بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:30 PM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة المتن وثقافة الهامش..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


وجدت في احدى (الأجندة) المهترئة في جيبي كلمة، نقلتها على عجل ل (ألبرت مكسيكو) تقول: (جئت لهذا الوجود لأختلف معه). ولست أعرف عن هذا المشاغب شيئاً، ولما أزل أبحث عنه في غيابة التاريخ. فمن يعرف عنه شيئاً، فليبلغ أقرب صديق لنا. وكنت أحفظ كلمة قالها الدكاترة (زكي مبارك) عفا الله عنه للدكتور طه حسين الذي دمَّر حياته، وقَدَرَ عليه رزقه عامله الله بما يستحق تقول: (الويل لنا إن لم نختلف). ولست أدري أين قرأتها، فمن يعرف موقعها من كتب (المبارك)، فليشر إليها، فكتبه، وما كُتِبَ عنه في زاوية مغبرة من مكتبتي، التي شغلني عنها وعما يماثلها من جيد القول وعميق المعرفة وسداد الرأي جيلُ الشغب والإثارة، ملأ الله أفواههم علماً وحكمةً، وأفعم قلوبهم هداية وثباتاً على الحق.
ومقولتا (مكسيكو) و(مبارك) سُقتهما فاتحةً للجدل الذي قد يصل إلى حد المراء الباطن لا الظاهر، ومقدمة كما الصدقة بين يدي النجوى، لإطفاء غضب المتحفزين للمناكفات. والذي جر قلمي إلى هذه التهويمات والتحْويمات والمقدمات الإطفائية ما يقال عن (الثقافة) المحلية، أو العربية، أو الإسلامية المتداولة في المشهد العربي والعالمي، واقتراف تقسيمها إلى: ثقافة (متن)، وثقافة (هامش)، وافتراء الكذب بجعل ثقافة الأمة المسلمة ثقافة وَهْمٍ وهامش، دون استثناء أو تحفظ.
والإطلاقات العامة رماية طائشة، تؤذي، وتخيف، وتكشف عن جهل وتسرع وتحامل لا يليق من مجتمع (الرياضة) و(الفن) فضلاً عن مجتمع الفكر والحضارة، والقول دون استثناء إيغال في العموميات وإذكاء للاختلاف، واقتراب من (الخلاف) المورِّث للتنازع والفشل وذهاب الريح. فالكاتب المتمرد على الثوابت والسوائد حين يتولى كِبر التقسيم، لاشك أنه يستأثر بالمتن، جاعلاً ما سواه في الهامش، وهو بعد حدث في رحاب العالم، وإن وهن عظمه، واشتعل رأسه شيباً، وقسمة كتلك تعد قسمة ضيزى. وطبعي أن يأتي مهمَّش آخر لينتزع المتن من مدعيه، قائلاً له: (ليس هذا العش عشك فادرج) ويظل الجميع كعشاق (ليلى):




وكل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا


وهذا على أصح روايات البيت وخبرتي القرائية والعراكية التي ناهزت نصف قرن ولا فخر أثبتت لي أن أقل الناس خبرة، وأقلهم معرفة، واحدثهم سناً اجرؤهم على التطاول والمباهاة، وأحفلهم بالتصنيف والقطعيات والأثرة وبالتألي بالحكم الناجز والحرمان القاطع. وتلك مصائب المشاهد والمواقع والمنابر. والأحداث المتزببون يتعجلون العملقة بصلف القول وفجاجة الرأي. والتصدي لهم أو التعفف والمرور الكريم مركبان أحلاهما مرٌّ، فحين تمر بمثل أولئك وكأنك لم تسمع، ولم يقل، تساعد على إخلاء الثنيات، ليتحكم الجهلة في رقاب الحقائق، والتصدي لهم يرفع رصيد البذاءات، ويجعل الحصيف الآخذ بحجز المتهافتين عرضة للسَّفاهات والتفاهات.
وما لا مراء فيه، ولا اجتهاد معه وجود (المتن) و(الهامش) في أي ثقافة: إسلامية أو غير إسلامية، متى كانت منجزاً بشرياً، يحكمه التفاوت العقلي والمعرفي والتجريبي، ولكن المراء وكل الاجتهاد في تحديد المتن والهامش، فتلك قاصمة الظهر، ومراتع الفتنة. فبعض المنشَّئين في الحلية، وهم ألد الخصام، يرون أن الثقافة الإسلامية بكل ما وسعت من قيم: عقدية وتشريعية وأخلاقية هي الهامش، فيما تأتي ثقافة التمرد والانقطاع والتبعية ثقافة متن، وتلك لعمر الله بلية البلاوي. وإشكالية (الحدية) و(القطعية) عند المتعالمين والمرجفين ومثقفي السماع تكشف عن التسطح والتسرع وقول ما قاله النَّائين بجنوبهم. فحين يتحدث أحدهم عن (التجربة الغربية) أو (التجربة الشرقية) ثم يربط نجاحها بشكل قطعي حصري بالتخلص من (الدين) بواسطة (النقد) الصريح والمواجهة العنيفة.
وحين يأتي آخر، وهو بصدد الدفاع عن (الأدب العامي) ليقول: إن أوربا لم تنهض إلا بعض اهتمامها بلهجاتها، ثم يعقبه ثالث ليقول إن (اللادينية) هي منطلق الحضارة والمدنية، ويتهافت متربيون على القول عن (المرأة) أو (الثقافة) أو (الحرية) أو (الديمقراطية) وكل هؤلاء بمجازفاتهم لا يزيدون أمتهم إلا خبالا، ومع الترديد لمقولات سلفت، ملتها المشاهد، ومجتها الأسماع، يكون لكل هؤلاء القائلين عما ليس لهم به علم ولا لآبائهم أشياع وأتباع، يطيرون بما يسمعونه منهم فرحاً، وكأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من الذكر الحكيم، ومع أن هؤلاء وأولئك كما المتردية والنطيحة إلا أنهم يغثون ويؤذون ويعوِّقون.
وليس لأحد منهم سابقة إلا سابقة المخالفة، وضرب السوائد، والاستفزاز، واجترار المقولات التي مجتها أسماعنا منذ (رفاعة الطهطاوي) و(عصر النهضة) و(قاسم أمين) و(مصطفى عبدالرازق) و(طه حسين) وحتى (أدونيس) و(أبي زيد) و(خليل عبدالكريم)، وهي مقولات جاهزة تشيع الذكر، والمتخلل إليها بلسانه كما البقرة يكون حاضر المشاهد.
والمشاهد الضاوية الأجسام الخاوية المظاهر يحركُ ساكنها من يوردون الأمور ولا يصدرون، وآلاف المفكرين والفلاسفة والكتاب قالوا مثل قولهم، وعشرات القادة غامروا، فقال قائلهم: (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين) فيما ترى وتسمع من اللاحقين بهم من لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول المكرور، ومن ثم فإن الجديد عندهم في السياق والربط، ووصف ثقافة الواقع المحلي بالهامش أو الوهم. فما (المتن) وما (الهامش) وما (الوهم) وما (الحقيقة)؟ سؤال حقيق بالطرح، ملزم بالجواب الأدق للتحديد، فمثل هذه الإطلاقات والمفرقعات لا تقال عن مثل هذه القضايا المصيرية.
وحين يربط الكاتب المسلم بالهوية أو العقيدة أو بهما معاً عن جهل أو عن علم وإصرار نجاح أوربا (إزاحة الدين)، وب (حرية النقد)، يكون قوله تحريضاً وإغراءً للجهلة ومرضى القلوب على ممارسة التجربة الغربية مع ثوابت الأمة، من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة صحيحة، لم ينطقها صاحبها عن الهوى، وهو قول سمعه من كان قبلنا، وليس ببعيد أن يسمعه من سيأتي بعدنا، فالمقوون كالأثرياء المفلسين، يفتشون في أوراقهم القديمة، وما يقال عن فكاك أوربا من هيمنة الكنيسة وانطلاقها نقل تاريخي متداول، ورواية صحيحة لا غبار عليها، فالنهضة الأوربية لم تنجح حتى لملمت ذيول السلطة الكنسية (وطقَّستها) وجعلتها للفارغين والمعوَّقين، والشيوخ والعجزة والعجائز، ولكن الكارثة حين يلح المستدعي للتجربة الأوربية على نقلها، محرضاً أمة الإسلام على (تطقيس) دينهم، ورفع مصحفهم الذي جاء تبياناً لكل شيء.
والواقعة الباقعة أن (المتعلمنين) حين يتفجعون على واقع أمتهم، وهو بالشك واقع مفجع، يمعنون في ارتكاسها، وما منا من أحد إلا وهو متفجع على هذا الواقع، متألم منه، ملتمس الخلاص من وهدته، ولكن الخلاص لن يتحقق بالفرار من الدين، وإنما بالفرار إلى الله جميعاً، وحتى ندخل في الدين كافة، ونتمثله اعتقاداً في الجنان، وقولاً في اللسان، وعملاً بالأركان، محققين مقتضياته في التفكير والتدبير والتوقيت وإعداد القوة، لا أن نفر من ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وعلى هذا فالاختلاف في الحل، وليس في توصيف الواقع الأليم، ذلك أن واقع الأمة الإسلامية لا يطاق، وأم المشاكل في تحديد طريق النجاة، وسؤال المستبدلين سؤال مشروع، فالكاتب حين يخط بقلمه ما يرى، ثم يفضي به إلى الناس، يكون من حقهم التساؤل، فالقول كالغذاء، فالمعدات تلتهم الطعام، والأدمغة تلتهم الأفكار، وكلا الغذاءين مؤثر على المتلقي: آكلاً أو قارئاً، والكارثة أن مثل هذا الغذاء الفكري تضوى به الأفكار.
وما أضاع الأمة إلا اقتلاع التجربة الغربية والأخذ بعصمها، دون وعي لخصوصية كل حضارة وإمكانيات كل أمة. والنفور من المساءلة والمراجعة دليل على ممارسة الوصاية وحسم القضايا المصيرية مع غياب ذوي الشأن، ومن مصائب راهننا أننا حين ننفر لحماية الثغور وإحقاق الحق، يحال نفورنا إلى الجهل والتخلف، ولو تنادينا إلى كلمة سواء، وحررنا قضايانا ومسائلنا، لاستطعنا تخطي العقبات والمعوقات.
للحديث صلة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  


قديم(ـة) 25-11-2006, 08:30 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة المتن وثقافة الهامش...!
د/ حسن بن فهد الهويمل


ومشروعية التساؤل عن المرجعية والأحقية للمتداول من القيم والأفكار الطريف منها والتليد قد يضايق البعض، ويرفع نبضه، ويربك حركته، ولربما يقلبها رأساً على عقب، ذلك أن طائفة من المشتغلين بالثوابت، أو المتحدثين عن المسكوت عنه، أو المتسائلين عن هوية السوائد، يتصورون أنهم يقولون كلمة الحق، وأنهم لا يسألون عما يفعلون، وأن المناوىء لهم مغرم بالتجريم والتحريم والإدانة ليس غير، وكأن هذا البعض قد ورث المشهد من أبيه وأمه. وما درى هذا المسكين أن الله لم يمض مع رسوله المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي لا يتقول على الله بعض الأقاويل، في كثير مما تعجل به، أو فعله بوصفه بشراً، حتى لقد راجعه في الدعاء على من لقي الأذية منهم، فقال له:- «ليس لك من الأمر شيء». وهو قد خالفه في أمر الفداء وفي تحريم ما أحل الله له لمرضاة أزواجه، واستدرك عليه مواقفه من الأعمى وممن يدعون ربهم بالغداة والعشي.وهؤلاء الذين يتلقون ركبان الاستغراب، ويسارعون في طمس الهوية والسمة والخصوصية مندمجين مع الآخر الحفي بخصوصيته وسمته وهويته إلى حد:«ولن ترضى عنك..»، هؤلاء لا يحسون بما تركوه من أثر سلبي وإرباك متعمد للمشهد الفكري والثقافي. وبخاصة عندما تكون الآراء فجة، والمتحدثون نقلة لما لا يفهمون، وكثير مما نقرؤه مضى زمنه، وكلحت نضارته وشمطت ملامحه.
وبعض الكتبة يقول الكلمة المخلة بالقيم والخارجة على الضوابط، لا يلقي لها بالاً، تهوي به سبعين خريفاً من عيون العارفين بالمقتضيات والمقاصد، ومع ذلك تعرج به إلى سماوات البهرجة والشهرة الزائفة عند من لا دراية ولا رواية عندهم، وما أصدق الحكيم المجرب حين قال لأحد جلسائه:«تحدث حتى أراك». وأبو حنيفة المتأذي من آلام ركبته، لم يمكنه من مد رجله إلا كلام المظهري الفارغ. وبعض الكتبة تحتدم مشاعرهم، وتتوتر أعصابهم، ويدخلون الحلبة بورقة واحدة، ولو دخلوها بأكثر من ورقة لكانوا أربط جأشاً، وأرحب صدراً. وكلما أوغل الإنسان في المسؤوليات، واستشرف المعارف، وحنكته التجارب، وخبر حلو الحياة ومرها، كان أكثر هدوءاً، وأرحب صدراً، وأقرب إلى التعذير.
وما أضر بالأمة إلا المبتدئون الذين يخطفون كلمة من هنا وكلمة من هناك، ثم يشعلون بهما نار الفتنة، ويربكون المشاهد، وإذا دعوا إلى كلمة سواء لووا رؤوسهم، ولقد يكونون موغلين في الدين بدون رفق، فيحرمون ما أحل الله من زينة أو طيبات، ويحيلون حدتهم وشدتهم إلى سد الذرائع والغيرة على الدين، ومن هؤلاء من نحقر عبادتنا عند عبادتهم، وصلاتنا عند صلاتهم، ولكنهم أحداث يمرقون بتنطعهم في الدين كما يمرق السهم من الرمية، وضياع الدين بين جاهل متنطع ومنافق جلد، فهما بين الإفراط والتفريط، وكيف بنا إذا عشنا حتى نرى متنطعاً يغلو في دينه، ثم ينقلب على عقبيه حاملاً معه جلابيب الدين، بعد أن حولها كما المستغيث، فكان على نقيض تنطعه ورهبانيته، وهو في كلا الحالين نقمة ووبال. وكيف بنا إذا خبّ السفيه ووضع في مراتع الفتن وتنقل بين«الراديكالية» و«الإيغال» في الدين بلا رفق! ثم لم يجد من يأخذ على يده، ويأطره على الحق أطراً.
والمحيل على التجربة الأوروبية، وضاربها مثلاً، ونسيان ما هو أهم مثله كمثل الذي ضرب مثلاً ونسي خلقه وصنيعه لعبة مكشوفة وعملة قديمة متحفية، ومؤشر انهزام داخلي، والمجتر لها كهفي يغدو بورقه إلى ذوي الشأن، ليكشف عن ماضوية تجاوزتها أبجديات العصر. والتجربة المعشوقة ما زالت ليلى المغفلين والساذجين والماكرين والمأجورين.
وأين هم من تجارب أخرى شرقية وجنوبية وشمالية من ذوي الديانات الوضعية المضحكة؟ ومع ذلك لم تحل دياناتهم الوضعية الخرافية بينهم وبين اختراق الآفاق، والاتيان بمثل ما أتت به أوروبا وأمريكا المتعلمنة. لقد طرحت مشاريع كثيرة متناقضة لإقالة عثرة الأمة العربية، ولم يكن من بينها العودة إلى ما كان عليه محمد وأصحابه، وكل تجربة مضرة تبدىء وتعيد مقولة« عزل الدين عن الدولة» أو «عزل الحياة المتحفيين تذكر «غاندي» و«نهرو» و«أنديرا» فكيف بمن هم على المحجة البيضاء، واليهود المتعصبون ليهوديتهم وللغتهم استطاعوا تحقيق متطلبات الحياة الدنيا، وبحبل من الذين كفروا أقاموا دولة دينية تعتمد المؤسسات والديمقراطية، وما أحد منهم شكك في أثر الدين اليهودي المحرف على المعاصرة. وعلى ضوء ذلك فإنه لا يمكن ربط التخلف بالعقيدة، والقرآن الكريم قد أشار إلى ذلك«يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا»، وحين يتفوق الأوروبيون مدنياً فإنهم مخفقون حضارياً، وليس لهم في الآخرة من خلاق، وحين يتفوق الإسلاميون مدنياً يتفوقون حضارياً، ويرجون من الله مالا يرجوه غيرهم.
إن «ثقافة المتن» و«ثقافة الهامش» و«ثقافة الوهم» تكون عند العلماني وعند الإسلامي، متى لم يحسن أحدهما التعامل مع المستجدات، ومتى لم يحسن الإسلامي تمثل المقتضيات والمقاصد الإسلامية، ومتى غاب الإسلام ممارسة، وحضر ادعاء، والأمة الإسلامية تمر بوضع حرج وتحديات لاقبل لها باحتمالها، وجبهتها الفكرية حين يكون أفرادها كما بني إسرائيل وبقرتهم يدب في أوصالها الداء، ويصيبها الوهن والحزن، ولا تحقق العلو الذي أراده الله لها، وإذا كانت مثخنة الجراح من سهام العلمانيين والحداثيين والذوّاقين وأنصاف المتعلمين فإنها ضاوية الجسم خائرة العزيمة من طوائف الإسلاميين الذين يظنون أن المواجهة القولية والفعلية هي الحل، دون تربية وتصفية وفهم وعمل، وعزاؤها وعد الله بالنصر لمن نصره، والبقاء للطائفة المنصورة، والمبعوث المجدد على رأس كل قرن.
إن ما نريده من السائمين في مزابل الغرب المجترين لمقولات تكشف عوارها أن يجربوا الاستبداد ولو لمرة واحدة، وأن يحاولوا طرح مشروع إسلامي حضاري، يحترم العلم والمدنية وإنسانية الإنسان، ويقدس النظام والحرية والوفاء بالعهود، مما يجعل العدو كأنه ولي رحيم، فهل نظفر بهذا النوع من المفكرين؟ أحسب أن الوقت مواتٍ، والظروف مناسبة، ولم يبق إلا صياغة الخطاب الحضاري.؟
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:31 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
على هامش المجتمع والتربويين..
قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصاً..!
د.حسن بن فهد الهويمل


لو دعيت إلى التظاهرة التربوية الكبرى، لتحديد المراد المتبادل بين ثنائية: (المجتمع) و(التربويين) لكان في فمي ماء، وكيف ينطق من في فيه ماء!. أما وقد كفيت عناء المجادلة والمجاهدة، أو المجاملة والمداهنة، فقد وجدتها مناسبة (لأرسلها العراك) على حدِّ قول (لبيد) ورأي (سيبويه). ونحن في غمرة التلاحي أحوج إلى التوفيق منه إلى التحريش. وما من أحد منا تختلط عنده الرؤى والمفاهيم، إلا ويكون قوله (ضغثاً على إبَّاله). فالوزارة الأخطبوطية المنتشرة كالضباب مجلّلةً الوهاد والنجاد، لا تطلب المزيد من العناء، ولا رد اللفحات، وإنما تعطو إلى نسمات اللطف. ومن الحقائق الغائبة في ضجة الجدل أن (التعليم) يكون صناعة، ويكون فريضة وعبادة. والدهماء من الناس لاتفرق بين المهمتين، مشكّلةً بلحمها وعظمها عقبة في طريق التحرف السليم، وما لا مراء فيه ان لكل مطلب مرجعيته ومشروعيته، فصناعة الإنسان للإنتاج تتطلب العصرنة، وصناعته للعبادة تتطلب الترثنة. وفوق ذلك فالتعليم شطر التربية، كما (الحياء شطر الإيمان)، ومن جعله الكل في الكل، ونسي البيت والسوق والمسجد وضخ القنوات وتدفق مراكز المعلومات، وما تحمله وسائل الاتصال، وما يختصره ويزويه عصر القرية الكونية، وما تفاجئ به التحولات الحضارية والمدنية فقد حمّل التعليم ورجالاته مالا يحتملون، وغفل عن تلك المؤثرات التي تطال التفكير والتدبير والقيم والمفاهيم والمواقف. ومع هذا وذاك فإن التعليم شبكة معقدة من المشاكل والإشكاليات، لا تحسم بذهاب مسؤول ومجيء آخر، ولا تقلّص بنزع غلاف من مقرر ووضع آخر، ولا تحل بتغيير مسمى المفتش بالموجه ولا المراقب المرشد، ولا تنقض مشاكله عروة عروة بابتداء لقاء وانتهاء آخر، ولكنها تكون بتلك وبأشياء غائبة. ومن توقع أن أحداً من المشرعين أو المنفذين يمكن أن يأتي متوكئاً على عصا موسى، أو أن أمره بين (الكاف) و(النون) فقد وقع في أضغاث لأحلام، وفوت على قومه فرصاً لا تعوض.
وعلى المشرِّعين والمخططين ومن دونهم من المنفذين ومن حولهم من المتابعين: الراضين أو الساخطين معرفة ذلك تمام المعرفة، لمواجهة مجمل التساؤلات والإشكاليات مواجهة حضارية. وحين تُخْلط الأوراق، ثم لايفرق المتعقبون للعملية التعليمية بين (التعليم الدنيوي) القائم على التدريب المهني والتأهيل المعرفي والتعليم التجريبي، لإعداد القوة المادية من أطباء ومهندسين وعلماء تجريبيين وإداريين وفنيين وحرفيين ومحاربين، و(التعليم الشرعي) للتفقه في الدين، وإعداد القوة المعنوية من فقهاء ومحدثين ومفسرين ومتكلمين وناهضين بمسؤوليات القضاء والدعوة والحسبة يستفحل فيما بينهم التنازع والتنابز والهمز واللمز، الذي قد يبلغ أحطَّ دركاته. والسرعان من الناس من يخلطون بين: الديني والدنيوي، ولايفرقون بين طلب العلم الفريضة وطلبه الاختياري، ومثل هذا التشابه يهيئ الأجواء لتناسل الارتياب والاتهام، وقتل السمعة. ولو أن المتجادلين فرقوا بين الثابت والمتحول، وعالجوا الأمور وفق أهدافها وغاياتها، وفي إطار مجالاتها، وعلى ضوء الإمكانات المتاحة، لهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
والدولة حين ترتبط بالشريعة: وجوداً وعدماً، وتصدر منها، فيما تأتي وتذر، وتخضع لها حاكمية، يكون إقدامها وإحجامها حساسين، وتحرفها مثيراً للمساءلة والتحفظ، ويكون الإشفاق من أي محاولة للتغيير، مهما كانت المبررات والحيثيات. فالزمن الرديء لايبشر بخير، والأوضاع المتردية عن يمين وشمال تخيف المخيفين، وما من أحد إلا وفي أعماقه عقدة التآمر والمكر، لكثرة تعرضه لها وقوعه في حبائلها، فالأعداء المتربصون وممن حولنا من المداهنين، يأتون السوائد والثوابت ينقصونها من أطرافها، ويمهدون لذلك بما يشيعونه عن البلاد وأهلها وتعليمها من قالة السوء. ولقد تناولت أطرافاً من هذه الشائعات بمقالين عن: - (صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية) (الجزيرة 21423/2/4 و1/3/1423هـ). وفي ظل هذه الأجواء المتوترة لا يكون تفكير في التغيير إلا ويكون إلى جانبه تفكير في الاعتراض. وجميل أن يكون تفكير وتساؤل واعتراض حصيف، ولكن الأقبح أن يحال التغيير إلى سوء النوايا، أو أن يربط بالحملات الإعلامية الغربية، فينشأ تردد معيق وارتياب مخيف. وعندما نبيح لأنفسنا التشكيك بالعمل والعامل نعطل المسيرة ونظن بأنفسنا ظن السوء، ونتيح للمشاكل أن تتراكم، كما الظلمات التي بعضها فوق بعض. والمعترض على أي إجراء: إما أن يكون ناصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإما أن يكون نقيض ذلك أو دونه، على غرار: - (فمن كانت هجرته). وعلى شاكلة المقاتل الذي يكون قتاله لإعلاء كلمة الله، أو يكون حمية أو شجاعة. ولما كان أمر الدنيا على الظواهر، وأمر الآخرة على البواطن، كان من واجبنا ألا نتعمد شق الصدور.
والأمر لاينتهي عند حسن النية أو عند سوئها، ولا عند التبين والعلم، وإنما يتجاوز ذلك إلى أمور أخرى، تتعلق بأسلوب الممارسة وظروفها، وحجم التطلع وإمكاناته. ثم إن المعترض يكون ناصحا وصادقا، ومع ذلك يكون عرضة للجهل أو للتسرع أو لخطأ التقدير أو التوقيت، وقد لايتوفر في مواجهته على ما يحب الله من الحلم والأناة، وقد يكون متأثراً بالشائعات، غير منصاع للتثبت، رابطاً بين ما يثار من اتهام، وما يشاع من ريبة، وعند هذا لايكون نصحه وصدقه منجيين، والنصح الصادق لابد له من الدراية الواعية والتثبت الدقيق، وشيء من فقه الواقع، ومعرفة الأحوال والمتغيرات والأجواء والإمكانات، وحسن النية وإحسان الظن، والتماس العذر لمن لم يحالفه الحظ. فنحن أحوج ما نكون إلى الأجواء الملائمة للمحو والإثبات. وليس من شك أن العلم الدقيق بالملابسات أولى بشائر التسديد والتوفيق، والعلم شرط القول والعمل، فالسبيل الدعوي الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلانه، ربطه الله ب (البصيرة) وهي العلم.
والبصيرة ليست فقط في إتقان ما يقال، ذلك أن الإنسان يكون حافظاً لكتاب الله، مقيماً لحروفه وحدوده، مستوعباً للحكمة: قولاً وعملاً وإقراراً، ولكنه غير فقيه، سواء أكان الفقه: فقه أحكام أو فقه أحوال و(رب مُبلّغ أوْعى من سامع). إذاً نحن أمام شرط أساسي في مواجهة المتغيرات المصيرية، وهذا الشرط تجمله (البصيرة). ولكل حقل معرفي بصيرته، فالسياسي له بصيرته السياسية، ولكل من الاقتصادي والتربوي والأديب والمفكر والفيلسوف ورجل الأعمال بصائرهم. و(البصيرة) لا تكون على المحجة البيضاء حتى يخالطها الصدق والإخلاص والاستبراء للدين والعرض. فكم من عالم نحرير أضله فساد الفكر أو انحراف المعتقد أو سوء الظن بالمسلمين، أو الهوى المتأله. وبصيرة العصر تختلف عن بصائر ما سلف، ذلك أن النوازل تعقد الأمور. كما أن تعدد الاحتمالات، والتماكر، والمخادعة، وبراعة اللاعبين، ولطائف اللعب أمور يشيب من هولها الوليد. وإذ يكون المتابعون للعمليات المصيرية رواداً فإن السمة اللازمة للرائد ألاَّ يكذب أهله، ولعلي فيما أقول حفي بأوضاع القائلين بشأن التعليم لا بالتعليم ومتطلباته، فالشنشنات تكاد تعرِّف بنفسها، ووميض النار من خلل الرماد يكاد يكون ضراما، ومتى سدد الله على طريق الحق أطراف العملية، أخذ التعليم طريقه القاصد، وذلك ما كنا نتطلع إليه. ولما كانت الأمم العظيمة محفوفة بتربية عظيمة، لزم أن تكون الأمم الضعيفة متعثرة بتربية ضعيفة، وعلينا وعي أنفسنا، ومعرفة من نكون، وماذا يجب أن نكون.
والدولة حين يأتمن الله مسؤوليها على مصالح المسلمين وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وأفكارهم وأخلاقهم، يكون عليها واجب، ولها حق. فواجبها التفاني والنصح، وحقها السمع والطاعة والمناصحة. وليس أضر على الأمة من الخيفة المتبادلة. فالدولة حين تخشى الرأي العام وتداريه، والكافة حين تخاف الدولة وتلوذ بالصمت، تقوم الريبة، ويستفحل الخوف. ومتى قامت الريبة بين المتعاقدين صُرفت كل الجهود تلقاء حماية الذات، ووجهت كل الأفكار للتحايل، وتمرير المراد بوسائط غير مشروعة. وجهل العلاقة الشرعية بين طرفي العقد، يؤدي إلى قيام أنماط من العلاقات غير السوية. وما علينا من بأس حين نواجه أقدارنا بشجاعة، ونعرف كيف نتصرف في ظلها، فالتكتم كالداء الدفين، يستشري في الأبدان، وتضوى به الأجسام، ك (احتمال الأذى ورؤية جانية). ولسنا بدعاً في مجمل السياقات التاريخية والسياسية والدينية والإقليمية، فكل فترة لها مشاكلها، والحازم من يقدر على تكييف نفسه مع ظروفه، ويجتهد في التغلب عليها، ومن قال: -بأن الأمور سمن على عسل، وأنها على خير ما يرام، فقد أضلّ بالتصديق ولم يهد بالصدق. وإذ نتفق على أن هناك خللاً في التربية، يكون لزاماً علينا تداركه، سواء مايتعلق منه بالمهارات أو بالتعاملات أو بالأخلاقيات، وإذا كان لكل زمان دولة ورجال، فإن لكل زمان تربية وتعليماً.
والدولة المعاصرة مهيمنة، وممسكة بكل المصائر، كما رب الأسرة، وإن كانت (العولمة) وراء تحجيم دورها وخصخصة مجالاتها، وعزلها عن كثير من مهماتها. وهيمنتها تتطلب منها ملاحقة المستجدات والشفافية والمصارحة، إذ لا مكان للخائف المترقب ولا للمداري المتردد. وحين يكون الطرفان: -الحاكم والمحكوم في سفينة واحدة - وهم كذلك- فإن عليهما توخي السلامة، لأن أي خلل يعترض السفينة يمس الكبير والصغير. وقد ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناصح لأمته المثل بالقوم المستهمين على المواقع داخل السفينة، مبدياً أهمية الأخذ على الأيدي المضرة بتصرفها لنجاة الجميع، وكان حقاً على المقتدرين استصحاب هذا المثل الحي، ومعرفة حدود (الحق) و(الحرية): حق طرفي العقد وحرية التصرف واحترام النظام. وطريق الحفاظ على سلامة السفينة لا يكون بالضرورة طريقاً لتبادل الاتهامات والإسقاطات. والاختلاف في وجهات النظر لاينزع الأهلية، ولايدعو إلى الإخلال بمقتضيات العقد الاجتماعي، وكم نرى ونسمع من بعض المؤتمرين أو المنتدين أو القنواتيين أو الكاتبين إطلاقات في النقد وتعميمات في الاتهام. وكيف يمكن القبول بهذه التعميمات وكافة المسؤولين قد مروا بمراحل التعليم، وتسنموا بموجبها مختلف المناصب، وقبلتهم أرقى الجامعات العلمية في كل أنحاء العالم، حتى لقد روى لي أحد العاملين في إحدى ملحقياتنا في الغرب اطمئنان الجامعات (الكندية) إلى حملة الشهادات الطبية من جامعاتنا. وما على المرتابين إلا أن يجيلوا أنظارهم في جامعاتنا ومستشفياتنا وسائر المواقع العلمية والعملية: التشريعية والتنفيذية ليروا أبناءنا من حملة الشهادات الجامعية. فهل تكفلت جامعات العالم ومدارسه بتعليمنا؟
نقول هذا، ونحن على يقين من قيام الحاجة الماسة والملحة إلى النظر الشامل إلى مناهجنا، وتلافي ماينقصها، وعلينا قبل البدء في النقد تحديد مواطن الضعف ومصادر الخلل، وإرشاد المسؤول إليها، وحمله على مباشرة التصحيح، دون أن نشيع الخطأ، أو أن نضخمة، أو أن نمعن في السخرية والتيئيس، أو أن نركن إلى الإطلاقات والتعميمات، ودون أن تأخذ المسؤول العزة بالإثم، إذ لانريد أن نكون ك (غزية) وشاعرها الذي أبان لها النصح، فلم تستبنه إلا في ضحى الغد
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:32 PM   #4
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
على هامش المجتمع والتربويين..
قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصاً..! «2 - 2 »
د. حسن بن فهد الهويمل


ومما لا نماري فيه ظاهراً ولا باطناً حاجتنا إلى مواكبة التحولات السريعة في ميادين العلم التجريبي، وسائر المعطيات الإنسانية. ولن يتأتى التوفر على المعرفة بظاهر الحياة الدنيا إلا إذا عرفنا ما نحن بحاجة إليه، وعرفنا كيف نحافظ على الخصوصية الحضارية مع تحقيق المتطلبات المدنية. ولا مراء في أن المعادلة الصعبة تتمثل في حفظ التوازن بين مقتضيات النقل وسبحات العقل. ولقد نجمت الإشكالية بينهما في وقت مبكر، واستطاع «ابن تيمية» حسمها في درء التعارض بين المنقول والمعقول. ولما كانا يلتقيان على وجوب إعداد القوة بكل أشكالها، لزم أن يكون من أوجب واجبات التربية صناعة الإنسان، فهو القوة والثروة.
وإن كان ثمة إشكاليات قائمة بين أهم المصادر المعرفية: العقل والنقل، فإن مردها خلل المنهج وضعف الآلة، وإلا فخالق العقل هو موحي النص، ولن يكون بينهما تعارض ذاتي، وحينئذ يكون علينا توخي الطريق القاصد للجمع بينهما، بوصفهما مصدرين هامين لبناء المعرفة، وتشكيل النسق الثقافي، وصناعة الإنسان المعاصر. والعملية التعليمية من أخطر العمليات وأهمها. وحين سبق الشرقيون إلى غزو الفضاء، لم يكن بد من مساءلة الغربيين لتعليمهم، وإناطة المسؤولية به. والأمة الإسلامية فيما هي عليه من ضعف وتخلف وتفكك بحاجة ماسة إلى مساءلة ملحة لتعليمها قوامها نشدان الحق الذي هو ضالتها، ومن يتهيب الرأي العام، ثم لا يواجهه بالحقائق، تقعد به حساباته الاحترازية.
وإذا كنا على يقين بأن الدولة تنفق ربع ميزانيتها على التعليم، فإننا على يقين مماثل بأن التعليم لا يواكب التنمية، ولا يستجيب للحاجة بالقدر المطلوب، ولا يصنع الإنسان، ولا يوازن بين حق «المدنية» و «الحضارة» ولا يوفي كلاً منهما حقه، وهل أحد ينكر أهمية التعليم في توفير الثروة الحقيقية للأمة؟ وهل عاقل يقدِّم على صناعة الإنسان أي صناعة؟ فالثروة الحقيقية ليست في كنوز الأرض، وإنما هي في مكتنزات الأدمغة، وبراعة الأنامل، وقوة السواعد، ولا يتحقق شيء من ذلك إلا بتوفر المعارف والعلوم والتقنيات التي سبيلها التعليم التجريبي.
وفي المقابل فإن من الإسراف في النقد أن نحيل إلى التعليم كل مظاهر التخلف، ونجعله السبب الرئيس في تكريسها، وقد لا يقتصر الناقمون على ما يخصه، مما هو مرتبط به ارتباطاً مباشراً، وإنما تمتد رؤيتهم إلى جوانب المعاملات والتصورات والمواقف والمهارات والأخلاقيات. ومثل هذا التوسع في التحميل الجائر، يتيح الفرصة لمعوقات بادية للعيان، كي تلعب دوراً بارزاً في تكريس التردد والارتباك. وحين لا نتردد في تحميل العملية التعليمية جانباً من المسؤولية فإننا أحوج ما نكون إلى العدل بين المعوقات، وعلينا أن نستصحب السياقات والأنساق، والضعف وقلة الحيلة وهوان الأمة، والتدافع وتداول الأيام بين الناس. والذين يمعنون في مؤاخذة التعليم وحده، ثم لا ينظرون إلى المناخات القائمة، يعطلون دور متابعتهم، فالتعليم كالنوابت التي تسقى بماء واحد، ولكنها تختلف جودة وغزارة لاختلاف المناخات والمتابعات، وليس أضر على التعليم من الأجواء السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية غير الملائمة.
وحين يتقن أطراف العقد سواء كان: سياسياً أو تعليمياً أو غيرهما بنود عقدهم، ويجتهد كل طرف في مجاله، تعمر القلوب بالمحبة، ويسود الوئام، وتقوم الثقة مقام الشك و الارتياب. وليس شرطاً اقتصار الأطراف المتنازعة على المؤسسة السياسية وما يليها، إذ كل شخصية: اعتبارية أو ذاتية تبادل شخصية أخرى الفعل باتفاق مسبق، يقوم بينهما عقد يتفاوت في الأهمية والخطورة. فوزارة المعارف أو الصحة أو العدل أو المواصلات لكل واحدة موقعها في سلم الأهمية، وإنسانها يكتسب ذات الأهمية، ولك أن تنظر لما دون ذلك حتى الحارس الأمي ولما فوق ذلك حتى الخليفة الصادق، على حد «كلكم راعٍ و كلكم مسؤول عن رعيته».
وحين نخطئ السبيل القاصد، وتأخذنا بنيات الطريق، نحيل ما يكون من الإخفاقات المتوقعة وغير المتوقعة إلى النوايا والأثرة، حتى تفيض أوعيتنا بالحزازات والعداوات. ومع الزمن تتضاءل القضايا وتتضخم الشخصيات، ثم لا يكون في الساحة إلا غاضب ومغضوب عليه.
والإشكالية عند الاختلاف تتمثل في الخلط بين خطأ الاجتهاد وخطيئة الإصرار، وبالتالي تستشري مفاهيم: التآمر والعمالة، وتتضخم عقدة الشك والارتياب. ولو قامت بين المختلفين ضوابط الاختلاف المعتبر، وأحسن كل طرف ظنه بالآخر، وعد ما هو حاصل من تقصير من باب خطأ الاجتهاد، وما سيحصل من تحرف لتدارك التقصير من باب النُّصح، لعمرت البلاد واطمأن العباد. والكتبة عبر وسائل الإعلام، والمتحدثون في المنتديات أو في المجالس، والناقمون عبر المواقع لا يحررون مسائلهم، ولا يحددون مجال نقدهم، ولا يعِفُّون عن النيل من الكفاءات، ولا يبادرون بالحلول الممكنة: الناجزة أو المرحلية، ولا يقتصرون فيما يكتبون وفيما يقولون على القضايا المعينة المحددة بأوصافها وأسبابها، وإنما يعمدون إلى الاطلاقات والتعميمات واستدعاء الشخصيات، وذلك بعض ما يعانيه العاملون في مختلف الحقول، ولا شك أن العواطف والانفعالات تجتال الأكثرين من المتعقبين لخطأ التقصير أو لخطأ الاجتهاد، بحيث يفقد تداولهم جانباً من أهميته وأهليته، فكل من سُئل عن «مناهج التعليم» على سبيل المثال لا الحصر أو تحدث عنها، أوسعها ذمّاً، ونال منها دون اقتصاد، ودون تحديد، وسلبها أبسط منجزاتها، وإذا فكر المسؤول بالاستجابة ثارت ثائرة الشكوك والاتهامات، حتى لقد كدنا نقع تحت طائلة «احفظ ولا تصلح». وحين لا نجد غضاضة من القول فيما ينقص المناهج، نجد كل الغضاضة في الإطلاقات غير المسؤولة. فالدولة التي تنفق عشرات المليارات، وتستقبل الملايين من الطلبة والطالبات في مختلف المستويات من الحضانة والروضة إلى الماجستير والدكتوراه لا يمكن أن تصر على الحنث العظيم، بحيث لا تفكر في التطوير والإصلاح، وملاحقة المستجدات، وحين تفكر في التغيير لا يمكن أن تصادم الثوابت.
ووزارة بلغت أشدها، وبلغت خمسين عاماً، تقع في التقصير، ولكنها لا تقع في الخطيئة والجهل. وحين يبدو الضعف في مخرجات التعليم، وتسوء الأخلاق في أوساط الناشئة، أو يفوق العرض الطلب، أو يكون هناك غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع، أو حين تضيق المقاعد الدراسية بأهلها، يكون هناك: خلل مخل، ولكن ذلك لا يستدعي الإدانة وحدها، ولا الإطلاقات الطائشة، وإنما يستدعي تقصي المعوقات، والتحرف الصادق للمواجهة الشجاعة. والوزارة إذ تفعل ما في وسعها لمواجهة الترديات، تكون بحاجة ماسة إلى من يتعقبها بالحكمة والموعظة الحسنة، والنقد الهادئ المشفوع بحسن النية والتفاؤل. والويل لأمة يستبد مسؤولوها، ويغفل نخبها، وكل الويل لأمة يستحر الشجار بين مسؤوليها ونخبها، ثم لا يكون إلا تبادل الاتهامات وتزكية الأنفس.
وكم كان حسناً لو أن الناقمين على «المناهج» وبخاصة في زمن تتواكب فيه الاتهامات من الخارج المعادي ومن الداخل المرتبك، أخذوها بمتابعة دقيقة وتقويم موضوعي، ووضعوا أيديهم على مكامن الضعف ومفاصل المشكلة، وطافوا حقول التربية والتعليم العالمي ليقطفوا من كل حقل زهرة، مشكلين «فسيفساء» أخاذة و«سمفونية» ممتعة، ولما لم يكن أحد منا ببعيد عن الممارسة التعليمية. فالمناهج والمقررات بين أيدي الطلبة والطالبات، وكل كاتب له أبناء وبنات يدرسون، كان على الناقمين التخلص من العموميات والرشق العشوائي، والتحديد بالصفحة والسطر أهم المآخذ، وشفعها بالبدائل، وبخاصة في المواد «الدينية» و«العربية» و«الاجتماعية». غير أنا لم نبرح جلد الذات، ولم نتجاوز التهكم والسخرية والنيل المباشر من رجال هم من أبناء جلدتنا، أحسبهم يحترقون من أجل النجاح، ولا أزكي على الله أحداً.
ولما كانت العملية التربوية تركيبة عجيبة يتنازعها: البيت والسوق والمسجد والمدرسة والاتصالات والقنوات و مراكز المعلومات، ولما كانت المدرسة: مقراً ومكتبة ومختبراً وصالة وساحة ومقصفاً وأستاذاً وكتاباً ومنهجاً ومادة ووسائل وأسلوب أداء، كان على المتعاطين مع القضية التعليمية والتربوية تحديد واطن الخلل. وما لا مراء فيه أن التعليم في بلادي بحاجة ماسة إلى النظر في كل مفرداته، وبحاجة ماسة إلى التعديل والتبديل في كل مرحلة من مراحله، وفي كل لحظة من لحظاته، في متطلباته المدنية المحملة على التعليم، وفي مقتضياته الحضارية المحملة على التربية، وأطرافه بحاجة إلى تبادل الثقة، وإشاعة الطمأنينة، والشجاعة في مواجهة الأقدار. والأسئلة الملحة: كيف نحدد الحاجة؟وكيف نحدد المنهج؟ وكيف نقدر وننوع، ونستجيب لمتطلبات العصر؟ وكيف نرسم الطريقة المثلى؟ وكيف نعد المدرس؟ وكيف نهيىء الأجواء الملائمة: زماناً ومكاناً؟ وما النوع المعرفي المطلوب؟ وما القدر المعرفي الكافي؟ وما المهارات؟ وما التخصصات؟ وما حاجة المجتمع؟ وفوق كل ذلك: ما الامكانيات التي يجب أن نتحرك على ضوئها؟ وهل نمارس «التكتيك» أو «الاستراتيجية»؟.
إن علينا أن ندع أطراف القضية يتبادلون الخيارات، والمسألة في النهاية: عرض وطلب، ولكل واحد منا نصيبه من تلك الثنائية المعقدة، حتى لكأن أحدنا ذلك المسكين المتذمر من أسماله المنفجر أمام عروض ليس بحاجة إليها:




قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه
قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً


المسألة في النهاية فيما أحتاج، لا فيما أنت قادر على إنجازه، نريد تعليماً يغنينا عن «سبعة ملايين وافد»، يستنزفون أكثر «من خمسين ملياراً» من ثروة الأمة، تعليماً لا يترك مواطنا عاطلاً، ولا مكاناً شاغراً، لا يغرق سوق العمل بما لا يحتاج، تعليماً يربي الناشئة على تمثل القيم وإظهار الدين. فهل نملك القدرة والشجاعة على مواجهة الحقائق؟ وحين تحاصرنا التطلعات، وتكبِّلنا الإمكانيات، يجب أن نتصرف بحكمة ورويّة، بحيث لا نفوّت الفرص بعنجهية: نكون أو لا نكون. إننا أمام خمسين في المئة من المقرات المستأجرة، وتحت طائلة ستمائة مليار من الديون، وعشرات الآلاف من التخصصات النظرية غير التربوية، وأمام حمل بعير من المقررات التي يغني عنها حمل طفل، وأمام احتقانات عاطفية يكاد المرء معها يشك في نفسه.
والنقد حين لا تحدد موارده، وحين يتخذ سمة الاستخفاف والإحباط والتيئيس والإطلاقات العامة والتطلعات الباذخة، لا يقيم له المسؤول وزناً، ومع تكرره على الألسن، وقرعه للأسماع، تألفه الآذان، وتثبت معه الأفئدة، ثم لا يكون مثيراً، فمثله كمثل الأدوية التي تُتَناول بدون وصف أو تحديد.
إن علينا في خِضَمِّ اللَّغط حول العملية التعليمية أن نعي الفرق بين: تعليم الفريضة على كل مسلم، وتعليم التأهيل الكفائي. وكيف لا نعي مثل ذلك، والذكر الحكيم ندب إليه بقوله تعالى:{فّلّوًلا نّفّرّ مٌن كٍلٌَ فٌرًقّةُ مٌَنًهٍمً طّائٌفّةِ لٌَيّتّفّقَّهٍوا فٌي الدٌَينٌ} ولم يقل: فلولا نفرت كل الأمة، وعلينا قبل هذا وبعد هذا أن نتخذ من التعليم ما يظهر الدين، ويفعّل قيمه على حد: «الدين المعاملة».
فالسمة العامة شيء، والتخصص الدقيق شيء آخر، وأَسْلَمَةُ المناهج وهي مُؤَسْلَمَةٌ بلا شك تحقق السمة، والحاجة تحقق التخصص. والأذكياء من يتقنون التركيبة الأدق والأعقد، ويرتدون إلى الداخل، ويمارسون صمت المتأمل، وقضاء الحوائج بالكتمان، نريد كوكبة من الخبراء والمجربين الذين لا يُرى إلا أثرهم بادياً في الأنفس وفي الآفاق. وبعد تفاقم الأزمات، وتعدد الاتجاهات، واعتزام المسؤولين على خوض معركة التغيير الجذري، لا بد من التحرف الحصيف لتحقيق مادة مناسبة وأسلوب سليم، وأجواء ملائمة. وعلينا أن نحاصر الشائعات، وأن نبني الثقة المتبادلة، وألا نستغل الظروف المشحونة بالتوتر لبناء الشخصيات الزائفة، إن الزمن رهيب والمستقبل عصيب. والعالم من حولنا يركض في دروب المدنية، ونحن بين: مرتاب خائف، ومتهم غاضب، وقضية كاد يضيع دمها بين الفريقين.إن مهمة التربية والتعليم صناعة الإنسان لمواجهة الحياة، فما الحياة القائمة؟ وما الذي نحن بحاجة إليه لمواجهتها؟ تلك هي الحلقة المفقودة في جدل «المجتمع» و«التربية» لقد أخطأنا في الصناعة والزراعة والتجارة، والمعنيون ماضون في تلافي الخطأ، ولا شك أننا نمارس الكثير من الأخطاء في صناعة الإنسان، وليس لدينا ما يمنع من تلافي الخطأ، فلنكن في مستوى عصرنا ومسؤوليتنا، وإذا عزمنا فلنتوكل على الله، صارفين النظر عما يشاع من أقاويل لن يزيدنا السماع إليها إلا خبالاً. ومراد المجتمع لن يتحقق إلا بتحرف جذري، يأخذ العملية التعليمية من جذورها بثقة وشجاعة واطمئنان، إن علينا ألا تضيع الفرصة بين ناقد لا يفهم ومسؤول لا يستبد، وإمكانيات لا تفي بالمتطلبات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:32 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ويلي عليك وويلي منك يا عرب!!
د. حسن بن فهد الهويمل


كنت - ولما أزل - مشغولاً بتقصي الخطابات والتصريحات المتلاحقة اللاهثة وراء بعضها، ومتابعة الرحلات المكوكية واستباق الزمن بما يذرعه أو يُفيض به إلى آفاق المعمورة أخطر ناطق بالوعد والوعيد وما يتبعه من مؤسسات ومن رجالات، لم يقيدوا نعمة القطبية، ولم يحسنوا استغلال ظروفها ومعطياتها. بحيث تجلت مثبطات الغطرسة من ضجة العالم، وتصدع الوئام بين رموز القادة الغربيين في سابقة لا مثيل لها. وكان المعنيون بخطابات التهديد والوعيد والمجاورون لهم، يتفحصون المنطوق، وينقبون عن المضمر بحذر وخوف وتفاؤل، ويستمطرون قرَّاء الكف، ومفككي الشفرات، وحذاق التأويل، لمعرفة المستبطن وما تحت السطور، ويستشرفون ما سيتركه الحلان العسكري أو الدبلوماسي، وهما الخياران اللذان يستبقان الصدارة، ويَقِدُّ كل واحد منهما قميص الآخر من قبل أو من دبر. وخطابات الزعيم المتعالي وتصريحاته إن لم تترجم إلى فعل ناجز، أوضع خلال الفرقاء يبغيهم الفتنة، وممن حولنا من المتربصين سماعون لهم، وما أن يتفوه بوعده أو وعيده، حتى يتلقفهما المترجمون بالصوت الفوري، ثم يتعقبهم آخرون بالتفكيك والتشريح والتقويض بحثاً عن المضمرات، وتطوعاً لايصال ذلك كله إلى المعنيين بالترغيب أو الترهيب، عبر رؤى وتصورات وتأويلات تدع العاقل في حيرة من أمره، ولاسيما ما يعقب ذلك من تعليقات ودراسات تضرب في فجاج التخرصات، لقد سمعت لغطاً تؤزه أوكار الحقد ومدافن الضغينة، ويتهافت عليه الخليون والماكرون والطيبون، ممن لا يحسنون فك الشفرات، ولا قراءة ما تحت السطور، ولأن هذا اللغط يحز إلى العظم، فقد عدت إلى خبراتي وقراءاتي ومتابعاتي، عبر كل المطبوعات والقنوات والمواقع، استعين بها لفلك الطلاسم، ومعرفة أي الخيارات أجدى وأهدى لأمة لا تقدر على دفع الأذى عن نفسها، والفتن التي تعصف في أرجاء الوطن العربي لا تهدد بلداً عربياً، ولا تكسر عظماً (أيديولوجياً) واحداً دون غيره، إنها فتن عمياء، تهب كالريح العقيم، فتقتلع الأشجار المثمرة، وتهدم البيوت المأهولة، وتذرو الأسواق العامرة، تقتل الشيخ المنقطع، والعجوز المتبتلة، والطفل الرضيع، والعذراء المخدَّرة حياء وعفة. والواقع العربي بهذه الفتن الهوجاء لا تقف فيه على وفاق سياسي، ولا ثقافي ولا إعلامي، فقادته وجلون، ومفكروه مرتابون، وعامته متخبطون،والكل في غمة كاسفة، ليس لها من دون الله كاشفة، حتى يقول الناجي من أهل الحل والعقد: اللهم إني لا أسألك إلا نفسي، ولربما عاد التاريخ ليذر قرنه من جديد، فقلد قال الرجل الصنم: «تركيا للأتراك» واليوم، وتحت الضغوط والفتن عاد آخرون يؤكدون القطرية، فيما تلاشت سائر الانتماءات، وقد يكون لبعض أولئك شيء من الحق، فعندما تدلهم المشاكل، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فلكل زعيم وقطر شأن يغنيه، فعاجز عن توفير الرغيف ومتخاذل عن حماية الثغور، ومشغول بقهر المصفدين والتحسس عن الخلايا النائمة، وما أكثر العجزة في زمن بلغت فيه الأمة الدرك الأسفل من الذلة والهوان. وبعد لأي ومشقة ويأس محبط عدلت عن قراءة الخطابات ومثيراتها، وعدت أفكر في واقع عربي مؤلم، يصنع عذاباته بيده، ويعمق فرقته بلسانه، تؤزه نار الكلمات الحاقدة، وتوقظ فتنه النائمة زعانف لا تلوي على مثمنات معنوية ولا مادية، وأخوف ما يخاف العقلاء من صعاليك يتسكعون في سوق النخاسة البلاغية، يقول قائلهم:
«أنا الغريق فما خوفي من البلل؟».
والعالم العربي بما كسبت أيدي عملائه ومغفليه وثواره ومقامريه، وبما اقترفته بعض ألسنة إعلامية، وبما حبّرته أقلام كتابه، يمر بمرحلة حرجة، ومنعطف خطير، فكل اقليم لديه ما يذهله عن غيره، وصدق الله: {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً} فالفتن المشتعلة في بقاع العالم عامة، وفي أرجاء العالم العربي خاصة، وعلى أرض الخليج وما جاورها بالأخص، بلغت حداً لا يطاق، وما من دولة عربية بقادرة على اتخاذ قرار مستقل، لا يتقي ولا يداهن، وبوادر الاستعمار الذي لملم نثاره، ورحل بثمن باهظ من الدماء الطاهرة، عاد من جديد، يذكيه الحقد الصهيوني، وتشعله بؤر التوتر في عالمنا الموبوء، من طائفية و«إثنية» ومشاكل حدودية ونزاعات قبلية، هذا الوجه الجديد الذي جاء بمسميات جديدة من «نظام عالمي» و«عولمة» وبمبررات مكافحة «الإرهاب» ونزع «السلاح» صنعناه بأيدينا، ليتحكم بالمصائر، ويؤدب بكسر العظام، وإحراق الأرض، وإشعال الفتن، ومن ورائه مرتزقة يجازفون بالتخوين والتجريم، وهم ربائب الغرب وأذنابه، هذا الوضع المتردي لا مثيل له إلا ما عرف من (حكم الطوائف) في الفردوس المفقود.
ومع أن مصالح العالم العربي على شفا جرف هار، فإن من يعَّول عليهم من علماء ومفكرين وساسة وإعلاميين، تستدرج الأندى صوتاً منهم الغوغاء، ويحدوهم لهيب العواطف، وتستخفهم المظهرية، وتغريهم الأضواء، فلا يقفون لتأمل، ولا يفرغون لمراجعة، وكيف تتأتى لهم فرص الاستخارة والاستشارة ومن حولهم من محترفي الإعلام والمتاجرين بالأقلام، يؤزمون المواقف، ويوغرون الصدور، وينبشون ماضياً دفيناً، وما أحد منهم حاول تقريب وجهات النظر، وسعى في نسيان المآسي، وسبق إلى تضميد الجراح، واثَّاقل عن نكئها، وفرَّ إلى الله، فهو القادر على كشف الضر، ومن أعوزه الدليل فليصخ إلى القنوات، أو ليقرأ الصحف، أو ليدخل إلى الشبكة «الإنترنت»، أو ليلق السمع إلى هدير المنابر، ليسمع التناقض العجيب، والتناحر الغريب، من همز ولمز وكل خطيب تحسبه واقفاً على ترسانة نووية، يلوم الآخرين ولا يحاسب النفس، ويدين الأبعدين، ويبرئ الذات، لا يدعو إلى تفكير، وإنما يحرض على تدمير، ولا يؤلف بين القلوب، وإنما يوغر الصدور، ومثمنات الأمة يفري حشاها الأبعدون، وما من حكيم يأطر على الحق، ويثبت القلوب الواجفة من الفتن الراجفة،فكل وجه إعلامي وهبه الله القدرة على الإثارة والجذب عمد راغباً أو راهباً إلى توظيف طاقاته لإشعال العداوات وإحياء الأحقاد، وكل كاتب قدير سخر قلمه للوقيعة، وتلفيق التهم، وإشاعة الكذب، والتحريض على الشر، وإحياء الضغائن والأحقاد بين الأخ وأخيه والجار وجاره، وكل عالم متمكن أجهد نفسه سعياً وراء فتوى مرجوحة لتفريق الكلمة، وتكريس الطائفية والمذهبية، ونبش عفن التاريخ، وكل سياسي أجهده الركض وراء سراب القيعان، بحثاً عن الحماية من الأخ وابن العم، وما درى أولئك أنهم بهذا الركون المبادر أو المضطر مأكولون، وقصة الثيران الثلاثة تعيد نفسها، كما التاريخ، ومقولة :«أكلت يوم أكل الثور البيض»، ليست ببعيدة، إن علينا قراءة تاريخ الفردوس المفقود إذ ما أشبه الليلة بالبارحة، وبديهي أنه عندما تبلغ الروح الحلقوم تضيق الخيارات، وتنعدم فرصة المراجعات، ولا يبقى إلا طريق قاصد: إما الفرار إلى الله: وإما التردي في الهاوية، وبعد انكشاف الضر، لا بد من المراجعة والمساءلة، لكيلا تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وكم أبدأنا القول وأعدناه، وناشدنا الفرقاء تضميد الجراح، وتناسي ما فات، وتجاوز المرحلة العصيبة، ونصحنا بالسكينة ولزوم الجماعة، والبحث فيما يرأب الصدع، ويستل الضغائن، فما بأيدينا صرنا إلى ما صرنا إليه، إن هناك تحولات ومصائر تطاولت مع الزمن، وقضيت بليل، وقلنا وما زلنا نقول: - إن اللعب بالنار حول الهشيم ينذر بحريق هائل، يأكل الرطب واليابس، وها هي طبول الحرب الخليجية الثالثة التي ستكون أرض الخليج وإنسانها مسرحاً ووقوداً لها، تقترب من درجة الصفر، وبطل المغامرات يتعنتر تارة، ويستخذي تارة أخرى، يجني على قومه، ويلجئ من لا ناقة لهم ولا جمل إلى مواقف الضعف، حتى لا يجدوا بداً من الدفع بالتي هي أسوأ، ومتى انقشعت الغيوم، عاد كالهرة التي تأكل أولادها، أنهك المنطقة، وشل حركتها، وقتل شبابها، وأحيا نساءها للترمل والضياع، وعوق أصحاءها، وشرد أهلها وأذل شرفاءها، ولما يزل يجد من يموء من ورائه، الأمر الذي جعل الحليم حيران، فبقاء مثله مظلمة كبرى، وضرب أمة منهكة من أجل تصفيته جريمة لا تغتفر، وليس أضر على الأمة من نقيضين لابد من ارتكاب أحدهما، ومع انبلاج الحق يظل الناس في حيرة وتردد وتناقض، فلا تخلو الاجتماعات المصيرية من رافض أو متحفظ أو مقاطع، ولا تخلو البيانات من أسلوب دبلوماسي مراوغ، يحفظ ماء الوجه، ويعدد المخارج، والقطب الواحد لا يضع عصاه عن كتفه، يشج رأس هذا، ويكسر عظم ذاك، يستقدمه خائف، ويشرعن لفعله موتور، ويشيطنه متصعلك، ويتحداه غريق لا يخشى من البلل، ومن الظواهر الحدية التي لا تحتمل المراء تلقف ذلك القطب لراية الاستعمار البغيض التي كانت في يوم من الأيام بيد امبراطورية لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها، وبعض الشر أهون من بعض، فميزة الاستعمار القديم أنه يعتمد التفتيت والتفريق، والتماكر والمخادعة والإيمان بمبدأ «آخر الطب الكي» وتسمين المحلوب والمأكول فيما يذهب الاستعمار الجديد إلى أن الأجدى والأهدى أن يكون «الكي» و«الانهاك» أولاً. وليس من المعقول أن يعيد المستعمر نفسه في زمن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، فلكل زمام أنماطه وأساليبه، وليس من المعقول أن يقبل أحد بالوجود الأجنبي، مهما كان الثمن، على أن مواجهة المتغيرات المصيرية باهظة التكاليف، والدول المستهدفة هي التي ستدفع الثمن، وأمريكا التي تزحف بترسانتها، وتزج بشبابها، لن تعطي المتفرجين شيئاً من الكعكة، ومن ثم فسوف يحل الخلاف مكان الوفاق، قد تنتصر في المنظور القريب، وسيظل الناس جميعاً يخافونها، ويحسبون لها ألف حساب، ولكن دولة الظلم لا تدوم، والمقتدرون مادياً أو استراتيجياً سيرتكبون أهون الضررين، وسيمنحونها تسهيلات أو دعماً غير مشروط، ولكنهم سيكونون معها كراكب الأسد، يخيف الناس، وهو منه أخوف، وعندما تقوم الأوضاع على الظلم والإكراه، تظل يد الظالم على الزناد، ويظل في حالة حرب، لا يفرغ لنفسه، ولا يدع الآخرين يفرغون لأنفسهم، ومن ثم يتعسكر العالم، ويدخل مرحلة إرهاب عنيف، يفضل فيها الجائع الرصاصة على الرغيف، في زمن لا يحتمل المزيد من الترديات والانهيارات الاقتصادية، التي بدأت نذرها بإفلاس شركات عملاقة.
وأمريكا اليوم تدخل مرحلة المقامرة والمغامرة، ومن ورائها أتباع مغررون، يجرون قدمها إلى الوحل، لتنشط تجارة السلاح، وتتسع رقعة الإرهاب، وسيظل العرب مسرحاً لكل الأحداث، والتوغل في هذا المسار سيعود عليها وعلى حلفائها وأصدقائها بالضرر، والشيء المؤكد أن مكافحة الإرهاب بعد الاتفاق على مفهومه عربياً وإسلامياً وعالمياً، وتغيير النظام في العراق ضرورة إنسانية، وواجب وطني، أما نزع السلاح فقضية فيها نظر، وفي الوقت ذاته فإن اضطلاع أمريكا بالمهمة منفردة، واستخدام القوة ليس ضرورياً ولا واجباً ولا حتمياً. ومع أن إشكاليات الحكم في العالم الثالث بحاجة إلى إعادة النظر إلا أن التدخل الخارجي غير مشروع، وغير نزيه، وغير عادل، فكم من أنظمة ظالمة متلاعبة، وجدت من يدعمها ويحميها، وكم من أنظمة وطنية عادلة، وجدت من يشكك في أهليتها، والمسألة لم تعد في صالح الشعوب المغيبة عن المغانم والمستحضرة في المكاره، لقد أسهم العالم الثالث في شرعنة التدخلات العسكرية، ورضي أن يكون مسرحاً للعب الكونية والتجريب الحي، ولما غفل اللاعب الأكبر عن الجيوب والخلايا الناسلة في ظل الانشغال بالعمليات المصيرية تحولت إلى ظواهر ليست بأقل خطراً من القضايا الرئيسية، وما التدخل في الصومال والسودان ولبنان ومن بعد في أفغانستان والعراق إلا لملمة لهذه الذيول، والطامة الكبرى تكمن في الجبهات الداخلية التي تنسل من حدب الظروف الصعبة وفي ساعة العسرة لتربك أهل احل والعقد، وتهيىء الأجواء لملائمة اللارتماء في أحضان العدو، وتمكينه من استعمال عصاه الغليظة، والأمة العربية التي تعيش أسوأ حالاتها، لم ترعو، ولم تعرف أسلوب التعامل مع الأحداث المصيرية، ونخبها وإعلاميوها ومفكروها يؤزون فتنها، ويعمقون فرقتها، ويمارسون التيئيس والاحباط، ويستبقون الأضواء بالحديث عن المسكوت عنه، ولم يفكر أحد منهم بجمع الكلمة، ورأب الصدع، والتقريب بين وجهات النظر، والحمل على التعاذر، وتناسي الضغائن والأحقاد، والعمل على تماسك الجبهات الداخلية، فويل ثم ويل لأمة يهدم صفوتها جبهتها الداخلية، وكأنهم بفعلهم يستعجلون العذاب، وما علموا أنه قد يأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:33 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حصاد اليوم وجبة غير شهية..!!
د/حسن بن فهد الهويمل


1/ قد لا يَسبق استعراضي للصحافة صباح كل يوم أيُّ فعل قرائي، بحيث آوي إلى فراشي بعد قراءة جادة، قد تمتد إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم لا أعود إليها قبل الاستفتاح بصحف الصباح. وفي كل يوم أجد على مكتبي أكثر من عشرين مطبوعة، ما بين صحف محلية ومهاجرة وعربية، ومجلات أسبوعية وشهرية ودورية، ومطبوعات وزارية، قد تكون بعدد الوكالات والإدارات العامة في الوزارة الواحدة. وأمام هذا الكم أباشر القراءة الاستعراضية العجلى للعناوين البارزة أو الجانبية، ثم أعود لما علق بالذهن من مقالات أو دراسات أو تحليلات أو أخبار مزعجة أو مبهجة في الفكر والسياسة والأدب، لأقرأه على مكث، فأستل ما أريد، لاستدعائه متى دعت الحاجة إليه.وفي كل يوم أصاب بالذهول، وينتابني شيء من الخوف جراء ما أقف عليه من حوادث وجرائم وكوارث تجتاح العوالم: العالمية والإسلامية والعربية والمحلية. وأقول في نفسي عما تقع بين ظهرانينا: كيف يحصل هذا في بلد يطبق الشريعة، ويتوفر على قطاع أمني قوي، وتقوم مناهجه على التربية الإسلامية، وتقام فيه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الأمر الذي يحفزني على التساول عن مكامن الخلل، فلما نزل نسمع عن قتل الأبوين أو التخلي عنهما في ساعة العسرة، أو انتهاك المحارم، وعن السطو والسرقة والرشوة، وحوادث المرور، التي يغيب فيها الموت أسرة بكاملها، وعن ترويج المخدرات، وارتكاب المحرمات. كل ذلك يمر بنا، وكأنه مخيال برع في صياغته مبدع موهوب.
ومما لا خلاف فيه أن هناك نسبة من الكوارث والحوادث والجرائم متوقعة، لوقوع مثلها والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهر المسلمين، من حرابة وسرقة ورشوة وزنا وخمر وإفك. وحصولها في حدود المعقول لا يثير الانتباه، لأنه ما من مجتمع صاخب، يشكل اقتصاده وتنميته أرضية جذب مغرية إلا وكان له نصيب من المنغصات، وكيف لا تتفاقم المشاكل، وفوق أرضه سبعة ملايين وافد، وحدوده مسرح للتسلل الفردي والجماعي المنظم، والمتخلفون من الحج والعمرة بمئات الآلاف، والمواطئون والمتسترون من ضعفاء النفوس يفوتون فرص الانضباط. ولست ممن يتطلع إلى مجتمع ملائكي، ولكن الأمور حين تتجاوز النسبة المعقولة، أو حين تقع الجرائم أو تنفذ بشكل بشع، أو تتكرر بشكل مثير، يكون هناك مشروع تساؤل ومتابعة وتفكير في كل الأوضاع، ليس فقط فيمن اقترف الذنب، ولكن فيمن حفز الأسباب، وفيمن وضع الحلول ونفَّذها.
ولكي أكون «رقمياً» في لغتي، فقد استعرضت الصحف الصادرة يوم الخميس 19/12/1423هـ وتتبعت الحوادث والكوارث والجرائم بوصفها حصاد يوم أليم، ليس بأقل إيلاماً من أي يوم سلف أو خلف. ومثلما أن للمجتمعات الفقيرة مشاكلها، فإن للمجتمعات النفطية مشاكلها، وحتى نوع الأمراض وأساليب الحياة: «وكل من لاقيت يشكو دهره» وما سأعرض له عينات تتكرر، ولكن بصيغ مختلفة.
2/ فكان أولى الحصاد التغطية الصحفية في جريدتي «الجزيرة» و«الرياض» وغيرهما لتشييع جنازة وكيل الإمارة ب«الجوف» المغدور، كخطوة ثانية بعد اغتيال قاضي المستعجلة في مكان واحد، وتحت ظروف غامضة متشابهة، وتلك سابقة لا مثيل لها، فلم يكن أهل هذه البلاد عدوانيين، ولم يكن القتل سهلاً، فالمسلم يعرف أنه حين يقتل مؤمناً متعمداً فإن جزاءه نار جهنم خالداً فيها. والتساؤل الملح: ما الدوافع؟ وهل مثل هذه الجرائم ناتج خلل في التربية، أو خلل في الأمن، أو خلل في الأداء. نحن لا نشك أن استشراء القتل أو السطو ناتج خلل، ومن واجبنا أن نواجه أنفسنا به، أياً كان مصدره: تربوياً أو سلطوياً أو أمنياً، وإن لم نفعل رمت الجروح على فساد، وبان منها إهمال المسؤول، ولست أشك أن رجال الأمن جادون في متابعة الحدث، والبحث عن خيوط الجريمة، وليس من الحصافة ممارسة المهمات تحت عدسات التصوير لإشباع الفضول، غير أنا مع كل ما نحن فيه من ثقة واطمئنان، يأخذنا ما أخذ إبراهيم عليه السلام، حين قال لربه: ) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة:260)
، ولربما كانت «الشفافية» بوصفها منهجاً حضارياً سبباً من أسباب اطمئنان القلب، بيد أنها كشفت عن أشياء، ما كنا نعرفها من قبل، ومن ثم وجدت الصحافة نفسها أمام مثيرات تستقطب بها القراء، بحيث تركت الحرية لكامراتها ومتابعات محرريها، كي ينقبوا في البلاد عن أي كارثة أو جريمة لتقديمها إلى القراء وجبة غير شهية، ومثل ذلك يدفع بالمواطن إلى الاحتقان والتوتر. و«الشفافية» في نظري، ليست وقفاً عند حد معرفة «دراماتيكية» الحدث، «الشفافية» تعني: أن يعرف المواطن كيف حصل الحدث ولماذا؟ وكيف تمت مواجهته؟ ومن الطرف الضالع فيه؟ وهل قطع دابره؟ فالجزاء وحده غير كاف، متى تُركت مخرجاته، تستعد لإنجاز جريمة أخرى، والشاعر الحكيم يقول:




لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا


وأهم معرفة يتطلع إليها المواطن: كيفية المواجهة والعلاج، وهل تلقفت وزارات «التعليم العالي» و«المعارف» و«العمل» و«الشؤون الإسلامية» و«الإعلام» ملفات القضايا، والتفت حول بعضها للتحليل والدراسة والتقويم ووضع الحلول؟ فالمشاكل لا يعالجها رجل الأمن بإزالة آثارها، وإنما بالعمل على قطع دابر أسبابها، ومواجهة كل الأطراف الضالعة فيها، ذلك أن الحياة تقوم على عقد بين طرفين، فأي إخلال في العقد تنشأ عنه جنايات وكوارث وجرائم. وعلينا إزاء هذه الأحداث ألا ندع أي جهة أو شخص فوق المساءلة والنقد، ولا يمكن تلافي الأخطاء بالتعذير، والدفع بالحدث إلى مجهول، أو القول: بأن العملية تمت بنجاح.
3/ وفي حصاد اليوم متابعة لحادث قتل الجندي «علي يحيى دعسيس» رحمه الله، وكنا من قبل قد قرأنا عن حوادث مواجهات مسلحة لرجال الأمن، تمكن فيها المجرمون من فتح ثغرات، أو اهتبال ثغرات مفتوحة من قبل والهروب، وإن تم القبض عليهم فيما بعد. وتعريض حيوات رجال الأمن للقتل وسمعتهم لحديث المجالس، يحتاج إلى مراجعة، فالمداهمات أو التحريات حين لا تكون بمستوى الجريمة، يتولد منها جرائم أخرى، أشد نكاية منها. والمداهمات يجب أن يخطط لها، وأن يتوفر الأفراد على وسائل أمن ووقاية، تمنع تعريضهم للإصابات القاتلة، وتمنع انفلات المجرم من محاصرتهم، ولعلنا سمعنا ما حصل عند مداهمة «الشقق المفروشة» في الرياض، وتمكن المطلوبين من النفاد بأنفسهم، بعد قتل وإصابات، ولو أن هناك خططاً دقيقة محكمة مدروسة لما حصل ما حصل، وحتى لو حصل تبادل لإطلاق النار، لما تمكن المجرمون من اختراق الأطواق المحكمة، فمن الذي جازف، ومن الذي اتخذ القرار بالمداهمة، دون احترازات وأطواق أمنية، تحول دون نفاد المجرم بجلده؟ ومن الذي عرَّض رجال الأمن للإخفاق؟ سؤال مشروع، وممكن الحل في المستقبل، والغلطة إذا أفادت تعد درساً توعوياً.
4/ وفي حصاد اليوم اصطدام سيارة ب«جمل» يذرع الطرق، ووفاة شخص «الرياض ص12» وفي كل يوم تقع حوادث مماثلة، و«الجمال» السائمة تسرح وتمرح قريباً من الخطوط، وتُرى رأي العين من العابرين ورجال المرور وأمن الطرق، وما من أحد اتخذ موقفاً رادعاً، فلماذا لا يتخذ قرار بمصادرة المواشي السائمة حين تقترب من الطرق بمسافة لا تزيد عن خمسمائة متر، وذبحها، وتقديم لحومها للجمعيات الخيرية، ومن راجع فيها، يحمَّل تكاليف المصادرة والذبح والتوزيع، ولو اتخذ مثل هذا القرار، لكان كل مالك للمواشي السائمة رجل أمن وجندي مرور. و«من أمن العقاب أساء الأدب»، ويكفي تجهيز سيارة شحن برافعة تابعة للمحافظات أو لمراكز أمن الطرق، تقوم بمسح الطريق بين الحين والآخر، وتقتنص كل ماشية تقترب منه، مع توعية خطية للعابرين، تذكر بمهاتفة أمن الطرق، متى شوهدت المواشي مقتربة من الطرق.
5/ ومن حصاد اليوم «الرياض الصفحة الأخيرة» «الإمارات تصدر جوازات سفر خاصة للصقور» ويعد هذا الإجراء الأول من نوعه في العالم، ولما يكن هذا الخبر هو الوحيد الذي يبادر به الخليجيون، فلقد سمعنا عن «خيول» و«جمال» و«تيوس» و«حمام» تباع بالملايين. وتابعنا مهرجانات تستنفر فيها كل الجهود لمثل هذا النوع، ومن حق كل عاقل رشيد أن يتساءل عن هذا التبذير والإسراف في مدخرات الأمة وكنوز الأجيال، ومتى يعرفون أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين؟ وإن لم يعرفوا فلا أقل من أن يستتروا، ولا يعرضوا أنفسهم للغيبة؟ و«رحم الله امرأً كف الغيبة عن نفسه». والذين أفاء الله عليهم بالأموال من واجبهم أن يرعوا نعمة الله، وأن لا يعطوا صورة سيئة عمن لم ينالوا خيراً. وإذا أوسع الله على أحد منهم، فعليه أن يتبنى مشروعاً: علمياً أو إنسانياً، يدرأ به عن نفسه وعن بلاده مكر الله، وفي الحديث: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وها نحن نرى طائفة من المحسنين، تبدي الصدقات أو تخفيها.
6/ وفي الصفحة الأخيرة من الرياض أيضاً «إطلاق نار على حافلة تقل فريقاً طبياً في حائل» والحدث صدر من أحداث أربعة، يستقلون سيارة. والسؤال: من أتاح الفرصة للأحداث كي يحملوا السلاح، ويعرضوا أنفسهم للقصاص، لو أن هذه الرصاصة الطائشة استقرت في موقع قاتل من جسم إنسان بريء. أليس هذا التسيب مسؤولية الأباء والمعلمين ورجال الأمن، إن حمل السلاح أولى خطوات الجرائم، وإذا كان لا بد من حمله، وعلى أضيق نطاق، فليكن للرجال العقلاء، وفي المواقع المخيفة، بحيث لا يسمح بحمله في المدن والأسواق والمدارس والجامعات والمساجد وسائر المواقع العامة، ومن و جد معه سلاح صودر وسجن وغرم. والله شرع الحدود، وأباح التأديب، ومن رغب عن سنة الرسول فليس منا، وليس من مقتضيات الحرية الشخصية، ولا من متطلبات حقوق الإنسان ترك الحبل على الغارب، لا بد من الأطر والأخذ على يد السفيه.
7/ وفي الصفحة الأخيرة من جريدة المدينة «القبض على ثلاث طالبات مدمنات في الخميس» وبالتحليل تبين تعاطيهن المخدر منذ فترة طويلة، وتلك كارثة الكوارث، وطامة الطوام، فكيف وقعن في المخدر؟ وكيف حصلن عليه؟ وهل الوصول إليه بهذه السهولة؟ بحيث تتمكن طالبات ثانوي من استعماله وخلال مدة طويلة. وكيف تتفشى الظاهرة، ولقد تذكرت اعتراض المجالس التشريعية لمطالبة «كلينتون» رفع ميزانية مكافحة المخدرات، بحيث تتجاوز الأربعة مليارات دولار، لعدم تحقيق أي تقدم من المكافحة، على الرغم من الميزانيات الباهظة والإمكانيات الضخمة.
ونحن في بلادنا نقتل المهرب والمروج، ونعالج المتعاطي، وتلك طرائق سليمة، ولكن المخدرات وآثارها لما تزل بازدياد. فما نقطة الضعف بعد تنفيذ أشد العقوبات؟ أهي في الإجراءات أم في الجزاءات؟ إننا بحاجة إلى أن نسأل، وأن نبحث عن الحلول الجذرية التي تحسم الإشكالية، أو تضعها في الحجم المقبول. ولا أحسب الذين يُقتلون لمجرد أنهم هربوا الهيروين المركز في أحشائهم كاف لحسم المشكلة، المشكلة أكبر من الأحشاء والأدبار. إن علينا أن نضع مركز معلومات لهذه الظاهرة القاتلة، وأن نضطلع بإجراءات حاسمة، تحول دون تفشي المشكلة بشكل مخيف، ومن الأفضل أن نمسك الخيط من بدايته، حتى نصل إلى الضالعين بالتهريب. ولما كانت المخدرات وكر الجرائم وأم الخبائث، كان علينا أن نراهن على حسمها، وألا تأخذنا الرأفة ولا الرحمة. فالمخدرات تدمير للأمن والاقتصاد والصحة، وإذا قطع دابرها، رجعت مؤشرات الجرائم إلى الوضع الطبيعي. ولن أمضي مع بقية الكوارث والجرائم، فالأمة العربية تعيش تحت أزمات قاتلة، وما الحرب التي تتدفق معداتها وعددها ورجالها من كل صوب إلا أم الكوارث، وفي «الاقتصادية» توقع خسارة ستين مليار دولار للبنوك العربية وحدها، لو قامت الحرب، فأين منا الرجال والنساء والأطفال والثروات الظاهر منها والباطن؟ ومع هذا لا نجد أية بادرة عربية لمواجهة الاحتمالات السيئة، وتلك مصائب جسام، ليس لها من دون الله كاشفة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:33 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط!
د. حسن بن فهد الهويمل


علينا قبل القول المباشر في اشكاليات الابداع السردي الناجمة عن الفهم الخاطئ ل«الحق» و«الحرية»، أن نحدد مفهومنا الشخصي لمفردات العنوان، وهو مفهوم تكاملي، «يتناص» مع مفاهيم متعددة، مشكلاً معها دوائر متداخلة - لا مستقلة ولا مطابقة -، وليس ببعيد أن يثير اختلافاً كثيراً، وتأويلات تحيد به عن مقاصده، وبخاصة ممن لا يحترمون المصداقية، وليس هناك أدنى احتمال للتوافق بين وجهات النظر، ما لم يكن هناك معرفة ومصداقية. بل أكاد أقول: - بأنه ليس هناك رغبة في التوافق، متى كان الاختلاف في سبيل البحث عن الحق، فنحن أحوج ما نكون إلى المزيد من الاجتهاد، والمزيد من الاضافات، ومع مشروعية الاجتهاد والاختلاف، فإنه لابد من أهلية وضابط، للتوفر على قواسم مشتركة، تمكن من تقارب وجهات النظر، أو التعاذر، وهو ما نود مناهزته في بحثنا هذا، وفيما نستقبل من بحوث. ولما أن كانت المفاهيم متعارضة أو متفاوتة، كان علينا أن نحاول استعراض مجملها، وأن نكشف عن السلبيات والايجابيات جراء اصرار المختلفين الذين تجتالهم العموميات، وتستزلهم محدثات غيرهم، مما لا يعد من مشتركات الحضارات الانسانية، دون علم بالمعاصرة، ودون استيعاب للأصالة، والمتقحمون للمشاهد برؤى مهزوزة، وتصورات سقيمة، وبضائع مزجاة، يسيئون للمتضلعين والمتثبتين، لأنهم لا يتوفرون على القدر المطلوب من أدب الحوار ومؤهلاته المعرفية، فتقليد الطارف ليس بأحسن حال من تقليد التليد، والمجدد الحق من يتقن لعبة «التناص» بحيث يغيب الآخر، ولا يغيب فيه، وأكثر المتحدثين لا يتقنون هذه اللعبة، ومن ثم فهم واقعون فيما ينهون عنه، وما ظواهر الخلل المضاعف إلا بعض مقترفات من تلتبس عليهم الأمور. ولما كان الاجتهاد مشروعاً، كانت نتائجه مشروعة. ومشروعية الاجتهاد لا تكون إلا لمن يملك حقه من علم أصيل، وتجريب معاصر، وفقه للواقع ومتطلباته، ومنهج دقيق، وآلة معرفية، وتحرف سليم، وعقل وتفكير متزنين. والحديث من السرديات يطال مرتكزات حضارية.
حديث عن «اللغة» بوصفها الشفرة التواصيلة، ولاسيما في ظل المستجدات اللغوية من «بينوية» و«تفكيكية» و«تحويلية». وحديث عن «المضمون» بوصفه مضغة الجسد السردي، ولا سيما في ظل تعدد «الأيديولوجيات» وصراع الحضارات. وحديث عن «الفنيات» بوصفها الحد الفاصل بين أنواع الفن القولي، ولاسيما في ظل التحولات والتخليات. وإذ يكون للشعر ضوابطه، تكون للسرديات ضوابطها، ومن استخف بها، كان استخفافه بقية من رؤى سلفت، لا تقيم وزناً للقص، لأنه لا يرقى إلى سدة الفن الشعري الرفيع، حسب زعمهم الذي أردى الفن السردي إلى حين، والتفلت على الضوابط دون قيد الغاء ضمني للتنوع الابداعي، وهو ما يقترفه المترسمون خطى الغرب باسم التجديد تارة، وباسم الحداثة تارة أخرى، وباسم الحق والحرية تارة ثالثة. وما من شيء من ذلك ابتدروه، أو استبدوا به. وإذ يكون هناك متاهات في حدود الحق الفني، تكون هناك متاهات أشد وأنكى في حدود الحق الديني والأخلاقي والحضاري، وحديثنا عن حدود «الحق» و«الحرية» في : «اللغة» و«المضمون» و«الشرط الفني»، يتطلب منا معرفة المفاهيم، واعتماد الوسطية. و«السرد» أو «السردية» مصطلح مراوغ، وهو في نظري يقابل «النظم» بمفهومه الشعري، وإن كان بين مصطلح «السرد» و«النظم» عموم وخصوص، فهو عند «الخليل» غيره عند «الجرجاني» الذي يراه: تركيباً للكلام بطريقة ابداعية معجزة، وعبر لغة انزياحية، و«السرد» الابداعي مثله، ومن ثم يختلف عن «السرد» العادي. وحين يكون ابداعاً، تكون له ضوابطه: البنائية، والشكلية، والدلالية، وهو مصطلح يطلق على صيغة مخصوصة من صيغ الخطاب، تتعلق بحبك الأحداث ومتعلقاتها: الشخصية والظرفية، لا وصفها أو رصدها كما اتفق، وله أنواعه ك«السابق» و«اللاحق» و«المزامن» و«المتداخل» و«المضاد». و«السردية» علم السرد المميز له عن «المسرحية» و«القصيدة» و«القول» العفوي. واختلاف طبيعة النص، فوتت على المعنيين تحقق علمية السرد، في ظل «علمية النقد». وقد أحال الدارسون إلى رؤية «جينيت» و«قريماس» و«باختين»، ولا يتحقق التصور السليم إلا إذا عرفنا ما تتحقق به الأشياء، وما تتميز به. وقديماً قيل: - «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والذين يكتبون بلغة شائعة، وتراكيب مألوفة، ونصوص فارغة، وحوار ممل، لا يكون أحد منهم من ذوي المواهب ولا المعارف يميتون الفن، ومن لم يتوفر على معرفة تامة بنظام اللغة: من نحو وصرف، وأساليب الكلام، وجماليات الفن، وضرورة الكلم الطيب والقول السديد، ومقتضيات القيم الحضارية التي ينتمي إليها المبدع، والناقد، ثم لا يكون المبدع موهوباً، يمارس بموهبته، وبمحفزات موقفه، وتجربته، وثقافته، ووعيه للأنموذج، ومنازعته قصب السبق، يكون كل ما يأتي به غثاء كغثاء السيل، وزيد يذهب جفاء، يلفه النقاد الحقيقيون، كما يلف الثوب الخلق، ثم يرمون به وجه صاحبه. ولا تخلو المشاهد من الطائفتين: الضعفاء والجهلة، ولا عبرة بالمجاملات، والمسايرات والمقايضات التي يستبقها البعض. ولو أنصف النقاد، وصدعوا بالحق، ولم يخشوا به لومة لائم، تلاشت فلول الأدعياء، وصينت كرامة الفن واللغة والقيم. والمجاملات، وبناء الأمجاد الوهمية بالتملق تصيب المشاهد بالتصوح، ثم يكون ركام الروايات، التي لا تكاد تجد فيها راحلة، تبلغ بك الغاية من اثراء جمالي ولغوي وقيم ثقافية وفنية وأخلاقية.
ولأن المبدعين والمتلقين كما المستهمين في سفينة الحياة والفن فإن مفاهيمهم ل«اللغة» و«المضمون» و«السرد» و«الشكل» و«الحبكة» و«الحرية» حين لا يَضْبِطُ إيقاعها شرط، ولا تحكمها قيم، تُخرق السفينةُ، ويَغرق أهلها، سواء كانوا أهل فن أو لغة أو قيم. وما لم يكن كل شيء بمقدار، وخاضعاً لنظام، ومدعوماً بمعرفة، يعود الانسان إلى بدائيته الأمية، وكيف نرضاها، وما من أمة إلا خلا فيها حراس فضيلة، وأهل علم، يأطرون، ويعلمون. وليس من مصلحة الفن ألا ينبري لهذه الفوضى المستحكمة والعبثية المستشرية حكيم، يقول الحق، ويهدي سواء السبيل، ولا شك أن المجاملات والمداهنات، تدفع بالبعض إلى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير: دلالة ولغة وفناً. بحيث يدعي التألق الفني من لا يحمل الموهبة. والفن القولي وغيره لا يؤتاه إلا موهوب، ولا تتفجر الموهبة إلا في اللحظة الضاغطة. وحين لا يبدع الشعر إلا شاعر، ولا يبدع السرد إلا سارد، فإن هناك طوائف من المقتدرين: لغة وثقافة، ينظمون الكلام، ويكتبون القول، ثم يجدون من يؤكد لهم أوهامهم. والشباب المبتدئون حين لا يروض جماحهم حكيم مجرب وعالم حصيف، يستخفهم الثناء الكاذب، ثم يرون أنفسهم فوق النقد، وفوق التوجه والمراجعة. وقد يبلغ بالناشئين منهم سوء الخلق إلى منازلة الناصحين، والرتوع في أعراضهم، من أجل الاحتفاظ بما أهدي لهم. ولما كان واجب العارفين بالظواهر الفنية والبواطن اللغوية الأخذ على أيدي الجريئين المجازفين لطمس المعالم والغاء الشروط، أصبح من الطبيعي أن تدار القضايا والظواهر السردية سعياً وراء الوصول إلى أرضية مشتركة، تحسم الخلاف، أو تخفف من حدته. وإذ لا نرى بداً من الاختلاف في وجهات النظر، فإننا لا نريد لهذه اللازمة أن تصل بالمختلفين إلى حد التنازع المخل بالمروءة، ولا نريد لغير أهل الاجتهاد أن يجتهدوا، فيوقعوا الآخرين في اللبس. وإذ يكون التجديد والتغيير والتبديل من السنن الكونية، يكون من لوازم ذلك أن يكون المجدد متجاوزاً بتجديده الأنموذج الابداعي الذي شد الانتباه، وقدم السمة، وحدد النوع الفني، وبلغ الرقم القياسي، الذي لم يحطم، الأنموذج الذي أمد النقاد بما انطوى عليه من سمات ابداعية. وحين تكون للأنموذج سمته، يكون من واجب المجدد أن يجتهد في تقديم نص أفضل منه، وإذا لم يكن قادراً على التحدي والتجاوز، فمن الخير له وللمشهد أن يحافظ على المنجز، لا أن يهدمه، ثم لا يقيم بديلاً أفضل. ولا يعني حق التجديد مطلق المغايرة، وإنما يعني: الاستجابة للحاجة، والتواؤم مع الذائقة، وتحقيق الأفضل. وتقليد التجريب الغربي لا يكون تجديداً، وأصحاب كل علم أو فن يفرقون بين التجديد والمحاكاة، ويعرفون القدر المشروع من «الحرية» و«الحق العام»، ويعرفون حق المتضلعين بشروط الفن وضوابط القيم في الأخذ على يد كل من يقترف الخطايا أو ينتهك الفنون باسم الفهم الخاطئ للحرية والحق، وما من عاقل يقول بمطلق الحق، ومطلق الحرية، ويرضي اختلاط الفنون، وفقدها لأبسط سماتها، بحيث يكتب الكاتب ما شاء، عما شاء، بالشكل الذي يريد، وعبر اللهجة العامية التي تؤسس للازدواج اللغوي، وتفصل الأمة عن تراثها، ثم يكون في نظر المسايرين: رغبة أو رهبة الشاعر المفلق، والروائي المتألق. وعلينا استرجاع ما قيل عن أعمال روائية، لم يكتب أصحابها من قبل شيئاً، وما أن تلقفتها الأيدي، أو سمعت بها الآذان، حتى أصبحت الفتح المبين في عالم السرديات، وتقاطر السرعان من الكتاب والنقاد يمطرونها، ويمطرون أصحابها بالثناء الباذخ. ولنضرب المثل بروايتي «الحزم» و«سقف الكفاية» حتى لقد سخر الأخير - رغم حداثة سنة - بالمندفعين سخرية مرة. ولو نظر فيهما النقد العلمي المتزن، وتفحصهما بآليات المعارف وموازين القيم، لأخذت كل رواية موقعها الطبعي. وماذا أبقى المغرّرون للسنوات القادمة والأعمال المرتقبة، ولقد شهدنا امتعاض البعض منهم واستغرابهم من تزويد المؤسسات بالنصائح للمبدع، وما علم أولئك أن: - «الدين النصيحة» وأن المبدع وغيره يظل طالب علم، ومن استغنى عن التعلم والنصائح، فهو مصاب بجنون العظمة، ومما خدعنا به اهتام القارئ «الأوروبي» واحتفاء النقاد الغربيين بالمنجز السردي الشرقي، مع أنه لا يعد شهادة تفوق ولا تألق، فالغربيون يحتفون بإبداعاتنا التي تكرس مفهوم البدائية والهمجية والتوحشية والشبقية. ولك أن تنظر إلى ما كتبوه عن «ألف ليلة وليلة» وما هي إلا حديث خرافة بلغة عامية، تهبط بالمدينة والحضارة المشرقية إلى درك البدائية، حتى لقد تعقبها بعض الدارسين، وبرهن عن مصادرها اليهودية. ولما نزل نراها سفيرنا إلى عوالم الابداع السردي، ونساير الغربيين في اختصارنا ابداعياً فيها. ومتى رأيت احتفاء غربياً بفن أو فكر عربي، فالتمس حوله عهر أو كفر، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. ولو أعطى الناس هذا القدر من الحرية في القول ورد القول، لهدمت فنون، وعقائد، وقيم، تضبط إيقاع الحياة، وتحفظ توازنها. والمتحدثون دون علم بضوابط الفن، ودون موهبة، ودون ثقافة، يشيعون فيما بينهم هذا القدر من الحق المطلق، وهذا النمط من الحرية الفوضوية، ليشرعنوا كل خطأ أو خطل. ولو قبل منهم هذا الاطلاق، لضاعت الحقوق، وانعدمت الحريات، وما من مُخِفّ من المعرفة، خال من الموهبة، مقو من اللغة مفتقر إلى الحياء والحشمة إلا يعوض تلك النواقص بالتزود من الفحش في القول، والامعان في المناقضة، والانتهاك للغة والفن، والايغال في المسكوت عنه، ليلهي الناس عن ملكة معطوبة، وجهل مستحكم، وخلق دنيء. وهذه النوعية تعول على الحرية والحق ورفض الوصاية والنصح. وكم نود من المبدعين السرديين والنقاد المواكبين لهم أن يعرفوا حدود الحرية في القول وفي الفن، ومفهوم: الحكاية والخرافة والأسطورة، ومقتضيات الحبكة، ومتطلبات السرد، والزمن، والمكان، والشخصيات، لكي يحال بين الفن الرفيع وساقط القول. ولقد مرت بنا مقولات البرمين من ضوابط الفن، وبخاصة الشعر، حتى لقد بلغ المترخصون حد النثرية، وشاع مصطلح «قصيدة النثر» ووجد المجازفون من يبارك تجاوزاتهم التي ألغت فن الشعر، وخلطت بينه وبين النثر. ومعلوم أنه لا يضيق بالضوابط إلا من لا يتوفر على موهبة، ولا يضيق بالاحتشام والالتزام الأخلاقي إلا من لا يتمثل القيم الحضارية. وفي اطار استصحاب الحدود والقيود، نجد من يُحكم القبضة ويقدس الأنموذج، ويستمرئ مقولة: - «ما ترك الأول للآخر شيئاً» حتى لا يتمكن أحد من الحصول على الحد الأدنى من حقه المشروع في التفكير والتعبير، فيما نجد آخرين يلغون الحدود والقيود، حتى لا يعرف أحد حدود ماله وما عليه. وفيما بين الافراط والتفريط، تقوم الوسطية الراشدة، وذلك ما نسعى إليه، ونراه ضرورة في ظل الفوضويات التي أباحت المحظور. وإذ يوجه القرآن الكريم إلى ألا تجعل اليد مغلولة إلى العنق، ولا مبسوطة كل البسط، ويوجه بعدم الغلو في الدين، فإن عوالم الفن كعوالم المال والعبادة، لا بد لها من حفظ التوازن والوسطية. والمطالبون بتبسيط اللغة، لا يقبلون بالعامية، والمطالبون بتيسير الدين لايقبلون بالتحلل والمجون، والمجددون الحقيقيون لا يلغون ضوابط الفن، وخصوصيات الأنواع. وقبل التعالق مع الغرب، كان للأمة العربية سردياتها، التي غلب عليها سلطان الشعر، فأبقى عليها، كما كانت عند القصاص والمذكرين الشفهيين، وامتداد الشفاهية أضاع ثروة لا تعوض، إذ لم يتسع التدوين إلا للعلوم والمعارف والشعر. وجاء القرآن الكريم موظفاً القصص لأهداف تربوية، وبعد أمة جاءت «المقامات» و«الرسائل» التي تعتمد الخيال والحوار والشخوص والأحداث والأمكنة والأزمنة مؤسسة للفن السردي، وظلت حالة القصص مقموعة بسلطان الشعر، حتى نفذت سرديات الغرب ونظرياته الروائية والقصيية، وتمثلها المبدعون، واستقرت أشكالها، وتوارثتها الأجيال، وأصبحت بشكلها وشرطها، كما لو أنها جزء من التراث، ومثلما واكبنا الغربيين في التماثل، واكبناهم في التعبير، غير أن وعينا للتماهي أدق من تصورنا للتغيير.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:34 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط..! «2»
د. حسن بن فهد الهويمل


ولما كانت «السرديات» الإبداعية وهي مجال بحثنا متعددةً متنوعة، كان لا بد أن نميز كل نوع بسمته، ثم نجعل هذه السمة كالاسم، لا تكون إلا له، ومن أحدث في السمة ما ليس منها فهو رد، لأنه يطمس معالمها. ولزوم السمة لا يمنع من التجديد، ولا من مواكبة الحياة. وعندما ندخل مرحلة الطمس، يكون لزاماً على ذوي الأبصار والبصائر والذخائر المعرفية بذل العلم، وإسماع الجاهل.
والذكر الحكيم ندب إلى سؤال أهل الذكر، والرسول الكريم أبان بأن دواء العي السؤال. وإذا استبد الجاهل بمثمنات الحضارة، تحت أي مظلة، نقضت حضارة الأمة عروة عروة، وانمسخت شخصيتها، والمتعالون على التعليم والإرشاد، وهم أحداث مبتدئون ترتفع بهم خفة عقولهم، كما الدخان أو القتام، وكيف يرفض التزود من العلم عاقل، ومن ذا الذي شب عن الطلب، واستغنى عن المؤسسات الثقافية، وما نحن عليه من ضعف واستكبار مؤشر استبداد جاهلي، وغلبة حداثية، خرجت بالأمة من شرطها النهضوي، ولم تسلك بها طريق الرشاد، فكان أن تقطعت بها الأسباب.
ولو ضربنا الأمثال فيما نحن بصدده، لتبدت لنا عثرات ألْسنة، وسقطات أقلام. ومن البدهيات أننا حين ندعو الأشياء بأسمائها ونقول: هذه «رواية» وتلك «قصة» وتيك «سيرة ذاتية» وهذا «أدب رحلة» فإنما نقول ذلك بموجب معهود ذهني، يضمر الشرط والضابط المتكرسين مع التداول. واحترام المعيارية والقيم لا يعني السكونية والتحجر، وحمايتها لا تعني الوصاية، فالفن واللغة كوائن حية تنمو، مثلما تنمو الأجسام والأشجار، فالجسم ينمو، ولكنه يحتفظ بالمكونات الأصلية والملامح المميزة، ويظل جسماً لا يختلف أحد حول جسميته، قد تتغير ملامحه، ويزداد في الخلق بسطة، ولكنه لا يبرح سمته، ولا معهوده في ذهن المتصور له، والنمو والتطور لا يجعل القرد إنساناً، إلا فيما ذهب إليه «الداروينيون». ومثلما يكون النمو والتطور مع الإنسان، يكون مع الفن، ولكنه لا يحيل النثر إلى شعر، ولا الشعر إلى نثر، ولا يجعل الخاطرة قصة، ولا المقالة رواية. وحين يكون من حق «المبدع» السارد و«الناقد» المنظر الدخول في معمار أي سمة فنية للتعديل أو التبديل بالقدر الذي يحفظ لهذه السمة مرتكزاتها، يكون من حق «الناقد» الحكمي التطبيقي، بوصفه رديفاً للمبدع، أن يتصدى لكل من أراد تحريف المصطلحات عن مواضعها، وأن يمسك بالمتسلقين محاريب الفن من المبتدئين الذين لا يحملون موهبة، ولا يتقنون لغة، ولا يتوفرون على ثقافة، ولا يستحون من ممارسة الرذيلة وتحويلها إلى نص سردي، يفسد الذوائق والأخلاق. وحين لا يذود الناقد المتمكن عن حياض الفن الرفيع، تهدم أركانه، ويستباح حماه. وفنون القول لا يعددها إلا تعدد سماتها، واحتفاظ كل نوع بسمته. ومن خطل الحداثيين القول بمصطلح «الكتابة» ليكون فن القول مجموعاً بهذا المصطلح. ويكون من حق المتسلق أن يخلط بين الفنون، كما يخلط المبتدئ بين البحور الشعرية، ثم لا يرضيه إلا أن يكون الشاعر والقاص والروائي والمسرحي، موجباً على النقاد أن يجعلوه المجلي في كل فنون القول، وإن لم يفعلوا أحال اعتراضهم لكبت الحرية، وغمط الحق، وممارسة الوصاية وسلطة المؤسسة، والقصاص والروائيون ليسوا بذي شوكة بحيث نتألف قلوبهم، وواجبهم سماع الرأي، وواجبنا مواجهتهم حتى يفيئوا لأمر الفن واللغة والقيم.
والمتعقب للإبداعات السردية يقف على انتهاكات فنية، وإخفاقات لغوية، وضحالة دلالية، وسقوط أخلاقي، وانحراف فكري، ومدارة ومداهنة، وكأن العابثين قِدِّيسون معصومون، وكأنه محرم علينا إرشادهم. حتى لقد ادعى بعض المتطاولين على الفن الموهبة الروائية والقصصية والشعرية، و لم يقدم لإثبات هذه الدعاوى العريقة إلا كلاماً سوقياً، لا يحمل أي سمة من سمات الإبداع الروائي أو القصصي أو الشعري. ولقد وقفت على مؤلفات تشبه الموسوعات، تتداخل مع كتب التاريخ، وتأخذ من كل فن بطرف، بحيث لا يدلك على نوعها إلا ما كتب على أغلفتها. ولو أن ذكياً نزع الغلاف، وطمس اسم الكتاب، وقدمها إلى قارئ عادي، لما عرف لهذا الجمع أصلاً معرفياً، ولما أعاره أدنى اهتمام، ولكن الأسماء الملمَّعة، والمذهبية المعْمِية، والشللية المصمة، غمرت المشاهد، وحالت دون أعمال متميزة: فنياً ودلالياً ولغوياً. ولو رضينا بما يتبادله أولئك من أنخاب الثناء، وأعطينا المدعين بدعواهم، لما كان شعر ولا رواية ولا قصة. وذلك بعض ما تعاني منه مشاهد الأدب، وما على المرتاب إلا أن تمتد يده إلى فيوض الإصدارات، ليقف على مقترفات لا تغتفر، ولسنا بدعاً من الأمم، فالروائيون والقصاص ومن ورائهم النقاد المواطئون على الخطايا، يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا أشهر الروائيين المعاصرين أوجوستوفورنتيرو/ ت2003» كتب سطراً أو بعض سطر، مدعياً أنه أقصر قصة. وهذا نصها: «.. وعندما استيقظ كان الديناصور ما يزال هناك» ولقد تقبلها النقاد بقبول حسن. ومن مبتدئينا من كتب السطور الثلاثة، وسماها قصة، ووجد من يداهنه. وإذ نعرف عمق الاختلاف المشروع حول «شكل الرواية» وحول مفهوم «السرد» فإننا لا نأخذ بالصرامة والحدية والقطعية، ولكننا نفسح المجال لكل التصورات المنضبطة. ولقد تقصى الاختلاف حول «الشكل» و«مفهوم السرد» دارسان في كتابين التزما فيهما المنهجية والموضوعية، هما كتاب: «بنية الشكل الروائي» تأليف حسن بحراوي، وكتاب «السرد في الرواية المعاصرة» تأليف د. عبدالرحيم الكردي، بحيث استوفيا كل الاحتمالات. واستفحال التناقض بين المفاهيم والتصورات، يحدو بالباحث عن المعلومة، توخي الحق، وعدم البحث عن الرخص أو العزائم وحدها. وما لا نريده، انفلات العقد في صرعة التجريب، وتبرم المبتدئين ورفضهم السلطة باسم التسلط. وإذ تكون المختبرات العلمية تُسِرُّ فعلها التجريبي، ولا تبدي به، حتى يُعتمد من ذوي الخبرة والاختصاص، فإن على التجريبيين في الفن ألا يتخذوا تجريبهم قضية مسلمة، وعملاً لا معقب له، ما لم تتفحصه المؤسسات، ويختبره النقاد، وتقبله المشاهد.
ولما كانت الإشكالية المتولدة عن تعدد المفاهيم، قد دفعت بأطراف القضية إلى الإيغال في الانقطاع المضاعف: انقطاع بين المبدع والمتلقي، وانقطاع بين المبدع والفن بشروطه وجذوره، وانقطاع بين المبدع والناقد من جهة، وسائر القيم الحضارية من جهة أخرى، فإننا والحالة تلك سنتقصى الطرائق التي تكفل أدنى حدٍ من التواصل، ولا تقع في الخطابية والمباشرة والتسطح. وليس أضر على أمة الفن من التلاحي في غياب الاستيعاب للطارف والتليد، وذهاب كل مخاصم بمفهومه للحدود والآفاق. وأين منا من يرى «التجلي» وصمة إخفاق و«الخفاء» سمة تألق، ثم لا يكون تحديد للقدر المطلوب منهما؟ وأين منا من ينتمي لحضارته، ولا يرى المزايدة حول ثوابتها ومحققاتها في الأنفس والآفاق، ثم يخالف ما هو معلوم منها بالضرورة؟ وإذا قيل له: اتق الله. أحال إلى التسلط والوصاية والمزايدة. وتلاحق التخليات، أدت إلى تباعد الشقة بين أمهر المتلقين وأبرع المبدعين.. وبالخفاء المتعمد والمتكلف تعطلت لغة الكلام، وقامت مقامها معميات ومبهمات باسم الغموض والانزياح والرمز والأسطورة والإشارة والقناع ، وما شيء منها جاء على أصوله وضوابطه، وإن كانت حدة الانقطاع ماثلة في الشعر الحداثي، كما هي عند «أنسي الحاج» وأضرابه، فقد تستشري في السرديات، إن لم يتدارك النقاد الأمر، ويثبتوا أفئدة الناشئة التي عصف بها الاستدراج. وإذ نكون مع الرمز والأسطورة والعدول والقناع فإن الكينونة مشروطة بمعقولية ذلك كله ومشروعيته. وإذ تكون السرديات الإبداعية غير «الشعرية» في قصدية الجمال والانفعال، يكون النص السردي أقرب إلى «الأدبية»، فيما يكون النص الشعري أقرب إلى «الشعرية»، ولقد حاول البعض الإيغال في الأدبية السردية، لتناهز الشعرية، وتلمسها النقاد في بعض الإبداعات المتميزة، نجد ذلك عند «بشير القمري» في كتابه «شعرية النص الروائي» وعند «سامي سويدان» في كتابه «في دلالة النص وشعرية السرد».
وتلك الرؤى والتصورات تجعلنا أمام مستويات قولية:
القول العادي المهتم بمجرد التوصيل القطعي الدلالة، دونما جمال أو إمتاع أو ضابط فني، ويشمل: كلام العامة فيما بينهم، والقول العلمي الحامل لرسالة معرفية، مثل كلام الفقهاء والمؤرخين، ومن في مستواهم.
والقول الأدبي الذي يحمل هم الإمتاع والاستمالة والإقناع، ويتطلب توفر «أدبية» السرد و«شعرية» النظم، وهما سبيل المحفزات الفنية.
وعلى ضوء ما سبق فإن هناك «الشعرية» و«الأدبية» و«القولية» والإبداعات السردية تحتل الوسطية، فليست «شعرية»، وليست «قولية»، وإنما هي «أدبية»، والتخلي عن الأدبية بحجة الواقعية اللغوية رجوع إلى الوراء، وخروج من دائرة الفن.
وهنا نتساءل عن امكانية جعل النص نصاً أدبياً، ومتى يكون المرسل قادراً بالعفوية لا بالتعمل على إنتاج نص أدبي، يتميز عن سائر النصوص المعرفية؟ ولتجلية الامكانية الإبداعية، نحتاج إلى تقصي «مفهوم الأدبية» في التراث والمعاصرة، لنعرف أي الحزبين بلغ في التمييز بين سائر الأنواع القولية: المنضبطون أم المتفلتون الذين لم يصبروا على لأواء الفن ومتطلبات الإبداع. وفوق كل هذا: هل من واجبنا الإذعان لكل قول، والقبول بما يضفيه عليه المواطئون من صفات، دون الاحتكام إلى ضوابط الفن، ونظام اللغة، وموازين القيم؟.
وهل ممارسة هذا الحق المشروع يعد وصاية تقمع الحريات، وتسلب الحقوق؟ لقد ظهرت نغمة الوصاية والمزايدة والتحكمية، كاتهام لمن يحاول التصدي للترديات اللغوية والفنية والدلالية. وهي إطلاقات تخلصية تملصية، فالنقد حق مشروع للمتلقي: انطباعياً كان أو ذوقياً أو معرفياً، فنياً أو لغوياً أو دلالياً. والقائلون ب«الشعرية» و«الأدبية» يعرفون شرطهما المستخرج من النماذج المتطاولة مع الزمن، والمتداولة بين النقاد، والمصار إليها بالعفوية، دون تكلف أو تعمل.
ومثلما عرف «العصفور» كيف يبني عشاً في الشجر، عرف الشاعر كيف يبني قصيدته، وعرف السارد كيف يبني روايته أو قصته أو أقصوصته. وإذ لا نجد القول الفصل في نشأة اللغة، لا نجده عن نشأة الشعر على هذه الشاكلة، وبتلك الصفة. والحالة تمتد إلى الإبداع السردي. لقد فرق المتلقي بين القاص، والعالم، والمؤرخ، والفقيه، والواعظ، وعرف المذكرين والقصاص. فمن الذي علمهم ذلك؟إنها: الفطر، والمواهب، والأعراف. ولا عبرة بتعدد التقنيات السردية، ولا بالأنماط المختلفة، حتى بين أعمال الكاتب الواحد. وتمسكنا بضوابط التحول والثبات، لا يحيل رؤيتنا إلى لزوم نمط واحد، وتقنية واحدة، فالمسألة ليست عملة ورقية، لا تختلف إلا بالرقم، إننا نتصور الشعر والرواية والقصة على الرغم من التحول المستمر. ولا أتصور اجتماع طائفة من الناس للتواضع على مفهوم «الشعرية» أو «السردية»، وإذ تكون اللغة في نظري تعليماً وإلهاماً، تكون «الشاعرية» و«السردية» وسائرمفردات الفن إلهاماً وموهبة، ينميها الصقل، وتثريها الثقافة، وتفجرها المواقف. وإذ لا يقدر أحد على الإحالة إلى المواضعة، تكون المسألة الإبداعية إنتاج موهبةٍ كالغريزة. والقائلون ب«الأدبية» يعرفون شرطها، والعابثون الذين يتحللون من الشرط، يلغون «الشعرية» و«الأدبية» ولا يأتون ببديل يتوفر على قدر كاف لتحقيقهما على أي شكل، وإذا أسقطت دعوى الإصلاح عندهم لاذوا بمقتضيات الحرية، وحق التعبير، ووصفوا المتصدي لهم بالوصي والمرشد والمزايد والأصولي. ولقد يبلغ بهم التخلي عن الحضارة حداً يكونون فيه غربيين أكثر من الغرب، و«فرانكفونيين» مأجورين. وهذا الاستخذا للآخر، والتنمر على الأهل والعشيرة، يفوت على المشاهد كل فرص العلاج لهذه الترديات. و«الشعرية» و«الأدبية» من الثوابت التي لا يمكن القبول بالتخلي عنهما، تحت أي مبرر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:35 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط! «الحلقة الأخيرة»
د. حسن بن فهد الهويمل


والذين يحيلون الخلاف فيما بيننا وبينهم إلى جدلية التجديد والتقليد، أو المعاصرة والمحافظة يفتقدون المصداقية، فنحن دعاة التجديد، وكيف يتأتى التجديد من مثلهم، وهم ينسفون الثوابت، ويقلدون الآخرين؟ والسمة ضابط ثبوتي لمسمى لها ما يحقق انضباطيتها، ولن تتحقق الهوية دون حد أدنى من السمات والشروط التي يحيل إليها المختصمون، وحين لا تكون سمة ولا شرطاً، فإلى أي شيء يكون الرد؟ وحين يصر المتحدثنون وأعني بهم المتذيلين لا المبدئيين المبادرين على دعواهم الكاذبة بقيامهما في القوليات، تختلط الأمور، ثم لا يكون درجات ولا دركات. وإذ يقولون بمطلق «الحق» و«الحرية» فمقتضى ذلك ألا يستقيما مع شرط سابق يخل بالمطلقية. وهذا الدرك الذي بلغوه في النثرية وللاأخلاقية ناتج طبعي لهذه الدعاوي، واقرؤوا إن شئتم «الخبز الحافي» لشكري و«الوليمة» لحيدر، وما أحدثته الأخيرة من تصدع مخيف في المشهد الفكري والأخلاقي، ومن الناس من يرى ان التصدي لمثلهما يفقد الحرية والحق. ومثلما تردى الشعريون في النثرية والسرديون في العبثية المضاعفة، وقعوا في الانقطاع بكل أنواعه: انقطاع المرجعية، وانقطاع التواصلية، ونشأ من جراء الانقطاعين خلل في اللغة، وخلل في القيم المعرفية والأخلاقية، فجاء التغامض المتكلف لا الغموض الطبيعي، وتسربت العامية الاقليمية، واستشرى الانحراف الفكري، وشاع الفحش القولي، واحتج كل قبيل بحق التعبير وحرية التفكير، وعولوا على ظواهر سلوكية، ركن إليها الغربيون، حيث اتخذوا «أدب الاعتراف» حجة ومحجة، وما عرفوا ان كل مقترف معافى إلا المجاهرون، وان المبتلى بالقاذورات من واجبه الاستتار. وإذا قيل لهم عن «الاستتار» و«العفو» قالوا: إنما نحن رواة أحداث، وحكاؤون لوقائع، وما فعلنا ذلك إلا لقصد الحبك الفني. وقد يكون لأكثرهم بعض المسوغ، متى عرفوا حدود الحق، ومقداره، ومجال الحرية ومداها، ومتى جاء بالجنح دون تفحش، ليصرعها الحق، وينقيها الطهر، وتنتصر عليها الفضيلة، وما قصة يوسف وامرأة العزيز إلا من هذا النوع المعول عليه، دون فهم للمقاصد وحدود التناول. ولقد ارتكس من ارتكس عن جهل أو عن بينة، وحل ما يسمى بالحرية الجنسية، وتهافتت على هذه المثيرات المغريات طائفة من المبدعين، نجد ذلك عند «غادة السمان» التي تربت في بيت علم وأدب وتصوف، ثم تمردت عليه، لقد قالت عن ردة فعلها على ما أسمته بالكبت وسلب الحرية: «فهذه التربية القاسية منعتني من لقاء شباب مراهق مثلي دفع بي ببساطة إلى استدعائه للبيت ليلاً بعد ان ينام الجميع دون ان يرف لي جفن ولكن المسكين كان يرتعد خوفاً وفقد كل حرارته فعفوت عنه وسمحت له بالهرب» هذا الاعتراف معدود من الحرية، والحق انه من العهر والتهتك، اللذين أفسدا الفن، وهدما الأخلاق، ومعهما لا يسع ناقداً ينتمي لحضارة تمثل الشرعة والمنهاج ان يغمض فيه، ولا ان ينخدع لمفهوم الحق والحرية على الطريقة الحداثية أو الوجودية.
ولما كانت الأعمال السردية داخلة في الاتصال اللغوي، فإن على المبدع والناقد ان ينظرا في ترسيمات الاتصال، كما هي عند مشاهير اللغويين المعاصرين.. ولنا ان نعوِّل على «ياكبسون» بوصفه الحكم العدل عند الحداثيين. فلقد حصر عناصر الاتصال في «المرسل، والمتلقي، والرسالة، والسياق، والشفرة، والصلة» وهذه العناصر الستة في المجال السردي تجعل «الرواية» و«القصة» أو «السيرة الذاتية» أو «أدب الرحلة» رسالة من سارد، يرسلها إلى مسرود له، يقرأ السرد أو يسمعه، و«شفرتها» اللغة التي لا تطاوع الطرفين، حتى يتقنا نظامها النحوي والصرفي، وحين يحسن المبدع استعمالها استعمالاً أدبياً يعتمد الانزياح والجرس والايقاع والايجاز والمجاز والايحاء والتمنع والاحتمال الدلالي، ولا يكتفي بالتوصيل المباشر دون أي محفزات، و«صلة» الرسالة الكلامية هي الرسم الإملائي، و«سياقها» الثقافة والأوضاع والأعراف المشتركة بين طرفي: الارسال والتلقي، ولأن لكل عنصر مكوناته، ولكل مكون سماته، فإن «الحق» و«الحرية» إزاء التصرف بالعنصر ومكوناته مقيدان بما يحقق ما هية العنصر، وليس لأحد ان يتصور العنصر دون ضابط، ولن تتأتى الحرية المطلقة مع الضابط، والسياق بوصفه الأهم ، يكون: عاماً أو خاصاً، خارجياً أو داخلياً، فالخارجي يرتبط بالمكونات، والداخلي يرتبط بالتكوين، وبمعنى أدق: الظروف التي ترسم النص، والنص الذي يرسم الأحوال، فالنص له راسم ومرسوم كما الدال والمدلول. وراسم النص ليس هو المبدع مفصولاً عن المكونات والمؤثرات.. ومصطلح «التناص» يؤكد انه ليس هناك نص بريء، وليس كل تأثير خفي من السرقة أو الاسترفاد المخل بالعملية الإبداعية، فالمبدع في النهاية وصي، جسَّد الأثر، وتجسُّدُ الأثر يضاعف السياق، بحيث يكون للنص مرجعيتان سياقيتان: سياق خارجي، يعني النسق الثقافي، وسياق داخلي، يعني النسق اللغوي، والمبدع والناقد حين يجهلان الانساق والسياقات، ولا يقيمان لهما وزنا، تضطرب عمليات الأداء والاتصال، وذلك ما نعايشه في مشاهدنا باسم «حرية القول» و«حق التعبير»، والمتمردون على الضوابط والأنظمة والقيم يصفون من يأطرون عليها بالأوصياء وبالسلطويين، ويفتعلون الأنفة ليحموا أنفسهم من مباضع النقد، الساعي لاحقاق الفن، بكل ما له من جلال وجمال.
ومثلما نازع الثوريون السلطة، نازع الحداثيون الضوابط والأنظمة والقيم والحضارات، ومن هذا التمرد غير الراشد وقعت الشعوب في حمامات الدم، ووقع الفن في وحل التسيب، فالذين اتخذوا العامية لغة للنص أخَلَّوا بعنصرين: عنصر اللغة، وعنصر السياق في جزئه الداخلي. والذين استمرءوا الفجور والتهتك والفحش دونما حياء أخلُّوا بعنصر السياق في جزئه الخارجي، ومثلهم الذين اتخذوا «الايديولوجيات» و«الأنساق الثقافية» المغايرة لأفكار حضارتهم وأنساقها، والذين رضوا بأن يطلقوا على ما يقولون سمة فنية ك«الرواية» أو «القصة» ولم يترددوا في مناقضة المقتضيات، كل أولئك خارجون عن مفاهيم «الحق» و«الحرية»، ولا يعد ما يأتون من باب التجديد، ولا يكون الاعتراض عليهم والأخذ على أيديهم وثنيهم عن غوايتهم من باب الوصاية والمزايدة.
وكيف يكون شيء من ذلك والناس كافة تمارس أداءها وفق عقد اجتماعي ملزم سواء كتب أو عرف؟ ومن لا يختار الالتزام بمحققات حضارته التي يدين بها ويدين له، وجب الزامه، فمن رضي بها لزمه تمثلها، والتخلي عن مقتضيات العقد فوضى، ترجع بالأمة إلى الخلف، ولأن النص الإبداعي لغة فإن المبدع لا يكون متألقاً ما لم يمتلك ناصية اللغة، وما لم تكن اللغة معه طائعة انسيابية، يشكلها كما يشكل الرسام صوره بالألوان، وكما يشكل النحات أشكاله بالأدوات، وكما يصوغ الموسيقي ألحانه بالأنامل والآلات فإنه يعيق الحركة الإبداعية، ويشكل عبئاً ثقيلاً وعقبة معوقة، والسرد كالشعر صعب وطويل سلمه، ومن استخف به فإنما يستخف بنفسه، ولسنا فيما نتطلع إليه معارضين ولا معترضين على التجديد، ولا على التفاعل والتبادل مع الآخر، ولكن البون شاسع بين ما نقول وما يفعله المتهافتون على منجز الآخر.
ومع ان أماني المفكرين في حضارة عالمية تتفادى الصدام أماني رومانسية، وليست واقعية، وما يفعله البعض لا يعد من التقارب وإنما هو انسلاخ وانمساخ وتمييع لكل ضابط وَحَدٌّ، والذين يعطون التنازلات يلغون حضارتهم، ويؤصلون لحضارة الغير، وقد تكون المدنية الغربية قد فعلت فعلها بالترويض للهيمنة الحضارية، وإذ تكون اللغة وعاء الحضارة ومنطلقها، فقد قرضت من كل جانب، وإذا لم يستطع المتأمركون والمتفرنسون إحلال لغة حضارة أخرى مكانها فلا أقل من ان تنازعها العامية لتدخل الأمة مرحلة الازدواجية، وما العامية إلا أولى خطوات الانقطاع الفكري مع التراث، وأهم مرتكزات «الرسالة» اللغة، فهي الوسيلة الأهم، والرسالة بوصفها عملاً سردياً تحيل إلى وسيلة الأداء، وكل وسيلة لها توصيفها ونظامها، والرسالة قبل ان تتلبس بوسيلة الأداء تمتلك توصيفها ونظامها، وهنا فنحن أمام مواصفات: «الرسالة» و«الوسيلة» وليس لكائن من كان ان يعول على «الحق المطلق» أو «الحرية المطلقة» ليحمل الرسالة أو الوسيلة على مناقشة السمة المميزة لها، وهل أحد يقبل الحاق عالم الحيوان بعالم الإنسان، أو ان يخلط العذب الفرات بالملح الأجاج؟ وهل أحد يستطيع ان يحلّ حرفاً مكان حرف في المعنى الوضعي أو في الدلالة الصوتية؟ والمجازيون أقاموا علاقة عند مصائرهم الاستعارية أو التشبيهية أو المجازية المرسلة، ولا يمكن ان تكون الاستعارة أو التشبيه اعتباطيين، ولو أن أحداً من المبدعين لم يضع أي قيمة للعلاقة أو لوجه الشبه كان قولاً هذراً لا قيمة له، مع انه مارس في هذه الاعتباطية حرية القول وحق التعبير المطلقين، وفي ظل هذه التحفظات التي قد تحيل إلى الوضوح والمباشرة، أو قد يفهمها البعض فهماً آخر، فإننا نعرف «الرمز» و«الاسطورة» وحدود «التجلي» و«الخفاء» المشروعين، وليس هناك مبدع حقيقي، ولا إبداع حقيقي بتلك الصفة إلا وهو على شيء من الانزياح اللغوي الذي ينقل اللغة من الاستعمال العادي إلى الاستعمال المتميز، بكل ما يتطلبه النص من جمال وجلال، وفي الذكر الحكيم جاء الاستهلال بالحروف المقطعة، ثم أشار بعدها إلى «الكتاب» فكأن في ذلك على رأي بعض المفسرين إشارة تحدٍّ وتنبيه إلى ان مادة القرآن من تلك الحروف، التي يستعملها الناس في أحاديثهم العادية، ولكن النظم شيء آخر يختلف عن استعمال البشر، فاللغة هي اللغة، ولكن النظم يختلف، وهكذا يجب ان يكون الإبداع البشري، استعمال اللغة، ولكن بطرائق لا يبلغها إلا المبدعون، ولما كانت السرديات بوصفها رسالة صامتة تحمل شكلها وشفراتها إلى من تفترض فيه القدرة على فهم المعنى المقصود بفك الشفرة، كان على المبدع مراعاة أمرين:
الأول: ألا تناقض الشفرة دلالتها المصطلح عليها.
الثاني: ألا تناقش الرسالة شكلها المعتبر والمميز لها، والتشفير حين يناقض المعهود بين طرفي الرسالة: المرسل والمتلقي، تفقد الرسالة مهمتها الرئيسية، ولا تكون شيئاً ذا قيمة، بمعنى انها تفقد القيمتين: الشكلية والدلالية، وكل ما نسوق من تحفظات واحتراسات تحفظات لا تمنع التجديد ولا التعصرن، ولكنها تحفظات واحتراسات تمكن من اكتشاف الفرق: بين التجديد والتخريب، والحرية والفوضوية، والحق والتسلط، وتكشف عن ذوي المواهب والتجارب والثقافات، ومن يندس معهم من الأدعياء والمتقولين على الفن والمواطئين لهم، والاحالة إلى حرية القول وحق التعبير بلغ بالإبداع حد الانفلات والطلسمة، بحيث لا يعرف الغادي الذي هو رائح، والذين اهتاجوا مما نقول، يحسبون كل صيحة عليهم، والمتعقب للغطهم، يدرك ما يعانونه من ريبة في صدورهم.
ومثلما أوغل البعض في الانقطاع السياقي مما انطمست معه معالم الفن، أوغلت طائفة من الحداثيين في الانقطاع اللغوي، واتخذوا الانغلاق والإحالة سمة مميزة، وساقوا تراكيب وعبارات ليست مفهومة، وليست مقبولة، وتلاحقُ هذه التراكيب والعبارات واغراقها في المغايرة ينسف جسور التواصل، ولقد خلفت «السريالية» و«الوجودية» عبثية وغثائية أوغل فيها الحداثيون، فكانوا إلى العبثية أقرب منهم إلى الانضباطية، والعبث بالقيم الفنية لا يكون تجديداً، والعبث بالقيم الأخلاقية لا يكون من الحضارة ولا من التمدن، و«الحق» لا يغمطه الأطر على الجادة، بل لا يتحقق إلا بالأطر، ومن تصور الأشياء على غير مفاهيمها، واحتج بحرية التعبير وحرية التفكير وقع في الشبُهات، والنقاد كالقضاة في فض المنازعات وكالرواد في البحث عن الطريق القاصد والمرتع والمخصب الآمن، فإذا جار القاضي، وكذب الرائد، حلت الفوضى، واستفحلت الغثائيات، وذلك ما نشاهده ونعايشه، ومجمل القول ان السرديات كلام من الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ولأنه صنو الشعر وشقه فإن مبدعها كمبدع الشعر، يحتاج ما يحتاجه الشعر من موهبة تولد مع الشاعر، ومن دربة تواكب حياته، ومن ثقافة تنمو بنمو مداركه وحاجاته، ومن موقف مثير، وناقد خبير متيقظ، يسدد ذويه، ويحمي ساقه الفن ومقدمته من ان يلحق به من ليس من أهله، والمتضاوون من قولنا، يخشون كشف عوارهم.
ثم إن السرديات رسالة مقروءة، وحين تكون كذلك، فإنه يجب ان تستكمل شروط المكونات والوسائل، ولما كان القارئ يريد من قراءته إثراء معارفه، وتوسيع ثقافته، وتهذيب اخلاقه ولسانه، وامتاع نفسه، كان على السارد ان يتوفر على ذلك، ففاقد الشيء لا يعطيه، وعلى القارئ ألا يفرط بجهده وماله ووقته في قراءة لا تزيده إلا جهلاً، وعلى الناقد الحكيم ان يكون أميناً صادقاً في نهوضه بدور الوسيط والمقوم والشارح والمتذوق والمنقب عن المضمرات، ولن تبلغ السرديات تمامها حتى يكون الثلاثة: المبدع، والمتلقي، والوسيط، على وعي تام بما يجب ان يكون، ومن قعدت به موهبته أو ثقافته أو موقفه ان يعرف قدر نفسه، وألا يقتحم مدارج الفن ليعيق الباحثين عن القيم الفنية والمعرفية والأخلاقية واللغوية، والذين يبطئ بهم تفريطهم باللغة الفصيحة والفن الرفيع والخلق الحسن لا يسرع بهم افراطهم بالتمسك الحرفي بكل ما سبق، ولن تؤتى مملكة الفن الرفيع إلا بالمفاهيم الخاطئة والتعويل على الفوضوية باسم الحرية والتقليد للغرب باسم التجديد والمجاهرة بالرذائل باسم أدب الاعتراف والوقوع في العامية باسم الواقعية اللغوية، ولتحقيق الإبداع الرفيع المثري للمعارف، المهذب للأخلاق، والمقيم للسان، لابد من تمرير المسائل، وتحديد المفاهيم، وحفظ التوازن، والصدع بالحق، والاعراض عن المجاملات والمداهنات، والمرور الكريم باللغو، وذلك ما نود ان نأخذ به أنفسنا ما استطعنا إليه سبيلاً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:36 PM   #10
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تفكيك الوهم ووهم التفكيك:الخطاب الثوري أنموذجاً..! «1/2»
د. حسن بن فهد الهويمل


بين مفهوم «الدول النامية» و« الدول النائمة» فاصل وهمي، محكوم بلغة دبلوماسية مخاتلة. وذلك سر التعثر، وناموس الفشل، وداء الاحباط واليأس. ومع ما يعتري هذا العالم الثالثي، - وبخاصة العالم العربي، بوصفه ذروة سنامه - من تفرق في الكلمة، واختلاف في الانتماء، واستفحال في الريبة والخوف، واستشراء للوهن والحزن، فإنه يمشي في أرض السياسة مرحاً، دون أن يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولا. ورغم ضعفه، وضعته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، تراه يعيش حالة من النرجسية، وجنون العظمة، والمغالطة، وممارسة التحدي والتصدي، دون استعداد للمواجهة، أو إعداد للقوة. وكل ضربة تلقيه على الأرض، تمحو ما علق بذاكرته عن مشاكله ومكائد أعدائه، الأمر الذي يحمله على نسيان المآسي، والخلط بين الأعداء والأصدقاء، وتصديق الأوهام، والتخبط في الظلام. وما قصة «أشعب» منه ببعيدة، فلقد كذب على من حوله بدعوى الوليمة، ولما انطلقوا الى الوجهة التي أشار اليها، خاف أن تكون الكذبة حقيقة، فلحق بهم. والعالم المتنرجس بكل عيلته المستكبرة، لا ينفك من حالة الوهم والتوهيم، بحيث لا يفرق بين المبادرة والاسترفاد، ولا بين الأخذ بيد صاغرة والافتراس، ولهذا تراه عندما يدّعى أحدٌ من ثورييه أو متعالميه مشروعاً، أو يعلن عن حزبٍ، أو يحدث نظاماً، أو يختلس ظاهرة، أو يقلد نظرية، أو يظاهر قضية، يستلحق نسبها، ويزعم ابتكارها، ويتحفز للمقايضة عن حق الامتياز، ويتهم الآخر بسرقة النظرية، ويفتش عما يمكن أن يرافع من خلاله عن حقوق الملكية الفكرية، ويخفي موتها، كما فعلت «شجرة الدر»، ويميت ما سواها، كما يفعل المبهورون بنظريات الآخر. وإذا أعوزت أحد هؤلاء العصامية، لاذ بالعظامية، وإذا أعياه قول: ها أنذا، قال: - كان أبي، ثم لا يتردد في مزاحمة الأقوياء بالمخلب الغض والجناح القصير والتصدي لمن إذا قال فعل، يعرض المهتاج الأعزل لضربات موجعة، ويضعه تحت طائلة المراقبة والتقزيم، وهو لا يلوي على شيء مما يتعنتر به. وليس من شك أن مثل هذه الأوهام والأحلام تحال الى جنون العظمة، واستفحال الهلوسة، وعشق الذات. وهي خصال بادية للعيان. فالخطاب الاعلامي يجعل من الصحراء المترمدة جنة تجري من تحتها الأنهار، ويجعل الفظَّ الغليظَ ليِّن الجانب مخفوض الجناح من الذل. وكل فارغ من القيم المعنوية والمعرفية والموقفية، يجنح الى الحرية الفوضوية والثورية الدموية، ثم لا يجد حرجاً من منازعة السلطة، وشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، برؤية فجة، وقول ضعيف، ورأي مرجوح، وحجة واهية، ممعناً في سك المشاريع والاغراق في الادعاء العريض. يكون ذلك على مستوى المنظومة، وعلى مستوى أفرادها. فالأمة مجموعة أفراد يشكلون رؤيتها، والوادي المتدفق قطرات من المطر تتجمع ثم تتدافع، وهوس المشاريع عند الأفراد المتعالمين، تتناغم مع هوسها عند المؤسسات المتحكمة بمصائر الشعوب. ومثمنات العالم العربي وطاقاته استنزفها التجريب وأذهبت ريحها جرائر الايمان بالمبدأ أول النهار، والكفر به آخره. وكل نظرية يبادر بها الغرب، ثم ينبذها وراء ظهره، يتلقفها المنشَّؤون في الحلية باليمين، مدّعين أنها من بنات الأفكار، متحفزين للغيرة عليها، كما الغيرة على البنات الأبكار، فيما تبقى ثوابت الأمة كالأيتام على موائد اللئام. ومع ذلك لا يعدم أحدهم الغوغاء والفارغين، الذين ينفخونه حتى التورم والتوهم، منفضّين من حول المؤصلين المتحسسين عن الحق، ليكونوا غرباء، - وطوبى للغرباء -. ولمَ لا تكون الغربة؟ والرسول يأتي ومعه الرجل، ويأتي ومعه الرجلان، ويأتي وليس معه أحد. فيما يأتي عَبَدة الشيطان والفروج والبقر، ومن ورائهم سواد عظيم، وكم نتذكر البلابل، وهي تذاد عن دوحها، لتكون حلالاً للطير من كل جنس. وتزيين سيئ الأعمال لمقتحمي الصدارة الفكرية أو السياسية، تحجب الرؤية، وتعمق المحنة والابتلاء، وما أُتيت الأمة إلا من هذه النخب التي تمارس تفكيك الأوهام على أنها حقائق، وحين تنهض النخبة بمهمة التوسط بين السلطة والأمة أو بين المرسل والمتلقي تعيش حالة من الوهم، مشكلة ظواهر صوتية فارغة من أي معنى.
والظواهر الصوتية على مستوى الساسة والأدباء والمفكرين والمبدعين إفراز طَبَعي لهذه الأجواء الموبوءة بالدجل والادعاء، وحكم الفرد المتغلب المستبد، وتحكم المستعمر بمؤسساته ومساعداته ولعبه وعملائه. ولا يندُّ عن ذلك إلا من يبعثه الله على رأس كل مئة سنة، ليجدد للأمة أمر دينها، ولم تفقد الأمة مثل ذلك، تحقيقاً لوعد الرسول بالطائفة المنصورة. وأدواء الدول الصوتية كثيرة متناسلة، وكأنها زعيمة بحفظ النوع المكتوب عليه التخلف. ولو استمع المسكون بهم أمته، المتألم من تردياتها الى لحن الخطابات المتوارثة، لاستبان النمطية، والتناظر، وعدم التفكير بما تراكم من مشاكل واحباطات، وكل ما تجود به خطاباتها التلميع والتمييع والتحريف والتزييف. وكأنه محرم على هذه الأمة من المحيط الى الخليج مساءلة الذات عَمّا بدر منها. ولن يستقيم أمرها ما لم تراجع نفسها، وتحاكم فعلها، وتقوِّم منجزها، وتمتلك الجرأة والشجاعة على مواجهة الذات بكل ما هي عليه من مقترفات بحق الأهل، أو بحق الغير، ثم لا تجد غضاضة من المراجعة والنقد. ومن تأبى على الشرعة والمنهاج وفق ما تمليه عقيدة الأمة وتستهلُّ به دساتيرها، متجاوزاً حدود ما أبيح له، كره الناس انبعاثه، وانفضُّوا من حوله، ووكله الله الى حبال الناس المتهافتين على إمداده، بمقدار، وبثمن باهظ من كرامته وحريته. ومتى آلت الأحوال الى هذا المستوى، تفرقت به السبل، وضل الطريق القاصد، وتخطفه شرار الخلق، ليكون اللاعب الغبي، مزلقاً أمته في مهاوي المكائد. ولو نظر المتابع الى ما مرت به الأمة من أحلاف وأحزاب وطوائف ومبادىء، وما اعتراها من ضعف، وما اقترفه أبناؤها من تعديات على بيضتها، لعرف أن الضياع هو الرهان الوحيد. والأمة العربية مرت بفترات متفاوتة في أنماطها السياسية، وتقلباتها: الحزبية والطائفية والقومية والقطرية والدستورية، وفي تجريبها المتسطح، ولما تزل تجتر مآسيها، ثم لا تجد من يقيل عثرتها، وإذ يكون العاقل من وعظ بغيره، فانها لم توعظ بنفسها، على الرغم من النكسات الموجعة على كل الصعد، وعبر كل الفترات، ومن ثم تلاحقت نكباتها، وتضاعفت مصائبها، واضطربت في مشاريعها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتعارضت مصالحها، وتنوعت ألوان كتبها من «أخضر» الى «أبيض» الى «أحمر» الى «رمادي»، وكل زعيم يذهب في ادعاءاته العريضة، متألهاً بأوهامه، ومن ورائه بطائن سوء، تقلب له الأمور، وتزين له سوء الأعمال، وتحول بينه وبين المحب الناصح. وهذا الاستبطان، ينسيه ما يكتبه التاريخ، ويشغله عن التفكير بلحظة العودة الى بارئه، كما خلقه أول مرة، تاركاً ما خوّله وراء ظهره. وما من خطاب عاطفي أهوج، ارتفعت نبرته في تجريم سلفه، وتخوينه، إلا وهو وثيق الصلة بذات الخطاب المجبول على التخوين، والتخوين المضاد. والناس مرتهنون بين قادم على مطايا السلاح الذي اقتطع ثمنه من خبز الفقراء، ليكون عدواً وحزناً، يخيف به الآمنين، وهالك تكشف وعده عن غرور. ومع حدة الخطاب وصلفه، تظل الأمة بانحدار، مرتكسة في وحل الضعف، والتمزق، والافتقار الى أدنى حد من الامكانيات اللائقة بانسانية الانسان. وما تتعرض له الأمة اليوم من تدخل سافر، وقتل متوحش، وهدم متعمد لكل الامكانيات وخضد للشوكة، وإذلال للكبرياء، وحرق للأرض، وكسر للعظم، إنما هو ناتج طبعي لهذه الترديات. ولو أخذ المتألمون قضايا أمتهم من خلال سياقاتها، لما استنكروا تلك المآلات الموجعة. فالوضع العربي لا يمكن ان يتمخض إلا عما هو قائم من قهر واضطهاد. والقوي المتغطرس المتمرد على الشرعية الدولية يبحث عن الغنائم الباردة، وعن الشعوب المتخلية عن ثغورها، العاجزة عن افراز أنظمة ملائمة لمتطلبات عصرها.
وبامكان الأمة لو صدقت مع نفسها أن تقلب المعادلة، بحيث ترتد الى الداخل لتصنع الانسان، وتستغل الخيرات، وتصون المقدرات، وتفعل المؤسسات، وتحترم عمقها التاريخي والفكري، وكيف لها أن تفعل هذا والثورات المتلاحقة تتعمد طمس التاريخ الحديث، واستئناف تاريخ جديد يبدأ بعيد الثورة، ويعتمد على الخطابات الاقليمية القائمة على التخوين للسلف، في سبيل تزكية الخلف. والناس في ترقب خائف من احتقان يهدد بالانفجار عن ثوري، يمسح الذاكرة، ويمحو التاريخ، ليثبت ذاته بوصفه الأول والآخر، معيداًنغمة الادعاء، والاشكالية ان الناس ينطلقون في مواقفهم ثباتاً لا مجتمعين، يختلفون حول الحقائق التي لا تحتاج الى دليل، ويحتربون حول أتفه الأسباب، وكلما تطابقت المصالح تبودلت أنخاب الثناء وعبارات التزكية، ومتى اختلفت تفجرت النقائض، دون مقدمات أو مبررات، والذاكرة العربية «سبورة» مدرسية، لا تنفك من المحي والاثبات، ولا أحد يخجل مما قاله بالأمس، وذلك مؤشر امتهان للانسان العربي من ذويه، والشارع العربي خير مثال على غياب الوعي، تراه يهتاج ضد الشيء ونقيضه، عبر حركة غوغائية غير محكومة، مما يتيح للعابثين بمقدرات الأمة فرصة ذهبية، تمكنهم من ضرب بعضهم ببعض. ولو صدق المؤتمرون في القمم، وفيما دونها، مع أنفسهم، ومع من يلون أمرهم، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم، وقالوا للمسيء أسأت، وللمحسن أحسنت، لعرف كل متصرف انه سينظر الى نفسه في مرايا الآخرين، ومتى عرف ذلك، أخذ حذره، واستعمل نفسه في سبيل الحق. وذهاب ريح الأمة يكمن في المداراة، والمجاملات، والتردد في المواجهات، والاشتغال في الأوهام. فكل زعيم فرضت زعامته شرعيةُ حكمه ومشروعية فعله، ومتزعمٍ انتزع الزعامة بالحديد والنار، يلتقيان على قدم المساواة، في اللقاءات، والمؤتمرات، وعلى ضوء «البروتوكولات» وقد يكون المتسلط أقوى صوتاً وأكثر هيبة واحتراما. وسنظل في خبال متى جاملنا أعداء الأمة من أبنائها، وحملنا العقلاء جرائر السفهاء، وأتحنا لمقترفي الجرائر مخادعتنا، يخطئون فنبرر، ويجرحون فنضمد، ويهدمون فنبني، ويكذبون فنصدق. ولن أطوف في مزبلة التاريخ الحديث، لآتي بالبراهين، فالواقع كالشمس في ضحاها، لا يحتاج الى دليل، وعلى المرتاب أن ينظر الى الحروب الاقليمية المجانية، التي أتت على الحرث والنسل، وامتدت لسنوات طوال، مخلفة ملايين القتلى وملايين المعوقين، ومدمرة البنية التحتية،ومعطلة مشاريع التنمية، ولو أن الآثار السلبية وقفت حيث المقترف لهان الأمر، ولكن الأمة العربية كالمستهمين على السفينة الواحدة، متى خرقها السفهاء، ثم لم يؤخذ على أيديهم غرقوا جميعاً. والشارع العربي مسكون بالوهم والغفلة، ولهذا تراه يتدفق كالطوفان ضد القرارات الجماعية، مجسداً الشيء ونقيضه، واقعاً في أتون الفتن، ولينظر المترددون الى قادة يسومون شعوبهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم، ويشردون كفاءاتهم، في سبيل لعب كونية خاضوها بكل مقدرات أمتهم، خلفت الذل والهوان، ولينظروا الى الاقتصاد وانهياراته، والى العملات وسقوطها، والى السكان ومصائرهم، بين المقابر والمشافي والسجون والمنافي، والى الأدمغة وهجرتها، والى الأموال وتهجيرها، ثم لينظروا الى التناحر الطائفي والقبلي، والى الخيفة التي يستنبطها كل من عنده أدنى احساس، واهتياج الشارع العربي يشرعن للتخلف والوهم. وكارثة الكوارث تكمن في نخب ثقافية وفكرية واعلامية تسبق العامة في الشرعنة للتخلف، وتمضي مع الأوهام، وتتاجر بمقدراتها في سوق النخاسة، تتخلل بألسنتها كما البقر، تزكي الخونة، وتساند الظلمة، وتزيف الوعي، وتشق عصا الطاعة، وتفرق وحدة الكلمة، وتفكك الجبهات الداخلية، وتستبق الأضواء، وتنتهز الفرص. والمتابع الحصيف يستبين ذلك، دونما عناء.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:37 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تفكيك الوهم ووهم التفكيك: الخطاب الثوري أنموذجاً..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومما نتفق عليه ما ينتاب الأمة من الضعف، والوهن، والهوان، والإغراق في الوهم والتوهيم، وتفرق الكلمة، وتنوع الانتماء، وتعارض المصالح، وتعدد الأحلاف، واستفحال التخاذل. وحالة موجعة كتلك، تتطلب منا ألا نيأس، وألا نقنط من رحمة الله، وألا نمارس الإحباط، وجلد الذات، ولن يتحقق الإيمان الصحيح الصريح إلا بالخوف والرجاء، والأخذ بالأسباب، وعدم الركون إليها، فالتوكل المشروع يتطلب استكمال متطلبات المواجهة. ومصدر الوهن والهوان التباس (التوكل) ب(الاتكال)، فالاتكاليون يميتون إسلامهم، بانتظار الملائكة المردفين، والمتوكلون حقاً يُعِدون ما استطاعوا من قوة، ثم يستمدون النصر والتثبيت من الله (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
وما أكثر الناس ولو حرصت بقادرين على التخلص من النقائض والتكتم عليها. والشفافية وتشخيص الأدواء حين يروضان على الاستكانة، واستمراء الضعف، والاكتفاء بالإسقاط والتلاوم، ثم لا يحملان على إعادة النظر في المناهج والآليات المستخدمة في قراءة الواقع وتفكيكه، والوصول إلى أدق تفاصيله، يكون التكتم خيراً منهما، فالأصل فيهما تحفيز المعنيين على جس النبض، وسبر الأغوار، والوقوف على مكامن الداء، دونما محاباة أو مجاراة. فالداء العضال لا يحسمه كتمانه:-
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه... غذاء تضوى به الأجسام).
وسوف أضرب صفحاً عن تقصي الشواهد، لأنها مطروحة في الطريق، يتعثر بها الناس، ويتجرعون مرارتها، دونما استساغة:-
(ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدواً له ما من صداقته بد).
وليس هناك ما يمنع من استدعاء بعض الظواهر المفشلة كلعبة المفاضلة) بين مشروع ومشروع و(مأزق التصدير) لتلك المشاريع، والرهان على الأشخاص على حساب القضايا، مما هو ديدن الإعلام المضلل، و(المفاضلة) و(التصدير) و(التصنيم) من لوازم العالم الثالث، المصاب بداء الشرعنة لكل فعل، قصرت أخادعه من العملقة الحضارية. وقد أومأ أحد المسكونين بوباء الانهزام عن (شرعنة الفوات الحضاري). وكل مشروع سياسي أو ثقافي أو فكري يقدمه الإعلام المزيف للوعي، ثم لا يكون الرأي العام حفياً به، يرد بالمثمنات موارد الهلكة، وبئس الورد المورود، وقد يتعثر المشروع بظروفه المحيطة، بحيث لا يكون سيئاً بذاته، إذ ربما يكون مثالياً، ولكنه فوق الطاقة، بحيث يفقد صواب التوقيت والتقدير. وقد يطلقه الماكرون، ويتلقفه المغفلون. وكم تمر بنا مشاريع سلفية ناصعة، أو قومية جادة، أو وطنية صادقة، ويكون من ورائها صهاينة بالأصالة، أو متصهينون بالمواطأة، لا يريدون من الدعم والتمويل إلا الإيضاع في الفتنة، واجتثاث ما تجذر من المشاريع، واستمرأها الناس، ولقد فعلها المنافقون من قبل، حين بنوا مسجد الضرار، ليزاحموا به أول مسجد أسس على التقوى. والذين يتقحمون المشاهد برؤية فاضلة أو مفضولة، ثم لا يتحقق شيء مما يريدون إلا بتفرق الكلمة، والتخلي عما عليه الجماعة، في زمن الغثائية وتداعي الأكلة، إنما هو جزء من الفتن، وكيف لا، والرسول قد استعدى الأمة على من يأتيها وأمرها جميع، وهو قد أخذ بالمفضول في إعادة قواعد البيت، احتراماً للرأي العام. والمتابع للغط المتعالمين وفيوض الإعلام يفزعه الطرح المحتدم والمثير والمبتسر في آن، مما ينذر بشر مستطير، وكم من مبادئ لا يتسرب إليها الشك، تتعثر بعامل المفارقة بين المثالية والواقع. ومثلما تسبق المبادئ زمنها، يسبق النوادر من الرجال زمنهم، بحيث يولدون في غير وقتهم، والمعذبون في الأرض أمام هذه المتناقضات هم العقلاء الذين يشقون في النعيم. والإشكالية التي أدت إلى ارتكاس عالمنا في الفتنة، ولم يفكر أولو الأمر في التخلص منها تعدد المشاريع، ومراكز القوى، ونزع الثقة من المرجعية الدينية، وفهم الحرية والحقوق على غير وجهها، والجدل العقيم حول مشروعية كل رأي وأهليته، والإيغال في تمجيد ذويها أو تجريمهم، حتى لكأنهم ملائكة أطهار أو مردة أشرار. والتحبس في ثنائية: الشيطنة أو الملائكية، والضلوع المدان في عملية التصدير للمبادئ والأحزاب عبر ترسانة البلاغة، أو ترسانة السلاح، فوت على الأمة فرصاً كثيرة، واستنزف كل طاقاتها. ولما نزل في مُنْخَنق الانفعال والافتعال، حبيسة اللحظة المعاشة، بحيث لا تستعيد الماضي، ولا تستشرف المستقبل. وما الحرب الحدودية والأهلية: ساخنة أو باردة إلا ترجمة فعلية لهلوسة المفاضلة والتصنيم والتصدير. وكم تكرر في القاموس السياسي الحديث مصطلح (تصدير الثورة)، الأمر الذي زج بالدول العربية في حروب طاحنة، وزرع الريبة في الصدور، وأغرى الأعداء باختراق الأجواء، والدخول بين الأخ وأخيه. ولكي تكون الأجواء ملائمة لخطيئة التصدير، كان لابد من التورط في جدلية المفاضلة. وهكذا تدخل النخب: مخدوعة أو مأجورة في هذه اللعبة الأكثر عقماً والأقل عمقاً. وتتخطى ذلك العقم والتسطح إلى التصنيم للقائد الملهم، لتقترب به من الطهر الملائكي، والعصمة النبوية، ليفعل ما يشاء، وكأنه من (البدريين)، مع توهيمه بإمكانية تصدير النظرية، عبر آلية الترغيب أو الترهيب، مما يحمله من تبذير مقدرات الأمة، وإشعال الفتن، وإلجاء الضعفاء المكتوين بنار التعدي إلى ارتكاب المحاذير، وذلك بجر الأساطيل التي تمخر العباب، وتجوب السحاب، وتثير النقع، معيدة الوجه الكالح للاستعمار البغيض، وإذ يقترف البعض خطيئة التعدي المدان بكل المقاييس، يبادر البعض الآخر منفرداً باتخاذ قرار قومي مصيري، يفاجئ به الأمة، ويثير به الرأي العام، ويصدع الوفاق العربي والإسلامي والاقليمي، ثم يجد من يسانده: عربياً وإسلامياً وعالمياً، فيما يحمل البقية على الإذعان المكره، أو الرفض الأعزل، متيحاً الفرصة للأعداء المتربصين، ليجتالوه، ويقاضوا خصومهم من خلاله. وما أكثر اللاعبين الأغبياء لحساب غيرهم. وأياً ما كان الأمر، فإن القاموس السياسي يفيض بهذه المفاجآت التي تربك الصف العربي. واتخاذ قرار الحرب، أو التسوية مع العدو، أو استقدام القوى الأجنبية أو الخروج على الشرعية، إن هي إلا قرارات مصيرية، لا يجوز اتخاذها دون إجماع عربي، ولا سيما إذا تم الاستقدام من دولة صغيرة، ليست لها قضية، وليست بحاجة إلى مال أو حليف، وليس لها حدود ساخنة. ذلك أن أثر الوجود الأجنبي سيطال المقيم والظاعن. ولأن الأمة واقعة تحت طائلة المغامرات فإنها أحوج ما تكون إلى الناصحين، الذين يجنبونها الفتن، ويواجهونها بالحقائق، ويصدقونها القول. والأمة العربية منذ ثورة حسني الزعيم عام 1949م، وهي في نكث للعهود، وطعن في الدين، وتثاقل في الأرض، إلا من رحم ربك، وفي هذا العراك لا تسمع إلا دوي الكلمات الجوفاء، وهمس المجاملات، وسك المشاريع التي يقوم بعضها على أنقاض بعض: حرية، اشتراكية، قومية، علمانية، حداثة، ديموقراطية، وحْدوِيَّة، شَعْبَويَّة. ومن ورائها (ثورة) و(زعيم)، يحفهما إعلام يكيل التهم لحفنة توارت بالحجاب، من الخارجين الخونة، الذين باعوا وطنهم، وكانوا من قبل ملء السمع والبصر، ويبشر بطلائع قادمة من المنقذين، الذين استردوا وطنهم ممن باعوه بثمن بخس، فكأنهم {فٌتًيّةِ آمّنٍوا بٌرّبٌَهٌمً}، وما هم في الحقيقة إلا لصوص سرقوا شعباً بكامله، فقفَّصوه، وسرحوا في فضاءات أرضه. ولما تزل الأمة منغمسة في أتون الفتن إلى الأذقان، مغلوبة على أمرها، مغيبة في المغانم، شاهدة في المغارم. وإذا لم تُدِنْ الأمة نفسها، وتواجه أخطاءها، وتقبل مرارة الحقيقة، ستظل كما هي لا عزٌّ ولا ظفر، والوضع القائم لا يقبل المزيد من النكبات، ولا يمكن احتماله، الأمر الذي يحتم مواجهة الحقيقة العلقمية بشجاعة وثقة، للخروج من وهدة الاحتقار، والخلوص من استخفاف الأقوياء، وتفكيرهم بالوصاية علينا، حتى لا يجدوا حرجاً في أنفسهم من التدخل العسكري، بدعوى تَخليص الأمة من ظلم أبنائها، وانتزاع المسؤولية من أيد لا تحسن النهوض بها، واقتسام الغنائم، وأصحاب الشأن صامتون أو مواطئون. وإذا كان الشرقيون والغربيون يتفانون في تصدير نظرياتهم، وحضاراتهم، وقومياتهم، وتعميم ثقافاتهم، ولغاتهم، ومدنياتهم، والعمل على هيمنتها، فإنهم جميعاً يدعمون مشاريعهم الديموقراطية، والعدل، والإحسان، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وتداول السلطة، واحترام الدساتير، والقوانين، والأنظمة، وتفعيل المجالس التشريعية، وتمكين شعوبهم من ممارسة حقهم، والتوفر على ما يكفل لهم الحياة الكريمة: صناعياً، وزراعياً، وسياسياً، وفكرياً، وعسكرياً. ثم إن مشاريعهم تأتي انبثاقية صنعوها بأيديهم، واتخذوها بطوعهم واختيارهم، وفصَّلوها على قدر أجسامهم، ووفق حاجتهم، وفي إطار إمكانياتهم. ولم يكن شيء منها مصادم لما استقر في أذهانهم. ومشاريع العالم النامي المتورط في لعبة المفاضلة والتصدير والتصنيم طارئة مجلوبة، لا تمت إلى واقع الأمة بصلة، ولا تستجيب لحاجاتها، ولا تلائم ما جبلوا عليه من عقائد وعادات وتقاليد. للعامة دينهم، وللقادة دينهم، وكل القضايا المصيرية تقضي بليل، وما يقال عبر قنوات الإعلام حبر على ورق، وكم هو الفرق بين مبدأ تمهد له النخبة، وتؤمن به الكافة، وينهض بأعبائه المسؤول، ومبدأ تكفر به العامة، وتتملق به النخبة، وتفرضه السلطة بالقوة. والذاكرة المعطوبة تنسي الأمة ما سلف من ويلات، وتحملها على ملاحقة الكذبة الجديدة، والخنوع للمفترين الذين يخدرونها بالشعارات الزائفة، والدعاوى الكاذبة. ومتى انكشف أمرهم، ألهبوا الحدود، وافتعلوا الخلاف مع الجار، ليتمكنوا من إخراس الألسنة، وإطلاق صوت المدافع وأزيز الرصاص، سعياً وراء شغل الرأي العام، وإخضاع البلاد لحالة الطوارئ، بحيث لا يتكلم إلا رجل السلطة. وإذا أراد الله بقوم سوءاً، أمَّر عليهم أراذلهم، ووضع مصائرهم بأيد آثمة، خائفة مخيفة، ليس لها عمق تاريخي، ولا رصيد وطني، وتلك مؤشرات فتن عمياء، تجعل كل شيء أتت عليه كالرميم، وتشرعن للأقوياء المتغطرسين التدخل في الشؤون الخاصة، وتقديم الحل العسكري على المواجهة (الدبلوماسية) مما لا يطال الضالعين في الخطيئة وحدهم، وإنما يمتد إلى من عرفوا قدر أنفسهم، وقدروا الأمور، وتحاموا الفتن. وعلينا أن ننظر إلى الحمم التي تمطر أرض الرافدين، إنها تهدم البيوت، وتمزق الأشلاء، وتسلب الحرية، وتحقق التخلف، وعصابة الحزب الحاكم في أعماق الأرض مختبئون، لا تراهم إلا حيث تكون شتيمة أو غنيمة، وهم قد خرجوا بجلودهم من حربين عنيفتين مجانيتين، أهلكتا الأمة، ولم تحققا أي مكتسب، لا على المستوى الاقليمي ولا العربي ولا الإسلامي، ولم يكن لها أي مبرر، ولما تزل عصابات الشر من أبناء الجلدة في انتظار ما يأتي من ويلات، والشارع العربي تتدفق هتافاته لحساب اللحظة الضاغطة، مستدبراً قضايا مهمة في الوطن العربي، ومغمضاً عمن قتل الكرامة، وأشعل الفتن، وجلب الويلات، وفرق الكلمة، وجر الأساطيل إلى المنطقة، وشرعن التدخل العسكري. والمؤلم ان المستقبل امتداد للحاضر، وليست هناك بوارق أمل، للخروج من ضوائق المرحلة الحرجة، فالأمة تعيش حالة من الانفعال والوهم والاحتقان. وإذ يعيش الخليج أزمات الحروب الثلاثة التي أتت على كل المقدرات، ومهدت الطريق لوجود عسكري خارجي بغيض، لم تشهد له مثيل من قبل، شرعنت له نزوات مجنونة، والجأ إليه الخوف من مغامرة عسكرية غير محسوبة، فإننا لم نسمع كلمة صادقة حاسمة، تحدد المسؤولية، وتحاسب الضالعين في الخطيئات، وترسم طريق الخلاص، وتمكن الأمة من مواجهة الأحداث، وتحمل المسؤولية، وامتلاك شرعية التدخل في اللحظات الحرجة، وتفعيل المؤسسات العربية لممارسة حقها، والحيلولة دون وصاية الأجنبي. ومع وضوح الحقائق فإن الناس منشقون على أنفسهم. إننا لكي نخرج من دوامة اليأس والإحباط والوهم، يجب علينا استحضار السياقات، وربط الأسباب بالمسببات، وتقصي ما سلف من الخطيئات، ومعرفة من تآمر على الأمة، ومن زرع الأحقاد، وإن لم نفعل، أنجينا الذين ظلموا، وأخذنا الأبرياء بعذاب بئيس. والمؤلم أننا كلما صنعنا عذاباتنا بأيدينا، رفعناها إلى السماء ملطخة بوحل الخطايا لنقول:- يا رب يا رب، نسب الذين كفروا، ليمعنوا في النكاية، وسب الله عدواً بغير علم. وكيف يستجاب لنا، ونحن متلبسون بالمخالفات في مشاربنا ومطاعمنا وسائر تصرفاتنا. لقد بلغ السيل الزبى، وتداعت الأمة على مثمنات الأمة، وسيق الأبرياء والضعفاء إلى بؤر الفتن، وما من رجل رشيد يبين للأمة وجه الصواب، ويأخذ بيدها، ويقيل عثرتها، ولن تقال عثرة الأمة بالتنافي، ولا بتعدد (الأيديولوجيات) الأمة أمة (عربية مسلمة)، وإذا لم تلتف حولها عروبتها وإسلامها، تفرقت شيعاً وأحزاباً، كما تفرقت قطعاً متجاورة متناحرة، وليس أضر على الأمة من التقاء المسلميْن بسيفيهما، ولن يلتقيا حتى يستفحل التقاؤهما بلسانيهما. وإذا لم تتوفر الأمة على (العروبة والإسلام)، فلا أقل من أن تتعاذر، ويرتد كل إقليم إلى الداخل، لإصلاح نفسه، وتفعيل مؤسساته، والخضوع لقوانينه ودساتيره وأنظمته التي تلقاها من السماء، أو خطها بيمينه. لقد أجهش المسلمون بالبكاء متضرعين إلى ربهم، مستعدينه على الأعداء الظاهرين، ولكن أحداً منهم لم يتجه إلى الأمة، ليحملها على تغيير ما في نفسها، ويضعها أمام مقترفاتها، ويدعوها إلى العودة إلى بارئها، وتحكيم شرعه، وتنفيذ أمره بالعدل والإحسان وإعداد القوة، ويواجهها بمفاهيمها التي صيرتها لقمة سائغة لأعدائها المتربصين بها الدوائر، ويحملها على أن (تعقل وتتكل)، لقد مرت بنا مقترفات نراها رأي العين، ونعرف المقترفين بأسمائهم، والتغاضي عنها مهد لما هو حاصل. ومع ذلك نظل أبناء لحظتنا، لا نفكر بالطابور الخامس الذي صيرنا إلى ما نحن فيه، من جهل وضعف وخوف. فأين نحن من مكائد الاستعمار، وبطش الجبارين، ومواطأة الأقربين. وفي ظل الظروف العصيبة لابد من تفكيك التاريخ الحديث، لنصل إلى مفاصل المشاكل، ونحسمها أولاً بأول، نصفي الحسابات، ونميت القضايا، بعد إدراك أدق تفاصيلها، لنعرف أن محاور الشر الحقيقي ليست وحدها دول لتحالف .
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:39 PM   #12
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ: فهل من متعظ؟ «1/2»
د/ حسن بن فهد الهويمل


جئت إلى القاعة متأخراً، ولم أجد الوقت الكافي لانتظار المصاعد، فمشيتها خطوات عجلى، قفزت بها الدرج مسرعاً، وما أخذت مكاني على المنصة، حتى أحسست بتفصد العرق، وانتابني لهاث متلاحق، فطفقت أخصف ورق المناشف، لأجفف الأصداغ والحواجب، وتلمضت بلساني لأرطب الشفاه التي جمدت على الكمد، وكنت يومها حديث عهد بقراءة أعمال المؤتمر الدولي الأول للحضارات المعاصرة «العولمة وحوار الحضارات: صياغة عالم جديد» المنعقد في القاهرة، الذي كانت لي فرصة المشاركة في فعالياته، وطبع بحثي ضمن أعماله. ومثل هذه المؤتمرات تفتح بصيص الأمل لحوار هادئ، يجنب العالم ويلات الحروب الشرسة.
والطلبة الاستشرافيون يعودون من مراكز المعلومات، وفيوض القنوات، متخمين بالقول ونقيضه، في مختلف المعارف والقضايا، ثم لا يجدون بداً من ان ينكوا الجراح، ويحزوا اللحم إلى العظم، لأنهم في زمن التشكك الذهني، وقدرهم انهم جاؤوا في الوقت الذي تتناسل فيه الفتن كقطع الليل المظلم، ولهذا تراهم كلما ادلهمت الأمور، واستحكمت الشدائد، أمطروا أستاذهم بوابل من التساؤلات، وكأن الخوض فيها يسكن الأوجاع، ويخفف الصداع، وفي ظل ما أعانيه من انهاك نفسي وجسمي كنت أطمع في أسئلة في المنهج، أو أسئلة عما قرأت وسمعت في ذلك المؤتمر الذي جاء على قدر، ليجمع الأشتات عبر القواسم المشتركة، ولكن أصداءه العذاب تلاشت تحت أزيز الطائرات ودوي المدافع، لقد اجهضت تطلعاته مغامرات دامية، صدمت المتفائلين بحوار حضاري، وعولمة متزنة متوازنة، ليس فيها تعسف ولا إكراه، ولم يكن في حسابي ان تكون الأسئلة حول المصائب الجسام التي تصب جام غضبها على عالمنا العربي المرتكس في الفتنة إلى الأذقان، يتقلب في أمواجها منذ فجر التاريخ الحديث، دون ان تلتقمه الحيتان ليريح ويستريح، أو تنبذه في العراء سقيماً أو صحيحاً، لينظر العقلاء في أمره. لقد أوجست خيفة من قصف الأسئلة التي تعتورني عبر عشرات القصاصات، لتصل تباعاً متنقلة من طالب لآخر، وكلها تستجلي الوضع المتردي، متناسية «نظرية الضرورة» واحتمال الأذى عند العجز عن رده، ولما ان تكدست بين يدي، لم أجد بداً من فرزها إلى مجاميع، ولما ان استعرضتها على عجل ووجل، وجدتها تدور حول ثلاثة محاور:
1 ما المبرر لحروب خليجية ثلاث؟
2 هل من موقف عربي موحد إزاء القضايا المصيرية؟
3 وهل يضع الغرب وزناً للموقف العربي، عندما يقضي أمراً يعنيهم؟
لقد حوصرت بمرارة الحقيقة، وخطورة المصداقية، وتمنيت لو أوتيت حنجرة «أحمد سعيد» وتمثيل «سعيد الصحاف» وقلة حياء الساسة، لأهرف بما أعرف، وأمام هذا الحصار لم يكن بد من خيارات ثلاثة: فإما ان أتعمد اللغة «الدبلوماسية» المراوغة، وأحفظ ماء الوجه، إن كان ثمة بقية من حياء عند من يتعاطى السياسة، وإما ان أصدقهم القول، وأكشف عن الواقع المرير، وإما ان اعتذر عن الإجابة، ونصف العلم «لا أدري» ومن قالها فقد أفتى. والإجابة الصحيحة الدقيقة آتية لا ريب فيها، على حد: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود». ولم يطل ترددي، ومن ثم أطلقتها كحشرجة المحتضر: «لا مبرر» و«لا موقف» و«لا وزن». وهي «لا ءات» ثلاث، أطلقها من قبل المؤتمرون في السودان، بعد النكسة الموجعة، ولكنها صارت هباء، وصارت سدى، بمغامرة «الكامب ديفيد» التي جرَّت أقداماً كثيرة، وأعطت تنازلات أكثر، وتمخضت عن أوضاع ومصطلحات سياسية، ما كان اليهود يحلمون بأيسرها، وما أكثر المغامرات والمغامرين والمقامرين بمقدرات الشعوب.
وما أن لملمت أشلائي المبعثرة، وروضت مشاعري الدامية، وحاولت إبداء تجلدي للشامتين، لأريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع، حتى بدهني شقي آخر، انبعث صوته من مؤخرة القاعة: وهل من تحرف صادق لإيقاف التدهور، ومعالجة الانكسارات؟ وبخاصة بعد السقوط «الدرامي» الذي جاء متأخراً، لكي يتمكن التحالف من تدمير ما لم تدمره عصابة الشر، وجاء الجواب كسوابقه، وعاج الشقي يسألني: إلى متى؟ ولماذا؟ وكيف؟.. إننا بحاجة أن نعرف: هل من الممكن ان يبدأ العرب الخطوة الأولى في طريق العودة إلى جادة الصواب، كي يعيدوا ثقتهم بأنفسهم، وتفعيل جامعتهم، وتوحيد كلمتهم.
وساعتها لم يكن بد من الدخول في التفاصيل، فليس من مصلحة الناشئة العربية ان يتركوا في جهلهم يعمهون، والسؤال الملح عن الحروب الخليجية المتواصلة من أشعلها؟ ولمصلحة من أشعلت؟ وما خسائر الأمة: المادية والبشرية والمعنوية؟ ومن الخاسر فيها؟ ومن الرابح؟ أسئلة مشروعة، وواجبة الإجابة. ولو اننا وقفنا عند كل حدث، وساءلنا كل قضية، وحاسبنا كل مقترف، واعترفنا أمام الناشئة بالحقائق العلقمية، لما آلت مصائر الأمة إلى الدرك الأسفل من الضعة، ولما حفزناهم على البحث عن مجيب، يشكل وعيهم على عينه، ليجعل منهم عدوا وحزنا. إنهم يعيشون حالة من اليأس والإحباط والفراغ والاحتقان، وقابلية الانفجار، وهذا التوتر يغري شياطين الإنس باجتياهم واحتناكهم، ولن يتوقع أحد سلامة الذهنيات في زمن العجائب والغرائب والمفاجآت.
حروب الخليج التي دمرت كل شيء أتت عليه، وألهت المخلصين عن كل فعل إيجابي. إما: أن تكون بالإنابة، بحيث يكون المحارب لاعباً غبياً لتأديب خصم لدود، وضع يده على ترسانة عسكرية، تهدد المنطقة. وإما: أن تكون نزوة مجنونة من نزوات الثوريين الدمويين، وفق حسابات وتقديرات خاطئة، شرعنت للأقوياء المهتبلين لأي فرصة سانحة، لينهضوا بمهمة التأديب بثمن باهظ وإما ان تكون تطلعاً إلى صياغة جديدة للعالم من خلال إعادة تشكيله، واحتوائه، والسيطرة على مؤسساته ومقدراته، بحيث يكون التابع الذي ينتج قدر الطاقة، ويأخذ دون الحاجة. وهذه الحروب الذكية بقدر ذكاء القذائف خططت لها مؤسسات لا تخاف الله، ولا ترحم عباده، وليس لها من هدف إلا الانتهاك والإذلال، وكلها مصائب تصب حممها على الأبرياء. ولا شك ان ما تتعرض له بلاد المسلمين: يكون ابتلاءً، أو يكون عقوبة.
فالابتلاء يتطلب الصبر والمرابطة والتقوى. وأما العقوبة، فلا تكون إلا بسبب المخالفة لأمر الله، وهي تتطلب مراجعة النفس، والفرار إلى الله، وإعادة النظر فيما اقترفته الأمة من مظالم، فلقد يُسرت المصائب، بحيث يراها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولم يبق إلا أن نكون مدكرين، ولكن هل من مدكر؟ والعقوبة والابتلاء متوقعان، فالمصائب مما كسبت أيدي الناس، والابتلاء تحقيقاً لقوله تعالى: {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ} و{وّحّسٌبٍوا أّلاَّ تّكٍونّ فٌتًنّةِ}. والعقلاء المتمرسون لا يزكون أنفسهم، وإنما يعترفون بتقصيرهم، ويدينون أنفسهم قبل أن يدانوا، وحين منيت الجيوش الإسلامية بنكسات غير موجعة، عرف قادتهم ان ما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم، ولهذا بادروا إلى التوبة النصوح. وما الحروب الخليجية المتعاقبة إلا ابتلاء أو عقوبة، وكان متوقعاً أن تكون آيات ونذر مغنية لمن يعقل. وثالثة الأثافي كسلفها من حروب، أديت بالأصالة أو بالإنابة، وإن تعددت الأسباب وتنوعت الدوافع، وأمريكا التي تولت كبرها، وكانت وراء كل اللعب الكونية، لم تجد بداً هذه المرة من ممارسة التصفية بنفسها، وبسلاحها الفتاك، وعلى مسمع ومرأى من العالم، ضاربة بالشرعية عرض الحائط، متحدية أصدقاءها وشركاءها. ولما كانت شرذمة الحكم العراقي ضالعة في اللعب المميتة، متقنة لكل الأدوار القذرة، كان الدعم والتأييد ينهال عليها من كل جانب، وحين أنهت أدوارها، كان لابد من خلع أنيابها، وقمع انتفاخها، وحين تأبت، لم تتردد أمريكا في شطبها من الوجود، لتنهي دور اللاعبين الذين استهلكوا كل أقنعتهم. ولقد صدق مندوب النظام، وهو كذوب، حين قال «انتهت اللعبة». ولن تتخلص الأمة العربية من المكائد إلا بقراءة الأحداث كما هي، ووضع كل مقترف أمام مسؤوليته، ومعرفة العدو من الصديق، والتعامل مع الآخر وفق الإمكانيات، وعلى ضوء خيارات متعددة، ليس من أولوياتها الصدام، ولن يتأتى ذلك إلا حين تحترم الدول المصداقية، وتتحامى تعريض نفسها للذل والضياع، وبخاصة في زمن الاستكبار والغطرسة، وضرب الشرعية العالمية، والتدخل السافر من دولة يتوقع منها حماية العدل والحرية يشي بأن العالم مقبل على انهيارات تطال الشرعية والأخلاقية والمصداقية. واستياء الناس من أمريكا، ليس لأنها فعلت فعلتها النكراء لقتل شعب آمن، ولكن لأنها الحامي الذي تحول إلى مغامر يلعب بالنار، ويستن سنة سيئة لم يسبق إليها.
ومع الاستياء العالمي لتخطيات أمريكا، نجد من يتحدث عن الوجه المشرق لها، ونقرأ لمن يتفاءل بدخولها الحرب التطوعية أو التأديبية مردداً: «رب ضارة نافعة» مستدعياً {وّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا..}، ومع ان من حق كل إنسان ان يعبر عن وجهة نظره، إلا ان هناك قطعيات ثبوتية ودلالية، تشكل خطوطاً حمراء، لا يستساغ تجاوزها. فالبعض يأخذه التفاؤل، كما تأخذ المسترخي المتعب سنةُ النوم، ثم يغرق في الأحلام. والمتفائلون يحيلون إلى الآثار الإيجابية التي أعقبت دخول أمريكا حروباً طاحنة ضد بعض الدول مثل «اليابان» و«كوريا» و«ألمانيا» وطرحها بعد الانتصار مشاريع اقتصادية وصناعية وتجارية، واعطائها قروضا مخفضة، وفات هؤلاء وأولئك انه لا تجود المقارنة مع الفارق، فأمريكا لها تجاوزات لا يمكن احتمالها.
الأولى: الوجود الصهيوني المتوحش المدعوم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من أمريكا.
والثانية: الموقف المعلن من الحضارة الإسلامية، بوصفها المعادل الأقوى لحضارة الغرب.
والثالثة: إلصاق الإرهاب بالإسلام، ومواجهته وفق مفهومه الغربي بكل قسوة وعنف.
ويأتي على أعقاب المتفائلين والملتمسين لإشراقات الوجه الأمريكي من أخذتهم الخيفة من دعوى «حقوق الإنسان»، الأمر الذي حفزهم على التفكير الجاد للمسايرة بتعديل الأنظمة، أو التخفيف من القوة في الحق، وحسبوا أن يساءلوا عن سجين لم يبادروا في محاكمته، أو عند معتد أثيم لم تتح له فرصة المغالطة والبحث عن قوة الحجاج، لينجوا من العدالة متحرفاً لاعتداء آخر. ومع التباكي فوجئ العالم بأن هذه الدعوى لا تبلغ تراقي الدعاة. وكيف يصدقون، وهم يلقون حممهم على المنكوبين من حكامهم، فيما يختبئ الحكام في سراديبهم، ويتهيئون للفرار للعيش المترف بالأموال التي سرقوها، تاركين أمتهم رهن الضياع والخوف والفقر. وكيف ينهض الظلمة بالمطالبة بالحقوق، وهم قد انتزعوها بالقوة من أفواه الجياع وجيوب المعسرين، والفجوة السحيقة بين الدعوى والممارسة،
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:40 PM   #13
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
إن إلى ربك الرجعى..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لست أدري لماذا أصبح الموت في نظري سفراً قاصداً.
يقال لي: مات فلان.
ويقال: سافر فلان.
فكأن وقع القولين واحد لا يثير.
الموت آت كالساعة لا ريب فيها، ومن فرَّ منه، لاقاه، ولم يلحق به، وكل نفس ذائقة الموت، والذوق أمكن من الرؤية أو اللمس، والطامة أن تزهق الأرواح، وهي غارقة في الخطيئات.
والسعيد السعيد من مات موحداً لله، مطيعاً لرسوله، ساعياً في حاجات عياله، مخالقاً الناس بخلق حسن. وعندما نسمع بالسفر الأبدي، نتألم ساعة من نهار، ثم يأتي «الأمل» و«النسيان»، ليعيدا المفجوعين الى الحياة الطبيعية. ينسيان الأم وحيدها، والابن البار والديه، والحبيب حبيبه. ولهذا قيل: أحبب وأبغض هوناً ما، فإنك مفارق. وعند فراق الأحبة، يحزن القلب، وتدمع العين، ولا يقول المؤمن الصابر المحتسب إلا ما يرضي الله. وتلك نعمة يمن الله بها على الصالحين من عباده، ومثلما نستقبل الولادات بالتهاني، نودع الوفيات بالتعازي. وهكذا الدنيا نزول وارتحال. وحين قضى الأمير «ماجد بن عبدالعزيز» نحبه، ولم ينتظر، مس الجميع ألم الفراق، وتجلت محبتهم له عبر مظاهر العزاء والتأبين والتفجع، ومن خلال شهادة الخاصة والعامة بما علموه عنه ومنه، ومن دماثة خلق، وسماحة نفس، ورحابة صدر، وسعي في حاجات الناس، وتبسط معهم، وتودد اليهم.
وما تناقله الكتبة والمتحدثون، وأفاضوا به، يجعل المتابع أمام شخصية استثنائية واجماع الناس على حبه مؤشر زكاء وذكاء. وقدري أنني لم أكن قريباً منه، مقتدياً أو منتفعاً، ولا مخالطاً له، بل كانت صلتي به عرضية، يكون راعياً لحفل، ثم يكون لي شرف الحضور، ويتدافع المحتفون به للسلام عليه، فأكون واحداً منهم.
ويتحدث الى المحتفلين أو المؤتمرين، فأستمع اليه، وهو يتحدث، وأستمع الى الذين يتحدثون عنه، ممن لهم أكثر من مدخل عليه، فيكون حديثه حديث البشوش المتودد، الساعي في حاجة الأرملة والمسكين، ويكون حديث الناس عنه حديث المحب المعجب المرتهن لاحسانه، ومن وجد الاحسان قيداً تقيدا. وعرفت فيما بعد نجله الأمير عبدالعزيز بن ماجد حين شرفت القصيم به نائباً لأميرها المتألق. وحين خبرت الرجل، تبين لي أنه سليل بيت كريم، لما يتمتع به من خصال حميدة، كسبته القصيم، ليكون عضداً لأميرها الممتلىء بالمسؤوليات الجسام. وكلما لقيته تذكرت مقولة لشاعر:
«ومن يشابه أبه فما ظلم»
ومنذ أن عرفت الابن، عرفت الأب، ولم يخب توقعي، فلقد جاءت كلمات التأبين التي فاضت بها الصحف مليئة بالثناء والدعاء، ولم يقتصر الثناء ولا الدعاء على الذين احتكوا بالفقيد بوصفه وزيراً أو بوصفه أميراً لأقدس بقعة في الأرض، بل تجاوز ذلك الى كل الذين كانت لهم حاجات في مواقع مسؤوليته، وكل الذين خالطوا خلطاءه، كانت النفوس مفعمة بالحب والتقدير، وما إن ترجل من المسؤوليات، وفرغ للاستجمام والعبادة، ثم بارح الفانية بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، نضحت الأواني بما فيها. ولقد صدق من قال:«موعدكم يوم الجنائز» و«الناس شهود الله في أرضه» لقد أوجب الله ثناء خلقه، وقبل دعاءهم، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عند الثناء والذم: وجبت.
والذين تدافعوا للثناء والدعاء لا يرجون العاجلة، وليس لأحد سلطان عليهم، لقد قالوا ما قالوا بمحض إرادتهم، والله أكرم من خلقه، فإذا هب الناس بالثناء والدعاء، وذلك كرم منهم، فإن الله أكرم منهم في المغفرة.
لقد لقيت شقيقه الأمير سطام وولديه مشعلاً وعبدالعزيز في ساعة العسرة، والأمير المحبوب يغالب سكرات الموت، فكانوا مثال الصبر والاحتساب، يسترجعون، ويحتسبون، ولا يقولون إلا ما يرضي الله.ثم لقيتهم، ومعهم الأمير فيصل بن بندر الوفي دائما معزياً ومواسياً، فكانوا أمتن صبراً وأكثر احتساباً. والله الذي وعد الصابرين بالصلوات والرحمات والهداية أوفى بوعده، ومن أوفى بعهده من الله، وعليهم أن يستبشروا بصبرهم واحتسابهم الذي بايعوا به الله.
تعازينا الحارة للانسان السعودي: ملكاً وأميراً وشقيقاً ونجلاً، ودعاؤنا الصادق للراحل الكريم الى الرب الكريم بالمغفرة والرضوان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:42 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ فهل من متعظ..؟ 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولو أن أحدنا استعاد الرضخة «الحزيرانية»، وما تمخضت عنه من ذلة وهوان وخوف، لعرف أن ما تعايشه الأمة اليوم، لا يختلف عما سلف، ولكن لكل حدث أسلوبه وطرائق أدائه. والهزائم الموجعة محسوبة على الأنظمة الثورية المجازفة، وليست على إمكانيات الأمة، ومثلما منيت الخطة العسكرية الأمريكية ببوادر الفشل، دون أن تهزم القوة، فقد منيت الأنظمة العربية بسلسلة من الهزائم، ولما تتح للأمة ممارسة امكانياتها. ولو أن المنظومة العربية: قادة وشعوباً وعت الدروس، وفكرت في أمرها، وقدرت واقعها، لما آلت أمورها إلى ما هي عليه الآن. وبدهيَّا أنه ليس من صالح القوى المستبدة، ولا الأنظمة المتسلطة أن تعي الأمة ما هي عليه، لأنها لو وعت، لوضعت المصالح والأنظمة أمام مسؤولياتها. والواقع العربي بلغ الدرك الأسفل من الضعة، ومن ذا الذي يجيل نظره في القنوات، ثم لا يتميز من الغيظ على من فعل مثل هذه الفعلة النكراء بالإنسان والحضارة والمدنية. وهل أحد يستطيع الصبر واحتمال الأذى الذي يستبطن إخواننا في «العراق» منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، وفي «فلسطين» منذ سبعين عاماً أو تزيد، وفي «الجزائر» و«السودان» و«الصومال» مما تتناقله وسائل الإعلام، ولما تزل سوح القتال تلتهب بالسلاح الغربي المتطور في كل الحروب التي مرت بها المنطقة.
ففي «نكسة حزيران» ظاهرت أمريكا إسرائيل، وأمدتها بالعتاد والعدد والخطط والتأييد في المحافل الدولية، وجلست غير بعيد ترقب الأحداث. وكانت «مصر» قد خرجت منهكة من «اليمن»، فيما كان العالم العربي مقطع الأوصال، تسكنه الريبة، وينتابه الخوف من الأقربين، وكان على دول المواجهة أن تختار الوقت المناسب للحرب، فلا تفرض عليهم، ولا يقادون إليها، وهم لم يعدوا للحرب عدتها، ولما لم يكن العالم العربي مهيئاً لأي مواجهة فضلاً عن المواجهة العسكرية، فقد لعب الأذكياء الماكرون الدور التحريضي، واستدرجوا الثوريين العُزَّل إلى حافة الهاوية، وساند ذلك إعلام فضائحي مخادع، شحن النفوس، وهيج العواطف، وألهب الأحاسيس، وأعمى الناس عن الواقع المرير. وفي ظل هذا التوتر، وقعت الواقعة، وجاءت الطامة، وتلقى العرب من المحيط إلى الخليج ضربة قاضية، عاش في عذاباتها الواعون حالة من اليأس والإحباط والذهول.
وكان يجب أن تكون «النكسة» بداية جديدة لحياة حافلة بالتلاحم أو التعاذر، وإعداد القوة بكل متطلباتها، والبعد عن المجازفات والخطابات الغوغائية، وتجنب الدخول في الحرب الباردة غير أنهم لم يدركوا، بحيث عاد الثوريون إلى ما كانوا عليه من قبل، حرب كلامية تقوم على الوعيد والتهديد والتخوين والاتهام بالعمالة، والتحريض على هدم العروش، وتصدير المبادئ والأحزاب، مع تسخين للحدود، وتكريس للطائفيات والقوميات والعرقيات المتعددة، وتمكين لمحاور الشر لاختراق الثغور، وكسب الدثور، مما حوَّل مقدرات الأمة إلى وقود لصراع القوى العالمية، ولما تكن كنور الله الذي يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، بل كانت أشتاتاً تمارس الحرب الباردة بالإنابة عن الشرق أو الغرب، وكل زعيم يدعي أنه الناهض بما ينفع الناس. ومرت الأيام، ونسي العالم العربي نكسة لا يمكن تصورها، ولا يمكن احتمالها، وعادت الأمور إلى مجاريها، وبدأت مخاضات حروب أدهى وأمر. كانت حرب الخليج الأولى مدعومة بخطاب قومي، ثم جاء احتلال «الكويت» ضربة للخطاب القومي، انهارت معه القومية العربية. وحين دحر المعتدي، ظل مع المتواطئين معه في المشهد السياسي دون أقنعة، وظل الشارع العربي يتخبط في دياجي التناقضات، ولما نزل حتى الآن في فوضى مستحكمة من الرؤى والتصورات، ويكفي تدافع المجاهدين، وعودة الناجين منهم يتلاومون.
ومثلما أخفق العرب في «حزيران» حين دخولها دون استعداد، ودون تخطيط، دخلوا تالياتها مرة ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل حرب يخرجون مثخني الجراح، مثقلي الكواهل بالديون والعداوات والشكوك والالتزامات التي تضع مصادر ثروتهم بأيدي غيرهم. والحرب لا تبقي ولا تذر، والكاسب فيها خاسر، ومن استخف بها أذاقته سوء العذاب. وأمريكا التي تملك مقاليد الدنيا، انجلقت في أتونها أكثر من مرة، وخرجت منها خاسرة، تضمد جراحها، وتعالج ذيولها. وها هي قد انجرفت في ضوائقها، دون رصيد معنوي، ولا دعم شرعي على كل الصعد، ودون أن يكون لها موقف مشرف من القضية الأم «قضية فلسطين». وحين تحركت أساطيلها، لم يسبقها استرضاء ولا تهدئة للأوضاع، ولا طمأنة للمتضررين، بل راح كبار المسؤولين فيها، ممن يطلق عليهم «الصقور»، يهددون، ويتوعدون، ويبعثون برسائل ملغومة، مما يشي بأن العراق يعد الخطوة الأولى في رحلة التأديب والاحتواء. وجاءت التصريحات المتلاحقة محيلة إلى أصولية دينية، جندت أمريكا نفسها للقضاء عليها، وذلك من المقت الكبير، فهي تحارب الأصوليات، ثم تنطلق منها.
وأمريكا التي أخفقت في السمعة، أخفقت في تقديرها لتداعيات الحرب، كما أخفقت من قبل في تقديرها للوضع القائم في العراق، بحيث بنت معلوماتها على توقعات المعارضة العراقية. وأحسب أن الحمم التي تلقيها على رؤوس الآمنين العزل الأبرياء، تنال من سمعتها ومكانتها أضعاف ما تناله من مقدرات العراق وأناسيه. لقد كرهها العالم، ونزع ثقته منها، ولم يعد يثق بمواقفها، وكم ستلاقي من «اللاءات» التي لم تسمعها من قبل، وليست تداعيات ما بعد الحرب بأحسن حال مما قبلها ولا مما في أثنائها، والوجود العسكري مؤذن بخلق حالة من الإرهاب الشرس، الذي لا يمكن السيطرة عليه.
وكيف تتأتى السيطرة، وهي قد جاءت بخطة عسكرية لم تراع فيها كره الشعب العربي للاستعمار، فضلاً عن الاحتلال، ثم هي قد تبنت خطاباً إعلامياً لم تراع فيه ردود الفعل العربي والإسلامي والعالمي، وهي قد ركنت إلى القوة العسكرية مجهضة القوة القانونية. والحرب التي يتابعها العالم خطوة خطوة خارجة على الشرعية، ومهمشة للشركاء الأقوياء، ومثيرة لكوامن النفوس، التي ستؤثر الموت على الحياة، ومثل هذه التداعيات تحتاج إلى مدكر يقرؤها بإمعان، وهو ما لم تفعله أمريكا، ولم يفعله العرب. وبدء العمليات كشف عن إخفاقات ذريعة، هزت هيبة أمريكا، وأفقدتها المصداقية، ولم يعد الأمر بيدها. والمضي في الحرب غير المتكافئة له ثمن باهظ، والتراجع من منتصف الطريق له ثمن باهظ، على حد قول الشاعر المحب:
وقع السهام ونزعهن أليم
ومثلما أخفقت أمريكا في بعض تقديراتها، أخفقت حكومة العراق البائدة في كل تقديرها وممارساتها، وماضيها لا ينطوي على إية إيجابية. والذين يكرهون الحكم في العراق، وينقمون على تصرفاته القمعية، ويودون زواله، يكرهون أن تكون نهايته على يد قوى خارجية، تستمرئ التدخل السافر في شؤون الآخرين.
فقد يرضى المعذبون بالبقاء تحت طائلة العذاب المستطير، لعلمهم أن إنقاذهم بهذه الطريقة، سيقودهم إلى ما هو أسوأ، وبوادر الفتنة تبشر بعذاب أليم.
وحكومة العراق التي كانت قاب قوسين أو أدنى من كسب الرأي العام العالمي، لم تحسن التصرف، فلقد ساءت مظهراً ومخبراً، ومما يزيد الطين بلة أن الخطاب العراقي في المؤتمرات المعقودة لإنقاذ الموقف المتأزم، وفي اللقاءات الحرجة خطاب بذيء متعالٍ، لا يحيل إلى أخطائه الفادحة، وإنما يمارس الإسقاط بكل وقاحة، ثم إنه لا يواجه الطرف اللصيق بالتي هي أحسن. وعلينا أن نذكر بموقفين سيئين، صدما الإنسان العربي الناصح المتحفز لمناصرة الشعب العراقي، والساعي لتخليصه من ويلات الحروب التي تعاقبت عليه، وأتت على الماديات والمعنويات على يد حكومة ظالمة، عرضته لفتن عمياء، وخاضت به ثلاث حروب مدمرة، شردت كفاءات، وقضت على مثمنات.
الموقف الأول: مهاجمة وفد الكويت في مؤتمر وزراء الخارجية، ومبادرة الإمارات الإنسانية بأسخف الكلمات، وأحط العبارات، الأمر الذي هيأ الشعب الكويتي لاستقبال الأساطيل الغربية استقبال الفاتحين، أملاً في أن يقطع دابر الفتنة، ويقطع الألسنة البذيئة.
والموقف الثاني: النيل من وزير خارجية المملكة الأمير «سعود الفيصل» ومن سفيرها الأمير «بندر بن سلطان». جاءت هذه البذاءات الصبيانية، والحرب على أشدها، والعراق أحوج ما يكون إلى جمع الكلمة، ولم الشمل، وإتاحة الفرصة للمساعي السلمية، التي يقودها وزراء الخارجية العرب.
وها قد سقطت الحكومية، وتفرق شملها، وعاشت البلاد فراغاً دستورياً، أشاع الفوضى، وهيأ فرص السلب والنهب والقتل، ولو أطيع لقصير أمر لحقنت الدماء، وسلمت المقدرات، وأسقط في يد دولة جاءت بكل قواتها، محددة مطالبها، ولو أن عصابة الشر في العراق عندما استحكمت الأمور، فوضت الأمر «للجامعة العربية»، لكان بالإمكان تلافي حرب مدمرة. وإذ يكون الصمت العربي مؤلماً، يكون القول في صالح القضية محفوفاً بالمخاطر، وتلك حالة ليست استثنائية، فالأمة العربية تعيش حالة من التوتر والمجازفات وتبادل الاتهامات.
والذهنية العربية يشكلها خطاب هائج مائج، لن يؤدي إلى صالحها ويتنازعها إعلام متناقض، إلى حد لا يمكن معه الاستقرار على رأي محدد مقبول.
والسياقات التي رصدها المتابعون هي الأخرى تزيد الأمور تعقيداً. ومع كل ذلك: هل من مدكر؟ الشيء الذي لا يمكن أن يطاق تعرض الخليج العربي لحروب ثلاث طاحنة، لم يكن شيء منها لصالحه، وهي وإن أخلت في توازن القوى، فإنها تركت هوة سحيقة من الشك والارتياد والتفرق الذي لا يمكن تلافيه من خلال الامكانيات المتاحة.
والذين يودون تقصي الأمور، والتدرج معها، عليهم أن يسبقوا أحداث الحروب الخليجية إلى الأيام الأخيرة ل«الشاه» وسقوطه، والسنوات الأولى للثورة الإيرانية، واحتدام مشاعرها، وخطابها المتعالي القائم على المفاضلة والتصدير، والدور الأمريكي في كثير من أحداث الشرق الأوسط، وشرق آسيا وإفريقيا، واقترابها جميعاً من الفشل. والمكسب الوحيد الذي حققته اللعب الكونية سقوط «الاتحاد السوفيتي»، وهو في نظري سقوط سبق وقته، وأربك أمريكا نفسها، ولم يمكنها من النهوض بواجبها بوصفها تمثل القطب الواحد.
لقد انعكس أثره السيئ على العالم العربي والإسلامي، بوصفه النائب الغبي، لتصفية حسابات عالمية، أثناء ما يسمى ب«الجهاد الأفغاني»، كما انعكس الأثر ذاته على أمريكا، فهي التي تقنعت وراء الجهاد الإسلامي، وهي التي دعمته، وهي التي كمنت في داخله، متصورة أنها الكاسب الوحيد، ولكن الرياح هبت باتجاه معاكس فكانت أحداث «الحادي عشر من سبتمبر» نتيجة طبيعية لهذه المكائد. وحين هبت أمريكا لملاحقة من تصورتهم الجناة، لقيت في مواجهتها أفدح الخسائر المادية والمعنوية، ولا أحسبها قادرة في الزمن القريب على استرجاع صحتها الاقتصادية وسمعتها وهيبتها. وذهول الصدمة: صدمة سقوط الاتحاد السوفيتي، وصدمة «الحادي عشر من سبتمبر» حولها إلى دولة نامية سيئة السمعة، تلاحق الإعلاميين، وتداهم الآمنين، وتتعدى على الحريات المكفولة بالدستور الأمريكي. وسقوط الدول يبدأ من أول طلقة طائشة غير محسوبة، ولأن العالم العربي والإسلامي غير قادرين على سد الفراغ الذي تركه المعادل فإن سقوط القوى لن يكون في صالح الأمتين العربية والإسلامية، وأمنياتنا ليست في تفكك أمريكا وسقوطها وإنما هي في وعيها للحق والعدل، وفي استفادة الأمة العربية من النكسات.
وتصور أمريكا أنها لكي تحكم قبضتها لا بد أن يكون لها وجود عسكري في كل موقع مؤذن بانهيارات عالمية، ستحول العالم إلى بؤر من الفتن، فالناس اليوم غيرهم بالأمس، والإعلام الذي يلاحق الحدث بالصوت والصورة في كل مكان، أعطى الإنسان المغيب من قبل فرصة للتأمل وتصور الموقف الإنساني، هذا التفكير العسكري أجهضة التفكير الدبلوماسي، وبدل أن تكتفي أمريكا بتبادل الكلمات الهادئفة مع حلفائها وأصدقائها أصبحت بحاجة إلى تبادل القذائف مع الشعوب التي لن تقبل بوجودها، وفشل الممارسة السياسية تدفع الفاشل إلى ممارسة الحل العسكري، وعندها يبدأ العد التنازلي. وليس أدل على ذلك من انهيار السمعة والاقتصاد، وامتلاك القدرة على مواجهة أمريكا عبر المظاهرات والمقالات، وهو ما لم يكن مألوفاً من قبل.
هذه المآلات الموجعة آيات ونذر، أحسبها كافية لجمع الكلمة العربية، والقبول بالتنازلات، والاشتغال في المساحات المشتركة، وإعادة النظر في كل الظواهر، لتوفير التجانس، وتهيئة الأجواء، لتفاعل إيجابي، يحل الثقة محل الشك، والأمن محل الخوف. ولن تجتمع كلمة الأمة إلا بالرجوع إلى مصدر العز والتمكين «الكتاب» و«السنة».
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 02:38 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)