بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:43 PM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق...!
د. حسن بن فهد الهويمل


1/2
هل وضعت الحرب أوزارها؟ بعد الصفقة أو الخيانة التي فاجأت العالم باختفاء الحكومة والجيش العراقيين معاً، وروضت جماح بغداد وأسقطت رهانات الإعلام المزيف للوعي، والواعد بأن العاصمة العراقية ستكون مقبرة للعلوج، أم أن هناك حرباً من نوع آخر، تكون أشد ضراوة وأفدح خسائر وأطول استنزافاً، تخوضها الكرامة العربية المجروحة، والكبرياء الأمريكية المهزوزة، حرباً لا يحسمها التفوق العسكري، وإنما تحتاج إلى سلاح الفكر وترسانة السلاح معاً متوقية لحمام المواجهات الموجعة التي ترقب الطرفين.
فالعرب بحاجة إلى موقف مصالحة بينية: بين الحكومات والشعوب، وبين الحكومات ونظائرها، وبين طوائف الشعب الواحد، يسمو بوحدة الشعب فوق العرقية والطائفية والإقليمية، جاعلاً مصلحة الأمة المفجوعة فوق كل المصالح.
وأمريكا بحاجة إلى موقف يطمئن كل الأطراف، ويزيل شبح الاحتلال ولغة الغزو. وهو ما لم يفعله الطرفان. لقد انحسرت الجيوش، واختفت المؤسسات، وغاض ماء الأمن، وطمست الحضارة والتاريخ والذاكرة، واقتيد العلماء إلى مخافر الاعتقال والتحقيق، وخضدت الشوكة، ونهبت غير ذات الشوكة، والتفت كل طائفة حول نفسها داخل إقليمها، تراقب الوضع على حذر، فيما فاضت المواجهات، واغتيلت المشاعر، وقامت المظاهرات المناوئة للمحتل، ودخل الناس جميعاً في صفوف الرافضين للوجود العسكري، واتخذ المناوئون خططاً، لا يمكن السيطرة عليها، لأنها تستمد وقودها من موقف الرفض المطلق لأي تدخل أجنبي، ولأي وجود عسكري، متخذة آلياتها من الفداء والمقاومة والمظاهرات. ولا أشك أن جيوش التحالف سيتعرض أفرادها لقنص أو تفجير أو انتحار، فيما يتعرض الشعب العربي لقتل جماعي، وحرب نفسية، واختلال في الأمن وتجويع مفتعل، ولن تلوح بوادر الانفراج في المنظور القريب، وعمليات التصدي والتحدي والصمود تؤزها كرامات مجروحة، لا يبلسمها لا العمل الاستشهادي، من فتية يرجون من الله ما لا يرجوه طالب العرض الزائل، وهو ما لا نريده، وما لا نود اللجوء إليه، وإن كان آتيا لا محالة، متى استمرت المكائد بهذا الحجم، وبهذا العنف، والمفادون والفدائيون في مواجهاتهم الموجعة والمخلة بكل الموازين، لا يقتصون للحكم البائد، وإنما يدافعون عن كبرياء مأزومة. والشعوب العربية قد تخضع لحكومات مستبدة، ولكنها لن تسلم مقاليدها إلى مستعمر أجنبي. وليس ببعيد أن تمارس دول التحالف تجييش النعرات، وأن تستزل الطائفيات، وأن تصنع الزعامات، ليعود العراق إلى حمامات الدم من جديد، إذ ما زال في اللعب بقايا، والعراق كهشيم المحتظر، سماؤه كالمهل، وجباله كالعهن، وأهله في ذهول، حتى لا يسأل حميم حميما.ومن الخير للطرفين البحث عن مخارج أخرى تجنح للرفق، وتحفظ ماء الوجه، وتبقي على شوارد الأمن والأنفس والأموال والثمرات التي أفناها كرّ التآمر. وعلى أمريكا ومن معها - والحالة تلك- أن يسارعوا بالعودة إلى بلادهم، وليأخذوا توصيات المؤتمرين في الرياض مأخذ الجد، فأهل مكة أدرى بشعابها، وتوصياتهم معقولة، بحيث لا تتجاوز التأكيد على: وحدة العراق، وأمنه، وتسليمه لأهله، وتمثيل كل طوائفه، وتبرئة سوريا مما وجه إليها من اتهام، يرمي إلى تهيئتها لمواجهة لاحقة، أو يشغل الرأي العام عما يُفعل في العراق. وليس هناك ما يمنع- وقد سقط صدام حسين- من أن ينزع سلاح الدمار الشامل، إن كان ثمة ترسانات في جوف الأرض، وعندها تنتهي مبررات الغزو وحيثياته، وجيوش التحالف حققت كل الذي جاءت من أجله، وليس لها بعد هذا إلا الرحيل. وإن كانت ثمة أطماع أخرى، فإنها لن تتحقق بالثكنات العسكرية، ولا بالحاكم العسكري اليهودي، ولا بالإرغام على الاعترف والتطبيع مع العدو الصهيوني. والحسابات بهذا المستوى دخول متعمد في دهاليز المقاومة العنيفة، وصناعة متعمدة للإرهاب الشرس، مع سبق الإصرار. لقد خرج العراق من مأزق مظلم بسقوط حكومته، حكومة الحزب الواحد والرجل الواحد، وارتكس في مأزق أشد حلكة بالوجود العسكري على أرضه. وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تمارس واجباتها القومية والدينية في انتشال جثته من مستنقع الفتن، وعلى أمريكا أن تعرف أنها دخلت في نفق مظلم، لا تضيء عتمته الترسانة العسكرية، إن كانت بوجودها تريد أن تظل لإعادة صياغة الشرق على عينها، فإن هذه المغامرة ستحول المنطقة إلى بورة فتن، تدمر نفسها ومن حولها، وعليها أن تنظر إلى ما فعله «شارون»الذي تصور أن الترسانة العسكرية قادرة على تركيع الشعب الفلسطيني.
ومما لا مراء فيه أن سقوط النظام شر أزيح عن كواهل العراقيين والكويتيين معاً، ولكن الفراغ الدستوري والوجود الأجنبي شر مستطير، وكم من متسائل يردد:- أشر أريد بمن في العراق أم أريد بهم رشد؟ هناك اختلاف غريب وعجيب في وجهات النظر، وفي قراءة الأحداث، هذا الاختلاف المتنامي يجتال الخطابات العربية: الرسمي منها والشعبي، وهناك إلى جانب الصخب صمت الخائف وترقب المرتاب وهناك تناقض في الرؤى والتصورات لا يحتمل، فمن محيل إلى السننن الكونية، ومن معول على الخوارق، ومن مراهن على جواد القوة، ومن حالف على جواد الإرادة، ومن مؤمن تقي، لا يفقه الواقع، ومن مادي شقي لا يقدر الأقدار ولا نقمة الملك الجبار، ومن متحدث عن الوجه المشرق لأمريكا، ومن متفائل بهذا الغزو. وليست هناك وسطية يتفيأ ظلالها المتعبون من تداخل الأطياف. وبوادر هذا التناقض والاختلاف. لا يبشر بخير، ذلك أن أصحاب القرارات المؤثرة لن يستدبروا هذا اللغط المتناقض إلى حد التناحر فقد يجدون فيه ملاذاً ومغارات، وليس من شك أنهم الأقدر على تعميقه واستثماره، والإعلام سلطة مؤثرة، لعب دوراً خطيراً في الحرب الخليجية الثالثة، مما اضطر أمريكا لضرب بعض مواقعه، واحتلت «الحرب النفسية» الصدارة. والحرب الباردة معادل قوي للحرب الساخنة، ومن استخف بالكلمة، أضاع فرص المواجهة المحكمة. والذهنيات الفارغة حين تشكلها الدعاية الرسمية أو المتطوعة تصنع العجائب. والحكومات الخائفة من الداخل والخارج لن تجد الظروف المناسبة لاتخاذ القرارات المصيرية، وستظل في حيرة من أمرها على حد:- «أمي وصلاتي» والأجواء العربية المكفهرة، غير مهيأة لاتخاذ قرارات مؤثرة، فلكل دولة شأن يغنيها، والاختراقات الصهيونية والغربية أجهضت كل المساعي الخيرة، والإعلام الموجه ليس بقادر على الاستبداد، والذهنية المشتتة ليست بقادرة على الفرز، ولسنا ببعيدين عن التعبئة الذهنية أيام «الجهاد الأفغاني» الذي استجاب لرغبة أمريكا، وأسقط بالنيابة عنها «الاتحاد السوفيتي» ولم تستطع أمريكا بعد أن لعب دوره من تفكيكه، حيث اتجه إليها بوصفها دولة معادية للحضارة الإسلامية. والفراغ الذي تشكل في أعقاب السقوط المفاجئ للحكم في العراق، واحتدام الجدل بين المعارضة العراقية في الداخل والخارج، واحتقان الطائفيات والعرقيات واضطراب الرأي العام، كل ذلك ومثله معه، يشكل مآزق بعضها فوق بعض كما الظلمات وهذه الحرب التي باركها قوم، واستبشعها آخرون، اعتزلتها «الشيعة» وآزرها «الأكراد» وبقيت دول الجوار تفكر، وتقدر، وتعد وتتوعد، وكل واحد من هؤلاء وأولئك يقول في داخله:- اللهم سلم سلم.هذه الحرب غير الشرعية، ستخلق إشكاليات مستعصية، ولكل لعبة ذيولها الأكبر منها، وما «صدام حسين» إلا لعبة اختل تركيبها، فنمت نمواً عشوائياً، كما الأورام السرطانية.
إن باستطاعة أمريكا، وقد تمكنت من تفكيك ذيول اللعب أن ترضى من الغنيمة بالإياب، وتترك ولو مفحص قطاة للمؤسسات العربية والعالمية، لكي تسهم معها في صناعة الحكومة المعتدلة المتزنة الموالية، ولن تتخطى المأزق الحرج بالأثرة، ولكنها مع هذا لم تفعل، ولا أحسبها تفكر، لأنها لا تستطيع إشراك من لم يشاركها على المكاره، كما أنها لن تستطيع البقاء في العراق على مسمع ومرأى من الناس. فالعراقيون لن يقبلوا بالوجود الأمريكي، ولا بالحكومة «القرضاوية» المفروضة عليهم. ولن تجد أمريكا حاكما دموياً مسعوراً ك «صدام حسين» يسوم العراق سوء العذاب. وأحسب أن حكومة يختارها العراقيون بمحض إرادتهم لن تكون مراعية لمصالح أمريكا في الشرق بالقدر الذي تطمح إليه، ويحقق حلم الصهيونية العالمية، والحكومة التي تشكلها أمريكا لن تكون مقبولة لا من العراقيين ولا من العرب، وأمريكا في تجربتها العادلة مع دول عربية ما يبعث على الأطمئنان، لو أنها اتخذت سبيلها إلى مصالحها بالتي هي أحسن متخلية عن مغامرات اليمين المتطرف.
والشائع مظهراً ومخبراً أن العرب بمجملهم غربيون وحتى في زمن المد الشيوعي الذي ظاهره إعلام متفوق، وكثافة بشرية، لم يكن أحد من العرب متشرباً للماركسية، وإنما كانوا متصنعين وإعلاميين، والذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، تحولت سوحهم إلى حمامات دم، وقامت بين فصائلهم حروب أهلية عنيفة، ساقتهم جميعاً إلى مزبلة التاريخ. ومن المسلمات أن:
- الاقتصاد العربي غربي رأسمالي.
- والمدنية العربية غربية.
- والهوى العربي غربي. وواجب أمريكا ألا تفرط بهذا المكتسب، الذي وضع بذرته «نابليون» وتعهدته البعثات والترجمات والمبشرون والمستشرقون والمستغربون. وعلى أمريكا ألا تميل إلى الأثرة، وألا تصيخ للأصولية والصهيونية، فالزمن لا يحفل بالعنف والعنف المضاد، وشركاؤها الأوربيون، لن يسلموا لها بالغنائم، ويعودوا بالمغارم، والموتورون منها، والخائفون من مخططاتها، سيدعمون أي مقاومة، والجيش المتفوق يرتبك أمام فوضى المواجهات، وأمريكا من قبل التدخل العسكري مستأثرة بالكثير من المصالح، وأصدقاؤها التقليديون أوفى منها، وأي تحول من طرفها، سيعكر صفو العلاقات، ومزيد المكاسب الذي تطمح إليه ستنفقه على حماية مصالحها التي لمَّا تزل مستهدفة. لقد دخلت أمريكا في مآزقها منذ أن جُرحت كبرياؤها في الحادي عشر من سبتمبر، ولما تفق بعد من هول الصدمة، وما من أحد قدَّر وقع الصدمة عليها، ولهذا استغرب الجميع تدخلاتها العسكرية، التي لم يجارها فيها أصدقاؤها الأوربيون.
وأوربا بوحدتها الإقليمية تنازع أمريكا الزعامة، وتقاسمها المصالح، لقد اختطت لنفسها موقفاً متزنا، قد يكون في صالحها. ثم إنها تحقق نجاحات إقليمية واقتصادية مذهلة، في تقاربها وتعاونها واتحادها، مما يشكل معادلاً قوياً، وشريكاً مؤثراً في الأحداث العالمية، ودول شرق آسيا تسابق الزمن في التحدي الصناعي الاقتصادي. وما لم تتدارك أمريكا الأمر، وتعتمد على قوة العقل والعدل، وتعد تحسين صورتها، وتطهير سمعتها، وما لم تفق من هول الصدمة فإن الفرصة الذهبية متاحة لأوروبا، وبخاصة بعد الحرب غير الشرعية التي خاضتها منفردة، وبدون غطاء قانوني، ولا أحسب العرب قادرين على مزيد من الصمت، ولا على مزيد من التهميش، وبخاصة حين يتفاقم غليان الشارع العربي، وحين تتعرض مصادر الثروة عندهم للخطر، أو حين تمتد اللعب إلى إنتاجهم القومي ومصدر أمنهم الغذائي، ولا أحسب أمريكا قادرة على احتمال المتاعب التي تعرضت لها في سوح القتال، وفي المشاهد السياسية. وإذ يكون العراق مغدوراً يتشحط بدمائه، ويغالب سكرات الموت، فليس من المعقول أن يظل العرب بكل مؤسساتهم وبكل أرصدتهم القومية التي أتخمونا بها خارج الحدث، وتلك لا شك مآزق محرجة لكل الأطراف. فأمريكا تضع يدها على الزناد، وليس لديها فرصة لتداول الرأي مع الآخر، والعرب مصابون بوهن الفرقة وفشل التنازع، والوضع القائم لا يمكن احتماله. فمن الذي يملك المبادرة، لإقالة العثرات، وفك الاختناقات، وتجاوز المآزق المتنامية؟ هذا الخيار بحد ذاته يعد مأزق المآزق.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  


قديم(ـة) 25-11-2006, 08:43 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق..!
د.حسن بن فهد الهويمل


2/2
وأطراف الإشكالية: الغرب، والعرب، والعراق، ومن ورائهم أطراف أخرى، تتمثل بما بقي من العوالم: الإسلامية والغربية والشرقية، ودول الجوار، كل أولئك يعيشون حالة من التوتر والترقب الحذر. وليس أحد منهم بقادر على فك الشفرة، فكل شيء بعيد قريب، والمحير سقوط الحكومة، واختفاء رموزها، ثم تساقطهم الواحد تلو الآخر، وإلحاح بعضهم على الاعتقال، لحقن دمه، وعدم الرغبة الملحة في العثور على سلاح الدمار الشامل ورأس الفتنة. وإذ يغيب الطرفان المشرعنان للحرب: رأس النظام والسلاح، أو يغيبان، تظل المأزقية قائمة، ويظل معها الناس في أمر مريج، ولن يجرؤ أحد على إثبات ما لم ترد الرؤوس المدبرة إثباته، وإذا كانت أمريكا تعيش سكرة الانتصار العسكري، وذهول الصدمة «السبتمبرية» فإن الوقت ساعات حبالى يتمخضن عن مفاجآت معضلات، وستكون يوماً ما أحوج ما تكون إلى من ينتشلها من مستنقع الفتنة، ويخفف عنها أعباء المسؤولية الجسيمة. فملء الفراغ الدستوري الذي خلفه غياب السلطة في العراق بالشكل المقبول عزيز المنال، وإعادة القدر الكافي من البنية التحتية التي دمرتها ثلاث حروب شرسة، وديون العراق التي نيفت على مائة مليار دولار، لاتحتمل المزيد من الالتزامات. ولن تنفرد أمريكا بملء الفراغ، وإعادة البناء، وحل إشكالية الديون، وأصدقاؤها الذين لم تُطع لهم أمراً في الشأن العسكري، لن يكونوا معها كما تريد في شأن الإعمار وفك الأسر على الأقل. وفوق هذا وذاك فإن العالم بأسره يتجرع مرارة حربين شرستين، أدتا إلى إسقاط عقيدتين: فاحتلال العراق للكويت، أسقط رهان (القومية العربية) وحرب أمريكا الخارجة على الشريعة، أسقطت رهان الحرية والعدل و(الديمقراطية) الغربية.
- العرب فقدوا مصداقية: القومية.
- والعالم فقد مصداقية: العدل والحرية و(الديموقراطية).
وبقي ركام الكلام الذي قاله المفكرون القوميون عن حتمية العقيدة القومية، وركام الكلام الذي أطلقه المستغربون عن إنسانية الحضارة الغربية وعدالتها، دونما قيمة.
وأدرك المتهافتون على سرابيات الحضارة الغربية أنه أسقط في أيديهم، وانقلبوا خاسرين، والطرفان: الغرب والشرق ستكون أمامهما خيارات، كل واحدة منها أعقد من الآخر، ولابد لهما من لغة إعلامية مطمئنة، لا لغو فيها، ولا تأثيم، وتحرف سلطوي دستوري متوازن، يعيد المشاهد كافة إلى سواء السبيل، ويحقق أدنى حد من المعقولية والمصداقية. وكل من استعاد لغة الأمس، متصوراً أنها ستفعل فعلها السالف، سيمنى تحرفه بالفشل، ذلك أن العذاب المستطير الذي تجرعته الشعوب العربية، كشف لها زيف اللغة الإعلامية، ومحاولة تشفير الذهنيات، لتقبل الواقع المرير، لم يعد أمراً هينا، لقد سقطت كل الأقنعة، وتعرت كل الزيوف، ولم تعد الأذن العربية مهيأة لقبول كل مايقال.
وإذ تكون تلك الحرب الخارجة على الشرعية بتدبير ومكيدة ومباركة من اليهود الذين ينتابهم الذعر، ويحسبون كل صيحة عليهم، وبتنفيذ متسرع وغير مسؤول من دول كبرى، وقعت تحت تأثير الأصولية اليمينية المتحزبة على الأمة، فإنها تذكرنا ب (غزوة الأحزاب) التي تنادى إليها كفار الجزيرة العربية من الشمال والجنوب والشرق والغرب (قريش) و(بنو سليم) وقبائل (غطفان) و(بنو مرة) و(بنو أشجع) و(بنو فزارة) و(بنو أسد)، وإذا كانت الآيات هي الآيات، فإن الرجال غير الرجال، ومثل هذا التكالب المتعجرف المتغطرس قد أعاد التاريخ، فإنه سيترك ظلاله القاتمة المأزومة على الذهنية العربية المشلولة، مشكلاً عقبة في طريق الحلول المجحفة التي يتأبطها صناع القرار، ودافعاً إلى مزيد من العناد والمغامرات والانفجارات، مشكلاً مزيداً من الأزمات الطاحنة. والأمة العربية التي أخرجت الاستعمار (البريطاني) و(الفرنسي) و(الايطالي) بملايين الشهداء، لن تقبل به آتياً تحت أي مظلة، وسوف تكون مستعدة بدفع الثمن مضاعفاً، وسيطفو على السطح في ظل هذه الممانعات لاعبون تحركهم الثارات، وليس هناك مايمنع المقهور من أن يتحالف مع الشيطان، ولا أحسب المؤسسات السياسية بقادرة على التحكم بالرأي العام، ذلك ان الامتعاض الذي فاض معينة، لن يكون من السهل ترويضه، ولن يكون للاستعمار موطىء قدم مرئي، ما لم يمكن له طرفا القضية: السلطة والأمة. وكل منهما وجل من الآخر، وحتى لو خدمت الظروف العائد الجديد، فإن الثمن سيكون باهظاً على الطرفين. والأهم من كل هذا وذاك وعي النخب الذين غنوا للقومية العربية وللحضارة الغربية معاً، ثم فوجئوا بغدرهما، هل سيتحرفون لتجاوز عقابيل الإخفاقات. ومما لاشك فيه -ومن خلال المنظور القريب - أن الذين خاضوا الحروب، وخسروا الرجال والأموال والسمعة، لن يرضوا بالحلول الوسطية، التي تحق الحق، وتبطل الباطل. وكيف لعربي أن يحلم بالإنصاف، وهو غارق إلى أذنيه في وحل المكائد الصهيونية، والأطماع الغربية، التي استغلت الضعف والتخلف والتفرق، وقوت من جانب الطابور الخامس. والحكم البائد في العراق الذي شرعن بتصرفاته المناقضة لأبسط الأعراف لكل مكيدة، راح ضحية صلفة وجهلة بأبجديات السياسة. والمأزق الأصعب في إمكانية عودة البقية من كل الأطراف المحتقنة بكل قابليات الانفجار من: معارضين وطائفيين وعرقيين إلى الصف العربي، لبدء رحلة شاقة، تضمد الجراح، وترأب الصدع، وتجمع الشتات، وتمكن العراق من أخذ مكانه الطبيعي، محتفظاً بوحدته الإقليمية وتجمعه البشري. ومن تصور أن سقوط النظام العراقي يعد نهاية المشكلة فقد وهم وأوهم. الخطوة الأولى في الطريق إلى الهاوية اختفاء العصابة الظالمة، التي أذاقت الشعب مر العذاب، ثم جاءت الصاخة، على يد قوة أجنبية أمطرت الشعب العراقي بوابل من الحمم، أحرقت الأرض، وشوت الوجوه، وتعمدت طمس الذاكرة والتاريخ والحضارة. وقدر الأمة الأتعس وقوعها تحت قيادات تحرض على نفسها، وتثير اشمئزاز الآخرين، وتحملهم على قمع كبريائهم الفازعة المصطنعة، وحين يجد الجد، تتخذ تلك القيادات من الشعب الأعزل دروعاً بشرية، تختفي وراءه، هذه الظواهر غير السوية تؤزم الأزمات، وتضع الأطراف في مآزق حرجة. وفي لجة المشاكل وعتوها فإن هناك تصورات للأحداث متباينة، وقراءات متعددة لتداعيات الحروب الأهلية والحدودية والتحريرية، لو صدق أكثرها تفاؤلاً، لكانت كارثة تواجه الأمة العربية. ومهما حاولنا محاصرة التشاؤم والقلق، فإننا لا نستطيع الإغماض على أهداف مخيفة، يلوح بها المعنيون والمراقبون، وتزحف بها فلول الأحزاب البائدة. وتحت وابل الضربات المتلاحقة، وتتابع المكائد العظيمة، واللعب المكشوفة، فإن الأمة العربية لما تزل في حالة من الذهول والارتباك، ولم تتخذ أي موقف جاد، يخفف من المعاناة، ولما تلح في الأفق بوادر وفاق، يضع كل المشاكل تحت الأقدام، ليمكن الأمة من مواجهة قدرها المأزوم بروح جماعية متفائلة، وأسلوب موحد، ذلك ان ذيول الحرب الشرسة ستنسحب على كل مصالح الأمة، ولاسيما أنها تعيش على حافة الانهيارات الاقتصادية والأمنية. فالأزمات مستفحلة، والجبهات الداخلية مأزومة، والعنف على أشده، والخطابات متناحرة، حتى لاتكاد تجد رجلين على قلب رجل واحد، والغرب القادم على مطايا القوة، له أطماعه ونواياه المخيفة، التي لا تواجه بمبادرات فردية، ولا بقرارات فورية.
فالحرب التي تولت كبرها أمريكا، لايمكن ان تكون تطوعية، ولا إنسانية، وليست وقفا على تحرير العراق، وتدمير السلاح. والمليارات التي استنزفتها تلك الحرب، لن تتحملها الخزينة الأمريكية وحدها. والتحدي السافر للشرعية الدولية، وتقديم القوة العسكرية على القوة القانونية، لايمكن ان تحرض عليها أسلحة الدمار الشامل، ولا دكتاتوروية (صدام)، فكم في العالم من أسلحة مدمرة، وكم فيها من حكام ظلمة، ولاشك ان وراء الأكمة ما وراءها. وإذ نكون سعداء بسقوط النظام العراقي، لما يشكله من أعباء على المنطقة الخليجية، وعلى الأمة العربية، فإننا لا نرى ممارسة الوصاية، ولا أن تتولى دولة كبرى عملية إسقاط الحكم، وحين لا نختلف حول النوايا والمطامع، فإن الأمر يتطلب من المعنيين تصرفاً حكيماً، بعيداً عن المثاليات والعنتريات والغوغائيات، وهو ما لم تهيئ الأمة العربية نفسها له، ولا قيمة للمزايدات التي نسمعها بين الحين والآخر، على مستوى الزعماء السياسيين أو الحزبيين أو الدينيين، فلقد سمعنا الكثير الكثير، ودخلنا في رهانات خسرناها، قبل أن يجف المداد، وكم زايد على المثاليات من لاينطوون على مثمنات، ومن يمتلكون أكثر من نافقاء، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، نفذوا بجلودهم، تاركين الأبرياء يتجرعون مرارة المجازفات والمغامرات المجنونة، وذلك ما يفعله الجهلة المتهورون، والأضوائيون المفوهون، وأدعياء المواقف، ممن لايحسنون صنع القرارات، ولاتنفيذ المخططات، ولا فقه الواقع، ولا احترام المصداقية. لقد كان بإمكان العراق في الحرب الثانية أن يخرج من الكويت، مفوتاً على العالم بأسرة الضربة القاضية، ولما لم يحسن التصرف، وهو كذلك منذ أن خلقه الله، فقد دمرت ترسانته، وأحرقت أرضه، واقتيد كما السائمة إلى خيمة في (صفوان) ليوقع على بياض، ملتزماً بما لايقدر عليه من غرامات، قابلاً التجرد من كل سلاح مرهب أو رادع، وهو قد فعل أسوأ من ذلك في الحرب القاضية، وقد يفعلها غيره. والأمة العربية وسط هذه النكبات والنكسات، تعيش حالة من الغياب، أو التغييب، فالدول الكبرى تتداول وضع العراق، فيما بعد الحرب، وكل دولة أوروبية تتقدم برؤيتها أو تحفظها أو اعتراضها. وكأن العراق غنيمة أو فيء يقتسمه المجاهدون في سبيل الحضارة الإنسانية والحرية، والدول العربية ليس لها أي دور في عراق ما قبل الحرب، ولا فيما بعده، وجامعتها تصارع ذاتها، وتعيش حالة من التوتر، وخلافها مع بعض الدول الأعضاء، حفزهم على الامتناع عن دفع حصتهم، وهي مع هذا الوضع الطارئ في أحلك الظروف، لا تستطيع أن تكون شريكاً في تقرير المصير العراقي، وكيف لها أن تفكر، وهي بعد لم تقرر مصير نفسها. وغياب الأمة ومؤسساتها، واكتفاء كل دولة بتصريح استهلاكي، لايسمن، ولايغني من جوع، يشكل مأزقاً حرجاً، والمأزق يشتد ضيقا حين لا تلوح في الأفق بوادر وفاق عربي مؤقت، يدفع بكلمة واحدة، تحمل الحلفاء على التفكير بحل يقترب من الإنصاف، ولايكونه. ومع الويلات المتلاحقة، فإن الحلفاء الذين دمروا الآلة العسكرية والبنية الاقتصادية في العراق، أشعلوا فتناً عمياء، سيكون لها مابعدها، فمن سيحكم العراق؟ وبماذا سيحكم؟ - وذلك موضوع قادم-. وفي بؤرة التوتر، وعلى حافة الهاوية، يجب على أمريكا ان تفعّل دور العرب، وأن تكرههم على أن يؤدوا أيسر الأدوار، لتهدئة الشارع العربي، وليس هناك ما يمنع من أن تتقنع بهم، لتجتاز بالمنطقة ويلات (اللاسلم) و(اللاحرب)، وعلى العرب ان استؤمروا، أن يمارسوا الوسطية، وأن يجنحوا للسلم كافة، وان يعطوا أمريكا شيئاً من الثقة والاطمئنان، فالواقع المرير لايحتمل المزايدات الكلامية، ومنطقة الخليج لا تحتمل حرباً رابعة، وحين نستبعدها، فإن أمريكا لن تجد بداً من ممارسة الضغوط الاقتصادية، وتحريك العبوات الناسفة من مشاكل: طائفية وحدودية، وحزبية، وبخاصة ان الأوضاع القاتمة في المنطقة العربية قابلة للاشتعال، والإشكالية، بل أم المشاكل على سنن (أم المعارك) و(أم القنابل)، تكمن في تحديد المآزق، ووضع الحلول المرحلية المناسبة، وتنكب المزايدات، وتوعية الشارع العربي، والكف عن تملقه وتخديره أو تهييجه، والتحرك وفق السنن الكونية، لا وفق الخوارق، فالله جعل النار برداً وسلاماً على (ابراهيم)، وفلق البحر (لموسى)، وأخرج (يونس) من بطن الحوت، و(يوسف) من غيابة الجب، وسخر الريح (لسليمان) وأمد (محمداً) بالملائكة المردفين، ونصره بالرعب، وهو القادر والقاهر فوق عباده، وليس الجبروت الأمريكي بمعجز في الأرض، والله وعد بالدفاع عن الذين آمنوا، ولكن أحداً من المغلوبين لم يفرّ إلى الله، ولم يدخل في الدين كافة، ليتعرض لنفحات الله، وإذا أصاب الأمة قرح، فقد أصاب عدوهم قرح مثله، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس، فهل نحن فيما نحن عليه مؤهلون لمدد الله؟ وهل استكملنا العدد والعدة، إن علينا التفكير بخطاب يعلم، ولايزيف، ويؤلف ولايفرق، ويطمئن ولا يهيج، ويعطف الخصوم ولاينفرهم. الأمة العربية تنطوي على إمكانيات مهدرة أو مهملة، وأمريكا تمتلك قدرات متعددة، وهي إذا قالت فعلت، ومن واجبنا أن نقدر ونوقت، وأن نكف عن خطاب المزايدات والمواقف الزائفة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:44 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
البابطين في ضيافة الصالح..
د. حسن بن فهد الهويمل


عهدي برجل الأعمال عبدالعزيز البابطين يوم كنا محظيين عنده نحضر تظاهراته الثقافية في دمشق والقاهرة والكويت، وبعد أمة سكنت الرياح وما عدنا نسمع الا اخبار مبادراته الايجابية التي نحمده عليها ونغبطه على ايْسرها ونود لو ان رجال الاعمال في بلادي اتخذوه قدوة وبعضهم يفعل فوق ما يفعل ولكننا نطلب المزيد.
والبابطين الذي يكرمه الاستاذ الكبير والمربي القدير الشيخ عثمان الصالح كأنه علم في رأسه نار، يعرفه المسكونون بهم الثقافة والادب لاسهاماته الايجابية في خدمة الفكر والثقافة، ومع اننا نود ان يكون اكثر انفتاحاً واوسع استيعاباً لمختلف الخطابات ونحرص ان يعدل في الظماء فاننا نثمن جهوده ونقدر عطاءاته، ونعد هذا مؤشر تحضر ووعي والذين يعنيهم الشأن الثقافي ليسوا بحاجة الى من يذكر طرفاً من انجازاته على كل المستويات الثقافية والفكرية والادبية، غير اننا ومن باب شد ازره نبدئ ونعيد اطرافاً من اسهاماته التطوعية، وكم نود لو كان فيما يعمل قدوة للمترددين من اصحاب الدثور.
لقد هاتفني الاخ الكريم الاستاذ بندر بن عثمان الصالح لتأكيد الدعوة التي بعثها متفضلاً ومناشداً ان اشارك في الحديث عن الضيف ومنجزاته المتميزة لعلمه انه يهمني الشأن الثقافي، ولما لم اكن قادراً على حضور هذه الاحتفالية فقد حرصت على الا تفوتني المناسبة ولو بكلمة من بعيد.
والاديب الاريب عبدالعزيز بن سعد البابطين له علينا حقوق كثيرة فهو الشاعر الرفيق، الذي اصدر ديوانه الاول «بوح البوادي» واسهم في خدمة الشعر العربي الحديث بموسوعته التي تشكل مرجعية للباحث العربي، ولما نزل نرقب مزيداً من الموسوعات، ومزيد من الشمولية في خدمة الادب العربي، فلقد قيل لي بأن مؤسسته تهتم بجانب منه ولما يتحقق لي ذلك، ورجل كريم مثله يجب ان يكون مشرع الابواب متعدد الاهتمامات حفياً بكل كلمة شعرية او ادبية تخدم ادب الامة.
الشيء الذي اسعدني كثيراً اهتمام المشاهد الادبية والفكرية والاكاديمية به ومنحه الشهادات والاوسمة وتنظيم الحفلات التكريمية تقديراً لجهوده، ويأتي تكريم الصالح له حلقة في سلسلة التكريم الذي يلقاه من مؤسساتنا الثقافية والتعليمية.
ما اود الاشارة اليه وقد طالت افضال الرجل مواقع كثيرة ان يهتم بأشياء من اهمها:
اولاً: الترجمة فالعالم العربي يفتقر الى مؤسسات اهلية او حكومية للترجمة وما هي الا جهود فردية مبتسرة.
ثانياً: «المصطلح» العالم العربي يعيش حالة فوضوية في تلقي المصطلحات وترجمتها وقد يكون للمصطلح اكثر من تعريب او ترجمة او نقل. ولو وضع للمصطلح مجمع او مركز معلومات وطلب من ذوي الشأن والمهتمين بشأنه الوفود اليه والانطلاق منه، ولقد كان المصطلح ولايزال اشكالية المشاهد الفكرية.
ثالثاً: التشرذم الفكري والسياسي والادبي والثقافي والدخول في مآزق الصراع والتنازع، والمشاهد المضطربة بحاجة الى جهود جماعية توسع ارضية القواسم المشتركة وتسهم في التقليل من حدة التنازع. ولقد فعلها الامير الشهم خالد الفيصل بمبادرته الانسانية «مؤسسة الفكر العربي».
والامل معقود على لداته وامثاله ليهتبلوا مبادرات مماثلة تسهم في لم الشمل وجمع الكلمة ورأب الصدع والعودة الى مرجعيات الحضارة الاسلامية والانطلاق منها فهي وحدها القادرة على معالجة المشاكل القائمة.. ولقد طاف المفكرون العرب في كل آفاق المعرفة، وجربوا كل المبادئ فكانت القوميات والعلمانيات والحزبيات ولم يبق الا ان ينسوا جراحات الماضي ويفتحوا صفحة جديدة تسهم في تضميد الجراح وجمع الكلمة ولا احسبهم جميعاًً الا صفوة الصفوة ولن تجتمع كلمتهم الا على مصادر الثقافة والحضارة الاسلامية فهي وحدها القادرة على تلافي ما فات.
تحية حب وتقدير للضيف العزيز وشكر وثناء لمن ناب عن الجميع في تكريم كفاءات الوطن العربي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:45 PM   #4
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
قل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة..!!(2/1)
د. حسن بن فهد الهويمل


الحالة الراهنة في الوطن العربي حالة استثنائية قلقة، لا تحتمل أنفاساً كريهة، ولا تنقيباً عن نوَّم الفتن، وإنما تقتضي تحامي مناطق التماس، وتوقي مكامن الإثارة، وتحتم استدعاء القواسم المشتركة، والعمل على تقوية الروابط من خلالها، والعفو والصفح، وتجافي المحظور والمسكوت عنه، والكف عن النيل من أقوام بأعيانهم، تغليباً للمصلحة المرحلية، ولماً للشمل. ومثل هذه الظروف الضاغطة مجال خصب للانتهازيين، الذين يبيّتون مالا يرضى من القول. وحين يجازف الفارغون من فقه الواقع، والمفتقرون إلى أدنى حد من الثقافة الشرعية في اقتحام الحمى، والخلط بين مواجهة المبادىء والإجراءات والوقوعات، ينتفض الرأي العام، المحتقن من ضغوط الواقع، وينتقض غزله، ويتفكك ترابطه، متصورا أن مثل هذه المفرقعات الفارغة قادرة على تحويل المسار، وما هي في حقيقة الأمر إلا تجشؤات من فراغ، لا تقدم، ولا تؤخر ولكن كيف يتأتى لك إقناع الرأي العام، وتبشيره بطول السلامة كما «مربع»؟ وفي ظل التداعيات المزعجة، يحس المقتدر أن التوتر وردود الفعل الانفعالية قد بلغت حداً لا يحسن معه السكوت، ومن ثم وجبت الموعظة: إما للهداية، أو للمعذرة، على حد {مّعًذٌرّةْ إلّى" رّبٌَكٍمً وّلّعّلَّهٍمً يّتَّقٍونّ} ومع هذه الزوابع الكلامية، التي تكاد تحجب الرؤية، ترددت كثيرا في مقاربتها، لأنها زوابع متربية، اختلط فيها الجد بالهزل، والحق بالباطل، واللغو بالسَّبِّ، ومما صعد الشعور بالتردد أن تجربتي مع ذات الكتبة البائسين بؤس مراميهم تجربة سيئة، لا تشجع على مزيد من المقاربات، غير أن ترك الثنيات يتسلل منها الخائضون في سمعة الأبرياء والمتحرشون بالمبادئ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إغراء بمزيد من التجاوزات، وكم كان بودي توفر الأجواء المناسبة للحوار المهذب، لنصل بقضايانا إلى بر الأمان.
ومما حفز على القول تنادي الأشباه والنظائر، واتخاذ بعضهم بعضا ظهرياً لمنع المدافعين عن أنفسهم، على الرغم من لغطهم بحرية الرأي، وتكافؤ الفرص، وذلك عين المقت. ومع كل المحاذير والتحفظات، يظل رد المسيئين لغيرهم من الأناسي والقضايا على أعقابهم واجباً عينياً لا كفائياً، وبخاصة حين تمتد الأذية للمبادىء. وإذا قوي المرتاب بارتيابه، فإن على صاحب اليقين ألا يضعف بيقينه. ومتى بادر المهتاج الأعزل إلى النيل من قناعات المقتنع مبتدئاً تعديه، ولم يتهيب من جرح المشاعر، وكان المتأذي قادراً على دفعه، تعين ذلك، ولكن بالتي هي أحسن، دون الإحالة إلى ما يسيء إليه، ودون النفي المتعمد له، أو مصادرة حقه في البرهنة عن وجهة نظره، إذ إن مطارحة الأفكار حق مشروع، ولا يتحصحص الحق إلا بالحوار المتوفر على برهانه وآدابه ودواعيه المشروعة. مع استشعار أن الخطأ ابتداء، لا يحمل على الإدانة. وأن الإصرار عليه بعد ما يتبين وجه الصواب، يقتضي ممارسة الحق السلطوي، فالناس لا يستقيم أمرهم مع الفوضى. ومن تصور أن حرية الرأي تبيح الخوض في كل شيء، والإيغال في أعراض الآخرين، وجب تعليمه بالطريقة التي يفهم من خلالها.




فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً
فليقس أحياناً على من يرحم


ومن مات، وليس في رقبته بيعة، مات ميتة جاهلية، وتحمل البيعة تحمل لتبعاتها، ولهذا سميت الولايات بالسلطات، والإيمان بالعقيدة وهي عقد. والواقع في الخطيئة: جهلاً وتأولاً وتعمداً وإصراراً، للمجادلة معه ثلاث حالات:
فإما أن يكون طالب حق، لم يهتد إليه، ومن واجب المجادل أن تهديه سواء السبيل.
أو يكون طالب باطل مصراً عليه، مدركا خطورته أو غير مدرك، ومسؤولية أهل الذكر والحل والعقد أن يبينوا له خطورة مطلبه، فإن امتثل وإلا وجب على السلطة رده إلى الجادة.
أو يكون عاشق أضواء، يريد ان يكون حاضر المشاهد، وحديث المجالس، متقناً انتهاز الفرص المواتية، مستغلاً الظروف العارضة، وواجب الناصحين أن يخاطبوا الدهماء الذين يخلقون بالتفافهم حوله بطلاً زائفاً لا قيمة له، لينفضوا من حوله.
وأيا ما كان الأمر، فإن طائفة من الكتبة يتقنون لعبة الإثارة والقفز إلى بؤر الأضواء، وليس يعنيهم ما يقال بحقهم، ومثل هؤلاء لا يتورعون من الرتوع في الأعراض المصونة، ولا يعفون عن العناد والتعدي والإيذاء، لفقدهم المثمنات واستسهالهم الهوان، والمتعقب لما تتداوله صحف الإثارة من اندفاعات فجة في الدين والسياسة والفكر والأدب والثقافة ينتابه الخوف. فالمشاهد حفية بكل متقول لا يهاب يوم الحساب.
ومشاهد الفكر والسياسة والدين لا تصلح فوضى لا ضابط لها، وتقحم الجهل والمبتدئين ، وأنصاف المتعلمين، ومثقفي السماع إرباك لمسيرة الحياة الفكرية، والواقعون تحت طائلة الأمية التخصصية، يهرفون بما لا يعرفون، ويعولون على نخبوية خاوية، وفهم سقيم للحرية.
والمشاهد الإعلامية لا تخلو أبدا من أناس يستعذبون إثارة الرأي العام، وشد انتباهه، وإرباكه، وذلك بالخوض في مسلماته، دون مصلحة مرجوة، كما لا تخلو من دعاة على أبواب جهنم حذر منهم رسول الهداية. والموغلون في المواقع الحساسة، يعرفون حجم الإساءة، ولكنهم ك «الساديين »الذين يلذ لهم التعذّب والتعذيب، والخطورة أنهم كالمستهمين على السفينة، إن تركوا يخرقون في نصيبهم غرق الجميع. والمهتم بالمثمنات والقيم، يسوؤه أن يخوض فيها من لا يقدرها قدرها، ومن لا يقتدي برسول الهداية واللين والرفق، المراعي للرأي العام، المتجنب لإثارته، والمبقي على المفضول إيثاراً لتهدئة الأمور، وقد فعلها بأبي هو وأمي، حين دخل مكة. والذي لا يعرف خطورة الإثارة، ولا يخشى عواقبها، يظل ناقماً ومنقوما عليه، ولما يزل تتخطفه صحافة الإثارة وقنوات الضرار، معولة على حرية التعبير، وحرية التعبير تتحقق فيما دون القطعيات والثوابت، وفيما دون المعلوم من الدين بالضرورة، وبئست حياة يكرهها شهود الله في أرضه، ويكرهون انبعاثها، وكفى بالمرء عيباً ألا يعرف حدود حضارته، التي هي في النهاية حدود الله، ولا يمكن تصور حضارة أو سلطة بدون خطوط حمراء، ومن تصور الحضارة والحرية بدون حدود فقد ضل سواء السبيل. والتعدي على الحرمات تحت مظلة الحرية، تحفز المهتمين بأمر الجماعة إلى ركوب المكاره، وليس ما أكتبه قصراً على من قال في شأن «الدعوة والدعاة» بغير علم، ولكنه تصد لظاهرة تزداد يوماً بعد يوم، باسم حرية التعبير وحقوق الإنسان، كما تراها الحضارة المادية والمفوضون إلى العقل.
وما أكثر الكتبة الذين يخوضون في قضايا الدين، ويتجرؤون على الفتيا، وينصبون من أنفسهم قادة فكر وأهل ذكر، ولما يعرفوا النص واحتمالاته: الدلالية والثبوتية، أو قطعيتها، ولا قواعد الفقهاء وآلياتهم الاستنباطية، وليس لهم من شفيع إلا أنهم حملوا الشهادات العالية، أو تذبذبوا بين الإيغال في الدين والسياسة بدون رفق، ثم نكصوا على أعقابهم، وبهذا الاضطراب أو الجهل فرضوا أسماءهم كتابا مسموعين، وهم أجهل الناس فيما عدا رسيس تخصصاتهم، وأقلهم وعياً بنواقض الإيمان، ومقتضيات الحضارة التي ينتمون إليها، وأضعفهم فقهاً للواقع. ولهذا تراهم يثورون، ويثيرون، وحين تناصحهم، وتبين لهم إن الذي قالوه محض افتراء، وفرضيات مؤذية، وتعد على الثوابت، يتحرفون لمقولات جاهزة، كالتجهيل والوصاية والمزايدة، ويتحيزون لمشايعيهم كشاعر غزية، معولين على رغبتهم في الإصلاح، وما هم بمصلحين، فالمصلح الناصح يتثبت من الأنباء، ويتبين دقائق الحقائق، ويتحامى إثارة الرأي العام.
ولقد شهد أحدهم بمحض إرادته، معترفاً بمئات الاتصالات، وعشرات الكتابات الناقمة عليه، فهل كل هؤلاء البرمين من التعدي والتجني جهلة، وهو وحده العالم النحرير، والناصح الأمين؟ ولقد سبق لي أن أشرت من قبل، وأنا بصدد الرد على ذات الكاتب إلى من لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يعرفوا ثوابت حضارتهم ومتغيراتها، ومن يغطون افتقارهم متظاهرين بالتشبع بالعلم الشرعي عبر سياقهم لقاعدة فقهية في غير محلها، أو حكماً شرعياً على غير وجهه، أو حادثة عارضة أو دليلاً لا يصح. والأسوأ من هذا وذاك: اختلاف المفاهيم حول حدود الحرية، ومجالات الاختلاف، وحق الاجتهاد. ومن فاته الركب تعجل في اللحاق به عن طريق الحديث عن المسكوت عنه، معللاً تسلقه محاريب العلم الشرعي بحرية التعبير وحق الاجتهاد. والعلماء الناصحون يعرفون حقهم في القول، وحق حضارتهم التي ينتمون إليها، وتأبى كرامتهم أن ينالوا منها، تحت تأثير الحضارات المهيمنة، وأخص خصائص الحضارة «الحكومة المدنية المسلمة» و«الدعوة إلى الله» {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ} ، ومن قال بالاستغناء عن الدعوة، تعويلاً على إسلاميته أو فطرته، فهو إما جاهل أو مكابر، وكيف يتأتى له ما يريد، والقرآن الكريم استنفر من كل فرقة طائفة، للتفقه في الدين، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، وجعل الذكرى تنفع المؤمنين. والمستبرئون لعرضهم ولدينهم هم الذين إذا قاربوا قضايا الدين، حرروا مسائلهم، وحددوا مواقفهم، وأحكموا آراءهم، وفصلوا مقاصدهم. والمخفون من المعارف يعتمدون على الإطلاق والتعميم، لكي تكون أقوالهم حمالة أوجه، وما هي إلا حمالة الحطب.
وإذ يكون الاجتهاد مطلبا إسلاميا، وحقاً متاحاً، يكون من أوجب الواجبات، أن يعرف المقارب له، أنه ممارسة علمية، وأن من ضوابطه: أن يملك المجتهد شرط الاجتهاد، وآلياته، ومتطلباته المعرفية. وعلماءالأصول ذكروا ذلك، وحدودا مجالاته وآلياته وشروطه، ومواصفات المجتهد، ومن أطلق مقولة: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد». ثم أتاح الاجتهاد لكل أعزل من معرفة، وخال من ورع، فقد ضل ضلالاً بعيدا. وفوق ذلك، إن الاحتهاد لا يكون إلا في النصوص الحمَّالة. والزمن المأزوم زمن مؤسسات ومجمعات فقهية، تنظر في النوازل، لا زمن مبادرات فردية، وذهاب كل متقول بما اختلق، فذلك مؤذن بالتنازع، وفقد للاعتصام بحبل الله.
والاجتهاد: مطلق ومقيد، من حيث الإجراء والممارسة.
ولهذا يقول الأصوليون: «لا اجتهاد مع النص». والذين يتداولون مصطلح (النص) ثم لايعرفون تعدد دلالاته بتعدد الحقول المعرفية والفترات الزمانية والمذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية وبالذات مفهومه عند السلف، يتصورون أن السلف يمنعون الاجتهاد مع وجود أي نص، حتى لقد ظهرت مصطلحات «العقلانية» و«أهل الرأي» و«الظاهريين» و«النصوصيين» مع أن كل هذه الطوائف تستخدم العقل والفكر، ولكن بطرق متفاوتة، وفات المتقولين على السلف. أن «النص» الذي ليس معه اجتهاد، يعني القول الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة، مثل «لا إله إلا الله» فهذا نص لا يحتمل إلا دلالة الوحدانية المتفردة، ومن اجتهد في تحميل النص دلالة «تعدد الآلهة»، فقد خالف القاعدة «لا اجتهاد مع النص». ويقال مثل ذلك في أمر «الدعوة إلى الله» و«الحكومة الإسلامية»، والله يقول: {أّفّحٍكًمّ الجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ} و{وّأّنٌ احًكٍم بّيًنّهٍم بٌمّا أّنزّلّ اللهٍ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قٍلً هّذٌهٌ سّبٌيلٌي أّدًعٍو إلّى اللهٌ عّلّى" بّصٌيرّةُ أّنّا وّمّنٌ اتَّبّعّنٌي}. ويقول: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ} و{وّذّكٌَرً فّإنَّ الذٌَكًرّى" تّنفّعٍ المٍؤًمٌنٌينّ} و{وّادًعٍ إلّى" رّبٌَكّ} و {فّلٌذّلٌكّ فّادًعٍ وّاسًتّقٌمً} و{وّلًتّكٍن مٌَنكٍمً أٍمَّةِ يّدًعٍونّ إلّى الخّيًرٌ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ قّوًلاْ مٌَمَّن دّعّا إلّى اللّهٌ}. }. ومع أن الدعوة سبيل المؤمنين، وأحسن القول، ولا مجال للجدل حول مشروعيتها، فإننا نسمع، ونرى مجازفين، يغثونك بتقولات غير مسؤولة، وتعميمات غير محددة، لا يحكمون، ولا يفصلون، بحيث يزيلون اللبس، ويمنعون عن أنفسهم قالة السوء، ويحولون دون البلبلة، وتصعيد العداوات. ولهذا تراهم يخلطون متعمدين أو جاهلين بين المبدأ والتطبيق. فالدعوة مبدأ، وهو أحسن القول بشهادة الله، والتطبيق ممارسة بشرية لها وعليها، ولكن لحن القول، وتوجيهه يطال المبدأ، كقول أحدهم: «وتساعد المناهج نفسها هؤلاء على أن يكونوا دعاة» إضافة إلى خروج الكاتب من التعليم إلى برامج وزارة الشؤون الإسلامية ومعارضها ومهرجاناتها، وإلى شركة الكهرباء وإسهاماتها. ولو أنه وقف حيث يكون خطأ التطبيق لحمد الناس له ذلك، وأذعنوا له، ولاسيما أننا نعاني تجاوزات مشهودة، ومعاشة في التطبيق الدعوي. والوزارة المعنية لما تزل تتعقب كل مخالف لمناصحته أو منعه. وإذ لا يخلو أي مجتمع من نوعيات تتقن لعبة الإثارة، فإنك لا ترى هذه النوعيات إلا حيث تكون الريبة، متكئة على آراء في غاية الفجاجة والاستفزاز والتسرع، منقبة عن المسلمات، موغلة في المتشابه، غير متحرجة من موضعة كل شيء، متقحمة أي محظور متناغمة مع الحرب المشبوهة على مناهج التعليم في المملكة، معطية للمتربصين بنا فرصة ذهبية، مقدمة شبهة يلتمسها أعداء الأمة. وهل بعد القول: «فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية، فلا تدرس مادة اللغة الانجليزية مثلا لذاتها بل لتكون وسيلة للدعوة الى الله» من تجن مؤذ.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:45 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
فداحة الحدث.. ومتاهة التأويل..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


لقد وقعت الواقعة، واستطاع الخارجون على الشرعية والمشرعنون للفوضوية والوجود الأجنبي أن يفجروا ما بقي بأيديهم، وأن يستغلوا ما بقي لهم من وقت.
فكان أن هدمت بيوت، وأزهقت أرواح، وأحرقت ممتلكات، واختل أمن، وذعر الناس مما وقع، ومما هو آتٍ. وما علينا عند الصدمة الأولى إلا الصبر والاسترجاع، لنكسب الوعد الصادق بالصلوات والرحمات والهداية. وكالعادة أعقب ذلك الدوي دوي إعلامي موازن، انطلقت به الحناجر، وسالت به أنهر الصحف، تروي ما حصل، وتشهد بما سمعت، لا بما رأت، وأقبل المحللون والمعللون والمعلقون والمتنبئون يخبطون خبط العشواء، ويقرؤون الحدث قراءة متسرعة أو غير بريئة، فكل يحيل إلى أهدافه وغاياته وتصوراته، ويسترفد خلفياته المعرفية، ويوظف الحدث لتكريس رؤيته، محملاً الوطن ومؤسساته مسؤولية ذلك ووقف أهل الشأن في ذهول، عينٌ على الحاضر، وأخرى تستشرف المستقبل، ويد على الصدر، وأخرى تلزم الرأس المصاب بالدوار. فالحدث جلل، والنار من مستصغر الشرر، ومن استخف بما حدث، هيأ نفسه لما هو أدهى وأمر، وإن كانت البلاد وأهلها يحتمون بعز الله الذي لا يضام وبعينه التي لا تنام.
وحدث كهذا لا يُحسم بثورة كلامية، تلامس أطراف القضية، مكتفية بالتجريم والتخوين والتخمين، وإنما يواجه في الحفر العميق، والتفكيك الدقيق، وتقصي خلفيات اللعب وفلولها، والمؤامرات وذيولها، والتخطي إلى الحواضن الحقيقية التي نسل منها المنتحرون، من شباب غسلت أدمغتهم، وذرعوا فجاج الأرض الواسعة في عمليات قتالية باسم الجهاد: تارة في أفغانستان وأخرى في البلقان، وثالثة في الشيشان، ورابعة في العراق، فكان أن تحولوا من آدميين إلى دمويين. والحدث العصي على التصور والاحتمال لا يتخلص من ذيوله بالإحالة على مؤسسات البلاد ورجالاته، وإنما يصار إلى معرفة النشأة الأولى، ومن وراءها من دول وساسة و(لوبيات) و(ميكافيليات) حولت العالم الثالث إلى مقاتل أجير.
إننا بحاجة إلى أن نجوس خلال (أفغانستان) و(باكستان) و(البوسنة والهرسك) و(الشيشان)، وأن نتعرف على الجماعات والتنظيمات القائمة والمنحلة، هنا وهناك، وأن نخبر القيادات الدينية والحركية، التي تقاطرت من كل فجاج الأرض إلى بؤر الصراع العالمي، موظفة إمكاناتها لمن يدفع أكثر، ومن ثم هيئت لها الأجواء للتدريس والتأليف والتنظيم والقيادة، وفتحت لها الخزائن، وجمعت لها التبرعات، والتطمست أفكارها على مسمع ومرأى من كل الدول الكبرى، بوصفها اللاعب الرئيس، وبهذا الاستشراف لا يكون الحدث الرهيب وليد اللحظة، وليس صناعة محلية، إنه حلقة في سلسلة أحداث مماثلة، وقعت في بقاع كثيرة من العالم، وعلى فترات متباعدة، وليس من الحصافة أن ندين أنفسنا ومناهجنا وقادة الفكر في بلادنا، لنتعرض لتفجير داخل التفجير، ونمزق أنفسنا بقدر ما مزقت العبوات شواهق العمارات. والفضوليون الفارغون لا يتورعون من التأويل الجائر، ولا يتهيبون من إحداث تصدع الجبهة الداخلية، ومن ثم يلقون الكلام على عواهنه، ولا يظنون بذويهم خيراً.
والعمليات الانتحارية المنظمة لا تحركها تربية أمة، ولا تصنعها مناهج دولة، وإذا أحلنا عليها ما نلاقيه، أو أحاله المتنفسون من تحت الماء، فلمن نحيل تفجير (فندق ممباسا) و(منتجع بالي بإندونيسيا) و(سفارات أمريكا في كينيا وتنزانيا) و(مركزالتجارة العالمية في نيويورك) و(سفينة كول في عدن) و(عمليات الدار البيضاء) قبل ثلاثة أيام وعشرات العمليات المجهضة قبل التفجير، وفوق هذه كلها (أحداث الحادي عشر من سبتمبر) لماذا نساير الأعداء في توجيه الاتهام إلى مراكزنا ومؤسساتنا، ومن رام الإصلاح وهو حتم فليضع التصور، ولا يكتفي بالاتهام الجائر، ومن أحال إلى مناهج التعليم في البلاد، فقد غفل عن رؤوس الفتنة القابعين في الأدغال والكهوف. ولغط المتحاملين يزيد في العنف بسطة، ومن واجب المترفين ألا يظاهروا أعداء الأمة باتهام التعليم.
إن هناك حلقة مفقودة، لما نزل بحاجة ماسة إلى العثور عليها، وما لم نواجه الحدث برمته، بوصفه ظاهرة عالمية، لا مفردة زمانية ومكانية، فإننا سنظل نفتح ملفاً ونرفع آخر، ونزيد في حجم الكيانات المناوئة وتعددها. ولست ممن يتوقع حسم الشر، ولا ممن يصر على تزكية الذات، ولكنني ممن يسعى لتحديد مصادر الشر ومحاصرته، والعودة به إلى حجمه المعقول، فالجريمة في سباق مستحر مع المكافحة.
وتعرض البلاد لمثل هذه الممارسات المتباعدة زمناً، والمتشابهة حدثاً، تتطلب رد العجز على الصدر، وقراءة الأحداث منذ النشأة الأولى، واستجلاء كل الآراء، واستدعاء كل القراءات، واسخدام المجسات والمسابير في كل الأحداث المماثلة في الشرق والغرب، واستبعاد واحدية المصدر، فالذين يحيلون على الداخل، ويجعلون الحدث منتجاً محلياً له أسبابه ودواعيه المحلية، ويغفلون عن اللعب والثارات، وتعارض المصالح، ومحاولة إرباك الخصوم، والحيلولة دون نفاذ التسويات السلمية، يفوتون على أنفسهم مؤشرات مهمة، والذين يستبعدون أحداث فلسطين، وأفغانستان، ولبنان، والسودان، والصومال، وإيران والكويت، والعراق، والجزائر، وسقوط الاتحاد، وسباق التسلح، وصراع الحضارات، والتنظيمات المفككة، والحركات المطاردة، وفلول اللعب ترم جروحهم على فساد، واعدة بانفجار جديد. لقد طالت المواجهات الإرهابية
أقوى دول العالم عدة وعتاداً، وأقدرها تحرياً ورصداً، وأمضاها هيمنة وسلاحاً، فهدمت أبراجها الاقتصادية، وقوضت معاقلها العسكرية، ولما يزل الحدث الجلل أخفى من دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في ظلمة الليل. ومهما حاول الإعلام العربي والمتنخوبون بكل ما هم فيه من ريبة تحديد الفاعل ومقاصده، فإن المسألة تظل حمالة أوجه، وستظل أكثر انغلاقا على الأفهام من قتل الرئيس الأمريكي (جون كندي). لقد طاف الباحثون بالعمليات الانتحارية على كل الطوائف والتنظيمات والديانات والعرقيات، وكل قوم ينفون علاقتهم بها، ويقدمون الشواهد، وينضمون إلى فريق التصدي، وقد يقدمون بين يدي إثباتهم ضربة وقائية، ليبرهنوا عن صدق مواجهتهم للإرهاب بمفهومه الغربي. ولم تتريث أمريكا المجروحة حسا ومعنى، حتى يتحصحص الحق، بل بادرت إلى فرضيات متسرعة، وضربت ارضا محروقة وشعباً منهكاً، وصدَّق الناس مقولتها، ومضى كلُّ إلى غايته، وبقيت الضارة كما هي، تنام حتى يأمن الناس، فإذا غفوا أخذتهم بغتة، وهم لا يشعرون، والمتوقع أن يتسع انتشارها، لأنها مارد انطلق من قمقمه، وعلى المستهدفين أن يقعدوا له كل مرصد.
ولهذا وتلافياً لما هو حاصل بالفعل فإن المواجهة الانفعالية، وتبادل الاتهامات، وانتهاز الفرص، لإعادة الخطابات الفئوية، وتصفية الثارات، لا تحسم الإشكالية، بل تزيد في استفحالها. إن الحدث خطير، ومدان بكل المقاييس، ولن يلتمس له عاقل أي عذر أو مبرر، وقد قالها (الأمير عبدالله) ليلجم أفواه كل الأضوائيين والانتهازيين، فالأنفس المسلمة معصومة بإسلامها. والأنفس الأخرى معصومة بذمة ولي الأمر التي أعطاها، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، فما بالك بأعلاهم، ومن قتل ذمياً لم يرح رائحة الجنة، ومن آذى ذمياً فقد آذى رسول الله، والذين يؤكدون بأفواههم من مواجهة أمريكا، هم الذين شرعنوا لها الوجود، والذين يواجهونها اليوم، هم الذين خدموها بالأمس.
وإذ يكون الحدث ماثلاً للعيان بالأشلاء والأطلال فإن الأدمغة المدبرة والأصابع المنفذة لما تزل غائبة، والأجهزة الزمنية تركض وراء الخيوط، التي قد تلتاث في منتصف الطريق. ومما لاشك فيه أن هناك أسباباً، وحواضن، وأطرافاً تحلم في أن تجني من الشوك العنب. ومن الحصافة أن يسعى المعنيون إلى تقصي الإشكالية، ووضع الحلول، لتوقي ما بقي من شرورها، والمؤلم أن العالم الإسلامي لما يزل مجالاً لتنفيذ اللعب الكونية، عليه غرمها، ولغيره غنمها.
والسؤال الأكثر إلحاحاً: من جمَّع هؤلاء؟ ومن صاغ أذهانهم، ودرب أجسامهم؟ ومن خطط لهم، وأعطاهم المال والسلاح؟ ، وعبر أي المنافذ دخلوا بما معهم؟ وأين رأس الحية المدبر؟ ولماذا لم تصل إليه اليد الأقوى مضاء، يد أمريكا المستهدفة مصالحها؟ لقد وضعت في أولويات مهماتها في (أفغانستان) و(العراق) الوصول إلى الرؤوس المدبرة أحياءً أو أمواتاً، ولكنهم جميعا لما يزالوا مجهولي المصير. ويمضي لهاث الأسئلة الحائرة: لماذا تطالنا الأذية من أيد آثمة، من بينها أيد سعودية، خرجت من ديارها، نظيفة الفكر، سليمة العقيدة، تحت مظلة الجهاد الذي باركته أمريكا، لتعود إليها بعد أن تضلعت من الشر، ممارسة أبشع الأعمال وأجرمها؟ وهل هذا العمل الإرهابي بتدبير خارجي، ومن أجل أهداف سياسية عالمية، أم هو بتدبير داخلي، ولأهداف محلية؟ وهل العمليات لمواجهة السياسة المحلية، أم أننا مجرد ساحة لمواجهة الآخر؟ بلادنا أبعد الدول عن المواجهات الأهلية والحروب الداخلية، وما يحصل من عمليات إرهابية، لا تعدو أن تكون تصفية حسابات، وعلينا ترتيب مواقفنا على ضوء ذلك، ومن أحال إلى غير ذلك فقد أسهم في تعميق سذاجتنا.
والتفجير البشع الذي رمَّل ويتم، وقتل الوحيد والحبيب، استهدف مواقع معينة، والمؤشرات تؤكد أن التدبير خارجي، وأن الأهداف سياسية عالمية. والمخططون المنفذون ليسوا ناتج مناهج، ولا سلالة حلقات ولاجماعات، إنه عنف دولي منظم، لا يقدر عليه أفراد بمفردهم، وإذ وقع الفأس على الرأس، فإن علينا مواجهة التداعيات. لا الوقوف عند الوقوعات، وعلينا استثمار الحدث وتداعياته، وتجويد مواجهته، إذ إن كل حدث له آلياته المناسبة له، وليس من المصلحة الاهتياجات والانفعالات، وتبادل الاتهامات. وفي ظل متاهات التأويل: هل نبادر من باب الوقاية إلى تحصين حدودنا، بحيث لا تتسرب الأسلحة، ولا يتسلل المنفذون، أم نحصن أبناءنا، بحيث لا تشكل ذهنياتهم على غير مراد الله؟ وهل من خيارات أولية أو ثانوية تسبق هذين الخيارين؟ وهل المواجهة وقف على (وزارة الداخلية)، أم أن هناك جهات أخرى، يجب أن تشارك في المواجهة أو في الوقاية؟. إن هناك سطواً حسياً على الأرض، وسطواً معنويا على الأفكار، ولابد من تحرف سديد لصد السطوين، ومن ثم لابد من التأسيس لحوار شمولي، تلتقي حوله كل الأطراف، ويعرف المتحاورون مشروعية الرؤى، وحدود الحريات، ومقتضيات الانتماء، ومجالات الاجتهاد وأهليته، وليس من الحصافة أن نربط الإصلاحات الشاملة والضرورية بما نلاقيه من أحداث، فالإصلاحات السديدة لا تحركها الاهتياجات العاطفية، وقد ألمح إلى شيء من ذلك خادم الحرمين الشريفين في خطابه التاريخي يوم السبت، مؤكداً على حتمية المراجعة الذاتية، مستبعداً أن تكون محاولات الإصلاح استجابة لضغوط خارجية، مؤكدا على الخطاب الوسطي المعتدل، مناشداً علماء الشريعة النهوض بمهمتهم الجسيمة.
إن ما بعد الحدث أشد وأعتى من ذات الحدث، وأشلاء المعنويات أخطر من أشلاء الحسيات (والفتنة أشد من القتل) وتعميق الاضطراب في قراءة الحدث أشد بلاء من عقابيله الحسية، فلكم لقيت من يسأل عن الأسباب والدوافع، وعمن يواجهون أمريكا لذاتها، ثم لا يجدون إلا أرضنا مجالاً لمواجهتها، أهم ضد وجودها في أرضنا؟ أم ضد نفوذها في مشرقنا العربي؟ وإذا كان وجودها في مشرقنا مؤذياً، فإن وجودها على أرضنا لم يكن طارئاً، بحيث يستفز أحداً من الناس. لقد عاشوا في أرضنا أكثر من سبعين سنة، ينقبون في الصحاري الشاسعة، لا يرافقهم إلا أدلاء من الأعراب العزل، يستنبطون كنوز الأرض، يأخذون، ويعطون على قدم المساواة، وما سيء لأحد منهم، فضلاً عن أن يُغتال، ولقد عايشناهم في أحلك الظروف، ظروف المد الثوري الاشتراكي، وظروف الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وما شكلوا عبئاً على خطابنا السياسي، ولا على مركزنا الإسلامي.
وعلينا ألا نسلم للخطابات المجتثة من فوق الأرض، خطابات الإحالة على الإسلام بوصفه مصدر الإرهاب أو الإحالة على المواقف السياسية بدعوى استسلاميتها، أو الإحالة على المناهج تناغماً مع اللوبي الصهيوني. العنف والإرهاب حسب مفهومه الإسلامي لا جنسية له، ولا وطن، ولا عقيدة، ولا زمان، وما اغتيالُ (عمر) و(عثمان) و(علي) إلا ذروة الإرهاب.
والصهاينة في فلسطين يمارسون أبشع العمليات الإرهابية. إننا أحوج ما نكون إلى تحديد المفاهيم، وتجويد التأويل، وحفظ التوازن، والأخذ بالوسطية، وعدم الانتقال من لغة التفجير إلى لغة التفريق. والانتهازيون الذين يحددون طائفة أو عقيدة أو قبيلة أو بلداً أو منهجاً أو فئة بعينها، يزيدون في ارتكاس الأمة في الفتنة، المسألة شائكة ومعقدة، ومن اليسير تكثيف المطاردة والوصول إلى طائفة من الفعلة، وتنفيذ الحكم الشرعي بحقهم، ولكن من الصعب جداً حسم المشكلة، متى استمرأنا تعميق الاختلاف حول قراءة الحدث. إننا بحاجة الى نظرة شمولية، ودراسة مؤسساتية متقصية، ومواجهة صريحة، ومعالجة حاسمة، وتستشرف الواقع العالمي وتحولاته السريعة، وتتوقى بؤر التوتر في العالم، والمسألة في النهاية بقايا لعب، كما الألغام التي يمر بها الغافلون.
ولأن أمريكا ضالعة في أمور كثيرة، فإنها مستهدفة عالمياً، وهي تعلم ذلك علم اليقين، وهي تعلم أن الذين يتربصون بها هم بقايا صنائعها، واستهدافها لا يقتصر على أن لها وجوداً غير شرعي في المملكة، ولا لأنها تهيمن على مصادر الثروة البترولية في البلاد، فوجودها وفق معاهدات دولية، يملك الطرفان حق التصرف فيها، وقد فعلتها المملكة بإنهاء الوجود العسكري بانتهاء دواعيه، والثروة البترولية بيد أصحابها، وقد فعلتها المملكة حين اشترت أسهم الشركة الأمريكية وسعودتها، والثروة خاضعة للعرض والطلب، ونحن أحوج إلى الأسواق من الأسواق إلى خامنا. والدولة مسلمة سلفية، وأمريكا رأسمالية علمانية، وليس هناك تأثير على الثوابت، بحيث يأنف الإسلاميون الذين يحال إليهم كل فعل.
ووجود امريكا في البلاد حسياً أو معنوياً ليس له تأثير على القرار الداخلي، أما هيمنتها على العالم في قراراته الخارجية وخروجها على الشرعية فأمر لا يخص المملكة وحدها. وحين يتأفف البعض من وجودها الحسي فإنها متوغلة في كل بلاد الدنيا: مدنياً وحضارياً وصناعياً واقتصادياً. وحين لا أبرىء أحدا بعينه من الحماقات، فإنني لا أريد التخلي عن الإسلام والأسلمة، لمجرد أن طائفة من المسلمين ضلت الطريق، والخوارج في صدر الإسلام وبخاصة (الأزارقة) منهم كان لهم عنفهم وصلفهم وغلوهم ودمويتهم، ولم يفكر معاصروهم بإعادة النظر في إسلامهم، على أن الواقع المعاش مختلف جداً، إن علينا أن نفكر باللعب وبالثارات، وصدام المصالح ليس غير.
والمواجهات الإرهابية مواجهة مع أمريكا، يتخذ خصومها مواقع عدة في العالم، والمملكة قد تكون واحدة من تلك المواقع. وعندئذ لا يكون التفجير حدثاً مرتبطاً بالسياسة المحلية، وليس منتج تربية وتعليم، وليس منتجاً محلياً، إنه وافد على أرضنا. وإذا شارك بعض أبنائنا في العمليات الانتحارية في المملكة أو خارجها، فليس معنى هذا أن نكون مصدر إرهاب، فهم قد خرجوا من ديارهم سلفيين وعادوا إليها، وهم إرهابيون. ولو سايرنا الجهلة والمتسطحين لقطعنا بإرهاب أربعة ملايين مواطن، وهم مجموع طلابنا، إن علينا مواجهة الحدث بأسلوب لا يقف عند تبادل الاتهامات، متناسياً أبعاده العالمية ودوافعه المتعددة.
أمريكا ضالعة في كل اللعب، منتشرة في كل الآفاق، مؤثرة على كل المصالح، وليس بغريب أن تضرب مصالحها، وأمريكا تعرف أن مواجهتها ليست مواجهة بين (الكفر) و(الإسلام). ومثلما دعمت الجهاد لإسقاط الاتحاد، فإن هناك من يدعم جماعات التكفير والأصوليين لرد الصاع صاعين، وعليها وعلى المتساذجين المغثين بهمزهم ولمزهم أن يقرؤوا الخطاب العالمي بعيون ثاقبة، وأن يعرفوا اللعب واللاعبين. والبأس كله أن تتجاهل أمريكا هذا الواقع المؤلم، والأشد بأساً أن يقع النخبويون في مأزق التضليل ومتاهات التأويل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:46 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
قل : هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة «2 /2»
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كان الكاتب ينقم على طائفة من المدرسين - وذلك حق، يتطلب البينة- فلماذا يربط بين (الدعوة) و(الضعف)؟ ويقحم أطرافاً أخرى، ويمتعض من امتثال أمر الله {وّلا تّقٍولّنَّ لٌشّيًءُ إنٌَي فّاعٌلِ ذّلٌكّ غّدْا، إلاَّ أّن يّشّاءّ اللهٍ}. ويتجاهل قول الله عن عيسى عليه السلام: ترديده (بإذن الله) في النفخ والإحياء والإبراء؟ وعيسى يعلم ويؤمن أن الله خالق كل شيء، وليس عنده نقص في الفقه. إن لحن القول كله، يحيل إلى مواجهة الدعوة، لا مواجهة أخطاء الدعاة، ومواجهة أسلمة المناهج، لا العمل على تفعيلها. وفي ذلك مسايرة لحملات التشويه. وعليه أن يعيد قراءة ما كتب من قبل.
وبصرف النظر عن ركاكة التعبير، وضحالة التفكير، وسوء التوقيت والتقدير في التعاطي مع أخطر القضايا، وأهم المسائل، فإن تخبيصات الكاتب، وخلطه بين أمور في غاية الأهمية، وأخرى في منتهى التفاهة دليل ارتباك وتوتر واضطراب. وكاتب يقارب أخطر قضيتين في حياة الأمة: (التعليم) و(الدعوة) ثم لا يزن الأمور، ولا يستبرئ لعرضه ودينه، يعرض نفسه للاتهام والتجهيل والمساءلة (ومن لا يتق الشتم يشتم)، ومن حق المتأذين أن يبادلوه سوءاً بسوء، فلقد وصفهم بالهلوسة ونقص الفقه، وقطع بتدهور التعليم. وما يتعرض له من ردود فعل، يراها هو، ومن شايعه مزايدة على القضايا، وتنقصاً من الحريات، وما هي كذلك، إنها استكمال للحرية التي يراها، ويتحرج منها حقيقة. وإذ لا نرى التسامي بأحد من الخلق فوق النقد والمساءلة، ولا نزكي أي مؤسسة تعليمية أو دعوية تحت أي مبرر، فإننا نفرق بين نصيحة المهتم بأمر الدعوة والتربية، وفضيحة الساخط عليهما، الناقم على ذويهما. وليس غريباً على ذات الكاتب ما نراه منه من اندفاعات، تضعه تحت طائلة المساءلة، ولا تقل ارتباكاً
(مالي أرى أقواماً يفعلون كذا)
فذلك هدي المصطفى. أما الرشق العشوائي، والمجازفة في الاتهام، فشأن المقوين من المقومات. وقادة الفكر والاصلاحيون يمنعهم الحياء من سوء الأدب مع الكافة، فضلاً عن صفوة المجتمع. وهل بعد المعلمين والدعاة من مكرم؟ وإذا لم يكن المعلم والمعلمة داعيين إلى الله على بصيرة، فمن يكون؟ وإذا لم نحصن أبناءنا وبناتنا من احتناك شياطين الإنس والجن واجتيالهم، عبر القنوات، والمواقع، وسائر الوسائل الإعلامية، فمن ذا الذي يحصنهم؟ وإذا لم تكن المملكة التي شرفها الله بخدمة مقدساته، ونشر كتابه، وتحكيم شرعه، وإقامة دينه، مهيئة الطلبة والمدرسين معاً للدعوة إلى الله، وحفظ جناب التوحيد، وحفظ التوازن بين مطالب الحياتين، فمن ينهض بمثل ذلك؟ إنه لا يضيق بالدعوة إلا مشبوه، أو مدخول في فكره، وإذا كان الكاتب مع الدعوة، كما يدعي، وكما نرجو أن يكون، وله ملاحظاته الوجيهة، فإن عليه أن يتخذ سبيل الدقة والتخصيص والتركيز. وهو قد حاول لملمة أطراف القضية، بعد أن ضيق عليه الرأي العام الخناق، ومع أن الحق قد يعتريه سوء التعبير، إلا أن المقال المثير مواجهة لا مناورة، وإدانة لا اتهام، وتقرير لا تساؤل.
ومع الاحتفاظ بثوابت الدين من وعظ وأمر ونهي فإن من صرف الوقت لغير ما هو له، فقد أخطأ الطريق، وفرط بالواجب، كائناً من كان، ولكن تذكير المخطئين لا يكون بهذا الأسلوب التعميمي القطعي. أما قضية ربط المواد بالدين، فالدولة تلح على أسلمة المناهج، وليس هناك ما يمنع من استحضار عظمة الخالق، حين التعرض لقانون علمي، يتعلق بالآفاق أو بالأنفس، وليس من مصلحة الأمة ان تمارس التربية بمعزل عن الدين. وكيف لا نؤسلم المناهج والمواد، ونربط الظواهر العلمية والفلكية بالإيمان؟ ما الذي يمنع من أن يكون استاذ الرياضيات واللغات داعيين إلى الله، مذكرين بعظمته وجلال قدره، ألم يقل بعض الصحابة لبعض: (تعالى نؤمن ساعة)، أو لم يقل الله عن الصالحين من عباده {الذٌينّ يّذًكٍرٍونّ اللّهّ قٌيّامْا وّقٍعٍودْا وّعّلّّى" جٍنٍوبٌهٌمً وّيّتّفّكَّرٍونّ فٌي خّلًقٌ السَّمّوّاتٌ وّالأّرًضٌ} ويقول: {وّاعًبٍدً رّبَّكّ حّتَّى" يّأًتٌيّكّ اليّقٌينٍ}. أحسب ان اتهام المناهج والمدرسين والمدرسات بالتفريط، وإضاعة التعليم، اتهام ليس في محله، ولا يمارسه إلا إنسان لا يحترم المصداقية، ولا يحسب للظروف حسابها، ولا يعرف حدود ما يجب، وواجب المقتدرين إرشاده، وواجبه قبول الحق، وعدم التبرم ممن يشاطره السفينة، مستحضراً قوله تعالى: - {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ}.
والمدرسون الذين على جانب من التقى والورع، لا يمكن أن يفرطوا بحق الطلبة، ولا برسالة التعليم، وهم حين يجدون أنفسهم بحاجة إلى التوعية ينشئون الجمعيات، ويتطوعون بجهدهم ووقتهم، دون المساس بوقت المناهج. واتهام التعليم بهذا الحجم، وإحالة الضعف إلى الدعوة والدعاة، تشويه لرسالة المسلم في الحياة. وإذا وقع مدرس أو مدرسة فيما لا يصح من القول، فإن هذا لا يسوِّغ التعميم. الخطأ في القول حاصل، والتقصير في العمل حاصل، والتجاوز في الفعل حاصل، ولكن لا تزر وازرة وزر أخرى. ولو صدق بعض ما يقوله المرجفون المتواطئون على الخطيئة لكنا بحاجة إلى مواجهة أربعة ملايين طالب وطالبة ومئات الآلاف من المعلمين والمعلمات وأساتذة الجامعات، وهو ما لم يكن، ولن يكون إن شاء الله.
وكيف يتأتى الامتعاض من تفشي الدعوة والإرشاد في أمة تنص المادة (الثالثة والعشرون) من نظامها الأساسي للحكم على قيامها بواجب الدعوة إلى الله؟.
والدولة ومن ورائها أهل الحل والعقد من العلماء ورجال التربية والتعليم يعيشون حالة استثنائية، ويتأذون من اتهامات ظالمة، يؤزها اللوبي الصهيوني ضد التعليم في المملكة، ويتحرفون لكشف النوايا السيئة، التي ينطوي عليها أعداء الإسلام، والخائفون من (الصحوة الإسلامية) يحاولون إثبات أن المناهج تصنع الإرهاب، وأن الإرهاب بمفهومه الغربي منتج إسلامي، وفي هذه الظروف الحرجة ، يأتي من يقول كلمة في صالح الأعداء، لا يلقي لها بالاً، وواجب المسلم في الأزمات أن يكون على شاكلة من قال الله فيهم {الذٌينّ قّالّ لّهٍمٍ النَّاسٍ إنَّ النَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً فّاخًشّوًهٍمً فّزّادّهٍمً إيمّانْا وّقّالٍوا حّسًبٍنّا اللّهٍ وّنٌعًمّ الوّكٌيلٍ}. إن هناك مرتابين، يخافون من مطاردة أعداء الله لعباده، ويصدَّقون كل صيحة، ومن ثم يعطون تنازلات في ثوابتهم، ويسايرون إشاعات العدو، ويسلمون له، وتلك بوادر انهزام داخلي، وتحقيق لما حذر منه المفكر الإسلامي (مالك بن نبي) من قابلية الاستعمار، وفقد شروط النهضة. ومما لا مراء فيه، أن هناك تطرفاً دينياً ودعاة غلاة وآخرين جهلة، تتأكد معالجة أوضاعهم، والحيلولة دون تمكينهم من تشكيل ذهنيات الناشئة، بطريقة تتأذى منها المؤسسات الأمنية والدعوية، ولكن ذلك شأن ولي الأمر وعلماء الأمة، وهم جادون في معالجة كل ظاهرة بالطريقة التي نسأل الله لهم فيها التوفيق والسداد.
ومن أراد أن يدلي بدلوه في تصحيح مسار (التعليم) أو (الدعوة)، وهما بلا شك في أمس الحاجة إلى المتابعة والتصحيح، فعليه ألا يقع في فرضية واهمة، تجعل من الدعوة والدعاة سبباً رئيساً في تدهور التعليم، مجازفاً في إطلاق التهم، دون تحديد، ودون إثبات، مستفزاً الخيرين، جاعلاً منهم خصوماً، متعمداً معاداتهم. وماذا عليه لو دخل مع رجال التربية والتعليم والدعوة في حديث ودي، شاطرهم فيه همهم الدعوي والتربوي، ونبه إلى بعض التجاوزات التي نراها رأي العين، ونثق أننا أحوج ما نكون إلى من ينبه عليها، ولكن بغير هذه الطرق الفجة. وهل لا يستقيم أمر الكاتب إلا بالإثارة والعداوة، وتحميل الأمور ما لا تحتمل؟ ومن ذا الذي يتعمد الإساءة لمن بذلوا وقتهم ومالهم وجهدهم للدعوة والإرشاد؟. والتعليم بوصفه القضية الأهم والأخطر، لا يمكن تناوله بهذه المجازفات المرتجلة. التعليم في المملكة قائم على خطط ومناهج، لها وعليها. وجامعات المملكة تستوعب كل التخصصات العلمية البحتة، وأبناء البلاد يبتعثون إلى سائر دول العالم المتقدم علمياً بالآلاف، ويعودون بأرفع الشهادات، والمملكة مليئة بالمتخصصين الذين تلقوا تعليمهم في مدارس المملكة، فهل يستطيع التعليم المنهار بإمداد ثماني جامعات بمختلف التخصصات، بل يفيض عن حاجتها.
ومع هذا فلسنا من الصفاقة ولا الحماقة، بحيث نزكي أنفسنا أو مؤسساتنا، إن هناك ضعفاً ينتاب كل مرافق الدولة، وهناك مقصرين أو مهملين أو متلاعبين، يبلغ حد الفساد الإداري، نعرف ذلك حق المعرفة، وليس من حقنا أن نزكي، ولا أن ندافع، ولا أن نمنع من الإصلاح، وبودنا لو تصدى لكل هذه الهنات من يزن الأمور، ويفرض احترامه على المخطئين والمقصرين. والمتفق عليه أن التعليم في جميع أنحاء العالم ينتابه الضعف، والتربويون يتعقبون مناهجه ومواده بالإصلاح والتعديل والإضافة والحذف، وما أحد منهم سخر، أو استهجن أو افترض عامل ضعف ثم عممه. وكان على الكاتب لو كان غيوراً ناصحاً ان يضع أصابعه على مكامن الداء، لا أن يطلق المفرقعات، مسقطاً التعليم، والمعلمين، ووزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي، والتعليم الفني، ووزارة الشؤون الإسلامية، والدعاة، والدعوة. متهماً الجميع بإضاعة الطلبة.
إذ نجد لفيفاً من الكتاب الواقعين في الحمى باسم حرية التعبير فإن على المسؤولين عن هذه الحمى أن يخرجوا عن صمتهم ليكشفوا عوار هذا التحامل، وأن يضعوا أي كاتب متعد مستفز في حجمه الطبيعي، لكيلا يسنوا سنة سيئة، تبيح الإطلاقات غير المسؤولة، وفي الوقت نفسه يجب ألا يأخذ المسؤولين العجب، بحيث يَسْمون بأنفهسم فوق النقد والمساءلة، ويغفلون عن أي تقصير. والحرية في التفكير والتعبير حين تكون مكفولة، أو حين يجب أن تكون مكفولة، فإن علينا قبل هذا وذاك أن نعرف حدودها ومجالاتها. فليس لكل مجازف في القول ان يحيل إلى الحرية. الإنسان بطبعه اجتماعي، وهو ملزم بمقتضيات «العقد الاجتماعي» المستمدة ضوابطه من حضارة الانتماء، و(العقد) يعني الحرية المنضبطة. وإشكالية المشاهد العربية كافة أن الأكثرين من نخبها لا يحتفون بحدود الحرية، ولا يعرفون مقتضيات حضارتهم، ومن ثم يوغلون في (العهر) و(الكفر)، ويعدون مثل هذا الإيغال محصناً بحرية التفكير وحق التعبير. ومثل هذه المفاهيم المريضة تضع الفوضى موضع الانضباط، وتجعل كل شيء تحت المساءلة والنقد، وقد تطال المساءلة فعل الله، وتُحقُّ الخيرة في قضائه، والله لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد الخيرة إذا قضا الله ورسوله أمراً. والتطرف في الآراء بنشئ تطرفاً مضاداً، مما يعرض الأمة لفوضوية مخلة بالحرية المطلوبة من الطرفين. ومن المعلوم من الدين بالضرورة ان الأمة أمة دعوة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وما لعن الكفرة من بني اسرائيل إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، ومن اقترف خطيئة من الدعاة أو الآمرين، فيجب ان يؤخذ بخطئه، دون ان يمتد ذلك إلى المبدأ أو المهمة أو الغير.
ومثل هذه الإثارات توغر الصدور، وتثير الشكوك، وتخلق كيانات متناحرة. والمملكة: حكومة وشعباً، لن تقوم لهما قائمة إلا بتقارب وجهات النظر، والانطلاق من سياسة الدولة الدعوية التي نصت عليها أنظمتها، وأنشئت لذلك (وزارة) و(رئاسة) و(مجلس أعلى) يرأسه الرجل الثالث في الدولة. وإذ لا نمانع من نقد التعليم ورجاله، والدعاة وأساليبهم، والهيئات وتجاوزاتهم، وما ينتاب بعضهم من جهل أو غلو أو تطرف، فإننا نرفض التعميم والمواطأة لأعداء الأمة، والتذمر من إظهار الدين، ونرفض الإطلاقات التي تحتمل أسوأ التأويل، وأقبح الاتهام، ونرفض الخوض بآيات الله دون علم شرعي مخول، ونرفض الركون إلى الذين ظلموا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:47 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تعارض مصالح لا صدام حضارات..!! 1/2
د. حسن فهد الهويمل


ما من أحد يصاب بصداع الرأس، وفقد الذاكرة، واضطراب النفس والفكر، إلا وله النصيب الأوفى من قراءة الخطاب السياسي والثقافي في كافة المشاهد العربية، وعليه كفل من تلقي طوفان الآراء المتناحرة، وركبان الثقافات المستكبرة المهيمنة، والمشاهد العربية تنوس بها بطائن سوء، تضرب ثوابت الأمة في الصميم، تحت مسميات جذابة، كالحرية، و«الديموقراطية»، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة. ولا تنفك عن التناحي بالإثم والعدون حول ما يسمونه بالثالوث المحرم: «الدين» و«الجنس» و«السياسة»، ولا تأخذ حذرها مما يعانيه العالم المغلوب من أزمات طاحنة، تقوض أمنه واستقراره، وتفرق شمله، وتستدرجه من حيث لا يعلم إلى المهاوي السحيقة.
والعالم اليوم يعيش حالة من الاضطراب والتوتر، وتنتابه نوبات من اللعب الكونية، والمؤامرات الدنيئة، والفساد، والتخذيل، والعلل الباطنة. وليس ببعيد أن تتزامن الانهيارات: الحضارية، والاقتصادية، والأمنية، والدستورية، وتتغير كل الخرائط الجغرافية، والتركيبات: السكانية والإثنية والطائفية، ويبدأ العالم في التشكل من جديد، كما بدء الحياة أول مرة يعود، وكأن شيئاً لم يكن من قبل، فالأيام دول، والثواني حبالى، يلدن كل عجيب، والناس لا يستقرون على حال، وكم من حضارات سادت، ثم بادت، والبقاء على الحال محال، «ومن سره زمن ساءته أزمان» ومن لم يتوقع الزوال بعد التمام، ولم يحسب الحساب الدقيق لما هو آت، يفجؤه الطوفان، كمن ينام في بطون الأودية في الأيام المطيرة، والشاعر الحكيم يقول:
«توقع زوالاً إذا قيل تم».
وفي الحديث: «عهدٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، حين سُبقت «ناقته»، وتألم الصحابة من تغلب أعرابي ب «قعوده» عليه، على حد:
«ما طار طير وارتفع.. إلا كما طار وقع».
والحضارة الغربية بلغت حداً لا مزيد عليه، لا من حيث الإمكانيات، ولا من حيث التعديات، وأقرب الحضارات إلى الزوال من تجمع بين «التمام» و«الظلم» وكيف لا و«العدل أساس الملك».
والقول في «صدام الحضارات»، و«تعارض المصالح»، مضلة أفهام، ومزلة أقدام، وكل رهان حولهما، يجد ما يطمئن أصحابه، فالمسألة من الاحتمال بحيث:
«لا يعرف الغادون فيها دربهم.. فكأنهم بمسيرهم غرباء».
وكل خائض في الحديث حول «الصدام» أو «التعارض» غريب يتقرى الأشياء بأنامله، إذ لا يتمكن عند استحكام الحلكة من قراءة الأشياء بعيونه، ولو عدنا نستقرىء واقع أمتنا بلمس، لوجدنا المسألة مرتبطة بتعارض المصالح، لا بصدام الحضارات. ولقد قرأت كتاب «صامويل هنتنجتون» «صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي» للمرة الثانية، ووجدت أنه صوت من الأصوات، وقد لا يكون أفضلها، وقد لا يدوم حضوره شاهدا على العصر، ولو ذهبنا نضرب الأمثال بما هو قائم، لإثبات أن المواجهات ليست وقفاً على الاختلاف في الدين وإن رآها «جيل كيبل» ماثلة للعيان في النصف الثاني من القرن العشرين، متجلية في الصراع بين «العلمانيين» و«المحافظين» بحيث يرى أن هذه المرحلة تمثل يقظة أو صحوة دينية كونية، أطلق عليها «ثأر الله» بحيث يميل إلى الرغبة في «أنجلة» أوربا، أي عودتها إلى «الإنجيل»، وها هو اليمين في «البيت الابيض» يستمد وقوده من أصولية مسيحية متصهينة، وقد يأتي من يقول ب «القرأنة» أي عودة العالم الإسلامي المتعلمن إلى القرآن، ولست أعني طائفة «القرآنيين».
أقول: لو التمسنا الأمثال الحية المؤكدة لصراع المصالح، لتبدت لنا الأدلة كفلق الصبح، مطروحة في الطريق. والمعوِّلون على «صراع الحضارات» وحسب، يتعمدون تهميش صراعات أخرى لا تقل عنها، ويتجاهلون العلاقات المصلحية والنزاعات الطارئة حول لعاعات الحياة الدنيا، ولقد كادت تفعل فعلها في المجتمعات الخيرة، وذلك عندما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفيء» بعد الفتح في «غزوة حنين» على المؤلفة قلوبهم، ووكل المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم، وهي مقاصد بعيدة المنال، لم يدركها بعض الصحابة و«سورة الأنفال» نزلت لتحسم التنازع حول الفيء في «غزوة بدر»، وهل أحد مثل صفوة الصفوة. فالمصالح عنصر مهم في عمليات الوفاق والنزاع الدوليين، وتجاهل المصالح أو الخلط بينها وبين الصدام الحضاري تفويت لثغرات مهمة. وإذ تختلف معالجة «تعارض المصالح» عن معالجة «صدام الحضارات» فإنه يلزم استحضار الحالين، لأن لكل حالة لبوسها. وعلى سبيل المثال فإن المعهود ذهنياً وواقعياً أن «المملكة العربية السعودية» حليف تاريخي، وصديق عريق «للولايات المتحدة الامريكية»، ليس في ذلك مواربة، ولا مداراة، نقول ذلك بلسان الحال والمقال، وكانت علاقات البلدين تزداد قوة ومتانة، يوم أن كانت المصالح مشتركة، ووجها النظر متطابقة، ويوم أن كانت أمريكا حمالة التوفيق بين الأطراف، ملتزمة بمنع التعدي على الحقوق والحريات، ويومها كان الإنسان السعودي أثيراً عند الإنسان الأمريكي، وكانت له معاملة خاصة، يلقاها في أي مكان من الولايات الأمريكية، حتى لكأنه واحد منهم، وخلال العقود السبعة التي مرت بها العلاقات السعودية الأمريكية، منذ اللقاء التاريخي بين الملك «عبدالعزيز» رحمه الله، والرئيس الأمريكي «روزفلت»، لم تتحول المملكة عن سلفيتها، ولا عن تمسكها بثوابتها الدينية، ولا عن مناهجها الدينية، فيما لم تتحول الولايات المتحدة الأمريكية عن رسماليتها وعلمانيتها، ولم يحصل في يوم من الأيام أي تماس بين الفكر السياسي الإسلامي السلفي للمملكة والفكر السياسي الديموقراطي العلماني لأمريكا. كان ذلك يوم أن كان الصراع على أشده بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولماَّ تزل المملكة ملتزمة بما عاهدت عليه، قائمة على أشدها في الدعوة إلى الله، متبنية لفكرة «التضامن الإسلامي»، ودعم الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في قلب أمريكا، وكانت أمريكا تعيش غفلة الواثق، حتى إذا قصم ظهرها بالتفجيرات، وتبنى ذلك الإسلاميون، أخذت حذرها من الإسلام ودعاته، وفي مقدمتها المملكة، وباشرت المواجهة العسكرية. وحين تحولت من الحياد الإيجابي التوفيقي إلى الانحياز السلبي لقطبيتها وللصهاينة، وحين تعارضت تبعا لذلك المصالح، دب الخلاف بين صديقين تقليديين، وإن كان كل منهما يحيل إلى الإعلام المغرض، ويزكي المواقف الرسمية، إلا أن في الأنفس شيئاً، لماَّ يزل الطرفان يتكتمان عليه، ويحاولان إقصاءه، تهدئة للأوضاع، ومحاولة حكيمة لاجتياز المنعطف الخطير، حتى لا يراق الزيت على اللهب، ويتحول وميض النار إلى ضرام، وتلك الظاهرة العملية المعاشة تؤكد أن الخلاف مع الغرب، لا يحال كله إلى «صراع الحضارات»، ولا إلى اختلاف الديانات، وإنما يحال جلُّه إلى الظروف الطارئة والمصالح المتعارضة. المملكة يسوؤها الكيل بمكيالين، وتمتعض من تناقض المواقف، ففي القضية الفلسطينية، لأمريكا موقف منحاز لمصلحة اسرائيل، وفي الشأن العراقي لأمريكا موقف منحاز لمصالحها الذاتية، فالظلم والاضطهاد والفوضى واقعة على الشعبين الفلسطيني والعراقي، دون النظر في الشرعيات، وسيادة القانون، واستقلال كل بلد بشأنه. والاتقاء والمداراة والدفع بالتي هي أحسن شأن العقلاء، ولكن الأمر بلغ حداً لا يطاق، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني لا يمكن احتماله، كما أن الموقف من الإسلام بعد الأحداث لا يمكن قبوله.
والمؤسسات الإعلامية حين تركز على الصراع الحضاري، وتستدير تعارض المصالح والظروف الطارئة، فإنما تبحث عن وقود للرأي العام من أجل كسبه. وكل زعيم تزداد حاجته للجبهة الداخلية، كلما تعقدت الأزمات، ومن ثم يلجأ إلى الصراع الحضاري ليذكي فيه كوامن الإيمان، فالإنسان متدين بفطرته، وإن تعلمن، وعلينا ألا ننظر إلى وحدة المشاكل من خلال منظور إقليمي آني ضيق، إن هناك رؤى وتصورات ودوافع بعيدة المدى، جاء على طرف منها صاحب كتاب «صدام الحضارات» وصاحب كتاب «نشوء وسقوط القوى العظمى» وكتاب «الإعداد للقرن الحادي والعشرين» ل «بول كيندي».
ومما لاشك فيه أن سقوط الاتحاد السوفيتي بهذه السرعة، وبهذه المفاجأة، وبهذا الشكل الدرامي، وعلى يد الجهاد الإسلامي، الذي باركته أمريكا، ولم تمانع من شحن الأنفس بواجب الجهاد، وحب الاستشهاد، له أثره في تأزيم الأزمات، ومما زاد الأمور استحكاماً تعجل أمريكا بعد غياب الاتحاد لسد الفراغ، واستيعاب المعسكر الشرقي بكل خلفياته التاريخية والثقافية، وبكل مشاكله الاقتصادية والإثنية والطائفية، وبكل رواسبه النفسية. وهذا الموقف المتسرع المرتبك، حداها لاستئناف سياسة مغايرة، لما كانت عليه من قبل، وحملها على إعادة ترتيب الأولويات والأصدقاء، والبحث عن معادل آخر، تثير به كوامن الشارع الأمريكي، هذا السقوط ربك أمريكا، وخفف من اهتمامها بمعسكرها الغربي، سعياً وراء استرضاء المعسكر الآخر، وسرعة احتوائه، ليتأقلم مع الأوضاع الجديدة. ولأن صراع المعسكرين عريق، وله أعماقه المتجذرة في آفاق المعمورة، وله ثاراته وذيوله العصية الانقياد، ولأن الجهاد الاسلامي لعب الدور الرئيس في المواجهة مع الاتحاد المتداعي على يده، فقد أصبح من الصعوبة بمكان حسم إشكالياته بالطرق الدبلوماسية.
وكان أن التف الماركسيون حول أنفسهم يراهنون على أن الإخفاق الماركسي إخفاق تطبيق لا إخفاق مبادىء، فيما أسرع الإسلاميون للمطالبة بحقهم من «الأنفال» التي لم تكن لله ولا للرسول، ولكنها كانت لأمريكا التي استأثرت بكل الغنائم، ولأنها جربت نتائج الجهاد الاسلامي، وحصدت ثماره، فقد أوجست خيفة من لفظة «الجهاد» الذي حقق لها ما لم تكن تحلم به، نعم دعمته بالمال والعتاد والعدة والتأييد، وحمت ساقته ومقدمته، ولكنها لم تكن حاضرة الساحات ولا المغارات، وإذ نجحت في بنائه، فإنها لم تنجح في تفكيكه، ومن ثم لم تجد بداً من طرح مصطلح «الإرهاب» وانتزاع الموافقة العالمية على ملاحقته، وأخذ المقيم بالظاعن، ولقد ساعدها على ذلك وجود عصابات تمارس الإرهاب، وتحيل عملها إلى الإسلام، وما هو من الإسلام.
وإذ يكون الإرهاب الدموي الهمجي المتوحش قائماً ومستفحلاً وخارجاً على كل الأعراف فإن الإشكالية في اختلاف المفاهيم والمواقف، ودخوله بوصفه آلية من آليات الصراع المصلحي لا الديني، وحين نختلف حول مرجعيته، نختلف حول مشروعية مواجهته على الإطلاق، ذلك أن هناك مقاومة مشروعة يعدها البعض إرهاباً، وفي تلك الأجواء، تنفست الفتن النائمة، واختلط الجهاد والفداء والاستشهاد والمقاومة بالعنف والإرهاب، وطورد المحقون والمبطلون، واختلط المجاهدون بالعملاء والمأجورين. ووجدت أمريكا نفسها بين أصوات متداخلة، وحسبت أن كل خطاب ينازعها القطبية، ويقاسمها المكاسب، ومن ثم فوضت أمرها إلى الترسانة العسكرية، بدل أن تعالج أمورها من خلال المؤسسات السياسية، ولمثل هذا عواقبه الوخيمة، ونتائجه الباهظة التكاليف، وها هو العالم الثالث يتحول إلى ساحات دموية، تستهدف المصالح الأمريكية، وها هي ساحات الفكر والإعلام تحيل إلى مناهج الدراسة، وإلى الدعوة الإسلامية المباركة، والى ثوابت الدين، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وفي مقابل إحالة المرجفين، يأتي خطاب الإرهاب نفسه محيلاً إلى الإسلام، بحيث أصبح الإسلام مناط القول ونقيضه، ومن الخطورة بمكان الاختلاف حول البواعث. وهذه العمليات المدمرة، قد لا يكون للعالم الثالث فيها ناقة ولا جمل، ولكنه ناقلٌ لرسائل باهظة التكاليف.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:47 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تعارض مصالح، لا صدام حضارات..! «2/2»
د.حسن بن فهد الهويمل


وبصرف النظر عن أسلوب المواجهة فإن هذا الصراع أو الصدام أو التعارض نوقش على عدة مستويات، ومن عدة حقول معرفية، وكل طرف يرى أن قوله الفصل، وأنه لا معقب لحكمه، والقضية كالمذهبية، فيها تابع متعصب، يسعى لاحتواء الناس، ومتمسك غير متعصب، لا يستبدل ما يراه الأدنى بالذي هو خير، ولكنه كمن يقول: لكم دينكم ولي دين، ووسطي منفتح على كل الخيارات، يبحث عن الحق، لا عن مؤيدات الرؤية. وهذه الفئات تصطرخ فوق حلبة الصراع، وبدل التعاذر، والقبول بتعدد الآراء، نشأت بين أبناء الحضارة الواحدة والوطن الواحد العداوات والتصفيات والمزايدات. والخلاف في حقل الأدب (المؤدلج) أشد ضراوة، فلقد تعقبه دارسون ونقاد، تحسسوا عن الصراع في القول والفعل، ورصدوه: واهمين أو متيقنين، أو مفتعلين. ومن النقاد المعاصرين من تعنت في إكراه النصوص الإبداعية، وبخاصة السردية منها، ليجعلها متسعة للصراع الحضاري. ولقد كانت لي إلمامات متأنية حول هذا الموضوع، في دراسة (تحكيمية) اطلعت من خلالها على مماحكات وافتراضات تعجب من صدورها من أناس نعدهم من خيار النقاد، ليس لها من الحق شيء، ولقد كانت من الكثرة والإلحاح، بحيث اغتلى فيها ارتيابي، وكدت أركن إليها شيئاً كثيراً، ولقد انقدحت فكرة (الصراع الحضاري) عند المبدعين حقاً، وعند المقتدرين قولاً وثقافة، فكتبوا، كلاماً مفيداً أو مضراً، وسموا ما كتبوه روايات، وصدّقهم من لا يحترمون المصداقية، والحق أنها كتابات فيها الجيد والرديء، ولكنها ليست من الفن الروائي في شيء. وأبدع الموهوبون مالا غبار على فنيته وجودته واستيفائه لمقومات الفن، ولكنه يفتقر إلى صدق الرؤى، وكل هؤلاء وأولئك نذروا أعمالهم للصراع الحضاري، واتخذوا من الجنس المتفحش متكأ، حتى لقد تصدر (العهر) سدة الصراع، وكانت رواية (الطيب صالح) (موسم الهجرة إلى الشمال) الكذبة السوداء، التي سلم لها الجميع. وإشكالية النقاد التعاقب، بحيث يكون المبتدئ أمير الركب، والتابع متوسعاً فيما سبق. والمبادرة قد تأتي، ولكنها لا تغلب الكثرة، على حد: - (قد قيل ما قيل). فمن النقاد الواثقين المقتدرين الذين لا تأخذهم بالحق لومة لائم من يكون مستبداً، ينهي وقوع الحافر على الحافر، مبتدئاً رحلة العودة إلى مظان الحق، رافضاً التقاطر، ولعل التعاقب على جعل التفحش الجنسي رمزاً أو قناعاً للصراع الحضاري أدق مثال، لافتعاله فيما لحق من روايات، ولقد هيئ لتلك الافتعالات من المسايرين من كرروا الكذب، وأوغلوا في الفحش، حتى كاد يكون صدقاً. ومثلما أوغل المبدعون والنقاد في فرضية الصراع الحضاري في الأعمال الروائية، وتصديق العامة لهذه الدعوى المبالغ فيها، وجدنا من العلماء والفقهاء والمفكرين والخطباء من يحيل كل خلاف مع الغرب على صراع الحضارات، مستعيناً بالخلفيات التاريخية، وعلى رأسها (الحروب الصليبية) والإحالة على هذا التصور على إطلاقه، يحمل كل الأطراف على امتشاق السلاح بوصفه القادر على حسم الإشكالية، وكان بالإمكان تفادي هذا التصور والجنوح إلى السلام والتحرف للمواجهة الإسماعية الإبلاغية، لأن في واحدية الحل تفويتاً لفرص إيجابية، ما كان لها ان تفوت، في زمن وضحت فيه الرؤى والتصورات، أو كادت. ومع الإيمان الجازم بأن العداوة في الدين قائمة، وأنها عصية الحل، وأن اليهود والنصارى لن يرضوا عن مسلم، ولا عن أمة مسلمة حتى يتبعوا ملتهم، إلا ان النصارى في ظل الحضارة المادية المهيمنة دخلوا في العلمانية الشاملة كافة، ولم تكن النصرانية همهم الأول، والدليل على ذلك أن (المملكة العربية السعودية) - على سبيل المثال - تمنع التبشير، وإقامة الكنائس، وممارسة الطقوس الدينية على أرضها، ولا يجد الغربيون غضاضة في ذلك، فيما تمارس (المملكة) نفسها في المقابل دعم الحركات الإسلامية في الغرب، وإقامة المنتديات، وعمارة المساجد، وإنشاء الجمعيات، وطبع الكتب، وتنفيذ المؤتمرات، وتوزيع المصاحف والمطبوعات، ودعم التجمعات الإسلامية، وبعث الدعاة والأئمة. ولولا ما منيت به أمريكا من ضربة قاصمة للظهر في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحميل الإسلاميين مسؤولية ذلك، لكان للحركات الإسلامية في الغرب شأن عظيم، ولكن المكائد والمؤامرات أيقظت أمريكا، لتمنع كل التحركات، وتضيق الخناق على المسلمين، وتطاردهم في عقر دارهم، وفي ذلك تفويت لفرص ذهبية. والعقيدة الإسلامية لم تمنع أمريكا من منح جنسيتها لمن تتوافر فيه الشروط، والحركات الإسلامية تجد من الحرية والحماية في أمريكا أضعاف ما تجده في عدد من الدول الإسلامية، ولولا ما ينتاب الحركات الإسلامية من تعصب مقيت، وما يجتالها من عداوات بغيضة فيما بينها، لكان لها تأثير في الرأي العام الغربي، وهذا التسامح الغربي للتعددية الدينية في إطار مواطنة شاملة يؤكد ان الخلاف مع الغرب لا يحال بجملته على الصراع الحضاري، وهذه المؤامرة الماكرة التي وضعت المشاريع الدعوية تحت المجهر، استبشر بها بعض الإسلاميين، وبخاصة ( الراديكاليون) منهم، وعدوها نصراً مبيناً لهم، وماهي في حقيقة الأمر إلا نسف متعمد للدعوة الإسلامية التي آتت ثمارها، في بلاد يتعطش أهلها إلى من ينقذهم من دوامة الشك والارتياب، ونسف لجسور المصالح المشتركة مع دولة قوية في مؤسساتها ومعارفها وترسانتها العسكرية ونفوذها الأقوى في الهيئات والمجالس التي تشرعن للمواقف العالمية. وما نقوله ونذهب إليه لايعني استبعاد ان يكون هناك صراع وعداوة في الدين، ولا يعني ان نغفل ذلك الجانب، ولايعني التزكية والتلميع لأمريكا، فنحن نعرف كم تجرع العالم من الويلات، وكم لقيت قضايا الأمة العربية العادلة من الاجهاضات، ولما كان الغرب ملة واحدة فقد لعبت من قبل (بريطانيا) ذات الدور في المشرق العربي، ولعبت (فرنسا) ماهو أنكى وأمر في الجزائر، ولعبت (إيطاليا) في ليبيا. والمشرق العربي كحلبة المصارعة، كلما خرج مصارع دخل آخر، وفي كل جولة نقول: هذه هي الضربة القاضية، ولكن المسألة مع كل هذه الجولات الشرسة ليست باللونين الأبيض والأسود، ومن ثم يجب ان نتيح فرصاً للتصورات والخيارات، وان نشتغل في القواسم المشتركة، وأن نمارس الدعوة، ونسمع الآخر كلام الله، ونبلغه مأمنه، فلكل زمان مشروعه الدعوي، ومن أراد المواجهة العسكرية فليعد لها عدتها، ولينفق على التسلح ما تنفقه أمريكا، وكيف تتأتى المواجهة المتكافئة مع دولة اخطبوطية، تنفق على تسلحها أكثر من ثلاثمائة وسبعين مليار دولار، وهو مبلغ فلكي، لم تنفقه ست دول كبرى مجتمعة على تسلحها، وعلى الذين لايرون إلا خيار المواجهة ان يمارسوا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. ومع دعوتنا للتعويل على تعارض المصالح، فإننا لم نغفل تأثير الأصولية في أمريكا، والإحياء الديني، وصعود اليمين المسيحي، ولم نتجاهل الدعم المتواصل لليهود، والعمل على عودتهم إلى فلسطين بدافع ديني، أكد عليه من قبل (ويليام بلاكستون) في كتابه (يسوع قادم) كما لا نجهل الحركة المسيحية التي استخدمت الشبكات (التلفزيونية) تحت مسمى (الكنائس المرئية). ومع التباس الأمور، وتعدد الاحتمالات، فإن هناك دقائق في أمر (الحضارة) و(الدين) لايجوز تجاهلها في سبيل تهييج الرأي العام، وكسب ولائه. ف (الحضارة) رؤية شمولية، فيما يأتي (الدين) نصاً تنظيمياً عقدياً تعبدياً، بلد الحضارة، ثم يكون روحها النابضة، والرؤية الشمولية للإسلام تتجاوز مظاهر العبادة والمعاملات والمرافعات والأحوال إلى أشياء أوسع وأشمل من ذلك، ومن سمات الدين الإسلامي شموليته وشرعيته وانفتاح نصه، بحيث يتسع للنوازل، ويستجيب لمطالب الحياة المتجددة، والتراجع حين يكون تحرفاً أو تحيزاً، لا يكون فراراً من الزحف، وحالة الضعف تستدعي التخفيف والسكينة، وذلك ما جاء به الذكر الحكيم وتحدث عنه فقهاء الأمة في قضية (الجهاد). ومع كل التحفظات فإن (الصراع الحضاري) قد يكون قائماً، ولكنه لايقف حيث يكون التدين والممارسات الدينية. ولنضرب على ذلك مثلاً بالعلمانيتين: الشاملة والتنظيمية المحدودة، واختلاف المفكرين حولهما، بحيث تكون الشاملة عزل الحياة عن الدين، وما دون الشاملة تعني عزل الدولة عن الدين، فالشاملة تمنع الاعتقاد وممارسة العبادة وتحكيم الشريعة، فيما لا تهتم العلمانية التنظيمية في أمر العبادة، والأحوال الشخصية، ولكنها تفضل (الحكومة المدنية) على (الحكومة الدينية)، و(الحكومة المدنية) قد تجعل دستورها إسلامياً وأحكامها إسلامية، ولكنها لا تضيق على نفسها كما (ولاية الفقيه) ومسألة المستويات الحكومية مسألة دقيقة وشائكة، لأنها مختلفة باختلاف المفاهيم. ولقد قيل لتحقيق ذلك الانفتاح (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) وجاء من يستبعد قيام (الدولة الدينية) دون ان يوضح الطرفان مفهومها ومقتضيات هذه المفاهيم، وهل (الحكومة الدينية) معادلة للحكومة العلمانية، أو معادلة للحكومة المدنية؟ وكل هذه الإطلاقات التعميمية الحمقى، لم تضع تصوراً محكماً ومفصلاً، يتحقق معه إظهار الدين، وتحكيم الشريعة، وتحقيق مقتضيات الإسلام التي من أهمها العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والوعظ والتناهي والتذكير، وبتحقق ذلك لايكون هناك ما يمنع من ان تكون الحكومة: ملكية أو جمهورية أو سلطانية: (فدرالية) أو (كنفودرالية) (شورية) أو (برلمانية) (اختيارية) أو (انتخابية) إذ المهم ليس في المسميات والأشكال والإجراءات، ولكنه في المصائر والمآلات والمرجعيات، ومن قال في الدولة (الدينية) أو (المدنية) أو (العلمانية) ثم لم يكن على معرفة دقيقة بالفكر السياسي الإسلامي، فقد يقع في الشبهات، وقد تكون لنا فيما نستقبل من أيام إلمامات موضوعية في السمات الثلاث للدولة، أملاً في كشف النوايا المرتابة، وتحديد الخطابات الجامحة الرعناء، التي تتفيأ ظلال المفاهيم المتعددة.
وما أذهب إليه لايدعو إلى ترك الثنيات، وعلمنة الحياة، وإنما يدعو إلى وضع الأمور في مواضعها، ومعالجة الأحداث على ضوء دوافعها وظروفها وكوامنها، وعلى المؤمن أن يكون كيساً، فطناً، عدلاً، لايجرمنّه كره الآخرين على عدم المصداقية. وحين تفيض مشاهدنا بفرضيات لا أساس لها من الصحة، نغفل عن حقائق، تجد من غفلتنا فرصاً ثمينة للتجذر والتوسع، وخطأ التقدير والتوقيت يفوت على الأمة فرصاً كثيرة، وعلينا، وقد ادلهمت الأمور، وبلغ السيل الزبى ان نتحرف لخطاب يصطحب (تعارض المصالح) بدل (صراع الحضارات)، ولايضع (الأنجلة) أو (القرأنة) الخطاب الفرد، وإذا كان بالإمكان الدفع بالتي هي أحسن، فإن المصير إلى الصدام سبق مفضول، وما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والصلح خير، ولا يتأتى الرفق إلا باستبعاد التوتر وصراع التفاضل والتصدير والهيمنة. وحصر المواقف في خيار واحد مع إمكان التوفر على خيارات متعددة تعنت لا مبرر له.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:48 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
شيخ حقيق بالتكريم
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما استدعت المناسبات شيخا من شيوخ الفكر والادب عادت معه ذكريات عفا عليها الزمن، وألذ شيء في الحياة ان تنقلك المناسبات الى عهد الشباب، وما فيه من ذكريات جميلة.
وتكريم الاستاذ عبد الله بن ادريس من تلك المناسبات المبهجة، فلقد عرفت ابن ادريس منذ نصف قرن، وبالتحديد عام 1375هـ يوم كنت طالبا في المعهد العلمي في بريدة، في المرحلة الابتدائية، وكان هو في عنفوان شبابه مفتشا في الرئاسة العامة للمعاهد والكليات، وكان من عادة الموجهين أن يحضروا الدرس بزيهم العربي، يقدمهم احد موظفي المعهد يحمل كرسيا ليضعه في مقدمة الفصل، ثم يأتي الموجه او المفتش كما كان يسمى، ويجلس ويمضي المدرس في درسه، وكنا اذ ذاك ننظر الى الموجه او المفتش كما ينظر القروي الى عجائب الصناعات، ولما سئل احد العامة في المسجد عن اكبر مخلوقات الله قال: «القطار» ونحن في ذلك الوقت نتصور ان المفتش اهم المسؤولين واكبرهم، وظلت النظرة عالقة في اذهاننا، فكلما نظرنا الى مقال بقلم عبد الله بن ادريس اصبح في نظرنا من اكبر المقالات نقترب منه في هيبة وجلال، وقد نتهيب قراءته.
ولما يزل عالقا في أذهاننا ذلك الرجل حتى اذا أخرج للناس كتابه «شعراء نجد المعاصرون» اصبح في نظرنا فتحا مبينا وهو بحق، ومن خلال سياقه اضافة متميزة وما زالت قيمته الادبية والتاريخية قائمة.
ومع السنين اقتربت كثيرا من ابن ادريس الشاعر وابن ادريس الكاتب. وكلما قويت الصلة بيني وبينه اكتشفت المصداقية والاخلاص والنزاهة والاعتزاز بالرأي، وسواء اتفقنا معه او اختلفنا حول المفاهيم والمواقف فان الرجل يمتلك آليات نقدية وموهبة شعرية، وله إسهاماته المتعددة عبر مختلف المواقع الرسمية: تربويا، وادبيا، واعلاميا ولقد تناوله الكتاب والنقاد اختلفوا معه كثيرا، واتفقوا معه اكثر، والمسألة ليست في ان نتفق او نختلف المسألة في ان يعود هذا الاتفاق والاختلاف بفائدة على المشهد الادبي.
وعندما حضرت لشهادة الماجستير «اتجاهات الشعر المعاصر في نجد» كان ابن ادريس موضوعا لدراستي بوصفه شاعرا من شعراء نجد المعاصرين، وكان كتابه «شعراء نجد المعاصرون» من اهم المصادر التي رجعت اليها وعولت عليها.
وحين اصدر ديوانه «في زورق الحلم الجميل» تناولته بالدراسة النقدية ونشرت الدراسة في مجلة «التوباد» وعندما احتدم الجدل بين ابن ادريس والاستاذ عزيز ضياء رحمه الله حول «التراث ونقده» تدخلت لفك الاشتباك ونشرت مقالا من حلقتين في جريدة الرياض كان ذلك عام 1406ه واحلت الاختلاف بينهما الى الاختلاف في المفاهيم لا في المواقف.
وحين كرمه نادي الرياض الادبي كنت المتحدث الرئيس حول مبلغ بن ادريس من النقد، والقيت ورقتي التي اثارت اطرافا كثيرة وحظيت بمداخلات متعددة ذلك انها اعتمدت على اثارة التساؤلات لا تقرير الحقائق، ولما تزل الدراسة بانتظار النشر صحفيا او كتابيا ليفصل فيها القراء ويقولوا كلمة الحق.
واليوم وبعد هذا العمر الطويل الحافل بالعطاء، جاءت الاسرة لتكرم واحدا من ابرز رجالاتها، وجاء الامير سلمان لينوب عن الجميع بتقدير ذلك الرجل الذي تجلت امكاناته ومواهبه في اكثر من موقع ولما يزل يتواصل مع قرائه ومحبيه محتفظا بامكاناته العلمية والادبية.
وعلاقتي به علاقة التلميذ والصديق والزميل اختلف معه فيرحب صدره، وأتفق معه فيرحب صدري، وسيظل حاضرا بذاته، وبما تركه من اعمال ابداعية واعمال نقدية واسهامات صحفية في فترات حساسة من فترات العالم العربي.
ومثل هذه المناسبات تعيد الانسان الى ايامه السعيدة ايام الشباب وطموحاته فلكل من اسهم في تكريم الكفاءات الوطنية الحب والشكر والتقدير.


(*)رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الادب الإسلامي /رئيس نادي القصيم الادبي /أستاذ غير متفرغ في جامعة الامام
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:48 PM   #10
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي).. ! 1/3
د.حسن بن فهد الهويمل


الهدف الأسمى لهذه المقولة لملمة أشتات الرؤى والتصورات التي يدرك بها البعض ليل السياسة العربية الضاغط، بغية الوصول بها إلى صيغة سياسية انتقائية أو توفيقية أو تلفيقية، تحقق المقتضى الإسلامي، بوصفه إرادة شعبية، وتمكن من امتصاص نسغ التجارب الأخرى، وتواكب المتغيرات الإيجابية، وتخلص الأمة العربية الممتحنة من خطابات مغثية، يخوض بها المتسطحون على الأحداث. ومتى تحقق المقتضى الإسلامي في الحكم، على أي شكل من أشكال السياسة، وعبر أي نظام متداول في المشهد القائم، تحقق معه: العدل، والمساواة، والحقوق، والمشاركة، والنهوض بمتطلبات العصر. فالإسلام كفل للإنسان على الأرض، وللطائر في السماء، وللسمك في الماء، ولكل أمة من الأمم التي لا يعلمها إلا الله حياة تناسب وجود أي كائن {وّمّا مٌن دّابَّةُ فٌي الأّرًضٌ وّلا طّائٌرُ يّطٌيرٍ بٌجّنّاحّيًهٌ إلاَّ أٍمّمِ أّمًثّالٍكٍم}. ومتى استدبرت أمة الإسلام مقتضياته، وركضت وراء بوارق الأنظمة القائمة في الشرق أو في الغرب، فوتت على نفسها فرصاً كثيرة. والإخفاقات التي تتعرض لها المؤسسات السياسية المنتمية للفكر السياسي الإسلامي عبر التاريخ إن هي إلا إخفاقات تطبيق، والعلاج لا يكون بنفي المبدأ، وإنما يكون بتمثله حقيقة لا ادعاء. ف«الديمقراطية» التي تشكل الأنموذج المعشوق شكل سياسي ناجح في الغرب، وهو المهيمن على كل التطلعات. ولقد هُدهِد العالم الثالث على سرابياته ولما تزل دعوى الكاذب، ومطلب المغلوب، وحجة الثائر، وكل الأطراف تعرف استحالة التمثل الكامل لها، لأن طبائع الشعوب وحضاراتها المتجذرة في الواقع وفي أعماق النفوس لا يتأتى في ظلها الإحلال البديل، ومن جهلها أو تجاهلها غرق في متاهاتها. وما من أمة إلا خلت فيها أشياؤها: الحسية والمعنوية، وتجذرت، حتى لايمكن القضاء عليها بسهولة، أو الاستغناء عنها بيسر. فالأمم والشعوب تقوم على مبادئ وأعراف وشرائع: وضعية أو سماوية، عرفية أو أبوية، {إنَّا وّجّدًنّا آبّاءّنّا عّلّى" أٍمَّةُ} هذه السوائد توارثوها جيلاً عن جيل، وأصبحت جزءاً من التاريخ ولبنة من بنائه. والصيرورة الكلية الفورية إلى أي نظام طارئ مهما كانت مشروعيته أو معقوليته من المستحيلات. فأين المبادئ والأحزاب والأنظمة المبتسرة التي أنفق الثوريون في سبيل تكريسها خبز الجائعين وألحفة المقرورين وأحذية الحافين، وروّي بدمائهم صعيدهم الطيب؟. إن هم الإصلاح الرفيق يختلف عن جناية الاستبدال المستشيط، والتجمد والنمطية والخوف من التحرف للأفضل مؤشر جهل بطبيعة الحياة المتجددة، وإعجاب بالرأي وبالذات. وواجب المنظرين والمنفذين ان يراعوا الأحوال، والإمكانيات، والسوائد، ورغبات الشعوب، بحيث لايكرهون الناس على أن يكونوا كما يريدون.. وأحد أنبياء (الديمقراطية) كما يسميه (أدوار بيرنز) (يذهب إلى أنها نظام في الحكم لا يصلح لجميع الشعوب). ذلك أن لكل أمة إرادة صائبة أو خاطئة، والبراعة في تصويب هذه الإرادة، دون إثارة. والشعوب الإسلامية كافة لا ترضى بالإسلام بديلاً، واستكانتها أمام المبدلين استكانة العاجز المتربص. ولهذا فكل انتخاب حر نزيه صحيح يفوز به الإسلاميون، حصل ذلك في (تركيا) وفي (الجزائر) وسيحصل في كل بلد إسلامي يمارس الانتخاب الحر النزيه. وإذا أخفق المشروع الإسلامي، فليست العلة في ذات المشروع ، ولكنها في الممارسة التطبيقية، وفي فعل الوصوليين الذين يخادعون الله، وهو خادعهم {وّيّمًكٍرٍونّ وّيّمًكٍرٍ اللّهٍ وّاللَّهٍ خّيًرٍ المّاكٌرٌينّ } .
وكل دولة مستبدة تدعي أن نظامها الأفضل، وأن شعبها أسعد الشعوب، والدول النامية هي الأكثر ادعاء، والأكثر نقداً وتلاحياً فيما بينها، والأقل فعلاً وتفعيلاً لمؤسساتها الشكلية. والدول (الديمقراطية) حقاً، لاتتحدث عن ممارساتها التطبيقية، ولا تتقحم مآزق المفاضلة والتصدير، ولكنها تترجم مقتضيات النظام عملاً، يكفل للمواطن الاستقرار والثقة والاطمئنان والحياة الكريمة. و(الديمقراطية) التي يلوكها كل لسان، ويدعيها كل نظام، تختلف من خطاب لآخر، والناس معها مقل ومكثر، تكون إجراء صرفاً، وتكون إجراءً و(أيديولوجية). فهناك (ديمقراطية) شرقية، وأخرى غربية، وهناك أنظمة وأنماط رديفة للمفهوم (الديمقراطي)، تفرضها (أيديولوجيات) متفاوتة، قد تحد من الحرية المطلقة للأمة. وواجب النخب المتصدرة، ان تفرق بين المدلولات، ذلك أن الخلط بين المفاهيم مظنة التعثر. والخطاب السياسي، وبخاصة الشورى، لايميز، أو لايريد أن يميز بين مفهوم (الديمقراطية) و(الحرية). والعالم بأسره مر بنظريات سياسية، صلحت لمرحلة أو لأمة، ولكنها لم تكن صالحة في زمن آخر، ولا في مكان آخر، ولا لأمة أخرى، ونظرية الإحلال الفوري مغامرة محكومة بالفشل الذريع، والناس جميعهم عيال على المطارحات (الميكافيلية)، وان تسللوا لواذاً متقنعين ب(الديمقراطية) التي بلغت أوجها في القرن العشرين، وتناولها (بيرنز) في كتابه (النظريات السياسية في العالم المعاصر) من خلال فرضية سماها (أنبياء العهد الذهبي) واستهل حديثه بتأزيم المصطلح، فهو الأكثر غموضاً وإبهاماً، بحيث يستوعب جميع أنواع المعاني لدى الناس جميعاً، والمصطلح حينما لايكون جامعاً مانعاً، لايكون مصطلحاً.
وحين تمر الدولة بحالة ضاغطة: داخلياً أو خارجياً، تعيد النظر في نظامها أو في تربيتها، وتحاول التحول من مفهوم لآخر، لتلافي مثل هذه الحالة، ولكن البعض لايعدو كلامه حد القول. والدول الثورية أكثر ادعاء، لأنها تبرر ثورتها بغياب (الديمقراطية) أو بخيانة الوطن، والقادمون أكثر تغيباً وأكثر خيانة. وحين يلوح أي نظام بالإصلاح، يدب ذوو البيات الشتوي من جحورهم، معلنين أو ملوحين، بما ينطوون عليه من رؤى وتصورات، فيكون العلماني الشمولي المتطرف، والعلماني التنظيمي المعتدل، والإسلامي الموغل بعنف أو برفق، والحزبي التنظيمي أو (الأيديولوجي) أو الأصولي المتعنت، وتلتطم الآراء، ثم يدب الخوف والخلاف، ويفضل العقلاء ما هم عليه، خوفاً على البلاد والعباد من لعبة قاصمة، أو مؤامرة قاضية. وكل من يدعي التغيير المطلق يفقد المصداقية، فالدساتير لايمكن ان تنكس رأساً على عقب، والإصلاح المرحلي المتدرج هو الحل الأمثل. والدول الحكيمة هي التي تتعامل مع شعوبها برفق، وهي التي تمشي الهوينا على طريق الإصلاح، شأنها شأن العلاج أو اللقاح الجديد، لايعمم إلا بعد تجربة جزئية محدودة، مصحوبة بمراقبة وحذر وتقويم.
والعالم الثالث لما يزل يمر بحالة من التعدد والارتباك والتجريب، فهناك حكومة الحزب، وحكومة الطائفة، وحكومة العرق، وحكومة القطر، وقد يمتد اسم الدولة ليكون سطراً، بينما الحاكم بأمره كلمة ناقصة، وكل هذه الأشكال تقوم على فتن نائمة، واستكانة الشعوب استكانة المتحين، فأي ظرف استثنائي قد يفجر الواقع، ومن ثم تدخل الأمة في حرب أهلية دموية، تهدد الاستقرار والأمن، ومن لم يؤمن، فلينظر إلى من حوله من دول تلعب بها أعاصير الفتن، وتعصف بها الحزبيات والطائفيات والعرقيات، مهيئة الأجواء للمجاعة والخوف والأوبئة والتدخل الأجنبي بدعوى تحرير البلاد وإيقاف نزيفه. والمذكرات والاعترافات واللقاءات عبر الكتب والصحف والمحطات تكشف عن سيئات الحكومات المتعاقبة، ومن أصاخ إلى فلول الحكومات في المنافي والملاجئ يصاب بالغثيان، وبحمدالله أن نجا بدينه وعرضه ومثمنات بلده، ومثل هذه الحكومات: إما أن تكون (دكتاتورية) متحزبة، أو (دموية) متعلمنة، أو أنها تجمع بين السيئتين، أو أنها إسلامية الشعارات لا الشعائر، وقلما تكون (قوية عادلة). والقوة والعدل تكون في الغالب منتج السياسة (الثيوقراطية)، ومن ثم لا تتحققان في ظل التعددية: الطائفية أو الدينية. والمتابع لايقف على ضابط يقيس به ما يواجهه من خطابات، ذلك أن مسألة العالم الثالث مفتوحة على كل الاحتمالات، والأصوليون يقولون: (الاحتمال لايقوم به الاستدلال). ولقد تمر الدولة بحالة من الاستقرار، ثم تصاب بنكسة مدمرة، ثم لا يكون للحالين معيار دقيق. وكل الأنظمة التي تعيش على الصدف، ولا تعول على المؤسسات والثوابت، تكون عرضة للفراغ الدستوري القاتل، ولهذا يؤدي غياب الحاكم لأي سبب إلى فتنة عمياء.
والإصلاح المتزن لا تأتي به طفرة هوجاء، ولا ثورة دموية عمياء، ولا يحققه الخروج على الحكومة الشرعية، ولا يجلبه التدخل الأجنبي، و(الديمقراطية) لا تصدر، ولا تفرض بقوة السلاح، إنها حضارة وفكر و(أيديولوجية) تكون في البدء بذرة، ثم تنشق عنها الأذهان، فتتفتق، ثم تصبح وارفة الظلال. وما لم تتهيأ الأمة لتقبلها، تتحول إلى فساد كبير. وما فوته الثوريون على أمتهم باسم (الديمقراطية) أو القومية أو الوحدة أو الحزبية لا يقدر بثمن. وكل دولة قائمة تستطيع أن تمارس الإصلاح المرحلي، وأن تتحول أشياؤها من النقص إلى التمام، وذلك فرض عين، وبخاصة من القادرين على استكمال ماينقص، والتحول المرحلي المؤسساتي هو الطريق القاصد، ولابد ان يسبق ذلك بالتوعية لا بالدعاية. فالتوعية مهمة، لأن الأمة الواعية لا تقع تحت طائلة التآمر والدسائس. والسمة النظامية ليست مهمة، ولا حتى الهيكلة والشكليات، وإنما المهم النتائج. وإشكالية الخطاب الثوري أنه ظل واقفاً عند السمة، فهو مثلاً ضد (النظام الملكي)، لمجرد أنه مغاير للسمة (الجمهورية)، وكلا النظامين بوصفهما سمة لا قيمة لهما، القيمة في الأداء والممارسة والنتائج. و(الديمقراطية) دعوى الخطاب الثوري الإعلامي، يتغنى بها، ولكنه لايحقق أدناها، فكأنه خطاب شعري، يقول ما لا يفعل، ولا يلحق به إلا الغوات من الغوغاء، ولما يزل الخطاب في تقلب مستمر، فيما لم تتم المكاشفة والمراجعة، فالذين يدعون (الديمقراطية) ماذا حققوا من مقتضياتها؟ والذين ينقمون على سائر الأنظمة، بماذا يدلون؟. والمد الثوري جعل شيطانه الأكبر منبع (الديمقراطية) الحقة، مع تغنيه بها. والقادمون بها على مطايا الفرقاطات والراجمات، لو مكنوا الشعوب منها، وأخضعوا الحكام لها، لكانوا أولى قرابينها. إن الأمة مغلوبة على فكرها قبل أن تكون مغلوبة على أمرها، وغلبة الفكر أن تظل في الوهم، وأن تظل النخب في انتظار القادم، لتقول مايقول، وكأنه (حذام).
وإشكالية المبادئ والمشاريع تعدد الأقنعة ووحدة الوجوه. والرصد التاريخي للخطاب (الديمقراطي)، يحيل إلى مفاهيم جديدة، تخطت ربط مصدرية السلطات بالشعب إلى أشياء أخرى، كالمساواة والحرية، علماً بأن مثل ذلك من طرائق الحياة (الديمقراطية) أو قل من نتائجها، فالرجوع إلى الشعب يعني التوفر على الحرية والمساواة.
وأياً ما كان الأمر فإن العالم العربي يعيش حالة من الارتباك والتردد والتناقض، والبوادر لاتبشر بخير، ولاسيما أنه مغلوب على أمره، محكوم بحاجته التي لم يستطع التوفر عليها أو الاستغناء عنها، ومع كل هذه التحذيرات فإنني لست متشائماً، ولست متحفظاً على أي محاولة تجديدية، ولست مشيداً بأي ممارسة، ما لم ألمس نتائجها ماثلة في الطبيعة، ولست متمسكاً بالسوائد ولا مؤمناً بمقولة: (ماترك الأول للآخر شيئاً).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:51 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي)..! 2/3
د. حسن بن فهد الهويمل


والسواد الأعظم، المتهافت على المصطلحات، دون فهم دقيق لجذورها الفلسفية، ودون تحفظ على حواضنها الفكرية، يمنون بالفشل الذريع. والغرباء الأقل عدداً، والأخفت صوتاً، يأخذون حذرهم، فيفرقون بين المفاهيم والمرجعيات والمبادئ والإجراءات، ويضبطون إيقاع التحولات والتناقضات، وإن اتحدت المسميات. ف(الديمقراطية) الغربية تختلف عن (الديمقراطية) الشرقية. و(ديمقراطية) الإجراء تختلف عن (ديمقراطية) المبدأ. والمغرمون بتداولهم لها يعرضون مبادئهم للمداهنة، والمناوئون يغرقون في المجادلة في غياب البصيرة، معرضين أنفسهم للتجهيل وفقد المصداقية. ولو أن الأطراف وعت المصطلحات حق وعيها، لاتخذت منها مواقف مدعومة بالمعرفة ومحكومة بالقسطاس المستقيم. و(المتأدلجون) مع المبادئ والمذاهب غير المتفاعلين معها دونما صيرورة عقدية، والأدعياء غير الأولياء، والقابلية غير المغالبة. والمتهافتون لا يكتفون بمشاركة الأمة في صياغة الدستور، بل يؤكدون على أن الشعب مصدر السلطات: التشريعية والتنفيذية، والموائمون منهم يقولون: - «إن صوت الشعب هو صوت الله). والمحاورون يدخلون في لجج من الرؤى والتصورات، ولما يُعدوا للجدل عدته، وتلك سجية يمنى بها المهتاجون العزل. ولأن (الديمقراطية) حمالة أوجه، فقد تتسع للشيء ونقيضه، فالاشتراكيون يرون التماس الحكومي مع كثير من أحوال الشعوب جزءاً من (الديمقراطية)، فيما لا يراه الغربيون الذين يعتمدون الاقتصاد الحر، وما ظاهرة الخصخصة للشركات والمؤسسات إلا سبيل من سبل العولمة الناسلة من عباءة (الديمقراطية)، فهي تحجيم لسلطة الدولة بمفهومها القديم، وبداية لعزلها عن التدخل المباشر والشامل. ومع هذه التجربة، نجد أن (العمالة) تطالب بعودة الحكومة إلى الساحة، لتفك الاشتباك بينها وبين رأس المال المستأثر بالفائدة. فالحكومة مع كل التحولات ضرورية، وضبط سلطتها ضروري أيضاً، والغوغاء المنتخبون يعانقون الرافضين للسلطة، ويحسبون أنها تغيب مع قيام (الديمقراطية) ولما يعرفوا أنها لون من ألوان السلطة، وأن الحرية المنضبطة لا يحققها إلا القوة والعدل.
و(الديمقراطية) بوصفها غربية الممارسة، (يونانية) الانتماء، وضعية الاعتقاد، أخذها الشيوعيون بمفهوم آخر، بحيث أطلقوا عليها (الديمقراطيات الشعبية) وقيادة الحزب الشيوعي لسياسة الدولة يعني إجهاض المدلول الغربي. وقد أخذت بعض دول العالم الثالث المنتمية للكتلة الشرقية بهذا المفهوم (الدكتاتوري) الاستبدادي التسلطي، المعتمد على العنف والدموية، ولهذا لم يكتب للشيوعية البقاء، وكل نظام يتخذ الظلم والتسلط شرعة ومنهاجاً مآله إلى الانهيار. وقد جاء في القرآن {وّمّا كّانّ رّبٍَكّ لٌيٍهًلٌكّ القٍرّى" بٌظٍلًمُ وّأّهًلٍهّا مٍصًلٌحٍونّ}، ولم يقل «صالحون»، ومعنى هذا: أن الله لا يهلك القرية المشركة، وأهلها يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم، وهو ظلم، ظلماً آخر. والذين اتخذوا الماركسية من دول العالم الثالث أوغلوا في الدموية، ومن أراد الاطمئنان، فليستعد التاريخ الحديث، وبخاصة ما يتعلق بالصدامات الحزبية في (عدن) قبل الوحدة، وفي (العراق) إبان الوجبة الأولى من الثورات مستعرضاً إجابات (إبراهيم الداود) جريدة (الحياة من 9 إلى 12/1424هـ). لقد أضاف الشيوعيون العرب أسلوباً همجياً وروحاً تدميرية، فكان ان استحقوا عذاب الله، وأخذه العزيز المقتدر، إذ لم يكونوا صالحين ولا مصلحين. ومن نشد الإصلاح والأخذ بمعطيات الحضارة، فليس هناك ما يمنع من المواءمة، وبخاصة من جانب المستفيد، إذ من الممكن تحويل (الديمقراطية) من (الأدلجة) إلى الإجرائية، وليس شرطاً الأخذ بها على أنها (ايديولوجية) ذلك أن سيادة القانون، وقيم الحرية والعدالة معطيات متعددة المرجعيات، فالفكر السياسي الإسلامي يتسع لما تتسع له (الديمقراطية)، ومن الممكن الاستفادة من إجراءاتها وتنظيمات ذويها. وكل مذهبية أو حزبية أو طائفية أو عرقية تتعصب لواحدية الانتماء تقضي على وجودها الحسي والمعنوي، والقول بمحورية واحدة مع تعددية المتمحورين رؤية مفتوحة، تحتاج إلى ضابط، تتحدد معه المرجعية والهوية والانتماء.
وفقاعة (الديمقراطية) تعشي (زرقاء اليمامة)، ففي كتاب (من فقة الدولة في الإسلام) (للقرضاوي) إيماءة عازمة لمشروعية الاقتباس من (الديمقراطية): - (لتحقيق العدل والشورى، واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض) - على حد قوله -. وما أشار إليه من عدل وشورى واحترام لحقوق الإنسان إنما هو بعض مضامين الفكر السياسي الإسلامي، والأخذ بشيء من ذلك أخذ من مقاصد الإسلام، وليس أخذاً من (الديمقراطية)، فحد (الديمقراطية) أن يكون الشعب مصدر التشريعات والسلطات، فيما هو في الإسلام منفذ السلطات، وعليه اختيار الطرق والوسائل والنظم الملائمة للمرحلة المعاشة، وكنت أود لو أنه - وهو العالم الضليع - قال بالاستفادة من التنظيمات والتشكيلات والإجراءات الحديثة. فالعدل مطلب إسلامي، ولكن كيف يتحقق، ما الإجراءات السديدة التي يتحقق بها العدل، فالتنظيمات والإجراءات هي مكمن الاختلاف المشروع لا الخلاف المحظور. فمن الأنظمة من تحققه بطريقة بطيئة مكلفة، ومنها من تحققه بأسلوب سريع وغير مكلف، وكلما جدت طرق وأساليب، وجب الأخذ بأحسنها، وأيسرها على الأمة، لأنها ضالة المؤمن، وما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، ويقال مثل ذلك فيما يتعلق (بحقوق الإنسان) القائمة على (المساواة) و(الحق) و(الحرية) ولكلَّ محورٍ مجالاته. واللغط حول الحقوق كثيرة. والإسلام ضمن الحقوق للإنسان والحيوان وخشاش الأرض، وهل من رحمة تعدل مثوبة (مومس) سقت (كلباً)، وتعذيب امرأة حبست (هرة)، والحقوق كما يراها الغرب، تختلف عنها في الإسلام، وليس من الممكن مسايرة الخطاب الغربي، ذلك أن للمسلمين حضارتهم، وللغرب حضارته، وإذا قلنا بالإسلام، وجب أن يكون خطابنا إسلامياً. لقد ساد القول بالحق منذ التصورات الذهنية (للقانون الطبيعي) قبل الميلاد، حتى (توماس الأكويني ت 1274)، على أن الفكرة لم يسلّم لها الكافة، بل هوجمت من قبل (فقهاء الألمان) وجاء من بعدها مصطلح (مبادئ العدالة). ف(العقد الاجتماعي) وانتهاء ب(حقوق الإنسان) المعلن عن 1948م، متضمناً: (المساواة) بمجالاتها الستة، و(حقوق الذات)، و(الحياة)، و(الحريات): - حرية التفكير، والضمير، والدين، والرأي، والتعبير، والسياسة. والذين قالوا بالحق الفردي، نسوا أو تناسوا حق الشعوب في تقرير المصير، وحقها في ثرواتها ومواردها، وحقها الثقافي والاجتماعي، وهي حقوق معطلة من قبل حماة الحقوق على حد: - (وقتل شعب آمن قضية فيها نظر).
والإسلام الذي حدد الحقوق والواجبات، ترك أسلوب توفيرها لأهل الحل والعقد، فقد تكون عن طريق المؤسسات الرسمية، أو عن طريق المنظمات الشعبية، المهم أن يتوفر الإنسان على حقوقه المشروعة، وهنا نعود إلى مصدرية الحق: أهو الوحي أم العقل، أم الإرث أم العرف، أم هي معاً؟. وما لا شك فيه أن (الديمقراطية) معطى عقلي، اكتسب مشروعيته من العقل المستبد، وكل الحضارات الوضعية وغيرها تتوخى الأفضل، وتستثمر ما سلف من حضارات، ويبقى الإسلام من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. ومع أنه من عند الله، فقد تقاطع مع كل الحضارات، والتقى معها في كثير من مبادئها. وإذ تكون هناك مساحات مشتركة، فإن من الحصافة أن يستغلها الخطاب الإسلامي، لتهدئة الأمور، والجنوح إلى السلام. والعقلانية المستبدة كغيرها من مصادر التشريعات الوضعية، ليست بريئة في منجزها، إذ هي محصلة تراكمات حضارية، لهذا كان بالإمكان أسلمة العقلانية، والأسلمة تعني الرد إلى الله والرسول، وربط كل المكتسب التجريبي والتنظيمي بالمقتضى الإسلامي، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة ب(العقل) و(الإرث) و(العرف)، متى لم يخالف شيء منها (نصاً) قطعي الدلالة والثبوت. ولقد ذهب البعض إلى أنه لا معنى (للديمقراطية) ولا (للعلمانية) في ظل الإسلام، إذ هما مطلوبتان في ظل حضارات تفتقر لمثليهما. فالعلمانية تخليص من سلطة (الكنيسة) المتجمدة وتسلط (الكهنوتية) المستغلة، وليس في الإسلام سلطة كنسية ولا كهنوتية متسلطة، ذلك أن نظامه السياسي شوري اجتهادي وتطوري مرن، يحيل إلى العقل والتفكير، والبر ما اطمأنت إليه النفس، وحديث (استفت قلبك) تفويض مضبوط بالمقاصد، والكليات الإسلامية.
والذين نفوا وجود نظام سياسي إسلامي صالح، لم يكن لديهم استعداد للقراءة البريئة والتأمل العميق، كما لم يفهموا بعد مقتضيات ذلك الفكر ومقاصده، وتصوراتهم الخاطئة أردتهم. نجد ذلك عند (علي عبدالرازق) وعند سائر العلمانيين والماركسيين من بعده، وبخاصة (محمد سعيد العشماوي) الذي أوغل في الطعن في الخلافة والحكومة والحكم والتشريع الإسلامي، وتصور الحكومة الدينية كما يتصورها الغرب. وفي ذلك مسايرة غبية للغربيين المنكرين لفكرة وجود مبادئ للدولة في الإسلام، و نصوص الشريعة متضمنة لمبادئ السياسة وقواعد العلاقات التي لها أبعادها العالمية والإنسانية وضوابطها للعلاقات الدولية في حالة السلم والحرب. على أن طائفة من المستشرقين أشادوا بالقيم السياسية في الإسلام من مثل (شاخت) و(نللينو) و(ستروتمان) و(ماكدنونالد) و(جب) وغير أولئك كثير. ومن مختلف التصورات فإن الإسلام يركز على النتائج، تاركاً الأساليب للظروف، ومن ثم فإن تحكيم الشرع، وإظهار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهوض بأمر الدعوة، تمثل مقتضيات الفكر السياسي الإسلامي. وكيف لا تكون في الإسلام مبادئ سياسية، والله أنزل الكتاب بالحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط، و(صحيفة المدينة) إن لم تثبت سنداً فقد ثبتت متنا، وبهذا تعد منتجاً مبكراً للوثائق والدساتير.
و(الثيوقراطية) مصطلح سياسي، يجري عليه من الاختلاف وتباين وجهات النظر ما يجري على مصطلح (الديمقراطية). وبالجملة فإن مقتضياته تتأدى على أساس عقدي ديني، وإذ تستمد (الديمقراطية) سلطتها من الرؤية والتصور الشعبي، فإن (الثيوقراطية) تستمد سلطتها من الدين، وكل متحدث عن هذا المصطلح يربطه بمصطلحات أخرى ك(الحق الإلهي) و(ولاية الفقيه) و(الحكومة الدينية) على مختلف تصوراتها، وإذ تدخل هذه المفاهيم في المصطلح أو لا تدخل، فإنه لا يُلزم بها الفكر السياسي الإسلامي، فالحكومة الدينية أو المدنية يحتويها الإسلام، ولا تحتويه، وتعرف به، ولا يعرف بها، وإخفاق التطبيق لا يتحمله المبدأ.
إذاً هناك معادلة ثنائية:
(الديمقراطية) تعتبر الشعب مصدر: التشريع والسلطة.
(الثيوقراطية) تعتبر الله مصدر التشريع، والشعب مصدر السلطة.
والإشكالية في فهم المقتضيات، وصياغة المفردات والحقوق والواجبات. والمقولات بأن (الحاكم بمثابة ظل الله على الأرض) أو مقولة ب(أنه مفوض من السماء) أو أنه (يستمد مقوماته من المشيئة الإلهية) مقولات فيها تعميم. وهي إطلاقات المعادل المناوئ. وحتى القول بمطلقية (الحق الشعبي) أو (الحق الإلهي) في الممارسات التطبيقية للمصطلحين المتناقضين قول فيه أقوال. وعلينا قبل الدخول في المعادل الإشارة إلى أن الإسلام ليس ديناً شعائرياً (ميتا فيزيقياً) فحسب، الإسلام دين ودولة، شرعة ومنهاج، علاقة بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوق والمخلوق بكل أنواعه، حتى بين البهيمة الجماء وذات القرون. وبهذه الدقة والشمولية والرأفة والثبات يختلف الإسلام عن الديانات المحرفة. وإذا أخفقت (الكنيسة) في إفراز نظام سياسي، فإن الإسلام قادر على طرح مشروعه السياسي المستوعب لكل متطلبات إنسان العصر (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، والأصوليون يختلفون في مفهوم عدم التفريط، و(للشاطبي) رأي وسط في (موافقاته).
والمصداقية تقتضي أن نقول: إن هناك أشكالاً وأنظمة في الحكم الوضعي عادلة وناجحة، ولكن ذويها لا يرجون من الله ما يرجوه المسلمون عند إقامة العدل، وتحقيق النجاح واستعمار الأرض، والإحسان إلى الناس كافة. وبعض المسلمين بالاسم نفوا إسلامهم، وابتغوا حكم الجاهلية ادعاءً لا امتثالاً {وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. وهذا التذبذب بين الإسلامية و(الديمقراطية) التبست معه الأمور، وأخفقت فيه النتائج، فإذا وصف (الديمقراطية) حاكم مثل (ابراهام لنكولن) وقال: - (بأنها حكم الشعب بالشعب وللشعب) فإن مقولته هذه صادقة، لأن (الديمقراطية) عنده تمثل مقاصدها المكتوبة، وليس هناك رئيس يستطيع أن يحرف شيئاً من ذلك، ولا أن يتعالى فوق القانون، ولكن إذا قالها (ثوري عربي) فإن في المسألة أكثر من نظر. إذاً هناك كلمات تطلق هنا وهناك، فتكون في مكان حرية نابضة، وفي آخر شكلية فارغة.
ومما لا مراء فيه أن المشهد الفكري العربي يمر بحالة من الاضطراب المخل بأهلية التصدي للمتداول: تنظيراً أو ممارسةً، رؤيةً أو واقعاً. وكل المحاولات التوفيقية أو التلفيقية أو الإحلالية فشلت في إيقاف هذا التدهور والإبقاء على ثمالة الوفاق، إن كان ثمة رسيس يبل الصدى. والذي أسهم في تعميق الترديات صراع الانتماءات الشكلية، بل صراع الذات مع نفسها. فهناك: القومي، والبعثي، والعلماني، والشيوعي، والناصري، والإخواني، والقطري، والقبلي، والطائفي، وكل خطاب يكيد للآخر، ويتربص به الدوائر، وهذه الصراعات المستحرة تغذيها قوى خارجية، وليست في جملتها منتجاً وطنياً، بحيث يمكن التوفيق بين وجهات النظر. لقد كان الصراع في الخمسينيات والستينيات وشطر من السبعينيات ثنائياً: - يسارياً أو يمينياً. وكل خطاب يتوسل بالقومية، بوصفها القاسم المشترك، وبعد تراجع اليسار وانهيار القومية، صعد خطاب إسلامي متعدد المفاهيم والتصورات والحدِّيات، وأحسبه الخطاب الأكثر تعميقاً للصراع، لأنه الخصم التاريخي المتحفظ على كل الخطابات، والمتحفظ عليه من كل الخطابات، ولهذا لا يجوز أن يكون مشاعاً ولا مستباحاً لكل من قدر على القول، أو رغب في الانتهاز، ولكي يطرح المشروع الإسلامي نفسه كما أراده الله، فلا بد من الدخول في المؤسسات كافة، والخروج بخطاب موحد، يصالح ولا يصادم، ويبادل ولا ينابذ، ويفرق بين اختلاف الاجتهاد وخلاف المبادئ والمرجعيات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 26-11-2006, 01:45 AM   #12
العصفور الأنيق
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Jun 2006
المشاركات: 140
رائع أخي عباس
إنك كبير ،،، حين أطلعتنا على قدر الكبار
__________________
لا ينظرون وراءهم ليودعوا منفى

فأمامهم منفى

لقد ألفوا الطريق ...

( محمود درويش )
العصفور الأنيق غير متصل  
قديم(ـة) 26-11-2006, 08:38 AM   #13
التويجري
عـضـو
 
صورة التويجري الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2004
البلد: قلب أمي
المشاركات: 3,189
.
.
.

ما أطول نَفَسَكَ يا عباس ..!

ماشاء الله ..

نِعْمَ الناقل ونِعْمَ المنقول ..

.
.
.

__________________
التويجري غير متصل  
قديم(ـة) 26-11-2006, 11:12 PM   #14
عمر الصمعاني
King of light
 
صورة عمر الصمعاني الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Sep 2001
البلد: السعودية
المشاركات: 1,190
بارك الله فيك على هذا المرجع العظيم .. الذي سيستفيد منه الجميع بإذن الله
ونعم بالجميع الناقل والمنقول عنه
عمر الصمعاني غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 09:33 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)