثم يبين ديكارت منهجه المتدرج إلى تحصيل العلم فيضعه في أربع قواعد رئيسية:
ألف – الاستقلال الفكري (يجب ألا أعتقد إلا بما يكون لدي واضحا لا ريب فيه).
هذا مفاد القاعدة الأولى لديكارت والتي يجزئها إلى أربعة بنود:
1- بما أن العلم حضور للأشياء عند النفس، فإن معرفة الإنسان بالأشياء تتم بصورة مباشرة، مثل رؤية العين للأشياء. فليس العلم قائما بصور عن الأشياء في الذهن كما كان يتصور القدماء بل العلم إنما هو إحاطة كشف وشهود.
فكلما كان واضحا عند النفس وضوحا شديدا كان معلوما، حتى ولو لم يكن واضحا عند القدماء. إذ إن إتباع الآخرين في العلم يشبه الأعمى الذي يقوده الناس.
إذا البند الأول هو رفض أفكار السابقين إذا خالفت العلم.
2- يجب ألا أتسرع في الحكم بشي.
3- كما أن أفكار القدماء تأسر قلب المتعلم حتى يكاد لا يبصر الحقائق، كذلك أهواء النفس قد تأسر القلب ولا تدعه يكتشف الحقائق. لذلك يجب التخلص من الأهواء الداخلية.
4- وأخيرا أجعل وجداني حكما على الأشياء، بحيث لا أقبل أي شيء إلا إذا كان واضحا ماثلا أمام وجداني تماما.
التحليل:
باء – بما أن علم الإنسان أوضح بالبسائط منه بالمركبات، فلا بد أن نلتزم بالقاعدة التالية: (تحليل الحقيقة إلى أكبر قدر ممكن من البسائط).
وتأتي أهمية التحليل من الغموض الذي يكتشف عادة المسألة المركبة، بسبب وضوح جزء منه، وعدم وضوح جزء آخر بحيث يظل الفكر مترددا بينهما والتحليل ينقذه من هذا التردد ويضع لكل جزء من المسألة ما يناسبه، دون اختلاطه بالجزء الآخر.
التدرج:
جيم – ولكن مشكلة التحليل أنه يعقد علينا ارتباط أي جزء بآخر، وهنا لا بد أن نطبق القاعدة الثالثة عند ديكارت لحل هذه المشكلة، فما هي القاعدة الثالثة؟ (انها ترتيب الفكر والتدرج في البحث عن الواقع الأبسط فالأبسط).
الاستقراء:
دال – وهنا نستقصي عن كل ما يكشف أي جزء من المسألة حتى نشبعه بحثا وتنقيبا فلا نتحول إلى جزء الثاني الا بعد ان ننتهي من الجزء الأول في البحث.
المهم في منهج ديكارت انه اختار الطريقة الرياضية وخصوصا طريقة الجبر لمعرفة جميع العلوم. وكان في ذلك تسهيل جديد سبب اكتشافات علمية هائلة.
ولكن بالرغم من ذلك ومن اكتشافات ديكارت العلمية التي تمت على ضوء منهجه الجديد لم يزل في منهج ديكارت العديد من النواقص هي كالتالية:
1- لم يركز ديكارت في منهجه على دور التجربة في فهم الحقائق، مما صبغ منهجه بالصبغة الصورية. واليوم يعد هذا المنهج من المناهج الصورية التي أضيفت إليها متممات كثيرة وأكملتها.
اختلاف المناهج في العلوم:
2- تبسيط العلوم يفيد في كثير من الأحايين ولكنه بالرغم من ذلك قد يوصلنا إلى طرق مسدودة.. فمثلا، لو أردنا البحث عن حقيقة الوجود أو العدم، لا نصل إلى نتيجة.. فليس الأمر كما ذكر ديكارت دائما، بأنه في سبيل البحث عن الحقائق لا بد من تبسيطها إلى آخر درجة ممكنة، لأن العلم بالبسائط أسهل من العلم بالمركبات. كلا فبعض البسائط، العلم بها مستصعب.
نعم من الأفضل تبسيط المسائل إلى درجة يسهل علينا البحث عنها.
3- ثم ان العلوم في لحظة وحدتها في جهة تختلف في جهات عديدة، وليس من الصحيح وضع منهج واحد لجميع العلوم، كما يحاول ذلك ديكارت.
ولقد تنبه المتأخرون إلى مدى فرق العلوم عن بعضها، فوضعوا لكل واحد منها منهجا بعد الإشارة إلى المنهج العام الذي يشمل جميع العلوم.
4- وهناك نواقص كثيرة في منهج ديكارت وسوف تتضح هذه النواقص من دراسة سائر فصول هذا الكتاب، حيث بينا فيها أسباب الخطأ ومنهج البحث وأوضحنا ضرورة استيعاب كل ذلك في سبيل الوصول إلى الحقيقة، لو أمكن الوصول إليها.

المنهج الديكارتي في الفكر الأوروبي
كان تأثير ديكارت في الفكر الأوروبي كبيرا إلى درجة أنه خلف تيارا فلسفيا سمي بـ(ديكارتزم) وانجرف في هذا التيار مفكرون كثيرون.
لكن لا يعني ذلك أن كل هذا التأثير كان من شخص ديكارت أو من فلسفته بل وكان أيضا من عصره، الذي تململ تحت تأثير شروط معينة، وحاول النهوض فالتف حول منهج بيكون وديكارت لأنه وجدهما أنسب المناهج إلى نهضته المنشودة.
لذلك فقد أضاف كل فيلسوف جديدا إلى منهج ديكارت. قال أحدهم: (ان منطق ديكارت دهليز الحقيقة يجب ان نعبرها ولا نتوقف فيها). وكان في طليعة هؤلاء مابرانش واسبينوزا.
مابرانش:
إعتقد ما برانش (1608 – 1715) أن سبب خطأ الإنسان اندماج عقله بجسمه وابتلاؤه بما انطوى عليه الجسم من الخيال الفارغ ومن الرغبات النفسية.
السؤال: كيف تتسبب الحواس في حجب العقل عن الحقيقة؟
يجيب مابرانش عن هذا السؤال بالقول: إن الهدف الفطري من الحواس يختلف عن الهدف الذي ينشده الإنسان، ولذلك يتورط الإنسان في الخطأ، ومثله ان يستخدم الإنسان المحراث في التكريف، وذلك لأن الغاية المتوخاة من الحواس بالأصل هي ايجاد علاقة مناسبة بين الجسم والعالم المحيط به، حتى يبقى الجسم مصونا من الأخطار… بينما يستخدم البشر حواسه فيما هو وراء هذه الغاية، وهو العلم بحقائق الأمور، جهلا بأنها انما تنقل المظاهر الساذجة والآثار السطحية إلى ضمير الإنسان، حتى يتجنبها لأنها هي غايته الطبيعية. فمثلا ان حواسنا تشعر بالألم ازاء بعض الإثارات الخارجية، فهل الألم هذا من آثار تلك الأمور الخارجية كما نتصور وكما نقول ظاهرا بأن الضرب مؤلم فننسب الألم إلى الضرب ونجعله صفة من صفاته؟ كلا إنما هو من مقتضيات ذواتنا نحن، فهي التي تتأثر بالضرب، ولا دخل له بصورة الحياة الخارجية، ونحن إنما نعبر عن الضرب أنه مؤلم لبيان نوعية العلاقة التي تربطه بأجسامنا.
الصفات والرغبات النفسية:
التوهم سبب آخر من أسباب الخطأ البشري لأنه يجعلنا نزعم صحة أفكار الآخرين، فنتبعهم بينما هي باطلة وانما تخيلنا خيالا.
أما الرغبات النفسية فإنها تولد الحب والبغض في الإنسان، وهما بدورهما يحجبان نور العقل ويوقعان الفرد في الخطأ. والصفات النفسية أشد أثرا في القلب من الرغبات النفسية، لأن الصفة المنحرفة بذاتها تسبب الخطأ، دون واسطة الحب والبغض.
وحتى طاقة الفهم (العقل) فإنها قد تتسبب في الخطأ، ذلك لأنها بطبيعتها محدودة بينما يزعم الإنسان أنها قادرة على كشف الأشياء جميعا.
وهذا الغرور سبب خطير من أسباب الخطأ البشري (عند مابرانش).
ثم يبدأ مابرانش بتفصيل منهجه بعد أن يحدد أسباب الخطأ ويوصي الطالب بتجنبها فيقول: يجب أن نطرح أية مسألة بصورة مبسطة والبحث عن الوسائط المشتركة.
وينبغي حذف الزوائد بل نلخص المعلومات بقدر الإمكان.
ولا بد أن نتدبر في نوعية ترتيب المعلومات مع بعضها بدقة تامة، كما يجب مقابلة المعلومات المركبة مع بعضها لحذف المكررات عنها، وكذلك حذف الأمور غير المفيدة.. ونكتفي بهذا القدر في تفصيل منطق مابرانش الذي يتشابه في كثير من الأمور مع منطق ديكارت، الا أنه ينطوي أيضا على بعض السلبيات.
1- فالغموض يكتنف نظريته عن أسباب الخطأ لأنه لم يكن قادرا على بناء أسس كافية لمنطقه، واليوم وبعد بحوث علم النفس المختلفة نستطيع أن نفقه مواقع الغموض في فلسفة المنهج عند مابرانش.
2- إنه عدّد أسباب الخطأ وجعل منها الفهم (أو العقل)، بينما العقل لا يدعو الإنسان إلى أن يتصور كماله، وشموله. انما جهل الإنسان بمحدودية عقله، وغروره بما لديه من وسيلة ناقصة، وهو الذي يجعله يحمِّل عقله فوق طاقته ويطلب منه ما هو عاجز عنه.
ديكارت يدخل في الفكر الأوروبي:
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر دخل منطق ديكارت في برنامج الفكر الأوروبي، بعد أن أضيف إليه بعض العناصر المفيدة من منطق أرسطو، وذلك عندما كتب عالمان يتبعان ديكارت هما (بير نيكل وأنتون أرفو)، من فرنسا، كتابا في المنطق على ضوء فلسفة ديكارت ومنهجه ولا يزال الكتاب متداولا في أوروبا ومرجعا مفيدا هناك.

معرفة العلم بالعلم
اسبينوزا..
من هولندا هذه المرة، جاء اسبينوزا الذي عاش بين (1632 – 1677) وأصبح من أكبر فلاسفة أوروبا في عصره ولخص رأيه في المنطق بالقول: لما رأيت طرق معرفة الأشياء توجز في أربعة: أفواه الناس (كمعرفة كل شخص بيوم ميلاده) أو بالتجربة المجملة (كمعرفة الناس بأن النفط مما يحترق) أو بمعرفة الرابطة بين الجزئيات والكليات (كما نعلم بالحرارة بعد العلم بوجود النار) وهذا هو الطريق الثالث الذي بالرغم من أنه أفضل مما سبق فإن الطريق الرابع أفضل منه وهو: الوجدان الذاتي والشهود الشخصي، وهو طريق لا يأتيه الخطأ لأنه منطبق مع المعلوم، ويأتي بعلاقة مباشرة بين الفرد والمعلوم، ولذلك فهو موجب لليقين، وهو يتعلق بالبسائط والمبادئ الأولية، وموارده قليلة جدا.
والعلم بالبسائط (أي الطريق الوجداني) واضح ومحدد وموافق مع المعلوم الخارجي، ولسنا بحاجة إلى حجة تدل على صحته. ولهذا فلسنا بحاجة إلى البحث عن منهج صحيح للمعرفة.
ان المعرفة هي بذاتها دليل على صحتها، وعلى صحة الطريق المؤدي إليها، لا العكس… وبالتالي العلم هو طريق العلم. العلم بالواقع طريق العلم بذلك المنهج الذي يوصلنا اليه، أي على ضوئه نستطيع معرفة المنهج المؤدي إليه وإلى غيره.
ثم يضيف قائلا: إن طريق معرفة الحقيقة وتمييز الباطل عنها، هو البحث أولا عن حقيقة واضحة جدا ومتميزة تماما عن الباطل. وكلما كانت الحقيقية واضحة أكثر وضوحا، وأشد تمييزا عن الباطل، كان أفضل لأن أساس العلم آنئذ يكون أكثر رسوخا ويكون العلم النابع منه أشمل إحاطة بالحياة. فما هو ذلك العلم الأول الذي يتعلق بأوسع الأشياء إحاطة وأسماها رتبة؟… إنه العلم بالله سبحانه، الذي يهدي إلى كل علم. لأنا على ضوئه نتعرف على المنهج الصحيح ونبلغ به جميع الأشياء.
ملاحظات على منهج اسبينوزا:
واسبينوزا يتبع ديكارت في موجز أفكاره، وان كان يخالفه في تفاصيلها ويركز كثيرا على ضرورة إدخال المنهج الرياضي في كل العلوم.. لكن نظريته في المنهج تتعرض لعدة ملاحظات:
1- إنه قسّم طرق العلم بالحقيقة إلى أربعة وجعل منها الوجدان كما جعل منها أقول الناس. ومن حقنا أن نتساءل عن معنى العلم؟ أليس هو وجدان الأشياء وكشفها الوصول مباشرة إليها، كما يقول اسبينوزا ذاته.. فإذا كان كذلك، وهو كذلك، فلا فرق بين أن يأتي هذا الوجدان عن طريق التفكير أو الإحساس أو العلم بالعلة والمعلول، بل إنما يأتي الوجدان بعد هذه الطرق أو بعد غيرها مما يسبب حالة العلم في النفس، إذ الوجدان هو العلم ذاته.. إذا فليس من الصحيح جعل النتيجة من أقسام الطرق المؤدية إليها وجعلها أفضل منها.
2- بالرغم من أنه تفطن إلى أن حقيقة العلم نور وكشف وظهور، ولا يمكن البحث عن دليل يثبت صحة العلم بعد أن وجدنا العلم يقينا… وبالرغم من انه تفطن أيضا إلى حقيقة أخرى هامة، وهي ان الطريق إلى معرفة المنهج الصحيح للعلم هو العلم بحقيقة ما، ثم البحث على ضوئها عن المنهج الصحيح، إلا أنه لم يتفطن، أو لم يذكر، كيف نستطيع الوصول إلى منهج صحيح بعد العلم بحقيقة واضحة.
وقد كشفنا في موضع آخر من هذا الكتاب عن ذلك، حين قلنا ان العلم بحقيقة ما، يجعلنا نطمئن إلى صحة الطريقة التي سلكناها إليها، فنستطيع سلوك ذات الطريقة للوصول إلى غيرها فمثلا إنك تعلم يقينا.. أن 15+15 يساوي 30 ولكنك لا تعرف صحة طريقة الجمع المتبعة، فتستخدمها كما هي معهودة فترى: ان هذه الطريقة فعلا أدت إلى النتيجة الصحيحة، فتعرف انها ستؤدي إلى نتائج صحيحة أيضا في غير هذا المجال.
وهذا بعض من منهج (معرفة العلم بالعلم)، وستعرف طرقا أخرى لهذا المنهج بإذن الله.
لابينتس:
في بعض بلاد ألمانيا ولد لابينتس عام (1646) وتوفي عام (1716)، وانتزع رأيه في المنطق من نظرياته في الفلسفة، والتي اعتقد فيها أن معرفة الغاية من الكون أو من أجزائه ضرورية للوصول إلى حقيقته جنبا إلى جنب مع معرفة العلة المباشرة له. وفي باب المعرفة قال: كما أن أصل امتناع التناقض قاعدة رصينة لمعرفة الأشياء، كذلك أصل العلة الغائية (الهدف من الأشياء) قاعدة أساسية.
واعتقد في المنطق أيضا، إن إدراك البشر للأشياء يكون نوعين: إدراك واضح وإدراك باطن.. وكما أن معلوماتنا أقل حجما من المجهولات كذلك الإدراك الظاهر أقل من الإدراك الباطن، بينما الفضيلة خاصة بالإدراك الظاهر. وذهب إلى القول بأن الإدراكات الظاهرة تأتي نتيجة مجموعة الإدراكات المستبطنة كما أن هدير الموج ناشيء من مجموعة أصوات صغيرة تنشأ من اصطدام قطرات الماء بالساحل.
واعتقد أيضا بوجود قوى ذهنية سابقة هي في الواقع أساس كل معرفة.
والملاحظ في نظريات لابينتس ليس الغموض فقط، وإنما أيضا محاولات فاشلة للتوفيق بين نظريات متباعدة، والمهم فيها أنه يركز على أهمية العقل الباطن ودوره في الإدراك. والواقع ان الإدراكات المستبطنة، والتي نسميها اليوم بالعقل الباطن، هي التي تشكل قوالبنا التفكيرية، وتصوغ نوعية نظرتنا للأحداث والزوايا المختلفة التي نحكم منها على الأمور، كل ذلك بالرغم من أن العقل الرشيد يستطيع التخلص من ضغط (العقل الباطن) ليتجرد في حكمه على الأشياء بموضوعية تامة، ولولا هذه المقدرة في العقل لم يستطع أحدنا الاعتماد أبدا على علمه.

لوك والقيمة الحسية
لوك:
بين عامي (1632 –1704) جاء لوك بنظريته الحسية، وأسس بها مدرسة خاصة بنفسه تعيد كل العلوم إلى مبدأ واحد هو الحس، بالرغم من عدم إنكاره للعقل الذي يتصور أنه أيضا ناشئ من الحس.. أو بالأحرى يجعل يوم بروزه متأخرا عن الحس. واعتقد لوك بثلاث قواعد هي:
ألف- قوى الادراك، حيث قال بوجود عدة قوى متدرجة عند الإنسان هي التي توفر له المعرفة، وهي:
1- قوة الإدراك، وهي أولى مراحل المعرفة.
2- قوة الحفظ، وهي المرحلة التالية إذ انها تدخر المعلومات الناتجة من الإدراك.
3- قوة التمييز، وهي التي تفصل بين المعلومات المدخرة.
4- قوة التقييم، التي تبين نسبة المعلومات إلى بعضها.
5- قوة التركيب، التي تكلف بجمع المعاني البسيطة وتركيبها.
6- قوة التجريد أو الانتزاع وهي مسؤولة عن استنباط معنى كلي من الخصائص الجزئية التي تلاحظها في منظر واحد.
أهمية التقسيم:
باء – ويتميز فكر لوك بالتقسيم، وذلك تبعا لهدفه البعيد الذي أراد به برمجة العملية التفكيرية عند الإنسان.
فهو يقسم التصورات ويبسطها، فيقول: إن التصور بسيط (منشأه حس واحد) ومركب (منشأه عدة أحاسيس) فتصور الحرارة بسيط بينما تصور الجسمية مركب لأنه إنما يأتي من تصور الحجم والوزن.. و..
والتصور قد يكون مثبتا، يكشف عن وجود شيء، وقد يكون منفيا يكشف عن عدمه. فالأول مثل تصور النور والحرارة، والثاني كما نتصور الظلام والبرودة.
ولكي يوضح فكرة التصور ويبلورها يقول:
الفكرة التي يستوعبها الذهن بسبب التصور تدعى بـ(المفهوم)…
بينما ارتباط هذا التصور بمنشئه يسمى بـ(الخاصية). فمثلا الحرارة، مفهوم ذهني ولكنها من جانب آخر خاصية للنار.
ويقسم التصور أيضا فقد يكون تصور لذات شيء، وقد يكون تصورا لحالة.
وقد يكون تصورا لعلاقته بسائر الأشياء.
دور اللغة:
جيم- يلعب التقسيم دورا بارزا في توضيح عمليات العقل عند لوك، ولكنه ليس الأمر الوحيد الذي يكشف لنا عن هذه العمليات عنده.. وذلك لأنه ربط أيضا بين فهم هذه العمليات العقلية وبين فقه اللغة، لأنها تكشف بقدر عن التصورات، وتكون مقياسا أمينا لمعرفة طبيعتها.
من هذه الزاوية دخل لوك في تحقيقاته العلمية، التي أجراها في باب اللغة، وأصبح من مؤسسي علم اللغات الحديث، وكان بين استدلالاته اللغوية التي سحبها إلى المنطق، قوله: بما أن تصور الإنسان يعتمد على الإحساس في البداية فإن الرجل البدائي يعبر عنه أولا، فالطفل مثال للفرد البدائي وهو لا يعبر أول ما ينطق إلا عن الأمور المحسوسة. كذلك الأمم المتوحشة، مثال للجماعة البدائية.
فلا نجد في لغتهم تعابير تخص الأمور العقلية، وكلما تقدمت الأمة بإتجاه الحضارة كلما زادت تعابير لغتها التي تكشف عن أمور عقلية.
بعد أن يضع لوك أسس تفكيره الثلاثة (بيان قوى الإدراك وتقسيم الإدراك، ثم علاقته باللغة المعربة عنه) يعطف نظره إلى حقيقة العلم فيزعم أنها النسبة بين تصورين.. أو إثبات الوجود لتصور واحد ثم يفصل فيقول: أساس علاقة التصور أربعة أقسام:
(1) الوحدة، كما تقول: 4×4=16.
(2) أو عدمهما، كما تقول: 4×4 لا =15.
(3) المقارنة، كالقول: الهواء بارد.
(4) إثبات شيء لشيء، مثل أن تقول: الله موجود.
ثم يقسم لوك العلم إلى ذاتي وتعقلي وحسي. فالذاتي، هو معرفة نسبة التصورات الذاتية إلى بعضها معرفة مباشرة. والتعقلي، هو المعرفة التي تحتاج إلى استدلال وتفكر مثل معرفة الباري. والحسي، هو المعرفة الناشئة من الإحساس، وهو بالرغم من قلة قيمته الفلسفية لعدم افادته اليقين فإنه ذات قيمة عملية لأننا نعتمد على الحس في كل شؤوننا، وفي العلوم الطبيعية التي مرد تصوراتها تكون في خارج الذهن، فيوصي لوك فيها بالاستدلال بينما يكتفي في العلوم الفلسفية والأخلاقية بالتعقل لأن مواد تصورها في الذهن.
ويلاحظ من اتجاه لوك الفلسفي في المعرفة، أنه كان ينوي وضع تقنية للتفكير المنطقي، بمعنى أنه كان يهدف جعل العلم يسير في خط واضح وقوالب معروفة، حتى نستطيع ملاحظة خطواته واحدة بعد أخرى، ثم أخطائه وتصحيحها.
وجهود لوك أثمرت في القرن الثامن عشر، إذ قام العلماء بتقنية العلم حسب ما سيأتي الحديث عنه بإذن الله.
والملاحظ عليه كذلك تطرفه الشديد بإتجاه تقييم الحس الذي نتج منه أمران:
1- تناسي دور العقل والسابقيات الفكرية، التي يكشفها العقل، في بناء صرح المعرفة، وهذا مخالف للواقع المشهود الذي ذكرنا به في بحوث فلسفية منفردة .
2- جعل المنهج العلمي خاضعا للتجربة المادية، تتشابه مع سائر التجارب التي تجري على المادة. وهذا مخالف للرأي العلمي السديد الذي يفصل بين أنواع التجربة حسب اختلاف المواد. ومن هنا قال جون ديوي عن لوك:
(ان كلمة (خبرة) حين استعملت عند بدء ظهورها استعمالا يضفي عليها الوقار بولغ ـ بغير شك ـ في جانبها المتصل بالملاحظة، كما نرى مثلا عند (بيكن ولوك) ونستطيع أن نلتمس لهذه المبالغة تعليلا سريعا في كونها حدثت في الظروف التاريخية التي حدثت فيها (أي إنها كانت من وحي الظروف الخارجية) ذلك لأن الفكر الفلسفي كان قد تدهور حتى بلغ صورة استبيح معها الظن بأن اعتقاداتنا عن أمور الواقع يمكن، بل ينبغي أن نحصلها بالتدليل العقلي وحده الا إذا كانت مستندة إلى أقوال النقاد، فتولدت عن معارضة هذه النظرة المتطرفة نظرة أخرى تساويها في قصر نفسها على جانب واحد، وهي إن الإدراك الحسي وحده يمكن أن يقرر لنا على نحو مرض ما عسانا نريد أن نعتقده عن أمور الواقع، فأدت هذه الفكرة عند (بيكن) وبعد ذلك عند (لوك) إلى اهمال الدور الذي تؤديه الرياضة في البحث العلمي كما أدت عند لوك إلى تقسيم يوشك أن يكون فاصلا بين معرفتنا لأمور الواقع ومعرفتنا لما يقوم بين أفكارنا من علاقات، على أن هذه المعرفة الأخيرة ـ بناءاً على مذهبه ـ تعود فترتكز في نهاية الأمر على الملاحظة الخالصة سواء كانت تلك الملاحظة داخلية أم خارجية نتج عن ذلك مذهب يرد الخبرة إلى إحساسات هي المقومات التي تتألف منها كل ملاحظة كما يرد الفكر إلى روابط خارجية تصل هذه المقومات على أن المفروض في الاحساسات وفي روابطها معا أن تكون عقلية فقط أي أن تكون نفسية خالصة) .
وبالتالي فإن أساس نظرية لوك الحسي مرفوض فلسفيا، لأنه بدون وجود عقل يكشف عن صحة أو زيف الاحساس لا يمكننا أن نثق به ونستثمره في سبيل تحصيل العلم. وقد تنبه لوك ذاته إلى هذه الملاحظة فجعل العلم الناشئ من الإحساس في الدرجة الثالثة من الأهمية بعد علم يحصل بالوجدان وعلم ينشأ من الاستدلال.
ولكن، كل هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة نظريات ـ لوك ـ ولا سيما التي تناولت خطوات التفكير، إذ كانت تمهيدا مناسبا لبعض النظريات التي ظهرت في القرن الثامن عشر
.
الزنقب غير متصل  


قديم(ـة) 19-06-2014, 08:27 AM   #2
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
2

كانت .. وبرمجة التفكير البشري
كانت:
ولد عمانوئيل كانت وتوفي بين عامي (1724 – 1804) في مدينة ألمانية وكانت آراؤه في المنطق حديثة.. فهو يبدأ حديثه عن ذلك بالقول:
مادام الفرد لم يجد شيئا (بوجدانه) فإنه يستحيل عليه أن يشعر به..
ولكن متى يجد البشر الأشياء..؟ انما يجدها حيث يتأثر بها وطريق التأثر هو الإحساس.
إذا يقول كانت، الإحساس ينبه وجدان البشر ولكنه لا يرى أن الإحساس ذاته الوجدان، إذ يعود ويوضح أن التأثيرات الخارجية التي تفد على الذهن، عن طريق الوجدان لا تعتبر وجدانا بدون وجود قوة في الذهن تنظم هذه التأثيرات وترتبها.
ويعتقد أن وسيلة تنظيم الذهن للتمييز بين حس وآخر، وأثر وغيره هو تصور مفطور عليه الذهن ألا وهو تصور الزمان والمكان. فكلما دخل ساحة الذهن إحساس، ألبسه الوجدان ثوبا من الزمان (الذي ليس سوى تعاقب حدث بعد حدث) أو من المكان الذي هو وجود شيء بعد شيء.
وكما لا ترى العين الهواء أو الماء إلا من خلال شيء آخر يوضعان فيه أو يختلطان به، فكذلك لا يجد الإحساس شيئا الا من خلال صورته (الزمكانية).
ثم يذهب كانت في طريقه الجديد، ليرى أن مجرد تصور الأشياء لا يعد علما بالرغم من إضافة (الزمكان) عليه من ذات النفس إذ العلم (أو الفهم على حد تعبيره) هو إيجاد علاقة بين شيء وآخر، وهذا لا يتحقق بواسطة تصور شيء واحد.
ثم يحاول كانت برمجة التفكير فيعطف نظره إلى فهم التصورات وكيفية حدوثه فيقول: إن الفهم هو (فعالية الذهن في ربط الأشياء ببعضها ثم استنتاج الأحكام العامة الكلية منها)، حسنا ولكن كيف يحدث ذلك؟
يزعم كانت أن عملية الفهم بحاجة إلى مادة وهيئة، ومادة الفهم هي التصورات (المركبة بدورها من الإحساس الخارجي والزمكان الداخلي) أما هيئتها فهي الأمور التالية، وهي عبارة عن علاقات تربط بين تصور وآخر.. فتشكل منهما فكرة مفهومة. وهنا يحاول كانت حصر هذه العلاقة وتحديد دورها في صياغة التصورات، فيقول: ان هذه العلاقة أو الهيئات هي أشبه شيء بقوالب فكرية يصب الذهن فيها ما لديه من تصورات ساذجة فيصوغ منها الفكرة.. وهي التالية:
الكمية والكيفية والنسبة (الإضافة) والجهة، ولكل واحدة من هذه الأربع ثلاثة أنواع حتى يصبح مجموعها اثني عشر قالبا (أو على حد تعبيره الذي قلد فيه تعابير الفلاسفة الأقدمين (مقولة)).
فما هي الأنواع الثلاثة التي تقسم المقولات الأربع؟
1- الكمية:
أ- كلية (كل شخص يموت).
ب- جزئية (بعض الناس أغنياء).
ج- شخصية (علي عالم).
2- الكيفية:
أ- ايجابية (جعفر يذهب).
ب- سلبية (لا يذهب جعفر).
ج- معدولة (جعفر لا يذهب).
3- النسبة:
أ- حملية، تقتضي حمل حكم على موضوع آخر (إمام عادل).
ب- شرطية، تقتضي ربط موضوع بموضوع (إن تاب العبد غفر له الرب).
ج- منفصلة، وتقتضي ربط ضد موضوع بموضوع آخر (الأرض أو الشمس مركز العالم).
4- الجهة:
أ- احتمالية، تقتضي إمكانية حمل الموضوع على الحكم (المريض قد يشفى).
ب- حقيقية، تقتضي ربط الموضوع بحكم (الإنسان يموت).
ج- ضرورية، تقتضي وجود علاقة ضرورية بين الموضوع وحكمه (لا بد للكون من إله).
ويتشابه كانت مع أرسطو في وضع المقولات، التي هي عبارة عن تعيين نوع علاقة التصور بقرينه. وبالتالي الرباط الذي يوصل بين التصورات المختلفة.. ويهدف كانت من ذلك ذات الهدف الذي ابتغاه ارسطو وهو برمجة الفكر كما سبق.
والسؤال، الذي حاول كانت الإجابة عليه بعد ذلك، هو كيف تتكون الفكرة (أو المعرفة) ولماذا تستعين النفس بقالبي الزمكان أو بالمقولات الاثنتي عشرة؟
يقول كانت: قبل معرفة أي شيء لا بد أن تعي الذات نفسه ويجد أنه عالم في قبال معلوم محدد.. وبما أن النفس بحد ذاتها أول كل شيء، وبما أنها واحدة منفردة فإنها لا تستطيع ان تجد شيئا الا إذا كان واحدا.. ومن هنا يوحد الذهن بين التصورات المتناثرة التي تردها من كل جانب، في قالبي الزمكان ثم في المقولات الماضية الذكر.
ويتساءل ـ كانت ـ في الطريقة التي تبدع النفس بها مقولاتها الاثنتي عشرة، ويجد الجواب جاهزا إذ سبق عنده أن الزمان هو الشرط الأساسي لتصور أي شيء، إذ النفس لا يمكنها تصور شيء بدون إضافة عنصر الوقت إليه… (إذ التصور ذاته يقع في وقت محدد) وهذا الزمان بالذات هو السبب في إبداع النفس المقولات الاثنتي عشرة.
لكن كيف؟
ذلك لأن تصور الزمان يجرنا إلى قياس شيء بشيء، ومعرفة الأول والثاني. ويكون هذا تصور للعدد. ثم قد نتصور كل الأزمنة المتوالية، فنهتدي إلى مقولة الكلية، ثم قد نتصور الزمان بدون أي حادث فتأتي مقولة السلب، أو مع حادث فهي مقولة الإيجاب، وهكذا يكون تصور الزمان… سببا في إبداع المقولات.
ثم يمضي كانت ليحدد أكثر فأكثر مناهجه المنطقية منطلقا في ذلك من المقولات السابقة.. فيقول: ينبثق من مقولة الكم وجود أجزاء لكل شيء يتصور وبالتالي عدم صحة فكرة الجزء الذي لا يتجزأ. ويأتي من مقولة الكيف وجود درجات قوة لكل شيء مبتدئة من الصفر. وبالرغم من وجود هذه الدرجات، فالقوة كل واحد، أي ليست كل درجة نوعا مختلفا عن سابقتها وينشأ من مقولة الإضافة (أو النسبة) ضرورة ربط الأشياء ببعضها بأحد الوجوه الثلاثة: الاستمرار، التوالي والمقارنة، وكل واحد منها أساس دستور محدد في المنطق:
1- الاستمرار، يعني أن ذات المتغير دائم لا يفنى بالرغم من تطور صفاته.
2- التوالي، يعني إرتباط الأمور المتغيرة ببعضها إرتباط العلة بالمعلول، بحيث لا بد أن يأتي بعضها بعد بعض.
3- المقارنة، تعني ان كل أمرين قارنا في الزمان لا بد أن يؤثرا في بعضهما.
هذه هي الأسس التي تبنى عليها علوم الطبيعة الحديثة. ومن الجهة، المقولة الرابعة، تنشأ قواعد ثلاث تعتبر أساس التجربة وهي:
1- كل شيء يتوافق مع أصول الوجدان، وأسس المقولات السابقة، فهو ممكن الوقوع.
2- كل شيء يتوافق مع الشروط المادية للتجربة (بحيث يمكن إحساسه) فهو موجود وواقع.
3- وكل شيء وجوده موافق مع شروط التجربة المادية، وعدمه مخالف لها.. فهو واجب الوجود، وضروري التحقيق.
هذه خلاصة أفكار كانت المنهجية والتي بالرغم من وجود عناصر ايجابية كثيرة فيها، فهي تنطوي على أخطاء فلسفية كبيرة.

أخطاء كانت
1- النظرية النسبية التي تعتبر أساس منهجه، صحيحة علميا، إذا أردنا منها: أن العلم بكل الأشياء غير ممكن لنا وكذلك العلم بكنه الأشياء.
ولكن إذا أردنا التشكيك في صحة علمنا بظواهر بعض الأشياء، فإن ذات العلم ينفي هذا النوع من التشكيك إذ إنه حين يكشف لنا عن شيء يعطينا اطمئنانا بالغ الشدة به، بحيث ينقطع التشكيك فيه.
2- من هنا كان خطأ كانت الكبير، حين اعتبر الزمكان من متصورات النفس البشرية ومن إضافاتها النهائية التي تضفيها على الأشياء لا لأمر إلا لتعرفها.. ذلك أن الزمكان، بدورهما حقائق يكشف عنهما العقل البشري.. ويثق بوجودهما في الخارج كما يثق بجود أي شيء آخر.. وما هو الفرق بينهما وبين مواد التصورات وكيف جاز لكانت أن يعتقد أن تصور الحرارة من نتائج الخارج ولكن تصور مكانها وزمانها من نتائج الذهن.
هذا بالإضافة إلى ان الذهن البشري يتصور إلى جانب الزمكان أمورا أخرى كالشدة والضعف والنوع والكيف، فالذهن يتصور مكان وزمان الحرارة ويتصور أيضا الفرق بين الحرارة والبرودة، وبين الحرارة الشديدة والضعيفة. وهكذا كل ذلك بسبب نور العقل الوضاء.
صحيح إن التصور الزمكاني شرط أساسي للإحساس، إذ الإحساس مشروط بالتنظيم؛ وهو مشروط بتصور الزمكان فهو ينبئ عن قدرة الذهن على الفهم قدرة قبلية.. ولكن ليس من الصحيح أن هذا التصور مجرد إضافة ذاتية يضيفها الذهن على الأشياء، بل هو كشف قبلي يجده الذهن ويجد الأشياء به.
هناك اعتراضان وجها إلى منطق كانت، أحدهما من زاوية علم (اجتماع المعرفة) والثاني من زاوية علم (نفس المعرفة). وبالرغم من عدم صحة هذين الاعتراضين بصفة تامة، فإن فيهما قيمة اعتراضية نسبية.
1- فلقد اثار (لهلم جيد) و(سالم) و(ماكس شيلي) كثيرا من الاعتراضات التي ارتكزت على تهافت المقولات التي وضعها كانت، من حيث انها ليست الا قائمة لمقولات الفكر الأوروبي التي تمخض عنها العصر الكانتي.
وذهب (ورنر ستارك) إلى أن آفة كانت من وجهة نظر (ورنرستارك) أنه لم يكن واقعيا في نظرته إلى المعرفة إذ أحال المعرفة إلى (تصورية تركيبية) ونظر إلى العقل على أنه (عقل خالص)، والى الإنسان على أنه (كائن مجرد) ـ بلا تاريخ.
على حين أننا لا نجد في زعم (ورنر ستارك) إنسانا مجردا على الإطلاق كما يستحيل علينا أن نجد عقلا خالصا. فلا يوجد في الواقع الا الإنسان المتحضر، أو التاريخ الذي نشاهده وندرسه من خلال احتكاكه بالآخرين، والذي يتأثر عقله بمختلف المعايير الاجتماعية وتصاغ شخصيته في قالب ثقافي، أو في صورة اجتماعية.
2- لقد ثبت في الفيزياء الحديثة أن في وسعنا اكتساب معرفة خارج إطار المبادئ الكانتية، وان الذهن البشري ليس قائمة منحصرة من المقولات يكدس العقل في داخلها كل التجارب، بل ان مبادئ المعرفة تتغير بتغير مضمونها ويمكن تكييفها مع عالم أعقد بكثير من عالم ميكانيكا نيوتن.
ومهما كانت فلسفة كانت ومنهجه ذات ملاحظات سليبة، فإنها كانت خطوة تقدمية نحو برمجة الفكر البشري، والكشف عن قواعده الداخلية، وعلاقاته الاستنباطية.
وقد جاء على أثر كانت بعض الفلاسفة الذين اتبعوه نوعا ما ويعتبر فيخته في طليعة أتباعه.
فيخته:
بين عامي (1762 – 1814) عاش فيخته، وكان رومانطيقيا وحدويا ومعقد الفلسفة.
والذي يتميز به من فلسفة في المنطق هو أنه اعتبر التنبه إلى الذات بداية كل معرفة، وذلك ممكن عنده ضمن سلسلة متدرجة من التنبهات.. أولى حلقاتها تنبه الذات إلى الذات…
الحلقة الثانية تنبه الذات إلى نقيض الذات أو (مقابله).
ثم الحلقة الأخيرة، جمع الذات إلى ما يقابله (أو بالأحرى.. ملاحظة علاقتهما ببعضهما).
وفي شرح هذه النظرية اضطر فيخته إلى التمسك بأفكار مثالية.. أبرزها وحدة العلم والمعلوم.. وذلك حيث قال:
(ان ما يحدد الذات ليس سوى الذات نفسه).
ويتساءل: لماذا لا يمكن معرفة النفس بدون مقابلتها مع أشياء أخرى؟
فأجاب: (لأن النفس كالماء لا ترى إلا من خلال ظرف معين وتحديد النفس بالمقابلة يعتبر كالظرف الذي يحدد الماء. فيجعل رؤيته ممكنة). فمجمل نظرية فيخته في منهج المعرفة، أن حقيقة المعرفة هي استيقاظ الذات على نفسها، وبسبب ان هذا الاستيقاظ لا يتم بغير تحديد النفس بالأشياء تحصل المقارنة، ثم تحصل المعرفة بالأشياء من خلال هذه المقارنة.
وبالرغم مما في فلسفة فيخته من مثالية واضحة، فإن فيها عنصرا موجبا هو التالي:
ان النفس البشرية هي الوسيلة التي تدرك بها الأشياء، ولكنها لا تستطيع أن ترى شيئا بدون تنورها هي، أو بالأحرى توعيتها على ذاتها، ويقظتها لإمكاناتها الكامنة.. ويتم ذلك بمقارنة داخلية تتم بين النفس والخارج.
والنفس لا يمكن ان تكتشف حقيقة ما، دون ان تعتمد على مقاييسها المفطورة عليها، ولكن من جهة أخرى لا يمكن ان تعتمد النفس على هذه المقاييس دون الإيمان بها والثقة بإمكانية استثمارها في سبيل التعرف على الأشياء.. وهذا الإيمان، يأتي نتيجة وعي الذات لما فيه من إمكانات، وثقته بالتالي بقدرة هذه الإمكانات على تحقيق التطلعات.
إذا وعي الذات بداية كل معرفة، وفائدة الجدل ناشئة من قدرته على تنبه الفكر بذاته، هذا بالإضافة إلى أن المقارنة التي تتم في الجدل تبين مراحل التفكير الثلاث.. مرحلة الرؤية المبسطة، حيث يبصر الإنسان ـ جانبا واحدا وجامدا من الأشياء ـ ثم مرحلة الرؤية المركبة ـ حيث يكشف الإنسان وجود جوانب جديدة للأشياء يعتقد بأنها متناقضة كليا لرؤيته الأولية ـ ثم مرحلة الرؤية المحللة ـ حيث تتم المعرفة الناضجة نسبيا ـ وفيها نعرف إمكانية جمع الرؤية الأولى مع الرؤية الثانية إذ أن كلا منهما كان من زاوية مختلفة ومثال ذلك رجل يرى عمودا أحمر، فيزعم أن الحمرة هي لون العمود بكل جوانبه، ولكنه ما أن يدور حول العمود يرى ان لون سائر جوانبه أبيض.
وهنا ينشأ عنده تناقض بادئ الرأي ويقول:
كيف صار العمود كله أحمر وكله أبيض؟ ولكنه ينتبه فجأة إلى إمكانية الجمع بالقول أن جانبا من العمود أحمر، وجانبا أبيض.
وهكذا تميز الفكر البشري بأدوار ثلاثة:
1- دور التفكير الحاد الإيجابي.
2- دور التفكير الحاد السلبي.
3- دور التفكير اللين المحلل، وهو بالضبط دور المعرفة.
والجدل.. إحدى الوسائل التي تنقلنا من دور لآخر إن استطعنا استخدامه ببراعة.
وقد رفض من جاء بعد فيخته الأسس المثالية التي بنى فلسفته عليها، بينما قبلوا بعض آرائه في المنهج ومن أولئك شبلنك.
شبلنك:
كان يعيش بين عامي (1775- 1854) وكان يعتبر من أتباع فيخته وأيضا من أتباع كانت، وكان قد تمسك منهما بفكرة واحدة هي:
إن معرفة الأشياء رهينة معرفة الذات.. فبداية كل علم هو علم الإنسان بنفسه، لأنه يكشف لنا كيف نقارن بينها وبين سائر الأشياء.
ولكن الذي تابع هذه الأفكار إلى نهايتها وترجمها إلى مناهج عملية، كان هيجل.

نظرية هيجل
في ألمانيا كان يعيش بين سنتي (1770 – 1831م). حاول جمع الفلسفات القديمة إلى بعضها، حتى يكاد يرى في فلسفته من كل نظرية تاريخية أثر مبين.
ابتدأت محاولته التوفيقية من الفهم والعقل، فالفهم الذي اعتبره (كانت) نهاية المعرفة ليس سوى بدايتها، والعقل أو التعقل هو المرحلة الثانية. والفهم يعتمد على ثلاث قواعد عند هيجل:
1- قاعدة الهوية.
2- قاعدة التناقض.
3- قاعدة الثالث المرفوع.
بينما التعقل يتجاوز هذه القواعد الثلاث، ولا يتحدد بموجباتها، إذ ان التعقل بوتقة تسع كل القواعد السابقة.
وقد استطاع هيجل بعد جهد فلسفي التوصل إلى ما زعم انه المرحلة الثانية للفهم وهو التعقل. وقال انه يتم بعد تعقل النفس لذاتها ثم تعقل ما يقابلها ثم الجمع بينهما، وكل شيء يدور في هذا المحور أعرفه وأعرف ما يقابله ثم أعرف النسبة بينه وبين ما يقابله. فمعرفة الضوء غير ممكنة دون معرفة الظلمة، من جهة، ومعرفة العلاقة الموجودة بين الضوء وبين الظلام من جهة ثانية.
أو بالأحرى معرفة الحد بين الشيء وبين ما يقابله، ونوعية النسبة بينهما.
فلا بد للمعرفة من توفيق المتقابلين وجمعهما ليس لمعرفة وجود التقابل بينهما، كما كان هدف فلسفة أرسطو، بل لمعرفة كنه كل واحد منهما، وأن أي شيء هو في الواقع خليط منه ومن مقابله ومناقضه، لأن ما يقابله ويناقضه هو حده وإطاره، وبالتالي طريق لفهمه.
والتطبيق المعروف عن هيجل في هذا الشأن، هو في قضية (الوجود)، التي هي أهم القضايا وأبسطها، وهي بالتالي بداية المسير في موكب الفلسفة عند هيجل، الذي قال فيها: (لا يمكن تصور العدم المطلق ولا الوجود المطلق إلا أنهما لدى التوفيق بينهما ينتج منهما وجود نسبي وعدم نسبي وهوالحق).
إذ ان الوجود المطلق كذب، كما أن العدم المطلق إدعاء كذب. وإنما الصحيح وجود نسبي وعدم نسبي. أو كما تصور هيجل الجمع بينهما، وهو بالتالي جمع بين متناقضين.
ولا يعني هيجل بالجمع ما يرفضه منطق أرسطو (أو بالأحرى الصحيح من منطق أرسطو).
ذلك لأن أرسطو رفض الجمع بين الوجود والعدم في بؤرة واحدة من كل النواحي، وهذا مستحيل عقلا، وقد سبق وأن جعله هيجل مستحيلا، ولكن يعني بالجمع هنا، معناه المطلق الشامل للتحقق في مكان ما وزمان ما، تماما كما مثل لذلك الوجود المطلق والعدم المطلق، وفي تحققهما خارجا، وإنما اعتقد بتحقق الوجود في ظرف والعدم في ظرف آخر.
ويبني هيجل منطقه على فلسفته، والتي في الواقع هي منطقه.
وإذا لم يخلف هيجل منهجا للبحث بالصيغة المعروفة فقد خلف آراء فيها، والتي منها:
1- إن الأشياء لا بد أن تعاد إلى أصولها البسيطة، والتي بالرغم من عدم أهمية معرفتها لأنها بسيطة ومعروفة (وسهلة التناول). بالرغم من ذلك فهي هامة، لأنها أساس كل معرفة.
2- لا بد أن نضع كل شيء بازاء مناقضه ومقابله.
3- ثم نلاحظ النسبة بينهما بالجمع بينهما، أو بالأحرى بمحاولة معرفة الشيء بنقيضه.
وبالتالي، توجد في منطق هيجل، فكرة موجبة يمكننا التركيز عليها والاستفادة منها، وهي:
إن غور العقل يختلف عن ظاهر الفهم، إذ الفهم هو المكلف بتبسيط الحقائق، وترتيبها ووضع الحدود النهائية والا بدية لها.
بينما العقل مكلف بكشف الأشياء والوصول إلى عمقها البعيد. والعلاقة بين الفهم والعقل كالعلاقة بين السكرتير والرئيس.
فالأول مسؤول عن تنظيم وترتيب المواد التي يجب على الرئيس إعطاء الرأي الحاسم فيها.
والفكر إذا جمد على الفهم ابتلي بما ابتلى به منطق أرسطو وتابعيه، واذا تجاوزه بلغ ما بلغه العلم الحديث. والسؤال: ما هو غور العلم الذي يتجاوز ظاهر الفهم؟
الجواب: إنه معرفة العلاقة الإيجابية بين الأشياء، أي معرفة مدى تفاعل الأشياء مع بعضها. وهذا يمكن عند هيجل بالطباق، وهو عملية التوفيق بين الشيء ومقابله.
فهذه العملية ليست غاية في ذاتها، إنما هي وسيلة لمعرفة النسبة بين الأشياء، ولكن لا يظن أننا نعود إلى منطق أرسطو حينما نركز على ضرورة فهم النسبة بين الأشياء والصلة التي تربطها ببعضها لأن أرسطو، كان يريد فصل الاشياء عن بعضها وبالتالي فهم العلاقة السلبية بينها.
بينما نحن نحاول معرفة الصلة الإيجابية بينها، وبالتالي معرفة مدى التفاعل الموجود بين أجزائها.
والمنهج الحديث بعد هيجل اخترع سبلا أخرى لمعرفة التفاعل منها: معرفة الشدة والضعف، والتي تعيد الحقائق إلى مصدر واحد.
يقول الدكتور زكي نجيب محمود بهذا الشأن:
(وقد كان العلم القديم قائما على أساس الصفات الكيفية لا على أساس المقادير الكمية، ـ مثال ذلك ـ أن يقال عن ألعالم انه مكون من العناصر الكيفية الأربعة: التراب والهواء والنار والماء. وهذه تتألف من تركيبات من الأضداد الآتية: رطب ويابس… بارد وحار.. ثقيل وخفيف.
فلم يك يعنيهم بل لم يك يطوف ببالهم أن هذه الأضداد إنما هي أضداد من ناحية الكيف فقط. أما إذا أردنا أن نحددها بدرجاتها الكمية فعندئذ لا يكون البارد مضادا للحار بل يصبح هذان درجات متفاوتة من ظاهرة واحدة.
والذي يعني به هذا العلم هو درجة حرارية مقدارها كذا.. فالمهم هو التفاوت الدرجي).
ثم يضيف الدكتور قائلا: (وتفرع عن الاختلاف السابق اختلاف آخر بين العلم اليوناني والعلم الحديث. فإذا كانت الطبيعة عند اليونان مؤلفة من كيفيات تختلف بعضها عن بعض، فليس الحار هو البارد، وليس الثقيل هو الخفيف، وليس الرطب هو اليابس وهكذا.
إذن، فالطبيعة قوامها أنواع متباينة لا يمتزج بعضها ببعض كأنما أقيمت بينها الحواجز التي لا تدع نوعا منها ينساب في نوع آخر. وصميم المعرفة، بناءا على ذلك، أن نلم بهذه الأنواع عن طريق تعريفاتها التي تحددها تحديدا فاصلا حاسما. وأما العلم الحديث فأساسه على النقيض من ذلك.. إذ إنه يحطم هذه الحواجز بين الأنواع المزعومة ليجد ما بينها من تجانس مردها جميعا إلى أساس واحد هو: المادة والحركة، أو هو ما شئت غير ذلك من أسس تتألف من مدركات كمية وبهذا يرتد العالم إلى تجانس في الكيف واختلاف في الكم وحده). (مقدمة على (المنطق نظرية البحث) ص 19-21).
هذه هي العناصر الإيجابية التي نستطيع استفادتها من فلسفة هيجل، ولكن تطورات هذه العناصر إلى خرافات حينما اتخذت سلاحا سياسيا، هاجم به الماركسيون الفكر الديني والخلقي.
لقد أراد هيجل أن يكون منطقه بداية عصر علمي زاهر فأصبح لدى الماركسية نهاية هذا العصر.
لقد قال هيجل ذاته: (إن كل فلسفة كانت ولا زالت ضرورية ومن ثم فلم تمح فلسفة منها ولكنها كلها محتواة بشكل إيجابي كعناصر.
لكننا يجب أن ننظر إلى المبدأ الخاص لهذه الفلسفات كشيء خاص، ويحقق هذا المبدأ خلال البوصلة الكلية للعالم.
وأشد الفلسفات حداثة إنما هي نتيجة كل الفلسفات السابقة، ومن ثم فلا توجد فلسفة تم دحضها.
إذ إن ما تم دحضه ليس مبدأ هذه الفلسفة بل مجرد ان هذا المبدأ يجب اعتباره نهائيا ومطلقا بالطبع).
فإنما أراد هيجل من وراء فلسفته إحتواء العناصر الإيجابية الموجودة في كل فلسفة تم صياغتها بشكل لا يتعارض مع بعضها.
هذا كان العامل النفسي من وراء نظرية الجدل، بينما استخدمت هذه النظرية بالضبط فيما يناقض هذا المبدأ، فأصبحت من أسباب العنف الفكري.

القسم الأول
عن تطور البحث المنطقي
البحث الثالث عن:
اتجاهات المنطق الحديث
كلمة البدء.
المنطق القياسي.
المنطق التجريبي.
المنطق الاجتماعي.

كلمة البدء
في القرن العشرين توضحت إتجاهات المنطق المختلفة، وأخذ العلم الحديث يستثمر كل هذه الاتجاهات في تطوير البحوث وتعميقها. وقبل ان نلقي نظرة إجمالية على هذه التجاهات يجدر بنا ان نعيد تاريخ المنطق، والأهداف العلمية التي حاول الفلاسفة تحقيقها من وراء المنطق.
أسئلة تبحث عن جواب:
من أين تأتي المعرفة؟ وكيف تتطور داخل القلب؟ ومن أين يأتي الخطأ، وكيف يمكن التحامي عنه؟ ثلاثة أسئلة رئيسية تبحث الفلسفة عن أجوبة لها في المنطق.
ومن الطبيعي أن يكون السؤالان الآخران مندمجين مع بعضهما. وقد سبق في بحوثنا السابقة أن بينا كيف إختلفت الفلسفات في الإجابة على هذه الأسئلة.. وإني أوجزها فيما يلي:
عن السؤال الأول:
فعن أول الأسئلة الذي قد يعبر عنه بـ(البحث عن مصادر المعرفة) أجابت مدارس:
أ- المدرسة المثالية: قالت إن مصدر كل معرفة ذات النفس، والوهم الذي تنطوي عليه وتدعى بمذهب بيرون والسوفسطائيين، وقد تسمى بمذهب (أصالة التصور).
وقد عبر عن هذه المدرسة زعيم السوفسطائيين اليوناني (بروتاجوراس) بالقول: إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا تلك التي توجد على أنها موجودة، وتلك التي لا توجد على أنها غير موجودة.
واتبع هذه المدرسة كثيرون.. ظهرت آثارها في المدرسة المشككة.
ب- مدرسة الشك، قالت: دعنا لا نعتقد بأصالة الذات، وأصالة التوهم في المعرفة. ولكننا لا ريب نستطيع الشك في صحة معارفنا بسبب أدلة أولئك الناس الذين يقولون بأصالة التوهم. وكان أبرز هؤلاء الشكاكين في القرون الأخيرة (هيوم).
وعادت مدرسة الشك تنشط بعد ظهور الفيزياء الذرية، التي أطاحت ببناء الفيزياء القديمة.
وكانت مدرسة الشك عاملا قويا لظهور مدرسة النسبية.
ج- المدرسة النسبية، قالت: إن المعرفة هي الحقائق الخارجية لكن ممزوجة ببعض الإضافات الذاتية. وقد أيد هذه المدرسة كانت تأييدا قويا، لكنها تطورت من بعده حتى خرجت من حقل الفلسفة إلى حقل العلم. وأخذت النسبية اليوم ـ حسبما سيأتي الحديث عنها ـ معنى عدم اكتمال العلم، وعدم إطلاق مفاهيمه.
د- مدرسة الحس، قالت: ان المعرفة حصيلة الإحساس بالأشياء الخارجية. بصورة ساذجة، أو مركبة. وقد أيدت هذه المدرسة بنظريات لوك، وتلقى اليوم رواجا عظيما عند الفلاسفة المحدثين.
هـ- المدرسة العقلية، وقالت: إن مصدر المعرفة هو العقل والحس معا.
والقارئ الذي تابع تاريخ الفلسفة ـ معنا ـ يعرف أن الألفاظ المستخدمة هنا لا تعني كلها معنى واحدا عند جميع الفلاسفة، وإنما أردنا بذلك إعطاء فكرة عامة عن جواب السؤال الأول: من أين تأتي المعرفة؟ وقد اختلفت الإجابة عن هذا السؤال بما لا نظير له في سائر بحوث الفلسفة لأنه بداية كل مدرسة فلسفية، ومنطلقها الأول.
عن السؤال الثاني:
وأجابت عن السؤال الثاني عدة مدراس. وكلها تتصور المشكلة من زاويتها الخاصة، ولكن يمكننا جمعها مع بعضها على مائدة الهدف المشترك الذي استهدفته جميع المدارس، وهو:
البحث عن كيفية تصرف العقل البشري بما يزوده بها مصادر المعرفة المختلفة، من حس وعقل وتوهم و… و… أو بالأحرى، البحث عن طبيعة الاستدلال، أو حسب تعبير بعضهم عن قوانين الفكر الداخلية التي تتحكم في معارفنا.
ولهذا البحث وجهان: فطرف منه ينتمي إلى الفلسفة حيث يهدف تعيين الوسيلة التي يستعين بها الذهن لكشف الحقائق. بينما الطرف الآخر، ينتمي إلى منهج البحث حيث يعين الوسيلة التي ينبغي أن يستعين بها الفرد لتركيب القضايا وكشف الحقائق. والوجه الأول يبحث عن الواقع الموجود فعلا، بينما الوجه الثاني يبحث عن الواقع الذي ينبغي أن يوجد. ومن الطبيعي أن يكون الوجه التالي هو موضوع الجواب عن السؤال الثالث.
وأجابت عدة مدارس عن كيفية التعقل و(التفكير) فقال ديكارت: ان العقل يتبع ذات القوانين التي تعكسها الرياضيات، من تحليل وتركيب.. بينما حاول كانت ربط العمليات العقلية بقوالب فكرية، زعم أنها هي التي تصعد التصورات الجزئية، وتصنع منها حقائق عامة.
وقال لوك بالمراحل الأربع التي يتدرج عبرها الفكر حتى يصل إلى الحقائق: مرحلة الإدراك والحفظ، فالتمييز ثم التقييم. وزعم ـ هيجل ـ وفيخته وآخرون، أن الطريقة التعقلية تتلخص في الجدل، الذي ينتقل من الشيء إلى ما يقابله، ثم جمعهما مع بعضهما .
عن السؤال الثالث:
والذي يختلف الفلاسفة في أسلوب طرحه.. جاءت عدة إجابات عنه مختلفة وهي تلخص نهاية المسيرة الطويلة للمنطق، والتي نجدها حتى اليوم تحاول ليس فقط البحث عن مصادر الخطأ، بل وأيضا وضع مناهج عملية لدرئها. وليست الإجابات حتى الآن مكتملة، انما هي متطورة إلى الكمال جنبا إلى جنب مع تطور العلم الحديث، وأيضا بحوث الفلاسفة البدائية وهي تتنوع إلى إجابات نشرحها بإيجاز، ونبين بإذن الله أصول أفكارها حول طريقة تجنب الخطأ.
والمدارس المنطقية الرئيسية التي تكفلت بالإجابة عن هذا السؤال ثلاث:
المنطق الاستنباطي والمنطق التجريبي والمنطق الاجتماعي، بالرغم من وجود أنواع أخرى للمنطق، كالمنطق الجدلي، والوضعي، والبرجماتي. إلا أن هذه الثلاثة أشبه شيء بآراء فلسفية، منها بمناهج البحث.
لذلك نؤخرها في استعراضنا الآن.

المنطق الاستنباطي
جوهر هذا المنطق أن خطأ الإنسان ناشيء من بلبلة العمليات الفكرية التي يجريها، فإذا انتظمت انتهت أخطاؤه.
لكن، كيف تنظم العملية الفكرية؟
لا بد أن نضع قواعد للاستنباط تسير وفقها العملية الفكرية وتنتهي أخطاؤها.
هذا جوهر منطق الاستنباط أما الصورة التي أوضحت هذا الجوهر والتي تطورت من عصر لعصر، فإنها لا تعرف الا بتفصيل عدة نقاط:
ما هو الاستنباط؟
الاستنباط توضيح للعلاقة القائمة بين صحة فكرة وأخرى. فالعلاقة الموجودة بين موت كل الناس، وموت محمد (ص) التي يكشفها الاستنباط التالي:
كل الناس يموتون؛ ومحمد من الناس؛ فهو أيضا يموت.
وبطبيعة الكلمة (الاستنباط) فهي دالة على ان النتيجة كانت موجودة سلفا في المقدمة، وانما وضحها الاستنباط. فكما أن الماء لا بد أن يكون موجودا في البئر قبل ان نستنبطه (أي نخرجه)، كذلك المعرفة (بالنتيجة) ليست سوى صورة أخرى لمعرفتنا بالمقدمة لا غيرها ولا أكبر منها.
ويفترق الاستنباط في هذه الناحية عن الاستقراء فإنه لا يعطينا ـ عادة ـ معرفة جديدة لم تكن لنا قبلا. فمثلا القضية التالية:
هذه النار حارة ومحرقة، تلك النار حارة ومحرقة، النار التي كانت أمس كانت أيضا حارة ومحرقة، إذا كل نار حارة ومحرقة. إن هذه الصورة الاستدلالية تفترق عن الصورة الأولى في أنها إنطوت على زيادة في المعارف، هي التي قالت لنا ان كل نار حارة ومحرقة. لذلك نستطيع في الطريقة الاستقرائية التنبؤ بالمستقبل بالقول مثلا في القضية السابقة: إذا النار التي سوف توجد في المستقبل حارة ومحرقة، دون ان نستطيع مثل ذلك في الطريقة الاستنباطية.
وحتى في القياسات المستخدمة في الرياضيات، ليست النتيجة أعم من المقدمة حسبما زعم بعض الناقدين، وقال: ان الرياضة ـ وهي تفكير قياسي استنباطي بمعنى الكلمة ـ تنتقل من الحالات الخاصة إلى حالات أشد منها عموما.
ذلك لأن قياس الرياضيات نابع من طبيعتها، والتي هي لا تعدو أن تكون طبيعة مجردة وكلية. فمثلا هذا المثلث حاد الزوايا وهي تساوي كذا.
فكل مثلث حاد الزوايا كذا…
حتى هذا المثل الذي يبدو انتقالا من الجزئي إلى الكلي، ليس سوى انتقال من الكلي إلى مثله، إذ قولنا في البداية هذا المثلث ليس جزئيا ما دام في الرياضيات، لأن المراد من هذا ليس طبيعة المثلث، وما فيه من مواد كيماوية، بل المراد منه مجرد شكله والشكل عام لا خاص.
وقد لخص (كلود برناد) فكرته عن العلاقة بين القياس والاستقراء، في ان للاستدلال صورتين إحداهما خاصة بالبحث، وهي الاستدلال الاستقرائي، والأخرى خاصة بالبرهنة، وهي الاستدلال الاستنباطي وإن هاتين الصورتين تستخدمان في كل العلوم سواء كانت علوما رياضية أم تجريبية، لأن هناك استيفاءا يجهلها الإنسان فيضطر إلى استخدام الاستقراء في الكشف عنها وأشياءا يعتقد أنه يعلمها فيستعين بالقياس في عرضها على طريقة البرهان. ثم يقول: إن طريقة التفكير واحدة لدى كل من عالم الرياضة وعالم التاريخ الطبيعي، فليس ثمة فارق بينهما عندما يتناولان الاهتداء إلى المبادئ التي يستخدمها كل منهما في الاستدلال.
إذا الاستدلال القياسي لا بد منه حتى ولو اتجهنا ناحية الاستقراء.. وذلك لأن الاستقراء آنئذ يكون من المحتويات التي يصوغها القياس ليستنبط منها معلومات أخرى.
ويعود السبب في الهجوم على القياس من قبل قسم كبير من الفلاسفة إلى أولئك الذين تبنوا فكرة القياس، وأشادوا بها، لا إلى القياس ذاته ذلك لأنهم استغنوا بالقالب عن المضمون، واكتفوا ببعض أقسام القياس وزعموا بأن نتائجها عامة وجازمة ومطلقة مما أثار سخط العلماء جميعا. نعم هاجم ديكارت القياس، ولكنه عاد وأكده في صورة جديدة.
وقد واكب الاستدلال الاستنباطي التقدم العلمي وكانت له مراحل أربع:
1- المرحلة الأولى: ابتدأت باقتباس أرسطو بعض المبادئ الرياضية في المنطق، وظهر على شكل منطق الفئات، وهو المنطق الذي يبين كيفية سحب علم الفئة إلى أفرادها. فيكون سقراط من فئة الناس، له حكم الناس، فإذا الإنسان فانٍ (وبما ان سقراط إنسان فإن سقراط فان). وقد سبق موضوع مستقل حول منطق أرسطو وما له وما عليه.
2- المرحلة الثانية: وبعد آلاف السنين ظهرت عدة تطورات في المنطق الأرسطي على يد الفلاسفة المسلمين. ولكن طمست معالمها مع الزمن.. ثم ظهرت على شكل منطق العلاقات الذي تجاهله المنطق الأرسطي بالرغم من قرب صلته به، وهو المنطق الذي يحدد الرابطة الثابتة بين حقيقة وأخرى… بالرغم من انها ليست من نوع رابطة الفئة بأفرادها.
فمثلا: إذا كان إبراهيم أبا إسحاق فإن علاقة الأبوة لا يمكن التعبير عنها في الصورة الاستدلالية، التي اقترحها منطق ارسطو، انما هي بحاجة إلى صورة أخرى.
هكذا، إذا كان إبراهيم أبا لإسحاق كان إسحاق إبنا لإبراهيم.
وقد تطور منطق العلاقات منذ اقترح ديكارت سحب منهج الرياضيات إلى العلوم، وزعم بأنه ذلك المنهج السليم الذي يبلغ بالعقل إلى جميع العلوم.. ويتميز المنطق الحديث بأنه حقق تطوره من ميدان الرياضيات، وليس من داخل الفلسفة نفسها.
3- المرحلة الثالثة: بدأ المنطق الاستنباطي يتطور إلى منطق رمزي وأول من اقترح ذلك بوضوح كان الرياضي، الذي اهتم بالمنطق، وهو ليبينتس، حسبما سبق الحديث عنه. وقد كانت النتائج ثورية لكن الاجراءات العلمية لم تساعد تطور المنطق الرمزي الا بعده بقرن ونصف، أي في القرن التاسع عشر.
ولو نظرنا إلى هذا القرن في تاريخ الفكر بدا هذا التطور طبيعيا. إذ في هذا القرن طبق على مجال المنطق، ما طبق على غيره من حقول المعرفة من البحث عن صيغة قابلة للتطبيق العملي وهي الصيغة التي أحرزت نجاحا كبيرا في كل العلوم. وذلك بدوره جاء نتيجة طبيعية لتعقد التفكير العلمي وازدياد دقته .
وأهمية اكتشاف المنطق الرمزي، نابعة من قدرته على تطوير جوهر المنطق الصوري، بالرغم من أنه اتجه ناحية أسلوب البيان فيه، ذلك لأن جوهر المنطق الصوري لا يعدو البحث عن لغة سليمة للتفكير تسهل عملية الاستنباط وإدخال الرموز إلى هذا المجال. ولقد سهل المنطق الرمزي هذه العملية، إذ إن تشابك عدة حقائق مع بعضها يجعل من الصعب جدا استنباط الفكرة منها إذا أردنا التعبير عنها باللغة المعتادة بيد أنه لو بدلنا هذه اللغة إلى رموز استطعنا بسهولة معرفة ارتباطات هذه الرموز، وبسهولة تمكنا من تطبيقها على الواقع الخارجي، تماما كالحساب الذي يصعب علينا فهمه لو أردنا التعبير عن ذات الأشياء بينما حين نجردها إلى أرقام يسهل ذلك.
من هنا ليس التدوين الرمزي أداة لحل المشكلات فحسب، بل انه أيضا يفصح المعاني ويزيد من القدرة على ممارسة التفكير المنطقي .
ولقد أتاح بناء المنطق الرمزي البحث في العلاقات بين المنطق والرياضة من زاوية جديدة، هي زاوية توحيد العلمين مع بعضهما.
فلماذا يوجد لدينا علمان يبحثان واقعا واحدا هو نواتج الفكر المجرد؟ من هنا قام برتراند رسل والفرد نورث وايتهد بدارسة هذه المشكلة وخرجا بنتيجة هامة: ان الرياضيات والمنطق هما بالتالي علم واحد، وإن الرياضة ليست سوى فرع من فروع المنطق، وجهت فيه عناية خاصة للتطبيقات الكمية، بينما سائر الفروع لم تتلق هذه العناية قديما .
لكن بما ان العلوم الحديثة تتجه اليوم إلى الجانب الكمي، تاركة الجانب الكيفي للبحوث القديمة، فإن منهج البحث فيها يتجه هو الآخر إلى المنهج الكمي الذي هو من خصائص منهج الرياضيات. وبالتالي يكون منهج الرياضيات شاملا للمنطق.
4- المرحلة الرابعة: وبالتالي نجحت الفكرة القائلة بضرورة تحويل المنطق الصوري إلى منطق رياضي بعد إدخال مبادئ المنطق في الرياضيات.
يقول كاروتشيد: إنني سأستخدم المنطق الرياضي لكي أعبر به بمجموعة المبادئ الخاصة، بالبنية العقلية المتعلقة بالنظريات الرياضية .
ويقول هيلبرت واكرمان: إن المنطق الرياضي، ويسمى كذلك بالمنطق الرمزي، امتداد للمناهج الصورية الخاصة بالرياضيات إلى مجال المنطق .
ومن هنا نعرف المنطق الرمزي هو بالذات المنطق الرياضي اللهم الا في الفرع الذي يهتم به المنطق الرياضي، وهو الرياضيات ولا يهتم به بالخصوص المنطق الرمزي.
المنهج التجريبي:
الفرق الكبير بين المنهج التجريبي والمنهج الاستنباطي ، يكمن في أن المنهج التجريبي، يسعى من أجل بلوغ المزيد من المعرفة من خلال تنظيم الملاحظة، وتنسيق المعارف الجزئية الناشئة منها.
والمنهج التجريبي مر بمراحل عديدة حتى صار بوضعه الحالي.
ولا ريب أن مخاض المنهج التجريبي كان عسيرا، إذ استمر يحاول الظهور منذ عهد سقراط، بل ومن قبله. إذ ان فلسفة اليونان (كثيرا ما كانت تشمل أجزاءا نعدها اليوم منتمية إلى مجال العلم التجريبي، كالنظريات الخاصة بأصل الكون، أو بطبيعة المادة، ومن هذا القبيل مذاهب التجريبيين اليونانيين، التي نجدها في الفترة السابقة على سقراط، وكذلك في الفترة المتأخرة للفلسفة اليونانية).
(ولقد كان أبرز هؤلاء الفلاسفة هو ديمقرايطس (Democritus) وهو معاصر لسقراط، يعد أول من طرأت على ذهنه الفكرة القائلة، ان الطبيعة تتألف من ذرات، ومن هنا كان يحتل مكانه في تاريخ العلم، فضلا عن تاريخ الفلسفة..) . (ويمكن ان يعد الشكاك من بين الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يعتقدون أن المعرفة، لا بد ان تكون يقينية على نحو مطلق، وقد أدرك كارنيدس (Carneddes) في القرن التاسع ق.م. أن الاستنباط لا يمكنه تقديم مثل هذه المعرفة، لأنه لا يقتصر على استخلاص نتائج من مقدمات معطاة، ولا يستطيع اثبات صحة المقدمات، كما أدرك انه لا ضرورة للمعرفة المطلقة، من أجل توجيه الإنسان في حياته اليومية. والواقع أن كارينادس بدفاعه عن الرأي الشائع، وعن الاحتمال، قد أرسى دعائم الموقف التجريبي في بيئة عقلية) . كان اليقين الرياضي، يعد فيها الصورة الوحيدة المقبولة للمعرفة. وقد استمر الاتجاه إلى التجربة، عن طريق الشك في المعلومات العقلية المجردة، في القرون التالية. وكلما كانت تقوم حضارة ترتفع أسهم الحركة التجريبية ولكن ظل الاتجاه العام في الفكر هو الاتجاه العقلي، أما التجربة، فقد كانت من خصائص أصحاب الحرف، والصناعات، وفي بعض الأوقات الأطباء، وقد كان سكتس ايرامبيريكوس (---tus Erampiricus) في حوالي العام 150 م رائدا لمدرسة الأطباء التجريبيين، مع أنه كان شكاكا.
وحين انبثقت الحضارة الإسلامية، وجاءت معها بروح علمية جديدة، واستخدمت العلم أداة لتطوير الحياة، نشطت الحركة التجريبية، وظهر في علماء المسلمين، كثيرون اعتمدوا التجربة منهجا أساسيا في المعرفة، وأبرزهم كان جابر بن حيان في القرن الثاني للهجرة .
كذلك كان الحسن بن الهيثم، تجريبيا اشتهر في الغرب بمؤلفاته في حقل البصريات، إلا أن أفول نجم المسلمين، رافقه ضعف في حركة التجربة، وانعطاف جدي إلى المناهج العقلية. وفي الغرب شهدت الفترة هذه جمودا حضاريا، إنعكس، بالطبع، على المدرسة التجريبية، حيث كانت الفلسفة في القرون الوسطى (إسم يطلق على هذه الفترة بالذات) من اختصاص رجال اللاهوت، الذين حصروا أنفسهم على المنهج المدرسي، وأضفوا عليه طابعا دينيا وأبعدوا المنهج التجريبي بالطبع عن واقع الحياة.
وفي بقعة الظلام المحيطة بالعصور الوسطى، ظهر بصيص نور متمثلا في فلاسفة من أمثال: روجر بيكون، الذي كان من الذين نقلوا روح التجربة العلمية، من بلاد المسلمين إلى الغرب ، وبيتر أوريولي ووليم الأوكامي و…
وبظهور العلم الحديث، في حوالي عام 1600، بدأ المذهب التجريبي يتخذ شكل نظرية فلسفية إيجابية، قائمة على أسس متينة، يمكن أن تدخل في منافسة ناجحة مع المذهب العقلي .
وقد سبق أن تحدثنا بإسهاب عن مذاهب فرانسيس بيكن (1650 –1626) وجون لوك (1632 –1704)، وآخرين من الذين أسهموا في بناء المنهج التجريبي الحديث.
ان ذلك كان جانبا واحدا فقط من جوانب المنهج التجريبي. وهو الجانب النظري منه فقط، وهناك جانب آخر للمنهج التجريبي، هو الجانب العملي منه، وهو ذلك الجانب الذي يعتمد على (صنع ظاهرة)، من ظواهر الحياة ثم ملاحظتها، ودراسة أسبابها وميزاتها وطرق التحكم فيها.
ويفترق هذا الجانب عن ذاك في أمرين:
1- إن صنع الظاهرة، يخضع لشروط الباحث نفسه، ويستطيع بذلك إبعاد كافة الملابسات التي قد تشوش الرؤية، وتعوق دون فهم حقيقة الظاهرة، والعوامل الأساسية المؤثرة في ظهورها.
بينما ملاحظة ظاهرة طبيعية لا تخضع لشروط الباحث، وتتداخل فيها عوامل عديدة، يصعب تمييز العامل الحاسم من بينها.
2- إن التجربة النظرية، هي حصيلة العلوم النظرية التي لا تحتاج إلى جهد إضافي، بينما التجربة العملية، هي من نوع القيام بعمل تغيير في الحياة، ويحتاج إلى جهد، والى ايجاد شروط صعبة في الحياة، ولذلك استطاع العلماء ـ اليونان ـ اكتشاف أهمية المنهج التجريبي، نظريا، بينما لم يقدروا على إجراء أبسط التجارب العملية، التي لو أنهم جربوها لكانوا اكتشفوا حقائق كثيرة.
فمثلا: الفكرة القائلة أن الشمس والأرض والكواكب، تتحرك حولنا لم تكن مجهولة لليونانيين، فقد اقترح أرسطوفوس الساموسي (Aristarchus of Samos) بصواب فكرة النظام المتمركز حول الشمس، في حوالي عام 200 ق.م، ولكنه لم يتمكن من اقناع معاصريه بصواب رأيه، ولم يكن في استطاعة الفلكيين اليونانيين أن يأخذوا برأي أرسطوفس لأن علم الميكانيكا، كان في ذلك الحين في حالة تأخر، مثال ذلك ان بطليموس اعترض على أرسطوفوس بالقول: أن الأرض، ينبغي ان تكون ساكنة، لأنها لو لم تكن كذلك، لما سقط الحجر، الذي يقع على الأرض، في خط رأسي، ولظلت الطيور في الهواء، متخلفة عن الأرض المتحركة، وهبطت إلى جزء مختلف من سطح الأرض، ولم تجر تجرية إثبات خطأ حجة بطليموس، الا في القرن السابع عشر، عندما أجرى الأب جاسندي (Gassendi)، وهو عالم وفيلسوف فرنسي كان معاصرا لديكارت وخصما له، أجرى تجربة على سفينة متحركة، فأسقط حجرا من قمة الصاري ورأى انه وصل إلى أسفل الصاري تماما. ولو كانت ميكانيكا بطليموس صحيحة لوجب ان يتخلف الحجر عن حركة السفينة، وان يصل إلى سطح السفينة، عندما يقع في إتجاه مؤخرتها.
وهكذا أيد جاسندي، قانون جاليلو، الذي اكتشف قبل ذلك بوقت قصير، والذي يقول: ان الحجر الهابط يحمل في ذاته حركة السفينة، ويحتفظ بها وهو يسقط.
فلماذا لم يقنع بطليموس بتجربة جاسندي؟ ذلك لأن فكرة التجربة العلمية متميزة من القياس والملاحظة المجردة، وهي لم تكن مألوفة لليونانيين . وهكذا عرفنا أن هذه التجربة البسيطة، لو أجراها العلماء اليونانيون، لكان علم الفلك الحديث قد تقدم أربعة آلاف سنة. ان ذات التجربة التي قام بها جاليلو، كان بالإمكان أن يقوم بها بطليموس لو أنه لم يكتف بمجرد ملاحظة الظاهرات الكونية، وصياغة النظريات العامة!
إلا أن الذي حدث فعلا، كان مختلفا عما يتمناه الإنسان اليوم، وهو أن البشرية بلغت مرحلتها المتقدمة، من العلم منذ القرن الخامس عشر، حيث دخل في الأوساط العلمية، وليد جديد هو العلم التجريبي العملي. (حيث كان جاليلو (1564-1641) أول من وجه التلسكوب الذي اخترعه صانع عدسات هولندي إلى السماء، في إيطاليا. واخترع إيطالي آخر كان صديقا لجاليلو، هو توريشيلي (Torricelli) البارومتر، وأثبت أن للهواء ضغطا يقل بازدياد الارتفاع. وفي ألمانيا اخترع جوريكة (Guericke) مضخة الهواء، وأوضح أمام الجمهور الذي عقدت الدهشة لسانه، قوة الضغط الجوي، بأن تجمع بين نصفي كرة فرِّغ ما بينهما من الهواء، ولم تستطع مجموعة من الخيول أن تفصل أحدهما عن الآخر).
واكتشف هارفي (Hervey) الدورة الدموية، ووضع بويل القانون الذي يعرف بإسمه، والخاص بالعلاقة بين ضغط الغاز وحجمه . وهكذا توالت الاكتشافات، لتفتح نافذة جديدة على عالم المجهول، هي نافذة التجربة العملية.
الجمع بين التجربة والاستنباط:
في بداية عهد المنهج التجريبي كان الاتجاه السائد، هو الاكتفاء به عن المنهج الاستنباطي. ولكن هيوم كان أول قائد حقيقي جاء في فورة الغرور التجريبي، ليوجه انتقادا حقيقيا إلى التجربة، حيث ذهب هيوم إلى انتقاد خلاصته استحالة التدليل على مشروعية الاستدلال الاستقرائي. وقال: فما هو الدليل على إمكان الاعتماد على التجربة؟ هل التجربة ذاتها؟ إذا تلك العملية تدور في حلقة مفرغة (التجربة، دليل الصحة للتجربة ذاتها، أليست هذه حلقة مفرغة؟) ولذلك لا يمكننا ان نعتمد على التجربة في معرفة المستقبل، بالرغم من أننا نقدر على الحصول على علم محدود عن طريقها بالحاضر، فنستطيع أن نعرف بالتجربة ان كل غراب هو أسود لأننا حين أحصينا الغربان، رأيناها جميعا سودا، أما هل نستطيع أن نعرف أن غراب الغد هو أسود أيضا؟ وبأي دليل؟. يقول هيوم: (لعله مجرد عادة نفسية، الاعتقاد بأن الشمس سوف تشرق غدا لأننا لم نتعود أنها لم تشرق. ولكن دون أن نقدر على إقامة دليل علمي قاطع، ان الشمس تشرق أيضا في الغد).
ولقد أدخل هيوم التجربة المجردة، في مأزق حقيقي، وأجبرها على التماس حماية لها، من المنطق العقلي، وانتهى الأمر بالتجربة أن استفادت من الاستدلال الرياضي. وذلك ان هيوم، زعم أنه إما أن يكون صاحب النزعة التجريبية تجريبيا كاملا، ولا يقبل من النتائج سوى القضايا التحليلية المستمدة من التجربة، وعندئذ لا يستطيع القيام باستقراء، ويتعين عليه أن يرفض أية قضية عن المستقبل، وأما أن يقبل الاستدلال الاستقرائي، وعندئذ يكون قد قبل مبدأ غير تحليلي، لا يمكن استخلاصه من التجربة . هذا المأزق دفع بالمنهج التجريبي، للقبول بمبدأ تحليلي رياضي، هو مبدأ الاحتمال، الذي جمع بين النسق التجريبي والمنهج الرياضي، وأكمل الواحد بالآخر. ومن الطبيعي أن نرجع الفضل في ذلك إلى نيوتين الذي أدخل تلك التجربة العملية في بوتقة الفكر الرياضي، واستطاع أن يستخلص منها نظرية ثابتة. والحق ان قصة نيوتن، من أروع أمثلة المنهج العلمي الحديث، فمعطيات الملاحظة هي نقطة بدء المنهج العلمي، غير أنها لا تستنفذ هذا المنهج، وإنما يكملها المنهج الرياضي، الذي يتجاوز بكثير نطاق اقرار ما لوحظ بالفعل، ثم تطبق على التفسير نتائج رياضية تظهر صراحة نتائج معينة توجد فيه بصورة ضمنية. وتختبر هذه النتائج الضمنية بملاحظات هي التي تترك لنا مصحة الإجابة بـ(نعم) أو (لا). ويظل هذا المنهج إلى هذا الحد تجريبيا غير أن ما تؤكد الملاحظات صحته يزيد كثيرا على ما تقوله مباشرة، فهي كسبت تفسيرا رياضيا محددا، أي نظرية يمكن استنباط الوقائع الملاحظة منها بطريقة رياضية . ولقد كان لرجل الرياضة الشهير ج. ف. ليبينتس الفضل في معالجة المشاكل المنطقية من وجهة نظر رياضية. ولقد استطاع هذا الرياضي القدير أن يكشف كثيرا من الحقائق العلمية بمنطقه الرياضي ودون الاعتماد على التجربة. وزعم أن من الممكن رد كل علم إلى الرياضة آخر الأمر.
وبهذه الطريقة المتطرفة أثبت ليبينتس صحة قول جاليلو: بأن الطبيعة قد كتبت بطريقة رياضية والمنطق التجريبي الحديث لا يعدو أن يكون قد كتب هو الآخر بلغة رياضية، والمناهج العلمية المستخدمة فيه تجمع بين صراحة الرياضة وتواضع التجربة.

المنطق الاجتماعي
ونعني به، ذلك المذهب المنطقي الذي يرى الواقع الاجتماعي، مصدرا أساسيا للفكر، ولطريقة التفكير.
وهو يزعم أنه لا بد لنا لكي ندرس منهجا معينا للفكر ان ندرس سلفا البيئة الاجتماعية لذلك الفكر، إذ أنها أصل ذلك المنهج.
وفيما يلي سوف نبين تاريخ هذا المنطق منذ البداية .
أشار أغلب الفلاسفة إلى أهمية حس التوافق مع الاجتماع في التأثير على الفرد، إلا أن تلك الإشارة لم تتجاوز حدود الفلسفة، فلم يكن (علما) للاجتماع ولا (مذهبا) في المنطق، أما الذي يمكن أن نبدأ به تاريخ علم الاجتماع، والمذهب الاجتماعي، في المنطق، فهو أوجست كونت، شيخ علماء الاجتماع الذي تناول (مسألة المنهج) ونقلنا نقلة هائلة من المنطق التجريبي، إلى المنطق الوضعي (الاجتماعي).
فقد هاجم كونت المنطق الصوري الذي أقامه الميتافيزيقيون، إذ أنه (عنده) منطق جدلي، ينمي قوة الجدل، ولا يكشف عن شيء، كما أن القياس الأرسطي، إنما يفسر لنا ما نعلم، دون أن يكشف ما نجهل.
ثم إن كونت انتقد أيضا الاتجاه التجريبي الخالص، كما يتمثل عند بيكون، وحاول أن يصطنع لنفسه منطقا وضعيا (تستند إليه فلسفته الوضعية) من جهة، ويعبر عن نظريته السوسيولوجية العلمية من جهة أخرى، ولكن كيف فعل ذلك؟
كونت حين أثار مسألة المنهج في المنطق، وفي علم الاجتمع، إنما حاول أن يشرع لمناهج الفكر قانونا عاما، يفسر تقدم الذكاء الإنساني، ويعبر عن (تطور أشكال الفلسفات والمناهج المتتابعة خلال التاريخ) وكان هذا القانون يتلخص عنده بقانون الحالات الثلاث، الذي اعتبره القانون المطلق لتطور الفكر والمنهج، وهو القانون العام الذي يكشف عن الرابطة الأصيلة بين المنطق وعلم الاجتماع.
فذهب كونت إلى أن منطق الإنسان (بمعنى فكره أو عقله) انما يتدرج مع تدرج المجتمع، وتطوره من حالة (غيبية أولية) إلى حالة (ميتافيزيقية) انتقالية، ومن ثم يصل العقل الإنساني، في النهاية إلى مرحلة (الروح الوضعية). إذا فللإنسان ثلاث حالات، ولمنطقه أيضا ثلاث حالات: حالة الغيب المطلق، حالة الغيب المحدد، وحالة العلم.
ولما كان الأمر كذلك، فإن كونت أرّخ للمنطق الإنساني، وجعل منه تاريخا للفكر الاجتماعي، وخلق للتاريخ منطقا محتوما يسير في حلقات، ويمر بأطوار وأحقاب ويسميها في أغلب الأحيان (فلسفات).
وتخضع هذه الحالات، أو الفلسفات، لقانون ديناميكي تطوري، هو قانون الحالات الثلاث الآنفة الذكر، الذي هو في نفس الوقت، قانون التقدم، الذي يرى أن ظهور الفلسفات في أنفسها ما هي الا (مراحل إجتماعية) تحتمها فلسفة التاريخ.
لذلك كانت الفلسفة الميتافيزيقية، في رأي كونت، ما هي إلا مرحلة تتسم بالضرورة والحتم. إذ تحتمها ضرورة الانتقال من المنطق اللاهوتي الغيبي إلى (وضعية العلم)، حيث يشاهد الفكر عالم (الحقيقة النسبية) تلك التي وجدناها عند كونت تنبثق من (الروح الوضعية).
إلى هنا ينتهي إسهام كونت في المنطق الاجتماعي. فمجمل نظرياته المنطقية يتخلص في:
1- ان المجتمع يتطور في حالات ثلاث، حالة الغيب (حيث ينسب كل حادث إلى أمر غيبي)، وحالة الفلسفة شبه الغيبية (حيث ينسب كل حادث إلى قوة خفية معينة فيه)، وحالة السبب (حيث تنسب كل حادثة إلى سببها الظاهر).
2- فكرة الفرد في كل مرحلة من هذه المراحل خاضع للحالة الاجتماعية ولا يمكن تحويله عنها.
أما بعد كونت فإن واحدا من كبار تلامذته، وأعني به لوسيان ليفي بريل طلع علينا بقانون جديد للفكر، حيث أثار مشكلة (قوانين الفكر) وبخاصة (قانون الذاتية) و(عدم التناقض) وحاول أن يشرع للعقل البدائي قانونا يصدق على كل مظاهره، ويفسر أحواله الغيبية. فاصطنع قانون المشاركة، على اعتبار أنه القانون المميز للعقلية البدائية، بمعنى أن البدائيين ـ فيما يذهب ليفي بريل ـ قد غفلوا عن مبدأ التناقض، لأنهم لا يميزون بين الأشياء، بل يخلطون بينها أشد الخلط، بمعنى آخر بالنسبة للعقلية البدائية ـ فيما يقول ليفي بريل ـ لا يحتم التناقض بين الواحد والكثير، وبين الذات والغير، وان تأكيد أحد الطرفين لا بد ان يوجب نفي الآخر، إذ ان هذا التناقض المنطقي الواضح، لا يهتم به العقل البدائي كثيرا.
وهناك مساهمة أخرى قام بها دوركايم حين وقف من المنطق موقفا خاصا. فقد ذهب دوركايم إلى أن المنابع الاجتماعية هي المصادر الأولية لمدركاتنا وتصوراتنا المنطقية، لأن الإنسان ليس منفردا في مواجهته للطبيعة، بل أن المجتمع يساعده على ذلك. فالمجتمع إذا يقف حاجزا بين الإنسان والعالم، لذلك كانت عمليات الإدراك والتصور مشوبة بعناصر إجتماعية آتية من طبيعة الموقف الاجتماعي للإنسان، حيث تتأثر العمليات المنطقية، وتتشكل نظرة الإنسان إلى العالم الطبيعي، وبالتالي تصدر أحكامه وقضاياه من خلال نظرته إلى عالمه الاجتماعي، فمن المجتمع قد وردت على الإنسان وسائل فهمه للطبيعة، وأدوات إدراكه لها، وبذلك تستمد الأحكام المنطقية أصولها ومصادرها من المجتمع، بمعنى أن (الإطارات المنطقية) ليست إلا شكلا من أشكال (الإطارات الاجتماعية).
والمنطق الفردي ناشيء بالضرورة عن المنطق الجمعي. ففكرة التناقض، وهي من قواعد المنطق الرئيسية، ليست في ذاتها اجتهادا عقليا يقوم به الإنسان إنما تنشأ أصلا عن ذلك التناقض الاجتماعي بين ما هو (مقدس) وما هو (غير مقدس). وفي ضوء ذلك التمايز الديني، إستطاع الإنسان أن يميز بين الصواب والخطأ. بمعنى أن هذا التمايز المنطقي مرجعه إلى المجتمع، واتفاق الجماعة أو عدم اتفاقها، وعند دوركايم لم تسلم فكرة الهوية أو الذاتية من النشأة الاجتماعية، حيث يرد معنى الذاتية إلى فكرة الشخصية.
فمن المجتمع ـ في زعم دوركايم ـ صدرت نماذج التصنيف المنطقي، واستنادا إلى التنظيم البنائي للأشكال (المورفولوجية) الداخلة في البناء القبلي وتنبعث قوالب التنظيم المنطقي، ولذلك، يقول دوركايم: (إن الحدود والمراتب المنطقية، هي في الحقيقة شكل آخر للحدود والمراتب الاجتماعية). كما أن الروابط المنطقية التي تربط بين أفراد الجنس والنوع لا تفهم إلا في ضوء الروابط الاجتماعية التي تربط بين أفراد الاتحاد والعشيرة. ومن ثم كانت الاتحادات أوائل الأجناس، وكانت العشائر أوائل الأنواع! وهكذا أنهى دوركايم ما بدأه كونت الذي قال: ان فكر الإنسان يصنع قالب الاجتماع، أما دوركايم فبين كيفية ذلك، فأرجع كل مقولات المنطق، من الذاتية واستحالة التناقض والجنس والنوع، و.. و..، إلى وقائع اجتماعية.
هذا تاريخ المنطق الاجتماعي ولنا عليه تعليق مقتضب هو:
إن المنطق الاجتماعي أصاب نصف الحقيقة أما نصفها الآخر، فهو ان السبب الرئيسي الذي يكمن وراء التوافق بين الإنسان الفرد، فكره وسلوكه وبين محيطه الاجتماعي، ليس حتمية التبعية كتبعية الشمس للسير في مجراها المرسوم، انما هو سبب إرادي خاضع لإرادة الفرد ذاته، وهذه الإرادة تتردد بين أتباع المجتمع أو التوقف على (هدي العقل) الذي زود كل فرد به، وعقل الإنسان واحد، وحكمه أيضا واحد، أنى اختلفت الظروف وتفرقت الأهواء.
من هنا اعترض بيتريم سوروكين على فكرة الأصل السوسيولوجي، لمقولات الفكر الإنساني، وهي أعم وأهم التصورات العامة في المنطق الاجتماعي، فأنكر مزاعم دوركايم بصدد هذا الأصل، الذي يثير الشك والريبة، إذ إن المقولات المنطقية الرئيسية، انما هي واحدة بذاتها في عقول الفلاسفة، ونجدها كما هي نفسها عند كونفوشيوس وأرسطو وكانت ونيوتن وباسكال، فكيف نفسر عمومية تلك المقولات وثباتها في عقول الفلاسفة، على الرغم من اختلاف شعوبهم وثقافاتهم؟!
ولو كان الإنسان إبن مجتمعه، لما كان يستطيع أن يساهم في تقدم هذا المجتمع، ولما كان المجتمع يتقدم أبدا وكان الإنسان باق على بدائيته القديمة، لأنه ليست هناك قوة تتمكن ان تقدم هذا المجتمع، الا قوة أفراده الذين تعوزهم، حسب هذا الفرض، القدرة على التغيير والإصلاح.
إنما الصحيح ان الإنسان يملك جانبين، جانب الخضوع والاستسلام، وبهذا الجانب يتوافق مع مجتمعه وبيئته، مع والديه وأسرته، مع مدرسه وأستاذه، مع الدولة التي يعيش فيها و. و..
والجانب الآخر: هو التحرر من قيود البيئة والانطلاق في رحاب الحياة، فكرا وسلوكا، ولقد زود الإنسان بالشعور بالذاتية والاستقلال والحرية، كما زود بالعقل القادر على فهم الصواب والخطأ، والحق والباطل، والنافع والضار، والقادر أيضا على وضع مقاييس لتقييم أفكار المجتمع وسلوكه بها.
بهذا الجانب يطور الفرد مجتمعه، ويؤثر فيه، وتتكاثف جهود الأفراد لتدفع بالمجتمع قدما إلى الأمام.
واذا كان الفرد إبنا لبيئته بالجانب الأول، فإنه أبوها بالجانب الثاني.
وإذا كان الفرد يخضع لمجتمعه، فليس عبثا إنما بسبب القهر الاجتماعي، المتمثل في أنواع من الضغوط، والعقوبات والروادع، التي يمارسها المجتمع تجاه الفرد، وبقدر ضعف إرادة الفرد في مقاومة تلك الضغوط، وبقدر قوة تلك الضغوط، سيكون مدى خضوع الفرد واستسلامه لمجتمعه.
لهذه نجد المجتمعات، التي تتسم بطابع العسكرية، والتي تكثر فيها الروادع، وتشتد العقوبات، تمتلك قدرة قهرية أكبر على الأفراد، بينما المجتمعات المائعة لا تملك تلك القدرة.
ومن جهة أخرى، يقل مستوى الخضوع عند الشباب، الذين يملكون قدرا أكبر من الشعور بالقوة، ومن إرادة التحدي، لأنهم يقاومون ضغوط المجتمع. ثم ان ضغوط المجتمع هي عمليات مزيجة من التربية وتقليد الآباء، وحسن التوافق مع الناس، والنظام الاقتصادي و.. و.. مما سوف نتحدث عنها إن شاء الله، ونبين أنها لا تعدو أن تكون ضغوطا، دون أن تكون عوامل حتمية.

وكلمة أخيرة:
يبدو أن فلاسفة التاريخ، الذين سعوا وراء معرفة السنن العامة لتطورات التاريخ، من أمثال آرنولد توينبي، ومالك بن نبي وابن خلدون ومن أشبه، هم في الواقع من المناطقة الاجتماعيين، الذين تصوروا أن للتاريخ سننا عامة، تنعكس على حالة المجتمع، وتنعكس تلك الحالة على الأفراد، وإنا نجد الشبه الكبير بين مراحل كونت في الفكر، وبين مراحل توينبي في الحضارة إذ أن الفكر لا ينفصل عن الحضارة، وأن الحضارة تخلق بالطبع نوعا من الفكر متناسب لها.
وعلينا أن نقيم نظرية الدورات الحضارية، أو نظرية التحدي والتحدي المعاكس، في تفسير تحولات التاريخ؛ نقيمها وفق رؤيتنا إلى المنطق الاجتماعي، وانه لا يعدو ان يوجد نوع من الضغوط على الفرد، للفرد أن يتحداه، وله أن يستجيب ويستسلم له.

آراء في المنطق الحديث
يمكن أن نعتبر القرن التاسع عشر عصر الإيديولوجيات وكذلك عصر المنطق والمناهج، إذ يرتبط المنطق بالإيديولوجية ارتباط الأم بإبنتها.
وقد إتخذ المنطق الحديث ملامحه النهائية، في نهاية هذا القرن، وبداية القرن العشرين.
أبرز ملامح المنطق الحديث هي:
1- تنوع المنطق ومناهج البحث حسب اختلاف وتنوع العلوم، فهناك منطق قياسي يعتمد عليه علم الرياضيات، وهناك منطق إستقرائي تجريبي يعتمد عليه علماء الطبيعة، وأخيرا هناك منطق إجتماعي تعتمد عليه علوم الإنسان.
في كل فصيلة من العلم تختلف المناهج. فمثلا هناك منهج للطب والتشريح، ومنهج للجيولوجيين، وعلم طبقات الأرض ومنهج لعلوم الفضاء و.و..
وبالرغم من فوائد عديدة اكتسبها العلم من اختصاص المناهج، إذ منحه الاختصاص مزيدا من الدقة والتركيز.
بالرغم من ذلك، فإن الافراط في تجزئة المنطق، ومناهج البحث، أفقدها المرونة والعمق الضروريين لفهم الحياة وللبحث الا بداعي فيها .
2- المنطق الحديث نسبي في اتجاهه العام، لا نسبية فلسفية تشك في إمكانية العلم بالأشياء، إنما نسبية علمية لا تؤمن الا بقدرما توصل إليه العلم بوجه خاص، وهذه النسبية تنعكس على المنطق، إذ المنطق لا يعدو أن يكون بحثا في البحث، أو دراسة لطرق العلم، واذا كان العلم يتطور من يوم لآخر، فإن طرق دراسته هي الأخرى تتطور من يوم لآخر.
لذلك فإن المنطق الحديث لا يبقى منفصلا عن العلم الحديث. بل ممتزجا معه، مرتبطا عضويا به.
من هنا كان من أوليات الأسلوب العلمي الحديث للكتابة، أن يذكر المؤلف منهجه في البحث في المقدمة، إذ أنه سيكون منهجا فريدا وخاصا، بالكتابة عن الموضوع ذاته.
3- المنطق الحديث نشأ ونما في جو مادي، لذلك فهو يكفر منذ البدء بالأفكار ما وراء المادية، ولا يضع منهجا لمعرفة تلك الحقائق، ولا يعترف بذلك المنهج الذي يوصل المرء إلى معرفتها، وحتى إثبات قيمة للمثل العليا، أو قيمة للحدس الناشئ من التجربة، يخضع حسب المنطق الحديث للطرق المادية.
إن المنطق الحديث، تبعا لكل الأفكار الحديثة والمتشبعة بالروح المادية، لا يضع منهجا لمعرفة التفسير الفلسفي لمبدأ الوجود وغايته، ومبدأ الإنسان ومصيره، ولذلك فهو لا يستطيع الوفاء بكل حاجات البشر، إذ إن الحياة الروحية، تشكل الجزء الأهم من حياة الإنسان، ولا يمكن أن توجه الروح، إن لم يوضع لها منهج واضح، لمعرفة مبدأ الكون وغايته ومبدأ الإنسان ومصيره. ذلك أن هذه المعرفة هي التي تعطي الإنسان نظرة موضوعية شاملة إلى نفسه والى الحياة من حوله، وبسبب هذه النظرة يتخبط الإنسان في تقييم ذاته، وتقييم الوجود من حوله، حتى لا يميز بين الصالح والضار، والخير والشر.
فالذي يريد أن يعرف حقائق الكون جميعا عن طريق التجربة العلمية، حسب المصطلح الحديث لهذه الكلمة، لا يمكن أن يعرف الجواب على السؤال التالي: ما هو الخير وما هو الشر؟ وكيف ينبغي ان أتصرف في الحياة؟ وكيف يتأثر سلوكي بالدعاية المضللة؟ ثم كيف أبصر بنفسي الحقائق دون أن أقع في شرك الدعاية؟ وهل علي أن أؤمن أصلا بالله سبحانه؟ أم كيف أستطيع أن أعرف ما إذا كانت هنالك حياة آخرة؟!
إن هذه الأسئلة، لا يمكن أن يجيب عليها المنطق المادي، الذي يحصر ذاته في إطار ما يمكن أن يرى تحت المجهر. وحيث أن الخير لا يمكن قياسه، وكذلك الشر، والقيم لا يمكن تجربتها، وكذلك الله واليوم الآخر فإن هذا المنطق بعيد عنها جميعا. من هنا نستطيع أن ننعت المنطق الحديث، وبكل أسف، بأنه (منطق ناقص).
4- المنطق الحديث، يجهل في أكثر بحوثه دور (الإنسان ككائن حر) في المعرفة، ولذلك فهو يتسم بالحتمية إتساما يكاد يكون عاما. فحين يبحث المنطق الحديث عن دور البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تكوين ذهنية الإنسان، يبحث عنه تماما، كما يبحث عن دور الأوكسيجين في تنقية الدم. إنه دور محتوم.
ونتيجة هذا الإيمان المطلق بالعوامل الخارجية، وما يقابله من الكفر بقيمة الإرادة البشرية، تبقى طائفة كبيرة من الأخطاء دون علاج، إذ إنها آتية من إرادة الإنسان ذاتها، تلك الإرادة التي سقطت من حساب المنهج الحديث.
من هنا كان جواب المنطق الحديث عن السؤال حول الطريقة التي يتخلص بها الإنسان من عامل الاقتصاد في تكوين ذهنيته.. كان جوابا ناقصا، إذ كان يقول له يجب إصلاح الاقتصاد، حتى لا يوقع البشر في الخطأ. حقا ان هذه طريق إلا أنها غير ممكنة في بعض الظروف، فلو لم تكن الإرادة البشرية قادرة على التحصن ضد عامل الاقتصاد لكنا أفقدنا الإنسان القدرة على تحصيل الحقيقة، في مثل هذه الظروف.
بعد ذلك ينبغي التنبيه إلى أن المنطق الحديث، بما فيه قواعد المنهج الديكارتي وتوصيات بيكون، لا يغفل تماما دور الإرادة، بل قد يعلق عليها بعض الأهمية.
5- بما أن المنطق الحديث يتسم بالإنتقائية، فإنه لا يملك بناءا فلسفيا رصينا ومقنعا، ولذلك فهو يعجز عن إعطاء مبررات كافية لكثير من توصياته، بل ويعجزا أيضا عن إعطاء فلسفة كافية لها، ذلك أن هذه الفلسفة، لا تصح الا إذا آمن المنطقي، بوجهة نظر فلسفية شاملة، حول المعرفة، وعلم النفس. كما كانت لكل واحد من الفلاسفة، الذين أبدعوا أقسام المنطق، التي انتقي منها المنطق الحديث. إن المنطق الحديث، أشبه إلى طبق فيه فاكهة شتى، بينما أقسام المنطق قديما كانت كثمرة شجرة لم تقطف، ولذلك نجد أن المنطق الحديث، لا يعدم التناقض والتناحر، بين أنواعه كما يفتقر إلى الأصول التي تعطيه العمق والاستمرار، بينما المنطق القديم، كان أصيلا بما فيه الكفاية، إذ إنه كان ينبع من نظرات فلسفية وعلمية راسخة. وكما سبق: فإن المنطق يرتبط بمعرفة حقائق كثيرة، فيما بينها حقيقة النفس، وحقيقة العلم، وحقائق عن الإنسان (الفرد) والإنسان (الجماعة)، وتطور حياة البشر و.. و..
ولذلك كانت آراء الفلاسفة في المنطق متكاملة مع آرائهم في تلك الحقائق، فكان منطق كل واحد منهم متكاملا من ناحية بنائه الفكري.
إلا أن هذا التماسك زال عنه بخلط أقسام المنطق في المنطق الإنتقائي الحديث، فعاش كل قسم منه بعيدا عن جذوره الفلسفية، وهذه هي سمة عصرنا ككل، حيث يهتم بالفلسفة السطحية، ويترك البحوث العميقة، ويرتجل بنفي قيمتها في الحياة دون تفكير.
وكان نصيب المنطق وافرا من السطحية التي إتسم العصر بها.
ونشأ من كل ذلك فراغات هائلة في هيكل المنطق الحديث نشير إلى بعضها عندما نذكر المنطق الإسلامي.

المنطق الإسلامي
أصوله ومناهجه
القسم الثاني عن:
أصول المنطق الإسلامي
هل للإسلام منطق؟
المسلمون والمنطق الإسلامي.
ميزات المنطق الإسلامي.
ركائز المنطق الإسلامي.
الثقة مفتاح العقل.
بين العلم والصوت.

هل للإسلام منطق؟
جاء الإسلام ببصيرة جديدة للإنسان، ليس فقط في السلوك والتشريع، والطقوس والعبادات، وإنما قبل كل ذلك في التفكر والمعرفة، وكشف حقائق الحياة، وواقع الأحياء والأموات..
قال الله تعالى:
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور، وكتاب مبين* يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه. ويهديهم إلى صراط مستقيم..) [المائدة/ 15-16]..
فواحد إلى عشرين جزء من القرآن هو في التشريع بما يدعى بـ(الأحكام) أما الأجزاء التسعة عشر الأخرى فهي في مناهج الفكر وفلسفة الحياة وبناء الشخصية.
وإذا لاحظنا القرآن وجدنا أن موضوع العلم والمعرفة وما يتصل بهما قد بحث في القرآن بقدر ما بحث موضوع الإيمان بالله!! أو أقل قليلا… والقرآن جاء برؤى جديدة للحياة فسرت ما يخفي من ظواهر أو أحداث غابرة، وبين كثيرا من السنن الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية، وبالتالي جاء بفلسفة عامة للحياة… ولا يمكن أن تكون فلسفة من دون منطق. إذ المنطق هو المدخل إلى الفلسفة كما أن الفلسفة هي مدخل لفهم الحياة!
ولقد فجر الإسلام قدرات (مجموعة بشرية هائلة)، وأعطاهم إمكانات حضارية كبيرة، كانت الحضارة العربية الإسلامية بعض مظاهرها. والحضارة لا تقوم إلا على ثقافة، والثقافة لا تبنى إلا على أسس منطقية إذ لا يعقل أن ترتبط وتستند عناصر الثقافة إلى بعضها، من دون وجود طريق واحد للتفكير وأسلوب واحد للملاحظة.
إن وجود ثقافة متميزة لدى المسلمين، دليل بسيط على وجود منطق متميز لهم. ولكن، لماذا لم يعرف المسلمون هذا المنطق؟
الجواب: لأنهم كانوا يمارسون الثقافة، وفلسفتها، ومنطقها، ممارسة عفوية وغير منطقية، بل وغير واعية. إنهم يطبقون ما جاء في كتابهم العظيم (القرآن) دون أن يفكروا كثيرا إلى أي حقل في الحياة، يرتبط هذا التعليم أو ذاك، وربما مارسوا الزكاة طويلا، دون أن يعرفوها ركيزة اقتصادية، ومارسوا النقد البناء، دون أن يعرفوا أنه ركيزة منطقية. ويبقى سؤال آخر: لماذا لا يعرف المسلمون اليوم بوجود منطق متميز لهم؟
الجواب لأحد عاملين:
1- إما التعصب لمناهج فكرية تعودوا عليها كالمنهج الوضعي أو الديالكتيكي أو.. أو.. يعني المنطق الذي لا يتعدى المنطق المادي.
2- أو الجهل بلغة القرآن الكريم ـ المصدر الأساسي للفكر الإسلامي ـ وبالطبع يعتبر هذا العامل أخطر من العامل الأول. إن كلمات كثيرة تحورت معانيها منذ عهد الرسالة إلى الآن، مما ألقى عليها ظلالا من الغموض عند الفكر العاصر وأبعدها عن معانيها الحياتية، وكنموذج نبين الأمثلة التالية:
أ- كلمة (البصيرة) استخدمت في القرآن الحكيم (8 مرات) فماذا يفهم منها الرجل العصري؟ هل يفهم منها المعنى الرسالي الذي قصده القرآن وكان يفهمه الجيل الأول؟ هل يفهم منها معنى الرؤية الكاملة للحياة الذي يوازي معنى الفلسفة في عرفنا الراهن؟ ولأن العرف لا يفهم اليوم من كلمة (البصيرة) معنى الفلسفة فإن الشك يساوره في وجود فلسفة في القرآن، أو في تصريح القرآن في وجود مثل هذه الفلسفة فيه. يقول القرآن:
(هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [الأعراف/ 203].
(بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) [القصص/ 43].
ب – كلمة (الذكر) وما يتصل بها من كلمات: (التذكر ـ ذكرى ـ تذكرة) وما أشبه، تكررت في القرآن أكثر من (320) مرة، فهل يفهم منها العرف الراهن ما يوازي نظرية المعرفة في الإسلام؟ وهل يفهم أن التركيز على هذه الكلمة يدل على أن الرؤية الإسلامية في معرفة الحقائق الفلسفية هي أن الإنسان عارف بها ـ بالفطرة ـ ولكنه غافل عنها أو محتجب بالهوى والنسيان عنها؟
إن (العرف) اليوم قد يستهزئ بالذي يدعي أن القرآن قد نوه بنظرية المعرفة (320) مرة.
ج- نحن لا نفهم عادة من هذه الآيات:
(والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد* الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) [الزمر/ 17-18].
(ولا تقف ما ليس لك به علم، أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا..) [الإسراء/ 36].
(فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) [محمد/ 30].
.. أقول نحن لا نعرف من هذه الآيات، وآيات أخرى، إنها تبين وجهة نظر الإسلام في مناهج المعرفة ـ كما سيأتي الحديث عنه ـ ولماذا لا نفهم؟ إذ حاجز اللغة حاجز سميك يفصلنا عن فهم حقائق كثيرة في الإسلام، وفي كتابه العظيم القرآن.
ومن بين تلك الحقائق، وجود منطق خاص للإسلام..
المسلمون والمنطق الإسلامي:
وجود منطق إسلامي لا يعني أن الأمة الإسلامية اتبعت هذا المنطق (دائما)، كما أن وجود نظام إسلامي لا يعني بالضرورة أن المسلمين طبقوه بالكامل.
من جهة أخرى لا يعني (المنطق الإسلامي)، كل منطق استخدمه المسلمون قديما أو حديثا، كما لا يعني (النظام الإسلامي) كل نظام طبقه المسلمون قديما أو حديثا.
إنما المسلمون، كأية أمة أخرى، استخدموا ألوانا من المنطق، كانت بين بعضها البعض تناقضا ظاهرا، كما كان بينها وبين المنطق الإسلامي هذا التناقض.
والواقع إن الأمة الإسلامية حصرت نفسها في البداية على المنطق الإسلامي، والفكر الإسلامي والنظام الإسلامي.
لكن مع توسع الدولة، وضعف العناصر الرسالية فيها، استوردت الأمة المنطق، والفكر، والنظام، من الخارج.
وحين ترجمت الكتب الفلسفية، في بداية القرن الثاني للهجرة، إنتقل المنطق الأرسطي عبرها إلى الفكر الإسلامي، فاحتضنه المسلمون دون انتقاء، وكانت النتيجة سيطرة هذا المنطق عليهم فترة طويلة من الوقت. وانتقاله عنهم إلى الغرب عن طريق الأندلس، وبقاء الغرب تلميذا عليه إلى القرن السادس عشر الميلادي، بيد أن المحافظين على التعاليم الإسلامية، لم يتأثرون بالمنطق الأرسطي. ونستطيع أن نستشهد على ذلك بما يلي:
أولا: ان أول من جدد الفكر الغربي في المنهج كان روجر بيكون، الذي كان متأثرا بالفكر الإسلامي. وهكذا نستطيع ان نجزم بأن طائفة من المسلمين رفضوا الاكتفاء بالمنطق الشكلي بل جاوزوه إلى المنطق التجريبي. إلا أنه سيكون مبالغة غير لطيفة لو قلنا انه كان لهم منطق تجريبي بمعنى الكلمة. بل لم تكن لديهم الا مجموعة غير متماسكة من التعاليم الدينية في البحث العلمي، مضافة إليها هداية فطرتهم، إلى عقم المنطق الشكلي عن العطاء في الحقول المختلفة.
ثانيا: ان كثيرا من العلوم الإسلامية لم تكن تنشأ لولا التمسك بهدي التعاليم الإسلامية في المنطق، البعيدة جدا عن المنطق الشكلي. فمن ذلك: علم أصول الفقه، والرجال، والحديث، والاستنباط. إن هذه العلوم تعتمد على منهج للبحث أشبه ما يكون لمنهج البحث الحديث، بل وفي بعض هذه العلوم بلغ علماء المسلمين مبلغا يفوق ما بلغته الأبحاث الحديثة.
وكان بإمكان المنطق الإسلامي أن يتبلور عبر مناهج واضحة ودقيقة ويفوق كل منطق آخر، إلا أن سبات الفكر الإسلامي في القرون الأخيرة، ذلك السبات الناشئ من سبات الأمة الإسلامية العميق في كافة الحقول الحضارية… هذا السبات منع من تبلور هذا المنطق ومع الأسف.
والآن، بدأ المسلمون استيراد ألوان من المنطق، ومناهج البحث من الغرب والشرق، كما يستوردون أي شيء آخر. مما أفقدهم شخصيتهم الحضارية حتى أنهم لم يعودوا يؤمنون بوجود منطق خاص بهم!
ميزات المنطق الإسلامي:
كل خصائص الفكر الإسلامي متوفرة في المنطق الإسلامي وبذاك تكون هناك سمات بارزة في المنطق الإسلامي خاصة تعلو به على سائر أقسام المنطق . وهي التالية:
الأرضية الصلبة:
عندما استعرضنا سمات المنطق الحديث رأينا كيف أن هذا المنطق لا يملك قاعدة فلسفية متكاملة.. لأنه انبثق من اختيار غير ناضج لجملة أفكار متناقضة ولذلك فهولا يعطي الإنسان منظارا واحدا يستكشف به ما بداخله، وما حوله، من عوالم كبيرة. (بل يفيد فقط في رؤية أجزاء الكون بصورة منفصلة).
بينما المنطق الإسلامي يتمتع بالرؤيا الفلسفية الواضحة التي ترسو على أرضية صلبة لمناهج البحث فيه.
ولذلك لا تشذ مناهج المنطق عن قاعدتها، قيد شعرة، انما يعطي الإنسان مرآة صافية لمعرفة العالمين جميعا..
الشمول:
من المعروف أن الفلاسفة اختلفوا في مصدر المعرفة، هل هو الحس وحده أم التفكير (العقل) فقط أم الارتياض الروحي فحسب؟
أما المنطق الإسلامي فيرى في المواضيع الفلسفية، والتي أهمها المنطق ومناهجه، أنه لا يمكن أن يكون سوى القناعة الفكرية، الخاصة بكل شخص، والتي لا تدع مجالا للشك أبدا. إلا أن السبيل إلى هذه القناعة يختلف فيتراءى لنا اختلاف مصادر المعرفة إلى ثلاثة أنواع: العقل، الوحي، والتجارب الحسية.
العقل:
نعبر بالعقل عن البديهيات الفكرية التي لا يرتاب فيها أحدا، كالإيمان بضرورة السبب لكل حادث، واستحالة اجتماع الوجود والعدم في شيء.
ان قناعة ذاتية بفكرة واحدة لوضوحها وشدة الثقة بها، كالقناعة بوجود (الذات) أو (أنا) تدعو هذه القناعة إلى الإيمان بأية فكرة متشابهة لها في الوضوح والثقة.
وكمثل أنني مقتنع بوجود ذاتي لأنها واضحة لدي ومنكشفة أمامي تماما، فإذا وجدت بعد عملية تدبر وتفكير ان وجود الشمس، يتصف بنفس الوضوح، والانكشاف، فإني هنا أضطر إلى الثقة بوجودها… والاعتراف بها، لأنهما يشتركان في الصفة التي أوجبت قناعتي بوجودهما. وإنما نعني بالبديهات العقلية، تلك الأفكار التي تصبح واضحة لدى النفس، بنفس الشدة، التي تتضح البديهات الأولية كوجود الذات مثلا، ولو لم تكن لهذه القناعة أسباب حسية واضحة، إذ ان اعترافنا بالحس ذاته، لم يكن إلا من جهة انه يكسبنا ثقة تامة، ووضوحا كاملا، بالنسبة إلى الأشياء… فلو أوتينا بذات الثقة، من سبيل آخر لا يسعنا إلا الاعتراف به، ونعبر عن هذه البديهة عادة بالوجدان، وتعبر عنها اللغة العلمية بالحدس، واللغة الدينية بالعقل.
النص:
من المؤكد أن بعض البديهات لا يعرفها الإنسان، الا بعد تذكير وإلفات، مثلا 15×15=225. ولكن هل يفقهها كل إنسان دون إلتفات؟! هل يمكن ان يصح خبر ويكون باطلا في لحظة؟ كلا، ولكن هل يفقه ذلك كل بشر؟ إن علو معرفة الإنسان تكشف لنا ان هذه الحقيقة قد يصعب فهمها على بعض الناس البسطاء، إلا بعد إلفات. بموازاة هذه الحقائق الواضحة، جملة من الحقائق لا يفهمها البشر دون الفات وذلك مثل وجود الإرادة والعلم والهوى في ذات كل واحد منا.. ونحن بحاجة إلى من ينبهنا اليها ويذكرنا بها وبعد تذكرنا بها تصبح واضحة تماما كالفات رجل بما تحتويه يده، التي شغل عنها ثم انه يجدها بعد الالفات، كحقيقة لا تحتاج إلى دليل. والنصوص الشرعية إلفاتات تذكيرية تنبهنا إلى واقع أنفسنا، وكذلك فهي ذات قيمة تذكيرية بالنسبة إلى المواضيع الفلسفية.
التجارب:
تاريخ البشر حافل بمحاولات مخلصة لتبصر الواقع الفلسفي، وان كل العلوم اشتركت ولا تزال في موضوع (معرفة الإنسان) إلا أن مشكلة هذه التجارب: امتزاجها بعنصر الغرور البشري، فكل من رأى ظاهرة تحمس لها، كأنها الظاهرة الوحيدة في العالم، ولئن صدقت هذه الحقيقة في كل مجال بشري، فإن صدقها على حقل المنطق، أوضح لأنه يتصل مباشرة بسلبيات البشر، وتتأثر بواقعه المادي. ومن هنا كان أرسطو يرى في منطقة نهاية الخطأ، لأنه زعم ان ظاهر اللعب بالألفاظ وما ينتج عنه من أخطاء فكرية، هي كل أسباب الخطأ. وزعم بيكون، وديكارت، وهيجل ذات المبالغة، كما انحصرت المناهج الوضعية والديالكتيكية في ذات البؤرة، ولكن وجود هذا الخليط في تجارب البشرية لا يمنعنا من الاهتداء بعناصرها الإيجابية، إذا استطعنا الانفتاح الموضوعي أمامها، وكانت لنا مقاييس فكرية دقيقة، تميز خط السالب عن الموجب، وحدودهما.
ولوجود رؤية واضحة متكاملة، في المنطق الإسلامي، فإنه يستفيد من كافة التجارب المتصلة به، بعيدا عن الجوانب السلبية فيها. وهكذا يستفيد من المذاهب المنطقية: كالمذهب الحسي، الذي آمن بالحس وكفر بالعقل، والمذهب العقلي الذي عكس الآية، والمذاهب النسبية، التي تنبه كل واحد منها إلى جانب من الضعف في فكر الإنسان ولم يتنبه إلى غيره من المذاهب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية و.. و.. التي ركز كل واحد منها نظره في حقل واحد من حقول الحياة وظن أنه هو مصدر المعرفة. وكذلك مصدر الخطأ عند الإنسان. ولكن المنطق الإسلامي يرى أن كل مصادر المعرفة هي مصادر صحيحة. والمعرفة الناشئة منها ممكن الاستفادة منها كما ان مصادر الخطأ هي الأخرى خطيرة وتهدد معرفة الإنسان، وعلينا ان نستفيد من كل مصادر المعرفة (الحس ـ العقل ـ الوحي) ونتجنب من كل مصادر الخطأ (النفس ـ المجتمع ـ التقليد ـ و.. و..).
ولذلك تجد النصوص الإسلامية تنظر من عل إلى جميع أسباب الخطأ، وتنبه اليها، دون الاقتصار على بعضها، حسبما تفعله المناهج الأخرى.

القسم الثاني:
عن أصول المنطق الإسلامي
البحث الرابع عن:
ركائز المنطق الإسلامي
الدليل إلى العقل. كيف يعرف العقل؟
الاختلاف في العقل. التنبيه سبيل العقل.
قبسات من حديث الرسول حول العقل.

ركائز المنطق الإسلامي
هناك عدة ركائز، يعتمد عليها المنطق الإسلامي، هي: معرفة العقل، والعلم، والجهل، والشهوات، ومعرفة ما يتصل بهذه الحقائق من بحوث، وهي ـ جميعا ـ في الواقع، بمثابة مفاتيح للفكر المنطقي والفلسفي في الإسلام.
وسنتحدث فيما يلي عن هذه الركائز حيث نبدأ ببحوث عن العقل، والشهوة، والسبيل إلى معرفة العقل، ثم العلم والهوى، والمقياس الذي يميز العلم عن الهوى، ورؤى الإسلام في علاقة العلم باليقين.
ما هو العقل؟
كثير من الألفاظ يطلقها الناس، دون أن يعرفوا معانيها بوجه الدقة، ويتفق الناس على تعليق فهم معانيها حتى يبلغوها، ومن أبرز هذا النوع من الألفاظ (الروح ـ العقل ـ النفس). والسبب: إذا حاولنا تفقد المعنى الصحيح للعقل، كان علينا ان نحيط بالفلسفة إحاطة تامة، وعلم البشرية لم يبلغ حتى الآن مدى يمكنه من هذه الإحاطة، إلا أن كل ذلك لا يمنعنا من طرح تعريف تقريبي لكلمة العقل، حتى تكون أقرب إلى أفهامنا حين نستعملها.
تعريف العقل:
تعريف كلمة العقل، من ناحية اللغة، مشتقة من عقله بمعنى ربط وثاقه ليحفظه عن الإفلات. وبهذه المناسبة يطلق العرب العقل على ما يحفظ الإنسان من موجبات الردى.
ويقابل العقل عادة بالجهل، والجنون، ويقصد بالأول، عدم القيام بما ينبغي القيام به لعدم معرفته أو لتغلب الشهوة.. ويقصد بالجنون وجود خلل في أعصاب الفرد مما يدعه غير قادر على العمل بما ينبغي عليه. وفي بعض الأحيان نستعمل لفظة الإرادة للدلالة على تلك الطاقة التي تجعلنا نقوم بما ينبغي لنا ان نقوم به، ونطلق على كشف ما ينبغي لنا أن نقوم به بالمعرفة والعلم.
فالعقل إذا هو ما بسببه نقوم بالعمل الصالح، وجاء في تعريف العقل عن الإمام علي بن أبي طالب ـ ع ـ (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان).
ما هي الشهوة؟
تؤخذ كلمة الشهوة من الشهي الاشتهاء، ويعني الحب الشديد. وكل حاجة يتحسسها الفرد، ويرغب نفسيا في اتباعها، هي (الشهوة). فحاجة الطعام، واللباس، والجنس، والمأوى، انما هي شهوات.
ويطلق على الشهوة لفظ الغريزة أيضا. ولكن باعتبار آخر ذلك هو رسوخ نوع من الشعور بهذه الحاجة في النفس.
المفارقة بين العقل والشهوات:
نفى البعض أي فرق بين العقل والشهوة، زاعمين أن العقل نوع من الشهوة الكامنة، كما ان الشهوات هي العقل الظاهر. فالحاجة إلى الجنس قد يتحسس بها الفرد فعلا، ويندفع نحوها عملا، فهو ـ آنئذ ـ حنين شهوة، وعقل ظاهر، وقد يتحسس بها، ويعلم أن طريق إشباعها وجود شرائع تنظم مسألة الجنس وثم وجود التزام عملي بهذه الشرائع، والتي منها مثلا التغاضي الفعلي عن الأنثى المختصة بجارك، فإذا أمسكت نفسك عنها فإنك مدفوع بالشهوة، ولكن بصورة غير مباشرة، ومن هنا صح الإدعاء بأن العقل هو شهوة كامنة.
ولكن قال آخرون: إن العقل حقيقة متمايزة، كليا عن الشهوات، فهو:
أولا: يسير الشهوات وينظم أمر اشباعها.
ثانيا: قد يوقف الإنسان عنها إيقافا تاما، وبذلك يعطي البشر حرية تفوق قوتها قوة كل ضغط وتعلو قدرتها قدرة كل شهوة.
ويقول هذا الفريق: إن وجود العقل، هو الذي يعطينا القدرة على التمييز بين شهوة حاضرة وشهوة آتية، وعلى اختيار الثانية إن كانت هي الأسمى، ووضع شرائع في سبيل الوصول إليها، ثم التقيد بها.
إذ ان العقل هو صمام الضبط الذي لولاه لإنفجرت الشهوات، في اتجاهات عمياء. ان الفرق، يبدو بسيطا بين الرأي الأول والثاني، بيد أنه كبير وفاصل بين آراء مختلفة في كل حقول الفلسفة والعلم.
ولذلك ينبغي ان نبين الحق بين الرأيين، كي يكون لنا القدرة على اختيار الحق، في القضايا المنطقية التي نحاول بحثها بإذن الله.
الدليل إلى العقل:
ويتبين لنا الحق، إذا استطعنا إقامة الدليل الواقعي على ثبوت العقل، إذ بدونه يبقى الرأي المنافي له قائما بدون منازع، فما هو إذا مدى صحة الأدلة المقامة على ثبوت العقل؟ على كل فرد ان يتفكر ليعرف بذاته ودون الإتكال على أقوال الآخرين، ما إذا كانت الأدلة التالية وافية وسليمة أم لا؟
1- معرفة الحق، والخير، والقدرة على إقامتهما، رغم مخالفتهما للشهوات والمصالح الخاصة. هذه المعرفة والقدرة ليست فقط مما يجدها كل فرد في نفسه بل ويعتقد بأنهما ثابتان لا ريب فيهما.
إذهب أنى شئت، وقابل من أردت، فلن تجد الا من يسر إليك بوجدانه لهذه الحقيقة التي تعرفه، وتهديه إلى الحق من جهة، وتعطيه القدرة على الإيمان بهما من جهة أخرى.
2- لاريب أن البشر قد يقوم بشيء يخالف مصالحه لمجرد زعمه بأنه حق وخير بحيث تعجز كل التفسيرات المصلحية لعمل شخص حتى يثبت بالطريق الاستقرائي، وجود ما هو فوق المصالح ليحدوه إلى القيام بهذا العمل.
3- نحن في بعض الأحايين نجد في أنفسنا تنازعا شديدا لا نستطيع أن ننكره كما لا نقدر على إتخاذ موقف محدد منه. فمثلا: عندما تسنح لنا الفرصة في إنتهاب أموال فقير، تجدنا نندفع نحوها بدافع الشهوات ولكن سرعان ما نتراجع عنها بوازع العقل، ووجود هذا التناقض في أعمالنا، أو التنازع في نفوسنا، دليل على (الثنائية) في قوانا النفسية، وان هناك عقلا وشهوة.
4- وهب أننا لا نجد تنازعا في نفوسنا. لكن هل نجد من أنفسنا القدرة على الإمتناع من إشباع شهوة ما لحظة انفجارها؟ أنا جائع، جالس على مائدة. ليس من مانع ولا وازع من الأكل أبدا، فهل أستطيع بإرادتي الامتناع عن الأكل، أم أنا مضطر إليه؟ طبعا أنا مختار في ذلك ولوجود (اختياري) وبعد تقدير ظروفي ومصالحي أقدم على أكل الطعام. صحيح إننا عندما تتوافر كل الدواعي والقيم على عمل لا نتردد في القيام به. ولكن في ذات الوقت لا نتردد ـ لحظة ـ في أن ما نقوم به، إنما هو بإرادتنا التي نستطيع ان نمتنع، كما نستطيع أن نقوم بالعمل.
5- بهذه الإرادة نتحمل نحن مسؤولية أعمالنا، ولا نجد أنفسنا فقط مسؤولين، بل ونحمِّل الآخرين المسؤولية بصورة كاملة. وعلماء الدين، والقانون، و.. و.. لم يكونوا ينطقون بشيء لولا إيمانهم بوجود هذه المسؤولية.
كيف يعرف العقل؟
هل يعقل ان يعرف العقل بغير العقل؟ نحن نعرف الأشياء جميعا بعقولنا، والتي لو لم تكن سليمة لما عرفنا شيئا. فهل هناك شيء فوق العقل نتعرف على العقل به؟ ان الإنسان ليذهب بعيدا في متاهات الضلال لو بحث عن شيء فوق العقل، ليفهم العقل به، إذ لا وجود لهذا الشيء، وفي حالة وجوده، يحتاج الإنسان إلى شيء آخر، فوقه أيضا ليعرفه به، فهل يعقل هذا؟ ثم هل من المعقول ان يكشف العقل لنا حقائق الأشياء، ثم لا يكشف عن ذاته؟ أوليس هذا يشبه القول بأن الشمس تضيء الدنيا، ولكنها غير مضاءة؟ إذا فكيف تعطي الضوء وهي لا تملكه؟ وان قلنا، كل شيء في العالم معروف بنور العقل ولكن العقل لا نور له، وإذا فهو غير معروف. أليس هذا تناقضا؟ ان أولئك الذين حاولوا التعرف على العقل بغير ذاته ضلوا عنه. إذ لم يجدوا فيما وراء شمس العقول، الا الظلام والضلال. بل ان مجرد محاولة التدليل على العقل نوع من التضليل الذاتي، اللهم إلا إذا حاولنا معرفة العقل، من خلال أنواره التي تسقط على الأشياء، فتضيئها، وتكشفها لنا، بالضبط كما نتعرف على الشمس من خلال النور المنبعث منها في الفضاء.
وهذه المعرفة هي بدورها مرتبطة بالعقل، فمن لا عقل له لا يفهم من الحقيقة شيئا، ويكون أشبه شيء برجل يريد ان يبصر عينه، ليؤمن بوجودها، فيأخذ مرآة، وينظر من خلالها إلى عينه، فهل يعني هذا أنه رأى عينه بغير عينه؟ مثلا، رأى عينه بأنف أو بفم؟! كلا إنما رآها بعينه ذاتها ولكن من خلال المرآة. ولو افترضنا أن الرجل أغمض عينيه ليبصرهما بعضو آخر فيه، أفلا تكون النتيجة أنه يبقى يفتش عن عينه إلى الا بد؟
كذلك الذي يحاول ـ مستحيلا ـ ان يجد عقله بغير عقله، ويفتكر أنه يستغني عن عقله في رؤيته له.
والعلم ليس سوى جانب الكشف في العقل، فالعقل يضيء الأشياء، والأشياء تضاء به و(لحظة الإضاءة) تسمى علم .
إذا ليست هناك ثنائية في الحقيقة ببين العقل والعلم، إنما هو نور واحد. إذا تحدثنا عن لحظة كشفه عن الأشياء سميناه علما، وإذا تحدثنا عنه كشيء موجود وثابت سميناه عقلا.
إذا… لماذا الاختلاف في العقل؟ لماذا اختلف الناس في العلم والعقل؟ أو ليس هذا النور الذي يضيء الأشياء جميعا، يجب أن يكون مضاءا بذاته؟ وواضحا مميزا مشهورا لا ريب فيه؟ فلماذا الجهل به؟ ولماذا الاختلاف فيه؟ الجواب:
أولا: هناك حقائق بسيطة واضحة يجهلها البشر ليس لشيء إنما لمزيد وضوحها… حتى الشمس التي تضرب بها الأمثال لو لم تأفل ولم يكن لها ظلال لاختلف الناس فيها.
أولم يختلف البشر في أمر الوجود والقدرة، وهي الحقائق التي انتشرت آياتها في الآفاق؟
ثانيا: لأن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، ولأننا معه كلما كنا واعين. ولأننا لا نستطيع أن نتصور أنفسنا بدونه، إذ كلما تصورنا أنفسنا تصورناها بالعقل، فإننا لا نبحث عنه، إنما نبحث عن شيء آخر وراءه، وهذا هو الذي يعقدنا. ذلك لأن القدرة على البحث في شيء، بحاجة إلى شرطين: ان يكون الشيء مجهولا، وان يعرف بالبحث. والعقل ليس مجهولا حتى يحتاج إلى دليل لأننا حين نبحث فيه فلا بد أن نتصوره شيئا مجهولا، وهذا في الواقع ليس عقلا إذ العقل لا يكون مجهولا. دعنا نبحث عن الماء، ونحن نسبح في البحر، إننا لا بد ـ آنئذ ـ أن نضل عنه، إذ طبيعة البحث تقتضي الجهل بالشيء… ولأن الماء ليس بمجهول، فلا بد ان نخلق شيئا مجهولا ونسميه بالماء ونبحث عنه.
التنبيه سبيل العقل:
إذا ارتاب شخص هل يملك عينا أم هو أعمى؟
فأمامك سبل عديدة لتعرفه بأنه بصير.
أولا: ان تأمره بأن يغمض عينيه ويلاحظ هل تختلف حاله ولماذا؟
ثانيا: أن تذكره بأنه حين يرى الأشياء، فلا بد ان تكون رؤيته بوسيلة، والعين هي تلك الوسيلة.
ثالثا: أن تضع في كفه مرآة صافية، وتدعه ينظر من خلالها إلى عينيه.
هذه السبل لا تختلف عن بعضها في محتواها، الذي هو تنبيه الشخص إلى عينه وتذكيره بها. كذلك العقل، السبيل إليه هو التذكرة والتنبه بأن:
1-: نلاحظ أنفسنا في حالة افتقادنا له، هل نختلف عما إذا كنا واجديه؟ ففي حالة الغضب الشديد، والشهوة العارمة، في الطفولة والشيخوخة، في النوم والغفلة، هل تختلف حالنا في هذه الحالات عن الحالات السوية ولماذا؟
إن المزيد من التنبه الذاتي للفرق بين الحالات، يعطينا البصيرة بعقولنا، ويجعلها تكتشف ذاتها أكثر فأكثر.
2- الإلتفات إلى أن الأشياء لا تعرف بذاتها، إنما هي بحاجة إلى وسيلة تكشفها لنا وهذه الوسيلة هي العقول.
إن كل معلومة من معلوماتنا، وكل فكرة من أفكارنا، آية من آيات العقل، وهدى يدلنا عليه، إذ إننا لم نجدها إلا بالعقل، بذلك النور الذي لم يكن فينا حين كنا صغارا، وحين نكون مخرفين من الكبر، وحين يذهب الغضب بحلومنا و.. و.. وبالتالي حين نجهل شيئا بأي سبب من الأسباب.
إلا أن مجرد العلم بالأشياء لا يكفي لكي نعرف عقولنا، إذ إننا حين نعرف الأشياء لا نهتم بالوسيلة التي عرفتنا عليها، إنما تستقطب الأشياء كل إهتمامنا، كمثل الذي بصر الأشياء من حوله دون ان يتنبه إلى أن عينه هي التي كشفتها له، وانه بدونها لم يستطع ان يراها، إنما يجب ان نلتفت إلى أننا من دون نور العقل، لم يكن ممكنا لنا معرفة الأشياء، وهناك تصبح كل فكرة معلومة، وكل حقيقة مكشوفة، دليلا جديدا على عقولنا، ليس هذا فقط، وإنما أيضا إثارة للعقل من أجل كشف ذاته والتنبه بحقيقته حتى يتميز أكثر فأكثر من هواجس الذات، ونتائج الخيال. هكذا تكون المعارف وسيلة للحصول على المزيد منها ولكن بطريق غير مباشر، إذ المعارف تهدينا إلى العقل إذا لاحظناها على أساس أنه لم تكن معرفتنا بها ممكنة من دون العقل وبتركيز هذه الملاحظة ينفتح العقل، ويكتشف ذاته ويتميز عن الهواجس الغريبة. وبذلك يهتدي الإنسان إلى مزيد من المعارف. ومن هنا يتجه المنهج الإسلامي إلى العقل، ويسعى نحو ترسيخ فهمه، لكي يجعل منه نقطة انطلاق لفهم الحياة. وفيما يلي نثبت نصوصا إسلامية بذلك:
1- اعرفوا العقل وجنده، والجهل وجنده، تهتدوا. وإنما يدرك الحق بمعرفة العقل وجنده .
2- كان ممن أعطي العقل من الخمسة والسبعين جندا الخير، وهو وزير العقل، وجعل ضده الشر، وهو وزير الجهل، والإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط، والشكر وضده الكفر…
يبين النص جنود العقل وجنود الجهل لكي ينبه الإنسان إلى نور عقله تنبيها ذاتيا، يجعله يميز في داخله هدى العقل عن تخبط الجهل، والشهوات.
3- قال أبو عبد الله (ع): اعرفوا العقل وجنده، والجهل وجنده تهتدوا.
ثم قال: وإنما يدرك الفوز بمعرفة العقل وجنوده، ومجانبة الجهل وجنوده .
4- جاء شمعون بن لاوي بن يهوذا من حواري عيسى إلى النبي (ص) وسأله عن العقل: ما هو؟ وكيف هو؟ وما يتشعب منه؟ وما لا يتشعب؟ وصف لي طوائفه كلها. فقال رسول الله (ص): إن العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت، فالعقل عقال من الجهل، وإن الله خلق العقل فقال له أقبل فأقبل، وقال له أدبر فأدبر، فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعظم منك، ولا أطوع منك، بك أبدأ وبك أعيد، لك الثواب، وعليك العقاب. فتشعب من العقل الحلم، ومن الحلم العلم، ومن العلم الرشد، ومن الرشد العفاف، ومن العفاف الصيانة، ومن الصيانة الحياء، ومن الحياء الرزانة، ومن الرزانة المداومة على الخير، ومن المداومة على الخير كراهية الشر، ومن كراهية الشر طاعة الناصح، فهذه عشرة أصناف من أنواع الخير، ولكل واحدة من هذه العشرة الأصناف عشرة أنواع، فأما الحلم فمنه عنصر ركوب الجهل، وصحبة الأبرار، ورفع من الضعة، ورفع من الخساسة، وتشهي الخير، ويقرب صاحبه من معالي الدرجات، والعفو، والمهل، والمعاد، والمعروف، والصمت. فهذا ما يتشعب للعاقل بحلمه. وأما العلم فيتشعب منه الغنى وان كان فقيرا، والجود وإن كان بخيلا، والمهابة وان كان هينا، والسلامة وان كان سقيما، والقرب وإن كان قصيا، والحياء وان كان صلفا، والرفعة وان كان وضيعا، والشرف وإن كان رذلا، والحكمة والحظوة. فهذا ما يتشعب للعاقل بعلمه فطوبى لمن عقل وعلم. وأما الرشد فيتشعب منه السداد، والهدى، والبر، والتقوى، والمقالة، والقصد، والاقتصاد، والثواب، والكرم، والمعرفة بدين أمته. فهذا ما أصاب العاقل بالرشد، فطوبى لمن أقام به على منهاج الطريق. وأما العفاف فيتشعب منه الاستكانة، والحظ، والراحة، والتفقه، والخشوع، والتذكر، والتفكر، والجود، والسخاء. هذا ما يتشعب للعاقل بعفافه، رضي بأمته وقسمه. وأما الصيانة فيتشعب منها الصلاح، والتواضع، والورع، والإنابة، والفهم، والأدب، والإحسان، والتحبب، واجتناب الشر. فهذا ما أصاب العاقل بالصيانة، فطوبى لمن أكرمه مولاه بالصيانة.
وأما الحياء فيتشعب منه اللين، والرأفة، والمراقبة معه في السر والعلانية، والسلامة، واجتناب الشر، والشماتة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس. فهذا ما أصاب العاقل بالحياء، فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته. وأما الرزانة فيتشعب منها اللطف، والحزم، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وصدق اللسان، وتحصين الفرج، واستصلاح المال، والاستعداد للعدو، والنهي عن المنكر، وترك السفه. فهذا ما أصاب العاقل بالرزانة، فطوبى لمن وقر ولمن لم تكن له خفة ولا جاهلية وعفى وصفح. وأما المداومة على الخير فيتشعب منها ترك الفواحش، والبعد عن الطيش والتحرج، واليقين، وحب النجاح، وطاعة الرحمن، وتعظيم البرهان واجتناب الشيطان، والإجابة للعدل، وقول الحق. وهذا ما أصاب العاقل بمداومة الخير، فطوبى لمن أصابه، وذكر قيامه واعتبر بالفناء.
وأما كراهية الشر، فيتشعب منه الوقار، والصبر، والنصر، والاستقامة على المنهاج، والمداومة على الرشاد، والإيمان بالله، والتعرف، والإخلاص، وترك ما لا يعنيه، والمحافظة على ما ينفعه. فهذا ما أصاب العاقل بالكراهية للشر، فطوبى لمن أقام الحق لله وتمسك بعرى سبيل الله.
وأما طاعة الناصح فيتشعب منه الزيادة في العمل، وكمال اللب، ومحمدة العواقب، والنجاح من اللوم، والمودة والانشراح، والانصاف، والتقدم في الأمور، والقوة على طاعة الله. فطوبى لمن سلم من مصارع الهوى. فهذه الخصال كلها تتشعب من العقل .
قبسات من حديث الرسول عن العقل:
كل الأحاديث الدينية التي تناولت العقل ـ فيما بينها هذا الحديث ـ بينت واقع الاستقلال للعقل: الاستقلال عن الطبيعة وأهوائها وشهواتها ومتغيراتها.
وركزت الأحاديث الدينية على أن العقل هو أداة حرية الإنسان، عما حوله من ضغوط وقيود وأغلال، ووسيلة تفوقه وتعاليه، وسيادته على ما حوله من أشياء الكون، وبالتالي سبب تفضيل الرحمن له، على كثير مما خلق، وتكريمه، وتحميله المسؤولية الكبرى.
ولقد اختلفت تعابير الروايات الدينية عن استقلالية العقل، إلا أن التعبير الأكثر شيوعا، هو هذا التعبير، الذي جاء في هذا الحديث: ان الله خلق العقل، فقال له (أقبل)، فأقبل، وقال له: (أدبر) فأدبر، فقال الله تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعظم منك).
وقد أراد الرسول ان يبين مدى استقلالية العقل، في الخلق والنشء، وأنه يخاطب وأنه يقبل ويدبر و.. و..
ثم إن أبرز ميزات العقل هي (الطاعة لله) حيث قال الله تعالى له: (ما خلقت خلقا أعظم منك ولا أطوع منك) وجاء في حديث آخر (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان) ولكن لماذا؟ وكيف ان العقل أداة طاعة الله عند الإنسان؟ الواقع ان الطاعة لله تعني: التسليم للقيم المجردة التي يأمر بها الله، والقيم هي البنت الشرعية للعقل ليس الا. ثم إن الطاعة لله تعني: التحرر عن عبادة غير الله من أشياء أو أشخاص.
والعقل ـ بعدئذ ـ النقطة المركزية التي تبدأ منها وتنتهي إليها أحكام الله، وبالتالي هو المقياس و(الميزان) المستقيم الذي يقيم الأفعال به. وبتعبير آخر، العقل هو المحور الثابت في متغيرات الكون، فالأجيال تتبع بعضها بعضا، وصيغ الحياة تختلف، ومظاهر الأمور تتحول ويبقى الحكم هو الحكم، والمقياس هو المقياس. لذلك جاء في هذا الحديث (بك أبدأ وبك أعيد، لك الثواب، وعليك العقاب).
ثم إن العقل هو ميزان أحكام الله ـ أيضا ـ وكما جاء في حديث آخر: (العقل رسول باطن، والرسول عقل ظاهر) مما يعكس الوحدة الكاملة بين الأحكام العقلية والقيم الرسالية.
العقل والشخصية المتكاملة:
لكي يستثير الحديث النبوي الشريف، أكبر قدر ممكن من صفات العقل، وسماته، وميزاته، لعلنا نتنبه ـ من خلالها ـ إلى العقل ذاته.
وأيضا لكي يبين الحديث (الشخصية المتكاملة في منطق الإسلام) شرح الحديث لنا: أهم الصفات التي تميز بها العاقل وركز على الترابط الوثيق بين سجايا الخير، ذلك الترابط الذي يبرز ـ بدوره ـ مفاهيم عميقة، متصلة بطبيعة الشخصية الإنسانية.
وفيما يلي نقتبس من هذه المفاهيم من الحديث الشريف:
بين العقل والحلم:
إذا كان العقل عقالا من الجهل، وإذا كان أبرز مظاهر الجهل هو: التسرع والطيش والفوضى والانفلات، مما يسميه العرب بـ(الجهل) فإن الحلم سيكون أبرز مظاهر العقل لذلك ترى العرب يسمون العقل بالحلم والعقول بالحلوم. فما هو الحلم؟ ولماذا هو الإبن الشرعي للعقل؟
الحلم هو السيطرة على النفس، والضبط والرزانة، والحليم هو ذلك الفرد الذي لا تتلاعب به أحداث الحياة (خيرا أو شرا) ولا تستفزه أقوال الناس (مدحا أو ذما) ولا تدعوه أهواؤه وشهواته إلى الإسفاف. الرضا والغضب، السرور والحزن، والربح والخسارة.. كل هذه تبقى عنده محدودة ضمن إطاراتها، وموجهة إلى أهدافها بدقة.
لذلك ستكون نتائج الحلم المباشرة هي، كما جاء في الحديث، (ترك ركوب الجهل) وبالتالي ترك الطيش والإنفلات و(صحبة الأبرار) لطبيعة الإنسجام بينه وبينهم، ورفع من الضعة إذ لا يفقد عقله بسبب المتغيرات السارة أو المحزنة، و(رفع من الخساسة) و(تشهي الخير) والطموح الذي (يقرب صاحبه من معالي الدرجات) و(العفو) و(المهل) والأناة التي تأتي للحليم نتيجة عدم تأثره بالأحداث، و(المعروف) حيث لا يحمل قلب الحليم شيئا من الحقد، (والصمت) الا من الخير بالطبع.
بين الحلم العلم:
هل تعلم أن أخطر أعداء العلم هو الغضب والشهوة، حيث إنهما يوتران الأعصاب، ويفقدان الإنسان أهم شروط التفكر السليم، وهو الإطمئنان والهدوء؟
هل تعلم أن القلب القلق، لا يمكنه أن يتفرغ للفهم، ولا يمكنه ان يركز في شيء، ولا يقدر على ربط الأفكار ببعضها، لكي يصنع من مجموعها علما، ولا يستطيع أن يلاحظ ترابط أحداث الحياة؟
إن الحلم (وهو كما قلنا سلفا الترفع عن متغيرات الحياة) هو الأب الشرعي للعلم، لأنه يوفر المجال المناسب للتفكر، ومن ثم للتعلم.
والعلم ـ بدوره ـ يعطي صاحبه (غنى النفس، وسخاءها) و(مهابة الجانب) و(سلامة الروح والجسد) و(الهيمنة على الأمور عن كثب) و(الرفعة) و(الشرف) و(الحكمة) و(الحظوة) (فلا يعثر حظ، مع علم) كل ذلك كما جاء في حديث الرسول (ص).
بين العلم والرشد:
الرشد هو الجانب العملي من العلم. وهو التطور الإيجابي، الذي يحدث للعالم فيجعل تصرفاته منظمة وحكيمة، وذات أهداف واضحة ووسائل قريبة.
بالطبع سيكون من نتائج الرشد (السداد)، (التوفيق والوصول إلى الهدف بسهولة) و(الهدى) (إلى الحق) و(التقوى) (لأنها تنشأ من العلم بعواقب الأمور) و(المنالة)، و(القصد) (فلا تطرف ولا تقصير) و(الاقتصاد) (في المعيشة) و(الثواب) (عند الله) و(الكرم والمعرفة بدين الله) (لأن دين الله هو البرنامج الواضح للرشد أو للعلم العملي).
بين الرشد والعفاف:
(حب الدنيا رأس كل خطيئة) والترفع عن الدنيا رأس كل فضيلة، لا يعني الترفع عدم امتلاك الدنيا، وإنما عدم السماح للدنيا بإمتلاك الإنسان، والسيطرة الكاملة عليه. والعفاف هو ذلك الترفع، ذلك الزهد المرغوب، ذلك الصوم الداخلي، عن شهوات الدنيا.
وإذا كان الرشد هو العلم العملي فإن (خلاصة) معارف الإنسان ستهديه إلى أنه: أكبر وأكرم من الدنيا، وان الدنيا ليست الثمن الكافي لنفسه، فالعفاف هو أبرز صفات الرشد، وتنبثق من العفاف (الاستكانة) و(الخضوع لله وللحق) و(الحظ والراحة والتفقه، والخشوع والتذكر) (لأنه لا ينشغل باله بالهموم، التي تستقطب اهتمام الناس) و(التفكر والجود والسخاء).
بين العفاف والصيانة:
حين يعف الفرد، ويترفع عن شهوات الدنيا، فإن النتيجة الطبيعية لعفافه، ستكون صيانة نفسه، وحفظها عن الأخطار. فمثلا لا يرتكب الإثم، ولا يقترب إلى الجريمة، ولا يقوم بعمل يضر دينه أو ديناه. ويتشعب للعاقل بـ(الصيانة) (الإصلاح، والتواضع) (لأن التكبر يأتي نتيجة الشعور بالضعة، والعفيف الذي يصون نفسه، لا يشعر بالنقص أو الضعة) (والورع) (عما يضر جسمه أو روحه) (والإنابة والفهم، والأدب والإحسان والتحبب) (إلى الناس لكي يصون نفسه من أذاهم) (والخير) (إلى الناس حيث أن الإحسان إلى الناس نوع من التأمين الإجتماعي) (واجتناب الشر).
بين الصيانة والحياء:
حين تحترم الناس تنتظر منهم الإحترام، وحين يصون الإنسان نفسه عن الناس، يفرض عليهم مهابته، وبالتالي يرتبط معهم بعلاقات جيدة، هذا هو الحياء.
والرجل الحيي ينتفع بحيائه عدة منافع هي: (اللين، والرأفة، والمراقبة لله في السر والعلانية، والسلامة، واجتناب الشر) (لأن كثيرا من الشر يأتي من الصلافة) والبشاشة والسماحة والظفر وحسن الثناء على المرء في الناس.
بين الحياء والرزانة:
قد يتحرك الإنسان في المجتمع وفق رؤى وأهداف يخطط لها سلفا، وقد يتحرك وفق ما تمليه المؤثرات المرتجلة الآنية. والرجل الأول يسمى رزينا، وتأتي صفة الرزانة من الحياء لأن الحياء ـ بدوره ـ آت من الصيانة والرشد، وهي الصفات التي تجعل العاقل فوق مستوى الأحداث.
إن فريقا من الناس لا يمكنهم، تكوين علاقات اجتماعية صائبة، إذ علاقاتهم آتية من مواقف مرتجلة، وحالات نفسية غير منضبطة، بينما العاقل الذي يحتمي بحجاب من الحياء، ويحظى باحترام الناس، يكوِّن علاقاته وفق مبادئه وحكمته، فتراه متصلبا مبدئيا، ولكنه ـ في الوقت ذاته ـ لين هش بش يعطي من نفسه للناس الكثير، ولكن لا يعطي من مبادئه شيئا.
ويستفيد العاقل من (الرزانة) أمورا أبرزها: (اللطف، والحزم، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وصدق اللسان، وتحصين الفرج، واستصلاح المال، والاستعداد للعدو، والنهي عن المنكر، وترك السفه) (الأعمال غير المفيدة: اللغو، قتل الفراغات بالتوافه).
بين الرزانة والمداومة على الخير:
لأن علاقات العاقل (الرزين) ناشئة مبادئه، وغير متأثرة بآراء المجتمع، فإنه يتعود على الخير، وإذا كان الشر عادة، والخير عادة، فلماذا لا يتعود الإنسان على الخير؟
وما هو الخير؟ (ترك الفواحش والتحرج)، (التقوى) (والبعد من الطيش)، إنها جميعا خير وينتفع العاقل بمداومته على الخير (اليقين) (لطبيعة تأثير العمل على الفكر) (وحب النجاة وطاعة الرحمن، وتعظيم البرهان) (كل ما فيه حجة على الحق) (واجتناب الشيطان، والإجابة للعدل وقول الحق).
بين المداومة على الخير وكراهية الشر:
حين يتعود الإنسان على شيء، يستوحش من تركه، ومن الأعمال التي تتعارض معه، ولذلك فإن العاقل يستوحش من عمل الشر، وما أفضله من فضيلة.
ويصيب العاقل عدة حسنات من كراهيته للشر هي (الصبر والنصر والإستقامة على المناهج (أي على الخطة المرسومة له من قبل الله أو من وحي رشده) والمداومة على الرشاد، والإيمان بالله، والتعرف، والإخلاص، وترك ما لا يعنيه، والمحافطة على ما ينفعه).
بين كراهية الشر وطاعة الناصح:
حين يتحذر الإنسان من شيء ويكرهه، يبادر إلى الفرار منه، إذا أخبر بوجوده، فإذا كان ما يتحذر منه إنسان هو الشر فإنه يندفع ـ آليا ـ إلى طاعة من ينصحه بإجتنابه، ان هذه الطاعة لا تكون مفروضة على العاقل من فوق، بل مدفوع إليها من الداخل.
والنتائج الجيدة التي يستفيدها العاقل بطاعة الناصح هي (زيادة في الفعل وكمال اللب ومحمدة العواقب) (إذ انه يجمع عقول الناس وعلومهم إلى نفسه) (والنجاة من اللوم)، والقبول (من قبل، إذ المشورة، أو طاعة الناصح، تجمع الناس حول العاقل)، (والمودة والإنشراح والإنصاف والتقدم في الأمور) (المبادرة وسبق الزمن، إذ هذا ما ينصحه الناصح عادة) و(القوة على طاعة الله) (إذ يلقى التشجيع عليها).
الزنقب غير متصل  
قديم(ـة) 19-06-2014, 08:32 AM   #3
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
سؤال أخير:
هذه هي الصفات التي تميز بها العاقل، والمزيد من التدبر فيها، وفيمن يتصف بها، يدعنا نسأل هذا السؤال الأخير: هل هناك شيء أوضح من العقل أو أكثر سناءا؟ وكيف كنا نفتش عن مقياس يميز بين العلم والجهل وهذا العقل موجود عندنا؟!

الثقة مفتاح العقل
الناس سواسية في العقل، فتلك نعمة أسبغها الله على البشر جميعا، إنما يختلف الناس في مدى استثمارهم لها، ولكن لماذا يستثمر البعض عقولهم ويتركها آخرون؟ هناك عوامل عديدة تنبع من عامل واحد أساسي هو (الشعور بالضعف). إذ ان هذا الشعور يفقد صاحبه الإيمان بذاته، بقدراته، بإمكانية مقاومته الضغوط من حوله. وحين يفقد الإنسان إيمانه بنفسه، لا يبقى منه إلا قشرة خاوية، إذ ما قيمة قدرة لا يعترف صاحبها بوجودها.
مثلا، ما قيمة ثروة يمتلكها شخص دون أن يعرف أنها له؟ وما قيمة سلطة لا يعترف صاحبها بها؟ إن البشر مزود بنور العقل، بالقدرة على كشف الحقائق، بإمكانية النفاذ إلى خبايا الحياة، ولكنه لا ينتفع بها من دون إيمان بوجودها.
لذلك ترى أن من تأخذهم هيبة البحث عن حقيقة معينة لا يستطيعون كشفها، إذ إنهم حكموا على أنفسهم ـ سلفا ـ بالعجز والفشل، والذين تمتلكهم هيبة العلماء السابقين عليهم، يستحيل عليهم فهم أي شيء جديد، إذ إنهم لا يؤمنون بأي اكتشاف ذاتي يتوصلون إليه.
والأجيال التي تعبد جيلا سابقا، وتعتقد أنه وصل إلى قمة العقل والمعرفة، تبقى ـ هذه الأجيال ـ في أوحال الجهل لأنها تفقد الثقة بقدرتها على فهم أي شيء لم يفهمه ذلك الجيل السابق .
ولا تكفي الثقة بالعقل، بل يجب أن يثق الإنسان بكامل قدراته ليستطيع استثمار عقله ذلك لأن ضغوط الحياة المادية تفقد الإنسان استقلاله في التفكير والسلوك، تفقده حريته في القرار.
السلطة الطاغية التي تستعبد الناس بقوة الحديد والنار، وتختار لهم سلوكا معينا تفرضه عليهم، هذه السلطة تفقد الإنسان شعوره بالاستقلال والحرية وتجعله لا يفكر إلا في اختيار ما يرضي تلك السلطة.
والمجتمع المحافظ الذي يرمي المخالفين له بأنواع التهم وينبذهم عن نفسه، هو الآخر يفرض على البشر نوعا خاصا من التفكير، والسلوك ويفقده حرية القرار، وبالتالي حرية التفكير والمعرفة.
كذلك النظام الاقتصادي الذي يسوق الناس إلى سبل معينة، ولا يسمح لهم بتجاوزها، أمام ضغوط هذه الأغلال يتوقف الفكر ولا يستثمر العقل.
ولكن، هل تفقد هذه الضغوط حرية الإنسان حقيقة؟ هل تجعله لا يقدر أبدا على تغيير وضعه؟ هل تسلبه إمكانية التمرد والثورة والتضحية والإصلاح؟ كلا إذ ان الله أكرم عباده بالحرية، وأعطاهم القدرة الكافية للدفاع عنها.. فالشعب المضطهد يستطيع تحطيم عرش السلطة الطاغية، والجيل التقدمي قادر على التمرد ضد جيل التخلف، والمجتمع يتمكن من تغيير النظام الذي لا يناسبه، وتطورات التاريخ شواهد على هذه الحقيقة.
أقول الإنسان قادر على المحافظة على حريته شريطة أمر واحد، هو الإيمان بذاته، الإيمان بأنه قادر على التمرد، والثورة والتضحية والإصلاح، وله من الإمكانيات ما تحقق ذلك، إذ القضية ليست قضية وجود إمكانيات، ان طاقات الإنسان لا تحد ولا تنتهي انما هي قضية الإيمان بهذه الطاقات والثقة بها، كما أن القضية ليست في تطلع الإنسان إلى تحقيق الحرية والإستقلال، إذ إن هذا التطلع هو أسمى فطرة ركزها الله في طبيعة البشر، لا تحد ولا تنتهي ولو بلغ الإنسان الثريا لـ(تطلع) إلى نجمة أرفع.. ولو أوتي ملك الدنيا لـ(تطلع) إلى ملك الآخرة.. ولو وهب خزائن الأرض لأمسك خشية الانفاق، وحبا في المزيد، وليس من بشر يتنازل عن حريته طوعا، ولكن يكره إكراها يسلبه إيمانه بذاته، وثقته بقدرته على ممارسة حريته. فالقضية ـ إذا ـ قضية ثقة، ومن هنا كان الطغاة يسعون أبدا إلى إشعار ضحاياهم ـ من الشعوب ـ أنهم لا يقدرون على مقاومتهم، إذ بمجرد هذا الشعور، يستسلم الإنسان لواقعه الفاسد، فكرا وسلوكا.
ومفتاح الأمر آنئذ (في الثقة) إذ انها تدفع الإنسان إلى تفجير طاقاته، واستغلالها في مقاومة ضغوط الطغاة.
وإذا تخلص الإنسان من خشية الطغاة، استعاد حريته، وإستثمر عقله، وملك حياته وستقلاله.
التوكل؛ ثقة لا تحد:
ويبقى السؤال الكبير: من أين نكتسب الثقة بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وكيف؟ حين نؤمن بأنه رب السماوات والأرض، رب العالمين، بيده ملكوت السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، يعز من يشاء ويذل من يريد، ينصر عباده بالغيب، ينصر من ينصره، ويحب من يحبه ويتوكل عليه، ويعين من يستعين به.
وحين نعرف أن الله واسع لا تحد عطاه العطايا، حين نؤمن بالله إيمانا حقيقيا ، ونعرف أن الله عليم حيكم، وليس بظلام للعبيد، لا يمنع ولا يعطي اعتباطا وعبثا إنما بقدر مؤهلات الفرد ذاته، قدر إيمانه وعقله وعمله الصالح، حين ذاك، تتفجر ينابيع الخير في الإنسان. إذا شروط التحرر والتقدم موجودة عند الإنسان. فالتطلع فطرة راسخة عنده، والوسيلة لتحقيق التطلعات موجودة عند الله، والشرط الذي يحقق الوسيلة موجود عند الإنسان، الإيمان والعمل. من هنا نعلم أن التوكل على الله يعطينا الثقة بمواهبه فينا، بنعمه علينا. وبالتالي بقدرتنا على مقاومة الضغوط أيا كان نوعها.
ضغوط الجبت من هوى وشهوات.
ضغوط الطاغوت، من سلطة متجبرة، أو مجتمع فاسد، أو مصلحة آنية.
والقرآن الكريم ـ كتاب العقل والحرية ـ لا يأمر بالتوكل فحسب، بل ويقص علينا عبرا من حياة المتوكلين على الله، الذين قاوموا ـ بسلاح التوكل ـ ضغوط الجاهلية فانتصروا عليها. وبيَّن القرآن ـ من خلال هذه القصص حقيقة أخرى، هي أن الحرية وحدة لا تتجزأ، فليس هناك حرية فكرية، دون حرية سياسية، ولا حرية علمية، دون حرية اقتصادية، ولا حرية دينية، دون حرية اجتماعية.
وحين ينال من حرية في حقل، فإنما يهبط مستوى الحرية في سائر الحقول أيضا، وحين أرادت رسالات الله الحرية للإنسان، لم تجزئها إلى حرية دون حرية، بل تحدثت عنها واحدة واحدة وسعت إلى ترسيخها في فطرة البشر جميعا.
إنما جعلت رسالات الله، حرية الفكر بابا لسائر الحريات، وجعلت مفتاحه الثقة بالله والتوكل عليه.
نصوص إسلامية في التوكل:
دعنا نتلو القرآن لنتدبر في آيات التوكل.
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه، لنخرجنك يا شعيب، والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين) [الأعراف/ 88].
(قد افترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم، بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها، إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علما، على الله توكلنا ربنا افتح بيننا، وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين) [الأعراف/ 88-89].
(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) [الأعراف/ 91].
(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم، أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض، وإنه لمن المسرفين، وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين. فقالوا على الله تولكنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) [يونس/ 83-86].
ثم قال ربنا في نهاية القصة: (ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات) [يونس/ 93].
إن عشرات العبر يقصها علينا القرآن الحكيم، من حياة المؤمنين الذين حافظوا على حريتهم، ضد الطغاة وهي جميعا تسير في خط واحد هو:
1- الإيمان بالله، والتوكل عليه، والصبر على الشدائد.
2- مقاومة الطغاة بعنف.
3- الانتصار عليهم انتصارا نهائيا.
ومن هذا المنطلق يأمرنا ربنا بالتوكل في عشرات الآيات، ليزيل هاجس الخوف من فؤاد الإنسان، ويطلق قواه لمقاومة الظالمين، والمحافظة على حريته الكاملة، وفيما يلي نثبت بعض الآيات.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [التوبة/ 51].
(فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران/ 159].
(وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [المجادلة/ 10].
(ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله) [الأحزاب/ 48].
كلمة الخلاصة: لا يستثمر العقل إلا بالثقة، والثقة بالذات، والإيمان بالحرية، وبالقدرة على المحافظة بها، ولكن هذه الصفات لا توجد إلا بالتوكل على الله لأنه مفتاح الثقة، وشرط لاستثمار الإنسان عقله .
البحث السابع عن الحقيقة: بين العلم والهوى
بين العلم والشهوات.
الحق والعدل.
الإنسان بين الهوى والعلم.
مفارقة الهوى عن العلم.
شهوات الهوى.
لا.. لحتميات الهوى.
بين العلم والقطع.

بين العلم والهوى
العلم هو إحاطة الفكر البشري بالحقائق، بحيث تظهر له وتنكشف أمامه بوضوح وتمييز، وهو قد يوافق الشهوات، وقد يخالفها. وبتعبير أفصح قد يعي الإنسان ما يحبه، كعلمه بربح تجارته، وقد يعلم ما يكرهه كعلمه بكسادها. وسواءا خالف أو وافق العلم الشهوات، فإنه مختلف عنها في مركز إشعاعها. إذ العلم من العقل، والشهوات من القلب، وتتأثر الشهوات بالظروف المتطورة، دون العلم. فحبك لصديقك قد يزول، بينما علمك بوجوده يكون لا يزال موجودا. وبالرغم من وضوح الفرق بين العلم والشهوات، إلا أن مهبط النفس الواحد، قد يسبب في تداخلهما بحيث يذهب العلم ضحية الشهوات، فيستصعب على الإنسان تصديق ما يبغضه. فمثلا: النبأ المفاجئ بموت صديق حميم لا يصدقه المرء ويحاول ـ جهده ـ أن يؤوله بصورة أو بأخرى.
وهذه الحقيقة نسميها (بالخداع الذاتي) ومعنى خداع النفس أن يقدم الإنسان بمحض مشيئته، بمنع تسرب الحقيقة إلى دماغه. ويتم ذلك ـ عادة ـ بالطرق التالية:
1- إغلاق منافذ النفس المطلة على الواقع الخارجي.. كأن يغض المرء عينه عن مطالعة كتب العلم، ويسد سمعه عن مدارسة أحاديث المعرفة، وينأى عن ملامسة حقائق الأشياء.
2- تركيز النظر في الباطل، دون الحق فـ(يستحوذ) الضلال على الفكر ولا يدع مجالا لتسرب نور الحق إليه، ذلك لأن للإنسان قلبا واحدا إذا توجه تلقاء الحق عمي عن الباطل، وإن تولى صوب الباطل عمي عن الحق.
3- بسبب من مزيد التوجه إلى الباطل، يتشبع الفكر بأدلة الباطل، وبراهينه، وتنسجم النفس بها، حتى يبدو الحق في قبالها خاليا من الحجة وبعيدا عن الواقع، ولذلك حين يسمع الفرد بعض الحجج الحق، تبدو عنده واهية وسخيفة، وبالتالي غير قابلة حتى لمجرد التفكير في صحتها.
بين العلم والشهوات:
ليس من ريب في أن الدوافع النفسية قد تسير بإتجاه الحقائق الواقعية، فلا تحدث أية مشكلة، وقد تسير بإتجاه معاكس فتنشأ المشاكل.
فمثلا الدافع الحيوي (البيولوجي) إلى الطعام، والذي يتحول إلى دافع نفسي (سيكولوجي) مما نسميه (شهوة الطعام)، هذا الدافع، يسير باتجاه العلم، بمكان الطعام، وسبيل الوصول إليه، وكيفية التهامه.. و.. و.. لذلك لا نجد مشكلة نفسية في تعلم هذه الأمور أو تعليمها، فحتى الطفل الرضيع يقدر على معرفة حقيقة هذه الأمور ببساطة وسرعة. ولكن العلم بحقيقة العدل في اختيار الطعام الحلال الطيب، وكيفية بلوغه، ونوعية تطبيقه، يتعارض مع مجموعة دوافع (بيولوجية) وشهوات (سيكولوجية) فيصعب الوصول إليه. ان العدل يفرض علينا الالتزام بحقوق الناس والتوازن في العمل بحقوقنا، وذلك مما تخالفهما الشهوات العارمة التي تريد أن نفرط في إشباعها أيما إفراط.
أهمية الحق والعدل:
لذلك يكون من المستصعب حقا معرفة العدل، ويختلف فيه الناس اختلافا كثيرا. ولا ننسى إن الشهوات شيء والمصالح شيء آخر، فليست المصلحة دائما تفرض علينا اتباع الشهوات حتى النهاية، بل قد تكون المصلحة في كبحها، أو تحديدها، كالمبتلي بمرض السكر تفرض عليه شهوة الطعام تناول الحلويات بوفرة، بينما تمنعه مصلحته من ذلك.
وليس من شيء أنفع للبشر من الحق والعدل وأقرب إلى مصالحه، ولكن هل يعقل الإنسان ذلك؟ أم إنه لو عقل هل يترك اتباع الشهوات؟ كلا؛ لأن الإنسان إبن الشهوات، وقليل من الناس يرتفعون إلى مستوى مصالحهم ليقيسوا أمورهم بميزاتها، ويسعون لتحقيقها ولو عارضت الشهوات العالجة. ومن هذا القليل فريق كبير يخطئ في معرفة المصلحة الحقيقية له، فيزعم أنها تتعارض مع الحق والعدل، وبشكل من الأشكال، ولذلك يصعب عليه هو الآخر أن يسعى في سبيل معرفة الحق والعدل، وأن يجهد من أجل بلوغهما أو تطبيقهما، وأقل منهم أولئك الذين استهدفوا مصالحهم، لا شهواتهم، وعرفوا تماما أنها ترتكز حول الحق والعدل، إن هؤلاء فقط يقدرون على متابعة بحوثهم الرامية إلى معرفة الحقيقة والوصول إليها، لأنهم ـ فعلا ـ مسلِّمون لها مقتنعون بجدواها. والخلاصة إن الناس على ثلاثة:
1- إبن الشهوات العاجلة.
2- إبن المصالح غير العارف بموضعها.
3- إبن المصالح العارف بأنها تتمثل في الحق. والأول والثاني يخطئان، ويصيب الثالث الحقيقة لأنه لا يجد في البحث عنها أية صعوبة نفسية بل تدفعه إلى ذلك بواعث ودوافع كثيرة.
الإنسان بين العلم والهوى:
فكرة المنطق الإسلامي الأساسية، التي تتفرع عنها رؤى الإسلام في المنطق ومناهج البحث، تتلخص في أن الهوى (الشهوات) ـ (الغضب) يمنع العلم، ومخالفة الهوى، وسيلة لمعرفة الحق، وأن الإنسان لا يترك العلم والحق الا لاتباع الهوى. ولكي تتوضح هذه الفكرة لابد ان نتحدث عن ثلاث حقائق: معنى الهوى، والنصوص التي تحدثت عنه، وعن الحالات التي يتبع الهوى فيها، وأخيرا عن أن الهوى ليس حتما، وان اتباعه أو عدم اتباعه، يخضع لإرادة الإنسان الحرة.
مفارقة الهوى عن العلم:
الهوى يعني الحب، وهوى النفس يعني: حب الذات، وأهواء النفس هي: شهواتها، طبائعها، وغرائزها، ميلوها الفطرية والتربوية.
والعلم هو معرفة الحق. والحق والشهوات قد يلتقيان في أمر واحد كما إذا كانت المصلحة في اتباع الحق، ولكنهما يفترقان كثيرا.
فليس كل إنسان يهوى الحق، ويشتهي العمل به في كل وقت. إنما كثيرا منا يهوى الباطل، اننا نشتهي الخلود في الدنيا وليس حقا، إنما الموت ـ الذي لا نحبه ولا نشتهيه ـ هو الحق.
والاسلام اعتبر الحق منطلقا والهوى منطلقا وأراد للإنسان أن يتبع الحق، وينبذ الهوى، إذا كان الهوى يخالف الحق. لأنه أيضا يخالف العلم ـ آنئذ ـ وهكذا اعتبر الإسلام الهوى سببا لتكذيب الأنبياء. (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) [البقرة/ 87].
واتباع الظن، والذي لا يعدو أن يكون أهواءا ـ النفس ـ هو الذي أردى بالبشر فجعلهم كفارا ومشركين.
(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) [النجم/ 23].
والعدل كما الحق لا يمكن تطبيقه الا بمخالفة الهوى.
(فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) [النساء/ 135].
وحين بعث الله نبيه داود وجعله خليفة على الناس، أمره بمخالفة الهوى لأنها طريق العمل بالحق: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [ص/26].
ورسالة الرسول (ص) بنيت على الوحي لا الهوى: (وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى) [النجم/ 3-4].
ونهى الله عن الطاعة لمن يتبع هواه، لأنه يتبع الباطل ولأنه قد غفل وابتعد عن عقله: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) [الكهف/ 28].
والذي يتبع هواه فإنما هو مشرك، إذ أنه يعبد هواه.
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) [الفرقان/ 43].
وأهواء الناس ضلالات يجب مجانبتها.
(قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) [الأنعام/ 56]
والهوى يخالف العلم، ولا يمكن أن يجمع الإنسان بين اتباع الهوى، واتباع العلم. (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة/ 120].
(ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) [المائدة/ 48].
واتباع الحق يصلح الأرض، أما إتباع الهوى فإنه يفسد الأرض والسماء لأنه باطل. (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) [المؤمنون/ 71].
والذين لم يستجيبوا للرسول، فإنما كان بسبب واحد فقط، هو اتباع أهواءهم إذ إنه السبب الوحيد لمخالفة العلم.
(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) [القصص/ 50].
أما ضلالة الناس، كثير منهم، فإنما هي بسبب اتباع الهوى، وعدم العلم، (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم) [الأنعام/ 119].
وجاء في الحديث: أوصى الله لداود: (حذر وأنذر أصحابك عن حب الشهوات، فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا، قلوبهم محجوبة عني..) وجاء في رواية مأثورة: (وإذا حيرك أمرك لا تدري أيهما خير، وأصوب، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن كثير الثواب في مخالفة هواك).. وجاء في حديث آخر: (وأكثر الصواب في خلاف الهوى، وإن الطمع مفتاح الذل واختلاس العقل والذهاب بالعلم..).
شهوات الهوى:
إذن، اتباع الهوى يعني: اتباع ما يحبه الإنسان ويشتهيه. ولأن شهوات الإنسان تختلف، فإن موارد اتباع الهوى تختلف هي الأخرى، والسؤال: ما هي شهوات الإنسان؟ وبالتالي ما هي أهواؤه؟ : شهوة الخلود، شهوة الراحة، شهوة الأمن والسلامة، وأخيرا شهوة الملك والسيطرة.. هي جميعا شهوة واحدة هي (شهوة الحياة) وهي أعمق شهوة في النفس البشرية، لأنها صور لهوى النفس، في أوضح وأصدق حالاتها. شهوة الطعام والمسكن واللباس، شهوة الأولاد وحس التكيف مع البيئة، حس التكيف مع المجتمع، والاستسلام لضغوط السلطة، كل هذه صور أخرى وإن كانت باهتة ـ أحيانا ـ عن شهوة الحياة.
إذ لا يخضع الفرد لتوجيه المجتمع، إلا لأنه يخشى من عقوبته المتمثلة في متعة ضرورات حياته، ولأنه يحب حياته فهو أيضا يحب ما يحافظ عليها من ضرورات، وما ترتبط به هذه الضرورات من التكيف مع البيئة أو مع المجتمع.
وحين يخضع الإنسان للمجتمع، أو للبيئة، أو للسلطة، تخضع كل مناحي حياته معه وفي طليعتها فكره. ولذلك فإنه يدفع بفكره بإتجاه التوافق مع المجتمع والاستسلام لتوجيهاته، وكذلك باتجاه الخضوع للسلطة .
إذا، حب الذات، أو بتعبير أفضل (هوى النفس)، هو وراء كل أسباب الخطأ في الإنسان، ابتداءاً من الأسباب النفسية والتقاليد، وانتهاءا بالأسباب الطبيعية، مرورا بالأسباب الاجتماعية والاقتصادية ـ كما نتحدث عنها في المستقبل ان شاء الله ـ وبالرغم من ان صور الهوى تختلف من شهوة الخلد والملك وشهوة الراحة والأمن إلى شهوة الطعام والمساكن و.. و..
بالرغم من ذلك، فإنها تعود إلى أصل واحد هو حب الذات، أو هوى النفس . وحين يفضح الإنسان، مدى ارتباط هذه الشهوات، وما ينبع منها من أفكار خاطئة، مدى ارتباطها بالهوى، تفقد الأخطاء خلفيتها وتنهار، إذ لا يرتاب الإنسان في ان الفكرة الناشئة من حب الذات، لا رصيد لها من الواقع إذ لابد ان تنشأ الفكرة من الواقع الخارجي ذاته، لا من مصلحة ذاتية مباشرة أو غير مباشرة.
وهكذا يسير المنطق الاسلامي، طريقا مستقيما، ومختلفا عن سائر الطرق في إزالة أسباب الخطأ من حياة الإنسان، ذلك الطريق هو التوجيه إلى السبب الرئيسي لكل الأخطاء (هوى النفس) وفضح علاقة كل الأفكار الخاطئة بهذا السبب.
لا لحتميات الهوى:
ويبقى سؤال: هل الإنسان مضطر لاتباع هواه؟
بلا تردد كلا.. هل الذي يشتهي طعاما مكره على أكله، أم قادر على نبذه؟! وهل الذي يشتهي التمتع بامرأة جميلة، تسلب منه حرية القرار؟! بالطبع، إن حرية الإنسان تبقى معه في كل الظروف مهما كانت شديدة الضغط، وبما أن الحرية موجودة فإن قدرته على معرفة الحق موجودة هي الأخرى، فإن الذي يتبع هواه ويكيف نفسه مع مجتمعه ثقافيا، يستطيع ان يقف لحظة ويفكر: لماذا أنا أعتقد بهذه الأفكار ألأنها صحيحة؟ أم لأنها أفكار مجتمعي؟ بالطبع إنه يخادع نفسه في البداية، خشية التعرض لعقوبة المجتمع، ولكن إذا استمر في التحدي، وفكر جيدا استطاع أن يفهم الحقيقة، حيث إنه راح يقارن بين هذه الأفكار، وبين أمثالها من الأفكار كيف انه يعتقد بتلك ويرفض هذه؟! مع أننا جميعا نشترك في القوة الاقناعية؟ إن العادة، والاسترسال، والخوف من التغيير، والسلبية أمام ضغوط الشهوات، هي التي تمنع الناس من إعادة النظر في كيانهم الثقافي، وتقييمه من جديد، وبالتالي رفض كل باطل فيه.
بين العلم والقطع:
(إلى أن تبلغ نسبة الاحتمالات الايجابية 49% تكون القضية وهمية، فإذا صعدت إلى 50% صارت مشكوكة، وإذا تجاوزتها صارت ظنية، إلى أن تصل إلى 99% وبعدها، أي 100%، تكون القضية قطعية، وهي درجة الإطمئنان الكامل. وبالتالي العلم الحق). هذه النظرية مرفوضة في المنطق الإسلامي الذي يرى ان صعود الاحتمالات إلى مستوى 100% ممكن في العلم والجهل معا.. أي فيما إذا كان اليقين صحيحا أو باطلا، وعلى هذا فليس من الصحيح أن صعود الاحتمالات النفسية يكون دليلا على اقترابنا من الحق، وهبوطها دليلا على العكس بل إن ما يوافق الحق علم وما يخالفه جهل وظن وإن صعدت نسبة احتمالاته عند الشخص إلى 100 … ويقول المنطق الإسلامي إن النفس البشرية تتنازعها قوتا العقل والشهوات وتؤثر كل واحدة فيها، وتعطي كل واحدة منها درجة الاطمئنان عندها بالنسبة إلى القضايا. فحبنا لشخص قد يدعونا إلى تصديق نبأ قدومه قبل ان نصدق نبأ مجيء من نبغضه. إذ الحب يساعد على صعود نسبة الاحتمالات.
فإذا افترضنا أن الحب كان شديدا، فأثر على النفس في ازدياد نسبة الاحتمالات الإيجابية، فهل يعني ذلك أننا توصلنا للحق؟
إذا، هناك فرق في ازدياد الاحتمالات لتبلغ درجة 100% والذي يسمى بالقطع، وبين العلم الذي ـ حتى إذا كانت نسبة احتمالاته أقل من المائة ـ فإنه يكشف عن الحقيقة لأنه يطابق أبدا الواقع الحق …
ويبقى السؤال التالي: حتى الآن كنا نتصور أن المقياس الذي يميز العلم عن الجهل هو وصول الاحتمالات الإيجابية إلى درجة المائة بالمائة وكما تقولون ليس هذا المقياس صحيحا في المنطق الإسلامي فما هو المقياس الصحيح؟
الجواب: لا تصدر الفكرة إلا من واحدة من القوتين المتنازعتين في النفس، أما العقل وأما الهوى، ولا يمكن أن توجد فكرة من دون علة أو مصدر. فإذا كانت الفكرة ناشئة من العقل، كانت علما وإذا كانت من الهوى كانت ظنا (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) ولكن كيف تتميز الفكرة الناشئة عن أختها؟
أولا: بالتأمل الذاتي، الذي يعني توجيه سلسلة من الأسئلة الداخلية: كيف اعتنقت هذه الفكرة؟ ولماذا؟ وهل أرفضها في ظروف معينة مثلا؟ هل أرفض فكرة الرأسمالية إذا أصبحت عاملا أم لا؟… وهل استسلمت للفكرة نتيجة ضغط معين؟ أم اطمأننت بها من دون ضغط؟… إن لحظة واحدة من التأمل الذاتي كفيلة بفضح خلفيات الفكرة ومنشئها.
ثانيا: الفكرة وليدة الهوى، متغيرة وفق متغيرات الهوى، يخبو وهجها، وتقل احتمالاتها إذا ضعف الهوى، وتتغير كلية إذا تغير، ثم تعود إذا عاد. فمثلا الشعب الذي يعتنق الأفكار استجابة للسلطة، رغبة أو رهبة، تتغير أفكاره كلما تغيرت السلطة وتضعف أفكاره كلما ضعفت السلطة. والفرد الذي يستوحي أفكاره من واقع الطبقة التي ينتمي اليها، بروجوازية أو بروليتارية أو بيوقراطية، تتغير أفكاره كلما تغير موقعه. فيوما يكون مؤمنا بالرأسمالية، ويوما بالاشتراكية، ويوما بالحرية، ويوما بالدكتاتورية.. و.. و.. عن هذه الحقيقة يقول القرآن الحكيم:
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه، وكان أمره فرطا) [الكهف/ 28] يبين القرآن أن اتباع الهوى يتسبب في فوضى أمور الإنسان، لأنها لا ترسو ـ آنئذ ـ على قواعد ثابتة.
ثالثا: والفكرة (ناشئة العقل والعلم) تتميز بخصائص كالتالية:
أ- بأنها ثابتة جازمة لا تقبل الريب إذ إن ذاتها الكشف ومشاهدة الواقع ومباشرة وجدانه، وكيف تجد النفس الواقع ثم تتشكك فيه؟
ب- وهي شاملة لا تخصص، فإذا كانت الرذيلة قبيحة عند العقل، فلن يكون هناك فرق بين الناس الذين تصدر منهم الرذيلة، أن يكونوا من الكبراء أو من المستضعفين، من عرق أو آخر، في عصر أو آخر.
ج- إن أحكام العقل تتفق عليها عقول الناس جميعا.
فالعقل هو العقل عند أي إنسان كان، ولذلك فهو حجة بين العباد ـ كما جاء في حديث مأثور ـ دعنا نذهب أنى شئنا فسوف لا نجد الفضيلة في الخيانة والنفاق، وإيثار النفس على الآخرين كما لا نجد الرذيلة في التضحية والإباء والشجاعة والكرم.
رابعا: لا تتطور أحكام العقل بتطور الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفسيولوجية، لأن أحكام العقل كاشفة عن الواقع كما تكشف المرآة عن الأشياء. فكما أن تطور الأشياء لا يغير من كشف المرآة، بل تظل المرآة ثابتة، كذلك تطور الحياة، لا يعني ان العلم يتطور أيضا.
وكلمة أخيرة؛ النصوص الإسلامية تحدثت طويلا عن العقل وجنوده، والجهل وجنوده، لكي يستوضح الإنسان رؤيته، عما تجري داخل ذاته، من تصارع العقل والهوى، والعلم والشهوات، وذلك لأن التنبه الذاتي إلى مصدر الفكر الصحيح الداعي إلى الخير والموضح للحق، والرادع عن الطيش والباطل، ثم إلى مصدر الفكر الباطل الداعي إلى الشر، والجهل، والطيش والضلال.
أقول التنبه الذاتي إلى مصدر كل واحد من الفكرتين سيعطينا مقياسا واضحا للفرق بين العلم والجهل.

أصوله ومناهجه
المنطق الإسلامي
القسم الثالث عن: كيف نتجنب الخطأ؟
العوامل النفسية للخطأ.
وراثة الأفكار.
الانحرافات النفسية.
العامل الاقتصادي.
العوامل المادي.

القسم الثالث:
كيف نتجنب الخطأ؟
البحث الأول عن: العوامل النفسية للخطأ
كلمة البدء.
بين الغرائز والهوى.
الجذور النفسية للخطأ.

كلمة البدء
يتصور الرأي السائد في المنطق أن مشكلة الإنسان في العلم، هي مشكلة عقلية محضة، يمكن حلها بوضع قواعد لتنظيم عملية التفكير.
إلا أن الحقيقية هي أن المشكلة نفسية، قبل أن تكون عقلية، لذا نحن بحاجة إلى معالجة النفس البشرية، قبل ان نضع قواعد لعقله، وتنظيم فكره.
ذلك لأن النفس البشرية قد تستأثر بإرادة الإنسان وتوجهها إلى حيث تتحرك أهواؤها، وهنالك تبقى قدرة الإنسان على التفكير معطلة رأسا، ولا تغنيه القواعد الموضوعة لتنظيم التفكير .
من هنا فإن علم النفس لابد أن يدخل كطرف مباشر في المنطق كما يقول جون ديوي:
(إن علم النفس ذاته فرع خاص من فروع منهج البحث، فهو بصفة عامة يتصل بنظرية البحث المنطقي، بنفس العلاقة التي يتصل بها علم الطبيعة، أو الكيمياء، ولكن لما كان علم النفس أوثق إهتماما من سائر العلوم الأخرى؛ بالمركز الرئيسي، الذي يصدر عنه إجراء البحث انشاءا وتنفيذا، كان من الجائز أن يضيف إلى النظرية المنطقية، إضافات ليست في مقدور العلوم الأخرى، شريطة أن يستخدم أداة لخدمة المنطق، لا أن يكون سيفا له) .
وكما يقول هانز في حديث نقلناه سابقا: (ان البحث عن نفسية الفلاسفة مشكلة تستحق من الإنتباه، أكثر مما يبديه الكتّاب من الذين يعرضون تاريخ الفلسفة) . وحين استعرضنا المنطق الإسلامي رأينا كيف نبَّه الإسلام إلى دور هوى النفس في تضليل البشر، إلا أن هذا الفصل يتناول علاقة النفس بالعقل، ببيان مفصل عن عوامل الخطأ النفسية، من اتباع الآباء، واتباع المجتمع و.. و..
وقد أدخلنا في هذا الفصل الأخطاء الناشئة عن العوامل المادية، لأنها في رأينا تعود بالتالي إلى عوامل نفسية كما نبين ذلك إن شاء الله…
وتحدثنا في مقدمة الفصل عن وحدة الغرائز، وعن جذور الخطأ النفسي، لأنها ضرورية لفهم البحوث القادمة في هذا الفصل.
وأتصور أن البحوث القادمة تستطيع ان تكون مدخلا طبيعيا للمنطق الاجتماعي إذ إن المنطق الاجتماعي يتحدث عن مدى التأثير الذي يخلفه المجتمع على الفرد، ولكنه لا يتعمق إلى الكشف عن خلفيات هذا التأثير، وعن النوازع النفسية الكامنة خلفه وقد برزت ـ من هنا ـ فجوة بين علم النفس وبين المنطق الاجتماعي. ولكي نسد هذه الفجوة، كان لابد من بيان الجذور النفسية، التي تكون وراء سعي الإنسان وراء التكيف مع مجتمعه. وبالطبع المجتمع يبدأ من الأسرة، والأسرة تبدأ بدورها من الأبوين، وهنا كان لابد لنا من حديث عن وراثة الأفكار. كما أن المناخ الطبيعي، والعوامل المادية التي فيه، ذات أثر بعيد على تكوينه الفرد، ومن خلاله المجتمع، ولذلك تحدثنا عنها أيضا.
بين الغرائز والهوى:
لكل شيء من أشياء الكون جانبان: جانب جامع، وجانب فارق. فالشجر والحجر يجتمعان في الوجود ويختلفان في أن الشجر ينمو والحجر لا ينمو. وكذلك الغرائز لها جانب يجمعها كلها، وجوانب تفرقها عن بعضها. فغريزة الجنس تجتمع مع غريزة الجوع في إعطائهما المتعة واللذة وتفترقان في ان الغريزة الأولى إفراز، والثانية إحراز، الأولى حاجة مؤقتة والثانية دائمة.
بيد أن السؤال الكبير الذي يرتسم أمام الفلاسفة والعلماء معا، هو: البحث عن جذر كل غريزة في نفس الإنسان، وهل ان لكل واحدة منها جذرا مختلفا عن الأخرى، أم أن الغرائز تلتقي عند جذر واحد؟
مثلا، نحن نعلم أن لشهوة الطعام والشراب جذرا واحدا، فهل ان نفس الجذر يكمن في شهوة الجنس وحب الأولاد؟
إن النظر العميق يهدي إلى وحدة الغرائز السيكولوجية، بمعنى أنها نابعة من جذر واحد هو حب الذات، ورجاء الخير له والخشية عليه من الشر. بيد أن هذه الوحدة السيكولوجية لا تتنافى مع الاختلاف الفسيولوجي والبيولوجي لها، بل نستطيع القول ان كافة الشهوات، تعود إلى غريزة واحدة، فهناك مثلا، حب السيطرة، وطلب الشهوة، والحياء من الناس، واتباع العظماء، واتباع الوالدين، والأقربين…
إنها تعود إلى ذات الغريزة الواحدة، إذ ما من عمل غريزي يقوم به البشر، إلا بسبب اعتقاده بأنه يقوم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بإشباع إحدى غرائزه الأولية.
فمثلا اتباع السلطان، قد يكون طمعا في ماله مما يوفر بالتالي للفرد الطعام والجنس و.. و.. وقد يكون خوفا من عقابه، بمعنى ان عدم هذا الاتباع يقضي عليه بالحرمان من الغرائز، فاتباعه يوفر له ما كان يخشى أن يحرم منه. فرجاء البلوغ للشهوات لا يختلف كثيرا عن خوف حرمانها، إنهما نابعان من مصدر واحد وهو حب الشهوات. وما من دافع نفسي يكمن وراء عمل بشري، إلا ويعود ـ بعد حذف التفاصيل واستخلاص الجوهر من المظاهر ـ إلى الخوف والرجاء. الخوف من حرمانه مما يملك، والرجاء في حصوله على ما لا يملك. فمثلا الطفل يتبع والديه خوفا من حرمانه، إن عصاهما، من رزقهما وحمايتهما، ورجاءا في المزيد من الرزق والحماية.
المرء يتبع جماعته خوف تفرده لدى انفصاله عنها، وبالتالي حرمانه من منافع الجماعة، ورجاء المزيد من ذلك.
الرجل يتبع نهج الصراع الطبقي ضد طبقة أخرى، خوفا من حرمانه من أكله وأمنه، ورجاءا في الحصول على المزيد من إشباع الجوع وتوفير الأمن.
الإنسان يسعى للرئاسة، لأنه يجدها أنسب الطرق لحماية ما عنده، وحصول ما ليس عنده من الغرائز.
وحتى بعض الأعمال التي لا نجد فيها الخوف والرجاء في الظاهر، نجدهما لدى البحث والتنقيب، فمثلا عبادة الأصنام، البشر يتبع الأصنام لخوفه من عوامل الطبيعة، ورجاءا في المزيد من الشهوات .
الإنسان المسلم يطيع الله خوفا من سطواته التي تحرمه النعم ورجاء المزيد من بركاته.
وإذا جمعنا الخوف والرجاء في تعبير دقيق، قلنا: (حب الذات) ولا نعني بحب الذات إلا حب الأشياء لها، والخشية عليها من الأشياء.
وإذا فتشنا اللغة لن نجد تعبيرا أدق، لما وجدناه إلا في كلمة (هوى النفس).
لذلك كان الهوى (هوى النفس) هو الذي حمله القرآن الحكيم مسؤوليات الضلالة البشرية فقال الله سبحانه:
(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) [النجم/ 23].
(فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) [النساء/ 135].
(فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [ص/26].
(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) [القصص/ 50].
وفي الحديث عن الرسول:
(أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة) .
وقد سبق أن تحدثنا طويلا عن هذه الحقيقة.
وفيما يلي نتحدث بإذن الله عن مدى علاقة حب الذات (هوى النفس)، بجذور الخطأ النفسية.
الجذور النفسية للخطأ:
لابد أن نشير مكررا إلى ما تحدثنا عنه سابقا (في عرض الحديث عن ركائز المنطق الإسلامي) من أن النفس البشرية تتنازعها طاقتا العقل والجهل.
وإن الجهل طاقة ذاتية نابعة من طبيعة وجودنا الناقص، أما العقل فهو هبة من الله القدير.
وإن كل ما في النفس من حنين إلى المادة، وحب لها، ناشئة من طبيعتها الذاتية.
والجذور النفسية التالية إن هي إلا مظاهر، وانعكاسات لهذه الطبيعة، وإن فصل هذه المظاهر عن بعضها يتم بهدف التوضيح، ووضع النقاط على الحروف.
وسوف نستعرض في البداية جذر كل خطأ وبعده نبين نتائجه. والجذور التي سوف نستعرضها ثلاثة: الحب، فقد الثقة، والتسرع.
أ- الحب:
ما هو الحب؟ إنه انجذاب النفس إلى شيء.
ويتدخل الحب في المعرفة سلبيا، وله جذر ونتائج. أما الجذر فإنه يستقطب كل اهتمام النفس في بؤرة واحدة هي الحبيب ويحاول حمل صاحبه على صرف كل طاقاته فيه.
والتفكير طاقة لا تشذ عن سائر الطاقات النفسية المنجذبة بعنف نحو الحبيب.
والمعرفة بحاجة إلى التفكير كي تصبح متكاملة وواضحة، إذ ستصبح كل مصادر المعرفة، حتى الإحساس، غير مفيدة (علما) دون وعي وتفكير.
وإذ يصرف الحب فكر صاحبه نحو بؤرة الحب، بعيدا عن الواقع الموضوعي، لا تستطيع النفس أن تعي أو تفكر في الحقيقة حتى يفقهها فتقع في الخطأ.
وحينما نقول (يصرف الحب) لا نقصد حتمية الصرف هذا، بل ليس إلا ضغط الجانب النفسي الذي يحدثه الحب على الإرادة، وتبقى النهاية حاسمة، مقدرة الإنسان، يختارها بحرية تامة، وهناك إما يرضخ للحب أو يرفض الاستسلام.
النتائج:
1- حب الذات:
يتعصب البشر لأفكاره بدافع حب الذات، ويجادل عنها، ويستكبر دون معرفة ما يقبلها ودون الانفتاح على ما سواها.
ويتعصب أيضا لكل فكرة تكسبه نفعا، أو تدفع عنه ضرا، ويتلون بها حسب الظروف، وينغلق دون غيرها حتى ليعمى بصره. ويغتر بجهله، ولا يذل نفسه، حسب ظنه، بالسؤال، أو البحث عن الحقيقة، أو التسليم لمن ينادي بها، لمجرد الظن بأن في ذلك منقصة لذاته، التي يحبها. والى هذه الغريزة ترجع عوامل الحسد والحقد والعناد النفسية.
2- أسلوب العرض:
قد يستهوي الفرد أسلوب عرض الفكرة، فيحبها ويدافع عنها، وينغلق دون ما سواها.
وتأتي ظاهرة التداعي في الحب لربط الأسلوب بالفكرة. ذلك ان أسلوب العرض لا علاقة له في الواقع بحقيقة الفكرة، والفكرة لا جمال فيها أو قبح، الا بقدر ما فيها من نسبة الحقيقة، إلا ان التفكير المنهجي فقط هو الذي يحس بهذه المفارقة.
أما النفس فإنها إذا أحبت شيئا، أحبت كل ما يلابسها لظاهرة التداعي في الحب. تلك الظاهرة التي لا تكشفها لنا تجارب العلم وحدها، بل ووجدان كل منا أيضا! فإنا نشعر بحب كل شيء يرتبط بما نحبه.
ومن هذه الزاوية تدخل الدعاية في حقل الثقافة البشرية، فتضيف عليها طابعها الواضح الكبير.
3- حب الفكرة:
قد تحب فكرة لأنها لبست حلَّة قشيبة من الأسلوب الجذاب. ففي طريق التداعي في النفس (وإنها إذا استهوت شيئا استهوت أيضا كل ما يرتبط به ويتقارن معه) تحب الفكرة على عين أسلوبها. إن هذه ظاهرة منتشرة، وقد بحثناها في هذا الكتاب أكثر من مرة.
ولكن الظاهرة الأعجب منها ـ والأقل في ذات الوقت ـ هي: أن تحب فكرة لأنها تنسجم مع نفسية الفرد أو نفسية الأمة التي ينتمي إليها الفرد:
أ- أما عن الإنسجام بين نفسية الفرد واستهوائه لفكرة معينة، فقد بين التحليل النفسي لبعض الفلاسفة أن هناك علاقة وثيقة بين (نفسية) الفيلسوف و(نوعية) فلسفته.
فمثلا، في موضوع (وحدة الوجود) قالت طائفة من الفلاسفة: إن كل شيء في الكون، هو شيء واحد. بينما قالت طائفة أخرى: إن الأشياء هي متعددة، وليست وحدة واحدة.
وعند التحليل النفسي، كان ذلك الفيلسوف الذي يعتد بذاته ويفرط في الإيمان بها، يرى العالم كأنه مظهر من مظاهر ذاته الواحدة. وبالتالي كان يتصور أن الأشياء جميعا شيء واحد لا أكثر (وحدة الوجود) مثال نيتشه، الذي قال: (كل شيء هو أنا). بينما كان الفيلسوف، الذي لا يغالي في الشعور بذاته، يعتقد بوجود الأشياء منفصلة عن ذاته، وبالتالي يؤمن بأن لكل شيء وجودا خاصا به وينفي ـ بذلك ـ وحدة الوجود.
ب- وقد تكون نفسية الفيلسوف أو المفكر أو الشاعر، مرآة تعكس نفسية أمة بكاملها، ويكون إنتاجه الفكري صدى لتلك النفسية المنتشرة بين أبناء الأمة كلها.
من هنا يقوله الغربيون أن الفيلسوفين كانت (Cant) وهيجل (Hegel) يمثلان العقلية الألمانية، وإن ديكارت (Descaarte) وفولتير (Volteire) يمثلان العقلية الفرنسية، وإن لوك (Locke) وبيرك (Burke) يمثلان العقلية البريطانية، وإن وليم جيمس (William James) وجون ديوي (John Dewey) يمثلان العقلية الأميركية.
هذه الفروق الفلسفية بين هذه الأمم الأربع، ليست في الواقع إلا صدى وإن كان صدى رفيع المستوى لخصائص عقلية وخلقية تتغلغل بنسب متفاوتة، في جميع الطبقات من هذه الأمم وتميز إحداها عن الأخرى.
فالمنطق الآلي والكمالي النظري الذي يتجلى في فلسفة ديكارت يتجاوب في تراجيديات كورني (Cornei) وراسين (Racine)، وفي الحماسة الملتهبة عند مفكري الثورة الفرنسية كما يظهر، مرة أخرى، في مشروعات السلم غير العملية، وان كانت كاملة من الوجهة المنطقية التي امتاز بها الساسة الفرنسيون في الفترة ما بين الحربين العالميتين.
أما فلسفة لوك (Locke) الإنكليزي، فهي مظهر الشخصية الإنكليزية، كما تظهر ( ذات الشخصية) في وثيقة ( ماجناكارتا) وكما تظهر في التشريعات الانكليزية المتميزة بصياغتها العملية الإجرائية.
ونرى فلسفة بيرك (Burke) تسعى إلى التوفيق بين ما تدعو إليه الأخلاق ، و بين ما تقتضيه الظروف و توجيه الملائمة السياسية، و هذا الطابع طابع العبقرية السياسية الإنكليزية يتكرر بروزه في سياسة توازن القوى التي تمسكوا بها طويلاً وما زالو عاكفين عليها .
4- حب الآباء:
إن حب الآباء يبعث الأبناء نحو تقليدهم ، وهو واحد من العوامل الأخرى التي تدفعهم نحوهم، مثل احترامهم و الخشية منهم على المصالح ، و ترسب أفكارهم منذ الطفولة.
5- حب البيئة:
البيئة الاجتماعية والثقافية، تعتمد في تأثيرها على الحب أيضاً، ذلك أن الإنسان يحب نظيره الإنسان بصورة فطرية، و يحب لذلك أفكار أقرب الناس إليه، فالأقرب ( الأصدقاء والأساتذة).
وليس الحب هنا إلا أضعف العوامل الباعثة على تقليد البيئة ، أما الأقوى تأثيراً فهو الخوف على المصالح، ثم الإنفتاح على أفكارها الجاهزة واحترامها احتراماً يبعث على التقليد.
6- حب السلف:
إن حب السابقين من العلماء والعظماء يبعث على اتباعهم والإتكال عليهم ، دون بحث جديد في أفكارهم لتقييمها و نبذ الأفكار الخاطئة منها.
ب- فقد الثقة:
فقد الثقة جذر آخر من جذور الخطأ، ذلك أن الوعي شرط أساسي في المعرفة، ونعني بالوعي (وجدان الذات)، والذي يتسبب من المعرفة بكامل القوى النفسية، ثم الثقة بها، وأخيرا ضبطها في اتجاه محدد، ذلك أن الإنسان الفاقد للثقة بنفسه لا يتمكن من التفكير، أو ربما لا يفكر، وإن كان قادرا عليه، ثم لا يجزم بنتيجة تفكيره، إذ سيقول أبدا: أنا أقل قدرا من معرفة الحقيقة وهكذا يخطئ فكره وإن كان صوابا، لأنه لا يعترف بإمكانية توصل هذا الفكر إلى الحقيقة.
وبتعبير آخر: إن الإنسان يسلك إلى المعرفة إما طريق الحس أو التعقل أو الإلهام، والذي يفقد الثقة بنفسه، يفقد الثقة بالحس، وبالتعقل وبالإلهام، وأخيرا لا يعترف بتلك المعرفة التي تأتيه من هذه الطرق، ولذلك فهو لا يصل إلى الحقيقة. وليس فقد الثقة بالذات (أو بوجدان الذات) يعني بالضرورة إنكار كل مصادر المعرفة، فربما يكفر الإنسان بذاته عن طريق إنكاره لواحدة من قواه وطاقاته، كالذي ينكر قدرة الإنسان على التعقل، وربما يكفر بنفسه في جهة معرفة خاصة، أو في مقابل شخص واحد، قد عرف خلاف ما يعرفه. وهكذا يبدو (وعي الذات) والثقة بما به من مقدرة على تحصيل المعرفة، شرطا أساسيا للعلم، وبفقدها تقع أخطاء فكرية كبيرة.
كما أن من يفقد القدرة على ضبط مصادر المعرفة، وتوجيهها حسب إرادته، يفقد تلك المعرفة الآتية منها أيضا. من هنا كان (وعي الذات) الذي يستتبع الثقة بمقاييسها، والقدرة على استخدام تلك المقاييس، أول وأهم مقدمات المعرفة.
هذا هو الجذر أما النتائج:
1- الإنغلاق:
الانغلاق دون مصادر المعرفة، الذي يشكل أضخم كارثة فكرية تصيب البشرية، وهي من نتائج فقد البشرية الثقة بذاتها.
فالسوفسطائيون والشكاكون، الذين قالوا ان المعرفة (أو قدرة البشر عليها) محال، تخبطوا في ظلمات الجهل فإذا بهم لا يبصرون شيئا ولا يعقلون.
والمثاليون الذين أنكروا الحس، والماديون الذين أنكروا العقل وسابقياته، وأولئك الذين أنكروا الإلهام كمصدر موثوق للمعرفة الجازمة. كلهم حجبوا عن الحقيقة، بنسبة معينة ورفضوا الاعتراف بأنفسهم، أو بقدرتهم على المعرفة بذات النسبة بينما كانوا في الحقيقة قادرين عليها.
2- الذوبان في الشخصية:
يقول بعض الفلاسفة، إن تحطيم الماضي نوع من إثبات الذات، والحقيقة أن البشر لا يتمكن من تحطيم ماضيه، دون إثبات ذاته أولا… ليتمكن من استخدام ذاته وما لديه، من مقاييس في عملية التحطيم هذه.
فبسبب قوة شخصية علمية أو سياسية أو دينية، فقد الأفراد (بل حتى الأمم) إيمانهم بأنفسهم، إذ إنهم كانوا يترددون في الاعتراف بالحقيقة التي يصلون إليها، إذا كانت مخالفة لما وصلت إليها تلك الشخصية.
إن السلبية والانهزامية أمام تيار أو أمة متقدمة، كالانهزامية الفكرية التي يعاني منها المسلمون أمام تيار الشيوعية أو أمام الأمم المتقدمة في الغرب، هي نتيجة واحدة من نتائج الانبهار، وفقد الثقة بالنفس، وهذه الحالة أشبه شيء بحالة الطفل حينما يطرح أفكاره البدائية لاستقبال أفكار والديه، أو من هم أكبر منه. وهي ذات الحالة التي تصيب التلامذة والبسطاء والسذج والأمم الجاهلية التي لا تفكر ذاتيا في الحقائق، لعدم ثقتها بأنفسها، وحتى لو فكرت فيها فإنها تطرح أفكارها لحساب أفكار تعظمها.
وكما سبق فإن للتقليد أسبابا أخرى، إلا ان هذا سبب رئيسي، للتقليد بأية صورة كانت من صوره.
ج- التسرع:
لظاهرة التسرع، والتي يعبر عنها بـ(حب النفس لسرعة الحكم)، جذر نفسي واحد، ونتائج شتى. فالجذر هو (غريزة حب الراحة) إذ الحقيقة التي لا يرتاب فيها أحد، هي أن التفكير عملية صعبة ومجهدة، وتركيزه أصعب وأشد جهدا، وقلة المفكرين في العالم ناشئة عن الصعوبة البالغة التي يقتضيها التفكير المركز.
وحب الراحة هو الآخر حقيقة لا يرتاب فيها أحد، فمن منا لا يحس بها؟
من هنا يتهرب البشر من التفكير المركز، ويهوى التسرع لينقذ ذاته من هذه الصعوبة، وهذا هو جذر التسرع.
أما النتائج فهي:
1- الإنطلاق:
الانطلاق من قضايا خاصة، (بظروفها وأسبابها) إلى الحكم بالقضايا الكلية.
فمثلا يرى الإنسان جانبا من المدينة خرابا فيحكم عليها بالخراب، ويرى رجلا يموت بحقن البنسلين فيحكم بأن كل من احتقن به يموت.
حقا يستطيع الحدث الواضح أن يقفز من القضية الخاصة إلى ما هي أعم منها، وذلك حينما (يعلم بوضوح) أن ليس هناك اختلاف في الظروف المحيطة بهذه القضية عن أشباهها. فمثلا حين يجرب مادة على حيوان فيرى أنها تميته بعد حقنه بها مباشرة، ويكرر التجربة في ظروف مختلفة عدة مرات، حتى يتيقن أن (سبب) الموت ليس الا هذه المادة.
إلا أن الفرق واضح بين الحدس العلمي، وبين التسرع الجاهلي، ذلك أن التسرع إنما هو إدخال غرض نفسي في الحكم، والحدس العلمي بعيد عنه إذ لا يكون إلا بعد اليقين بعدم وجود أي سبب لهذه الظاهرة، سوى السبب هذا، ولأنه يعلم بوضوح (أن السبب متى وجد، جاءت الظاهرة) يعلم إنه كلما وجد ما وجد هنا كانت ذات النتيجة موجودة.
خلاصة القول: ان التسرع لا يبلغ درجة العلم بوحدة الظروف، في كل من المجرب وغيره، والحدس يبلغها.
2- الأفكار الجاهزة:
ظاهرة الإيمان بالأفكار الجاهزة المستنبطة سابقا، دون تمحيص حتى لمعرفة ما إذا كانت صحيح أم باطلة، وذلك خشية أن تصيب الفرد مشقة كبيرة في عملية التفكير من جديد حول تلك المواضيع . ولا فرق في هذه النتيجة بين الخوف من التشكيك في أفكار تبناها الإنسان نفسه، وبين ما تبناه العلماء قديما أو حديثا، أو أملتها الظروف الاجتماعية، أو البيئة الثقافية، ذلك لاشتراكها جميعا في جذر الخطأ النفسي الذي يتلخص في حب الراحة، والذي يدعو إلى تبني أفكارا جاهزة.
وربما يكون حب الذات واحترام العلماء وراء هذه الظاهرة (الإيمان بالأفكار الجاهزة).
إلا انه لدى تحليل النفسيات يظهر، أن هذا الجذر أصيل في النفس البشرية، ساعدته الجذور الأخرى أم لا.
إن التقليد قد يوجد، دون وجود علاقة عاطفية بين المقلِّد والمقلَّد، بل بمجرد إن المقلِّد ضعيف النفسية، وغير مستعد للبحث بنفسه حول القضية فيتبع غيره فيها.

القسم الثالث:
كيف نتجنب الخطأ؟
البحث الثاني عن: وراثة الأفكار
كلمة البدء.
التربية ووراثة الأفكار.
الوراثة وعوامل التأثير.
بماذا يستمر تأثير الوالدين.
الإسلام واتباع الآباء.

وراثة الأفكار
ضخامة الأفكار الموروثة من الأبوين، لا تعادلها إلا ضخامة العوامل التي تضغط على الوليد باتباع والديه!
ومن الصعب أن نميز في كثير من الأحيان بين الانتقال المادي، الذي تحمله الموروثات المنوية، وبين الانتقال الحضاري الذي تقوم به التربية الواعية، كما يستصعب علينا تمييز الاتباع الإرادي لأفكار الوالدين، والاتباع القسري.
هنا حديثنا يتحدد الآن بالقسم التربوي من التأثير، الذي يخلفه الوالدان على الوليد، بينما نستعرض جانبا من التأثيرات الوراثية، عند الحديث عن العوامل المادية، بالرغم من أن العوامل المادية تساعد، بقوة، العوامل التربوية في نقل الأفكار إذ أنها تعتبر ـ بالنسبة إليها ـ كالتربة الخصبة بالنسبة إلى البذرة.
فالوالد شديد الغضب، لابد أن ينقل إلى إبنه استعدادات مناسبة لشدة الغضب، بفعل الجينات الموروثة للصفات، وهذه الاستعدادات قد تموت بفعل تربية صالحة، يتلقاها الطفل في روضة الأطفال مثلا، ولكن لو قام نفس الوالد بتربية ابنه فلا بد أنه سوف ينقل إليه سرعة غضبه من خلال سلوكه المنحرف أيضا.
وآنئذ يلتقي الاستعداد الموروث، بالتربية المقصودة، فيكون التأثير مزدوجا.
وهذا الأمر، يدعونا إلى حساب القابلية عند الحديث عن تأثير تربية الوالدين.
وهذا هو العامل الفارق بين التربية عموما، وتربية الوالد خصوصا. فبالرغم من أن كل تربية تؤثر في الطفل، تأثيرا عميقا شاملا، ولكن تربية الوالد ـ حيث تلتقي بنوع الصفات التي ورثها الوالد لابنه بيولوجيا ـ فإنها تكون أكثر تأثيرا.
وهناك عوامل فارقة أخرى نشير إليها:
1- عامل الحب العميق، الذي يكنه الوالد لولده مما ويوجب تعميق صلته التربوية به، وغالبا ما تنجح هذه الصفة في التأثير عليه لأن طبيعة الإنسان تقضي بإتباع نصيحة من يحبه ويشفق عليه لأنه أمين يضع فيه كل ثقته.
2- الاحترام الكبير الذي يكنه الولد، وربما، طبيعيا لوالده.
وفيما وراء هذه العوامل المفرقة، فإن عوامل تأثير التربية مشتركة بين الوالد وأي مرب آخر.
وهناك عدة سبل لمعرفة مدى تأثير الوالدين في الوليد، فمثلا:
ـ هناك دراسات قيمة التاريخ الأسر، نستطيع من خلالها التعرف على مدى تأثير الأبوين.
ـ هناك دراسات كثيرة لعملية التبني، وللأفراد المتبنين، نكتشف من خلالها مدى تأثير التربية البيتية في الوليد.
ـ وأخيرا هناك دراسات هامة، لبعض مناحي التصرفات التي تؤثر على الوليد، والتي نستنبط منها مدى تأثير أعمال الوالدين في الوليد.
التربية ووراثة الأفكار:
تاريخ الأسر ـ التبني وأهمية التربية ـ التربية والتصرفات المؤثرة.
وها نحن نذكر بعض النماذج من هذه الدراسات، لنعرف من خلالها خطورة توجيه الوالدين لطفلهما، ثم نتحدث بإذن الله عن أهم العوامل النفسية، التي تساعد على هذا التأثير وتعطيه صفة الاستمرار.
تاريخ الأسر:
لقد اتبع سير فرانسيس جالتون، طريقة البحث عن التشابه والاختلاف داخل الأسرة الواحدة، عن طريق دراسة تاريخ الأسرة، وكتب عنها في مؤلفه عن العبقريات الموروثة، وأورد فيه تاريخ 997 رجلا من 300 أسرة وأجريت بحوث مماثلة في بلاد أخرى وأسفرت عن النتائج ذاتها، بوجه عام..
وكلها تبين ان النبوغ يسري في الأسرة، وكذلك فإن البحوث، التي تناولت عائلات ضعاف العقول، والمنحرفين، والتي تمثلها أسر الـ: جوك (Jukes) والكاليكاك (Kallikaks) بينت أن صفات كالضعف في العقلية والإجرام، تسري أيضا في الأسر.
ولا ريب في أن هذه الدراسة لا تدل على أهمية الوراثة فقط، بل وأيضا أهمية التربية، إذ ان الأسرة ليست مناخا طبيعيا لإنتقال الأفكار بقدر ما هي تفاعل حيوي لهذه الأفكار عن طريق التربية الواعية وانتقال الاستعدادات والمؤهلات الطبيعية بالوراثة.
التبني وأهمية التربية:
تأتي أهمية التبني في حديثنا من عاملين:
1- إن الدراسات التي أجريت على التبني، كانت دقيقة ومحددة، إذ إنها خضعت لمنهج البحث الدقيق.
2- إن تأثير التبني لا يتداخل مع تأثير الوراثة، بالرغم من أنه لا يتجرد عن سائر العوامل المساعدة، التي سوف نبحث عن أنها تعطي التربية صفة الاستمرارية.
وأهم الدراسات التي تناولت التبني، كانت تلك التي أجريت على الأطفال المحتضنين والتوائم المتماثلة، الذين رُبُّوا في بيوتات مختلفة، والتي تشير إلى درجة تأثر التشابه العائلي العادي بالتعرض لبيئات مختلفة متشابهة.
فالأطفال المتبنون يسجلون ارتفاعا في نسبة الذكاء، بعد التبني في أحد البيوت المناسبة، وكلما كان الطفل أصغر في السن، وكان المستوى الاجتماعي والاقتصادي للبيت الذي تبنَّاه عاليا، كان ارتفاع نسبة الذكاء أكبر.
واتضح كذلك أن التشابه بين الأخوة، الذين يعيشون في بيوت مختلفة، أقل كثيرا منه بين الذين يعيشون معا في نفس المنزل. ففي جماعة مكونة من 125 زوجا من الأخوة تربى كل واحد في منزل مختلف، وظل هذا الاختلاف مددا تتراوح بين 4-13 سنة، عندما أجري عليهم اختبار ستانفورد بينيه، فبين ان معامل الارتباط، بين ذكاء الأخوة هو (25) فقط، على حين أنه يصل إلى حوالي 50 بين الأخوة الذين يعيشون في نفس المنزل .
وليس الذكاء كله مجموعة تفاعلات، تجري بين الإنسان وبين بيئته الثقافية، ولا يرتفع الذكاء الا إذا تأثر الفرد بهذه البيئة، تأثراً بالغاً.
لذلك نستنبط من ارتفاع نسبة الذكاء بالتبني، ارتفاع نسبة التأثُّر الثقافي بها أيضا.
(ودراسة التوائم المتماثلة ـ الذين فصلوا منذ الطفولة ونشأوا في بيوت حاضنة مختلفة ـ لتمدنا بكثير من الحقائق الهامة، عن مشكلة الوراثة والبيئة. ففي بحث متسع أجري على التوائم المتماثلة ـ الذين فصلوا منذ الطفولة المبكرة ـ درست حالة 19 زوجا منهم، واختلفت النتائج من زوج إلى آخر، وقد أظهر التوائم اختلافات بينة عندما كانت البيئات متباينة إلى حد كبير، وكانت الاختلافات في جميع الصفات بما في ذلك النواحي الثقافية والمزاجية، وحتى في الصفات الجسمية كالصحة العامة، والقوة البدنية) .
كل هذا بالرغم من أن التوأمين المتماثلين يشتركان في أكثر العوامل الوراثية، فالاختلاف بينهما لا يمكن أن ينسب إلى الوراثة.
التربية والتصرفات المؤثرة:
إن تأثير طائفة من التصرفات يدل على مدى تفاعل الطفل مع بيئته الثقافية. فمثلا:
(كلام البالغين كثيرا مع الطفل، حتى قبل ان يستطيع الإجابة، يبدو وكأنه يجعل نمو ذكاء الطفل يسرع في السنوات الأولى. وقد دلَّت الأبحاث الحديثة، على أن أنواعا خاصة من إتجاهات الوالدين، لها آثار كبيرة في نمو الذكاء. فالأطفال الذين يجدون من آبائهم، قبولا واحتراما لشخصياتهم، والذين يجدون تقديرا وتشجيعا لمجهوداتهم دون إجبار أو تدقيق في مطالبتهم بها، يتقدمون في مدى ثلاثة أعوام بما يعادل ثماني نقاط في المتوسط في نسبة الذكاء ـ حسب مقياس ستانفورد بينيه ـ في حين يفقدها الأطفال الذين يشعرون بالإهمال قدرا قليلا) .
(معرفة النتائج تسهِّل التعلم في كل الظروف، ولكن أثرها يتناسب مع كونها أولا سريعة، وثانيا نوعية).
(فالشرط الأول هو السرعة الحقيقية، إذ إن عشر ثوان بعد الإستجابة قد يعد وقتا وقد يكون الأفضل منه عُشر الثانية) .
من تلك الدراسات، التي استعرضنا نماذج منها، نستكشف خطورة دور الوالدين في توجيه أفكار الطفل. ويأتي دور المعلم مباشرة بعدهما. إذ ان الطفل سوف ينقل نظرته السابقة من أبويه إلى مربيه.
(من الواضح أن الطفل ينقل اتجاهه، نحو مصدر السلطة الأبوي إلى الكبار الآخرين. فتلاميذ المدرسة ينظرون ـ ضمنا ـ إلى مركز المعلمة كشبيه بمركز الأم، والى حد ما ينظرون إلى شخصها كشبية بشخصية الأم، فلا مندوحة أن تصبح المعلمة بديلة للأم) .
وقد اعتقد بعض علماء النفس، أن نظرة الإنسان إلى المجتمع تتحدد أيام الطفولة، من خلال نظرته إلى الوالدين، إذ إن المجتمع سيصبح أبوي الإنسان فيما بعد. من هنا بحث بعض علماء الاجتماع في نظم الأسرة كمنبع للنظم الاجتماعية.
وأساس ذلك هي عملية نقل النظرة، التي عالجها كثير من البحوث النفسية والاجتماعية، والتي قال عنها كهلر (Kohler): (إنه لا يقل أهمية في أي عمر كان، بشرط ان يكون نقلا صامتا لا يشعر به صاحبه، ويعود السبب ـ في عملية النقل هذه ـ إلى أن الطفل إذا تعود على نوع خاص من النظرة، سواء كانت نظرة حب أو كره، احترام أو ازدراء، فسوف تبقى عنده ذات النظرة، حتى بالنسبة إلى غير صاحبها الأول، لأن من الصعب عليه ترك عادته واستبدالها بنظرة أخرى) .
ومهما كان من أمر نقل السلطة فإن المعلم أقرب الناس إلى الوالدين في نظر الطفل لذلك يكون تأثيره أقوى من غيره، ممن تنقل إليهم نظرة الأبوة.
إلا ان تأثير المعلم أخف من تأثير الوالدين، لعدة عوامل أهمها:
1- إن عوامل الوراثة، التي سلَّمنا تأثيرها في تفكير الطفل مفقودة عند المعلم.
2- إن الحب الذي سنعرف أنه يعمل على ترسيخ أفكار الأب في الطفل لا يشمل المعلم، إذ انه يفقد حب التلميذ كلما كبر ووعى.
بعد أن ألقينا نظرة خاطفة على أبعاد تأثير الوالدين في الطفل، يجدر أن نبحث عن العوامل النفسية لهذا التأثير، وتأتي خطورة البحث عن هذه العوامل من سببين:
أولا: إن التحكم في تفاصيل التربية لا يتم بدون معرفة العوامل النفسية التي تكمن وراءها.
ثانيا: إن التخلص من رواسب التربية بعد مرحلة الوعي لا يستطاع، الا بمعرفة جذورها النفسية. وهذا هو السبب الأهم عند الباحث عن المنطق، ومناهج البحث، إذ انه يفتش عن أسباب الخطأ، تمهيدا للتخلص منها.
وعوامل التأثير كثيرة أهمها ثلاثة:
أ- الفراغ.
ب- الحب.
ج- الاحترام.
أ- ففراغ نفس الطفل، يؤلمه ربما أكثر مما يؤلم الفراغ قلب الكبير، لذلك فهو يفتش عن شيء يملأ به هذا الفراغ فإذا وجده عند أحد التهمه، وإلا اخترع لنفسه أوهاما يتشبث بها.
والأسئلة المتنوعة، التي يفيضها الطفل على من حوله، دليل على مدى ضغط الفراغ على قلب الطفل، ومن هنا تزداد قابلية الطفل للتأثير بالإيحاء، وتزداد قابلية الإيحاء من الرابعة إلى الثامنة من العمر، ولعل السبب يكمن في أن لغة الطفل تبدأ بالتكامل في تلك الفترة، كما أن الطاعة والرضوخ لآراء الأبوين، والأنا الأعلى (نظرية فرويد) تمهد لهم إطاعة أفراد وأفكار، وإيحاءات أخرى.. ولا يبدأ الطفل بالتحرر من قيود الإيحاء الا عندما تتكامل ذاته، ويدرك أن الأبوين ليسا بعظيمي القدرة والمعرفة، كما توهم أثناء طفولته .
وطبيعة الإنسان أنه لو ملأ فراغ قلبه بفكرة زعم أنها جزء من كيانه، لا يستطيع التخلص منها، إلا بالتجرد عن حبِّه لذاته ولو بمقدار.
لذلك لا يكون الفراغ عاملا نفسيا باعثا على بحث الطفل عن الفكرة أنى كان مصدرها، لا يكون كذلك فحسب، بل وأيضا سببا لترسيخ هذه الفكرة فيه بسبب حب الطفل لهذه الفكرة التي ملأ بها فراغه، زاعما أنها أصبحت جزءا من كيانه فيدافع عنها كما يدافع عن كيانه.
ب- حب أي شخص يبعث الفرد نحو اتباعه والطفل لا ريب في حبه لأبويه ومربيه، مما يدعوه إلى تقمص شخصياتهم.
وقد اعتبر فريق من علماء النفس عامل الحب، هو الحاسم في أمر التربية، فأكد مورتن (Morton) على أن الاستمالة ـ لا الإجبار ـ هي أساس السلطة، إذ إن أول سلطة كانت علينا هي سلطة الأم. وكما نعرف أنها أيضا مصدر إشباع لحاجات الطفل وأول موضوع لحبه.
إلا أن بعض الشواهد، قد تدل على أهمية عامل الاحترام لأسباب يأتي ذكرها إن شاء الله.
ج- (تصب ركائز مشاعر الطفل وأحاسيسه من أول أيام الرضاع) .
ومن بين أهم تلك الركائز حب الذات، الذي يتشعب بدوره إلى فرعين:
1- الرغبة.
2- الرهبة.
ورغم غموض كل مشاعر الطفل في أيامه الأولى، فإن خوفه من الحياة، وتشبثه في الوقت ذاته بها، لا يمكن أن يُنْكَرا! ويظهر من بعض الدراسات، ان السلوك الإنفعالي في الرضيع، كباقي سلوكه، غير متمايز نسبيا، ونعني بذلك انه في الثلاثة أو الأربعة الأسابيع الأولى، نجد نوعا من أنواع الاستثارة العامة أو الهياج، ردا على أي مثير قوي، وتتميز هذه الاستثارة بحركات قوية، ولكنها ناقصة التآزر، يقوم بها جسم الصغير كله، وتكون العلاقة بينه وبين المثير غير واضحة، ويعاني الملاحظون ـ عادة ـ صعوبة في تسمية هذا الانفعال، ولكنهم جميعا على وجه التقريب، متفقون في عد هذا السلوك سلوكا انفعاليا. وهذا النهج البسيط، بالرغم من أنه يستمر ظاهرا فإنه يظهر بالتدريج نمطين جديدين من الإستجابة، هما الانقباض والإنشراح. ويبدأ الانقباض في حوالي الأسبوع الرابع، في حين يبدأ الانشراح متأخرا بعض الشيء . والانقباض يدل على وجود الرهبة والحزن والخوف عند الطفل، كما يدل الإنشراح على وجود الرغبة والفرح والأمن عنده.
على أية حال فإن هذا الإنفعال أدل شيء على وجود إحساس قوي عند الطفل بحب الذات، والذي يظهر بعد الأسابيع الأربعة الأولى من حياته، بالتمييز بين الرغبة والرهبة.
ونوع تصرف الكبار مع الطفل في أيامه الأولى تختلف آثاره على سلوك الطفل في المستقبل. فمثلا، مقاومة الطفل لسلطة الكبار، تنشأ من مقاومة الكبار لرغباته في أيامه الأولى.
من هنا نعرف أن الطفل ينطوي على حب الذات، منذ ولادته وينتقم لنفسه حتى بعد حين.
(فمقاومة سلطة الوالد، تماما كالخضوع لها، تبدأ مبكرة في الحضانة، إن لم تكن في المهد، إلا أن الدراسات المضبوطة للتطور المبكر لهذه المقاومة ما زالت ناقصة، ولكن دراسات رست (Rast) وكايل (Daille) ورينولذز (Renolds) تبين أن حضارتنا في بعض المظاهر قد بلغت قمتها من حوالي السنة الثانية أو الثالثة من العمر وفي هذا الوقت يكون من المحتمل أن يقاوم الطفل حتى أقل اقتراح أو سؤال لفظي) .
فهذه المقاومة إنما تكون بسبب انتقام الطفل لنفسه، ولا يكون انتقاما إلا إذا كان في النفس شعور قوي بحب الذات. وحب الذات بمظهريه السلبي (الرهبة) والإيجابي (الرغبة) يدفع الطفل إلى السعي وراء ضمان السلامة والعيش لنفسه، ولولا هذا السعي لم تكن التربية ممكنة، إذ إن أفضل الوسائل التي يتبعها المربي: توجيه هذا السعي بما يؤمن الخط التربوي المنشود.
وبسبب شعور الطفل القوي بضعف نفسه، وبسبب اعتقاده الراسخ بأن القوة موجودة عند الكبار، إلى درجة يصعب عليه التصديق بعجزهم عن أي شيء يريد، يجعله يكن احتراما واسعا لأقرب الكبار إليه، واحتراما مماثلا لأفكارهم ونوع سلوكهم، لزعمه أنها خير ضمان لسلامته وخلاصه.
بصفة عامة، يؤدي هذا الاحترام، سواء كان في الصغير أو الكبير، في الفرد أو في الجماعة، لشخص أو لطائفة، يؤدي إلى اتباع الجهة المحترمة.
فنحن مجبولون على تقليد من نحترمهم، ونعتقد فيهم القوة والرفعة، والشعب الضعيف مفطور على اتباع الرجل المقتدر المهيب، أو الأمة القوية القاهرة في نظره.
والإنسان يتبع مجتمعه القوي، أكثر مما إذا كان مجتمعه ضعيفا مقهورا وهكذا..
فالطفل إذا لا يشذ عن القانون العام، في اتباع والديه، لزعمه أنهما مقتدران قويان.
بل لا يشذ الطفل عن سائر الأحياء في هذا الاتباع حيث إن التصرف الاعتمادي الشبيه بتصرفنا (نحن البشر) موجود في القردة وباقي الثدييات، ويبدو أن من المحتمل ألا تكون هذه الإستجابات، مجرد نتيجة تدريب أو التقاليد، بل لها أسس فطرية .
إلا أن هناك فرق بين الطفل الصغير وبين الكبار في تقليدهم، لمن يزعمون قوته، هو أن نوع القوة يختلف عند الصغير والكبير. فالصغير يزعم أن القوة منحصرة في بعض المثيرات المادية التي يعرفها فقط، بينما الكبير يعرف بالطبع أنواعا عديدة من القوة.
كما أن هناك فرق كبير بين الطفل وسائر أقسام الحيوان، ألا وهو طول مدة الطفولة مما يجعله أكثر خضوعا للكبار، وأقل اعتمادا على النفس من سائر الأحياء.
(إن وثيقة إعلان الاستقلال تقرر (ان الإنسان يولد حرا) غير أنه من الأصح من الوجهة السلوكية، ان نعترف أن الأطفال جميعا، يولدون خاضعين لآبائهم. فمن واجب كل فرد أن يحقق حريته بمجهوده الشخصي) .
وهناك فرق آخر، هو أن وليد الإنسان (الطفل) أكثر وعيا، وأقل قدرة، بينما وليد الحيوان أقل وعيا وأكثر قدرة، لذلك يكون اتباع وليد الإنسان أقرب إلى اختيار واع (مع ما في هذه الكلمة من تسامح) من وليد الحيوان، ولذلك تكون التربية ذات أثر بالغ في نمو الطفل البشري ـ دون صغار الحيوانات ـ.
ان إستجابة الطفل تختلف من فرد لآخر، لأنها استجابة واعية تقريبا. بينما إستجابة وليد القرد، مثلا، تتم بصورة شبه آلية، ولا يفرق بين قرد وآخر.
من هنا صحت النظرية التربوية القائلة: (إن مجرد تكرار عملية من قبل مربي الطفل، ليس بذات أثر كبير في تربية الطفل، إن لم تكن هناك غاية يفقهها الطفل. يقول ثورنيك: (كل النظريات التربوية، التي تعلق أهمية على الخبرة والنشاط، لمجرد كونها خبرة أو نشاطا، دون اعتبار اتجاه هذه الخبرة أو النشاط ونتائجها، هي نظريات أصبحنا نشك فيها أكثر من ذي قبل، فالخبرة ـ التي لا تشمل إلا على مواجهة موقف من مواقف الحياة، والإستجابة له ـ لا يمكن أن تصبح عاملا فعَّالا للخير والشر، مادام تكرار هذه الخبرة آلاف المرات لا يحدث أثرا يذكر) . (وعلى أي حال فإنه مازال مقررا ان وجود المعنى يدعو إلى الإنتاج) .
(يميل الطفل دائما إلى كل ما له معنى عنده أو أهمية لديه، وما يبعث في نفسه المحاولة التي ترمي إلى غرض، وهو دائما يتعلم في مثل هذه الظروف) .
إذا، الوعي هو الميزة الأولى لصغير البشر، والضعف ميزته الثانية. وباجتماع الوعي والضعف معا، تكون قابلية صغير الإنسان للتربية كبيرة، بالقياس إلى قابلية صغار الحيوان. وهذا مما يدل ـ ببساطة ـ إلى وجود حب الذات في الطفل منذ عهد مبكر، وهو وراء كثير من تصرفاته.
بماذا يستمر تأثير الوالدين؟
ويستمر تأثير الوالدين الفكري في الطفل، حتى بعد استقلاله التام.. ويعود ذلك إلى عدة أسباب:
1- صعوبة اقتلاع الأفكار بعد رسوخها أيام الصبا، ويبدو أن رسوخ بعض الأفكار يتطاول في بعض الأحيان على التغيير، إلا أن ذلك تطاول ناشئ من غفلة الشخص، واستهانته بإعادة النظر في سابقياته التي اكتسبها أيام الطفولة، مما يدل على أن استمرار الوالدين ليس حتميا، بالإضافة إلى ان فريقا من علماء النفس يذهب إلى أن الإنسان يمر عليه وقت، يرتاب خلاله في سابقياته، كالأيام الأولى من الشباب، حيث تعصف به مشاعر استقلالية عنيفة، تدعوه إلى التجرد عن أفكاره السابقة.
2- إن احترام الإنسان لوالديه يستمر بعد أيام طفولته، ويكون هو السبب في نشوء حس التقليد لديه، ويكون هو أيضا السبب في استمراره بالرغم من أن احترام أحد لا يفرض عليه اتباعه فرضا حتميا.
إن التخلص من أفكار أحد يستتبع، بالطبع، تخطئة هذا الشخص، وحب الآباء لا يدع الفرد يخطِّئ والديه، فالحب هذا مصدر استمرار اتباع الوالدين، والملاحظ ان السبب لا يوجب حتمية الاتباع، إذ انها جميعا ناشئات العواطف، والغفلة، والاحترام مما لا يذهب بقدرة الإنسان على التفكير الحر.
الإسلام واتباع الآباء:
لقد ذكر الإسلام بدور تقليد الآباء في تحريف الفرد وإضلاله.
وأشار أيضا إلى بعض التفاصيل التي ذكَّرنا بها آنفا. ونختار بعض النماذج الهامة من هذه النصوص التي تعتبر، أيضا تلخيص للحقائق الآنفة الذكر:
عن تقليد الآباء قال الله سبحانه في القرآن الحكيم: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) [المائدة/ 104].
إن كلمة حسبنا في هذه الآية ذات دلالة بليغة، على أن سبب اعتماد الناس على آبائهم هو الإشباع الثقافي، إذ ان أفكار الآباء تجعلهم مكتفين ـ في زعمهم ـ عن أتعاب البحث.
وقال الله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا) [الاعراف/ 28]. وهنا يصعب على الكفار الاعتقاد بضلالة الآباء، وربما بسبب حب الأبناء لهم، واحترامهم إياهم.
وقال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير، إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون) [الزخرف/ 23].
في هذه الآية نلاحظ مدى رسوخ عادة اتباع الآباء في جميع الأمم المتخلفة. مما يدل على وجود جذور فطرية لهذا الاتباع، وقال الله سبحانه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون) [الأعراف/ 172-173].
نجد في هذه الآية: قضية فطرية بالغة الحجة، كالإيمان بالله، يحاول الكفار إنكارها، ثم إلقاء اللوم على آبائهم، باعتبار أنهم ليسوا سوى ذرية من بعدهم، وأنهم هم المبطلون. وبالطبع ردهم القرآن، بأن فطرة الإيمان بالله لا تدع للإنسان مجالا لاتباع الآباء في الكفر بالله… وجاءت الرواية التالية:
قال أبو الحسن عليه السلام: (إذا وعدتم الصبيان ففوا لهم، فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم، إن الله عز وجل لا يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان) .
فاعتقاد الطفل أن والديه هما اللذان يرزقانه، هو بعض الدواعي الموجبة لتقليده لهم إذ إن هذا الاعتقاد يحدث فيه الإحساس الكبير بالإحترام.

القسم الثالث:
كيف نتجنب الخطأ؟
البحث الثالث عن: التوافق الاجتماعي
كلمة البدء.
عوامل تأثير الاجتماع.
الهوى جذر الغريزة الاجتماعية.
عملية غسل الدماغ.

كلمة البدء
حين تحدثنا عن تطور الفكر المنطقي، تحدثنا عن المنطق الاجتماعي، وكان حديثا تاريخيا. بينما نتحدث عنه لتقييمه ومعرفة دوره في عملية تجنب الخطأ.
قلنا سابقا إن المنطق الإجتماعي قد انتهى إلى تقرير أن المجتمع هو أساس المنطق، وأن الأصول المنطقية إنما هي مستوحاة من تطور الحياة الاجتماعية، وأنه لا وجود للأفكار القبلية بل المجتمع هو الذي يصنع قوالب للتفكير ويضعها في ذهن الأفراد فنسحبها أفكارا قبلية. أما المقولات المنطقية فإنما هي مقولات اجتماعية.
يبقى أن نتساءل عن أمرين ونجيب عنهما في هذا الفصل. وهما:
1- ما نسبة الحقيقة في المنطق الاجتماعي وما هي نسبة التطرف؟
2- إذا كان المنطق الإجتماعي صحيحا ـ وهو صحيح نسبيا ـ فلماذا وما هي الأدلة العلمية عليه؟ وما هي الدواعي النفسية التي تكون وراء صحة هذا المنطق؟
لا للحتمية الاجتماعية:
للإجابة على السؤال الأول نكرر ما قلناه سابقا ، من أن المنطق الاجتماعي تجاهل دور الفرد ودور القيم السابقة التي يملكها الفرد ويستطيع أن يقيس بها الضغوط الاجتماعية، وأن يتحداها إذا شاء.
ان دركايم ومن سبقه من المناطقة الاجتماعيين، أردوا تأكيد طبيعة الإنسان الاجتماعية فغفلوا عن الوجه الآخر للحقيقة، وهو طبيعته القادرة على مقاومة ضغوط الاجتماع.
هنا يكمن الفرق بين دراستنا للمنطق الاجتماعي ودراسة الآخرين حيث إنهم يدرسون ويركزون على الجانب الحتمي، ونحن ندرس الجانب الإرادي (الذي يخضع للاختيار).
وينعكس هذا الفرق على المنهج، حيث إننا ندرس المنطلقات النفسية، التي تكمن وراء الاستسلام للمجتمع وعن طريقها نكتشف طبيعة وعوامل تأثير المجتمع على الفرد. ولهذا فنحن نقسم الدراسة ابتداءا من دراسة الحشد والتجمع، مرورا بدراسة الانتماء والجماعة وانتهاءا بدراسة البيئة والمجتمع، وذلك من أجل التعمق في العوامل الخلفية لتأثير المجتمع على الفرد.
أما منهج المناطقة الآخرين، فهو دراسة المظاهر العامة للجماعة ابتداءا من اللغة والمصطلحات وانتهاءا بدراسة المراحل التاريخية للأمم والجماعات.
ولدراستنا هدف محدد، هو كشف العوامل الاجتماعية من أجل التحصن ضدها، وليس من أجل الاعتذار عن الانحرافات بأن الناس هم مصدرها وليس الفرد. وكما يقول أحدهم:
(صحيح أن المنطق علم معياري، كما يقول بعضهم وصحيح ان البشر يشترك مع بعضه في أنه يمتلك مقاييس عامة لا يختلف فيها اثنان؛ صحيح كل ذلك. لكن الأصح ان أفكار البشر لا تتكون مجردة عن الواقع الاجتماعي، وهذا مفتاح طريقتنا للتجرد (في) الفكر، وعدم التأثير بالخطأ من خلال الواقع الاجتماعي) .

عوامل تأثير الاجتماع
عامل التجمع (الحشد)، عامل الجماعة (الانتماء)، عامل التجمع (الهيئة)، مصدر قوة التجمع.
للإجابة على السؤال الثاني، لابد أن نعرف أننا نكتشف ـ من خلال دراستنا ـ عاملا نفسيا نسميه بـ(التوافق الاجتماعي) هو المسؤول عن تأثير المجتمع على الفرد. فما هو هذا العامل وكيف نكتشفه؟
لهذا العامل ثلاث درجات مرتبة على بعضها، وهي:
1- عامل التجمع (الحشد).
2- عامل الجماعة (الانتماء).
3- عامل المجتمع (البيئة).
والسبب في تدرج هذه العوامل أنها تسير من مستويات التأثيرات المؤقتة المباشرة، صاعدة إلى مستويات التأثير المستقرة غير المباشرة. وذلك، لأنك في تجمع الحشد تستقبل منبهات قوية، تؤثر فيك بصورة مباشرة، مما يجعلك تحس بأنك واقع ـ فعلا ـ تحت تأثير قوة خارجية، تحاول توجيه أفكارك، بيد ان هذا التأثير سيظل قويا ما دمت في التجمع، فإذا خرجت منه كنت أكثر قدرة على تقييم ما سمعت ورفض ما شئت منه.
بعد الحشد يأتي مستوى الجماعة، فإنك أكثر تأثرا بالتوجيهات الفكرية التي تتلقاها من جماعتك، التي تنتمي إليها بالقياس إلى جماعات غيرها، ولكنها ليست ـ دائما ـ توجيهات مباشرة. إذ قد يكون تأثرك بنوع أفكارهم آتيا من اتخاذك أحدهم قدوة، ولكنها أكثر استقرارا، لأنك قد تبقى لفترة طويلة متأثرا بأفكار الجماعة.
والمجتمع أبطأ تأثيرا من الجماعة والحشد، إلا أنه أبقى أثرا منهما.
وهكذا يتحتم ـ علينا ـ ان ندرس المجتمع، ثم الجماعة، ثم المجتمع، لكي ننتقل من ذات التأثير القوي المباشر، إلى ذات التأثير المباشر المتدرج وبعيد المدى.. لأن معرفة العوامل المؤثرة ذات التأثير المباشر أيسر من غيره، لأن التجربة يمكن أن تتحكم في التجمع لسهولة تكوينه، وإمكان مراقبته، ودراسة نتائجه. بينما لا يمكن للتجربة أن تتحكم في المجتمع لإنتشار أفراده، وتنوع المؤثرات فيه، وبطء ظهور نتائجه.
والدافع إلى الدراسة أمران:
ـ معرفة قوة الشعور بالتوافق الاجتماعي في توجيه الفكر البشري.
ـ معرفة جذور هذا الشعور وأسبابه.
التجمع (الحشد):
يفترض في التجمع توفر ثلاثة عناصر:
1- التواجد في مكان واحد.
2- الهدف المشترك في هذا التواجد.
3- العقلية المشتركة التي توجههم إلى ذلك الهدف.
فمثلا، للتظاهرة مكان واحد وهدف مشترك وعقلية رائدة يسودها، بينما لا نجد المكان الواحد في المستمعين إلى إذاعة، ولا نجد الهدف المشترك في المزدحمين على رصيف، ولا نجد العقلية الموجهة في المتواجدين لهدف الشراء.
وبعد توافر هذه العناصر لا فرق ـ في بحثنا هذا ـ بين أن يكون هذا التجمع دينيا، أو طبقيا، أو مصلحيا. إذ إنه رغم وجود فوارق كبيرة بين هذه الأقسام الثلاثة إلا أنها تتصل ببعضها، فيما نحن الآن بصدد معرفته من قوة التأثير في أفراده وكذلك لا فرق بين أن يكون للتجمع خطيب أم عدة خطباء أم يكون من نوع التظاهرة التي تقودها حماسة المشتركين أنفسهم.
وقد دلت التجارب على حقائق هامة في دراسة التجمع أهمها:
ـ إن للتجمع قوة لا تقهر، وإن مصدرها هو الإحساس بضرورة (التوافق الاجتماعي) الذي يُعد من أهم الغرائز البشرية، وقد يضاف إليها قوة الغرائز المكبوتة التي يطلقها الحشد، فتتضاعف قوة الحشد آنئذ.
والآن، لندرس قوة التجمع (الحشد).
قوة التجمع:
إن سلوك أبناء التجمع يظهر خواص جديدة ومختلفة تماما عن سلوكهم منفردين، إذ يختفي هنالك الشعور بالذات ويبرز الشعور بالجماعة، حتى لا يعدو الشخص يفكر بأنه زيد أو عمر.
هكذا تتعطل، بصورة مؤقتة، قدرات الشخص الفردية، وتحل محلها الغرائز المكبوتة.
وهذا يكشف لنا عن سبب قصور إبن التجمع في النواحي العقلية، بينما يتقدم في قدراته التنفيذية التي لا تحتاج ذكاءا.
ورجل التجمع يكون ذا صفات منها: أنه سريع التصديق، كاسح الحكم، متعصب الرأي، متناقض العمل، يظهر منه انعدام للقيم إذا وجه إلى الهدم، وامتلاء تام بالتضحية إذا وجه نحو البناء.
والقصة التالية، التي وصفها لنا أولبورث، تدل على مدى قوة الحشد، وكيف أنها تعطل قدرات الفرد العقلية:
(قبض مجموعة من المضربين على نفر من العمال الذين خرجوا عن الإضراب، وساروا بهم في شوارع المدينة، وكلما تقدمت صفوف السير ازدادت حماسة المضربين، عنفا وضراوة، حتى خاف قادة العمال من الموقف، ونصحوا هذا النفر بالفرار فلما هربوا، أخذت مؤخرة التجمع تطاردهم، وحين مروا بالقادة، الذين نصحوهم بالفرار أول مرة، تحولوا هم أيضا عن مواقفهم وتعقبوا العمال، وأشبعوهم ضربا) .
إنه مثل رائع لتأثير التجمع، وقدرته على سلب الفكر من الإنسان.
مصدرة قوة التجمع:
إن الإنسان حين التجمع لا يجد متسعا من الوقت للتفكير، إذ إن ورود الأفعال المتوالية الصادرة من أفراد التجمع، والتوجيهات المستمرة النابعة من مركز التجمع، كلها تشترك في سلب قدرة الفرد النقدية.
وكلما كان التجمع أكثر ظهورا للفرد، كان شعور الفرد بوجود التجمع أكبر أثرا فيه، ولذلك كان تأثيره في تعطيل القدرة النقدية أقوى.
من هنا كان التلاصق الجسمي، والحلبة الدائرية، وإظهار ردود الأفعال بصوت مرتفع هو المقياس الذي نستطيع أن نزن به مدى قوة هذا الحشد أو ذاك، حسب ما دلت عليه التجارب .
إذ إن هذه المؤثرات الثلاث، تضغط على النفس بإتجاه الإيمان بوجود الجماعة، بل ـ أكثر من ذلك ـ قد تجعل هذه المؤثرات الشخص يعتقد أن الذين يراهم من حوله هم فقط أهل الدنيا، وحين يتعمق هذا الإيمان في النفس تتناقض بقدرها الثقة بالنفس عند الشخص، حتى لا يعدو، يفكر تفكيرا منفصلا عن الآخرين.
ويزيد هذا الإيمان عمقا في نفس الشخص، وجود التوجيه المشترك إذ إن مجرد الإشتراك في تلقي التوجيه، ولو للحظة واحدة ـ يجعلنا نشعر بعمق ـ أننا مندمجون مع الآخرين.
وهذا يفسر لنا السبب في تأثير الإيحاء في رجل التجمع، إذ إنه باشتداد شعوره بوجود الآخرين، وهبوط مستوى تفكيره النقدي، يصبح مادة صالحة للإيحاء. إذ إن أفضل أوقات الإيحاء هو حين يهبط مستوى التفكير عند الشخص.
بل إن رجل التجمع يصاب بحالة الإسقاط الشعوري، إذ إنه ما أن ينفعل قليلا بتوجيه الفكرة، حتى يتراءى له أن انفعال الآخرين، نابع من تسليمهم له، واتباعهم لفكرته، وهنا يزيد إيمانا بهم واندماجا معهم.
التوافق والحياء:
إن الشعور بوجود الآخرين، لا يفعل شيئا في الإنسان، لولا وجود الشعور بضرورة (التوافق مع الآخرين)، وتأصله في نفسه، وهو الذي يكمن وراء قوة هذا الشعور ـ وبشدته وضعفه ـ وبه يتعلق مدى تأثيره في نسبة الشخص.
فصاحب النفسية القوية، ـ كبعض القادة ـ أو صاحب الضمير المتعود ـ كرجال المباحث ـ لا يتأثر بما يتأثر به الآخرون. وبالشعور بوجود الآخرين، والإيمان بهم، وتأصل هذا الإيمان، وتعمقه، والشعور بأنهم تابعون لنوع انفعاله عن طريق الاسقاط الشعوري. بهذه كلها تتاح الفرصة للغرائز المكبوتة ان تظهر.. تلك الغرائز التي كان يمنع عن ظهورها، الحياء من الجماعة، فالآن ذهب الحياء حيث يفعل الآخرون نفس ذلك العمل.
ذلك إن صراعا دائما يدور بين غرائز الإنسان، وبين القيم الإجتماعية، وموقف التجمع يعطينا القدرة على حل هذا الصراع على حساب القيم وبإتجاه الغرائز، لأنه ما أن يقف الجميع على صعيد واحد، حتى يشعر كل فرد منهم أنه، بالإضافة إلى الآخرين، يشكلون المجتمع كله. وهكذا يتحول المقياس الإجتماعي، إلى هذا التجمع، فإذال تراءى للفرد أن هذا التجمع بدأ يتحلل من قيم الإجتماع، ضغطت عليه الغريزة، للتحلل هو الآخر.
ويتبادل كل فرد التأثير، بعملية الاسقاط الشعوري، حين يزعم كل واحد أن الآخر تحلل فعلا من القيم الإجتماعية، كما أن الآخر يزعم بأن الأول هو البادئ.
لذلك لا نستطيع أن نحدد بوجه الدقة من الذين ابتدأ بالإنهيار، إلا أن سرعة عدوى الإنهيار، تدل على وجود قابلية في الإفراد له.
من هنا يشعر رجل التجمع بشجاعة أكبر وأمثل من شعوره بها إذا كان منفردا. وبهذه الشجاعة يخترق حاجز القيم، التي كان يحترمها سابقا، خوفا أو طمعا. وهذه الشجاعة آتية من ذات المصدر الذي نبع منه الاحترام، وهو الاجتماع. فالقيم فرضتها الحياة الاجتماعية، وها هي الحياة الاجتماعية الممثلة في التجمع، توجب عليه التحلل منها.
ومثله في ذلك مثل الطفل الذي كانت تعاقبه أمه على الاعتداء، فأخذت أمه تشجعه، مرة عليه.. لذا فإن قيامه بالاعتداء سيكون هذه المرة بشجاعة كبيرة، إذ إن المصدر الرادع أصبح هو الدافع له.
ونستطيع أن نشير إلى مراحل التحلل من القيم في رجل التجمع باختصار فيما يلي:
1- يتصور الفرد أن المتواجدين معه هنا هم كل الاجتماع.
2- يتراءى له أنهم في حالة تحلل من القيم بالاسقاط الشعوري.
3- يحسب أن التجمع يدفعه نحو التحلل.
4- فيكون لديه عاملان للتحلل، عامل داخلي هو الغريزة، وعامل خارجي هو ضرورة التوافق مع الآخرين.
إذا فقوة الحشد ناشئة من عامل (التوافق الاجتماعي) وقد نضيف إليه عامل الغريزة المكبوتة، التي كان التوافق الاجتماعي، سببا لصدها عن البروز قبلئذ.
الإنتماء:
ويأتي بعد التجمع، دور الجماعة (الإنتماء) وهو أكثر عقلانية من التجمع، وأقل تأثيرا منه. وقد أظهرت الدراسات ان الجماعة أكثر تأثيرا على الفرد من المجتمع.
والجماعة تختلف عن التجمع في أنها بعيدة عن تلك الإثارة الكبيرة، التي نجدها في التجمع. فأغلب التجمعات تملك في طياتها، دفوعات ضخمة من الطاقات الكامنة، التي تظهر بالتجمع، بينما الجماعة ليست كذلك رغم وجود دوافع بشرية خلالها. والجماعة تبدأ من جماعة العمل (وهم طائفة يجمعهم العمل المشترك في وقت محدد) وتنتهي بجماعة الإنتماء السياسي، وبين ذلك جماعات كثيرة، ونحن نختار جماعة العمل كعينة للدراسة لسبب أنها أقرب إلى التحديد، وأبعد عن المؤثرات الخارجية.
ثم إننا إذا عرفنا أثر جماعة العمل على بعضهم فسوف نعرف ـ بطريقة الأولوية ـ أثر سائر الجماعات، الذين هم أكثر التصاقا ببعضهم.
وربما نجد في الدراسات التالية، ليس فقط مدى تأثير الجماعة على الفرد، بل وأيضا، سبب هذا التأثير.
وسوف نصل إلى نتيجتين:
الأولى: أن ليس هناك إلا حسا واحدا لا أكثر ندعوه بحس (التوافق الإجتماعي)، ولهذا الحس جانب إيجابي، هو التنافس والمحاكاة، وجانب سلبي هو الحياء.
الثانية: أن الإنسان ـ وهو مدفوع بإحساسه الاجتماعي ـ يفقد قوة بعض قدراته العقلية.
وقد تكون النتيجتان واحدة، بسبب ان الإنسان لا يملك الا قلبا واحدا، إذا استوى عليه شعور، ينحسر عنه شعور آخر، وهكذا إذا سيطر عليه الشعور بالتوافق الاجتماعي يفقد بعض قدراته النقدية. إن نتائج دراسة أولبورث تدل على انه في حالة العمل مع جماعة يزيد الإنتاج إذا كان النشاط من النوع الحركي، ويقل إذا كان من النوع العقلي .
وسرعة العمل مع الجماعة، إنما هي بدافع التوافق الاجتماعي، حيث يجد الفرد أن أصدقاءه يسرعون، أولا أقل يخشى أن يكونوا قد أسرعوا فهو كذلك يسرع، لذلك إذا كان المعيار العام البطيء عاد السريع إليه، بدل ان يعود الجميع إلى السرعة.
فقد أظهرت دراست مود المبكرة ان هناك محاولة للوصول إلى مستوى الجماعة، وفي بحوث (لورنز) حول عمال مصانع يعملون على نضد، ظهر ان أسرع العمال أخذ يبطئ ولكن ليس إلى الحد الذي أسرع به أبطأ العمال (بل إلى حد متوسط) كما تبين نقص اتقان جماعة جيدة وضعت لتعمل بين جماعتين من مستوى ضعيف.
من هنا نكتشف ان الدافع نحو محاكاة الجماعة، ليس بالضرورة ما نسميه بالتنافس، رغم أنه دافع قوي، بل ما هو أعم منه، وأشمل الا وهو حس (التوافق) الذي هو البحث للشعور بالتنافس، أو ان التنافس لا يبطئ السريع بل الخوف من الإنفراد، والسعي نحو التوافق، هو الذي يبطئه، وقد ينسحب الفرد من مذهب (الحق) تحت ضغط الشعور بالتوافق الاجتماعي. فقد استفتى باحث حول موضوع فذهب بعضهم إلى الحق، وبعضهم إلى الباطل، ثم تآمر على واحد منهم فتبانوا على ان يذهب كل أفراد المجموعة، إلى تبني الباطل، عند صاحب الرأي الصحيح وهكذا تراجع هو الآخر عن رأيه تحت ضغط آراء الآخرين المصطنعة!
وفي تجربة الباحث آس آش (S, Asch)، نجد شخصا زعم ان جماعته يريدون اتباع منهج كان يزعمه منهجا خاطئا، وظهرت عليه آثار التردد، وكان يتحول عن رأيه خضوعا لرأي جماعته، بالرغم من أنه كان يعلم بخطئهم ولعل تغيير البيئة الاجتماعية ذا دلالة قوية على السبب في التأثر بها، فلقد ثبت بالتجربة أن عضوية جماعة تملي على الفرد مواقف تبدو راسخة جدا في نفسية الفرد، ولكن سرعان ما تتحول تلك المواقف إلى ما عاكسها، وتكون بذات الشدة، إذا تحول الفرد إلى عضوية جماعة آخرين. مما يدل على أن طبيعة الإنتماء تملي المواقف دون التفكير في تلك المواقف ذاتها.
وإذا عدنا إلى التجارب العملية، نجد أنه قد يكون مجرد حس التوافق الإجتماعي، سببا في تبني موقف خاص مما يدل على أنه شعور راسخ وأصيل.
فقد جرب د.شريف أثر الجماعة في غرفة مظلمة، في طرفها نقطة ضوء مركزة وثابتة ولكن العين تراها، عادة، متحركة يمنة ويسرة.
جاء شريف بطائفة من الناس منفردين، وأمرهم بتحديد إتجاه تحرك الضوء، فكانوا يزعمون أن للضوء اتجاهات مختلفة وحينما جمعهم، أخذوا يزعمون جميعا، بأن الضوء يتحرك ذات اليمين مثلا، وبما ان الضوء كان ثابتا في الأساس فإنما دل زعمهم على مدى تأثرهم ببعضهم.
إن جميع هذه التجارب تتفق في نطقة واحدة هي أن للإنسان شعورا أصيلا بضرورة التوافق مع الآخرين، في فكره وفي عمله.
المجتمع:
لعلاقة الناس مع بعضهم أسباب:
1- المصلحة.
2- الثقافة.
3- وتعم المصلحة علاقة القرابة كما أن وحدة التفاعل تتفق عادة مع وحدة المكان فأغلب الناس المتواجدين في مكان، يتفاعلون ثقافيا بصورة شديدة أو خفيفة.
والمجتمع ناشئ علاقة مزدوجة من المصلحة والثقافة، بينما الجماعة الطبقية ناشئة المصلحة، والجماعة الدينية ناشئة الثقافة المشتركة.
فالمجتمع إذا تركيب لكل عوامل التقارب بين بشر وآخر، ـ وبالرغم من شدة عامل هنا وضعفه هناك ـ فإن المجتمع يستحيل ـ عادة ـ تجرده عن كل العوامل، فمجتمع الرسول (ص) في المدينة، كان دينيا، ولكن المصلحة المشتركة كانت ذات أثر فيه. بينما المجتمع الأمريكي مادي، إلا ان للثقافة الواحدة آثارها البعيدة فيه.
من هنا نستنبط أمرين:
1- تأثير المجتمع على الإنسان أقوى عادة من تأثير الجماعة، أو التجمع، لأنه يحتوي على مختلف عوامل التأثير.
2- إن العوامل السابقة، جميعا، ذات أثر في المجتمع أيضا، وهيبة المجتمع ناشئة هذه العوامل جميعا.
وفي هذا العصر ـ عصر الفرد المفقود ـ أضحى تأثير المجتمع قويا في الإنسان، بحكم ازدياد وسائل الإتصال الجماهيرية.
لهذا كان للرأي العام فعالية لم تكن من ذي قبل.
وهيبة المجتمع ناشئة من الشعور الأصيل في الإنسان بضرورة التوافق الإجتماعي، لخوف البشر من العزلة، ولرجائه في التجمع .
إن الإنسان خلق من ضعف، فيخشى أبدا من كل شيء، أولا أقل يتهيب من كل شيء، ويبحث أبدا عن نصير، وهذا يبعثه نحو الإلتحام بالآخرين.
وقد رأينا ـ سابقا ـ كيف ان مجرد حضور آخرين يشجع الإنسان، بل ويستهويه، وقد يجرده من ذاتيته، ولدى التدبر في ذلك عرفنا مدى إحساسه بضرورة توافقه معهم.
وما عمليات التوافق الاجتماعي الأربع ـ (التعاون، والتنافس، والصراع، والمصالحة) ـ إلا بعض معطيات هذه الهيبة، فحتى التنافس والصراع، ناشئان من هيبة الاجتماع في روع الإنسان. فلولا هذه الهيبة، لم يكن سبب للتنافس أو للصراع. وما محفزات النشاط الاجتماعي الخمسة الا بعض مظاهر الهيبة فـ(التيسير والكف والمحاكاة والإيحاء والتقمص) كل ذلك ناشئة الشعور، بضرورة التفتيش عن قوة مماثلة في شخص أفراد آخرين.
فالإنسان الذي يجد أن نظيره يقوم بشيء، لا يمكن إلا أن يتشجع به فمثلا العداء الذي يتسابق مع آخرين يكون أسرع جريا منه حينما يسابق الزمن لوحده، حتى ولو استخدم كل المقاييس الزمنية الدقيقة.
لا لتغذيته بروح التنافس فحسب، بل وأيضا لعملية (التيسير) النابعة من تعبيد الغير لطريق العمل بأقدامه.
وقد دلت التجارب ـ الآنفة الذكر ـ أن الناس يقومون بقدر أكبر من العمل إذا كانوا مجتمعين معا. قد يكون السبب مجرد تعبيد الطريق. إن الماء يسرع في المجرى المهيأ سابقا، بتدفق مياه أخرى. والنشاط البشري يسير في المجرى الذي حفره الآخرون.
إن إقدام الأبطال على اختراق حواجز الهيبة يفيد الدهماء كثيرا، إذ إنه ينزع منه التهيب، وهذا بالضبط هو عملية التيسير التي نقوم بها ليل نهار.
والكف مظهر بارز للهيبة، فحياءا من الناس يتلجلج الخطيب، ويرتجف الممثل. وكل عمل يرتبط بالأعصاب لابد أن ينتفض ان كان أمام الناس، بسبب تهيب الإنسان منهم. وهكذا يؤدي الانفعال الزائد إلى هدم أنماط التفكير المتواصل، لذلك كان لاعب كرة السلة يصيب أهدافه أثناء التمرين أكثر مما يصيبها عند الجمهور.
وحين يلاحظ البشر أن آخرين يعملون شيئا، يرغب في تقليدهم، ومحاكاة نشاطهم لأنه يجد في انفراده عنهم عزلة يخشى عواقبها.
وحين يجد الفرد ان الذي يقوم بعمل رجل قوي، يشعر بضرورة اكتسابه لقوته تلك عن طريق محاكاة أموره.
وهكذا تجدنا نحاول اقتفاء أثر أولئك الذين نحترمهم ونعجب بهم.
ومجرد الشعور بأهمية شخص، بأنه عظيم في حقل واحد، يجعل الفرد يعتقد بأنه عظيم في كل حقل، وذلك يرغب محاكاته في كل عمل.
وهيبة الجماعة، تؤدي إلى افتقاد عنصر النقد لأعمالها وبالتالي تعطل هذه الطاقة في الفرد مما يهيء الجو أمام الإيحاء المباشر وغير المباشر.
الهوى؛ جذر الغريزة الاجتماعية:
ويطرح هنا سؤال: أين يكمن جذر الغريزة الاجتماعية عند الإنسان؟ إننا تعرفنا على وجود هذه الغريزة التي أسميناها بغريزة التوافق الإجتماعي، وعرفنا بعدئذ، أنها ناشئة خوف البشر ورجائه، ولكن خوف البشر ورجاءه، موضع سؤال هو الآخر إذ يبقى علينا أن نقول: لماذا أصلا يخاف البشر ويرجو؟ وأي مقياس يحكم درجة خوفه ورجائه؟ الجواب: بقدر تعشق الفرد لذاته، يكون خوفه ورجاؤه قويا. وبقدر تجرده عن ذاته، يتضاءل لديه الخوف والرجاء، ولسنا بحاجة إلى طرح معادلة علمية لإدراك هذه الصلة، إذ يكفينا ان نسأل: ماذا يخاف عليه الإنسان؟ وماذا يرجو له؟ إنما يخاف على نفسه ويرجو لها، وهذه بالضبط، هي الغريزة الأم التي سماها الدين بالهوى.
والذي يأمل تجنب الخطأ، عليه أن يتحصن ضد غريزة الهوى، وما تنشأ منها من غرائز، كالخوف من مخالفة الناس، والطمع في التوافق معهم.
إن وصايا الحكماء تكرست ضد غريزة الهوى، وبالخصوص ضد غريزة التوافق الإجتماعي، لكي يتحصن المرء بعقله ضدها، ويحبط مساعيها الرامية لإضلاله.. قال الإمام موسى بن جعفر، في وصيته الرشيدة لهشام، وهو يستلهم من آيات القرآن الحيكم: يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) [البقرة/ 170].
ثم ذم الكثرة فقال: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، وقال: أكثرهم لا يعقلون شيئا. وأكثرهم لا يشعرون. يا هشام، ثم مدح الله تعالى القلة فقال (وقليل من عبادي الشكور) [سبأ/ 13].
وقال: (وقليل ما هم، وما آمن معه إلا قليل) .
وقال الله سبحانه: (وكنا نخوض مع الخائضين) [المدثر/ 45].
(قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة) [الزمر/ 10].
إن السلطة الظالمة هي مظهر الاجتماع المنحرف، وعلى المؤمن ان يتمرد عليها أو يتخلص منها، إن لم يستطع مقاومتها.. لا لشيء إلا لكي يتحصن ضد الإنحراف الناشئ من ضلالة المجتمع.
ولقد استلهم روجر بيكون من الإسلام مدى تأثير غريزة التوافق الاجتماعي في انحراف الفكر. وحذر مما أسماه في منطقه بـ(صنم السوق) وليس بخاف ان التعبير بالصنم مستوحى من أدب الإسلام أيضا.
أما رينه ديكارت فقد اعترف في مقدمة منطقه: عرفت بكثرة أسفاري، أن فتى تربى في فرنسا، يختلف عما إذا كان قد تربى في الصين فعلمت بذلك ما للمحيط والتربية من أثر في الفهم والإدراك.
نستخلص مما سبق:
1- أن المحيط الاجتماعي قد يحبذ الأفكار الضالة للإنسان.
2- لذا على المرء ان يتحصن ضد المحيط الاجتماعي، لكي يهتدي إلى الحق.

عملية غسل الدماغ
نظرة عامة إلى غسل الدماغ - عملية غسل الدماغ وأسلحة التأثير
وجدت من الضروري بيان جانب من عملية غسل اللدماغ ملحقا بهذا البحث لأسباب:
1- إن المجتمع البشري، يقوم بعملية غسل الدماغ، بصور شتى على الفرد المنتمي إليه. وحين تلقي نظرة على غسل الدماغ في السجون أو في المستشفيات، تعرف مدى تعرضنا كأفراد لمثل هذه العملية في الشارع والبيت. ومن جانب آخر كلما ازددنا وعيا بحقيقة هذه العملية، عرفنا المزيد من أبواب التأثير على أدمغتنا، واستطعنا ـ بالتالي ـ حمايتها منها، ومن دون ذلك، نحسب أنفسنا أحرارا، بينما نعيش في زنزانة تضعها لنا أجهزة الإعلام العديدة التي نراها من حولنا:
(.. ساعة من التأمل والتفكير الرزين، أزاحت من عيون الفرد الغربي حجبا كثيفة، وكشفت له مدى وجود (حرية الاختيار)، ومدى فقدانها لديه، وساعة التأمل تلك برهنت أن ملبسه، وطعامه، وشرابه، وسهراته، وألوان حيطان منزله، وأثاثه ولعل كيفية اختياره لزوجته، هي من ضمن عملية (إقناع خفية) سلطت على دماغه) .
(وقد وصف وليم زوايت وسائل الدعاية والهيمنة على الفكر، بأنها قوة مؤذية علمية وغير أخلاقية، وتكاليف الدعاية ترجع بالتالي إلى الناس، وتحملهم أعباءها والنتيجة في الحالتين، استغلال فكري ومادي. فحبوب الأسبرين، مثلا، تكلف الفرد المستهلك مبلغ 4 بنسات انكليزية لكل 25 حبة إذا لم يعلن عنها، أما الأسبرين المعلن عنه في الصحف، والتفاز، فإنه يكلف شلنا وثمانية بنسات لكل 25 حبة…) .
2- إن عملية غسل الدماغ قد أصبحت بذاتها موضوعة من موضوعات الدراسة لعلماء النفس والإجتماع، وبما أننا نرى أن المنطق يتصل بالنفس، وأن مشكلة الإنسان العقلية، لا يمكن فصلها عن واقعه النفسي، فنجد وجود علاقة بين غسل الدماغ والمنطق.
3- إن عملية غسل الدماغ، هي استخدام منتظم للدوافع البشرية التي تحدثنا عنها في هذا الفصل، وذلك من أجل تغيير إتجاهه، وتصلح هذه العملية ان تكون مثالا لنوعية تأثير تلك الدوافع، والدواعي، في الإنسان. ونحن إذ نسرد جوانب من هذه العملية، قد نشير في ذات الوقت، إلى الدافع الخاص الذي استخدم في كل جانب، ليكون دليلا موضحا لنوعية عمل هذا الدافع ومدى تأثيره.
نظرة عامة إلى غسل الدماغ:
بعد أربعة أيام من أسره، أذاع ضابط أميركي وقع في أيدي القوات الشيوعية الكورية، أذاع بيانا من راديو (سيئول) دعا فيه الجنود الأميركيين إلى توجيه بنادقهم إلى رؤسائهم، الذين أتوا بهم إلى القتال من أجل احتكاراتهم الرأسمالية.
واندهش الجميع، وزادت دهشتهم حين عاد أسرى الجنود الغربيون، وأخذوا يدافعون عن الاشتراكية والشيوعية في أوطانهم، وتورط بعضهم في مهام تجسسية لصالح المعسكر الاشتراكي.
هنا استخدم أحد الصحفيين الأميركيين تعبير (غسل الدماغ) للدلالة على مجموعة الأعمال التي قامت بها الأجهزة المعادية في محاولة لتغيير اتجاه الأسرى الغربيين.
فما كانت تلك الأعمال .
1- كانوا يستقبلون الأسرى، بإبتسامة وبشاشة، ويصافحهم الواحد تلو الآخر (على نقيض توقع الأسرى).
2- بعدئذ يهنئوهم بأنهم هربوا من قيود الرأسمالية، وتكرر عليهم كلمات: كن مقاتلا من أجل السلام، وطبعا أنت تريد ذلك، وكل إنسان نابه يريد ذلك.
3- ويطلب بعدئذ من كل أسير أن يوقع على تعهد، ودعوى من أجل السلام، إن قاوم وامتنع، قيل له ان توقيعه مجرد تأكيد على رغبة عالمية لكل البشر المفكرين، ويوقع غالبية الأسرى مخلصا من الازعاج.
4- يحاولون التعرف على جميع تصرفات الأسرى، ويقدمون لهم استمارة معنونة باسم الصليب الأحمر، ليزعم الأسير أن ما يكتبه، يهم الصليب الأحمر، وفي تلك الاستمارة يطلب من الفرد كتابة كافة المعلومات المفيدة عن نفسه، وعن أقاربه، وعن عمله، وبلدته و.. و.. وتستخدم المعلومات للكشف عن شخصية الأسير.
5- يوضع الأسرى في معتقلات تدار من قبل (آمر المعتقل) الذي قلما يراه أحد، ويقوم بالتحقيق رجال يتحدثون الانكليزية بطلاقة.
والمحقق
6- يستغرق عمل مزود بكافة الصلاحيات على الأسير لتنفيذ عملية غسل الدماغ عليه، مثل فرض العقوبات عليه، وتخفيضها، وإبدال الأعمال. الأسير 12 ساعة من الساعة 7 صباحا إلى 7 مساءا وتدور المحاضرات والتعليمات والمناقشات، من الساعة 9 صباحا حتى الظهر، ومن 3 بعد الظهر إلى 4 مساءا، ومن يبدي منهم استعدادا للمطالعة يمسح له بالبقاء في مكتبة المعتقل، إلى الساعة التاسعة مساءا، وتكون المكتبة مليئة بالكتب الانكليزية، المنتقاة التي تخدم هدفهم. المحاضرات تدور حول إثارة الحقد ضد أمريكا، والدور السلمي للدول الاشتراكية، ويتم توزيع النشرات الاشتراكية، ويطلب من الفرد تكرار قراءة النشرات، وحفظ ما فيها، ومن يبدي قلة اكتراث بالمحاضرات، تعاد عليه في نهاية الليل. ومن يشاكس يحرض عليه أصدقاؤه.
7- وتؤدي المناقشة والجدال بين الزملاء، تدريجيا إلى فقدان الثقة بينهم، والى الريبة والحذر، والى ظهور المخبرين على بعضهم البعض.
8- ويبث المحققون، الرعب في نفسية الفرد، فيدخل أحدهم يحمل مسدسا ضخما، ومن ورائه مساعه، ويأتي معه بملف كبير كتب عليه (سري للغاية) ويزعم انه يحتوي على معلومات دقيقة عنه جاءت عن طريق مخبرين سريين.
9- تخضع علاقة الأسير بذويه للرقابة، فلا تصل الرسائل المسرة إليه، أما الرسائل المحزنة فتوصل بسرعة، وإذا تأخرت الرسائل فينسب ذلك إلى ضرب العدو لخطوط المواصلات، وينسب إلى إهمال الأهل لينقطع الأسير نفسيا عنهم.
وكانت نتيجة هذه العملية 13% فقط من مجموع الأسرى، هم الذين لم يتأثروا بالعملية، وكانوا من الجنود الأتراك، وكانت لخلفياتهم الدينية أكبر الأثر، في مقاومتهم لغسل الدماغ.
أما البقية فقد انهاروا إن سريعا أو بطيئا وانقلبوا إلى دعاة للاشتراكية في بلادهم.
عملية غسل الدماغ وأسلحة التأثير:
ما هي الأسلحة التي تستخدمها عملية غسل الدماغ، لغزو فكر الإنسان؟ فيما يلي نجيب على هذا السؤال بإقتضاب:
أ- استخدام العقاقير الطبية التي تشل مقاومة الأعصاب.
(وقد سبق أن عقاقير كمثل (العقاقير المهلوسة) تؤدي بصاحبها، إلى حالة تصوفية، حالمة، بحيث تبدو الأشياء التافهة والدقيقة مسائل ضخمة جبارة أمام عقل الفرد) .
ب- استخدام ضرورات العيش، من طعام وراحة ونوم. فكل من تعرض لعملية غسل الدماغ، جوع وروض وأرهق سهرا، ونصبا، لتشل مقاومته النفسية، وفي ذلك يذكر وليم جيمس، بضع وقائع من التحول الديني، بعد فترة عصبية من الإرهاق النفسي، والسهر والإعياء، أو التسمم بالكحول، الذي كاد أن يقتل ذلك الإنسان، كذلك يؤدي العالم الفسلجي الروسي (لوبيا) بعد تجارب مختبرية، تلك التحولات نحو الحقيقة والإيمان بعد فترات الضنك، والتجارب القاسية، ومن العلاجات التي تتبعها الكنيسة المسيحية، لمن يصاب بالأفكار الحصرية، وهي الصلوات الطويلة والصوم إلى حد الذبول .
وربما تعود حالة الاستسلام الفكري، في أوقات شدة الإنسان، تعود به إلى نسيان عاداته، وأفكاره السابقة، خصوصا الباطلة منها، كما حدث مثلا لكلاب بافلوف (بعد حادث الفيضان الذي أصاب أقفاصهم).
والدين الإسلامي استفاد من حالة التوتر والاضطراب، في توجيه الإنسان إلى الخير، ونحن نعلم أن لصلاة الآيات وصلاة الاستسقاء، وصلاة الميت، آثارا نفسية خيرة لأنها تقع في أوقات حرجة، كما أن تشريع الصوم قد يكون بهدف ترويض النفس لتقبل بالفكر الصحيح. أما في الحرب الكورية، فإن هذه الحالة استخدمت من أجل بث أفكار باطلة وذلك عن طريق تجويع الفرد وجعله يركز فكره في أمر واحد فقط هو السعي وراء الحصول على ضرورات العيش وحين أصبح كذلك أعطي الطعام وأعطي معه الفكرة. فتعلقت نفسه بالفكرة من خلال ارتباطها بالطعام إذ الطعام أصبح الحاجة الوحيدة له في تلك الحالة العصبية.
ج- استخدمت حاسة التوافق الاجتماعي، حيث كان الأسير يتعرض لنقد أصدقائه إذا قاوم تأثير المحاضرات، وكان المحققون يلقون بالتفرقة بين الأسرى، لكي لا يثق بعضهم ببعض، وأخذ كل واحد منهم يعاني من الوحدة، ويشعر بفراغ حاسة التوافق في نفسه، فإذا به يبحث عن أصدقاء. فآنئذ يعود إلى أعدائه، فلعلهم يصبحون أصدقاءه، وهذا ما حدث بالضبط، إذ ان الفرد يتجنب إحداث المشاكل مع مجتمعه، بل يحاول ان يخلق لنفسه حالة من الوئام مع بيئته، ليعيش في سلام.
(ويتجنب الفرد أيضا المشاكل ويصبو إلى الهدوء بإيجاد شيء من التجانس مع جماعته، وهي آلية أخرى من آليات فرويد دعاها بالمواءمة أو حب التوافق (Conformation) ومحاولة التجانس مع المجموعة تبدأ منذ أيام الطفولة، ولولاها أصبحت الحياة مستحيلة) .
د- استخدمت غريزة الهروب من الفراغ، حيث لا يتحمل الإنسان الفراغ لفترة طويلة، وقد رأينا كيف أن المحققين كانوا يمنعون وصول الرسائل من ذوي الأسرى إليهم، ليجعلوهم في إطار الفراغ، الذي لا يمكن تحمله.
وقد أجرى أحد علماء النفس تجربة على نفسه إذ دخل في حجرة معزولة عن كل صوت، مكسية جدرانها بالجلد المحشو بالإسفنج، فلم يتحمل المكوث أكثر من دقائق، وشرع يستغيث طالبا إخراجه.
ويقول العالم الفسلجي هيب (Hibb ): إن أحد طلاب الجامعة الأصحاء، تطوع أن يعزل نفسه عن الإحساسات الخارجية، والأصوات لمدة أيام، وقد وصف بعدئذ مشاعره قائلا: إنه أصبح منشطرا إلى شخصين، لا يدري أيهما هو؟ الشخص ذو الهلوسات، أم المخلوق المنهار المرتاع؟ وإنه أصبح عديم البصيرة، قليل التمعن، والتمحيص، شديد الرغبة للإصغاء والاعتقاد، بكل ما يقفز إلى فكره من سخافات .
هـ- استخدمت حالة الإرتباك التي تصيب الإنسان عند الضوضاء والصخب، حيث إن مخ الإنسان، يستطيع أن يتحمل درجة معينة من الضوضاء، أما إذا زاد فإنه لا يمكنه تحمله، كما لا يمكنه تحمل الفراغ. وقد كانت عملية غسل الدماغ، في الحادثة السابقة، تركز على المحاضرات، العديدة المتواصلة، التي لا يستطيع الفكر من ملاحظتها، فيضطر إلى الاستسلام لها.
وللضوضاء والصخب والضجيج ذات التأثير المعاكس، للصفاء الذهني، والهدوء العقلي، فكما أن الصمت والعزلة يهددان الدماغ، فكذلك ارتفاع الصوت وضجيجه يهدد المخ ويربكه ويزعجه. فالدماغ الذي يعمل ينسق ذبذبات معينة تحدث في خلاياه تغيرات ضارة إذا ما تلقى ذبذبات صوتية قوية وحادة.
ومن التجارب المختبرية تبين أنه يمكن إحداث هياج وارتباك في الإنسان إذا وجهت إليه، أصوات ذات ذبذبة خاصة، فينقلب الإنسان العادي إلى فرد لا يقر له قرار، ولا يستوي به مكان. والبوليس الأمريكي في بحثه عن كيفية تفريق المظاهرات المتكررة، اخترع صفارات هائلة الحجم، يوجهها إلى المتظاهرين، الذين سرعان ما يشعرون بالخمول، والتعب والانهيار .

القسم الثالث:
كيف نتجنب الخطأ؟
الخطأ والانجرافات النفسية
ما هي الغرائز؟
بين الغرائز والصفات السيئة.
الإحساس بالضعف أو الضعة.
بين الرذائل والإحساس بالضعة
بين شذوذ النفس وخطأ التفكير.
الغرور العلمي.

ما هي الغرائز
أول ما يفاجئنا عند الحديث عن أثر الغرائز في عقلية البشر هو السؤال التالي:
ما هي حقيقة الانحرافات النفسية؟ وما هي حقيقة الكبر والحسد والغرور؟ ثم ما هي مصادرها؟
ويتبع هذا السؤال استفهام آخر، أشمل، وأعمق منه، هو: ما هي الغرائز البشرية؟ وما هو دورها في خلق الشخصية المتميزة؟
ذلك لأنه إذا عرفنا حقيقة الغرائز، فبسهولة، نستطيع معرفة الإنحرافات النفسية، ثم دورها في إضلال البشر.. فلنبحث أولا عن حقيقة الغرائز.
نشأت لفظة (الغريزة) من معنى (الغرز) وهو دخول شيء في شيء آخر، بصورة كاملة، وراسخة كمثل غرز المسمار في الجدار.
وتعني هذه الكلمة: القوى الراسخة في طبيعة الإنسان رسوخا لا يمكن انفصالها عنها.
وتساوي كلمة الغريزة ألفاظ: الطبيعة، الفطرة، البنية، ولكن لفظة (الغريزة) أقواها دلالة، على المعنى المقصود.
وقد بحث عن واقع الغريزة، كل الفلاسفة، منذ ظهور الفلسفة، وبين الدين الإسلامي الكثير مما يرتبط بها.
والذي يهمنا من ذلك كله الأمور التالية، التي هي نتائج البحوث حول الغريزة:
1- إن الكائن الحي بحاجة إلى الطاقات الآتية إليه من الطبيعة، تماما كحاجة أي جسم إلى الطبيعة، التي تحتضنه، ولكن بفارق واحد هو أن الجسم الحي يحس بهذه الحاجة، ولذلك سمي الحيوان بأنه: نام حساس.
2- وهذا الإحساس، ناشئ من عمليات الأعصاب الداخلية والخارجية، التي تحمل إلى الدماغ، كل التطورات الحيوية، التي تطرأ على الجسم.
فمثلا: الحاجة إلى الدفء، يحس بها الإنسان من إحساس الأعصاب بالبرد، ثم يحمل هذا الإحساس إلى الدماغ. والحاجة إلى الطعام، تعرف من الأعصاب الداخلية، التي تحمل هي الأخرى، إلى الدماغ، تأثيرات الأجهزة الهضمية. وكذلك الحاجة إلى الجنس والنوم و.. و..
3- وبوجود هذا الإحساس يوجد الألم، الذي قد يكون خفيفا، فنسميه (بالرغبة)، وقد يكون شديدا فنسميه (بالوجع). وحقيقة الألم أنه نوع من الضغط البيولوجي، على الإرادة البشرية، لكي تتخذ تصميما بإتجاه تقليل، أو رفع هذا الألم. كما يضغط الإبن على والده الشفوق بتهيئة حاجة له.
وخضوع الإرادة لنداء الألم، يعني اتباع الإنسان لغريزته.
إذا فللغريزة ثلاث مراحل: مرحلة الحاجة البيولوجية، فمرحلة الإحساس الحيوي، ثم مرحلة الضغط على النفس. ونستطيع ان نسمي المرحلة الأولى بالغريزة، والثانية بالشهوة، والثالثة بالهوى.
ويسمي بعض علماء الإجتماع المرحلة الأولى بـ(قوس المرود) والثانية بـ(قوس المركز) والثالثة بـ(قوس المصدر).
يقول الكسيس كاريل ان أكثر العواطف ناشئة من الغدد الداخلية، ومن أعصاب سيماتيك، ومن القلب، وقليلا ما تنشأ العواطف من الدماغ. إن الرغبة والشجاعة والحقد تدفعنا إلى تطبيق الخطط التي رسمها العقل للإنسان، والخوف والغضب والعزلة والجرأة والإقدام إنما هي تعمل بواسطة أعصاب سيماتيك في الغدد، التي تحملنا بسبب من إفرازاتها، على حالة العمل أو الدفاع أو الفرار أو الإقدام.
وإن غدد (هيبو فيزو تيروئيد) والغدد الخبيثة وفوق الكلوى، هي التي تمكننا من الوله واليهجان .
من هنا نعرف أن الغرائز، التي هي أصل العواطف، إنما تنشأ من حاجات بيولوجية، تشعر بها الأعصاب، أو تفرزها الغدد الداخلية.
وتؤيد النصوص الإسلامية ارتباط الغرائز بالبنية الترابية للإنسان، بذات القوة التي أيدتها النصوص العلمية وإليك بعضها:
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، إنه قال ضمن حديث شرح خلاله كيفية خلق ابن آدم، قال: فلزمه من ناحية الريح: حب الحياة، وطول الأمل، والحرص؛ ولزمه من ناحية البلغم: حب الطعام، والشراب، واللين، والرفق؛ ولزمه من ناحية المرة: الغضب، والسفه، واليقظة، والتجبر، والتمرد، والعجلة؛ ولزمه من ناحية الدم: حب النساء، واللذات، وركوب المحارم، والشهوات.
يظهر لنا من هذا الحديث، مدى ارتباط الغرائز البشرية، بالعناصر المادية، التي تتفاعل فيه، كالهواء والدم والماء والبلغم، فهي بحاجة إلى امتداد خارجي بالطاقات المناسبة، فيندفع الإنسان إلى تلك الطاقات، وتتكون لديه الغريزة.
فالغريزة، عند الإمام، هي نزوع العناصر الطبيعية المتواجدة في الجسم، إلى الطاقات المادية التي تمدها بالبقاء.
وفي حديث آخر روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: الحزم في القلب، والرحمة والغلظة في الكبد، والحياء في الرئة .
ومن الواضح ان القلب والكبد والرئة، هي المواقع التي تتواجد فيها عناصر الجسم، كالدم والمرة، والهواء والتي يربط بينها وبين الغرائز الحديث السابق. ويؤكد بعض الباحثين هذه الحقيقة إذ يعرف الغريزة بما يلي:
(إن الغريزة استعداد نفسي عضوي ـ هذا الاستعداد فطري أو موروث ـ وهو يحتم على حامله أن يدرك أو ينتبه إلى فئة معينة من الموضوعات وأن يعاني إثارة وجدانية ذات لوم معين إذا ما أردك هذا النوع من الموضوعات كما يحتم عليه ان يقوم بفعل معين أو يعاني على الأقل دفعا نحو القيام بهذا الفعل) .
4- المراحل الثلاثة: الحاجة، الإحساس، الألم، تخضع في قوتها أو ضعفها لمقاييس:
أ- مقياس ذاتي، نابع من مدى شدة المراحل نفسها. فشدة الحاجة إلى الجنس، أو شدة الإحساس بهذه الحاجة، أو شدة الألم الناشئ من هذا الإحساس، هو الذي يحدد مدى غريزة الجنس في الفرد.
وبإختلاف الناس في الحاجة إلى الجنس، والإحساس بها، والألم منها، تختلف غرائزهم الجنسية.
ومن هنا نستطيع تحديد بعض ملامح شخصية الأفراد، بمعرفة مقاييس غرائزهم، من نواحي الحاجة والإحساس والألم. فالشاب في المناخ الحار، يختلف في شدة حاجته الجنسية عن الشيخ في المناخ البارد.
وصاحب الإحساس الشاعري الرهيف، يختلف عمن سواه في مدى إحساسه بحاجته إلى الجنس، كما يختلف في مدى تألمه من هذه الناحية.
ب- مقياس إرادي، بما ان ضغط الغريزة متوجه إلى الإرادة، فنستطيع معرفة مدى تأثير الغريزة، بمدى ضعف الإرادة كما نعرف مدى ضعفه، بمدى قوة الإرادة في علاقة عكسية.
من هنا نرفض بشدة فكرة حتمية الخضوع للغرائز، بل لا نعتبر الغرائز سوى أدوات ضاغطة على النفس، بإتجاه إشباعها.
5- حينما يصمم الإنسان بإرادته على اتباع الغرائز، يستخدم كل طاقاته في هذا الاتجاه، ومنها طاقة الذكاء، فالذكاء كأية مقدرة بشرية أخرى وسيلة من وسائل إشباع الغرائز، لا فرق فيها بين الذكاء الخارق أو الداني إلى ما يقترب من مستوى الغباء.
فبازدياد هذه الطاقة لا نضمن تخفيف حدة الغرائز، بل بالعكس كما يظنه بعض الفلاسفة، نجد نفاذ الذكاء قد يزيد، من حجم الغرائز، لأنه يزيد من إمكانات إشباعها.
لذلك لم يكن من الصحيح، افتراض تسامي حضارة البشر الروحية بازدياد نسب الذكاء فيهم، بل قد يكون العكس هو الصحيح.
6- ويلعب الذكاء دورا خطيرا، في بلورة إحساس الإنسان بالغرائز، مما يفتح فجوة بينه، وبين سائر الأحياء.. لا تزال تتسع، كلما اتسعت إمكانات البشر الحضارية.
فغريزة الجنس عند الإنسان، لا تختلف عنها عند الحيوان، في أنها حاجة بيولوجية، أو أنها جوعة فسيولوجية، بل إنما تختلف في أنها حاجة سيكولوجية عند الإنسان، دون الحيوان. إذ ان البشر قد بلور إحساسه بالجنس فوق مستوى الحاجة الحياتية المحدودة، فهو أبدع الفن، وتذوق الجمال، وأنشد الأشعار و. و. وهو خلق وسائل جديدة لإشباع الجنس لديه، بل أدخل الجنس في كثير من نشاطاته الأخرى.
والذكاء، هو الذي بلور الإحساس بالغريزة عند الإنسان، ما فرق بينه وبين سائر الأحياء، وحينما شعر البشر بالألم النابع من ضغط الحاجة الغريزية (إلى الطعام) راعه هذا الألم، وأعمل ذكاءه في القيام بما ينقذه منه في المستقبل، وساعده على ذلك مقدرته على حفظ أحاسيسه السابقة (بالذكاء).
فمن جهة فكر في ضمان دائم لإشباع غريزة الجوع، بعد أن وجدها وتألم منها، ومن جهة ثانية حفظ في نفسه صورة من ذلك الألم، الذي كان قد أصابه عندما كان جائعا، فأبدع نظام التخزين للمواد الغذائية.
وكذلك فكر في وسيلة لضمان اشباع غريزة الجنس، يساعده، على ذلك شعوره بمدى تألمه من فراغه الجنسي، فتزوج. وهكذا.. فذكاء الإنسان أمد الغرائز الطبيعية، بإمكانية الإمتداد عبر الزمن، وكان الذكاء يصب الزيت أبدا على منطقة الغرائز المشتعلة.
ونشأ من هذا الإمتداد الرجاء والخوف. رجاء ضمن لإشباع الغرائز، وخوف عودة الألم الذي يتذكره الإنسان أبدا.
إذا تتلخص غرائز الإنسان في بؤرة واحدة هي الشعور بالألم. ويبقى هذا الشعور، حتى بعد وجود الألم بفعل الذكاء، وهذا فارق الإنسان عن سائر الأحياء.
بين الغرائز والصفات السيئة:
تدفع الغرائز الإنسان نحو اشباعها وفي الحالات العادية يتخذ الإنسان السبل المستقيمة نحو تلبية غرائزه.
وفي هذه الحالات، تقوم علاقة شرطية بين الغرائز، وبين الوسائل المتبعة لإشباعها، بحيث يندفع الفرد نحو تلك الوسائل بدافع تلك الغرائز. فمثلا التاجر يندفع نحو محله بدافع غرائزه، لأنها قد أشبعت بهذه الوسيلة.
والسبب في وجود هذه العلاقة، ما يسميه بعضهم بالرد الفعلي الشرطي.. والذي يتلخص في أن الإنسان يحب شيئا أو يكرهه لمجرد علاقته بشيء آخر، محبوب أو مكروه.
ولكن حين تصطدم الغريزة بمواقع خارجية تشذ عن سواء الصراط، فتحدث في النفس الصفات السيئة.
فإشباع غريزة الجوع مثلا قد يكون ـ في الحالات الاعتيادية ـ عملا شريفا يدر ربحا مناسبا يغطي حاجة الفرد إلى الطعام.
فإذا افتقد الفرد هذا الطعام بسبب أو بآخر، فمن جهة وجود الغريزة، ومن جهة أخرى تذكر ألمها الذي يخافه الفرد، يدفعانه إلى عمل أي شيء ممكن، لضمان إشباعها الآن وفي المستقبل. وهنا يختار الإنسان طريق الجريمة، وفي المرة الأولى أو الثانية، لا تنشأ عن الإنسان صفة نفسية منحرفة، إنما ينشأ عنه إشباع غير مشروع لغريزة الجوع، وذلك عن طريق السرقة، ولكن بتكرار إحباط غريزة الجوع وعدم قدرة الفرد على إشباعها بطريقة شريفة.
وبتكرار ممارسة الجريمة لإشباع الغريزة، تنشأ في النفس، علاقة بين غريزة الجوع وبين الجريمة لأنها تكون الوسيلة الوحيدة المتبعة لإشباعها، وتكون دافع الغرائز بإتجاه هذه الوسيلة هذه المرة.
وهنا يتحول الفرد من مجرد مجرم، إلى ممارس للجريمة ومتعود عليها، وتكون السرقة ليست مجرد حادث في حياته، بل تكون أسس حياته أيضا.
وما يقال في غريزة الجوع يقال في غريزة الجنس، فالذي أحبطت فيه هذه الغريزة، يحاول إشباعها بطرق شاذة، وبتكرار الإحباط، ثم الإشباع بطرق غير مشروعة، تتكون في النفس علاقة بين الغريزة وبين الطرق الشاذة، فيتسبب في أنه يندفع نحوها، بكل ما في غريزة الجنس، من قوة قاهرة.
الإحساس بالضعف:
في ضوء المبادئ السابقة، نستطيع، بسهولة كشف حقيقة الصفات النفسية السيئة، كالكبر والحسد والغرور، بالرغم من أنها معقدة بعض الشيء..
وأولى الحقائق التي ينبه إليها الشرع والعلم، ارتباط الكبر والحسد والغرور بما يدعى بـ(عقدة الحقارة) أو الشعور بالضعة، أو الإحساس بالضعف، أو الهلع.
لذلك يكون من الضروري البحث عن حقيقة الإحساس بالضعف، لمعرفة هذه الصفات ومدى علاقتها بالضلالة البشرية.
قلنا آنفا إن الغرائز تبدأ بالإحساس بالحاجة، وتنتهي بإيجاد الألم في النفس، وهذا الألم يتبلور عند الإنسان بفعل الذكاء البشري، حتى يصبح ممتدا في عمق الزمن، بحيث يحس به الشخص حتى قبل أو بعد وجود الحاجة إلى الغرائز.
وهذا الألم بالذات يتحول إلى الشعور بالضعف، فالإنسان حين يتذكر ألم الغرائز يبحث عن وسيلة تخلصه من الألم مرة واحدة وإلى الأبد، وهذه هي عقدة الإنسان الأولى.
فهو من جهة يعرف أن الحياة تقهره، وهو من جهة ثانية يريد أن يتحدى الحياة، فيبحث عن قوة خارجية يضيفها إلى نفسه.
والحرص على المال والسلطان الذي فطر عليه كل إنسان، يأتي من هذا الشعور القوي بالضعف عنده. فإحساسه بضعفه، واعتقاده بأن المال والسلطان قوة، هو الذي يدفعه نحو الازدياد منه حتى فوق مستوى حاجاته الطبيعية.
كما يأتي تشبث الإنسان بالآلهة المزعومة من هذا الشعور العارم بضعفه، وبضرورة إيجاد ضمان لنفسه لإشباع غرائزه وتخليصه من آلامها.
يقول القرآن الحكيم وهو يبين دور الشعور بالضعف في الحرص على المال والسلطان (يحسب أن ماله أخلده)… [الهمزة/ 3].
كما يبين القرآن دور هذا الشعور في اتخاذ الآلهة ويقول:
(واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون).. [يس/ 74].
ولا يعرف الشخص كم هي المساعي التي يجب ان يبذلها، حتى يجد القوة التي تجبر الضعف، الذي يحس به في نفسه. والعالم المحيط بالشخص، في بدايات عمره، ذو أثر فعال في تحديد هذه المساعي عنده، فقد يعتقد الفرد ـ بسبب من موحيات أيام الطفولة ـ أن قدرا بسيطا جدا من المساعي، كافية لإيجاد ضمان لإشباع غرائزه، وقد يعتقد العكس وهو أن عليه أن يبذل كل ما يملكه من طاقة، حتى ـ بالكاد ـ يحصل على ضمان كاف لنفسه. وبين هذين الشعورين المتطرفين يستقيم بعض الناس، ويعرفون تقريبا، المقدار المناسب من الضمان.
أما سبب اختلاف عقائد الناس، في هذا الشأن فهو نوع التربية، التي تلقوها أيام الطفولة، والتي تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
أ- التربية المتطرفة باتجاه سهولة اشباع الغرائز، كتربية الطفل المدلل، الذي يجد الوالدين يسرعان نحو اشباع رغباته كلما أشار إليهما بذلك. إنه يحسب أن ايجاد ضمان لنفسه لا يحتاج إلى أكثر من عمل بسيط، مشابه لما قام به أيام الطفولة.
ب- التربية المتطرفة، باتجاه معاكس؛ أي التربية التي لا تشبع غرائز الطفل إلا بعد جهد بالغ، كالطفل المحتقر في المحيط العائلي، فإنه بعكس الطفل المدلل، يعتقد أن الغرائز الطبيعية، بحاجة إلى تحد قوي للناس، حتى يستطيع إشباعها.
والطفل المدلل إذا خرج عن دور الطفولة، إلى مرحلة الشباب، وواجه صعوبات الحياة، وعرف ان إشباع غرائزه لن يكون بتلك السهولة التي يعدها في دور الصغر، يصاب آنئذ برد فعل عنيف تجاه المجتمع، فيعتقد أنه يعاديه حين لا يشبع رغباته بتلك الطريقة، التي كان يتبعها والده. فهو لا يستطيع أن يكشف خطأ فهمه للحياة، وأنها ليست بتلك الليونة التي زعمها، بل يروح يتصور خطأ المجتمع تجاهه، بصفة خاصة. وهنا يصاب بعقدة حقارة تماما كالذي تعرض في طفولته لإهانات بالغة لكرامته.
ج- التربية المعتدلة، التي تدع الطفل يواجه الحياة، بما فيها من صعوبة ويسر، وبساطة وتعقيد، فإنها الطريقة الوحيدة، التي تستطيع إبقاء الفرد خارج إطار الشعور بالضعف والإحساس بالحقارة البالغة.
بينما الذي تعرض لعقدة الحقارة، إما بسبب تعرضه للإهانة والإخفاق في أيام الطفولة، أو بسبب زعمه في البداية بسهولة الحياة، ثم اصطدامه بصعوبتها وإصابته ـ تبعا لذلك ـ برد فعل عنيف. إن مثل هذا الشخص، تتسم نفسيته بأمرين:
1- بتفضيل التحدي على الإنسجام مع الحياة، لزعمه أن غرائزه لا تشبع الا بالتحدي، كما عهد ذلك أيام الطفولة، أو عند إخفاقه في مواجهة الحياة.
2- باعتقاد عداوة الناس معه، مما يدعوه إلى التحذر منهم من جهة، والسعي نحو إحراز القوة في مواجهتهم من جهة ثانية، ومقابلة عداوتهم بعداء مماثل من جهة ثالثة.
وهذه هي الجذور الخبيثة التي تفرع الصفات النفسية السيئة.
يقول هر. آ. أوراسترايت:
(قد يزعم الطفل في أدوار حياته الأولى، أنه لا يستطيع بلوغ أمانيه الا عن طريق إيذاء نفسه أو الآخرين).
(فمثلا يزعم بأنه يقدر على اخضاع ذويه لرغباته، لو صاح بصوت عال، أو رفس برجله الأرض، أو خمش رجله ووجهه وأدماه).
(وعندما يشب الطفل على هذه الحالة، فمن الممكن ان يظل حتى في دور الشباب، بل إلى أن يبلغ سن الأربعين من عمره، يظل يعتقد بأن وسيلة الحصول على أمانيه، إنما هو الغضب، والهياج، وإيذاء الزوجة وضرب الأولاد، وكيل السباب لمن دونه من الناس).
(وفيما لو دخل هذا الطفل حقل السياسة، فإنه بدلا من إستخدام الأساليب المنطقية المقنعة، يحاول إحراز النجاح بأساليب عنيفة ضد مخالفيه والمعارضين له، مشابهة تماما لتلك الضربات والصرخات التي كان يستعملها في دور طفولته) .
من الدراسات الدقيقة والهامة التي أجريت على الطب النفسي للجريمة في دور الشباب هي دراسة (هلي وبرونز) حيث قام هذان العالمان بفحوص دقيقة وعميقة لحالة (105) زوجا من الأطفال الذين ارتكبوا الجرائم، كما فحصوا أحوال وأوضاع إخوانهم للمقارنة بينهم وبين المجرمين، إبتغاء كشف العوامل المرتبطة بالوراثة والتربية.
ووصلا بالتالي إلى النتيجة التالية: إن زهاء 91% من المجرمين الشباب، كانوا يشكون من اختلالات عاطفية شديدة، من ناحية الروابط الاجتماعية، وذلك لافتقارهم للعواطف الحنونة، فهم كانوا يحسون من جهة بالخوف، ويشكون من جهة أخرى من الاختلالات العاطفية، المرتبطة بالأمور العاطفية. كانوا من جهة، مصابين بالحسد والغيرة من إخوانهم، ومن جهة أخرى كانوا يعانون من توتر شديد، وعميق في عواطفهم، وميل شديد نحو الانتقام لأنفسهم .
بين الرذائل والإحساس بالضعة:
وهناك علاقة وثيقة، تربط بين الرذائل جميعا، وبين الإحساس بالضعة، ارتباط السبب الحادث، وتشير هذه العلاقة في الخط التالي:
1- بوجود الحاجة الحيوية إلى الغرائز، وضغط الجسد، على الإرادة باتجاه تحقيقها، تبدأ مرحلة الألم.
2- وبذكاء الإنسان يبحث البشر، عن ضمان دائم لرفع الألم، تبدأ بذلك مرحلة الشعور بالضعف، وإرادة التحدي له.
3- وبسبب سوء المحيط التربوي، أو ندرة الإشباع، يتقوى الشعور بالضعف، وتتقوى إرادة التحدي له.
4- وبجهل الإنسان، وسوء تربيته، يختار طرقا ملتوية، يجد أن شعوره بالضعف، وإشباع شعوره، بضرورة التحدي.. وهكذا تنشأ العلاقة بين الغرائز وبين الرذائل بواسطة الإحساس بالضعة.
وقد سبق الحديث عن البنود الأول والثاني والثالث، وبقي علينا تفصيل الحديث عن البند الأخير لنعرف السبب الذي يجعل الإنسان يعبر عن شعوره بالضعة، بصفة سيئة، مثل الكبر أو الحسد.
لمعرفة هذا السبب، لابد أن نعرف أن النفس البشرية، تشبه فردا جالسا في قلعة محصنة، وأمامه طبق من الفواكه. في خارج القلعة تنتشر حقول الفواكه، تعود ملكية بعضها إليه، وبعضها للناس الآخرين.
فحينما يجوع هذا الشخص يجد أمامه أحد الطرق التالية:
ـ أن يكتفي بالفواكه الموجودة فعلا لديه، يزعم أنها أفضل الفواكه.
ـ أن يخرج من القلعة إلى حقول الناس ويسرق من الفواكه ما يشبع به جوعته.
ـ أن يخرج إلى حقوله الخاصة ويستفيد من فواكهه الخاصة. كذلك النفس، تحتاج إلى القوة (لتجبر بها ضعفها) فتجد أمامها أحد الطرق التالية:
ـ إما أن تكتفي بما لديها من القوة الداخلية، بزعم أنها تكفيها في مصارعة الحياة (وهذه حالة الإنسان المعجب بنفسه).
ـ أن تحاول إحراز القوة بظلم الناس وغضبهم (وهذه حالة المتجبر الظالم).
ـ وأن تحاول تحقيق القوة بالطرق المشروعة (وهذه هي الحالة المستوية للناس).
ويشترك الإنسان الأول والثاني في:
ـ إنهما معا يشعران بالضعف، ويحاولان تغطية هذا الضعف، بغير الطريق الطبيعي.
ـ إنهما يعاديان الناس ويحتقرانهم، فالذي يعجب بنفسه ويعتبرها أحسن من غيرها يحتقر الناس، والذي يظلم الناس ويتجبر عليهم يعاديهم بالطبع.
ومن هنا جاء في الحديث: ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه .
وبكلمة أخرى؛ الذي يتكبر على الناس يظلمهم، والذي يظلم الناس يتكبر عليهم. فالظلم هو الوجه الظاهر للتكبر، والتكبر هو الوجه الباطن للظلم، وكلاهما يعبران عن شعور بالضعة، وإسقاط هذا الشعور على الناس، والفرق أن المتكبر يغمط حقوق الناس المعنوية، والظالم يسلب حقوق الناس المادية.
وجاء في حديث آخر: ما من أحد يتيه إلا من ذلة يجدها في نفسه …
فالتكبر (اعجاب النفس بذاتها) والتجبر (ظلم النفس للآخرين) ينشآن من منبع واحد هو الشعور بالذلة.. والإحساس بالضعة.
والغرور، والإعجاب بالنفس، وجهان من وجوه التكبر، إذ ان التكبر هو محاولة النفس جبران ضعفها، بالاعتقاد بالقوة. والغرور هو المبالغة بالاعتداد بالنفس وبصفاتها. كما أن الإعجاب بالنفس، هو المبالغة في إحصاء حسنات الذات.
ولا فرق يبن التكبر والغرور والعجب، إلا في المواد المختلفة، التي تظهر فيها هذه الحالة الشاذة (التي يحاول الفرد فيها جبران ضعفه بالاعتقاد الباطل بالقوة).
فالتكبر هو إظهار هذه الحالة في صورة تحدي قوى الناس، والغرور هو الشعور النفسي بهذه الحالة، والإعجاب هو ربط هذه الحالة بصفة من صفات النفس، كأن يغتر الإنسان بعلمه، أو بماله، أو برأيه.
والحسد هو وجه آخر للتكبر، إذ إن المتكبر لا يريد أن يكون لغيره ما ليس له، فيأمل لو خسر الناس أشياءهم وربحها.
والحسد أيضا ناشئ من الشعور بالضعة لأن الحاسد يريد خسارة غيره، وربحه، جبرا لما يشعر به من ذلة. لذلك يرتبط الحسد بعدة صفات أخرى هي: الغيبة والتملق والشماتة على المصيبة، فكل هذه الصفات ناشئة الشعور بالضعف والهوان.
وجاء في الحديث المأثور عن أبي عبد الله عليه السلام: إن لقمان قال لابنه: للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب ويتملق إذا شهد ويشمت بالمصيبة .
وهكذا تتسلل الصفات النفسية السيئة بعضها من بعض، وتعود جميعها إلى أصل واحد، هو هوان النفس، وإحساسها بالضعة. ولقد عبر عن هذه الحقيقة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حين قال: من كرمت عليه نفسه هانت شهواته .
وبكلمة أخرى: من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره .
ويقول بعض علماء النفس، إن كل مظهر من مظاهر حب التغلب والتسلط على الآخرين إمارة على الشعور بعدم الاستقرار الروحي.
والعلامة الأخرى من علامات عقدة الضعة، ومركب النقص هي أن الفرد يعيش في عالم من الأحلام والخيال، والذي يسمى في الإصطلاح العلمي بـ(الفانتزي) ويعني ذلك: الفرار من الواقعيات، والتهرب من المشاكل والمسؤوليات، واللجوء إلى ميادين الأحلام والآمال التي لا تتحقق.
بهذه كلها نعرف طبيعة الغرائز، وكيفية تحولها من مسيرتها العادية إلى صفات رذيلة، وأن جذر هذه الصفات هو الشعور بالضعة.
بقي علينا أن نعرف أن هذه الصفات ذات أثر خطير في تضليل الإنسان عن الحق، وحجبه عن المعرفة، وسوقه إلى حقول الجهالة والأساطير.
الزنقب غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 03:31 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)