|
|
|
|
![]() |
#1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الفكر التصالحي في خطاب عبده ..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ونحن بهذا الاستجلاء، لا نُحدِّد موقفنا من آرائه التي خالف فيها الجمهور، وإنّما نريد اكتشاف نزعة (المصالحة) في كافة ممارساته السياسية والفكرية والدينية، وفي تفسيره كواحد من منطلقاته الدعوية، وإلاّ فإنّ للإمام (محمد عبده) تأمُّلات وتأويلات لا نجد مبرراً للأخذ بها، كما أنّ هناك آراء حول حركته الإصلاحية واتهامات حول أهدافه وغاياته وارتباطاته لا يعنينا تفنيدها. وما من مفكِّر بحجم (محمد عبده) إلاّ وتختلف الآراء حول مذهبه، وهو مع كلِّ ذلك يشكِّل منعطفاً فكرياً لا يُستهان به، وله إلى جانب الدعوة نزوعٌ فكريٌّ عميق الرؤية ساقته إليه النزعة المادية التي طغت في الغرب، وشكَّلت ثقافة إلحادية. وكتابه (رسالة التوحيد) و(الحاشية على شرح العقائد العضدية) وشرحه ل(البصائر النصيرية) في المنطق تكشف عن جهد فلسفي استدعته المرحلة المعاشة، ولا أحسبها رغبة عَمَد إليها، وأنشأها بطوعه، هذه النزعة تكشف عن ميله إلى التأويل العقلي، ومعالجة الأمور الغيبيّة مستعيناً بالعقل والمنطق، على الرغم من المحاذير في هذا الاتجاه. ولكن هذا الميل لا يخل بنزوعه إلى (المصالحة)، وهو ميل فرضته الفلسفة المادية في الغرب، مع أنّه قد حمل على المؤولين والموغلين في تصوُّر عالم الغيب، وعلى الذين يعتنون بالتفصيل. فهو ميّال إلى فهم المعاني إجمالاً، وليس معنياً بإتقان خطابها، أو الدخول في الجدل الفلسفي حول كثير من القضايا الفكرية. ومع ما تفرضه المرحلة من نزوع عقلي فقد ظلّ محتفظاً بالوسطية، يقول الدكتور (عثمان أمين):- (وتتجلّى في تفسير محمد عبده سعة النظرة وروح التسامح)، وأي مصلح يعيش وسطاً فكرياً، لا ينجو من فرضياته وممارساته، ولهذا نجد أنّ (ابن تيمية) استوعب ثقافة عصره، وعالج مجمل القضايا المثارة. و(محمد عبده) في عصر طغت فيه نزعات عقلية وعلمية وإلحادية لا بد أن يستوعب المرحلة، وأن يعدِّل عن خطابه التسامحي حين لا يكون بد من المواجهة العنيفة، وأحسب أنّ المرحلة التي عاشها عصفت بها أعاصير السياسة، وتمخَّضت عن دعوات قومية وإقليمية، شغلت العلماء عن التفرُّغ لعلمهم، وأنهكت خطابهم، وصرفته بعض الوقت عن مهماته الأساسية. والمصلح نشأ في ظل مخاضات سياسية عنيفة أسهمت في التأثير على خطابه المتوازن، وإن لم ينجرف في تيار الثورات الدموية، فهو قد ولد والحراك السياسي على أشده، وأثر (الحملة الفرنسية) بادي الوضوح في كافة المشاهد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلقد بدت القومية بشكل واضح، وطغت مصطلحات سياسية ذات أثر فعّال، تمثَّلت في (الديمقراطية) و(الدستور) وتشخصن في ظل ذلك الفكر السياسي والاجتماعي. والقارئ لتاريخ (عبد الرحمن الجبرتي) يعرف حجم التحوُّلات المتعدِّدة في المشاهد المصرية على كلِّ الصعد. لقد دارت في المشاهد قضايا (المرأة) و(القانون) و(الاستقلال) و(الدستور) و(الدولة الإسلامية) و(الدولة المدنية) و(الديمقراطية) وسائر المصطلحات السياسية، ولقد شكَّل (رفاعة الطهطاوي) و(جمال الدين الأفغاني) تحوُّلات جذرية في الفكر المصري الحديث، فيما جاء أثر (قاسم أمين) في الفكر الاجتماعي، وجاء (محمد عبده) حلقة في سلسلة الفكر الديني المتعصرن، ولم يكن الخطاب الديني المتوازن وحده المتنفّذ في المشهد المصري، بل كانت هناك طوائف عدَّة. لعلَّ من أهمها (الخطاب القبطي) متمثلاً بالسلسلة الصدئة على يد (جرجي زيدان) و(سلامة موسى) و(لويس عوض) و(غالي شكري). وهناك حركات مادية وروحية واجتماعية متعدِّدة، ربما تكون قد خرجت على كلِّ الأفلاك السائدة، يعرفها الراصدون للتاريخ الفكري المصري. وكتاب (تاريخ الفكر المصري الحديث) للمفكِّر القبطي (لويس عوض) يرصد لكلِّ التحوُّلات الفكرية، وإن كان مأخوذاً بالفكر الذي ينتمي إليه، وليس مهماً ما يجنح إليه، إذ لم نعتمده مرجعاً للتحوُّلات الفكرية عند المفكِّر (محمد عبده). وإذ نقول بالسلسلة القبطية، نقول بالسلسلة الإسلامية فهي تبدأ ب(الطهطاوي) مروراً ب(الأفغاني) ف(محمد عبده) ف(رشيد رضا)، ولقد تشعّب الخطاب الإسلامي، ولم يعد من الممكن تصوُّره، وبخاصة حين ظهر حزب (الإخوان المسلمون) ودخل في النزاع على السُّلطة ، وكرَّس على مصطلح (الحاكمية) و(دار الكفر)، وانشق منه دعاة متشدِّدون. ولا يتعارض مع سمة (المصالحة) في فكر (محمد عبده) احترافه للسياسة، ونزوعه القومي، وانضمامه إلى (الحزب الوطني)، واشتراكه في (الثورة العرابية) ونفيه. لقد أحال (العقاد) ذلك كله إلى الحماس والنخوة الريفية وإلاّ فهو مستشعر للمصلحة الاجتماعية والسياسية التوافقية، ولهذا ذهب (العقاد) على طريقته في التحليل النفسي إلى التفريق بين (الإقدام) و(الاندفاع)، فهو مقدام يزن الأمور، وليس مندفعاً تحكمه الخفّة والطيش والعجلة. فعندما نفي من موطنه كان مقداماً يواجه الاستعمار في عقر داره، ولبلورة فكره أصدر مع (الأفغاني) مجلة (العروة الوثقى). وقد تقصَّى (لويس عوض) تاريخها وأهميتها في حديثه عن تاريخ الفكر المصري الحديث، كما تناولها أكثر من دارس حركتهم أنساقهم الثقافية، ومجمل الأقوال تتجه صوب الهدف الأسمى للمجلة، وإن كان الغموض يكتنف مهمات (جمال الدين الأفغاني). ومن الصعوبة بمكان استخلاص الحق من بين ركام الصراع الفكري الذي لا يحترم المصداقية، وليس هناك أصعب على الباحث من الوقوف على حقيقة الدعوات الإصلاحية والاتجاهات الفكرية، لأنّ تاريخها ضائع بين المريد المزكي والمناوئ المجرِّح. ولأنَّ اللقاء حول مئوية (عبده) ذا طابع أدبي فإنّ من الأفضل أن ننظر إلى إسهامات المصلح في بعث التراث الأدبي تحقيقاً ودراسة وتدريساً، مما يشي بإمكانياته الأدبية وتوظيفها في تحقيق المصالحة مع الخطابات المجايلة، فأهم مصادره اللغوية تحقيقه وشرحه ل(نهج البلاغة) وهو حافل بالنصوص الإبداعية المنسوبة ل(علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، وسواءً صحّت النسبة أو لم تصح، فالكتاب نصٌّ أدبيٌّ زاخر بالموضوعات والحِكَم والمواعظ. و(مقامات بديع الزمان الهمذاني) و(المخصص) ل(ابن سيده)، و(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) ل(الجرجاني)، وتلك من أمهات الكتب اللغوية والأدبية والبلاغية. ف(الجرجاني) يشكِّل منعطفاً أسلوبياً بتحريره البلاغة العربية من المعيارية الصارمة، وإن لم تثن المعياريين عن جمودهم. وتلك الجهود التي لا ينهض بها إلاّ عالمٌ لغويٌّ متفرِّغ للتحقيق والدراسة الأدبية أسهمت في بلاغة خطابه وتأثيره، فهو قد وظَّف هذه الإمكانيات لعمله الصحفي الذي مارسه بالاشتراك مع (جمال الدين الأفغاني). واهتمامه المتميّز بالتراث اللغوي لم يحل دون اهتمام مماثل بالتراث الفلسفي والمنطقي. والاشتغال المتمكِّن بالتراث اللغوي والفلسفي والمنطقي شكَّل أرضية صلبة قوية لممارسة مهماته الشاقة باقتدار. و(محمد عبده) الذي ولد على مفترق الطرق تنازعته رغبات ومهمات، لم يكن قادراً على التحكُّم فيها ما لم يتسلَّح بسلاح العلم المفتوح على كلِّ المعارف، وما لم يصنع نفسه على عين الحضارة المعاصرة، ليكون قادراً على مواجهة كلِّ التيارات والمذاهب. ونزعة المصالحة التي اختارها من بين عدَّة نزعات ليست سهلة المنال، إنّها خيار أصعب، فالمبادئ لا يمكن أن تكون مجالاً للأخذ والعطاء، ومتى أخطأ التقدير والتوقيت في أسلوب المصالحة مسّ المبادئ قرح لا برء منه، ومن تصوَّر أنّ المصالحة نوع من التنازلات فقد أخلَّ بالمفهوم وأخطأ في التصوُّر. إنّ المصالحة إغراء للطرف الآخر كي يسمع كلام الله متمتعاً بالحق الإسلامي من الإجارة وإبلاغ المأمن، وهي نوع من التبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، ومتى أخلَّ المصلحون بمفهومها فقد وقعوا في الموبقات، واتصفوا بالمداهنة والركون إلى الذين ظلموا. إنّ مصالحة كبار الدعاة تأليف للقلوب، وتمكين للدعوة من النفاذ، ولقد أدرك المشركون خطورة السماع للقرآن فتواصوا بعدم السماع، وحرضوا على اللغو أملاً في الغلبة. وما المصالحة إلاّ محاولة جادة لإسماع كلام الله. فهل يستطيع حملة مشاعل الحضارية الإسلامية اختراق فضاءات الآخر ببعث الطمأنينة في النفوس، وتفادي العنف والتطرُّف؟ إنّ عصرنا الدموي أحوج ما يكون إلى دعاة مصلحين يؤلفون بين القلوب، ويصلحون ذات البين، ويشتغلون في أصول الشريعة، ويتركون الخلافات الجانبية. وما كانت دعوة الرسل في أوج الجاهلية إلاّ لشهادة التوحيد, فإن هم أطاعوا لذلك بدأ الاشتغال فيما دونها، واستكمال متطلَّبات الدين في أول يوم مدعاة إلى التندر. ولقد قال أحد الساخرين: - كيف أقبل بدين يقطع رأس الذَّكَرِ عند الإسلام، ويقطع رأس البشر عند الخروج منه. يعني (الختان) و(حكم المرتد)، وما درى أنّ الختان من سنن الفطر السليمة، وأنّ العلماء يختلفون حول تحديد مفهوم الردّة وحول الحدّ الذي يستحقه. والقضايا الخلافية رحمة للأُمّة متى استطاع المصلحون التفاعل معها بحكمة وروية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#2 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الفكر التصالحي في خطاب عبده..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل يظن البعض أن مصطلح (الخطاب) كأي مصطلح متداول من المصطلحات الغربية المترجمة، وأن الوعي العربي لم يبلغ الرّشد، وأن الثقافة العربية ثقافة استهلاكية، لا ترهص للظواهر الحديثة، ولا تؤسس للمصطلحات المعاصرة. وأحسب أننا نغمط التراث العربي حقه، وبخاصة حين نولي وجوهنا شطر الحضارة الغربية في كل ما نحن بحاجة إليه من مصطلحات تسد الرمق في كافة المعارف المتداولة. ويقيني أن التراث الإسلامي أسس لكثير من المفاهيم الحديثة عرفها، وعرّف بها المنصفون من المستشرقين. وهذا التنبؤ لا يحفز على المقاطعة، ولا يغري بالاستغناء، ولا يوقع في مأزق المفاضلة والتصدير، وإنما يوجه إلى الأخذ عن الآخر بمقدار، ويشيع الشعور بالندية، ويحرض على التفاعل الحضاري، ويحذر من الانفعال غير المحسوب في القبول أو الرفض. وأذكر أنني اشتركت قبل عقدين في ندوة أدبية نظمتها إحدى مؤسساتنا الثقافية عن تراثنا النقدي، وكان بعض المؤتمرين من أساطين الحداثوية كالدكتور (كمال أبو ديب)، وكنت وبحثي نشكل نشازاً في هذا السياق، وبالذات حين بحثت في الربط بين ظواهر النقد الحديث وما يقابلها في التراث النقدي القديم. ف(الحداثويون) جبلوا على نفي القديم والتقليل من شأنه، واحتقار الذات، والتباهي بالآخر، ولم يكن بمقدور أحد منهم أن يتفسح للتراث العربي في مشاهد الأدب والنقد، ليأخذ مكانه الطبيعي، ولا أن يذكر محاسنه حين قطع بموته، وما مروا من حضارة الهيمنة إلا ليعلموا مفرداتها، وينفوا تراثهم، وإن ذكروه فبسوء. ومصطلح (الخطاب) متداول عند (الألسنيين) المحدثين، بوصفه مجمل النص لا جزئياته، وهو كذلك على مستوى الأفكار والحركات، إذ يعني مجمل الفعل لا جزئياته. وتراثنا العربي يعطي هذا المصطلح مفهوما مغايرا للمدلول اللغوي، جاء ذلك تلميحا في كتاب (الكليات) ل(أبي البقاء الكفوي ت 1094ه) أما مدلوله اللغوي فإنه يعني: (الكلام الذي يقصد به الإفهام)، وقد التبس هذا المفهوم على (علماء الكلام) حين يوصف القرآن به، حيث أثار كثيرا من التساؤلات حول الحدث والأزلية، وهو اختلاف واكب الذكر الحكيم منذ أن استفحلت قضية (خلق القرآن) بين (المعتزلة) و(أهل السنة والجماعة). ومرادنا من كلمة (الخطاب) هنا (جماع الحركة الدعوية وخصوصياتها وأهدافها). وأستطيع أن أقول انه الشرعة والمنهاج الذي يتبناه المفكر أو المصلح، فهو بإزاء الماهية بكل أجزائها. وما نود تقصيه في فكر المصلح (محمد عبده 1849 - 1905م) نزعة المصالحة والتسامح والجنوح إلى الحوار الحضاري، وميله إلى الاشتغال في القواسم المشتركة بين الحضارات المهيمنة. وليس يعنينا بعد ذلك ما يخالف به سائر الخطابات السالفة أو اللاحقة، كما لا يعنينا ما يؤاخذ به من سائر المفكرين. إن هدفنا أن نثبت أثر الجنوح للسلم، واحترام الآخر في الحوار الحضاري، وهي السمة التي يتصف بها فكر (محمد عبده) بوصفه يعيش الوسطية بين (الطهطاوي) و(رشيد رضا). ولكي لا أتوسع في البحث، فقد جعلت متكئي في استجلاء نزعة (المصالحة) في خطابه على كتابين لعلمين من أعلام الفكر والفلسفة في العصر الحديث هما: الدكتور عثمان أمين، والأستاذ عباس محمود العقاد. ف(أمين) جلّى بعده الفلسفي ونزوعه الروحي، و(العقاد) جلّى بعده النفسي وفكره التطبيقي، وكلاهما متوفر على دراية ورواية مكنتاهما من تقصي أحوال المصطلح. فالدكتور (أمين) ألف كتاب (رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده)، والأستاذ (العقاد) ألف كتاب (عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ الإمام محمد عبده). ولقد تشعبت الدراسات، وتعددت الرؤى، وقيل عن المفكر ما لا يمكن الجمع بين أطرافه، وكل دارس من قبل أو من بعد أخذ الإمام من الزاوية التي تهمه، ولكن الجميع يكادون يلتقون عند نقطة واحدة، تمثلت بالتسامح والوسطية، كما يجمعون على أهمية الأثر الذي تركه في وسطه، بسبب ما توفر عليه من تأصيل معرفي، وتجربة عميقة، وتصالح غير مخل بهدفه الأسمى، وهو إشاعة الفكر الإسلامي بالمفهوم والطريقة التي يراها. فلقد كان كما وصفه (عثمان أمين) (أصدق داع للحرية الفكرية، وأول رائد للحركة الإصلاحية)، ثم هم بعد هذا الإجماع على التسامح تتشعب بهم الطرق، وتختلف الآراء، وتتعدد المواقف. وعندما أشير إلى (المصالحة) فلست أقصد بها ما يسلكه المبهورون من استسلام مطلق، وتسليم غير مشروط، فذلك نوع من التمييع والمداهنة، وإن اتهم بها (عبده) تلميحا وتصريحا. كما أني لست معنيا بتفاصيل الحركة الإصلاحية ومدى التقائها أو افتراقها مع المذاهب الإسلامية في (الفقه الأكبر) أو في فقه الفروع، فالتقصي يستدعي التقويم الشمولي والدراسة المعمقة، وذلك غير مقدور عليه في بحث محدد، وما أقصده هنا وعيه للمرحلة التي عاشها، ومحاولته الجنوح للسلم والدفع بالتي هي أحسن، لتفادي المواجهة غير المتكافئة في العدة والعتاد، وهو الأسلوب الدعوي الذي نحن بأمس الحاجة إليه في ظل ظروفنا الراهنة، ظروف الغثائية وتداعي الأمم، وبخاصة حين تحرف العدو لإحياء الفتنة الطائفية والعرقية والإقليمية، وحقق ما يصبو إليه من مواجهة عسكرية يضرب فيها بعضنا رقاب بعض، وهو ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم. ونود الإشارة إلى أن هناك تراجعات وتنازلات، يعدها المنهزمون لوناً من اللين والرفق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وما هي كذلك والخلط بين المفاهيم أضاع الفرص، ومكن للمهيمنين. والحركة الإصلاحية التي اعتمدها (محمد عبده) حركة ذات طابع حضاري، فهو قد عاش الاستعمار التقليدي في أوج نفوذه، وهو قد واكب حركة التغريب في عنفوان قوتها وتحرفها واستنجادها بالمبشرين والمستشرقين والمناديب، وهو في هذه المعمعة بحاجة إلى خطاب تصالحي يستطيع من خلاله أن ينهي مشروعه دون قمع أو مصادرة. ومع تسامحه فقد تعرض للقمع والنفي، ولكنه واصل كفاحه لإبلاغ دعوته التي لم تعد جاثمة في الكتب، بل كانت مفهوما متمثلا في الواقع، والمتقصي لقدرات المصلح العلمية والعملية واهتماماته، يدرك أنه جمع بين التراث والمعاصرة، وأنه شكل حركة وسطية أتيحت لها فضاءات لم تتح لغيرها، وهذا مكمن التمكن. وهو فيما أرى يمثل الانفتاح على الثقافات والقبول بتفاعلها، ولكيلا تتشعب به الطرق فقد اتخذ القرآن الكريم منطلقه، ولم يكن قرآنيا نابذاً للسنة، ولا عالما يشتغل بمعارف اللغة، وإنما كان مستلهماً للمعاني، مستبعداً تشتت الآراء. ولهذا نجد مذهبه في التفسير يقوم على العموم والتعويل على المعاني العامة والشاملة، ولم يتوان في الإشارة إلى شمولية الإسلام وعموميته. والفرق بين الشمولية والعموم أن الشمولية ترتبط بالأحكام، والعمومية ترتبط بالمحكومين، فمنطلق الأولى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ومنطلق الثانية (هدى للعالمين). ومن الثوابت عند علماء المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة، وهذا المفهوم عمق عنده نزعة المصالحة، وتفادي الصدام الذي أعاق كثيرا من الحركات الإصلاحية ومكنه من تقديم مشروع أخلاقي إنساني تقبل به الفطر السليمة. ومتى استجابت القيم السلوكية مع الحاجة قامت الألفة واستحال الصدام المعوق لنفاذ مبادئ الدعوة. وذلك ما عمد إليه المفكر في تفسيره، إذ لم يعمد إلى التفسير العلمي أو المعرفي، وإنما استوحى القيم. وكل صاحب مشروع فكري أو دعوي ينطلق من مؤيدات مشروعه، نجد ذلك في (الظلال) ل(سيد قطب)، وفي تفسير الشيخ (عبدالرحمن الدوسري)، ونجده بشكل أوسع عند الاتجاه العقلي في التفسير، ولقد استدركت عليه شطحات ولكنها ليست بحجم شطحات (مصطفى محمود) أو (شحرور). لقد بدأت محاولاته الأولى متواضعة، تمثلت بتفسير سور أو أجزاء من القرآن الكريم، حيث فسر (سورة العصر) و(جزء عم) و(سورة الفاتحة) وهي سورة مكية تؤسس للدين، ولا تفصل، وهذا سر اهتمامه بقصار السور. ثم شرع في (تفسير القرآن الكريم) المعروف باسم (تفسير المنار) الذي بدأه ووصل به إلى الآية (125) من سورة النساء ثم أتمه تلميذه (رشيد رضا). ومنهجه في التفسير يكشف بوضوح عن نزوعه ل(المصالحة) في خطابه، فهو يعمد إلى استكناه القيم الأخلاقية الصالحة لكل زمان ومكان، وكل نحلة أو ملة تقيم مبادئها على القيم الأخلاقية وتنطلق منها. ولهذا تجده يبحث عن إيصال روح القرآن الكريم ومبادئه العامة، واستبطان قيمه المشتركة في الحضارة الإنسانية، وهذه النزعات حادت به عن جادة المفسرين الذين درجوا عليها. ولقد أشار إلى هذه النزعة التأملية في تفسيره لسورة (الفاتحة)، ولكيلا يدخل في دوامة الخلاف التي تحد من نزعة (المصالحة) عنده فقد سعى إلى تجنب مسائل الخلاف العويصة، وأخذ بوضوح المقاصد وما ظهر من المعاني في آي الذكر الحكيم، كما أنه لم يدخل في جدل مع المذاهب الإسلامية إلا بمقدار، وجل اهتمامه بالحوار الفكري مع الآخر، وهو حوار يتوسل بالعلم التجريبي والعقل الخالص، وهذا مكمن التحفظ عليه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#3 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الأدب الإسلامي بين خطأ الفهم .. وفهم الخطأ..! (1-2)
بقلم - د. حسن بن فهد الهويمل الذين يعرفونني حقَّ المعرفة، وهم قليلون، يعرفون أنّني رهين مصدرين: - النص. - والعقل. وأنّني طليق لا إمارة لأي مذهب عليّ، ضالتي الحق، ألتمسه في غيابة القول، مستعيناً بكلِّ آليات التأويل والتفكيك، فإذا تراءيت ما أظنها مراكبه، رميت فوق ظهورها بمجاديفي، وألقيت بيده مقاليدي. لا أقطع بالصواب، ولا أدعي العصمة، ولا أسمو فوق النقد، ولا أتحرّج من المساءلة، ولا أدل بالمعرفة، وأنا المتهجّي لأبجدياتها. وفي كلِّ مواقفي لست داعياً إلى التسمِّي بأي مصطلح، ولا الانتماء لأيِّ حزب، وإن تمثّلت خيرَ ما فيها، وكلُّ همِّي أن يسود الوفاق، وتشيع الكلمة الطيبة، ويكون الناس على بيِّنة من الأمر. وما تشابهت القضايا على المتجاذبين لأطرافها، إلاّ حين همّ بالكلام من لم يستكمل عدّته، من فهم سليم، وتصوُّر قويم، ومعرفة عميقة، وثقافة شاملة، ومنهج وآلية وخطة مناسبة. وأي اهتياج أعزل يحوِّل المشاهد إلى ملاعب جنة منبهمة. وليس بمستبعد أن يكون الابتلاء بهذا النوع من الكتبة والمتحدثين كما اشتعال النار فيما جاورت، يعرب به طيبُ عرف العود. وليست الإشكالية في ذهاب كلِّ مبتدئ بما يرى، ولكنها في نبرة الرفض الأرعن، والتلذُّذ بجلَد الذات الحرضة، والتشفِّي بإدانة الأهل والعشيرة، وتحميل الإسلام جرائر المسلمين، ولو قيد حملة الكلمة أنفسهم بالمرجعية علماً كانت أو عالماً، واحترموا التخصص، واعتمدوا المنهجية، والتزموا بالموضوعية، وحيدوا الذوات، وتخلّوا عن الجهر بالسوء، ونبذوا الادعاء والاستغناء، ولم يأنفوا من سؤال أهل الذِّكر عند العي، لحققوا بهذه الخصال الحميدة أو ببعضها تحضر الجدل، وتعقلن الفكر، وتموضع القضايا، واتضاح الرؤى. ولكن أنّى للمختصمين ذلك الخيار الحضاري، ومشاهد الفكر والأدب في عالمنا الموبوء حرام على بلابلها، حلال للطير من كلِّ جنس. ولسنا في راهننا بدعاً من الأمم، فلقد مرّ التاريخ الفكري الإنساني عامة والتاريخ الفكري الإسلامي خاصة بمحطات معتمة، وأخرى مضيئة، من إضاءتها أثرت الحضارات الإنسانية كلها، واستنارت بها الأفكار الحائرة، وهُديَ فيها العلماء إلى الطيِّب من القول، حتى أجمع المؤرِّخون على تسميتها ب(العصور الذهبية). فيما عدلت بالأُمّة عن جادّة الصواب محطاته المعتمة، حيث أُغلق باب الاجتهاد وجَمَدت المذاهب، يتوارثها القوم كما هي في نشأتها الأولى، وساد الانقياد للتقليد والتسليم للرأي غير السديد. والبون شاسع بين العمق المعرفي المحكوم بالعقل والمنهج، وبين التعصُّب المذهبي الذي يجتاله الهوى الجامح، وتحتنكه النوايا السيئة، ويخذله التسطُّح المعرفي. فحين تتغلغل المذهبية الضيقة في النفوس الوجلة من كلِّ ابتكار، ثم لا تكون رواية ولا دراية ولا زكاء ولا ذكاء، تكون الأثرة والإقصاء والتوجُّس والشحناء، والمراء المسف، والبحث عن الانتصار. وإذ لا أبرئ أحداً من هذا الداء، فإنّني لا أخصُّ أحداً بخطيئة، فالراصد الفطن يعرف القوم من لحن القول: (وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم) أمّا حين تسود المعرفة، وتشيع الحكمة، ويستضيء العقل بنور النص المقدس، ويُقمع الهوى، ولا يَدرجُ في العش إلاّ أهلُه، يكون الإيثار، وهدوء الحوار، والبحث عن الحق، ونبذ الفرقة والشقاق. وفترات الانحطاط يستفحل فيها التعصُّب والتحزُّب، ويتأله فيها الهوى، ويسبق فيها التكفير التفكير، وتتقطّع الأُمّة أمرها بينها، ولا يكون ذلك إلاّ حين يُرفع العلم بموت العلماء، ويُستغنى بالتقليد عن التجديد، وتكون الكلمة لعواطف العامة لا لعقول العلماء. وما أضرَّ بالمشاهد إلاّ الأضوائيون المستدرون لعواطف الغوغاء، ورضي الله عنه (ابن مسعود) الذي نهر من لحق به قائلاً:- (إنّه ذلّة للتابع وفتنة للمتبوع) والأشياع والأتباع نواة التمذهب والتعصُّب، وتاريخ الأفكار الإنسانية عامة لا تخلو من تلك الظواهر التي تُستترف فيها طاقات علمائها بالجدل العقيم والسفسطة البيزنطية، للتسلية أو للتلهية. والآخذون بعصم المذاهب والظواهر والتيارات ليسوا على قلب رجل واحد، ولا على مستوى معرفي متجانس، ولا على قدر من الثقافة الشاملة العميقة المتنفّذة. فمنهم من ألغى نفسه، وعطّل طاقاته، وسلم قيادهُ لِسعْدٍ المشتمل، ومنهم من شذّ في الرأي، وفارق الجماعة، وقال في النوازل بغير علم، وحمّل النصوص مالا تحتمل، بدعوة التأويل المحيل أو التفكيك المزيل. وتلك الموجات من التعصُّب المقيت وتقحم الجهلة فرّقت الكلمة، وشتتت الشمل، فكان التمجيد للمذاهب، والتصنيم للرجال، واستسمان ذوي الورم، والإيغال في ذكر المناقب أو المثالب. وحديثي عن مصطلح (الأدب الإسلامي) ليس من باب التعصُّب، وليس تكريساً للانتماء، ولا مجيئاً من المذهب بنبأ يقين، ولكنه محاولة لتصحيح الفهم، وفهم الصحيح. والمتمارون بين متلقٍّ للأخطاء، يأخذها كما جاءت، فهو صدوق لا يكذب، ولكنه غِرٌّ كريم يحفظ ما سمع، ويؤديه كما سمعه، لا يتثبت، ولا يتساءل، ولا يتعرّف على مصادر الغير. وآخرَ فهمه سقيم، يحرف الكلم من قبل أن يعقله، يتلقّى الصدق، ولا يحسن أداءه، وقد قيل:- (آفة الأخبار رواتها). والفرق بين توهُّم الفهم وسُقمه، أنّ التوهُّم يعني استيعابَ المصطلح على غير ما هو عليه، ومنشأُ التوهُّم: إمّا خطأ المصدر، أو الخلطُ بين المبادئ والممارسات. أما سقم الفهم فيعني العجزَ الذاتي، الذي لا يمكِّن من فهم الأشياء على حقيقتها، وإن لم يخطئ المصدر في التوصيل. ولكل من التوهُّم والسقم أسلوب علاجه المناسب، فمتلقِّي الخطأ تُصحح له المعلومة، وسقيم الفهم يُنظر في أمره، فإن كان سُقمه جِبلياً صُيِّر إلى حيث يجد نفسه، وإن كان نقصاً في الخبرة أو قلّةً في المعرفة، أكمل بالمراد أو بالتزوُّد من المعارف. وإشكالية المصطلحات كلِّها تعثرها بين سُقم المفهوم وأخطاءِ مصادرها، ولهذا يقول (المتنبي): (وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم) ومتى ألقى المتلقِّي السمع وهو شهيد، تحرّرت عنده المسائل، واتضحت المقاصد، وتحدَّدت الأهداف، وذلك مؤذن بالتقارب أو التعاذر والتعايش السِّلمي على الأقل. وخير المشاهد المتسع للفاضل والمفضول والأفضل، وليس ذلك بعزيز على طلاب الحق وأصحاب المواقف الذين يؤثرون، ولا يستأثرون. وخير مثال على التعايش السِّلمي مذاهب الفقه الإسلامي وتعدُّد المجتهدين داخل المذاهب وخارجها، وإن مرّت في بعض حالاتها بفترات استفحلت فيها الفرقة واشتطّ الخلاف، ولكن الغالب عليها أنّها تمرُّ بحالات من الوفاق والتعاذر، وتبادل الخبرات، والاشتغال بالقواسم المشتركة. وعلى غير هذه التوقُّعات (علماء الكلام) لأنّ اشتغالهم بالفقه الأكبر باعد بين أسفارهم. واختلاف التنوُّع المثري للحضارة والثقافة يتحقّق على يد علماء ربانيين متبحّرين يتقنون نظرية التلقِّي والتأويل، ويفرِّقون بين النصوص القطعية والاحتمالية، ويراعون الأحوال والظروف، ويدركون المقاصد والغايات، ويجودون عملية التفاعل الإيجابي بين النصوص والعقول، بحيث لا يتوقّعون أي تعارض بين صريح المنقول وصحيح المعقول. وما أضل الأُمّة إلاّ اتباع الهوى. والعدل والعقل لا يجتمعان معه، ومشاهد الأُمّة لما تنجو من تحكمه، ولا يكون التعصُّب المقيت والمراء والمرية إلاّ من أشياع ألغوا ذواتهم، ظناً منهم أنّهم الفرقة الناجية المنصورة، وهي قائمة ولا شك، والله المسؤول أن نكون منها. وما من عالم مجرِّب إلاّ هو على يقين من حتمية الاختلاف، وتعدُّد الآراء والمواقف، وكيف لا يكون ذلك والله يقول: {... وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ «118» إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ...}(سورة هود). لا أقول إنّ الاختلاف رحمة، ولكنَّهُ قدر الإنسانية وفسحتُها، وعليها أن تواجه قدرها بما يكفل لها الحياة التوافقية دون تخل عن الثوابت، وحتمية الاختلاف جعلت المتبحِّرين من العلماء والمفكرين يستبعدون الإجماع إلاّ فيما عرف من الدين بالضرورة كالصلوات والحج والزكاة والصوم دون دخول في التفاصيل. ودون الإجماع ما يعرف ب(مسائل الجمهور)، والقول في الاختلاف والاتفاق قول أصولي، لا يستوعبه حديث مقتضب، ولكن تقصيه في مسألة خلافية حاجة ملحّة لكلِّ من ساقته مقاديره إلى الجدل حول قضايا الفكر والثقافة والأدب المختلف حولها، كمصطلح (الأدب الإسلامي)، ولقد كنت، ولما أزل في شأني كلّه حريصاً على التمكُّن من القضايا والتمكين منها عبر طرائق التحصيل والتوصيل، فمتى امتلك المتابع ضوابط المعارف وأصولها أصبح من اليسير عليه الظفر بالمعلومة وتوصيلها على وجهها، وتعلُّم الصيد أفضل من تقبُّل الهدايا (فالليث ليس يسيغ إلاّ ما افترس). وكلُّ مقتدر عليه أن يدرأ عن أُمّته الفرقة، وذلك بتفادي بؤر التوتُّر، وما من مفكر ذي رسالة وموقف إلاّ هو على ثغر من ثغور الفكر، وواجبه أن يحمي ثنيته من الهشاشة ونفاد ما يفرق بين المتحاورين لوجه الله، وليس هنالك أضر على الأُمّة من تفرق الكلمة، ومن استخف بها فقد عرض نفسه للدمار وأُمّته للفشل، ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم التمكين لأيِّ طائفة ما دام النص محتملاً لأكثر من تأويل، فعل ذلك حين اختلف الصحابة في توقيت الأداء لصلاة العصر، وهم في طريقهم إلى (بني قريظة) حيث قال لهم: (لا يصلين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة) وهم قد علموا من قبل أنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا، فحمل بعضهم الأمر على العزم، وحمله آخرون على الحزم، لقد أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وحين حاولوا استبانة وجه الصواب منه صلى الله عليه وسلم لزم الصمت. وذلك دليل على أنّ النص المفتوح كما الفضاء الواسع تسبح فيه كلُّ طائفة، متى امتلكت القدرة على الوصول إلى المعلومة والقدرة على تفكيكها، وأصبح الاجتهاد مشروعاً والمجتهد من أهله، يعرف شروطه وأصوله ومتطلّباته المعرفية. ومع هذا فلست مع تأويل المتعسِّفين ولا مع تفكيك الموغلين، فمن التأويل ما هو متاهة ومن التفكيك ما هو ضلالة. والعارفون يقدِّرون للمنهجين قدرهما، فيستثمرون النص من خلالهما، ويحفظون له دلالته المحققة لمقاصد المشرع. وما اختلف الناس إلاّ من بعد ما جاءتهم تلك النصوص الحمالة، واجتالتهم أدلتها المتنوعة واستقبلوها بعقول واعية وأذهان متوقدة، ولقد أدرك الإمام (علي بن أبي طالب) - رضي الله عنه - خطورة النصوص الحمالة، ووجَّه الجدل إلى نصوص قطعية الدلالة. وأي مصطلح مُحدث، يستفز العقول، ويثير الشكوك، وتغمره التساؤلات، ويتعثّر بالتحفُّظات، ولكنه بعد التداول المنصف، قد يمتلك المشروعية، ليأخذ مكانه الطبيعي في المشاهد. وحين تبد هُنا المشاهد بأيِّ نازلة أو مصطلح فإنّ من حقنا، بل من واجبنا ألاّ نقبل على الإطلاق، وألاّ نرفض على الإطلاق، وإنّما نبادر بالتساؤل عن (المشروعية) ,(المفهومية) ولا يُسأل عن النوازل إلاّ أهل الذِّكر، ولا يُتعرف على المصطلحات إلاّ من المنسشئين لها، فهم أهلها وخاصتها، سواء كانوا شرقيين أو غربيين عرباً أو مستعربين، ولا يجوز أن تكون منطلقات المتحفظين إلاّ من إجابة المنشئين، وإذا تأكدت المشروعية، وتحدّدت المفاهيم، أعقب ذلك الحوار الحضاري، الذي يحدِّد الأهميات والأولويات والحاجات، ويدخل في التفصيل والتفضيل. فالفهم حين لا يكون وفق رؤية المنشئ، يكون التقوُّل. والمشروعية حين لا تكون وفق مرجعية الأُمّة، يكون الاضطراب، وتستفحل الفوضوية. وأي مصطلح لا تحرر مسائله على ضوء المشروعية والمقتضى يكون موئل الاختلاف، ومن أصعب المواقف أن يُقوّل المصطلح ما لم يقله المنشئ، والفهم الخاطئ تقويل لما لم يقله المنشئ، وخطأ الفهم تحميل للمصطلح بما لا يحتمل، وانحراف الأفكار منشؤها اضطراب المفاهيم بين التلقَِّي الخاطئ وضعف الأفهام، والبحث في المشروعية يقطع قول كلِّ خطيب، وحقَّ على المتلقِّي أمام كلِّ النوازل أن ينظر في مشروعية أي مصطلح، فإن انتزعها كان حقاً عليه القبول به، والتخطِّي به من البحث في المشروعية إلى البحث في المفهوم وطرائق الأداء وترتيب الأولويات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#4 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الأدب الإسلامي بين خطأ الفهم.. وفهم الخطأ..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل ومشروعية (الأدب الإسلامي) مكتسبة بالنص القرآني، إذ فرقت آيات الشعراء بين شعراء الهداية وشعراء الغواية، ولو كان الإبداع القولي حصراً على الشعراء، لكان بالإمكان استبدال مصطلح (الأدب الإسلامي) بمصطلح (شعراء الهداية). وإذا كان القرآن وصحيح السنة وأدب السلف الصالح والنقد الأخلاقي من عهد (أفلاطون) إلى يومنا هذا كلها تؤكد على القول السديد والكلم الطيب وتكره الجهر بالسوء وتصف الكلمة الطيبة بالثبات والسموق والنفع، والكلمة الخبيثة بالاجتثاث وعدم القرار، ولا تمنع من الإمتاع والخيال والمجاز والجلال والجمال، فإن هذه الرغبات بحاجة إلى مصطلح يجمع شتاتها، ويشبع ذكرها و(الأدب العربي) بوصفه جماع كل المصطلحات الناسلة منه، بما فيها (الأدب الإسلامي) ليس منقطعاً للكلمة الطيبة، إذ وسع كل الاتجاهات، فكان أدب مجون وأدب انحراف وأدب (أيديولوجيات) متصارعة، ومع اتساعه للمتناقضات فقد فارقه الحداثيون والماركسيون والوجوديون والداديون، واتخذوا لهم مصطلحات لم يعترض على مشروعيتها أحد. إذ لم نسمع أحدا يعترض على مصطلح (الأدب الوجودي) أو (الأدب الماركسي) أو (الأدب الحداثي)، وهي مصطلحات قائمة ومتداولة. وإن كان ثمة اختلاف فيما بينهم فإنه قائم حول المفهوم والفن وطرائق الأداء، وليس دائراً حول المشروعية، كما هو بالنسبة للأدب الإسلامي. والذين يعترضون على مشروعية (الأدب الإسلامي) يركنون إلى حجج لا يقوم بها الاحتجاج ولا تثبت أمام البحث العلمي مثل: - حداثة المصطلح. - واستفحال التجزيئية. - ومعادلته بالأدب الكافر. - وتقييد حرية المبدع. - والجنوح إلى الموضوعية. والتماس الحق يسقط هذه الحجج: - ف(حداثة المصطلح) ترد بما ينسل من مصطلحات في كل لحظة، وما أحد تحفظ أو تذمر، متى استطاع المصطلح أن يكون جامعا مانعا متحققا في إطاره مقصده متوفرا على مادته. وفوضوية الإنشاء للمصطلحات، أو ترجمتها أو تعريبها أو نقلها في كافة المشاهد إشكالية لا يعرف مداها إلا الراسخون في العلم. - وأما (التجزيئية) فالأدب الإسلامي يواكب مسميات متعددة، وكلمة (أدب) بوصفها جزءا من المصطلح، لا بد أن توصف أو تضاف إلى الزمان أو المكان أو اللغة أو الموضوع أو السياسة أو الفئة. فيقال: الأدب العباسي والمصري والحداثي والسياسي والجاهلي والصوفي. وما أحد امتعض أو تردد في قبول تلك الإضافات والصفات. - وأما معضلة (الثنائية) أو المعادلة بين الإسلام والكفر، فإن مصطلح (الأدب الإسلامي) لا يعادله (الأدب الكافر) ليس غير، بمعنى أن ما سواه لا يكون إلا أدباً كافراً. ولو أخذنا بهذه الثنائية الضيقة لكان لزاما علينا أن نقول: إن إطلاق كلمة الصديق على (أبي بكر) والفاروق على (عمر) تقضي بانتزاعها جملة من سائر الصحابة، وما أحد من العقلاء تصور ذلك، والقول ب(الأدب الإسلامي) لا يعني بالضرورة القول بالمعادل المناقض، وإنما يعني القول بالمعادل المتخلف عن تلك السمة، كأدب المجون والخمريات والانحراف الفكري. ف(الطائيون) كرماء يفضلهم (حاتم)، والمخزوميون شجعان يفوقهم (خالد)، والتميز لا يقابل بالمناقض، وإنما يقابل بالناقص عن التمام. وأما القول بالحدّ من (حرية المبدع) فإن لكل نحلة أو ملة حرية، لا تكون لغيرها، والحرية يحكمها الانتماء، ولهذا لا تكون الحرية واحدة عند (الليبراليين) و(الديمقراطيين) و(المسلمين). الحرية في الإسلام منضبطة، ومحكومة بسلطات ثلاث (الدين) و(السياسة) و(المجتمع) وهي حرية سوية تستجيب للفطر السليمة، وإذا قيدت الحرية في الإسلام، وأطلقت فيما سواه، بحيث تشارف دركات البهيمية فإن البحث في شأنها لا يكون في إطار (الأدب الإسلامي)، وإنما يكون في إطار الفكر الإسلامي، وكل من أشرب في قلبه حب القيم والفضائل لم يعد يتعثر بضوابط الحرية، لأن كل إناء بما فيه ينضح، وحملة الكلمة الخبيثة لا حجة لهم في ضوابط الحرية. إن التهتك والمجون والانحراف كسب، وليس جبلة، فالمولود يولد على الفطرة، والبيئات بكل تنوعها هي التي تضل أو تهدي سواء السبيل. والمبدع الملتزم كالنحلة لا تعطي إلا عسلا لا تتكلف مجَّه، والمبدع (اللامنتمي) كالذبابة لا تفرز إلا وباء لا تتكلف إبرازه. و(الحرية) وسط هذه المرافعات كالثور يُضرب لمّا عافت البقر. وإذا كانت الصلاة راحة للمؤمن، فإنها ثقيلة على من دونه، إن الحرية مكفولة للملتزمين دون الملزمين، ولهذا فالإلزام (الماركسي) أفسد الفن، والالتزام الإسلامي أصلحه. وكم هو الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} وتنوع خصوم الأدب، وتفرقهم بين المسمى والأداء والمشروعية والمفهومية يعد خيارات المواجهة، وأنا هنا - تمسكا بالمنهجية والموضوعية - لا يعنيني المتحفظ على مفردات الإسلام في إطار موقفه الرافض للأسلمة كلها، فالخصوم إما: خصوم رافضون للإسلام، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، يريدون عزل الدين عن الحياة استجابة للعلمنة الشاملة، أو هم خصوم متأولون، لا يتجاوزون بخصامهم حدود ما أنزل الله، وداؤهم التأول المفضول أو الناقل المتقوِّل، وجدلي مع هؤلاء لاتساع القواسم المشتركة، فالأدب الإسلامي مفردة، إذا عورضت بوصفها مصطلحاً، فإنها قد لا تعارض بوصفها ممارسة، فمعلوم أن طائفة من خصوم المصطلح لا يعترضون على إشاعة الكلمة الطيبة التي هي إكسير المصطلح وشأنه كله، ولكنهم يعترضون على إحداث المصطلح لما يخشون من انعكاس أثره على الإبداع أو إيضاعه في التفريق بين أدباء الأمة ومبدعيها، وقريب من أولئك من يحمِّلون المبادئ جرائر المطبقين، والمصطلح بوصفه من المبادئ بريء من أخطاء ذويه الذين لا يحسنون الفهم، ولا يتقنون الأداء، ويحاولون تعويض ضعفهم بالانتماء لهذا المذهب، ومقتضى المصطلح لا يسعف الضعفاء منهم، متى كان في أساسه مركبا من مصطلحين هما: - الأدب. - والإسلام. والأدبية هنا مقدمة على الإسلامية، لأهمية النوع القولي، فهي البوابة الأولى، ولا يمكن تحقق مراد المصطلح حتى يكون الإبداع في أوج تألقه، متوفراً على شرط الفن وضابط اللغة وخصوبة الخيال وأدبية السرد وشعرية النظم. والمشاهد النقدية الحديثة تركز على (الأدبية) و(الشعرية)، وبتفحص مقتضى الأدب الإسلامي نجده أكثر تركيزاً على (الشعرية) و(الأدبية) بمفهومها التراثي والمعاصر. ولهذا فلا مكان للضعفاء الذين لا يحملون موهبة، ولا يستبطنون موقفا، ولا يملكون حساً، ولا يضمرون هماً. والكلمة الطيبة وحدها لا تمنح التألق والتفوق، ما لم تكن متسمة بسمة الإبداع بكل متطلباته التراثية والمعاصرة. والمصاب بداء العهر والكفر يتمسك بحقه الأدبي وتألقه الإبداعي، ومن حقه أن يتمسك، وواجبنا أن نقبل بهذا التمسك، إذ (لا تزر وازرة وزر أخرى). فشاعر متهتك ك(القباني) يفوق بشاعريته مئات الشعراء الملتزمين، لا يجوز لناقد أن يذوده عن قمة الشعر العربي، وروائي ك(محفوظ) يقف على قمة الرواية العالمية بكل تخلياته وانحرافاته، لا يمكن أن يسلب حقه الفني تحت أي شعار. والمتلقي الواعي يعرف أن (الأدب الإسلامي) يعطي الحق في شرف اللفظ، ويحاسب على الإخفاق في شرف المعنى، وينظر إلى المخالفين على ضوء منازعهم، وإذ لا نزكي على الله أحدا، فإن احتمال الكفر والإلحاد والردة لا تخول المفكر المستبرئ لدينه وعرضه أن يصم أحدا بصفة مغلّظة، وإن قال كلمة الكفر في شعره أو في سرده، فتكفير المعين عند العلماء المحققين له ضوابطه وشروطه، وهو من اختصاص الفقهاء، وليس من اختصاص النقاد، دور الناقد أن يرفض الانحراف والإسفاف، وإذا لزم الأمر إصدار الحكم الشرعي على المخالف وجب سؤال أهل الذكر، والأسلم والأحكم أن يكون حكما مؤسساتيا لا فتوى فردية، ولا سيما أن حكم المرتد قضية خلافية لدى العلماء. والتخلي عن الشروط والضوابط في إصدار الأحكام على الجماعة أو المعين أدت إلى مواجهات دموية حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم. ومع كل هذه التحفظات فإن الاحتفاء بالمنحرفين فكرا، أو الساقطين أخلاقا من خلال إبداعاتهم أو تنظيرهم عند هلاكهم أو غيابهم، ونبذ الرأي العام لهم، يعد خروجا على النسق وتغريدا مؤذيا خارج السرب، والأديب الإسلامي يفرق بين التألق والتفوق الفني، والسقوط الأخلاقي. وما قدمت بين يدي حديثي من تحفظات إلا لعلمي أن هناك من يحلو له خلط الأوراق والمزايدة الرخيصة، فالاختلاف مهما أوغل في القطيعة لا يمنح الحق المطلق لطائفة دون أخرى، ومتى حمي وطيس الجدل، واحتدمت المشاعر، وجب الرد إلى المرجعية المعتبرة لدى كل الأطراف، ومتى لم يكن هناك اتفاق على مرجعية فلا مجال للحوار. والقبول بالاختلاف والتحفظ على احتكار الحقيقة والحق، لا يعني إطلاق الأمر بحيث يمتد الجدل إلى ثوابت الدين. أعرف جيدا أن المشاهد الفكرية لم تصل بعد إلى تحديد جامع مانع للثوابت والمتغيرات، ولكن القلوب السليمة تعرف حدود ما أنزل الله، ولا يمكن أن تمضي مع المميِّعين الذي يجعلون كل شيء قابلاً للمساءلة والشك. فالحقيقة والحق في النهاية محتكران للنص القطعي الدلالة والثبوت، والاختلاف مقبول حين يكون حول مفهوم النص واحتماله للتأويلات. أما حين يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فلا اجتهاد ولا اختلاف، ولهذا قال العلماء الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، والنص عند الأصوليين يختلف عن النص عند الألسنيين، فهو عند الألسنيين مطلق القول، وهو عند الأصوليين القول القطعي الدلالة والثبوت، النص البرهاني وليس الدليل الاحتمالي. وجملة القول أن الأدب الإسلامي هو (التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي)، ليست له آلية فنية تختلف عن آلية الأدب العربي، وليست له فنيات تفارق ما اتفق عليه أساطين النقد العربي في القديم والحديث، له تحفظ وله اعتراض، تحفظ على كل مساس بالأسس والضوابط اللغوية والفنية، واعتراض على كل سقوط أخلاقي أو انحراف فكري يرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطعام، ويعترض على المسخ، ويؤكد على الهوية والخصوصية والندية، يرفض النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، ومعتصر المختصر أنه معني بإشاعة الكلمة الطيبة وإجهاض الكلمة الخبيثة. والنقد الإسلامي من وراء ذلك يرود في المقدمة ويحمي الساقة. آليته ومنهجه آلية النقد العربي ومنهجه، غير أنه يشترط شرف اللفظ وشرف المعنى. ومتى أخل المبدع بأحد الشرفين أخذه بجريرته، لا يفرط في الفن ولا يتسامح في المعاني، فيما يكتفي النقد العربي بالجانب الفني. والذين يفهمون الأدب الإسلامي ونقده فهما خاطئا، يتصورون أنهما خلق آخر. وعندما يستعرضون المعطيات الإبداعية والدراسات النقدية ثم لا يحدون هذا الشيء يتصورون أن النقد الإسلامي هاجس في ظهر الغيب. إن التصدي للأدباء والمفكرين أمثال (طه حسن) و(محفوظ) و(حيدر حيدر) و(نزار قباني) و(أبي زيد) وثائق للنقد الإسلامي. ولما تزل المشاهد تموج بالمعارك الأدبية التي يحركها النقد الإسلامي. أرجو أن أكون قد وفقت في عرض موجز للمشروعية والمفهوم لأدب أحببته، ولم أكتف به، وناصرته، ولم أنصرف عن غيره، ومتى حسنت النوايا وسمت المقاصد شرِّعت أبواب الوفاق، وغلقت أبواب الشقاق. وما أحوج الأمة إلى التفاهم والتسامح! فالزمن الرديء لا يجوز أن تعلو فيه نبرة التحدي وتصعيد الخلاف متى أمكن الوفاق. ذلك أن خطاب القوة والنصر والتمكين يختلف عن خطاب الضعف، فلا يكون إلا مع التمكين، ولهذا خفف الله عن الأمة حين علم أن فيها ضعفا. واحتدام المشاعر ليس مبعثه ما يلاقيه الأدب الإسلامي وحسب، ولكن مبعثه إلى جانب ذلك ما تعانيه الأمة من تفرق في الكلمة، وميل إلى المحدثات، وتلقف لما يأفكه المستشرقون والمستغربون، وانقطاع منبت في استقبال الآخر، وممارسة فوضوية باسم الحرية. وقولي هذا منصب على ثقافة الضرار وملاحقة المستجد من المذاهب دون تحفظ، والميل مع الريح حيث تميل من أناس كنا نعدهم من الأخيار.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#5 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
من حارب المحارب
د. حسن بن فهد الهويمل عرفت الشاعر غريب الأطوار (عثمان بن سيار المحارب) في عنفوان شبابه، منذ أن بلغ أشدّه، وبلغ أربعين سنة، وها أنذا أتذكّره في التسعينات من عمره المديد، والثمانينات تحوج السمع إلى ترجمان، وظنِّي به يردِّد مقولة لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد كانت معرفتي الأولى به عندما صدر كتاب (شعراء نجد المعاصرون) عام 1380هـ، للأستاذ عبد الله بن إدريس، حيث ترجم له، وساق أطرافاً من شعره، ووصف شعره وشاعريته وصفاً انطباعياً، يصدق على ما سلف منه، فهو عنده شاعر قومي، يترسّم خطى (الجواهري) و(القروي) حتى أنّ قوميّته - على حدِّ قوله - حملته على المحافظة على شكل القصيدة العربية في مطلع حياته، وأحسبه قد تحوّل عن ذلك كلّه فيما استقبل من سنوات. وعرفته أكثر قبل ثلاثة عقود حين أنجزت رسالة (الماجستير) (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، ويومها لم يكن بين يديّ إلاّ ما أوجزه (ابن إدريس) وما تفرّق في الصحف والمجلات من قصائد عابرة. وقبل عقدين ونيِّف عدت إليه بمنهجية جديدة وآلية دقيقة، حين أعددت رسالة (الدكتوراه) (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وكان قد صدر له ديوانان أسهما في إبراز أبعاده الدلالية والفنية، ثم انقطعت عنه أو انقطع هو عن الكافة، فلم أعد أسمع عنه شيئاً، ولم يعد له أيّ حضور يُذكر في كافة المحافل الأدبية، ولا أحسبه قد هجر الشعر كما فعل غيره، ولكنه هجر المشاهد، فهل صدمه الواقع؟ أو أنّه صدم الواقع فانفضّ سامره؟. أعرف جيداً أنّه غرّد خارج السِّرب في اتجاهاته كلها، وهو حين لا يتناغم مع الصوت الجمعي يكون كقاصية الغنم. وشاعر عنف في شعره الوطني، ثم أسرف في شعره الغزلي يكون قاب قوسين من الاغتراب، ولا سيما أنّه ربيب تراث سلفي شديد الحساسية، وعلى الرغم من تطرُّفه في الحالين، فإنّ اعتزاله المغاضب يُعد خسارة لا تعوّض، إذ ابتلعه حوت النسيان وبخاصة حين يهبط مثله إلى السفح، لتكون القمم مسرحاً لبغاث الطير التي تزاحم النسور بالمخلب الغضِّ والجناح القصير، كما يقول (أبو ريشة) في رثائيته لأمجاده وما أكثر الشعراء الذين رثوا أنفسهم ذاتاً وفناً. نجد ذلك عند (ابن الريب) في رثاء الذات، كما نجده عند (البحتري) في رثاء المحتد الشعري في (السينية) وعند (المتنبي) في (داليته) حين يصف نفسه الشاعرة بأنّه الصائح المحكي والآخر الصدى، وعند (أبي ريشة) في عصمائه (النسر)، ولم أجد لشاعرنا رثائية ذاتية يودع فيها ناسه المعجبين به، ولعلّ ذلك من شعره الحبيس الذي يتململ في قمقمه. أمّا انطواؤه واعتزاله فقد جسَّدته قصيدته المتواضعة (رضيت بما بي) وهي قصيدة يردُّ بها على صديق عذله في انطوائه. ولأنّ حياة أي شاعر تمثِّل محطات متعدِّدة التيارات والاتجاهات والنزعات، فإنّ معرفتي به في أوائل محطاته المثيرة، إذْ كان فيها صاحب قضية ينافح عنها بعنف، ويلوم قومه على ضعفهم وهوانهم على الناس، ولكنه حين يئس من الصحوة والاستبانة وقبول النصح نبذ شعره العنيف إلى شعر أعنف، شعر الحب والتولُّه. وإذْ تحفّظ أناسٌ على عنفه القومي فقد تحفّظ آخرون على اندفاعه وراء المرأة. ولم أكن أعرف - فيما بعد - ما إذا كانت له أعمال جديدة، وهل عاد إلى صلفه القومي أم ظلّ نزارياً كما كان يوم أن بارح المشهد الشعري؟ ولقد وجدت نتفاً له وعنه في (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث) وهي التي أشارت إلى عمل شعري ثالث لم أره، وهو ديوان (بين فجر وغسق) وهل حوى ما أحدث من شعر أم هو تقصٍّ لشعر قديم لم يفرج عنه إلاّ في آخره. وأذكر أنّني قرأت ديوانيه (ترانيم واله) و(إنّه الحب) عند التحضير للدكتوراه، وعندي مسودة لم تكتمل عن تحوُّله المفاجئ والعنيف من البعد الوطني إلى الحب العذري. وإلمامة الموسوعة عن شعره وشاعريته إشارات موجزة، ولقد سمعت أنّ بعض الدارسين أو الدارسات اتخذوه موضوعاً لرسالة أكاديمية، وأذكر أنّ طائفة من الطلاب استشاروني في إمكانية دراسة شعره، وقد شجّعت على ذلك، فهو شاعر يستحق الاحتفاء، وبخاصة في بواكير شعره، فهو مشروع شاعر مثير، ولا تأثير لغيابه الطارئ متى أمكن الوصول إلى وثائقه. لقد صدر ديوانه الأول عام 1977م فيما صدر ديوانه الثاني عام 1402هـ، ولست أعرف عن ديوانه الثالث الذي أشارت إليه الموسوعة متى صدر وما مضامين قصائده، وهل هي من قديم شعره أم مما جدّ بعد اغترابه؟. وتألُّقه توقَّف قبل إصدار مجموعاته الشعرية، وهو توقُّفٌ فرضه على نفسه، ولم يفرضه عليه أحد من الناس. والذي يقرأ بواكير شعره يحس أنّه أمام شاعر فحل، يمتلك عدّة نواصٍ، ناصية اللغة وناصية الخيال وناصية العمق الثقافي والوعي المبكر بواقع الأُمّة العربية. غير أنّ هذا الشهاب الذي انطلق في صعوده كاد يحور رماداً بعد إذْ هو ساطع، والفحولة مصطلح شعري لا يوصف به شاعر إلاّ إذا استكمل مقتضيات الفحولة ولقد تقصّاها بعض الدارسين في كتاب ضاع في ثنايا كتبي. وتساؤلي المُلِح: من الذي أطفأ هذا الشهاب الملتهب؟ ومن الذي حمله على مبارحة المشهد في وقت مبكر؟ وهو الشاعر الذي يهزّ العواطف، ويذكي المشاعر، ويحرِّك كوامن الوجدان بشعر مقاوم، ينضح أسى ومرارة. أعرف جيداً أنّه بعنفه في القوميات أثار دعاة الوحدة الإسلامية، وبملاحقته للغانيات أثار الورعين. وإذا كان رقيق المشاعر فإنّه لم يحتمّل ردود الأفعال، ولربما يكون ذلك بعض الأسباب المؤدِّية إلى الغياب، ومن بواكير قوله: فوق هذى الأرض منا أمة فنيت إلا رسوماً تتباهى كبل الجهل قواها فمشت للمنى زحفاً فهيهات مناها أمطروها من شبا أقلامكم أدبا حيا وعزما وانتباها علموها كيف تبني مجدها واحملوا المشعل في ليل سراها علموها أن للذل يدا من تراب الجهل والجبن براها أيقظوا فيها شباباً خاملاً هام في بيداء لا يدري مداها وهذا شعر جزل في العبارة، قوي الأسر، عميق الدلالة، لا نكاد نسمع بمثله، ولكنه شعر شاعر اعتزل قومه وما يقولون. ولم أكن أعرف بعد انقطاعه ما إذا كان على صلة بالأدب والشعر وبالمشاهد الأدبية. لقد بارح المشاهد كلّها، ولم أكد أذكره لولا أن ذكّرتني به (الثقافية) وهي الحريصة على أن تعيد الهاربين من مفازاتهم، وأن تبعث ذكر الأموات من أجداثهم، وإنّه لمن المؤسف، أن تخلو المشاهد من شاعر متميِّز (كابن سيار) في وقت الانكسار العربي وثقافة الخوف، ولم أكن وحدي الذي ودّعه ونسيه، فكلُّ من لاقيت يشكو هذا الغياب، فلذا كان آخر عهدي به يوم أن فرغت من رسالتي للدكتوراه، وكنت إذْ ذاك أنقب في شعره عن الحس الإسلامي، وكانت نزعته تراوح بين الوطنية والحب العذري. ولقد أشرت إلى ذلك حين قلت: (والشاعر عثمان بن سيار رغم ندرة إسهاماته وطول مكثه في رحاب الحب والمحبين يملُّ واقع الأُمّة ويضيق بالقعود ويستريب من هذه الفرقة المستحكمة والشقاق المستشري فيوسع المثاليين لوماً وتعنيفاً)، وهو كذلك في كلِّ شعره الوطني والسياسي والقومي، غير أنّه تحوَّل فجأة إلى الحب. وحين نصفه بالقومية فإنّنا لا نمضي به إلى حيث قوميات (المتأدلجين) الذين ينبذون الإسلام وراء ظهورهم، كما يفعل بعض القوميين العرب، وبخاصة النصارى منهم، وإنّما نقصد ذلك الشعر العربي الناسل من عباءة الإسلام لغة وفكراً، والشاعر في هذا اللون من الشعر يبدو قاسي العبارة محتدم المشاعر. لقد تحدّث عن (القدس) كما تحدّث غيره، ولكنه اتخذ شكلاً تعبيرياً يختلف كثيراً عما يسلكه الشعراء من حوله، يقول في هذا الشأن: أتوا يبكونها حمر المآقي وكل منهم نضو اشتياقِ وكل يدعي حباً لليلى ومن كفيه ليلى في اختناقِ أضاعوها وقالوا القدس ضاعت تباكوا يا دهاقنة النفاقِ وهو كذلك في سائر شعره القومي يلوم ويقسو في اللوم، ويعاتب ويعنف في العتاب، ولا يكاد يرسم طريق الخلاص إلاّ بعد أن يجهز على المتخاذلين، وظاهرة العنف والتمرُّد واكبت شعراء المرحلة التي واكبت الثورات العربية، وكثير منهم أصيب بخيبة الأمل، فهرب من المشهد الشعري لا يلوي على شيء ذي بال إلاّ على حزن عميق، ومرض مصمٍ، وآهات دفينة. وديوانه (ترانيم واله) وما تلاه من أعمال شعرية تذكِّرني بطائفة من شعراء التولُّه، لا أقول النزاريين، ولكنني لو قلتها لما أبعدت النجعة، والترانيم والتراتيل والنداء وكافة الصوتيات دأب الشعراء الغزليين، فالشاعر (علي محمد صيقل) له ديوان (ترانيم على الشاطئ) وهو شعر خليط، ولكنه مشبع بالمناجاة الوالهة، والشاعر الصديق (عبد العزيز بن محمد النقيدان) له ديوان (ترانيم الرمال) الذي سعدت بتقديمه للقراء، والشاعرة (عزة رشاد) شاعرة مصرية مقيمة في البلاد لها ديوان (ترانيم قلب) سعدت أيضاً بتقديمه للقراء، والشاعر (عبد السلام هاشم حافظ) - رحمه الله - له ديوان (ترانيم الصباح) والشاعر العميد محمد نصير له (ترانيم السمر)، ولعلّ من أبرز هؤلاء جميعاً الشاعر الصديق (محمد عيد الخطراوي) في ديوان (ترانيم الصباح) وكأنِّي به يلتقي مع شاعر بلده (عبد السلام حافظ) مع الفارق بين الاثنين. وكلُّ شعراء الحب والتولُّه يحلو لهم أن يترنّموا، وأن يكون شعرهم صوتاً ندياً. لقد كان ابن سيار مشروع شاعر، لا يقلُّ عن سائر الشعراء الذين كانوا حداةً للقوميات العربية، ولكنّه رفع قلمه وطوى صفحته، وترك المشاهد لشداتها الذين لا يحرِّكون ساكناً، فهل يعود بعد هذا الهجر، ويستجيب لنداء قومه؟ أم أنّه سيقول كما قال سلفه: (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا) نحن أحوج ما نكون إلى مثله ليوم الكريهة وسداد الثغور، فهل يستجيب؟ أرجو ذلك.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#6 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها..!! (1 - 4 )
د. حسن بن فهد الهويمل (تجربتي في الحياة) عنوانٌ عائم، فرضه عليّ الإخوة في (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القصيم)، ليكون محاضرة ضمن فعاليات (الصيف)، والمهتمون بالشأن العام يخشون أن يضيع الوقت، كما ضاع اللبن في الصيف، حتى يقال: (الصيف ضيعت الوقت) كما قيل من قبل في الأمثال: (الصيف ضيعت اللبن)، وللمثل حكاية طريفة، ليس هذا مجالها. هذا العنوان العريض من العناوين الشمولية، التي لا يحدُّها موضوع، ولا تحصرها فكرة، ومن الصعوبة بمكان مغالبة الموضوعات المفتوحة، إذْ هي أشبه ب(النص المفتوح)، وانفتاح النص يعني قبول كل تأويل محتمل، وإن تضاربت الآراء حوله بين (إيكو) و(بارت)، في استقصار ممتع للأخوين (الرويلي والبازعي) في (دليل الناقد الأدبي)، وليس من السهل لملمة أطراف التجارب المتنوعة: عملية كانت أو علمية، زمانية كانت أو مكانية. ولست أدري من أي الزوايا ألتقطها، ولا من أي الدروب آتيها. فالإنسان المسكون بالمهمات والهموم الفكرية والأدبية والسياسية وتقلُّباتها التي لا تقر، المتشبّث بأرباب القلم وما يسطرون، وبالكتبيين وما ينشرون، تمر به حيوات نافقة أو فائقة. وتغمره حضارات: وضعية وسماوية، محفوظة أو محرفة، مفسرة ومؤولة. وهذه الحيوات، وتلك الحضارات، تقع تحت طائلة الخلطة المستحكمة مع تجاربه، لتشكِّل لوحة مسطحة أو ذات أبعاد، حتى ليغتلي فيها ارتيابه، فلا يستطيع تقرِّيها، واستبانة الذاتي من الغيري، على شاكلة صورة (انطاكية) على جدار (إيوان كسرى) في بكائية البحتري التي عدَّها المتسرِّعون وصفية: (فإذا ما رأيت صورة أنطا كية ارتعت بين روم وفرس) إلى أن قال: (يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهمُ يداي بلمس) وكلُّ إنسان سوي يتلقّى تجارب الآخرين، مثلما يمارس تجاربه، فتكون كالشعاب التي تتدفَّق صوب الأودية السحيقة، لتكون فيضاً من التجارب المتنوّعة ومتى دقّت الملاحظة، وتواصلت المتابعة، تحوّلت صغار التجارب إلى كبار. وما كتاب (الحيوان) للجاحظ بمجلداته السبعة إلاّ وليد الدقّة في الملاحظة والتواصل في المتابعة، إذْ هو موسوعة ثقافية، تكشف عن مشهد العصر وحراكه الثقافي. وبتعدُّد التجارب، وتواردها على الذهن، تشكل وعياً جديداً، قد تصرف الراصد عن بعض مسلّماته. ولأنّ التجارب فعلٌ متواصل فإنّها تكون بعدد السنين والشهور والأيام والساعات، بل أستطيع أن أقول: إنّها بعدد الثواني. فكل لحظةِ فعلٍ صالحةٌ لتكون ظرفاً لتجربة حافلة بجلائل الأعمال. وما الصدفة أو الفرصة إلاّ مفتاحٌ لتجربة مصيرية. وقديماً قيل (رُبّ صدفة خير من ميعاد). والإنسان الشّجي تجتاله الهموم، وتحتنكه المسؤوليات، ويظل كما الصعلوك الأطحل الذي تتهاداه التنائف، فما يحط من قضية إلاّ وينزع إلى أخرى، ولا يفرغ من حدث شديد إلاّ إلى حدث أشد، وتلك الأيام دول وتداول. ولأنّ هذا الصنف من الناس موزع الجسم بين هموم ذاتية، وأخرى جماعية، فإنّ وعيه للأحداث يكون أشد عمقاً وأعمق إحساساً. والاهتمام بالشأن العام من واجبات المسلم، فهو بين عبادة لربه، وهداية لقومه، وعمارة لكونه: حسّاً ومعنى. وما من حيٍّ إلاّ وله نصيب من التجارب الخاصة أو العامة، له ما كسب، وعليه ما اكتسب. والأذكياء هم الذين يُفرِّجون عن أحسنها، ويدسون خداجها في التراب. والمؤكد أنّ القيمة ليست في ذات التجارب والوقوعات من حيث هي أداء أو مواجهة، ولكنها فيما تتركه التجربة المتميّزة من أثر في الذات أو في الغير. وما أكثر التجارب التافهة التي لا تستحق الذِّكر، لأنّها لا تحرِّك ساكناً، ولا تثير انتباهاً. وما التاريخ إلاّ وعاءٌ لتجارب الأمم والأفراد في الربح والخسارة. إذْ هو سفر لسقوط الدول وقيامها وأسباب ذلك. والحضارات كالأناسي، لها طفولة وشباب وفتوة، وكهولة وشيخوخة وهرم، قد يبلغ بها أرذل العمر، وفي الحديث: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ) والعلم لا يُنتزع، وإنّما يعم الجهل بموت العلماء، واستفتاء من لا علم عنده، ليكون الهلاك والإهلاك، وذلك بعض ما نرى ونسمع. وتصور الحضارات من خلال قيامها وسقوطها، لا يتعارض مع الحفظ للذكر ولا مع بقاء الطائفة المنصورة. فالساعة لا تقوم وفي الأرض من يقول: الله الله. وكم شهدت الإنسانية حضارات سادت ثم بادت، إمّا عبر الآثار أو عبر صفحات التاريخ. وعلى افتراض أنّ التاريخ لا يكتبه إلاّ المنتصر، فإنّ من الممكن تمحيص الأحداث، واكتشاف الزيوف. ومثلما أنشأ أهل الحديث علم الجرح والتعديل والتخريج، فإنّ للمؤرخين مناهجهم التي يمحِّصون بها الأحداث ويصححون التجارب، ويبتلون بها الأخبار، ليقروا على صفحاته ما تقبله عقولهم، (وابن خلدون) في مقدمته الأطول، وضع أسس علم التاريخ والاجتماع والسياسة، وإن لم يستفد منها في كتابة التاريخ، حيث تألّقت المقدمة، وخمل التاريخ، هذه الرؤى، وتلك التصوُّرات تكمن في (اللاوعي) بوصفها محصلة تجارب ومقروء، وتنشط كلّما أثيرت، لتشهد اتخاذ أي قرار. ولما لم تكن كلُّ تجربة جديرة بالاستدعاء والرَّصد والتحليل، فإنّ الفوضوليين هم الذين يدوكون ليلهم، ويلوكون ألسنتهم بأحداث عارضة لا قيمة لها. وليس كلُّ متحدث محقاً باستعادة تجاربه، وعرضها على الملأ، فالناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة، ولاسيما أنّنا في زمن الغثائية التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقادر على تحمُّل المسؤوليات وأدائها على وجهها هو القمين بأن يتذكّر الأحداث والتجارب، وأن يكتب الذكريات والمذكّرات واليوميات، ليكون ما يكتب هادياً ودليلاً، إذْ باستعادة مثل هذه التجارب تكون الفائدة لناشئة الأُمّة المتنازع عليها، كما الأرض الموات. وليس من المعقول أن نسوِّي بين العباقرة والمجانين، ولا بين الأذكياء والمغفلين، ولا بين الخاصة والعامة، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. وإذْ لا أزكِّي نفسي فإنّني أحسبها من الصنف الوسط، الذي عبر الحياة متأبّطاً الكتاب والمحبرة، وممسكاً بالقلم والقرطاس، يخط بيمينه ما تبرؤ به ذمّته، مشاطراً أُمّته همومها، محاولاً تغيير ضعفها بلسانه وقلمه، حين لم يقدر على تغييره بيده وسنانه. ولها فقد تكون تجاربي الثقافية محط تقدير الأقلية من الطلاب والمحبين، وإن كانت في نظر الأغلبية دون ذلك بكثير. ولست برماً من عزوف البعض والاختلاف مع البعض الآخر، متى سلمت النوايا، وحسنت المقاصد ورُشِّد الحوار. فالاختلاف من سنن الله الكونية، وهو النار الهادئة التي تُنضِج الأفكار والآراء. وعلى الواثق أن يقول كلمته، ويمضي غير هيّاب ولا وجل مما يثار حوله من غبار لا يزيده إلاّ تألُّقاً. وقديماً قيل: (كلُّ فتاة بأبيها معجبة). فالعقول لا تُشترى، ولا تُصطفى، ولكنها تُصقل بالتجارب، وتُربّى بالتحصيل المعرفي، وتقوَّم بالقدوة الحسنة. والتاريخ معين لا ينضب، لأنّه راصد لتجارب أُمم سلفت. والمتحدثون عن تجاربهم مبادرة أو استجابة، إنّما يؤرِّخون لأنفسهم، ويكتبون سيرهم الذاتية بأيديهم، ويطرحون أنفسهم بوصفها موضوعات، يوعظ بها ترغيباً أو ترهيباً. ومن أصعب المواقف على الإنسان موضعة ذاته، فهو كمن يشرّح جسمه دون تحذير. ولحساسية الموقف يرقب الدارسون وفيات الأعيان، ليكونوا في حل من التناول. ولعل القول ب(موت المؤلف) محاولة للخلوص من تأثيره على الدارسين. ومن الصدف الحميدة اهتمامي المبكر بالسِّير الذاتية، ووقوفي على تجارب القادة والمفكرين والمصلحين من خلال ما سجّلوه عن تجاربهم، أو سجّله مريدوهم. وما من مسؤول ترجّل من كرسيه، وقدر على التعبير إلاّ غمر المشاهد بتجاربه النجل وتجلياته الخلَّب أو بتنصُّلاته من إخفاقاته، محذِّراً أو محرضاً، مدلاً بأفضاله، أو دالاً على فضائله. وهو قبل ترجُّله يَعد ولا يفي، ويمنِّي ولا ينجز. وليس كلُّ ما يقال عن التجارب صدقاً محضاً، أو كذباً محضاً، ولكنها ساعة وساعة. والعاقل يعرف القوم من لحن القول. وكان اهتمامي بهذا اللون من الثقافة، محرضاً على الأخذ بأحسن التجارب، ومساعداً على مرونة التحوُّل. وتعقُّبي للسِّير الذاتية جاء أوزاعاً بين النقد التنظيري والتطبيقي، والإشراف والمناقشة والتحكيم، وقراءة الإبداعات السردية. فكثير من السِّير الذاتية تُعد إبداعاً سردياً ممتعاً، كما فعل (طه حسين) في (الأيام)، وكما فعله روائيون من بعده، تقنعوا بالأبطال، فكشفوا ما ستره الله وعفا عنه. ومن خلال الارتباط بهذا اللون، وجدت لكلِّ شخصية نكهة خاصة، لا تغني عن غيرها، وإن كانت مفعمة بجلائل الأعمال. ومما زاد الحديث عن التجارب أهمية دخولها في عالم الرواية، وابتلاؤها بالمكاشفة (اللاأخلاقية)، سواء كانت المكاشفة سلوكية، كما فعل الروائي المغربي (محمد شكري) في رواية (الخبز الحافي)، أو هجائية، كما فعل الفيلسوف المصري (عبد الرحمن بدوي) في (سيرة حياتي) أو فكرية، كما فعل (نجيب محفوظ) في (أولاد حارتنا)، ويوازي هذه الشطحات اعتدال مقبول، كما هو عند (أحمد أمين) في (حياتي) وعند (إدوارد سعيد) في (خارج المكان) وعند (ميخائيل نعيمة) في (سبعون) وإن اختلفنا مع الاثنين عقيدة وفكراً. ومن أجمل السِّير سير أعلام النبلاء من علماء ومفكرين وساسة، سواء في ذلك ما كتبوه بأيديهم، أو ما كُتب عنهم كما فعل (البغدادي) و(الذهبي) و(ابن عساكر)، إذ كلُّ هذه الشرائح من الأناسي خاضت معترك الحياة من أجل الإنسانية المعذَّبة أو التائهة، فكان منهم الهداة المهتدون، والضالون المضلُّون. والتاريخ العربي ذو شقّين: (تاريخ سياسي) يتحدث عن نشوء الدول وسقوطها، وما تتعرّض له من حروب، وتداول للسُّلطة عن طريق الاختيار أو الغلبة أو التوارث، وما ينتابها من ترف أو شظف، وتبعات ذلك كله، ومن أساطينه (ابن كثير) و(المسعودي) و(الطبري). و(تاريخ حضاري) وهو سير الأعلام وتاريخ العلوم والمذاهب والمدن، ومن أبرز أعلامه (الذهبي) و(البغدادي) و(ابن عساكر) و(أحمد أمين) في العصر الحديث. والتجارب أوزاع بين هذين التاريخين. وحديث الإنسان عن نفسه من أصعب المواقف، ومن أعذب المقروء. فالسِّير الذاتية فنٌّ رفيع، تهواه الأنفس، وتلذُّ به الأعين، وتطرب له الأسماع، وبخاصة حين يتوفّر على المصداقية والاقتدار وجلائل الأعمال. والمصداقية المطلوبة في تلك المواقف، لن تتوفّر بالقدر الكافي، وبالذات عند الحديث عن تجارب الإنسان الأولي. ولهذا عجب الله من شاب ليست له صبوة، وجعل الشاب الذي نشأ في طاعة الله من السبعة الذين يظلّهم الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#7 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها..! 2 - 4
د. حسن بن فهد الهويمل والتجارب الأولى إنْ لم تجنح أخلاقياً، فهي مأخوذة بالحماس والاندفاع وطيش الشباب، وما يُطْفِئ أوار هذا الطيش إلاّ تقصِّي التجارب المحنّكة عند سائر العلماء والمفكرين. فالحياة جامعة مشرعة الأبواب لذوي الألباب، والذين تخرّجوا فيها، يكاد المتميّز منهم يفوق من تخرَّج في أرقى الجامعات، و(المتنبي) حصر العزَّ والخيرية، على سرج السابح، أو بين دفّتي الكتاب. فالحصان وبدائله تطوف بالإنسان في الآفاق، التي هي مكمن الآيات {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}. وبوسائل النقل والاتصال تتوفّر التجارب العلمية والعملية. والكتاب بما حوى من مختلف الفنون، يوفِّر المعارف. وليس هناك أفضل من تلاقح التجارب والمعارف. والطواف في الآفاق مصدر العلم والكسب. ولهذا أصبحت المواصلات والاتصالات الجسر والمعبر إلى الخبرات والخيرات، وكما قيل: - (سافر ففي الأسفار خمس فوائد)، و(المتنبي) ينسب مرضه لطول الإقامة، ويقول عن طبيبه الذي جسه:- (وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام) والسفر بوصفه وعاء التجارب يسفر عن وجوه الرجال، والرحلة في النهاية تجربة ثقافية، مثلها كمثل الرحلة في بطون الكتب. والأسفار للسياحة أو للعمل صنو القراءة، ومنهما معاً تتشكَّل الثقافة. فالثقافة: ما يَثْقفُه الإنسان أي يجده مكتوباً أو منصوباً، و(النِّصبة) - بكسر النون - لسان حال كما لسان المقال، عند (الجاحظ) وفي (البيان) الذي جمع أصناف الدلالات في خمسة أشياء، وهو المثل الأعلى للثقافة العربية. ولقد كانت الرحلة بعض تجاربي الثقافية، وكانت حياتي موزَّعة بين الكتاب والركاب. والذين مكّن الله لهم من الكلمة، وحلّ عقدة ألسنتهم، يتمترسون خلف التورية والكناية واللمحة، ويتوسّلون بعلوم البلاغة، لتجميل تجاربهم، وتغليب جانب الإمتاع على الانتفاع والتلميح على التصريح. وكلُّ متحدث عن ذاته تتجاذبه تيارات ومذاهب، فهو لا يكتب ليحكي ما حدث، ولكنه يكتب ليبرر ما حدث. ومن الناس من يعجبك قوله، حتى إذا فُزِّع عن عقلك لم تجده قال شيئاً ذا قيمة. وكثير ممن دوّنوا تجاربهم كشفوا عن سذاجتهم وضحالتهم وخواء أفكارهم، وعدم استفادتهم من سنوات العمر، فالقراءة وإنْ طالت، لا تكون مؤشّر تفوُّق ولا تألُّق، إلاّ إذا تلقّاها ذهن متوقِّد. فهي كما الوابل إنْ أصاب أرضاً سبخه زادها وحلاً، وإنْ كانت روضة غنّاء اهتزت وربت وأنبتت من كلِّ زوج بهيج. والسير الذاتية مكمن التجارب، ومن الظواهر السيئة فيها التوسُّل ب(أدب الاعتراف)، وهو لون من ألوان الأدب الحديث، عول عليه كثير من الروائيين المخفقين فنياً ولغوياً، ليسدوا نقصهم، ومن خلاله تعرّض الأدب لسوء الأدب، إذْ لم يتعاضد فيه شرف المعنى مع شرف اللفظ، فكان هذا اللون (كخضراء الدمن). والمبدع لا ينفك عن بشريته الضعيفة أمام المغريات وثورة الغرائز، ومن ثم يُبتلى بالقاذورات، ثم لا يستتر. ومثل ذلك يحصل في فترة الشباب، أو في حالة الضعف أمام الغرائز، ويستمر مع الشيوخ المتصابين، وما أقبح العائل المستكبر والأشيمط الزاني. والإبداع السرديُّ أخذ زمام المبادرة في استيعاب السِّير الذاتية، فكانت الأعمال مظنَّة الانحراف الفكري والسَّقوط الأخلاقي. وما أضرّ بالأُمّة إلا ّالتفحُّش في القول، وكثرة الخبث، تحت أيّ مبرّر، وفي الحديث (كلُّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون). وجنوح السير الذاتية بوصفها وعاء التجارب إلى الإبداع السردي أوقعها في المجاهرة بالسوء، والمكابرة في الأفكار، تعويلاً على مشروعية الاعتراف، وجنوحاً إلى مقتضيات الواقعية، وتوسُّلاً بحرية التعبير. وحق الاعتراف والواقعية والحرية أصبح مناط المتفلّتين على سائر الضوابط والشروط والسمات، وهي مناطات أخلَّت بالقيم، لأنّها لم تؤخذ بقدرها وضوابطها، والحق أنّها ليست مناطاً لكشف السوءات، ونسف المسلَّمات، كما يتصوّر البعض. ولم يَعُد الحديث عن التجارب عبر الأعمال الروائية مأمون العثار، ولم تعُد السّقطات عارضة، ولكنها متعمّدة وملحّة في التعمُّد ف(سلمان رشدي) في (الآيات) و(تسليمة نسرين) في (العار) و(علاء حامد) في (المسافة) و(حيدر حيدر) في (الوليمة)، وآخرون من قبل ومن بعد، ونقاد معذِّرون أو مدافعون، كلُّ ذلك لم يأت بالصدفة، إنّه عمل غير صالح، دبّر له في الخفاء، ليجهض الكلمة الطيبة ويقمع القول السديد، ويذكي الخلاف بين حرّاس الفضيلة ودعاة الرذيلة. وأيّ تجربة ثقافية تقف على خطل القول، وعوار الكلام، ثم لا يكون لها دور في إقالة العثرات، وتصحيح المسارات، وأطر المتفلّتين على القيم لا تكون ثقافة ناصحة لله ورسوله وللمؤمنين. لقد أحسست في وقت مبكِّر أنّ المثقف رائد، والرائد لا يكذب أهله، وأنّ مسؤوليته الإصلاحية فرض عين. والروايات المنحرفة أو الساقطة وثائق إدانة للمشهد وللصامتين عن الحق. ومهما تنصّل الروائيون من اتخاذ البطل قناعاً، فإنّهم مدانون في الحالين، لأنّهم صنعوا الأبطال على عيونهم، وأجروا الأفعال على أيديهم، أو أنّهم اقترفوا الأعمال المسفة ثم جاهروا بها. والقول صنو العمل، وفي الذكر الحكيم {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. والمتوقّع من المشهد الأدبي بثّ الفضيلة، وحراسة القيم، وانتقاء التجارب الإنسانية المفيدة، وليس صحيحاً ما يقال من أنّ الشعر نكد لا يقوى إلاّ في الشر وأنّ أعذب الشعر أكذبه، وليس صحيحاً ما يُتداول من أنّ الشعر بمعزل عن الدين. وكيف يسلِّم العقلاء بهذه المفتريات، والله يقول: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} لقد نكص المشهد على عقبيه، واحتفى بالردّة الثقافية، وأغرى المبتدئين بالأخذ بعصم الرذائل، فكان أن أثارت تلك الجنح ضجة كبرى واختلافاً كبيراً ونجمت على إثر هذه النكسة وتلك الردّة، مذاهب أدبية ونقدية ك(الأدب الإسلامي). وهذا الحراك داخل المنظومة الحضارية الواحدة صدَّع الوحدة الفكرية، وألهى الأُمّة العربية عن المبادرات الإيجابية، ولقد تولَّى كبر ذلك التصدُّع متعاجمون، تعالقوا مع المستجد دون تحفُّظ، فكانت المذاهب في نزول وارتحال حتى أصبح كلام الليل يمحوه النهار. وما عادت التجارب بهذه الترديات مصدر تهذيب أو تعليم، وتلك من قواصم المشهد الأدبي، الذي لم يعد عربياً خالص العروبة، ولا إسلامياً نقي الإسلام. واستفحال الرذيلة، وتهافت الذوّاقين تواكبهما أعمال جادة، وسير حميدة، تذكي روح الحماس، وتربِّي على القيم النبيلة، وتضيف، ولا تلغي، ولكنها أعمال يتعمّد المتنفّذون إقصاءها، والتعتيم عليها. وما أكثر الذين حاموا حول الحمى ووقعوا فيه، حين لم يبالوا بالقدوة الصالحة، ولا بالكلم الطيب. وأي تجربة ثقافية تنشأ في هذا الوسط المستحم في الوحل، يمسُّها طائف من دخن المشاكل، وإنْ نجت فبأعجوبة، وإنْ تصدت فبمعجزة. وقدر الخيِّرين أنّهم كمن يرعى غنماً في أرض مَسْبعَة، فإنْ غفل عنها تولَّى رعيها الأسد. وما من تجربة ثقافية إلاّ وهي واردة موارد القوم، ولكن الله ينجي الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيّاً، ونجاح التجربة في الخلوص مما عمت به البلوى. وما أكثر الذين استزلّهم قرناء السوء، وزيّنوا لهم سوء أعمالهم، حتى رأوها حسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولم يستبينوا النُّصح إلاّ بعد فوات الأوان. وما من متحدث عن تجاربه إلاّ تواجهه مواقف يتمنى أنّها لم تكن. والعقلاء هم الذين يئدون ما لا يفيد، ويلتمّسون اللحظات المضيئة في حياتهم، لتكون قدوة وذِكراً حسناً (والذِّكر للإنسان عمرٌ ثانٍ). ومواقف الضعف أو الإخفاق قد تساق للاتعاظ والتفادي و(العاقل من وعظ بغيره)، وإنْ كانت التجارب من الذكريات غير الحميدة. فالحياة بكلِّ ما تعج به من نجاحات وإخفاقات مدرسة لِمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، والمتفحِّشون يذكرون بقصص القرآن، وكتب التراث. وكم هو الفرق بين قصة (يوسف) مع إخوته ومع امرأة العزيز وقصة (موسى) مع الفتاتين ومع (فرعون). فما يُتداول في الروايات والقصص من تجارب تسجيلية لا تنفك من الفضائحية، فالعاقبة في قصص الأنبياء للفضيلة، لا للرذيلة، كما يريد بعض السرديين المعاصرين. والإخفاق في سائر التجارب لا يُعَد خسارة إذا عمله الإنسان عن جهل، أو تسرّع، واستدركه من قريب، ولم يصر عليه، ولا سيما إذا استطاع الاستفادة من عثراته، فالتجارب مفيدة للإنسان، وإنْ لم يسعفه الحظ بالتوفيق. ولأنّ خضم التجارب متلاطم فإنّ من المفيد انتقاء المفيد، والعدول عن الغثاء الذي يحفل به الغثائيون. وأمام عدد من الخيارات نثرت كنانة التجارب، ووجدتني متردِّداً في الاصطفاء، وعند التصنيف والمفاضلة تبدّى لي أنّ تجاربي مع (الكتابة والقراءة) خير ما يُقدم، لمعرفتي أنّها تمتد من المهد إلى اللحد، وأنّها تنطوي على معاضلة الأفكار، ومصاحبة العباقرة الأخيار منهم والأشرار. وما كان في نيّتي أن أتقصّى مراحل تلك العلاقة، ولا أن أرصد كلّ التحوُّلات، فذلك موعده يوم الفراغ لكتابة السيرة كلِّها، إنْ كان ثمة في العمر والجهد بقايا تتسع لكلِّ هذه الرغبات الطموحة. وحين أكتفي بتقديم نتف من السيرة الأدبية والفكرية، على شاكلة (سيرة شعرية) للقصيبي، وسير فنية أخرى تعاقَب على بثِّها عدد من المبدعين والنُّقاد والعلماء والمفكرين، أحس بأنّ سيراً كثيرة تتهافت على الذاكرة، لتسهم في صياغة ما أنتقي، وهو تهافت يفرض نفسه، فالتداعيات تؤكد أنّ الكاتب مرتهن مقروئه، وأنّ تمثله لما يقرأ لا ينجيه من التأثُّر الواضح. وكلُّ مفكر تعرف مصادر ثقافته من كتابته، وتقديم التجربة لوقوعها بالفعل، وليس لتألُّقها، ولو أنّ المجرّبين جعلوا التألُّق شرطاً للإفضاء، لما فعل ذلك العقلاء، لأنّه مؤشِّر إعجاب وزهو وغرور وتزكية للنفس.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#8 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها ..! 3-4
د. حسن بن فهد الهويمل وحين هممت بالتقميش، تذكَّرت ما قرأت في كتاب (أنا) وكتاب (في بيتي) وكتاب (حياة قلم)، للمفكِّر العربي (عباس محمود العقاد)، وهي تمثِّل جانباً من حياته الفكرية، فيما تمثِّل روايته الوحيدة (سارة) حياته الغرامية الفاشلة، والتي انطلق منها (عامر العقاد) رحمه الله، لتقصى ما لا يجوز، في كتب صفراء، سمّاها (غراميات العقاد) و(المرأة في حياة العقاد)، وهو لون من الارتزاق غير المشروع. وليست (اليوميات) ل(العقاد) بأجزائها الأربعة الضخام من قبيل السيرة الذاتية، ولكنها تعليقات تشتمل على النقد والرد والسؤال والجواب لمختلف المعارف والقضايا. وقد كتبها في خريف حياته، حيث وهن عظمه، وخارت قواه، وشحّت موارده، فكانت أشبه بالخواطر، ليعيش حضوراً، ويكسب قوتاً، وبئست حياة تزورُّ عن العظماء، وتنبطح تحت أقدام الأقزام. و(العقاد) في كتبه الثلاثة أفاض، بالحديث عن تلقلُّباته الفكرية والقرائية، وقد خصّ مكتبته في كتابه (أنا) بفصل موجز، بسطه في كتابه (في بيتي)، وإنْ أوغل في الفلسفة عندما تحدث عن (النور والروح والمادة) حديثاً جدلياً ممتعاً، يتكئ على الحوار مع صاحبه. أمّا حديثه في (حياة قلم) فقد كان أجمل ما فيه حديثه عن (ولادة قلم) و(قلم يشق طريقه)، ولو كتبتُ عن قلمي، لكاد يكون ما أكتب مستلاً من (العقاد)، ليس عجزاً، ولكنه التشابه في النشأة والظروف، وبقدر تأثُّره السَّاذج ب(النديم) كنت معه في مطلع حياتي. وهو حين يتحدث عن (أزمة قلم) فإنّما ينطلق من الأزمات المادية التي تعرّضت لها صحف الأفراد، و(العقاد) يعيش من شبات قلمه، وليس من عرق جبينه، فهو قد رفض أن يبيع نفسه بالتقسيط على الحكومة - على حدِّ تعبيره - فالوظيفة عنده قيد حريري، يعوق الانطلاق، ويحبس الكلمة، ويستنزف الجهد والوقت، بثمن بخس هو الراتب الشهري، وحسناً فعل. وحياة (العقاد) متميّزة كتميُّزه بين أقرانه، فهو لم يكمل دراسته، ولم يتزوج، ولم يتوظّف، وهذه الفضاءات الثلاثة مكَّنته من تشكيل فكر حر، لا يخشى في الحق لومة لائم. فكان صعلوكاً متحضّراً، يردِّد مع الصعاليك قول أحدهم:- (خُلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة عليَّ يداً أغضي لها حين يغضب) وينشد مع (الحميري) قوله:- (عدسْ مالعباد عليك إمارةٌ نجوت وهذا تحملين طليق) ولقد اختلفْتُ معه في خصوصياته الثلاث، فكان أن تزوّجت مبكراً وتوظّفت مبكراً، وتباطأت في إكمال دراستي، ولكنّني أكملتها عبر جامعات ثلاث، تعرّفت من خلالها على أساطين الفكر والأدب. وتجربة العقاد الفكرية تشكِّل الجذور الأولى لرؤيتي، وإنْ عدلت عنها بعض الشيء، حين وصلت حبالي بالتراث، عبر موسوعاته الثقافية وبناشطي الفكر الإسلامي، كشيخ الإسلام (ابن تيمية)، حيث امتدت نظرتي إلى مصادره المعرفية الأهم في (المحلى) ل(ابن حزم) و(التمهيد) ل(ابن عبد البر) رحمهما الله، وحفظت التوازن في (المغني) ل(ابن قدامة). وهو كتاب في الفقه المقارن، وتحوُّلي الفكري من خلال تواصلي مع التراث، لا يقلُّ عنه تحوُّلي الأدبي من خلال تواصلي مع (مناهج النقد اللغوي الحديث)، و(مذاهب الأدب ومدارسه). ونزعتي الفكرية أميل إلى التكاملية والانتقائية، فمع اعتزازي بالسلفية، إلاّ أنّني لم أكن سلفياً خالص السلفية، إلاّ في الأصول العقدية، أو ما يسمَّى ب(الفقه الأكبر)، أو قل لست مرتهناً لمدرسة سلفية معيّنة. وإشكالية (السلفية) أنّ لها محطات تاريخية، لكلِّ محطة قضاياها التي أسهمت في توجيه الرؤية. والدليل على ذلك أنّ كلاًّ من (أحمد بن حنبل) و(أحمد بن تيمية) رحمهما الله، مرَّا بمحنة وامتحان، ولكلِّ محنة أجواؤها الفكرية المغايرة، ولكلِّ جوٍ خطابه، فمحنة (ابن حنبل) مع (المعتزلة) حول (خلق القرآن)، أمّا (ابن تيمية) فمحنه كثيرة، كما يقول صاحب (ذيل الطبقات)، وهو مجتهد في الفروع، وله مفرداته التي أثارت علماء المذاهب المتعصِّبين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (محمد بن عبد الوهاب)، وغيره من المصلحين ك(الألباني). فالحركة الإصلاحية ل(ابن عبد الوهاب) اهتمت بحفظ جناب التوحيد، وتشكيل كيان سياسي يحميه. والحركة السلفية عند (الألباني) ركّزت على تصفية النص، وتربية الأُمّة على القيم، والعودة إلى الكتاب، وصحيح السنّة، الأمر الذي أثار عليه أصحاب المذاهب الفقهية، ولقد ساعد على ذلك حدّة طبعه، وعنف رده، وعدم مصانعته، واحتدام مشاعر مريديه. وهكذا تتعدّد الخطابات بتعدُّد الأولويات. والتكاملية والانتقائية عندي ماثلة كذلك في الاتجاه النقدي، ومن ثم وصفني بعض الخصوم بالناقد التلفيقي، و(النزعة التلفيقية) نزعة فلسفية، تقوم على الخلط غير المنظم. ومن أمثلتها كما جاء في بعض الموسوعات (التزويج بين المادية والمثالية، وربط المذهب الماركسي بالمذهب التجريبي النقدي). وكم استفدت من المذاهب والتيارات التي واجهتها ك(الحداثوية) و(البنيوية)، و(التفكيكية) وغيرها، وفضل أصحابها عليَّ كفضل من أشايع. ولكيلا أقع أسير فكر واحد، فقد حاولت أن أستبين مكوّنات العقل العربي المعاصر من خلال كتب المفكرين ومذكّراتهم، ولقد وقفت على عدد لا بأس به من السير الذاتية عند (العقاد) و(طه حسين) و(أحمد أمين)، و(بدوي) و(عوض) و(إحسان عباس) و(إدوارد سعيد) و(عنان) و(العريان) و(هيكل) و(الجابري) و(زكي محمود) وآخرين. كما شغلني العقل البشري وبوصفه موضوعاً، فتقصّيت مشروع (الجابري)، وردود الفعل عند (الطرابيشي) ومن عاضده، أو خالفه حول مشروعه، كما هو عند (الياس مرقص) و(هشام غصيب) و(يحيى محمد)، كما امتدت نظرتي إلى تناولات (كانت) و(نورمان بريل) و(ماركيوز) و(باشلار) و(برنتون) و(لوكاش) وربطت ذلك كله بمفهوم العقل في الإسلام وحدوده واختلاف (المعتزلة) مع (السلفية) في ذلك. وليس مهماً عندي الاختلاف في وجهة النظر، متى استطعت أن أسيطر على الموقف، وأن أعرف القدر المسموح به، وفق رؤيتي ومذهبي الفكري. ولقد تعمّقت صلتي بمثل هذه السير الفكرية حين حُكِّمت في جائزة عالمية، وحين ناقشت رسالة (السيرة الذاتية في الأدب السعودي)، وحين كتبت دراسات لم تر النور بعد، ولكي أكون على بيِّنة من أمري، فقد امتدت نظرتي إلى مجمل الدراسات التنظيرية والتطبيقية المؤلَّفة والمترجمة عن (السيرة الذاتية) في سائر الآداب العالمية. ويوازي ذلك دراسات الظواهر والشخصيات والتاريخ الفكري عند (أحمد أمين) و(حسن حنفي) و(فهمي جدعان) و(علي النشار)، ولكلِّ واحد منزعه العقلي الذي لا أمضي معه، وإن استكنهته. ومذكّرات الساسة ليست بأقل تأثيراً مما سلف، لا من خلال التحوُّل من الفني إلى السياسي، ولا من خلال العدول عن بعض المواقف، لقد أيقنت أنّ كلَّ فعل سياسي مؤثر إن هو إلاّ وليد لعبة صنعها الكبار ونفّذها الصغار، ولهذا اجتهدت في تفحُّص الوثائق المفرج عنها، واستكناه سير القادة المؤثرين من عمالقة السياسة العالمية، وتقصِّي قوانين اللعب السياسية وقواعدها، ولم أكن خِبّاً يخدعني الإعلام الموجَّه، وتحوُّلي إلى الكتابة الفكرية والسياسية، لا تمثِّل الانقطاع عن الأدبي وإنّما تعني التوسُّع في مهمات الأدب. وتجربة القراءة العصيبة تتمثّل في البداية والاختيار، فأي الكتب تقتني ولأي الكتّاب تقرأ، ومن أي الموضوعات تنطلق. لقد كان منطلقي قبل نصف قرن من (مكتبة بريدة العلمية) التي أمر بإنشائها (الملك سعود) رحمه الله، وأشرف عليها وتابعها، ودرس فيها الشيخ (عبدالله بن حميد) رحمه الله، ومكتبة (المعْهد العلمي) الذي التحقت به قبل أربع وخمسين سنة. والمكتبتان حافلتان، بكتب التراث، والتراث العربي مليء بالجيد والرديء، والمنجي والموبق، والغث والسمين. وتأسيسي الأدبي في بداياته كان على الموسوعات الأدبية ك(البيان والتبين) و(الأغاني) و(العقد) و(صبح الأعشى) و(المستطرف) و(الطبقات) و(الخزانة). ولمَّا أزل حتى الساعة وثيق الصلة بتفسير (ابن كثير) وديوان (أبي الطيب) ولزوميات (المعري) وموسوعة الفتاوى) (لابن تيمية). وإذا استدركنا على المعاصرين شطحاتهم المخلَّّة بالقيم، فإنّ الذين سبقوا من علماء وأدباء وفلاسفة، وكتبوا سيرهم العلمية أو العملية، كانت لهم شطحاتهم التي لا تقلُّ عن شطحات من خلف. والمتعقِّب لمن كتب عن ذاته في التراث، يجده إمّا مغرقاً في الإدعاء، أو ممعناً في الزهادة، والذين ترجموا لأنفسهم، عول بعضهم على ذكر الشيوخ والأنساب، وتحديد المذهب، والرحلة في طلب العلم. وتلك أبرز السمات لسير التراث، ولكن للأدباء والفلاسفة طرائق أخرى، لا تعول على ذكر المدارس والشيوخ والأنساب. ف(ابن سينا) يأخذه الزهو والاعتراف، حين يذكر جلَده واستعانته بالشراب على الكسل. و(ابن عربي) يوغل في المكاشفات والكرامات، ولكنّه لا يتجاوز إلى الشعوذة، مثلما فعل (الشعراني)، أمّا عن الاعترافات غير المسفة فنجدها عند (ابن حزم) في (طوق الحمامة) وفي (الأخلاق والسير)، وهنا يبدو لنا في حديثه الفرق بين (الصدق) و(الصراحة) في السير الذاتية، فالصدق ألاّ يكذب، والصراحة ألاّ يتكتّم. وكلُّ الذي وقع فيه (ابن حزم) أنّه خالف الأعراف السائدة عند لداته من العلماء، وإلاّ فهو لم يخرج على السلوك الأخلاقي. ولا حجة لأحد بالتراث العربي، فهو إنساني، له وعليه، ولم يطلب منا الرد إليه عند التنازع، وموسوعات (الحيوان) و(الأغاني) و(الدارات)، وكتب (المثالب) و(الصداقة والصديق) و(الرسائل)، وسعت سفاسف الأمور، وليست حجة، ونبش عفنها جناية لا تغتفر، وقد فعلها (طه حسين) في (حديث الأربعاء)، وعول عليها (شوقي ضيف) في (الشعر والغناء في المدينة ومكة)، ولقد يسّر الله من يحمي جناب المقدسات من المفتريات حيث أنجز الدكتور (عبد الله الخلف) رسالة علمية رد فيها على (ضيف). على أنّ (أدب الرحلات)، حوى من السير الذاتية الشيء الكثير، وهذا اللون يُعد مصدراً أخلاقياً ووعاء للتجارب المهمة، لم يلتفت إليه الدارسون بالقدر الكافي. ولأنّ القراءة بحاجة ماسة إلى الجهد والوقت والمال فإنّها موبقة أو معتقة، وما أكثر الذين أضلّتهم القراءة، أو أضاعت جهدهم ووقتهم ومالهم معاً. ومكمن الخطورة أنّ متكأ الإعلام المعاصر ومصدر تألُّقه، يكمن في الحديث عن المسكوت عنه و(اللا مفكر فيه)، وما هو مظنة الإثارة في أمور تتعلّق بالدين أو بالمرأة أو بالسياسة، لارتباط ذلك الثالوث بالسلطة، حتى أصبح المرتع الوخيم لكلِّ من تعجّل الحضور والتزبب في زمن الحصرمة. ومن جهة أخرى يوغل الإعلام في التوافه لإشباع رغبات المترفين الذين لا يشغلهم إلاّ قتل الملل، وإزجاء الوقت. وذلك بالحديث عن (الفن الهابط) وأحوال الفنانين والفنانات، أو الحديث عن (كرة القدم) واحتراف اللاعبين، وتلاحي المشجعين، أو الحديث عن (الشعر الشعبي) ومتعلّقاته، وأحوال (المجتمع) من ظعن وإقامة. وكلُّ ذلك المقروء للتسلية ليس غير. وتجربتي الثقافية لا ترفض مثل ذلك، ولا تعزب عن ذكرها ظواهر المجتمع السلبية والإيجابية. فالمهتم بأحوال المجتمع لا بدّ أن يلم بكلِّ ظواهره، ومن ثم نشأت عندي القراءة الاستعراضية، التي تحيط بأطراف القضايا، ولا تتعمّق فيها. إذْ هناك قراءة وظيفية، بمعنى أنّها أنشئت للوصول إلى شيء محدد، كقراءة الرسائل الجامعية للمناقشة، وقراءة البحوث للتحكيم أو للترقية. وهناك القراءة التحضيرية، كإعداد المحاضرات، والإعداد للندوات، أو الاستعداد للردود عند الاختلاف حول الظواهر والقضايا. وهناك قراءة الاكتشاف، كالتعرُّف على مفكر أو فكر. وهناك قراءة التزوُّد، وهي القراءة الحرة المفتوحة. وهذا اللون من المقروء العابر، يلم به البعض للترويح عن النفس، فيما يدمنه آخرون، ويرونه غاية المراد. ولا شك أنّ هذا لون من سلبيات القراءة، وهو فيما أرى أهون الضررين، إذْ لا يتجاوز اللمم، وإن ترتبت عليه إضاعة الجهد والوقت والمال. أمّا اللون الأشد ضرراً والأفدح خطراً، فهو ما تنتجه الأفكار المنحرفة، والمذاهب الهدامة، وهو الأكثر جاذبية، والأقدر على الإغراء، والأذكى في نصب الحبائل، وجذب القراء. ولقد نشطت وسائله، وتعدَّدت مصادره، وتنوّعت فنونه، واستشرى خطره، وعم ضرره، و لا يخلو عصر من العصور من طوائف متعدِّدة الآراء والأفكار والعقائد. ويكفي أن يستعرض القارئ موسوعات الملل والنحل ومعاجمها، وما يدور في علم الكلام في عصور الازدهار، أمّا في العصر الحديث فقد تبدّت أساليب جديدة، ومناهج حديثة، ومذاهب فكرية متعدِّدة بتعدُّد القائلين، كما نجم فيه الفكر الإلحادي، المتوسل بالهدف لا بالجدل، والمعول على المادة. ولكلِّ عقد من الزمان همومه ومثيراته وقضاياه، والتفكير في العصر الحديث كاد ينحصر في المادة، بوصفها ماثلة للعيان. والتاريخ الفكري الحديث حافل بالتجارب الفكرية والسياسية والأدبية، وبالتحوُّلات في تحديد مركزية البحث، والدخول في المعمعة مجازفة محفوفة المخاطر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#9 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها ..! 4-4
د. حسن بن فهد الهويمل ولأنّ التحوُّلات الفكرية سمة العصر، فإنّ من المفيد تقصِّي ذلك ما أمكن، أو الإشارة إليه، وكافة التحوُّلات ذات ارتباط وثيق بالتقلُّبات السياسية، والتحوُّلات تراوح بين السلب والإيجاب، وكم هم الفرق بينها وبين (التقليعات)، التي مُني بها المشهد الثقافي العربي، وأيّ (تجربة ثقافية) ليست بمعزل عن تقلُّبات الطقس، والتحفُّظ أو المراجعة قد تخففان من فداحة التأثير. ولقد أشرت من قبل إلى لونين من المقروء المكوِّن والمسلي، وكلتا القراءتين: قراءة التسلية، وقراءة الفكر المنحرف دون تحصُّن، تعودان بالضرر على القارئ المبتدئ، فقراءة التسلية إضاعة للجهد والوقت والمال، وقراءة الأفكار المنحرفة ضلال مبين للفكر المتردد، وانزلاق في متاهاته. ولما كانت الكتابة بضاعة متداولة بين الكاتب والقارئ، وجب على الطرفين إعطاء الموقف ما يستحقه، وتفادياً لتصدُّع العلاقة أو فتورها، حرصت على كسب القارئ، باحترام مشاعره، فالذي لا يحترم قارئه، لا يستحق الاحترام. وما أكثر المغالطين والمفترين والمحرّفين. والإشكالية ليست في ذات القراءة، ولكنها في القارئ والمقروء، ومدى ما لديهما من تفاعل. ولعلّنا نتذكّر تداول (المركزية) بين المؤلِّف والنص والقارئ، وأثر هذا التحوُّل في نتائج القراءة. والمسهم في الحركة الفكرية والأدبية والسياسية لا بدّ أن ينوِّع المقروء، وأن يعدد مستويات القراءة، وأن يكون متابعاً لحراك المشاهد، راصداً لتحوُّلاتها، مؤصلاً لمعارفه، متقصِّياً لجذور الفكر بكلِّ تنوُّعاته، عارفاً أو متعرفاً على القوم من مشاربهم، ومن لحن القول، مسترفداً كلّ المناهج في مواجهة المستجد، ذلك أنّ لكلِّ فكر آليته ومنهجه ومرجعيّته وجذوره. وما لم يكن القارئ على بيِّنة من أمره، أضلَّه السامري، وما أكثر السامريين الذين يستدرجون المبتدئين من حيث لا يشعرون. والمشاهد تعجُّ بالسذَّج والخدّاج. وتنويع القراءة وتعدُّد مستوياتها سبيل النجاة وحفظ الجهد والوقت والمال. وإن لم يتوفر القارئ على تلك الاحتياطات فإنّه يفوِّتُ على نفسه المتابعة والرَّصد والاستيعاب، بحيث تبدو في إسهاماته فجوات تكشف عجزه عند المواجهة. وما أكثر الذين يعييهم الجدل فيستدبرون الموضوعات ويموضعون الذوات، وما أكثر الذين يقولون منكراً من القول وزورا. والفرق واضح بين المنْشِئين والمؤصلين، والفقهاء والكتّاب. وكم ضحكت - وشرُّ البليّة ما يُضحِك - من كُتّاب يتداولون قضايا مصيرية من خلال ثقافة السماع الإعلامي، وهي ثقافة متسطّحة، لا تزيد المشهد الثقافي إلاّ تشرذماً وفرقة وخبالاً، وتقحُّم (الفقه الأكبر) يتطلَّب التوفُّر على الأصول والقواعد، ف(النص)، بحرٌ لُجِّي داخله مفقود، وخارجه مولود، ولهذا أمر الله بالنفور للتفقُّه في الدين، ولم يكتف بمجرّد السماع. ومن القراء والكتّاب من يميل مع الرياح حيث تميل، لا تعرف له مذهباً، ولا تقف له على قضية. ومنهم من إن تراجعه في جنحة، لا يستمع إليك، ولا يسائل نفسه: أحقٌّ ما أقول؟. ولأنّ الحياة مسرح يتعاقب عليه ممثلون من كلِّ جنس ولون، فإنّ واجب النظّارة ألاّ يكونوا ريشاً في مهب الريح. وما لم يكن هناك تأصيلٌ معرفي، ينطلق من قعر حضارة الانتماء، وموقفٌ فكريٌّ مصون عما يزعزعه، فإنّ الإنسان يكون كالمرآة في كف الأشل. وفي ظلِّ ذلك التنوُّع والتَّعدُّد يتحتّم على المتابع أن يبذل جهداً استثنائياً، يمكِّنه من الوجود الكريم في أكثر من مشهد. ولقد تكشّفت لي من خلال تجربتي الثقافية أنّ على الراصد للحراك الفكري والسياسي أن يتضلّع من المصطلحات، وفق مفاهيمها الأصلية. ولن يتأتّي ذلك إلاّ بالتوفُّّر على أمهات الكتب, والوصول إلى المصادر الأصلية. فالمفاهيم المتداولة للمصطلحات مفاهيم إعلامية، متّكؤها ثقافة السماع. كما تبيّن لي أنّ منشأ الخلاف في كافة المشاهد مرُّده إلى تضارب المفاهيم، وتعدُّد المصادر، فمن يعول على الرؤية الغربية، يكون خطابه مرتبطاً بتلك الرؤية، ذات النزوع المادي. والمصطلحات وإنْ بدت مغرية إنْ هي إلاّ ناتج حضارة مغايرة، وليست بريئة، وإن كانت مقاصدها العامة حسنة ف(الديموقراطية) - على سبيل المثال - تدعو للحرية والعدالة والمساواة، وتداول السُّلطة، وانتقالها وفق آلية حضارية ك(الانتخاب)، وهذا حسن ومطلوب لأنّه من ضوال المؤمنين، والحقُّ ضالّة المؤمن أين وجده فهو أحقُّ به، ولكن (الديمقراطية) في النهاية منتج فكر مادي لا ديني، يرد للشعب، ولا يرد إلى النص التشريعي. والقبول بها على الإطلاق ناتج جهل بالجذور الفكرية للمصطلح، فمصطلحات كلِّ حضارة لا تكون بالضرورة صالحة على إطلاقها، وإن قيل بتفريغ المحتوى، وليس من المعقول أن تكون ملائمة لكلِّ الحضارات. ولما كان معوَّل الحضارة الغربية على العقل المجرّد، ومعوَّل الحضارة الإسلامية على النص والعقل معاً، أصبح هناك فجوة بين مفاهيم المصطلحات ومقاصدها. فمصطلح (الحرية) مثلاً له مفهومه الغربي ومقتضاه، وله مفهومه الإسلامي ومقتضاه. ف(الحرية) في الإسلام منضبطة أو مقيَّدة بنص، وهي فيما سواه مطلقة، وليس إطلاقها فوضوياً بالضرورة، ولكنه مخالف للمقتضى الإسلامي، ولأنّ (الحرية) جزء من (الديموقراطية) وهي كل (اللبيرالية) و(الوجودية) فإنّ الحديث عنها بمعزل عن المرجعيات مظنّة الاختلاف، وهو ما نشاهده في أوساطنا الفكرية التي لا تضع قيمة للتأصيل والتأسيس. وتجربتي الثقافية كشفت لي عن زيوف، لا يجوز القبول بها، وعرَّت مشاهد يحسبها البعض على شيء من الحق، وما هي كذلك. وعلماؤنا الأوائل قعَّدوا القواعد، وأصّلوا الأصول، وحدّدوا المناهج، ولم يتعاملوا مع القضايا والنصوص بحرية. فعلماء الحديث لهم مصطلحاتهم، وعلماء الفقه لهم أصولهم وقواعدهم، وعلماء التفسير لهم ضوابطهم. ولك أن تقول مثل ذلك عن علماء النحو والصرف والبلاغة. وكلُّ المذاهب الكلامية والفقهية والنحوية والصرفية والأدبية تحيل إلى قواعد وأصول. فعلم البلاغة والعروض والتجويد يُركز على الجماليات الصوتية، ومثل ذلك الرسم والنحت. والجمال أصبح نظرية لها فلسفتها بشقّيها: الحسِّي والمعنوي، ولا جمال مع الفوضى والعبث والغثيان الوجودي. وكلُّ ضوابط علم لها مقاصدها. والضوابط والحدود تمكن من السيطرة على الاختلاف وحسمه، وأي ظاهرة لا يحتكم المختلفون حولها إلى مرجعية متّفق عليها، تظلُّ كما الوحل، لا تزيد الإنسان إلاّ ارتكاساً. والاختلاف من السُّنن الكونية، وأسبابه كثيرة، فالنص الحمَّال، والدليل بين القطعي والاحتمالي، والسياقات والأنساق، والمقاصد، والعموم والخصوص كلها أسباب معقولة ومتوقّعة. والمتعصِّبون لآرائهم لا يعرفون دواعي الاختلاف، وأصحاب الأهواء يضلون عن الحق، ولقد أسهم (التأويل) في القديم و(التفكيك) في الحديث في تعميق الاختلاف، ولا يحسمه إلاّ الإذعان للمرجعية واستحضار الضوابط. وفوضوية المشاهد الفكرية والأدبية مرجعها إلى التمرُّد على المرجعية، وفهم الحرية على غير وجهها، وعدم التزوُّد من العلوم وضوابطها. إنّ الداء العضال الذي فتّت الوحدة الفكرية في أُمّة هي أحوج ما تكون إلى التماسك والاعتصام، مردُّه إلى علّتين: الفوضوية باسم الحرية، ونبذ المرجعية باسم الاجتهاد، ورصدي للعراك، وخوضي لبعض معاركه، جزء من تجربتي الثقافية، ولهذا سعيت لإشاعة المناهج والآليات، التي تضبط الإيقاع، وحرصت على التزوُّد منها، لأنّها الأقدر على الأطر. ولو عدت إلى تذكُّر تجربتي الثقافية، وما أسفرت عنه لوجدتها - فيما أرى - تجربة غنية ومفيدة، لقيامها على مرتكزين: الأخذ والعطاء. فالأخذ يتطلّب الانتقاء والفهم، والمرور بالمنتقى عبر بوابات حضارة الانتماء. والعطاء يتطلّب التضلُّع من سائر المعارف. فالمفكر والأديب كالنحلة، إن هي لم تنطلق لامتصاص نسغ الزهور، تكون كالذباب. وعلى المفكر أن يستحضر مهمة النفع والإمتاع. وحاضر المشاهد الفكرية والسياسية والأدبية تضطر صاحب المواقف إلى إكراه نفسه على قراءة سائر الأفكار المستقيمة والمنحرفة، تمشياً مع قاعدة (الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره)، فالناقد يمارسْ المرافعة ضد الأفكار المنحرفة، ولن تتحقق له الغلبة حتى يتعرّف على تلك الأفكار وجذورها التي يستمد منها أحكامه ومواقفه، ولهذا فإنّ قراءتي للأفكار المتعدِّدة المنازع والاتجاهات، تكاد تفوق قراءتي لما أنا منه، ولما هو مني. ومن البدهيات أنّ الحياة الدنيا خليط من الخير والشر، وأنّ الخيرية لا تكون محضة في شيء، وأنّ الشر لا يكون محضاً في شيء، وأنّ الإنسان بوصفه إنساناً لا تشمله الخيرية حتى يأخذ بأسبابها، وأي تجربة واعية تستحضر الافتتان، ومن ثم تستصحب الصبر والمصابرة والمرابطة. والإنسان في القرآن قلّ أنّ يأتي إلاّ في سياق الذم، كما (الترف)، وحديث العقاد في كتابه (الإنسان في القرآن) يجلِّي هذه الإشكالية التي عالجها بشيء من العلمية الدكتور (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الإنسان)، ومن ثم فإنّ الإنسان متنازع عليه بين قوى متعددة. ويكفي أنّ الشيطان توعَّد كما قال الله تعالى عنه {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، والإنسان بهذه المؤهلات مشروع خير عميم، أو شر مستطير، ودخول المشاهد بهذه التوقُّعات يقي من المفاجآت ومن ألقى نفسه في أتون الجدل، فعليه أن يُعد للجدل عدّته، وتتمثّل في القراءة الشمولية المعمّقة، والمتابعة الدقيقة لفيوض المعارف الجديدة. وإذا كان انتصار الجيوش في ثلاثة أمور: الإيمان بالقضية، والإعداد للمواجهة، والتخطيط للفعل، فإن المرابط على ثغور حضارته لا بدّ أن يتمترس خلف الكتب، وأن يكون على ثقة بنفسه، لا يلتفت إلى الخلف، ولا يستفزه اللغو. ولا تزلقه أبصار التافهين. وفي الوقت نفسه عليه ألاّ يأخذه الغرور والعجب. ولا يحفظ التوازن إلاّ الإذعان للحق، والترفُّع فوق الترهات. وبعد هذا وذاك، فإنّ الثقافة فيما أرى كالمشروبات والمأكولات المحدودة الصلاحية، فمن عوّل على الماضي وحده، كان كمن عزل نفسه، ومن عوّل على الحاضر وحده كان كمن أقام بناءه على شفا جرف هارٍ. وعلى ضوء ذلك لا بدّ من التجديد المستمر للأفكار، وحضور المشهد استكناهاً ومشاطرة واستغلالاً. فالتبعية إلغاء للذات، والصدامية إنهاك للذات، والمداهنة تزييف للذات. وعلى المثقف أن يختار المواقع المناسبة بشروطها، فليس الاختيار ممكناً بمجرّد الرغبة. إنّ حماية الذات وتفعيلها يتطلّبان أثماناً باهظة. وقدر الناقد أنّه كالنافخ في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، فهو لا ينجو من تصاعد الرماد، وفوات الجذوة. وخلاصة التجربة الثقافية تقوم على المرتكزات التالية: - القراءة المعمّقة الشاملة. - والمتابعة الدقيقة للمستجدات. - والثبات على الموقف. - والتأصيل المعرفي. - وتحرير مسائل الاختلاف. - وتحديد المرجعية والإذعان لها. ومعتصر المختصر يكمن في إشارتين عظيمتين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. وتجربتي الثقافية لما تزل تلح بأنني مبتدئ أتهجَّي أبجديات المعارف في الصفوف الخلفية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#10 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
استراحة 1 / أعلم أن الصفحات ستكون كثيرة في هذا الكتاب ولكن ماذا أصنع ؟ هذا تراث الدكتور الكثير .. ولتعلموا أن مامضى هو نتاج كتابته في عام 2006م فقط وفي صحيفة الجزيرة فقط وسأتابع بعد هذه الإستراحة ماكتبه في عام 2005م ثم 2004م ثم 2003م ثم 2002م ثم 2001م ثم 2000م ثم 1999م ثم 1998م والله المعين سبحانة
2 / قد يقول قائل ولم لاتكون هناك روابط لمقالاته ؟والجواب : هل سمعت بكتاب يحتوي على روابط :D هذا كتاب .. يفتحه من يحب القراءة للهويمل ويقرؤه بكل متعة دون أن يعكر ذلك انتقال من موقع إلى آخر وكذلك فإنني لاأستبعد وجود أناس يرغبون في جمع تراث الدكتور في صفحة واحدة فأنا أريحهم بهذه الطريقة حتى يتم تخزين الصفحة ومن ثم القراءة دون اتصال 3 / من فوائد هذا الجمع أن يطلع أولئك الذين لايعرفون الهويمل جيدا على فكره وثقافته من خلال ماكتبه ونثره هنا وهناك ليكونوا على بينة أمام أي نقد مزيف ![]() 4 / ومن فوائده أيضا التفريق بين الثقافة الكبيرة وثقافة ( الفطيرة ) الجوفاء ![]() والآن لنأخذ قسطا من الراحة قبل أن نحلق في تراث الهويمل ماقبل 2006م وتقبلوا من عبـــــــــــــــــ ![]()
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#11 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
أبومحمد النجدي
أشكرك على هذه الثقة وهذا الاهتمام أنت بهذا تدفعني لأن أنقب في كل مكان أسأل الله الإعانة كما أتمنى ممن يعرف من تراث الدكتور شيئا أن يسوقه إلى هذا الكتاب المفتوح مشكورا ولكم من عباس كل مودة ومحبة
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#12 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
استراحة
مع أني أنسخ وألصق إلا أنني تعبت .. فكيف بمن يكتب ذلك بيده !! ولاتنس أنه بقي لنا ضعفي ما قطعنا .. قبل أن نحلق لمقالات 2004م سأنقل لكم لقاءا مع الهويمل في موقع لها أون لاين ثم لقاءا في إضاءات ثم تعقيبا لأحمد المهوس على الهويمل في مرحلة ماقبل ثقب الأوزون :D
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#13 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
والآن لنبدأ مقالات 2005م
المواطنة بين تعدد المفاهيم وتشعب القيم الثقافية..! (1-2) د. حسن بن فهد الهويمل لقد اهتم التشريع الإسلامي، بالتأصيل لمجموعة من القيم: العقدية والسلوكية والحقوقية والتعبدية والانتمائية الاصطباغية {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً}، وجاء المنقبون من علماء الأصول والكلام، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، وامتازت كل ملة أو نحلة بنظريتها المعرفية وقواعد مذهبها، وعرف كل أناس مشربهم، وتبدت هذه الأصول وتلك النظريات للمتلقي الواعي، وعرف كل قوم من لحن القول، وتشكلت عنده رؤية وسطية متوازنة، تعرف أركان الإيمان ونواقضه، وما هو قطعي يقيني، وما هو احتمالي اجتهادي، وواكبتها رؤية معرفية إيمانية لم تعطل الاجتهاد، ولم تعمله على إطلاقه في القطعيات واليقينيات والنصوص التي لا اجتهاد معها، كما يقول الأصوليون. هذا الوعي الحصيف والرؤية النافذة روضت المستقيمين كما أمروا على قبول التعددية، واحتمال الاختلاف، وتقدير الآراء، واحترام الآخر، ما دام في النص بقية من فضاءات دلالية. هذه الرحابة مكنت أهل الذكر من توقي التعويل على قيمة واحدة، تذر الأخريات كالمعلقات. والرؤية لا تكون حقاً حتى تستوعب شمولية الإسلام وتتمثل توازنه، وتعي مجالات الثبات والتحول فيه، وتروض نفسها على أن الاختلاف أضعاف الإجماع، وأن العلماء متفقون على محدودية الإجماع وشمولية الاختلاف. والذين اتخذوا بعض القيم معزولة عن السياقات والأنساق ومقتضيات العموم والخصوص والقوة والضعف والثبات والتحول، ولم يفرقوا بين الأفكار والعقائد، ومحضوا رؤيتهم الضيقة كل جهودهم، أضروا بمن حولهم، ممن صنعوا مثل صنيعهم، وممن حفظوا التوازن بين القيم. وكل من ذهب بما يرى، واتخذ إلهه هواه، وفارق جماعة المسلمين، وتفانى في تحويل فكرة إلى عقيدة، يكفر الخارج عليها، مستميتاً في استئثاره واستبداده، فهو واقع في نقض غزل الأمة من بعد قوة أنكاثاً، لأنه ترك المحجة، وتاه في بنيات الطريق، وكان أمره فرطاً. وكلما تعددت الثقافات بتعدد مصادرها، أو بتعدد نظريات التلقي، كان من الصعوبة بمكان اتفاق النخبة على وحدة المفاهيم والأفكار، وبخاصة أولئك الذين يوغلون في مسلماتهم، ويستسلمون للحساسيات المفرطة، ويقعون تحت عقدة الخوف غير المبرر ف(المواطنة) في ظل هذه المخاضات الفكرية والثقافية مفهوم مراوغ، يتعدد بتعدد الرؤى والمصدريات ونظريات التأويل. وليست هناك إشكالية عصبية في التوفيق بين وجهات النظر، متى حسنت النوايا، وشرفت المقاصد، وقوي الإيمان بالثوابت واليقينيات المجمع عليها، وتسامى الناس فوق الجزئيات والثانويات. أما إذا ضاع الإيمان أو اضطرب، لا أمان ولا قوة، ذلك أن طاقة القوة الحسية والمحرك لها والداعم لها إنما هو الإيمان الراسخ بالمبادئ، والمعرفة التامة بتفاوت الأحكام، وتبدل الأحوال، ودوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً. والناهضون بالدعوة والإنذار لا بد لهم من فهم دقيق لمقاصد الإسلام، واحترام لمذاهب العلماء الأفذاذ، وترويض للنفس على قبول الرأي الآخر، وإمكان التعايش معه على قدم المساواة. وليس من حق أحد أن يصر على نفي الرأي الآخر ما دامت التعددية واقعة تحت طائلة الاختلاف المشروع. وإذا كان المذهب الواحد يقع بين علمائه الاختلاف، وفيه حكم مقدم، يعرفه الراسخون في العلم، فإن من حق المذاهب الأخرى أن تأخذ حقها ومشروعيتها، ولا تجوز الملاحاة، ولا الإصرار على التهميش، ولا استنزاف الجهد والوقت في المماحكة والجدل البيزنطي، وبخاصة إذا كانت لكل الأطراف مرجعية مشتركة وأصول معتبرة، فتلك المؤهلات تضبط حراك الناشطين في المجالات التوعوية والدعوية. و(المواطنة) الإيجابية لا تتحقق بالأثرة، ولا بالتنافي. وفي التسامح والتفسح في المجالس استجابة للمقاصد الإسلامية، كما يراها علماء الأمة، إذ هي تؤلف بين المفاهيم المتعددة. ولن يتحقق ذلك إلا بفقه النص التشريعي من حيث الرواية والدراية والبراعة في إنزال الحكم على النازلة. ومن الأخطاء الفادحة تصور الفقه مقصوراً على (فقه الأحكام) ومجرد القول بأن هذا حلال وهذا حرام، وتناسي (فقه الأحوال) وهو المتعارف عليه ب(فقه الواقع) و(فقه الأولويات) و(الفقه السياسي). والرسول صلى الله عليه وسلم استصحب هذه الأنواع الثلاثة، وما لحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن تركنا على (المحجة البيضاء)، ومن زاغ عنها بسبب الجهل، أو الهوى، أو التعصب، أو التقليد، هلك وأهلك من حوله من الأشياع والأتباع. وما استعصى على الرسل إلا (عقدة الأبوية)، وما استفحل التناحر، إلا في ظل الخلط بين الأفكار والعقائد، وما هلكت الأمة إلا على يد أغيلمة موغلة منبتة، تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية. و(المواطنة) الإيجابية تتجلى في القول، وفي الفعل، وفي الترك، وفي التوازن بين الحقوق والواجبات. وحين يبادر البعض مهمة القول في (الشأن الوطني) في حالة من اضطراب المفاهيم، وتكالب الأزمات، تبدأ نذر الخلل في الوحدة الفكرية والدينية للأمة، وينسل من ذلك خلل آخر، يؤدي إلى تفكك الوحدات الإقليمية والسياسية والدينية. ومن استخف بالقيم والمبادئ، وركن إلى الحسيات والماديات، فوت على أمته فرصاً ثمينة. وإذ يكون (الأمن) أغلى القيم وأهمها، فإن أي حراك ديني أو سياسي أو ثقافي أو فكري يساوم أو يزايد عليه تحت أي راية يعد في نظر العقلاء والمجربين ظلماً وعدواناً وتفريطاً، ولا ينظر إلى عوائد مزايدته أو مساومته مهما كانت. ذلك أن (الأمن) مصدر كل خير، ولن يستطيع أي مصلح في أي حقل حضاري أن يمارس عمله إلا في ظل (الأمن)، ولهذا شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ولزوم جماعة المسلمين، وغلظ على الخارجين، وأهدر دمهم، وقال: (فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، ومواجهة المؤسسات الشرعية خروج على السلطان، على أن السلطان ليس شخصاً بعينه، وإنما هو مفهوم وقيمة، متى اجتمعت عليه الكلمة، تعين سلطانه. وإذا كانت (المواطنة) قيمة و(الدين) قيمة و(التعدد الثقافي) قيمة و(السلطة) بشعبها الثلاث: (الدولة) و(الدين) و(المجتمع) قيمة، فكيف نُوفّق بين هذه القيم، ونحفظ التوازن فيما بينها، وندرأ عن أنفسنا معرة الشقاق؟ ونحقق في ظل هذه القيمة وحدة وطنية شاملة. لقد كثر المتصدرون للقول في هذه القيم، وأصبح الرأي العام نهباً للقول ونقيضه، تخترقه القنوات والمواقع والخطابات، ويتربص به المتعالمون والمستغربون والأضوائيون، وإشكالية الراهن من فئات تتجاذب الآراء والأحكام، وهي بعد لم تع عوائد ما تقول. وما أضر بالأمة إلا اضطراب المفاهيم، وأنصاف المتعلمين، وإحجام المتضلعين إيثاراً للسلامة. إننا نخطئ في مفهوم (المواطنة) ونخلط بينها وبين مجمل النزعات (الأممية) و(الأخوة الإسلامية) حتى لقد وقع البعض في التخلي عنها، نتيجة الفهم الخاطئ لمقتضيات (الأخوة الإسلامية) و(الاهتمام بأمر المسلمين) و(التداعي الجسمي للعوارض) ومقتضيات (التكفير) و(الجهاد) و(ديار الكفر والإسلام) و(أهل الذمة) و(المستأمنين) وأضاع البعض حقوق الوطن في ظل التعبئة العاطفية لدعوات (القومية) و(الدينية) و(الأممية) مع أنه لا تعارض بين هذه القيم، متى تعاملنا معها تعاملاً إسلامياً بعيداً عن (الفئوية) و(التطرف) و(هاجس التصفية للمخالف) ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم تنوع المفاهيم للجهاد وأحواله في (غزوة بدر) حين كرر كلمة (أشيروا علي) وكان قصده انتزاع موافقة (الأنصار) على مواجهة المشركين خارج أسوار المدينة، لأنهم لما يزالوا مرتبطين معه بعهد الدفاع عن حوزة المدينة. وهو المرتبط ب(جهاد الدفع). وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون (جهاد الطلب) أو هكذا خاف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصوروه. وإذا كانت الأوضاع العالمية غير السوية في تصاعد مستمر، وتأزم مستحكم، كان لا بد من تبني أسلوب مرن، يحذر الاندفاعات غير المحسوبة، أو التردد الموهن.. فالقيم أخذت في ظل هذه الأوضاع المأزومة أبعاداً جديدة، وأصبح التعامل معها يتطلب عملاً مؤسساتياً، يتوفر على المعرفة والخبرة، ويتخلق بالحلم والأناة، ويمارس الدفع بالتي هي أحسن. و(المواطنة) في ضجة الانتماءات وتناقض المفاهيم، ليست كلمة تقال، ثم لا تتبع ببرهان، إنها أخذ وعطاء، وتوازن بين الحقوق والواجبات. وتحقيق متطلباتها في ظل التعدد الثقافي قضية محفوفة بالمخاطر، وأخطر ما تواجهه الأوطان التعددية المعرفية والدينية والقومية والثقافية والطائفية. وبخاصة حين تتصور الأطياف أن تحقق انتمائها وولائها لا يتم إلا بإقصاء الآخر وتهميشه والنظر إليه بدونية. وما سنومئ إليه لا يرقى إلى هذا التصعيد الخطير، ذلك أن وطناً ك(المملكة العربية السعودية)، لا يعاني من مثل هذه التعدديات الحدية الحادة، متى أخذت بحقها، وحيل بينها وبين الاختراقات المغرضة، فهو بلد إسلامي عربي خالص العروبة والإسلام. وإن كان ثمة إشكالية فهي في بعض الولاءات الخاطئة للإقليم أو للقبيلة أو للطائفة، أو لمناقضها من قومية أو أممية أو وحدة إسلامية غير ممكنة في ظل الضعف والاستكبار العالمي. غير أن ما منيت به البلاد شيء آخر، لما تزل بشأنه في أمر مريج. وفي ظل (الظاهرة الإرهابية) أصبح المتابع يخشى الاختراقات، ويعيش أسوأ الاحتمالات.. فالبنية السكانية والتعددية الثقافية والطائفية قابلة لكل الاحتمالات والاختراقات، والسمَّاعون للخطابات المتطرفة قابلون لمزيد من العنف والصلف والغلو والتطرف، وأحسب أن التعدد الثقافي من أهداف المناوئين والمتربصين. وللحيلولة دون الاحتقانات والصدامات جاءت فكرة إشاعة ثقافة (الحوار)، و(مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) مبادرة حكيمة، اضطربت في مفهومه ورسالته الآراء، ولقد مر بتجارب حوارية، التقت فيها أطياف متعددة، وأتيحت للمؤتمرين فرص لإبداء المرئيات، والتعبير عن التصورات، وهامش الحرية المتاح لم يواجه معه المؤتمرون مرحلة حرجة، ولم يصلوا فيه إلى طريق مسدود، مع أن الأطياف دخلت خائفة وجلة متوترة، والبعض جاء وفي ذهنه أنه داخل في صراع التنافي والتصفيات، ولم يدر في خلد البعض أنه من الممكن أن تكون هناك أرضيات مشتركة، تتسع للتعايش والتقارب أو التعاذر، وقد تبلغ الجدلية ذروة التفاعل الإيجابي، ومثل هذا الوضع يعد من المبشرات. ومع هذا التفاؤل العريض فإن هناك مواقف لا يجوز الإغماض فيها، وهي مواقف نشأت من خطأ التصور، واستفحلت في ظل غفلة الرقيب، وتعدد الانتماءات الثقافية، وتجاوز سلطة المؤسسات، وتلقي المفاهيم من مصدريات غير شرعية، وسلبية المواقف أو عجزها عن تفكيك الذهنيات المضطربة وإعادة تركيبها، والتفريق بين الفئة الضالة والفئة المضلِّلة. لقد عشنا غفلة المؤمن، حتى جاء (الحادي عشر من سبتمبر) ليكشف أوضاعاً غير سوية، وغير متوقعة، و(رب ضارة نافعة)، فلو امتدت تلك الغفلة لكان أن اتسع الخرق على الراقع. والمسارعة في إشاعة ثقافة لحوار ومأسسة الحقوق حيلولة مرحلية دون تفاقم الأمور وتدهور الأوضاع، وتناول مثل هذه الطوارئ في وضح النهار من الأساليب الحكيمة، فما دام أنه بالإمكان المكاشفة والشفافية ومعالجة الأمور دون الخوف من الاستحكام والتأزم فإن السكوت مسايرة خاطئة، وتأجيل وقتي. وفتح الملفات ومعالجتها في ظروف الصحة والقوة أفضل من إرجائها، حتى يأتي وقت لا يحتمل استدعاءها، وقد يجد المتربصون الفرصة في تحريك تلك الملفات في الزمن العصيب، وفتح هذه الملفات ليس وقفاً على المؤسسات الرسمية. إن على المقتدرين من علماء ومفكرين وخطباء وإعلاميين تناولها والتحذير من مغبتها، وطرح البدائل التي تسد مسد المغريات، فالمكافحة والتخويف حلول وقتية، والتأسيس لفكر بديل قادر على المنازلة وانتزاع الحق من أولويات المهمات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#14 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
المواطنة بين تعدُّد المفاهيم وتشعُّب القيم الثقافية 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ولعل أولى الإشكاليات ما يتوهَّمه البعض من تناقض بين (الأخوة الإسلامية) و(المواطنة الإقليمية) المتمثلة في الحدود السياسية. ومع القطع بعدم التعارض تظل هناك تصرُّفات تؤدي إلى التناقض؛ فحب الوطن الإقليمي والعمل من أجله لا يقتضيان تصنيم الحدود، ولا المفاضلة، ولا التصدير، ولا يمنعان من الوفاء بمتطلبات الولاء والبراء، والنهوض بحق الأخوة الإسلامية. والحب الفئوي، والقطرية المنغلقة على ذاتها، وهاجس التصفيات للآخر بكل أنواعها ضربت مفهوم المواطنة في الصميم. وليست الممارسات على ضوء المفاهيم الخاطئة وَقْفاً على أمة دون أمة، وهواجس الخوف إن هي إلا بواعث ممارسات خاطئة، وحب الوطن لا يكون سليماً حتى ينفي عنه المقتدرون ما علق به من مفاهيم خاطئة وإغراق في التعالي والادِّعاء الأجوف، وخاصة حين تكون التركيبة السكانية قابلة للتنازع تحت أي ظرف عارض أو دائم؛ كالطائفية والعرقية والقومية. ومعضلة (الأقليات) الحقيقية في البلاد الواقعة تحت تأثير هذه الظروف مجالُ أخْذٍ ورد، حتى خرج مَن يقول: (مواطنون لا ذِمِّيُّون)، و(الوطن للجميع، والدين لله). وحتى اضطرَّت بعض الدول إلى وجود قوة محايدة للحجز بين الطوائف المتصارعة، وحتى وُجد مَن يتحدث عن (الجِزْيَة) واليد الصاغرة، ومَن يطالب بصرف النظر عن الأحكام الشرعية؛ لارتباطها بوقوعات تاريخية. وفات الجميع أن الأمر محلول إسلامياً، ولكن الناس لا يفقهون. ف(الرق) حين لا تتوفر شروطه لا يكون هناك (رقٌّ) بوصفه حدثاً، ولقد استطاع (الملك فيصل) رحمه الله حَسْمَ ذلك شرعاً، والخلوص من مأزق النقد العالمي، مع بقائه متى توفَّرت أسبابه. ولقد فعل مثل ذلك من قبلُ الخليفة الرائد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين لم يُعْطِ المؤلَّفة قلوبُهم، وحين لم يُنفِّذ (القطْع) في عام الرمادة، وظنَّ البعض أن هذا تعطيلٌ، وما هو بتعطيل. و(الذِّمِّيَّة) حين لا تتوفر حيثياتها لا يكون هناك أهل ذمة ولا جزية، ولما تُحسم مثل هذه القضايا، وكان بالإمكان حسمها، فوجود حُكْمها لا يقتضي وجود عَيْنها. والحياة بدون سلطة تحسم وتعزم حياةٌ وحشيةٌ، والسلطة بدون نظام يحدُّ من غلواء كل الأطراف تسلُّطٌ وفوقيةٌ. ولعلنا نضرب المثل بحق (القوامة) وما يستتبعه من (طلاق) و(هجْر) و(تعدُّد)، لقد أخطأت أطراف كثيرة في فهم هذه الحقوق؛ إذ ربطتها بالوقوعات لا بالمقْتضيات، وأحسَّت بالحرج، وأعطى البعض الدنيَّة في الدين بوصفه - حسب تصوُّرهم - عاجزاً عن مواجهة الحضارة والمدنية، فكان أن اخترقت (العلمانية الشاملة) و(الفوضوية) باسم الحرية نظام الأسرة والأحوال الشخصية فأفسدتها، وفرضت واقعاً يُوهم بضرورة المراجعة للثوابت. وليس أمام المسلمين ما يحرجهم لو أنهم فهموا المقاصد والمقتضيات، واستجابوا لله والرسول. والمستجدُّ من القضايا بحاجة إلى دراسة فقهية مؤسساتية تتعامل مع النوازل، وتواجه الرأي العام العربي بحُكْم متَّزنٍ تتمخَّض عنه مداولات أهل الذكر. وكم هو الفرق بين حفظ التوازن بين سائر الحقوق والواجبات والاهتياج العاطفي الذي يصنِّم الحدود، ويُلغي كل حق في سبيل الحق الفئوي الأهوج للوطن أو للسلطة أياً كان مصدرها. وإذا حصلت مواقف فردية تُقصي حقوق المسلمين، وتضحِّي بها في سبيل النزعة القطرية، فإن ذلك لا يخوِّل الأطراف الأخرى نسْف المواطنة الإقليمية وإلغاءها. والتعدُّد الثقافي وتفاوت المفاهيم لا يحملان على الصدام، وإنما يحرِّضان على إيجاد أرضية مشتركة يمارس الفُرقاء من خلالها إعادة الوفاق ومبادرة الحوار، وامتحان المفاهيم؛ سعياً وراء تمحيصها، والتأليف فيما بينها، والنظر إليها بوصفها رؤًى متعدِّدة لا متناقضة. وكل ذاهب بما يرى يجب عليه ألاَّ يقطع بصحة ما يعتقد وخطأ ما يعتقده الآخر، إلا ما كان حُكمه مقرَّراً بنصٍّ قطعيِّ الدلالة والثُّبوت، وما كان من أركان الدين المعلومة بالضرورة، فهنا لا تكون مزايدةٌ ولا مساومةٌ ولا اجتهادٌ. ولكن يجب أن يكون التحديد ناتجَ تداولٍ مؤسَّساتي يضع في (أجندته) كل الاحتمالات، ولا تُؤخذ الأحكام المصيرية من أفراد يتَّكئون على أرائكهم ويطلقون الأحكام على عواهنها، لمجرد أنهم يعرفون فقه الأحكام، ويأنسون بحُكمٍ أطلقه عالم تُوجِّهه سياقاته، ولم يكن حكمه من باب الإجماع. وإذا كانت القضايا والرؤى والتصورات مجال اجتهاد فإن التعصُّب لها يُعدُّ من تأليه الهوى. وأخطر قضية تعيق المسيرة الثقافية الخلطُ بين الأفكار والعقائد؛ فالأفكار قابلة للاختلاف، أما العقائد فهي من الثوابت والقطعيات، ولكن كيف نفرِّق بين الثوابت والمتغيرات واليقينيات والاحتماليات والأفكار والعقائد؟ إن هناك دليلاً يحتمل التأويل، وهناك برهاناً لا يحتمل إلا معنًى واحداً، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منازعة الأمر أهلَه: (إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، ولم يقل (دليل)؛ لأن الدليل يحتمل عدة مفاهيم، أما (البرهان) فدليل قاطع. والعلماء اختلفوا في الفروع، وتقاربت وجهات نظرهم في الأصول، وكتبوا في قضايا الإجماع ومجالات الاجتهاد، واختلافهم لم يصل بهم حدَّ المواجهة، ولم يمتد إلى العامة إلا في حالات نادرة، حشد فيها البعض مشاعرهم، وتحوَّلت تلك المواقف في التاريخ الحضاري إلى حالة من التندُّر. وما أضرَّ بالأمة إلا التكثُّر والتقوِّي بالأتباع، وخَلْق جماعات الضغط الغوغائيَّة. والمواطنة في ظل تعدُّد الثقافات تعني المشاركة لا الأثرة، والتعاذر لا التنابذ، والتعايش لا التصادم. وليس في ذلك ما يمنع ما دامت الأمة متَّفقةً على الثوابت، محترمةً لما عُلم من الدين بالضرورة. وإشكالية الأمة في عجزها عن استيعاب الخطابات المحتملة، وإذ يكون من المتعذَّر واحدية الخطاب فإنه يجب التماس مسوِّغات التعدُّد في إطار المفاهيم العامة، وليس بمستبْعَد أن يندَّ البعضُ فيضِّيق واسعاً، وقد فعلها بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال قائلهم: دَعْني أضرب عنقه يا رسول الله، لمجرد أن المخالف ارتكب خطأً لم يحتملْه العاديُّون. وحين جاء عمر مُمسكاً بتلابيب أحد القرَّاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرسلْه يا عمر، وطلب منهما القراءة، ثم قال لكلِّ واحد منهما: هكذا نزل القرآن. وحين أقسم البعض بنفاق مَن فارق المصلِّين بسبب الإطالة، ولم يُثْنِهِ إلا قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ؟!). وإشكالية الأطياف عجزُها عن استيعاب شمولية الإسلام وتسامحه، وكون نصوصه حمَّالة أوْجُه، وأن هناك قضايا أمة وقضايا أفراد. لقد تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؛ لأن قضاياهم مندرجة ضمن قضايا الأمة، ولم يكن تسامحه موافقةً لهم، ولا إذعاناً لأذيَّتهم، ولكن لكيلا يقول الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. وإذا لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدًّا من حسم الموقف حسمه ولا كرامة، ولهذا قال: (مَن لي بابن الأشرف؟) فبادر أحد الصحابة لقتله غيلةً. ولكلِّ حدث حديث، فلقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه ظاهرة المؤلَّفة قلوبُهم، ولما قَوِيَتْ شوكة الإسلام منع ذلك عمر؛ إذ لا حاجة في عهده لتأليف القلوب المرتابة. وفي ظل العجز عن فهم شمولية الإسلام وقفتْ فئات بين الإفراط والتفريط، فكان هناك تمييع للأحكام، أو تحفُّظ على الرُّخص بحُجَّة سدِّ الذرائع. إن الأمة كالسفينة المليئة بالأناسي، كلُّهم ركبوها ليصلوا بها إلى ما يريدون، ولكلِّ واحد هدف وغاية ومقصد، ولكلِّ راكب حقُّ التصرُّف بالشكل والطريقة التي تناسبه، شريطةَ ألا يصل الأمر إلى خرْق السفينة. والرسول صلى الله عليه وسلم حين ضرب المثل بالسفينة والمُسْتَهِمِين والخرْق أراد أن يؤكِّد أن السفينة هي الإسلام الذي يجمع كل الأطياف، وهم حين لا يُخِلُّون بمسارها، ولا يتعرَّضون لوسائل السلامة فيها، فإن ما سوى ذلك مستوعَب ومقبول. ولما كانت السفينة كياناً وحركة كان ذلك موحياً بأن الإسلام (كيان وحركة)، فلا يجوز التصرُّف بالكيان، ولا التدخُّل في اتجاه الحركة، وما سوى ذلك فآراء تختلف، ولكنها لا تتصادم. إن (المواطنة) مفهوم قد يتفاوت، ولكنه لا يفقد ذاته في زحمة المفاهيم؛ إذ لا بدَّ من توفُّر حق يتحقق معه الوجود الكريم، فلا يكون انقطاعٌ له، ولا انقطاعٌ عنه، والمقبول والمعقول أن تتَّخذ بين ذلك سبيلاً. و(المواطنة) تتحقق حين يشعر المواطن بحق الغير وبالحق العام. وكل إنسان يمتلك رؤية مشروعة لا تجوز مُصادرتها، ولا يجوز إلغاؤها، ولا يجوز إصرار صاحبها عليها بالقوة، متى كانت الرؤية الأخرى منسجمةً مع المقاصد الإسلامية، ومتى لم تكن من نواقض الإيمان المتَّفق عليها بين علماء الأمة. وإذا كان ثمة إزعاج للرأي العام في طرْح الرؤية المشروعة في حين لا يترتَّب على حجبها ضرر بيِّن، فإن على ذويها تفادي إثارة الرأي العام. ولقد احترم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرأي العام في أكثر من موقف، لعلَّ من أبرزها عام الفتح حين قال لعائشة رضي الله عنها: (لولا أنَّ قومكِ حدثاءُ عهدٍ بكُفرٍ لأعدتُ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم)، أو كما قال. والدول الرفيقة بشعوبها تُبقي على المفضول، ولا تُباشر الفاضل؛ مراعاةً لمشاعر الرأي العام الذي تشكَّل وعيُه على قناعات غير مُضِرَّة بمسيرة الأمة، فالأعراف القبلية مُعتبَرة، وإن كان من الأفضل التخلُّص من بعضها، وبعض الضوابط الحضرية قائمة، وإن كان الأفضل استبعاد بعضها، والتوسُّع في البعض الآخر، إلا أن مثل تلك الإجراءات قد تؤدِّي إلى إثارة الرأي العام، أو إلى عدم احتمال التفاعل مع المستجد. وكل قناعات تشكَّلت مع التقادم الزمني لا يمكن حسمها بين عشيَّة وضحاها، إن التعبئة الذهنية تحتاج إلى أزمنة مماثلة لإفراغها من محتوياتها وتعبئتها من جديد، ومن مُقترَفات الإعلام أنه يُمسي على رأيٍ ويُصبح على آخر، غيرَ مُبالٍ بما استقرَّ في الأذهان، وكأنَّ كلام الليل يمحوه النهار. على أن لكلِّ مجتمع أعرافه، وأنماط سلوكه، ومواجهة هذه الأعراف بعنف، ونفيها دون تمهيد وإقناع، يعني تحشيد المشاعر والحمل على فُرقة الأمة. ولقد أشرْتُ من قبلُ إلى ضرورة إشاعة ثقافة المؤسسات؛ فالأنظمة والتعليمات والضوابط والإجراءات إذا لم يكن لها ثقافة مُشاعة فإنها لا تُمارس حقَّها، ولا تتفاعل مع أطرافها المستهدَفين بخدماتها. وكم من مؤسسةٍ ضمرت واضمحلَّت بسبب نقص الوعي في أوساط المستفيدين من خدماتها، وكم من مصلحٍ لم ينظر إلى الواقع أفسد من حيث يريد الإصلاح. وأخطر ما تواجهه الأمة ما يلتبس على الغُلاة والمُوغلِين في الدين بغير رفق، وانتزاعهم الآيات والأحاديث من سياقاتها، والخلط بين آيات الوعد والوعيد. والأصوليون يُفرِّقون بين أساليب التعامل مع النصوص، وخاصة خطاب الوعيد. والمُبتسرون يُنزلون النصوص على الوقائع إنزالاً مخالفاً لمقاصد الشريعة، ويتمسكون بآيات الوعيد وبعض الإطلاقات المقيَّدة دون فقه عميق. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، والأخذ بهذا الحديث على إطلاقه يعني الحُكْم بالكفر المخرج من الملَّة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؛ فقد وصفهم بالإيمان مع قيام الاقتتال. ومثل هذه العموميات تحتاج إلى تبصُّر وفهم ورويَّة وبُعْد نظر، ذلك مثلٌ نضربه ليُفهم أن المسائل تحتاج إلى مزيد من التروِّي. إن المواطنة وثيقة الصلة بالدين والحياة { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}، { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}، فربَطَ القتال في الدين بالإخراج من الديار؛ لخطورة الفعلين، { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا}، فجعل القتال للمُخرَجين في سبيل الله. وهكذا تكون المواطنة جزءاً من الدين وقرينةً للعقيدة. والذين تفرَّقت بهم السبل، وضلُّوا طريق الرشاد، يعيشون تحت طائلة التعبئة الخاطئة التي فرضتها لعبٌ سياسية كونية. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية تفكيك هذه الذهنيات، وتنقيتها مما علق بها، وإعادتها إلى سياقها السابق للأحداث، وهي سياقات منطوية على حفظ الحقوق بكل تنوُّعاتها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
الإشارات المرجعية |
|
|