|
|
|
|
![]() |
#1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات!
د. حسن بن فهد الهويمل وحين نتجه بالحديث صوب التوسع المشهود في غرس (الفسائل) وتخويف المسؤول عن عقابيل الاندفاع غير المحسوب، وتلويحه بالحد من الإسراف في الغرس الذي يعد من ركائز الأمن الغذائي، بحجة المحافظة على المياه الجوفية، نجد أن التخويف من الجفاف والتصحر حين يبلغ ذروته، يضع الأمة تحت طائلة الخوف المبالغ فيه، وقد يعرضها لتراجع غير منظم، ربما يستتبع نكسات ما كان لها أن تكون في ظل ظروف مواتية وكنت أود من جهات الاختصاص أن يوجهوا شطراً من جهدهم إلى دراسة أساليب الري، والبدء من حيث انتهى الآخرون، وذلك بتقصي التجارب المحلية والعالمية، والتوفر على كل الدراسات، وخاصة ما أنجزه (البنك الدولي) و(معهد الموارد العالمية)، والعمل على إشاعة أحسنها في الوسط الزراعي، للتمكين من ثقافة زراعية، يفقدها كل المزارعين. ولما لم نكن من دعاة التلقي والقبول الفوري فإننا نود النظر في مدى علمية كل طرح، ومعقوليته، ومناسبته لأوضاع البلاد التي لها شيء من الخصوصية، وتثمين تجارب المشاريع الزراعية المحلية، وبالذات تجارب المتحملين لتبعات الفشل، والمصرين على التنقيب عن كل مفيد، ودعم الآخذين بها، وتمكين المزارعين من استعمالها، لتكون بديلاً لطريقتي الغمر الموحل أو الرش المبخر، كما يجب أن يفرق المسؤول بين المياه السطحية والعميقة في رصد النضوب أو الانخفاض، فالمجربون يؤكدون غزارة المياه الجوفية في بعض المناطق وسرعتها في استعادة وضعها وثباتها وتجددها في بعض المواقع والجهات المسؤولة لن تكون قادرة على بعث الثقة والاطمئنان في نفوس المواطنين الذين يجتاحهم هاجس الخوف من شبح النضوب الذي يشيعه الأباعد ويلوح به الأقارب إلا إذا توفرت على مراكز معلومات وفرق تحليل وتصنيف لما يرد من آفاق المعمورة ومن الداخل. ومن خاف من وقوع شيء لم يقع، تعجل الشيء قبل أوانه. والمجربون يعرفون القدر المعقول من الاحتياط، فلا يجوز أن يصل حد الحرمان. ذلك أن القيم السلوكية حين لا تتوفر على الوسطية والتوازن تقع في المحذور، ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. فالوسطية هي القوام المأمور به، والمطلوب في كل شيء، حتى في العبادة، ولهذا نهي عن الغلو، وذم المنبت. ولقد جاء في الأثر ضرورة الاقتصاد في الوضوء، ولو كان أحدنا على نهر جار، ولا أحسب التوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات الغذائية مضر بالثروة المائية، فنحن مطالبون على الأقل بالتوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات، كالغذاء ومتعلقاته كالأعلاف، وبخاصة الشعير وسائر المطالب الضرورية للحياة الكريمة. ومن أهم الأساسيات: الحبوب والتمور، ولا سيما أن القمح مسيس، وله تأثيره على القرارات المصيرية في الدولة التي تعتمد على الاستيراد أو المساعدات. وسبيل الاكتفاء القاصد أن تكون عندنا مدن صناعية لكافة الصناعات الخفيفة، وبالذات الوسائل الزراعية، ومشاريع زراعية تنهض بها الشركات والجمعيات ورجال الأعمال، كي توفر الأمن الغذائي، وتستوعب الأيدي العاملة من المواطنين الذين إن لم تتح لهم مجالات العمل، اقتحموا المدن بحثاً عن عمل غير متوفر، وعندئذ تمنى الدولة بظواهر البطالة والفقر، وهما مصدر كل شر. والمتابع للوقوعات، يدرك ارتفاع نسبة الجرائم بشكل غير طبيعي وغير متوقع، مع ما تتمتع به البلاد من قوة في الحق، وارتفاع في الدخول. وإشكالية البلاد التي لا يغمض فيها إلا القاعدون إنها دولة الشباب الذين تفيض بهم المدارس والجامعات وأسواق العمل، وتضايقهم العمالة السائبة الرخيصة، ولا يمكن استيعاب هذه النسب العالية إلا في قطاع الزراعة والصناعة، فإن لم يكن القطاعان في مستوى نسبة الشباب والعمالة، ارتدت الطاقات المهدرة إلى أمن البلاد واستقراره. وتشجيع الصناعة والزراعة وحمايتهما ودعمهما، ليست فقط للتوفر على الغذاء والكساء والآلة وحسب، وإنما هو أيضاً لاستيعاب القادرين على العمل من الشباب الذين يجدون أنفسهم في الحقل والمصنع، ومن الحصافة الإبقاء على هذه الشرائح في مواقعها المناسبة لها. وحين لا يكون حقل ولا مصنع تستفحل الهجرة إلى المدن، فيقضى على الريف، وتختنق المدن، وتضطر الدولة إلى معالجة البطالة ببطالة مقنعة، وليس هناك أخطر من اضطراب التركيبة السكانية. وإذا استفحلت البطالة بشقيها: المكشوفة والمقنعة، تحولت مؤسسات الدولة إلى مكاتب للضمان الاجتماعي. ومواجهة البطالة بأسلوب اتكالي، يضيع الطاقات، ويحرم البلاد منها. ودعم الزراعة بالقروض والمساعدات والشراء التشجيعي والتسهيلات، يحول دون الهجرة، ويحمي المجتمع الزراعي من الانقراض، ويخفف الأعباء على المدن المختنقة. ولأن المملكة مترامية الأطراف، طويلة الحدود مختلفة الأجواء والتكوينات الجغرافية، فإنه من الضروري استغلال الحدود الجغرافية بالمشاريع الزراعية العملاقة وبخاصة (البسيطاء) في منطقة الجوف، وربط الشركات الزراعية بأجهزة حكومية شورية إشرافية داعمة: مادياً وفنياً، ويكون من بعض مهماتها تحديد الأنواع والمقادير المنتجة، بحيث لا يتجاوز الإنتاج طلب السوق، ومراوحة الاستيراد بين أنواع الفواكه والخضراوات، وعند الاستيراد يجب تحديد الأنواع المنتجة محلياً للحيلولة دون المنافسة غير المتكافئة، فيمنع استيراد المسموح بزراعته، وتمنع زراعة المسموح باستيراده. وفي ظل هذه الظروف المضطربة عالمياً ونزوع العالم إلى التكتلات الاقتصادية والاستعداد الهيكلي والإجرائي (للعولمة) وشروط الدخول في المنظمات العالمية واختراقات الشركات العالمية، وتسييس كل شيء، لا بد من دعم المزارعين من خلال التسهيلات، وتوظيف الخبرات، وضمان استقرار الأسعار لكافة احتياجات المزارع من بذور وأسمدة وآلات وطاقة. وقبل هذا وبعده لا بد من إنقاذ المزارعين من السماسرة الجشعين، ومن فوضى الإنتاج، وعشوائية التسويق ومزاحمة الاستيراد. وسبيل ذلك إنشاء شركات استقبال وحفظ وتعبئة وتسويق، والرصد الدقيق للطاقة الاستيعابية، وتوجيه المزارعين إلى ذلك، فلا يترك التحري للمزارع. ولو ضربنا مثلاً ب(الطماطم) و(البطاطس) و(البصل) وهي السلع الرئيسة لتبدت لنا فوضوية الإنتاج والأسعار، فتارة تصاب تلك الأنواع بالكساد، فتترك لتذوي في منابتها، وتارة تشح حتى يتطلع المواطن إلى المعلبات أو الاستيراد، والمزارع والمواطن متضرران في الحالين. وإذا لزم تنظيم الإنتاج لزم كذلك تنظيم الاستيراد، فلا يفاجأ المزارع بمنافسة غير متكافئة، والواجب حفظ كافة الحقوق للمواطن بوصفه مستهلكاً وللمزارع بوصفه منتجاً، ولثروات الوطن بوصفها مستنزفة. والتباكي على نضوب المياه الجوفية يقمع السواعد القوية، ويطفئ نصاعة الجباه السمراء المتفصدة عرقاً في وهج الظهيرة، وهي تنسج حلة الصحراء بجنات معروشات وغير معروشات والنخل والرمان مختلفاً ألوانه وأكله، وتدعها تقلب أيديها على ما أنفقت فيها، وتنظر إليها، وهي خاوية على عروشها، وعندئذ نكون كمن يداوي بالتي كانت هي الداء. إن ما يفعله البعض من التخويف إجهاض جنائي لأجنة العطاء، ودحو فضولي فهواجس الخوف من أشباح المستقبل، وإنما ذلكم كله أو بعضه من تخويف أعداء الأمة، كما الشيطان يخوف أولياءه. وزيادة الإشفاق والحرص على ثروات الأمة قد يدخل مرحلة التوجس والخوف غير المشروعين، وهناك ينقلب الأمر إلى ضده. ولسنا نشك أن القول في الغزارة كما القول في الشح وخوف النضوب. إنها رهانات يلز فيها العقلانيون والعاطفيون، وما من إثارة تحسم الخلاف، وتقر في جوف الأرض ما فيها. والمتخوفون يحيلون إلى محدودية المصادر، وانعدام مصبات الأنهار ومنابعها، وشح الأمطار، والإسراف في الاستنزاف. وإذا كان الفرقاء مجربون ودارسون يختصمون حول مسلماتهم، فإن من المصلحة أن يلتقوا وجهاً لوجه، ليطرح كل طرف حيثياته، والمواطن يسمع إلى براهين كل فريق، ويقرر مصيره على علم وبصيرة. واللقاء الذي أجري مع رجل الأعمال الشيخ (سليمان الراجحي) في (جامعة الملك سعود) مساء يوم الثلاثاء 13-1- 1426هـ أسلوب جميل وحضاري، ولا شك أنه وضع أقل النقاط على بعض الحروف، وزيارة معالي وزير المياه والكهرباء لمشروع الجوف ربما أنها مكنته من الوقوف المباشر على بعض الظواهر السارة. فما أحوجنا إلى المكاشفة والشفافية وكسر الحواجز وخلطة الآراء وتظافرها، لمعجمة كل الحروف. ومن الخير للبلاد والعباد أن تنهض وزارات: الزراعة والتجارة والمياه والصناعة والعمل لرسم (استراتيجية) موحدة شاملة تضع في اعتبارها التوعية والترشيد وإيجاد فرص العمل وحماية الأموال التائهة بين الأسهم والمساهمات، وأن تتخلى عن تجاذب الرداء الذي يحمل القضية، ثم لا تتمكن من النهوض بها إلى مكانها. إن الراصد للحراك يروعه اختلاف وجهات النظر، وتفاوت مستوى الحماس، وعدم إيمان المواطن بخطاب المؤسسات، وتصرفه بمعزل عن كل ضابط أو نظام. ولأن قضاءنا وقدرنا الأزليين التصحر والجفاف والحرارة فإن رهاننا على (النخلة)، وعلينا أن نتميز في تجويد المهنة، وحماية الإنتاج، والتأكيد على الفنادق والمطاعم ومقاصف المدارس تقديم التمر غذاء وحلاوة، كما تفعل الخطوط السعودية. لقد تجسدت أهمية الفسائل في حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غرسها في أحلك الظروف، ولا أحسب ظرفاً عصيباً يبلغ فجيعة قيام الساعة، فعندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، في هذه اللحظات المذهلة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها). والمعروف أن هذه اللحظة فوق التفكير وفوق التقدير، ومع ذلك نبه الرسول الرؤوف الرحيم بأمته إلى أهمية الأمن الغذائي. وإذا كانت (إسرائيل) في سباق مع الزراعة والصناعة، وما أحد خوفها من نضوب الماء، فإننا في المقابل نجد من يوجف بلسانه وقلمه، ويلوح بمسؤوليته، ليضع العصي في عجلات الزحف السليم. والغرب الذي يخوف من نضوب الماء، ويدس أنفه في خصوصيات الشعوب، يغري الدول النفطية على مزيد من الإنتاج، بل يمارس الضغط لرفع الإنتاج، وما سمعناه يوماً يحذر من نضوب البترول، ولأنه لم يقل في الشأن النفطي شيئاً فإن متلقي الأقاويل يلزمون الصمت، لأن القول ما قالت حذام. وفي سياق أهمية (النخلة) فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم عشرين مرة جلها في التذكير بالقدرة والنعمة والجمال والأمن الغذائي، وما من جنة أو حديقة إلا وهي محفوفة بالنخل، وكيف يسوغ لبعضنا أن يلقي في روعنا الخوف من تكاليف النخلة، والشح عليها في منابتها. إنها شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولو أن (البلديات) اعتمدت النخلة والزيتونة في الحدائق والشوارع، لكان أن جمعت بين الجمال والمنفعة، وتخلصت من شجر يؤذي بخريفه ولقاحه وشوكه. ولكي نجسد الخسارة الفادحة فإن علينا أن نسأل: كم شجرة زينة في مدن المملكة؟ وكم ينفق عليها من مال وماء؟ وما الذي يضير لو أن هذه الأشجار التي تعد بمئات الآلاف بل بالملايين كانت من النخل والزيتون؟ وما الذي يضير لو أن هذه الحدائق والأشجار سقيت من آبار سطحية ومن مياه معالجة؟ وما الذي يضير لو أن البيوت مكنت من استعمال نوعين من المياه: مياه للطهو والشرب وأخرى للغسيل والسقي والطرد، أليس ذلك من الفرائض الغائبة؟ لماذا يشتغل المسؤولون بالتخويف السلبي؟ أليس من الأجدى أن نوعي الجاهلين، وأن نستبق كل جديد في عالم الزراعة والمياه؟ وحملة التوعية التي تقودها وزارة المياه والكهرباء بادرة طيبة، ولكنها تأتي على استحياء. وعوداً إلى أهمية (النخلة) في بلد واسع المساحة شحيح المياه نقول: إذا كانت المجاعة تهدد العالم، وتطل بشبحها المخيف على ملايين البشر فإن من بيده سبع تمرات لا يُخشى عليه الهلاك. ولقد مرت الأيام وما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأسودان: التمر والماء، وما شبع أهل بيته تمراً إلا حين فتحت (خيبر). لقد كانت النخلة أولى ركائز الاستقرار الاقتصادي، لطول عمرها، وقلة مؤونتها، وثبات أصلها، وحلاوة ثمرها، واحتوائه على مركبات رئيسة في الغذاء الصحي، وتحمله كل الأجواء، وطول صلاحيته. وإذا كانت الطفرة قد عدت بأيدينا وأعيننا عنها، فإن الزمن كفيل بإعادتنا إليها، وحين نعود، وقد ضيقنا عليها الخناق، ورضينا بالتصحر، لن نجد إلا التراب نسفه، كما المل. فهل يعيد المشفقون حساباتهم، وينظرون إلى الغد المخيف؟ لقد آن لنا أن نحسم أمرنا، وأن نحاصر الفوضى والارتجال، فالعصر عصر العلم والمؤسسات والتخصصات، والتوقيت والتقدير وقبول النقد والتوجيه والشفافية والمساءلة واستشراف المستقبل. ومن بطأت به غفلته واتكاليته لم يسرع به تبذيره. لنكن في مستوى مرحلتنا معرفة وثقة وحسن أداء. لقد بدأت فكرة الغرس، وفسيلة السكري تباع بثلاثة آلاف ريال، وبعد التوسع أصبحت الفسيلة بمئتي ريال، وفي ظل هذا التوسع يجب أن يضع المسؤول يده لا للمنع ولكن للترشيد والدعم وتهيئة الأساليب المفيدة للري والمعالجة والإصلاح والتسويق والتخزين والتعبئة، وتعويد الناشئة على استعمال التمر كمادة غذائية. وإذ لا نشك أن ثروة البلاد المائية تقوم على مصادر غير مأمونة وغير متيقنة وغير منضبطة، فهي إما جوفية لا نعلم حجمها إلا من خلال تحريات العلماء أو من خلال التجربة غير المعتمدة عند ذوي الشأن، أو هي مستمدة من الأمطار الموسمية غير المضمونة. يضاف إلى هذين المصدرين التقليديين مصدران مكلفان: (التحلية) و(المعالجة)، وهذه المصادر تقوم إلى جانبها معوقات، تتمثل بالجفاف والحرارة وضعف التعويض الجوفي. ومن عيوب البلاد وأهلها أنهم الأكثر استهلاكاً، والأكثر تحلية، والأرفع تكلفة، والأسرع في ارتفاع نسبة الطلب. ومواجهة هذه المعوقات بتسليع الماء أو خصخصته، وتحديد استنزافه يجب ألا يمتد إلى الزراعة، وإذا امتد التسليع للاستهلاك السكاني يجب أن تراعى الدخول وألا ينظر إلى التكلفة. وآخر شكوانا التعويل على وزرائنا ذوي الشأن، فهم أهل الصدق والإخلاص، وأهل الطمأنة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#2 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! (1-2)
د.حسن بن فهد الهويمل أخشى ما نخشاه في ظل انفتاحنا على الآخر، وتدافعنا عند عتباته، واتساع هوامش حرية التفكير والتعبير أن نكون ك(آل فرعون) يوم التقطوا (موسى)، فكان لهم عدواً وحزنا، وكم هو مفيد لو كان ما نَثْقَف من الغرب بحجم ذلك الطفل التائه في اليم، ولكنه الزبد الذي يذهب جفاء وقدر أمتنا العصيب أن مشاهدها الفكرية والسياسية والاجتماعية والأدبية تموج بالظواهر والمذاهب والتيارات والسلوكيات، وكأنها نثار أعراس يتهافت عليها الدهماء والرعاع. واستقبال المغاير فكراً وحضارة ودنية حين لا يكون المتلقي واعياً بالفوارق، يكون كحاطب ليل، يهوي بيده على كل سواد، فيعود بخشاش الأرض وهوامها، ويخطئ جزل الحطب. والراصد الحذر للحراك الثقافي والسياسي يفزعه الإعجاب المطلق والقبول المطلق، والتزكية المطلقة لكل ما هو متداول في المشاهد الغربية مما هو صالح لهم ومستجيب لحاجاتهم وإذا تهافتنا على أشيائهم غير المتسجيبة لحاجاتنا القائمة أخذناها بقوة وكأنها الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكأن قادة الفكر وأساطين السياسة في الغرب أبناء الله وأحباؤه، اصطفاهم لنفسه، وخصهم بفضائل الأعمال وروائع المنجزات، وأنهى بهم التاريخ، وعهد إليهم إنقاذ الإنسانية من براثن التخلف وقعر الانحطاط. وما الغرب في راهنه إلا متغطرس بقوته، مدل بمنجزه، نابذ لدينه المزور، مكب على شهواته، عالم بظاهر الحياة الدنيا. الأمر الذي مكنه من السيطرة على المادة التي محضها تفكيره وجهده، فيما أهمل الجانب الروحي، وغفل عما يُحييه {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}. والجانب الروحي معادل للجانب المادي، والحياة الأخرى معادلة للحياة الدنيا. وقولنا هذا لا نزكي فيه واقعنا، ولا ندخل به مع الغرب لزز التفاضل، ولكننا نصف الواقع كما هو، وواقع العالم العربي والإسلامي واقع مؤلم لا يطاق، ولكن إنقاذه لا يكون بالتخلي عن الإسلام والارتماء في أحضان الغرب، إنه شيء آخر لم يهتد إليه الظلاميون ولا المتعلمنون. لقد ألَّه الغرب عقله وأحب شهواته، ونفى ما سوى المادة، وقال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثلما أوتي الغرب. وما الغرب في علمه البحت وجده وانضباطه واحترامه لإنسانه إلا استجابة لإعداد المستطاع من القوة التي أمر بها الإسلام، وندب إليها، وفقد محاسنه التي يدل بها ويتغنى بها الظلاميون ليست لفقد مذهبه في الحياة، بمعنى استحالة تحقيق ما حققه إلا باتباع ملته. والتحذير من التهافت على قيمه ومبادئه لا يعني الاستغناء عما سبق إليه من جلائل الأعمال. ونفيه على الإطلاق كاستقباله على الإطلاق، سواء بسواء. وإشكالية المشاهد العربية أنها موزعة بين هاتين الفئتين: فئة نافية لا تقبل من الغرب لا صرفاً ولا عدلاً، وفئة مستقبلة له لا تقبل به بديلاً، ولكل فئة حجج واهية، كرسها الفهم الخاطئ للإسلام أو التمسك الأعمى بالعادات على حد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ}. وإذ تفوق حضارة الغرب سائر المعهود من الحضارات في العلوم والصناعات والمكتشفات المثيرة للانتباه والمبهرة للعقول، وإذ تَحْكم العالم بقوة السلاح والمال والإعلام، وإذ تسومه سوء العذاب، وتقيمه على الضيم راضياً أو كارهاً فإن ذلك كله لا يعني إسقاط ما سلف أو ما هو قائم من حضارات خذلها أبناؤها، كما لا يعني تجاهل سنتي: (التداول) و(التدافع)، وإذا فاقت حضارة الغرب في فترة من الفترات، فليس معنى هذا أن يتخلى المسلمون عن حضارتهم، وبخاصة عندما تتسع حضارة الإسلام لما سبق إليه الغرب أو سبق به، ومعارف الغرب وعلومه البحتة ومنجزاته العلمية هَمُّ الحضارة الإسلامية ومبتغاها، وليس في الإسلام ما يمنع من تحقيق ما حققه الغرب من علوم وصناعات ومكتشفات، ودعاة العلمانية بالتولي والتهافت سيفقدون دينهم ودنياهم، فالحق ضالة المؤمن. وأي حق حسي أو معنوي أنجزه الغرب فنحن أحق به، وأقدر على تحقيقه، ومن ثم يجب أن نبادره مستصحبين كتابنا وسنة نبينا، لنأتي بمثله أو بأحسن منه، وليس هناك ما يمنع من الاستفادة عبر أي طريقة مشروعة، بل ليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الغرب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أناط تعليم أبناء المهاجرين والأنصار بالأسرى من المشركين. إن علينا أن نصالح، وأن نعايش، وأن نبعث الثقة فيمن حولنا من الحضارات والمدنيات، لنبلغ ولو آية، ولنستفيد من منجز الآخر. وإذا قبلنا من الغرب ما أنجز من علم بحت، أو وسيلة إجرائية، أو منهج معرفي، ثم اختلفنا في حكم شيء منه، وجب أن نرده إلى الله والرسول، بحيث لا نقع تحت طائلة المسخ، ولا نعرض أنفسنا لنواقض الإيمان. إن في ديننا فسحة، لو عرفناها لاستوعبنا كل جميل في حضارات الغير. إذ كل علم نافع أو عدل شامل أو حرية منضبطة، تنطلق من الإسلام وتعود إليه، والجهل والظلم والعبودية مقترفات لا يقرها الإسلام، ومن أراد العزة فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ومما يثير تخوفنا الاندفاع غير المحسوب، وتلقي ما لا حاجة لنا به من علوم نظرية، أو تبني مذاهب فكرية، لا يستقيم أمرها مع مبادئ الدين الإسلامي، وذلك ما نراه حاضر المشاهد كلها. فما استقبلنا من الغرب مصانعه ولا معامله ولا مختبراته وما حصلنا على شفرات علومه، وما أفاض علينا إلا ما يفسد أفكارنا وأخلاقنا، و(العولمة) التي ينفذ بها عبر كل وسائل الإعلام ووسائط الاتصال لا (تعولم) إلا الأفكار والفنون والآداب والألعاب والأخلاق، وتلك لا تصنع آلة ولا تقر نظرية، أما العلم فحق خاص لا تجوز الإفاضة به على أحد، وكأن الله حرم ذلك على المسلمين فأمسكوا به وأسروه بضاعة، وما نقمنا من دعاة التنوير إلا قبولهم بنفاية الحضارة وسقطها. والمتابع للطرح الإعلامي يروعه ما يرى وما يسمع من تحولات موجعة وانسلاخ معيب. وإذا قوبلت هذه الانهيارات بالموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، لويت أعناق النصوص، وحُمِّل المستدرك ما لا يحتمل، وقُوِّل ما لم يقل، واشيع عنه أنه خائف متخلف، وأنه رجعي مثبط، وما هو كذلك. فالمسألة ليست في تقبل ما عند الغرب من حقائق علمية، وليست في العمل على إقالة عثرة الأمة الاسلامية والأخذ بيدها من قعر تخلفها، المسألة في التبعية المخلة بالأهلية، وفي الانسلاخ من القيم الفكرية والأخلاقية، وفي الوقوع تحت براثن الغرب، وممارسة الثقافة المتذيلة ثقافة الانبطاح وإذلال النفس. وتلقي سائر الظواهر المتداولة في المشاهد الغربية على إطلاقها مظنة الفساد والضياع، والمتداول يؤكد ما دعى إليه أساطين الاستغراب ورؤوس الفتنة، فالتنوير الغربي يتبناه من لا علم عنده ولا نباهة، والصحوة الشرقية يضطلع بها من لا فقه عنده، والدهماء أشتات بين سراب القيعان فالقائلون عن (حقوق المراة) وعن (الديمقراطية) وعن (الليبرالية) وعن سائر القضايا والظواهر المتداولة دون تحديد قول زائف موغل في الضياع. وكيف يسوغ لمفكر مسلم محكوم بعقيدة، ومقيد بنص، ومخلوق للعبادة، ومستعمر في الأرض أن يسترفد المستجدات في مختلف المعارف النظرية، ثم لا يعرف أنه ينتمي إلى حضارة ذات شرعة ومنهاج. إننا مع (حقوق المرأة) التي كفلها الإسلام. والمعضلة ليست في المعية، بل هي في نوع الحقوق، ومدى تعارضها مع القوامة والطلاق والتعدد والإشهاد والإرث وسائر الأحوال الشخصية. فالمرأة في النهاية محكومة بما شرع الله لها، وتحفظنا على المختصمين حول المراة في غياب ما شرع الله، واستنكارنا لوضع المرأة في الغرب لا يعني حسم القضية لصالح الرجل، والمدافعون عن (حقوق المرأة) ممن يصفون أنفسهم بالتنويريين لا تقبل دعوتهم على إطلاقها، وإذاً فلا بد من تحديد المطلوب واستشعاركم هو الفرق بين المباح والمتاح، وفقه الأحكام، وفقه الواقع، فما هو مباح شرعاً قد لا يكون متاحاً واقعاً، وعند تنازع المباح والمتاح لا بد من الرجوع إلى المؤسسة الدينية لتمارس حقها في ذلك. والقول في الشأن النسائي قول في الوقوعات، وليس قولاً في النظريات والمبادئ، وليس أدل على ذلك من استياء أحد المتحدثين عبر منابرنا من اتخاذ صالتين إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وتصوره أن مثل ذلك إهانة للمرأة وشك في صلاحها وحماية نفسها. والدين الإسلامي يمنع الاختلاط وقاية، ويمنع الخلوة حماية، وقصة (يوسف) وحديث (الإفك) دروس حية، وما دام أن الفائدة بالفصل والتفريق حاصلة، وأن الطرفين يتبادلان الآراء حول مجمل القضايا دون اختلاط مثير للشبهات فإن المصير إلى تلك الدعوة مدعاة للهم أو للشك، وليس شرطاً أن يكون الإضرار في ذات الاجتماع. فالاختلاط المنضبط يجر إلى اختلاط غير منضبط. والعزل بين الرجال والنساء مطلب إسلامي، حتى لقد أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بين الأبناء والبنات في المضاجع، فهل هذا التفريق يعد اتهاماً للأبناء والبنات الأشقاء، أم هو درء للمفاسد؟ وكذلك حين قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن (الحمو) إنه النار، فهل كل شقيق يحتمل تعديه على زوجة شقيقه؟ إن الخلوة والاختلاط والتبرج بدايات الفتنة والمفسدة، والذين يلوحون بالمطالبة، لا يحددون المطلوب، ولا يعرضون للمفاسد القائمة، والإطلاقات المجردة في قضايا حساسة تثير الوحشة والتخوف، والعاقل من وعظ بغيره. إن اتخاذ الاحتياطات لا يعني الاتهام، والأنظمة والضوابط والرقابة والمساءلة ليست مدعوة ولا داعية للاتهام، فمن أمن العقاب أساء الأدب، والمال السائب يعلم السرقة، والله يقول: (ولا تزكوا أنفسكم) والإنسان معرض للفتنة، وعليه ألا يعول على ثقته بنفسه، ويوسف قال لربه: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}. فالمفاسد الأخلاقية لم تنشأ إلا من التزكية التي ليست في محلها، ومن الثقة التي لا مكان لها. ولقد سئلت مذنبة عما حملها على التمكين من نفسها، فقالت: قرب الوساد وطول الرقاد. وبصرف النظر عن (قضايا المرأة) فإن كثيراً من المتعاملين مع المصطلحات والقضايا يتقبلونها بقبول حسن، ولا يأخذون بأحسنها، وإنما يأخذونها بحذافيرها، دون أن يضربوا أدنى حساب لحضارتهم المغايرة، ولو أنهم حين تلقوا ركبان المصطلحات في مختلف حقول المعرفة الإنسانية استشعروا أنهم أهل حضارة عريقة مغايرة، تؤكد على الرد إلى نصوصها المقدسة كل ما اختلفت فيه، فيما لا ترد الحضارة الغربية المتعلمنة إلى نص مقدس. وكم هو الفرق بين حضارة لا تحيل وأخرى تحيل، وكان على الذين يدَّعون اعتزازهم بحضارتهم أن يعرفوا مقتضياتها، إنها حضارة العقل والنص، فمن غيب أحدهما فقد أخل بالمطلوب، ومن غلب العقل على النص وقع فيما وقع فيه أهل الاعتزال، ومن عطل العقل واكتفى بظاهر النص وقع فيما وقع فيه الظاهريون. إن الحرية التي يتخذها المستغربون مناطاً لخطاباتهم ولآرائهم حريةٌ غير منضبطة، فيما تأتي الحرية الإسلامية محكومة بضوابط، وإذا عوَّل أحد على الحرية فإن واجبه أن يفرق بين الحرية كما يراها الإسلام والحرية كما تراها الحضارة الغربية، وإذا طالب أحد بحقوق المرأة فعليه أن يسبق بتحفظاته على ما هو قائم من تبرج واختلاط وخلوة لا يقرها الإسلام. وليس في ذلك القيد الإسلامي معوق عن الأخذ بما ينفع الناس من أمور دينهم ودنياهم. إذا لم نر الإسلام يمنع من علم ولا يحول دون عمل، لا في حق المرأة ولا في حق الرجل، وإذا تحفظ على شيء من ذلك فإنما هو من باب سد الذرائع ودرء المفاسد، وكيف يكون ذلك وهو الداعي إلى إعداد القوة والسعي في مناكب الأرض؟ ولمزيد من الحرية قال الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) وقال: (استفت قلبك). والدراية والاستفتاء رهينا المقتضيات والمقاصد الإسلامية، وليسا مطلقين، وعلى المسلم أن يستشعر القول الثقيل والمكاره التي حفت بها الجنة، فالإسلام ليس ادعاء يطلقه الإنسان، إنه اعتقاد وقول وعمل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#3 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! 2 - 2
د.حسن بن فهد الهويمل والتعالق مع المصطلحات الفكرية والأدبية والسياسية الخالصة، والمصطلحات التي يتنازعها أكثر من حقل معرفي يحتاج إلى معرفة تامة بظروف تشكلها، وجذورها الفلسفية والفكرية، والتحولات التي طرأت عليها عبر تحركها التاريخي والنوعي، واختلاف المفكرين في حضارة المنشأ حول الشمول والمحدودية والمفهوم، والإلمام التام بمقاصدها، ومدى توافقها أو تعارضها مع حضارة الجالب. فما كل مصطلح قابل للجلب، وما كل مصطلح مستحق للنفي. فكل حضارة ترث أو تقترض ما يناسبها من الحضارات السالفة أو المجايلة، وكل نص يعيش في ظلال نصوص حاضرة أو غابرة، وكل مفكر لا ينطلق من فراغ، إنه محصلة مقروءة، وابن بيئته الفكرية والسلوكية، وربيب حاضرة، وقد قيل: - (قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت). وما شقيت الأمة إلا برجلين: رجل يقول: كان أبي. ورجل يقول: كان الغربي. وكأننا بأمس الحاجة إلى القول: خلّ كان (فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس). ومن تصور أنه بفكره أو بحضارته بريء، فقد وهم، وما بعث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق. والعقلاء الواعون يعرفون حواضن المصطلحات، فما من حضارة إلا هي آخذة بنواصي مصطلحاتها، وهو أخذ يدع بقية لمصطلحات أخرى، وقد يكون المصطلح ذا شقين: (أيديولوجي) لا يصلح إلا للحضارة المنتجة، و(إجرائي) صالح لكل حضارة. ولو ضربنا الأمثال ب(الديمقراطية) و(الليبرالية) لوجدناهما ينطويان على المبدئية والإجرائية، ومن ثم لا يجوز التبني المطلق، ولا النفي المطلق. ف(الديمقراطية) (أيديولوجيا) تحيل إلى الشعب لِسَنِّ أي شرعة أو منهاج، وهذا الجانب (الأيديولوجي) الذي لا يجوز القبول به، ذلك أن (الإسلام) يحيل إلى النص والعقل المؤول، و(الديمقراطية) بعد تشريع الشعب، لها آلياتها ووسائلها وأسلوبها الإجرائي ومؤسساتها (البرلمانية) و(النيابية) وطرائق الوصول إلى السلطات التشريعية والتنفيذية. وكل هذه لا أجد فيما قرأت محرماً على أحد الأخذ بشيء منها. أما (الليبرالية) فموقف وممارسة، وتلك قد لا تكون خاضعة للتفصيل، لأنها أشبه بالكل الذي لا يتجزأ، ولنا عودة مفصلة عن تذبذبها بين الفكر والإجراء. وما نراه من تعالق واستفادة لا يكون شيء منه ما يفعله دعاة التنوير الشاربون لطفح الغرب شرب الهيم. والمتعالقون مع المصطلحات أوزاع: فالبعض يظن أنه بالإمكان التوفيق أو التلفيق بين سائر المصطلحات، دون استثناء، والبعض الآخر يرى أن ذلك ممكن مع المصطلحات المتناظرة، وهو ظن قد يردي صاحبه من حيث يدري أو لا يدري، وطائفة أخرى لم تكن على شيء من المعرفة ولا على شيء من التأصيل ممن بهرتهم المكتشفات والمنجزات، يستبقون القبول بالمصطلحات دون انضباط. وإذا قيل لهم: إن المصطلح لا يخلو من وضر الحضارة المنتجة. قالوا: إنه إجراء يأخذ حكم الوسيلة. أو قالوا: إنه بالإمكان إفراغ المحتوى وملؤه بما يناسب الحضارة المستعيرة، ولسان حالهم يقول: - (إنما نحن مصلحون) والحق أنهم مفسدون ولكن لا يشعرون. وحتى مع إمكان ذلك، فإنه ليس من الرشد قمع الذات عن المبادرات، متى كان بالإمكان سك المصطلحات العربية المستجيبة للنوازل. فما الذي يمنع أمة الإسلام بكل ما هي عليه من ثروة علمية وفقهية وفكرية وعراقة تاريخية أن تسك مصطلحاتها، وأن تنجز مفاهيمها ومقتضياتها. وإذا وجدت الفائدة في مصطلح غربي، ثم لم تكن هناك محاذير، فلا بأس من الترجمة ما أمكن ذلك أو التعريب أو النقل في أضيق نطاق، وإعطاء المصطلح مقتضيات لا تناقض الحضارة المسترفدة. وإذ يدعي بعض المستغربين أن هناك مبادئ وإجراءات ووسائل لا يُحسن فهمها ولا التفريق فيما بينها إلا أولو الألباب، وأن المعترضين يجهلون الفروق بين المبادئ والإجراءات، وهي واضحة، كالمحجة البيضاء، فإن على المتهافتين على لعاعات الغرب والمتأبين عليه علواً واستكباراً أن يتخلصوا من المستغربين، وأن يستنوا لأنفسهم طريقاً قاصداً ينبذ إلى الآخر على سواء، ثم لا تكون مصائر الأمة على قادة الفكر غمة، واستمراء التنابز لا يدفع غوائل الفرقة، والتبصر بالأمور يحول دون التهالك الماسخ أو التمنع الحارم. ولن يكون التوفيق الحكيم إلا بالتأصيل والتأسيس لسائر المفاهيم، وتحرير المسائل، بحيث تكون ماثلة للعيان، لا يختلف في فهمها اثنان. وربط مصالح الأمة المصيرية بالمؤسسات العلمية المتخصصة، فما عادت المبادرات الشخصية مجدية، وعلى كل الأطراف أن يعززوا آرائهم بالبراهين القطعية الدلالة والثبوت. وليس من حق أحد الاكتفاء بالتسفيه والتجهيل لمن خالفهم. وما من متابع لجدل (الغربنة) و(العوربة) إلا ويدرك الفرق بين المبادئ والوسائل، والإحالة إلى عجز التفريق حجة أوهى من بيت العنكبوت، والمتمسكون بحق الكينونة السوية يؤكدون على أن المبادئ لا يجوز المساس بها، ولا الخروج عليها، أما الوسائل فإن من حق المتمسك بمبادئه أن يتخذ منها ما يراه مناسباً، لتمثل هذه المبادئ وتطبيقها. ولكن مثل هذا القول يحتاج إلى تفصيل وتحفظ وتحديد، ولا يجوز إطلاقه على عواهنه. فالوسيلة تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. فلو ضربنا مثلاً بمصطلح (الليبرالية) الناسلة من رحم الاقتصاد، والممتدة إلى الدين والسياسة والاجتماع كما (العولمة) لوجدناه يقدس الفردية والحرية المطلقة ويتخذ العنف سبيلاً لتحقيق المراد كما (الوجودية) القائمة بكليتها على الحرية الفردية التي لا تحيل إلى ضابط نصي، فيما تقوم الحرية في الإسلام على ضوابط لا يجهلها إلا الأوباش، ومن ثم فليس هناك إمكانية للقبول بهذا المصطلح على إطلاقه، وإن عدّه البعض وسيلة لا مبدأ. والحق أن (الليبرالية) (أيديولوجية) في الأساس، وقد أحيطت بآليات تنفيذية، والرجوع إلى المعاجم والموسوعات المترجمة تؤكد ذلك. ويقال مثل ذلك عن (الديمقراطية) إذ لها جانبان: - مبدئي وهو الرد إلى الرأي العام، وإجرائي وهو تطبيق العدل والحرية والمساواة عبر مؤسسات وكيانات، وعلى ضوء ذلك يمكن الاستفادة من آليات الغرب ووسائله وإجراءاته، فهي من ظاهر الحياة الدنيا، ومن أمور دنيانا التي نحن أدرى بها. ولسنا نشك أن الحضارة الإسلامية مرت بحالات خلط عجيب بين المبادئ والوسائل، وأن الخلافات تراكمت حول ذلك، الأمر الذي أدى إلى تخلف ذويها وابتعادهم عن كتابهم المحكم، وكلما ابتعدت الأمة أو تعرضت لتخلف وضعف وضلال تداركتها عناية الله، ولقد طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأنه على رأس كل مائة سنة يبعث الله من العلماء والمصلحين من يتعقب تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويتصدى للجدل العقيم، وينفي ركام الخلاف البيزنطي. ومع الوعد بتعاقب المصلحين فإن هناك تطميناً آخر، يتمثل بالفئة المنصورة التي نرجو أن يكون كل من يشهد أن لا إله إلا الله، ويحيل إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم منها. وإذا سلمنا بوجود المماحكين المغالين في الدين، الذين يخلطون بين المبادئ والوسائل، ويحرمون ما أحل الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، فإننا لن نسلم لمن يتخلون عن المبادئ بإخضاعها لوسائل لا تناسبها. فحين يقول قوم ب(الاشتراكية) أو ب(الليبرالية) أو ب(العلمانية) السياسية بوصفها وسائل وتطبيقات فإن ذلك يعني التخلي عن مبادئ إسلامية قائمة، تغني عن مبادئ الغرب والشرق. كما أن هناك وسائل وإجراءات مغايرة ومغنية أيضاً، وليس من الحكمة أن تنسلخ الأمة من فكرها السياسي، وتحل فكراً آخر مع إمكان الاستفادة المحدودة، مع الاحتفاظ بجذور الفكر السياسي الإسلامي. ولقد غُرِّر بعدد كبير من العلماء والمفكرين والأدباء إبان الحروب الباردة، فقيل عن اشتراكية (أبي ذر)، وقال (شوقي) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: - (الاشتراكيون أنت زعيمهم)، وكلما اجتاحت المشاهد العربية لعبة سياسية، نهض السرعان من المتعالمين لاستقبالها، وتبنيها، وشرعنتها، حتى كادت تتحول مشاهدنا إلى أمكنة يكون العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان. وإذا كان المفكرون قد آذوا وأوذوا في سبيل مبادئهم، فإن نقاد الأدب ومنظريه قد عانوا مثل ذلك لقد فرق شملهم، وشتت جمعهم ما جدّ من مصطلحات غربية، لم يفهمها الداعون إليها، ولم يحسنوا التعامل معها، والمشاهد الأدبية ملئت بالمترجم والمنقول والمعرب ك(البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية) و(النقد الثقافي) وما درى المستغربون ما هي عليه من أفكار ومقاصد، لا تناسب القيم الحضارية للأمة العربية، وكلما خبت نارها في بلد المنشأ نفخنا رمادها التماساً لجذوة أو قبس، ثم لا يكون نصيبنا إلا الرماد الذي يعشي العيون، ويزكم الأنوف. وأمام طوفان (الاشتراكية) يوم إقامتها، جاء من يحاول التوسط، فكتب البعض عن (التكافل الاجتماعي) وعن (العدالة في الإسلام). وعند طغيان أي مذهب ترانا نتزلف إليه، وندعي أن في ديننا ما يشابهه، وما كان أحرانا بالثبات والثقة بعقيدتنا، والاشتغال بهمومنا، والأخذ من الغير بعزة واقتدار، دون تملق أو اعتذار. وفي مجال الأدب استعيدت نظرية (النظم) الجرجانية، لتكون في مواجهة (البنيوية) والفرق بين الظاهرتين واضح. فنظرية (النظم) أسلوبية بيانية خالصة، فيما تأتي ل(البنوية) أمشاجاً بين الفلسفة واللغة ممتدة إلى النقد بعد أرذل العمر، والتهافت غير الواعي مظنة الضعف والتهالك، وتلك الممارسات رققت تلك المبادئ وطوعت الأذهان لها. وحين سقطت الشيوعية وانقض سامر (البنيوية) سقط معها ركام هائل من الكتب والدراسات والتوفيقات والتلفيقات التي نشأت في ظلها، وماتت معها، كما الأجنة في أحشاء الحيوانات الميتة. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الوجودية)، لقد استخفت بعض أساطين الفكر الحديث أمثال (عبد الرحمن بدوي)، حيث نهض بها، وادعى أنه ابن بجدتها، وترجم لنفسه في موسوعة الفلاسفة على أنه زعيم الوجودية العربية. وحين خبت نارها، بقيت الكتب والدراسات تمثل مرحلة تاريخية، تدين الواقع العربي الذي يرقب القادم من الغرب، لينهض إليه، ويمنحه الشرعية. ولقد أحس (بدوي) باندفاعه، فراح يكتب عن القرآن والحديث والرسول، ليكفر عن ذنوبه، وإن قيل إنه بما يكتب عن الإسلام يتعرض لجائزة الملك فيصل. والمستعرض للمشاهد السياسية والأدبية والفكرية تمر به مذاهب وتيارات استنفرت كل الجهود واستنزفت كل الطاقات، وفرقت بين الأخ وأخيه، ثم انقض سامرها، وخوت على عروشها، وأصبحت كأعجاز نخل خاوية، تحكي التفاهة والتسرع والتبعية. وكل الذين أفنوا زهرة شبابهم في ترويض الرأي العام لكل وافد، انقلبوا على أعقابهم، وأدى ذلك إلى اضطراب فكرهم، والتياث آرائهم، وفقد مصداقيتهم. لقد استقبلنا تلك المصطلحات بذات الجهد وبذات الإمكانيات، واستفدنا منها، وما سلمنا لها القياد، وحين ثوت في مشاهد الأدب، لم يضرنا ذلك شيئاً، لأننا لم نضع بيضنا في سلالها، كما فعل غيرنا. وإذا احتملنا على مضض فلتات الألسنة من أبناء جلدتنا، وأحسسنا الظن بهم، وترقبنا أوبتهم إلى طريق الرشاد فإن من التفريط أن نحتمل فلتات من وافدين لا يدرون ما مقتضيات الكتاب وما نواقض الإيمان. وما أضر بنا إلا وافد حركي يؤز الشباب حتى يخرجهم عن مسارهم السليم، أو مقيم متفلت على الالتزام، يلتف حوله من لا يعرف حدود ما أنزل الله، فهذا وذاك، يتساوى ضررهم، لأن الحياة الفكرية قل أن تتخلص من الفعل ورد الفعل. فالمتشدد والمتفلت صنوان، وقولهما مدعاة إلى تمزيق الوحدة الفكرية للأمة. لقد تحولت مشاهدنا إلى ساحة للسمسرة، أفقدها الثبات والتأصيل، وفوت عليها فرصة التأمل وتلاقح الأفكار. فأين (الرومانسية) و(السريالية) و(الحداثة) و(البنيوية) وها نحن في أوج القول عن (العولمة) و(الليبرالية) و(حقوق المرأة) وفي المقابل القول في (الجهاد) و(البراء) و(الولاء) و(بلاد الكفر) و(الذمي) ولقد قيل عن دين (البحتري) الذي تحول من (القدرية) إلى (الاعتزال) ومنهما إلى (السلفية): - (هذا دين سوء يدول مع الدول) (أخبار البحتري) (للصولي) (ص123). ومصائبنا المصمية أننا لا نتعظ، ولا نعتبر، ولا نستفيد من الإخفاقات، ولا نلتفت إلى الوراء منذ أن عاد (الطهطاوي) خالعاً العمامة ومعتمراً القبعة، ومنذ أن تلقف الراية منه لفيف من العائدين من الغرب أو القارئين للمترجمات، والأمة مع هذه الأمواج البشرية الممسوخة في بوار، وليس فينا رجل رشيد، يستعرض اللعب والخدع، ويسائل الذات عن مقترفاتها، ويقوِّم المنجز، وكل حياتنا تهارش حول ملمات ليست في العير ولا في النفير. ومثلما يقال عن المستغربين يقال عن سائر الحركات الفكرية والدينية، فكل طائفة لا تحسن إلا تزكية نفسها، والله يقول: - {..فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. إن المفجوعين بتخلف الأمة العربية لم يدعوا فرصة للمراجعة والتأمل بل اهتاجوا كما المرتاع الأعزل، وما أرداهم إلا ظنهم السيئ بالإسلام، فلقد استحوذ عليهم المستشرقون بما يشيعونه من اتهامات جائرة ضد الإسلام، وما (العلمانية) و(التنوير) إلا بعض ما أسر به المبشرون والمستشرقون لمن تبعهم من المرتابين والجهلة والمتسرعين ومرضى القلوب. ومعالجة أوضاع الأمة لا تصلح بالإطلاقات والتعميمات، لابد من قانونية اللغة، وتحديد المراد، فالزمن لا يحتمل الإطلاقات، إنه زمن يملؤه دخن الفتن. وما علينا من بأس حين نوجه سؤالاً لأولئك المتحمسين ممن يعدون أنفسهم بالتنويريين وممن ينحون باللائمة على من سواهم لنقول لهم: - ما المبادرة الفكرية أو العلمية أو الأدبية أو السياسية التي قلتم بها ثم لم تكن بضاعة غربية ترد إليه؟. ثم ما الخطاب الفكري أو الأدبي أو السياسي الذي استقر في المشهد، وآتى أكله ووجد فيه العامة خلاصهم؟.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#4 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ويسألونك عن (الليبرالية) 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل - أما قبل :- فإن التناوش مع المصطلحات السابحة في سماء المشاهد العربية كما الجراد المنتشر، يستدعي التأكيد على حرية التفكير والتعبير، والأخذ بما جد من أمور الحياة الدنيا، وتفضيل حوار الحضارات على الصدام، وقبول السلطة، ورفض الاستبداد، والإذعان لحاكمية الدين، والتحفظ على تسلط المتدين، واستباق المنجز الإنساني الذي تقوى الأمة به وتستغني، والجنوح للسلام دون الاستسلام، والفصل بين العنف والدفاع المشروع، والإيمان بسنة التدافع والتداول، والنظر إلى الغرب بوصفه موضوع درس لا منجم استرفاد، وتفادي الخلط بين المبادئ والوسائل، والأفكار والعقائد. وعلى ضوء ما سبق فإن رؤيتي ليست حدية حادة، ولا ثنائية صارمة، بحيث لا تقبل الوسطية ولا المنطقة الرمادية، وبهذا الانفتاح أرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطغام، والانفلات والركون والمداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وأجتهد ما وسعني الاجتهاد لمعرفة حدود ما أنزل الله. - وأما بعد:- فكم يثار بين الحين والآخر جدل صاخب حول مقتضيات المصطلحات المنقولة أو المترجمة أو المعربة. وهو جدل يمس التفكير، ويؤثر على المواقف والمبادئ، وليس هو من باب الاختلاف المعتبر. وكل الذين يخوضون في مصائر الأمة، ثم لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، يثيرون اشمئزاز الرأي العام، ويشدون أعصابه، وقد يدفعون به إلى الاحتقان المخيف، ومن لم يتلطف في خطابه ويلن، ينفض الناس من حوله، حتى ولو كان رسولاً من أولي العزم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. ومن لم يحسب للرأي العام حسابه، فإنه يعرض نفسه للإيذاء، (ومن هاب الرجال تهيبوه). والمشاهد الفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية تموج بالنقائض والنقائص، وإشكالياتها أنها مشرعة الأبواب منتهكة الحمى، فكل من عن له أن يثير الزوابع، أطلق لسانه وأجرى قلمه. وقد لا يكون الرأي العام واعياً للأهداف والنوايا والمقاصد، فيصبح كموات الأرض يحييها السابق، وما من متعقب لفلتات الألسنة، مصيخ للحن القول إلا ويصاب بالإحباط. فالرأي العام كما الشعوب والقبائل: إما أن تتعارف وتتقارب. وإما أن ترتاب وتتنافر. وذهنيته مرتبكة وسط ضجة السمسرة. وهو: إما موغل في الدين بعنف، مارق منه كما السهم يمرق من الرمية، يرتاب من كل صوت، كمن يحسب كل صيحة عليه. أو مبرمج تمر به المواعظ كما قطر الماء على الصفا. أو متسرع تجمعه الطبلة، وتفرقه العصا، يوفض إلى كل بارق. والطامة الكبرى ان يتحكم الهوى في النخب، حتى لا يكون لصحيح المنقول ولا لصريح المعقول دور في تشكيل الوعي. وما أضل الناس إلا اتباع الهوى، حتى لقد اتخذه البعض إلهاً. والذين يلتقطون المصطلحات من أفواه الإعلاميين، يظنون كل الظن أنها القول الفصل الذي يقطع قول كل خطيب، وبهذه المصدرية المدلِّسة تشكل مثقفو السماع، وبهم شُغلت المشاهد. ولو عاد المختصمون إلى المعاجم والموسوعات والدراسات: التاريخية والتحليلية والنقدية، لعرفوا أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يعقلون. وإذ تكون مشاهدنا حلالاً للطير من كل جنس باسم حرية التعبير، فإنها مشروع لفتنة عمياء، تؤدي إلى اختلال الوحدة الفكرية. ولو استأثر بالمشاهد أهل الذكر ممن نفروا للتفقه في الدين والسياسة والفكر والأدب لما اتسع الخرق على الرقع. ولو ان المبتدئين أعطوا القوس باريها، وأذعنوا للمؤسسات الكفيلة بتداول الآراء وحسم المواقف، لكان خيراً لهم. وليس من بأس أن تكون المشاهد مهيأة للاختلاف والتساؤل المشروع، ولكن البأس كله أن يجهل الناس ما هم عليه من فوضوية، ثم لا يبادرون إلى ايقاف التدهور. ومن جهل حاله استفحل به المجهول، حسياً كان أو معنوياً. فمريض الجسم ليس بأخطر من مريض القلب، ومن فاته التشخيص، أو جاء خاطئاً، فاتته فرص المبادرة لتلافي النقص. إن هناك اختلافاً ظاهر العوج بين أساطين الفكر المنتج لهذه المصطلحات، حتى لقد نسبت (الليبرالية) إلى ثلاثة من أساطين الفكر، لكل واحد منهم رؤيته: (جون لوك) و(جان جاك رسو) و(جون مل) حتى قيل:- (الليبرالية اللوكية) أو (الروسوية) أو (الملية). وهذا التنازع في حقل الفكر وبين أهلها، فكيف به في الحقول الأخرى، والحضارات المسترفدة، والقراء المختلفين، والمتعقب المقتدر يقف على آراء مجتثة، ما لها من مرجعية. ونظريات التلقي العربية غير بريئة، ذلك أن لها انتماءات متعددة، حتى داخل الفكر الواحد، وهذا الاضطراب يؤدي إلى اختلافات بعضها فوق بعض، كما الظلمات. وقضاء الأمة العربية أن مشاهدها مسرح للحرب الباردة بين الشرق والغرب. وهي اليوم مسرح اللعب التي تنفذ بالذخيرة الحية. والراصد للحراك الفكري والسياسي والثقافي يروعه ذلك الجدل المحتدم حول سائر المفاهيم. وجدلية المصطلح وإشكاليته كما القتيل الذي ضاع دمه بين القبائل. وطوفان المصطلحات النافذة إلينا بفوضوية، تحتاج إلى مؤسسات متخصصة تنقب في أحشاء المستجد، ثم تعمد إلى توحيد الترجمة أو النقل أو التعريب، تفادياً لوقوع الأمة في فوضوية المصطلحات، وهي بانغماسها إلى الأذقان في تلك الفوضى المستحكمة قد أصبح أمرها عليها غمة. وإذ يكون المصطلح المجلوب ناتج حضارة مغايرة، فإن له دلالته ومقتضاه ومراحل تحولاته، والمؤصل العربي يجب أن يضع كل الاعتبار للجذور والمنابع، وإن كان عشاق (الليبرالية) قد تلمسوها لدى فلاسفة اليونان قبل الميلاد، وهو إغراق لا مبرر له. ومتى هيئت المؤسسات المتخصصة والمطاعة لتلقي المصطلحات ودمجها في الحضارة المستقبلة، كان من أوجب الواجبات أن يعرف أساطين الحضارة المتلقية المقتضى الأصلي والدلالة المحدثة. وليس في الاقتراض والتعالق الواعيين ما يعيب، فكل الحضارات تتفاعل مع بعضها، ويرث بعضها بعضاً، وتماس الحضارات عند تفاوت الإمكانيات قد يؤدي إلى التأثير السلبي، وذلك ما تعانيه الحضارة الإسلامية في راهنها بمواطأة من أساطين الفكر المستغرب. وواجب المتلقي أن يعرف القواسم المشتركة، بحيث لا يتجاوز المباح، ولا يقصر دونه. ولقد أتيح لي الظفر بكتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي)، الذي استهله بحديث (التبعية) وقال معلقاً بما يجب أن يكتب بماء الذهب:- (قد يعطي هذا الحديث الذي يقوم بديلاً عن الإهداء إيحاء بأنني رافض للغرب، متقوقع على الذات.. ولكني فقط أدعو إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر، وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلاً من أن يكون مصدراً للعلم). ونحن في زمن الانكسارات، لا نتطلع إلى موضعة الغرب، ولا نستنكف من أن يكون مصدراً للعلم، وإنما نتواضع إلى أبعد الحدود، ونعطي تنازلات لا مزيد عليها، ونرضى بأن نتلقى علومه، بدل أن نتلقى آدابه وفنونه ومعارفه الإنسانية وعاداته، فالحضارة الغربية ذات شقين: (علوم بحتة) و(معارف إنسانية)، وحاجتنا إلى الشق الأول دون الثاني. وإذا وجدنا في وسائل الشق الثاني ما يوفر الجهد والوقت والمال ويحقق أفضل الخدمات، فليس في ذلك ما يمنع من الاستفادة على أضيق نطاق، ودون تهافت أو انبهار. وعيب المستغربين أنهم تركوا ما هم بحاجة ماسة إليه، وركضوا وراء سنن من عاصرهم يتبعونها حذو القذة بالقذة. وما أحوجنا إلى إعادة النظر في علاقتنا مع الغرب، فنحن في أمس الحاجة إلى أشياء كثيرة سبق إليها. وغباؤنا المعتق حملنا على ترك ما نحن بحاجة إليه، والإقبال على ما ليس لنا إليه حاجة، ولا أحسب الغرب غافلاً عن هذا التصرف الأرعن. إن تغريره وتصديره لضريعه الاستهلاكي الذي يسمن الأجسام ولا يقني الأجيال جزء من اللعب والغزو والتآمر، وأعجب العجب تداول مصطلح (عقدة التآمر) بين المستغربين، لشرعنة الركون إلى الغرب وموالاته، حتى لقد أصبح البعض يرى الغزو والتآمر دعوى زائفة. والمستفيض إلى حد التواتر أن الغرب لا يريد لنا أن نتعلم صيد السمك، ولكنه يريد أن نتناولها عن يد ونحن صاغرون، إذ لا يريد الندية ولا التكافؤ ولا الاستغناء. لقد أطلت التوطئة، لعلمي أن المصطرعين في المشهد السياسي، سيفترون الكذب، ويشيعون حرصنا على القطيعة والصدام وحجب الرؤية والانكفاء على الذات. وما كنا متحدثين عن المصطلح الضجة، حتى يتبين الموقف المعتدل من الآخر. ومصطلح (الليبرالية) كمصطلح (العولمة) بدأ اقتصادياً، ثم تحول إلى السياسة والاجتماع، وكل مصطلح يبدأ متواضعاً ومحدوداً، حتى إذا تداولته المشاهد، أصبح كما كرة الثلج، تكبر في كل دورة، حتى تبلغ العنان، ف(الليبرالية) الاقتصادية: مذهب يدعو إلى الحرية الكاملة سعياً وراء امتلاكه قوة المنافسة والمزاحمة. فدعاته يريدون من السلطات المعنية ترك المبادرات الشخصية تمارس حقها التجاري بحرية تامة، بحيث تحقق مصالح الفرد والجماعة في آن، بوصف الاقتصاد ملكاً للأمة، ودور الفرد تحريكه ليس غير. و(الليبراليون) الاقتصاديون ضد أي تدخل، يعكر صفو الحركة الاقتصادية، كان ذلك الهاجس مبدؤه ومبلغ دلالته، ومع الأيام تغير، وتعددت حقوله. أما عن ظروف تشكله: فقد قام صراع أو تبادل مواقع بين ثلاثة مفاهيم متعلقة بالاقتصاد هي: (البرجوازية) و(البروليتارية) و(الليبرالية)، وذلك بعد الصراع المستميت بين (الماركسية) و(الرأسمالية) وفي ظل التنبؤ بإخفاقهما الذي تقصاه (حيدر غيبة) في كتابه (ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية) وهو طرح يحاول فيه استبدالهما بنظرية متوازنة، تتجاوز حتى (الليبرالية). وتعد (الليبرالية) زعزعة لما سبق، فهي تحمل أفكاراً جديدة متطورة، ذات طابع (راديكالي) وإذا قيل: (المذهب الاقتصادي الحر) فإنما يعنون (الليبرالية) الاقتصادية. وهذا المذهب لا يريد من المنظم تجاوز حد المراقبة من بُعد. ولقد حدث خلاف حاد حول مفهوم المراقبة لاستحالتها، فالمذهب (الليبرالي) ذو نزوع فردي، والمراقبة ذات انتماء جمعي، وظروف التشكل المتوترة مكنت المصطلح من الاتساع الدلالي والتحول المجالي، ومن ثم أصبحت (الليبرالية) ذات تحولات أفقدتها الموضوعية والمحدودية والثبات، حتى لقد كادت (الليبرالية) الاقتصادية تتحول إلى فلسفة في الاقتصاد، ولكل باحث فيها نظريته المغايرة، ولكنها مغايرة تبقي على المرتكزات (الديمقراطية) المتمثلة بتحكيم العقل، وتحرير الاقتصاد، وتفويض الأمر إلى الشعب. وأبرز العلماء الذين تبنوا هذا المذهب اقتصادياً وتشعبت آراؤهم:- - (أ. سميث 723 - 1790) - (بنتام 1748 - 1832) - (مالتوس 1766 - 1834) - ريكاردو 1772 - 1832) - (جون ستيورات 1808 - 1873) وكل واحد من أولئك يؤكد على الانسجام والتوافق. و(الليبرالية) في النهاية مواجهة للقوى التقليدية. - الملكية. - الكنسية. - الإقطاع. والسواد الأعظم من الحالمين بها أدركوها في خريف عمرها، ولم تمتد نظرتهم إلى جذورها ولا إلى حقولها، وما كان لديهم من الجهد والوقت ما يمكنهم من ذلك، وما كانوا يعرفون منها إلا ما تسمح به وسائل الإعلام وثقافة السماع، ولو ردوا خلافهم إلى الموسوعات والمعاجم والدراسات الراصدة والمحللة لعرفوا أن في حضارتهم ما يستجيب لمتطلبات العصر. وداء المشاهد الضحالة والتسطح والاندفاع الأهوج، وفوات التأصيل المعرفي والتأسيس الديني. والمتحفظون العلمانيون من الغربيين على (الليبرالية) يشغلهم شيئان: المجتمع المدني، والسلطة المشروعة للدولة. فيما يشغل المتدينين منهم، إضافة إلى ما سبق (الحق الإلهي). وعندما تندلق أقتابها في المشهد العربي المسلم، وتؤخذ من أقطارها، تتضاعف الإشكاليات. والمتابع لنشوء الأحزاب والمنظمات في العالم الثالث، وتذبذبها بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الدكتاتورية) و(التعددية) و(الطائفية) و(الأيديولوجية) يصاب بالذهول، ولا سيما إذا علم أن خطابات المحافل أمنياتٌ سرابية، وأن في العالم أكثر من خمسمائة حزب أكثرها في العالم الثالث، وبين الأنواع والأعداد تكمن الكارثة، وإذا كانت مشاريعها أضغاث أحلام، فإن الواقع لا يعدو تكريس التخلف وتعطيل التنمية. وعجز الثوريين عن بناء تنظيم حزبي قادر على إقالة العثرة أدى إلى إحباط وخيبات أمل متأصلة. وبالرجوع إلى كتاب (الأحزاب السياسية في العالم الثالث) للدكتور (أسامة حرب) يتبين سوء التوقيت والتقدير والادعاء العريض، ولست بحاجة إلى قراءة النتائج الحزبية فهي ما يراه العربي لا ما يسمعه، وكل حزب يصفي سلفه: وجوداً وسمعة، يقدم بين يدي خطابه حتمية (الديمقراطية) و(الليبرالية).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#5 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ويسألونك عن (الليبرالية) 2-2
د.حسن بن فهد الهويمل وإذ تكون (الليبرالية) عصية التطويع والتحديد في المجال الاقتصادي بوصفه حقل المنشأ، فإنها في المجالات الأخرى أشد تأبياً، ولك أن تقول مثل ذلك عن مدعي الوصل بها، فكل واحد له رؤيته ومفهومه، ولا يكون منصفاً من يجعل المتبنين لها صنفاً واحداً، ولا من يتهمهم بالعمالة على الإطلاق والتعميم. أما ظهور بوادرها كمصطلح سياسي، فقد شارف حدود الحزبية في القرن التاسع عشر، ولم تكن وقفاً على مفكر واحد، ولا على فكرة واحدة، و(من هنا تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم (الليبرالية) أمراً صعباً وربما عديم الجدوى) (الموسوعة الفلسفية العربية ص 1155-2). وقد تصورها الراصدون من المؤرخين والدارسين تياراً (أيديولوجياً) لإلحاحها القوي على الحرية المطلقة من قيود المرجعية والتصدي لسلطة النظام: الملكي والكنسي. لكونها مواجهة قوية لسلطتين: السلطة السياسية، والسلطة الدينية، بوصفها حريات مقيدة. وحين تكون ردة فعل للتحكم الكنسي، أو التسلط السياسي، و(البرجوازية) الاقتصادية، فإن استدعاءها للمشهد العربي اقتصادياً كان أو سياسياً أو اجتماعياً يفترض وجود أجواء مجانسة. والمؤكد أنها لم تكن مشروعاً انقدح في الذهن، وإنما هي ردة فعل عنيف، استكملت وضعها من خلال الصراع مع القيم السائدة، والبعض تصورها مبدأً حزبياً وأسلوب تصرف، جسد ذلك (لابولاي إدوار) في كتابه (الحزب الليبرالي)، وكان من بين أهدافها المحافظة على مكتسبات (الثورة الفرنسية). والمصطلح بعد مشارفته على النضوج التنظيري، واكب أيَّ تحرف للحرية. وإشكاليته أنه يتذبذب بين الدلالة اللغوية، والمقتضى المصطلحي. وبالرجوع إلى (المورد) للبحث عن مجمل الدلالة اللغوية نجد أن الكلمة تعني: - تحرري. - متسامح. - متساهل. وبتجاوزها الدلالة اللغوية، أصبحت تعني (مبادئ حزب الأحرار). وتصريف الكلمة قد يؤدي دلالات أخرى. ولم تكن (الليبرالية) السياسية ببعيدة عن سالفتها الاقتصادية. فهي فلسفة سياسية تقوم على استقلال الفرد الذاتي، والمناداة بحماية الحريات السياسية والمدنية والدينية التي حدَّت منها مبادئ سالفة، ومع أنها ردة فعل، فقد أسست لنفسها، لتكون ذات قيم ثابتة. والهدف الأسمى لمفهومها السياسي أن يكون تدخل السلطة السياسية محصوراً في أضيق نطاق، وبخاصة فيما يتعلق بحياة المواطنين وشؤونهم الخاصة. وإشكالياتها في المجتمع الإسلامي أنها تتناقض مع الحرية الإسلامية المرتبطة بخصوصية الإسلام المحفوف بالمكاره، كما أن الحرية العلمانية لها خصوصية العلمانية، ومن الصعوبة بمكان الجمع بين المفاهيم المتناقضة، إلا إذا تنازل أحد الطرفين عن خصوصية حضارته، وذلك مكمن الخطورة. ف(الليبراليون) يرون أن مصلحة البلاد تقوم على العفوية، وأن مهمة الدولة القيام على دعم حركات التحرر من أي سلطة. ومع التهافت عليها من المكتوين بنار الواقع العربي فقد جاءت تنبؤات المنظرين والمحللين على توقع تلاشيها، لأن (المجتع المدني) يذعن للمؤسسات السلطوية، ويؤمن بالتخطيط والتنظيم. والنفس (الليبرالي) يرى أن في مثل ذلك قمعاً للحرية المطلقة. فهل تموت كما ماتت (الماركسية) و(البنيوية) و(الحداثة)؟ وهل نظل معها كما (جن سليمان) لا يدلنا على موتها إلا دابة الأرض؟ لا أستبعد ذلك. ونشدان الحرية تحت مظلة المبادئ والأحزاب الوافدة يعني أن ما نحن عليه من مبادئ تنقصها الحرية، في حين أنه لا مزيد على ما أقره الإسلام من حريات، وعلى مستوى الحرية السياسية نجد أن الفكر السياسي الإسلامي قد أسس لذلك، متمثلاً بمقولات نصية وعملية، ولقد فاضت المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تتحدث عن الحرية في الإسلام، وأكتفي بمقولتين: ( متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) و(لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها). وفي ظل التذبذب واضطراب الآراء والتصورات، حاولت تقصي المفاهيم المتعددة بتعدد الحقول التي تتداول المصطلح، وبتعدد المتداولين له. إن هناك حقلاً فلسفياً له رؤيته، وحقلاً سياسياً له تصوره، وحقلاً اجتماعياً له توقعه، وحقلاً اقتصادياً له مفهومه، والفلاسفة والسياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون لكل واحد تصوره. والراصد المعرفي لابد أن يستفتي كل الحقول، وليس من حقه، وهو المتلقي أن يستأثر بالتعريف، لكي يمرر المصطلح بكل أوضاره. وعلى افتراض إمكانية الجمع بين مفاهيم الحرية في سائر الحضارات، فما الداعي لتداول المصطلح المقنول بكل ما يحمله من مراوغة وتوهيم. والسؤال المفحم لكل الأطراف: هل الحرية في الإسلام تحتاج إلى فهم صحيح وتمثل صريح، أم هي بحاجة إلى استبدال؟. إن خلل التطبيق لا يستدعي النفي والاستبدال، وإنما يستدعي المراجعة والنقد. والإمعان في مقولات ذوي الشأن تكشف المضمرات. ففي (موسوعة لالاند الفلسفية) استهلها بالتعريف السياسي، ونظر إلى مقاصدها القائمة على استقلالية السلطة، وإعطاء المواطنين ضمانات في مواجهة التعسف. وهي من الجانب الفلسفي ترى أن الإجماع الديني ليس شرطاً لازماً ولا ضرورياً لتنظيم اجتماعي جيد، ومن ثم يطالب بحرية الفكر. وهذا التعريف يؤكد (أيديولوجيتها) وتعذر الأخذ بها على ما هي عليه، ومتى أجري التعديل على شيء من مفاهيمها فإنها تفقد كينونتها. وفي مجال نقد النظرية أحال المؤلف إلى السجال الذي أجراه (جاكوب) بين ما يسميه (الليبرالية) التجريبية والعقلانية. ولقد نظر إليها البعض نظرة إجرائية، بحيث تقتصر مهمة الدولة على الشرطة والعدل والدفاع العسكري. ومعضلتها أنها مصطلح منقول صيغة ودلالة، وأي محاولة للتهجين يجعلها تحصيل حاصل، وفوق ذلك فهي أوزاع بين التطور الدلالي والتنقل المعرفي، وكلما استدعاها حقل معرفي أمدها بدلالة جديدة، وهذا الذي حير كاتب مادتها في (الموسوعة الفلسفية العربية). ونقل المصطلح دون ترجمة أو تعريب أبقاه بكل متطلباته، بل عمق هذه الإشكاليات بشموليته، فهو في المشهد الغربي حر طليق، يتمتع بكل ما له عبر حقوله المعرفية الغربية، وتطوره التاريخي. ولو سألت محتضنيه عما يعنيه لقالوا: (الحرية). وفي ظل هذه الكلمة استباحوا كل شيء. والحرية ليست غائبة في الفكر السياسي الإسلامي، بحيث تضطر إلى التقاط (الليبرالية). وهي بمقتضياتها تتجاوز الحرية بمفهومها الإسلامي، ولو كانت قصراً على (الحرية) لكان نقلها من التزيد، إذاً هناك مقاصد مضمرة، تتجاوز الحرية المنضبطة إلى ممارسات ليست مكفولة في الإسلام، والاختلاف معها لا يحيل إلى شيء آخر يتجاوز القدر المباح من الحرية في الإسلام، فنحن مع الحرية المنضبطة، وضد الفوضوية باسم الحرية، وحين يسلم معنا المولعون بالمستجد، يكون الأخذ بها من الاستبدال المحظور. وتقصي جذور (الليبرالية) الاقتصادية بوصفها الأصل لكل التنقلات والتحولات يقتضي الرصد التاريخي ل(البرجوازية) بوصفها المثير لحركات التحرر، ولو من خلال كتاب (أصل البرجوازية) ل(ريجين برنو). والتحسس التاريخي لطرفي الفكر الاقتصادي (البرجوازي) و(الليبرالي) الغربيين يؤدي إلى مفهومين: - اقتصاد مقيد بضوابطه وطبقاته. - اقتصاد حر في تحركه ومعاهداته. ولقد كان مدار الصراع حول (القمح) من حيث نقله وتصديره، وهو السلعة المسيسة حتى الآن، ثم اتسع ليشمل المصنوعات والمنسوجات والتصدير والاستيراد الحر. و(الليبرالية) الاقتصادية ضد كل تدخل للدولة في الميدان الاقتصادي، ودور الدولة يقتصر على ضمان الحرية المطلقة ليس غير. وبعد الفوضى ارتفعت صيحات استغاثة تطالب بتدخل الدولة، لفك الاشتباك بين أطراف الاقتصاد، وهو ما لم ينتبه له المولعون بالمصطلحات المهترئة. والقمع لسلطة الدولة امتد إلى عدد من السلطات المشروعة، وقد نشأ صراع بين الدولة بوصفها ذات سلطة قانونية وحرية الأفراد، ذلك أن طغيان الحرية الفردية جاء على حساب حريتها وإضعاف سلطتها المشروعة، ولك أن تقول مثل ذلك عن (الدين) بوصفه واجبات والتزامات. ولم تكن (الليبرالية) المتداولة في المشهد العربي ذات صلة بالاقتصاد، بل لا يعرف المتداولون العرب أنها تعني شيئاً من ذلك، ولأنها فلسفة و(أيديولوجية) وليست مجرد إجراء فإن صاحب (قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية) يرى استحالة المراقبة الموضوعية، لانطوائها على نزعة فردية وحرية مطلقة لكل فرد من أفراد المجتمع. ولأنها قامت في وجه (البرجوازية) فقد تولدت عنها (البروليتاريا) وهكذا تتناسل المصطلحات بعضها من بعض على شكل ردود أفعال، ونحن ببلاهتنا ومحدودية وعينا وقصور معارفنا نتلقف المصطلحات المتلاحقة، دون وعي بجذورها الفلسفية، وظروفها السياسية والاقتصادية، وصراع العقل المعرفي مع السلطة الكنسية. و(الليبرالية) بعد تقلبات مفهومية ونوعية أصبحت (أيديولوجية) مناقضة في مفاهيمها للحضارة المستعيرة، ومن تصورها وسيلة وحسب، فعليه أن ينسف ركام الدراسات التي أنشأها المفكرون الغربيون أنفسهم. يقول (بوريكو) صاحب (المعجم النقدي لعلم الاجتماع) ص466: - (فإن الليبرالية هي أيديولوجيا تحكم على نوعية التنظيم الاجتماعي)، وهي كما قلت اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكل حقل معرفي تعريف لا يناقض ما سواه، ولكنه يخالف مخالفة تنوع لا مخالفة تضاد. ولقد أطلق هذا المصطلح لمواجهة الاستبداد السياسي بعد التحكم الاقتصادي والرقابة الاجتماعية الصارمة، وحقيقتها (السلطة بوقف السلطة). وإشكالية (الليبرالية) من خلال الموقف الإسلامي أن الفعل عند (الليبراليين) تبرره قيمته، ولا تبرره مرجعيته النصية، إذ لا مرجعية، بمعنى: هل يقبل المجتمع بشرعنة المحظورات الدينية؟ إن كان الجواب: بنعم، فهذا القبول كافٍ للتبرير. والعمل من خلال المنظور الإسلامي، يكتسب مشروعيته من النص القائم على جلب المصالح ودرء المفاسد وسد الذرائع. وفوق ما سبق من إشكاليات فإن مصطلح (الليبرالية) تحكمه جغرافيات فكرية متعددة، ففي (انجلترا) تستعمل بالمعنى الاقتصادي، وفي (إيطاليا) تستعمل بالمعنى السياسي الديني. وفي ظل فوضوية المفاهيم، فقد وضعها (هبمون) بإزاء (النظرية الانفلاتية) لأنها لا تعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية. بمعنى أن تفعل ما تشاء بشرط ألا يمس أحداً ضرر حسي من فعلك. وهي ذات صلة وثيقة بمعركة (الحداثة) و(الأصولية) وقد وصفها (ايميل بولا) بأنها تعني (تحرير العقل من أي سلطة). ولقد عرفها (شارل موراس) بأنها: - (مذهب متعدد الأشكال قائم على تحرير الإنسان من سلطة الله وشرعه وتنزيله، وبالتالي فهو مذهب يحرر المجتمع المدني من أية تبعية للمجتمع الديني). وفي ظل هذه المفاهيم تقع الدكتورة (زينب عبدالعزيز) في ردة الفعل العنيف، إذ تقول في كتابها (هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة): - (ومهما تنوعت أوصاف (الليبرالية) في حلبة صراعها المتعدد الأطراف والمستويات فهي تشير إجمالاً إلى صورة مجتمع بلا إيمان، وإلى حرية بلا ضوابط وبلا إله). وإذ لا نتهم أحداً بهذا المفهوم، إلا أنه مفهوم متداول، سواء قبلناه، أو لم نقبله، ونحن في تقصيها نحيل إلى المتداول بين أهلها، وما شهدنا إلا بما علمنا. وإذا كان المناوئون للحضارة الغربية يتصورونها رهينة (البرجوازية) و(الرأسمالية) و(الإمبريالية)، فإن المتطلعين لها يرونها خلقاً آخر، يراوح بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) وفي ظل الفعل العنيف ورده الأعنف، راهن المناوئون لأنماط (الرأسمالية) العالمية على تلك المعطيات المناقضة، وكتب (لينين) نفسه كتاباً تحت عنوان (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)، شنع فيه على النظام الاقتصادي الغربي. والعالم العربي بوصفه الصدى، فقد عاش رهين النقائض بين الشرق والغرب، ولم تكن له مبادرة تغنيه عن الطرفين، والذين يقيمون رهانهم على المتداول الإعلامي يحملون في أعماقهم قابلية التحول، متى انتصر خطاب على آخر. والغرب المستبد، سينشق على نفسه، وسيكون للحراك الأوروبي دور في تحول الخطاب، ولن يظل على مصطلحاته المتلاحقة، وبالتالي فإن عالم الصدى سيعيد الصوت كما هو بكل تحولاته، دون أن يحاسب نفسه عن (معلقاته) المادحة لما هو قائم قبل أفوله. والتهافت على (الليبرالية) كما التهافت على (الاشتراكية) حذو القذة بالقذة، ولو أن النخب التفتوا إلى الوراء، وفتشوا صفحات التاريخ الحديث، لوجدوا أنهم يوفضون إلى نصب المبادئ، وأنهم لما يزالوا أصداء أصوات بعيدة، ولقد اعتز (المتنبي) بأنه (الصائح المحكي والآخر الصدى)، وما كنا بتهافتنا وتبعيتنا كذلك. ولم تكن (الليبرالية) مخاض اللحظة، فما يتداول اليوم إن هو إلا اجترار لما سلف، فلقد صنف بعض الدارسين (النخب المصرية) إبان التأسيس للنهضة (الطهطاوية) متصوراً الحراك السياسي الأيديولوجي ذا أجنحة ثلاثة: - (العلمانية) و(الليبرالية) و(القومية)، وجعل من عمد الليبرالية: - (علي عبدالرزاق) و(طه حسين) و(أحمد أمين) و(محمد حسين هيكل) ولم يرَ (الليبرالية) مع هذا الجناح بصورتها الأصلية، فهي (ليبرالية) توفيقية. ولقد ادعتها أنظمة ثورية، كما ادعت (الديمقراطية)، ولأنها مجرد دعوى فرضية فإنها لم تكن مشروعاً عملياً، وإذ تصورها البعض ممارسة فعلية، فقد تلمسها في المشاهد، ولما لم يجد أثرها التمس أسباب فشلها، نجد ذلك عند (خلدون النقيب) في كتابه (الدولة التسلطية) في سبعة عشر موقعاً في كتابه وبخاصة (ص 62، 63) وهي لم تكن إلا ادعاء. وعند (محمد جابر الأنصاري) في كتابه (تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي). والمتهافتون عليها استحوذ عليهم رهان (فرانسيس فوكو ياما) الذي أشاع نظرية (نهاية التاريخ) وهي مقولة سبقه إليها (هيجل) وقد سرقها منه، ف(الليبرالية) معوَّلهُ، لكونها ذروة سنام التفكير الإنساني ومطبقة في الغرب تطبيقاً عملياً. وعلى أية حال فإن سامرها سينفض يوم أن يطرح الغرب نظرية أخرى، وعيب النخب الاسترفاد الغبي من (الطهطاوي) إلى يومنا هذا، ويا ليت قومي يستبدون ولو مرة واحدة (إنما العاجز مَنْ لا يستبد).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#6 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
أيها الكُتَّاب ادخلوا مساكنكم ...لا يحطِّمنكم تتابع الأحداث..!
د. حسن بن فهد الهويمل هل تكون نملة (سليمان) أحذر منا، وأحرص على جنسها، عندما صاحت بجماعاتها: { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}!. وهل سيبتسم صُنَّاع اللعب السياسية القاتلة من تنادي الكُتَّاب وتحذير بعضهم بعضاً من طوفان الأحداث المتداعية، كما الصخر حطّه السيل من عل؟. وهل سيأوي المفجوعون من هول المصائب إلى جبل يعصمهم من طوفان الكوارث الجسام؟. ولا سيما أن الحطم يتم بشعور اللاعب وبسبق إصراره، وليس كما حطم سليمان الذي لا يشعر بوجود النمل في طريقه.. ولست بهذا التحذير مُبالغاً في تصوُّر الأحداث المتسارعة كما وقع الحوافر، ذلك أن محترفي السياسة قراءة وكتابة ورؤية لن يكونوا أحسن حالاً من ذلك النمل، الذي راعه زحف الجيوش القادمة، والسعداء من الكُتَّاب مَنْ يمتِّعون أنفسهم بتناول القضايا المحلية، يخيفون بها الذين إذا قاموا إلى أعمالهم قاموا كسالى.. وما أكثرهم، وما أكثر المتأذين من التسويفات والمحسوبيات و(البيروقراطيات) الإدارية.ومثل هؤلاء أقل توتراً ممن يجيلون أنظارهم في الآفاق السياسية المكفهرة، وممن يستشرفون المستقبل المخيف، وممن يتابعون الأحداث العالمية المأزومة.. إن هذه الطائفة المعنَّاة تكاد تسف المل، وتتجرّع مرارة الانكسارات.. ومن ذا الذي يستطيع أن ينقِّب في مسرح السياسة، ويقرأ ما تحت السطور، ثم لا يُصاب بالرعب. وقدر المفكرين والكُتَّاب المفيد والمؤلم معاً، أنهم ينظرون إلى أحداث العالم رأي العين، ويتعقّبون لعب الأقوياء المهلكة حية على الهواء، ماثلة للعيان، عبر القنوات والمواقع والصحف والإذاعات، والأقل من المتابعين من يتقن قانون اللعبة، بحيث لا ينزلق في تأييد مطلق، أو يعتزل برفض صارم.. وقطع الأمر مع غياب الوثائق، أو حضورها مزوّرة لا يقل خطراً عن التردد، ورأس الابتلاء أن كل حدث مصيري يستبطن (شفراته) الخاصة به، بحيث يتطلَّب نظرية معرفية، ومستوى قرائياً خاصين بالحدث، مستدعياً ذلك كله تكسيراً للقناعات والمسلمات، وتجهيزاً لخطاب (دبلوماسي) مراوغ.. وفي ذلك تكليف بما لا يُطاق، وإيذاء للمشاعر المتبلِّدة، فضلاً عن الحساسية.. ومما يعمّق المأساة أن معايشة الأحداث حية كما خلقها الله، تُواجه بضعف وهوان، وقِلة حيلة، وتنازع بين الأخ وأخيه، وخوف الإنسان من أقرب الناس إليه، وتدخُّل فضولي ممن لا ينفك يفسد بين المرء وزوجه.. والكُتَّاب بما هم عليه من رهافة أحاسيس، ورقة عواطف، يستقبلون الأحداث المؤلمة طرية كما وقعت، ويتقرون آثارها ومخلفاتها بأيديهم، وهم كما أطباء الإسعاف في تلقّي حوادث السير، فقد يصل إليهم جزء من جسم المصاب، ويظل الباقي مختلطاً مع قطع الحديد في موقع الحادث.. ورحمة الله في هؤلاء وأولئك الإلف والأمل والنسيان، وإلا كيف يحتمل الكُتَّاب التعايش مع المغالطات والمتناقضات وتعدد المكاييل والمحو والإثبات في آن.. فاحتلال يُزكَّى، وآخر يجرم، وترسانة تفتش، وأخرى تبارك، وتقنية تُخفى، ومساعدات لا تسد رمقاً، تأتي بالتقتير والتكدير والإيذاء، وإصرار على تحويل المسرح السياسي إلى مسرح عرائس، تحركها أنامل فوقية، وضرب للمنظمات الإسلامية، ثم انتهاك للسيادة الوطنية، وذلك بإبداء الرغبة في التفاوض مع رموز تلك المنظمات، وتغرير للشعوب بحجة تصدير العدالة والحرية. وأي كاتب يتلوى على سفود السياسة، يرى أن من واجبه أن يعيش حضوراً واعياً لكل ما يسمع ويرى، وأن يكتب رأيه بعد التقاط الحدث بكل ملابساته عبر أي وسيلة إعلامية، أو سياسية.. فالأوضاع بلغت حداً من التدهور والفوضى لا يمكن معه امتلاك الأعصاب، ولا التّوفر على رباطة الجأش.. وكيف يتوفر الكاتب الفولاذي على شيء من ذلك، والمهيمنون كما (بلفور)، الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، ثم لا يجدون حرجاً من أن يتبعوا تعدياتهم تباكياً على المصداقية والعدالة والحرية؟ إنه زمن الهون والحزن، وكيف لا يخاف الكاتب وهو الأسفل، إنه زمن جسَّد مآسيه (المتنبي) بقوله: (واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تضوى به الأجسام) (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد) وإشكالية الأحداث المؤلمة أنها تعشي العيون، وتصم الآذان، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول للمتحسِّر، أو للمتنصِّل: (يداك أوكتا، وفوك نفخ).. وكل لاعب في مقدرات الأمم ومصائرهم، يتفنن في صناعة الخطاب الإعلامي المضلل، شأنه في ذلك شأن الشركات العالمية التي تُمارس من خلال إعلاناتها الدعائية الخداع البصري والسمعي، كي تستحوذ على المستهلك.. والكاتب قد لا يجد فرصة للتأمل، ولا إمكانية لانتظار ما تسفر عنه الأحداث من حقائق، تختلف عما أفضى به اللاعبون الكبار.. فهو إما مغلوب، أو مخدوع، أو مجند.. وحين تتكشّف الأمور، وتتعرّى المقترفات، يكون قد فرغ من تحديد موقفه، وإشاعته بين الناس.. ومن الصعوبة بمكان التّراجع، أو المراجعة، فقد قِيل ما قِيل إن صدقاً وإن كذباً.. وفوق إشكالية التّلون الحرباوي، يأتي تلاحق الأحداث الذي لا يتيح فرصة للمراجعة، ولا إمكانية للتقويم.. وارتباط كل لعبة بقانونها الخاص بها، وتراكم الأحاديث الفجة المرتجلة تصنع الذهنيات المضطربة.. والمَشاهد السياسية من أسوأ المَشاهد وأكثرها اضطراباً، وألصقها بالكذب، وأوسعها لتعدد الاحتمالات المتناقضة، وكيف لا تكون، والسياسة فن الممكن؟. والمصاب بداء السياسة يروِّض نفسه على قبول المتناقضات والتّعايش معها، ولا يعرّيها لوقتها، إلا المذكرات والسِير الذاتية، التي يكتبها صنَّاع القرار، حين تلفظهم مطابخ السياسة في مزابل التاريخ، يفعلون ذلك كي يتخلصوا من تأنيب الضمير، ويفروا من عار التاريخ.. وكل زعيم استمرأ القتل، والهدم، والسجن والتشريد، وإهلاك الحرث والنسل، ومسايرة اللعب، أو تنفيذها طوعاً أو كرهاً، حين يفارق سدة الحكم مغلوباً على أمره، أو منهياً دوره التمثيلي، تجر قدمه قناةٌ أو صحيفةٌ أو ناشرٌ، ليغسل الدم بالأحبار أو بالرغاء الرخيص.. وقد يفضي بمواجيز الأحداث، ليتولى المتخللون بألسنتهم صياغة المذكرات، مستميتين من أجل تخليصه من سبة الدهر.. وساعتها يبدو فيما يقول، أو يملي، أو ينيب كحمامة سلام، تتعثَّر بشراك الشائعات.. ولو سألته عما اقترف من خطيئات ماثلة للعيان، لما وجد بأساً من إلقاء اللوم على رفاق الدرب، وشركاء الذنب، وعصبة الحزب، أو أبناء القبيلة. ومع تعرية الاعترافات والمذكرات والسِير، وتضاربها، وفضح بعضها لبعض، يأتي حق الإفراج عن الوثائق السرية كالعهود والمواثيق والاتفاقات الدولية، وذلك بعد مرور الزمن المحدد للإفراج عنها، وتلك من أكثر العمليات كشفاً لما خفي، وإن كان الكشف انتقائياً، وعلى أضيق نطاق، وقد يدخل الكشف عن الوثائق تغنص اللعب، فما يعرف المتابع الصادق من الكاذب.. وكم من كاتب راصد، أو محلل اكتشف أنه يتسكّع في أودية التيه، وأن كل ما قال ركام من الأوهام.. فما يُقال عبر وسائل الإعلام في أعقاب الأحداث، أو ما يرهص لها، قد لا يكون صادقاً.. والذين يعوِّلون على ذلك، يكتشفون أنهم شهدوا وقائع الحدث، ولم يكونوا لدى المخططين إذ يختصمون، وأنهم كما الشاهد الذي سمع ولم ير، وما راءٍ كمن سمع، وتلك مصيبة المشهد السياسي.. وكم من مؤتمرين بعثت بهم دولهم، ليتدارسوا القضايا مع نظرائهم، فوجئوا بأن قضيتهم حُسمت بليل، وأن الاتفاقيات قد أخذت طريقها إلى المسرح العملي، وهم في غفلة عن هذا، يجادلون ويجالدون، ويظنون أنهم يكتبون التاريخ بمداد مخلوط بعرقهم ودمهم. ومع كل الأجواء الملبدة بالمكر والخديعة، فإن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات.. فالكاتب الذي يلامسُ القضايا، يختلف عن المنغمس في مستنقعاتها.. والمتابعون لملفات الأحداث المصيرية، وما كُتب فيها، وما أُجري حولها من لقاءات مع أطرافها، أو مع المراقبين، أو مع المهتمين، أو مع سائر الإعلاميين، يقفون على أشياء مذهلة.. والصامتون حين يفك أسرهم، ويأمنون على أنفسهم، ينطقون بما يقلب الأوضاع رأساً على عقب.. وسليم النية والطوية أمام هذه المتناقضات الصارخة ينتابه الشك، حتى في نفسه.وكيف لا يشك الإنسان في نفسه والخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) يسأل (حذيفة بن اليمان) رضي الله عنهما وأرضاهما عما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عدّه من المنافقين.. لقد جاء جواب (حذيفة) بالنفي، ولكنه أتبع ذلك بنهي يُعمِّق الخوف والشك: (لا ولا تسألني عن غيرها)، أو كما قال.. إذ ربما ينكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تتابع الأسئلة، والصحابة قد نهوا عن السؤال خشية أن تفرض عليهم الإجابة، ولهذا يفرحون بالأعرابي حين يتفجَّر بالأسئلة غير هيّاب ولا وجِل. إن واقعاً كهذا، قمين بأن يُخاف، جدير بأن يُعتزل.. لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وذكر منها ما هو كقطع الليل المظلم.. والحل لا يكون وقفاً على المواجهة، فقد يكون الاعتزال، وكسر السيف، ورفع القلم، وكف اللسان هو الخيار الأفضل، وبخاصة عندما تنعدم الرؤية، ولهذا ندب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة إلى كسر السيف، والعض على جذع شجرة، حتى يأتي الموت.. ومشاهد الأمة العربية وأحداثها المرعبة، تكاد تفوق قطع الليل المظلم، وتكاد تقتضي كسر القلم وتكميم الأفواه.. والمفجع أن الدهماء من الناس تخوض في الحديث عن تلك الفتن، وكأنهم أطفال يلهون بيوم مطير، وما علموا أنهم فوق أرضة ملغَّمة. لقد مرَّت الأمة العربية بنكسات مُوجعة، وحروب أهلية دامية، وتناوش حدودي مُخيف، وإخفاقات عِرقية وطائفية، وأثرة حزبية، وعنف ثوري دموي، وتسلط عنيف، ولما يزل الإنسان العربي صابراً محتسباً، يتحرّف للخروج من هذه المآزق الخانقة.. وأمله ألا يغلب عسر يسرين، وبوارق الأمل تلوح في أفق ملبد بالغيوم، وكل أمله أن يَصْدُقَه القول أرباب اللسان والقلم، فلا يزيفون وعيه، ولا يصعدون ارتيابه، ولا سيما إذا اجتالته اللعب الكونية، وامتطى صهواتها مغلوباً على أمره.. فكم من لعب خادعة تهافت في أُتونها الخليون، كما يتهافت الفراش على اللهب.. وكم من أحلاف جائرة، انصاع لها الخائفون، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.. وكم من تكتلات هشة ظاهرها الرحمة، وباطنها من قِبلها العذاب، وإن بدا أصحابها باسمين، فإن الهمَّ يطويهم كما يطوي الأعرابُ شنانهم الفارغة من الماء.. والشأن العربي إما مترمّد تذروه الرياح، أو رماد يُرى خلله وميض نار قابلة لأن يكون لها ضرام، والقلة الأقل من الكُتَّاب كما رجال الدفاع المدني، يتقحّمون الأُتون بالكمامات، والدروع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. والنفعيون رضوا بأن يكونوا من آليات اللعبة، فاستخفوا بمصلحة الوطن.. ولو أعاد هؤلاء وأولئك قراءة ما قالوه بالأمس القريب، لتمنوا أن يكون بينهم، وبين ما كتبوا أمدٌ بعيد، فواحدهم: إما متسرّع لم يُتح له تسارع الأحداث فرصة للتأمُّل.. أو جاهل يظن كل الظن أنه ابن بجدة السياسة.. أو أجير في سوق النخاسة الإعلامية، لا يبالي في أي وادٍ هلكت أمته.. والقلة القليلة من تتثبّت، وتقلّب الأمور، وتقدّر، وتستخير، وتستشير، قبل أن تضع السواد على البياض، فالكلمة عندها إما عمار، أو دمار، والإسلام يحث على القول السديد والكلم الطيب. إن زمن التيه قائم على أشده، على الرغم من سقوط الأقنعة، وتعري اللعب، وافتضاح اللاعبين.. فماذا قِيل عن الحرب (الأفغانية)، التي أعادت ترتيب المسرح السياسي؟ وماذا يُقال اليوم عنها؟ وماذا قِيل عن الحرب (العراقية) و(الإيرانية) يوم أن كانت على أشدها؟. وماذا يُقال عنها اليوم؟ وماذا سيقول أزلام النظام العراقي البائد، لو تمت المحاكمة على وجهها الصحيح، ولم (تُفبرك)؟ وماذا قِيل ويُقال عن الحركات والأحزاب والمنظمات والرموز الأحياء منهم والأموات؟. وعلى المتابع أن يُمسك الأحداث حدثاً حدثاً، ثم ليقرأ ما قِيل فيه يوم أن كان مشتعلاً، وما يُقال عنه حين تحوَّل إلى هشيم مترمِّد، ليرى كم هو الفرق بين قول وقول.. ومع كل هذا فالكُتَّاب لا يعيدون قراءة ما كتبوا، فضلاً عما كتبه لداتهم، ليختطوا لأنفسهم طريقاً قاصداً، ينجيهم من معرَّة التناقض، وعذابات الضمائر.. وهل يكون التّحرف والتّحيز في الهروب من مدرجة الطريق والدخول في المساكن، كما فعلت النمل، أم تكون النجاة في ملاقاة الأحداث بصبر ومصابرة ومرابطة؟. ما زالت الخيارات غامضة، والمشاهد مكفهرة، والرؤية متدنية، ومن يعش من الكُتَّاب فسيرى اختلافاً كثيراً. وفي كل يوم تطلع فيه الشمس، تتكشّف الأحداث عن زائف القول.. ولو عملت مجسات ومسابير فيما مضى، وفيما هو آتٍ، لكانت الأمور أكثر بشاعة، وفوق هذا فإن ثورة الاتصالات جعلت الحبكة تتفكك في مهدها، ولم يكن بإمكان منفذي الحدث، وحائكي خبره أن يطيلوا أمد الكذب والتغرير، لقد بثَّت وكالات الأنباء الطريقة المؤلمة التي قُبض فيها على (صدام حسين)، وجاء مجند أمريكي من أصل عربي، ليكشف كذب الحبكة، بتصويره طريقة القبض عليه، وليس مهماً أن يكون القبض عليه كما صوَّرته الوكالات، أو كما حكاه الضابط الأمريكي، ولكن الأهم أن الإعلام لا ينفك من الكذب والتّفنن في صناعة الخبر.. ويُقال مثل ذلك عن الطريقة التي اغتيل بها (الزعيم الشيشاني)، لقد صوَّرته وكالات الأنباء كما يريد منفذ الحدث، غير أن (زوجة) القتيل نفت ذلك، وذكرت تفاصيل الحدث.. وها نحن الآن مع صورة جديدة ل(صدام حسين)، قد يأتي اليوم الذي يكشف فيه عن أهداف تسربها، وقل مثل ذلك عن تسريب ممارسة تدنيس القرآن الكريم، إنها لعبة تجرُّ بها الأقدام والأقلام، وتلك أمثلة حية لاضطراب الأخبار وافتعال الأحداث، وليس ذلك الاضطراب داخلاً فيما يُقال: (آفة الأخبار رواتها).. ولكنه داخل ضمن مقولة: (كذب المنجمون وإن صدقوا).وبعد لقد كان المجرِّبون يقولون: آخر الطب الكي.. وكان يجب أن يقول المكتوون بنار التّقلبات السياسية: آخر الطب الصمت.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#7 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
المسند من خلال إسهاماته الأدبية
د. حسن بن فهد الهويمل الحديث عن شخصية موزعة الاهتمامات، وعبر زمن طويل، ولاسيما إذا كان المتحدث يعيش معها الخلطة، ويشاطرها المسؤولية حديث لا يمكن أن يكون بريئاً. إذ للعواطف سلطانها وحقها المشروع، متى أمكن ترويض جماحها. ولقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليها وسلم مع زوج ابنته من أسرى بدر، ولكنه لم يستبد، بل استشار الصحابة، فكان أن أطلقه ورد قلادتها التي ورثتها من أمها (خديجة)، فعل ذلك، وهو يعلم أن الأسير سيقضي ما التزم به لقريش، ثم يعود مسلماً. والحديث عن عالم وأديب وتربوي وإعلامي، لم تشغله عوارض المرض ولا تعدد المسؤوليات عن أن تكون له يد مع العلماء والأدباء والإعلاميين عبر التأليف والصحافة والإذاعة والتلفاز، إضافة إلى عمله في قطاعات خيرية وإعلامية متعددة حديث متشعب، وهذه الإسهامات المتنوعة، يتعذر تناولها في حديث مقتضب، ومن ثم لابد من التقاط زاوية من نشاطاته، ومحاولة تغطيتها وفق المتاح. ولأن التنازع بين المهمة والوقت يحسم دائماً لصالح الوقت دون النظر إلى المهمة فإن ذلك مؤذن بالتخلي عن جوانب مهمة في حياة المدروس، وتناول جهود الشيخ (عبدالعزيز المسند 1353هـ - ...) العلمية والعملية يستدعي تصور الحواضن المعرفية التي أسهمت في تشكل الذهنية والمعرفية، فما من مترجم أو مؤرخ لعالم إلا ويلم بشيوخ المدروس ومقروئه، ذلك أن مفاتيح الأديب ما يقرؤه. و(المسند) يتوفر على إمكانيات أدبية تضارعها إمكانيات أخرى، ليست بأقل أهمية منها، وإمكانياته الأدبية، لم تبرح أرض المحافظة، والفرق بين المحافظة والتجديد كالفرق بين المحافظة والتقليد. وكل منشأ في التراث تشده أمراسها إلى شوامخ القيّم الفنية والدلالية، بكل ماهي عليه من جمال وجلال، وكثير من جيل التأسيس المعرفي يصعب عليهم التخلي عن انتمائهم ومكتسبهم. والراصدون للحياة الأدبية في المملكة يوزعونها بين أجيال ثلاثة. - جيل الرواد. - وجيل التأسيس. - وجيل الانطلاق. ولما كانت المملكة مجموعة مناطق متفاوتة، فقد تم توحيدها إقليمياً بعد معركة التكوين التي خاضها الملك عبدالعزيز رحمه الله وجاءت معركة البناء لتوحيد البلاد علمياً وأدبياً، وكل متحدث عن مرحلة ما بعد التكوين يجعل منطلقه أدباء الحجاز. وقد تكون هناك إيماءات إلى ماطق أخرى.. وجيل الرواد تتنازعهم سمتا: التقليد والمحافظة، مثلما تتنازعهم أنواع الإبداع. أما جيل المؤسسين فهم الذين تواصلوا مع أدباء مصر والشام ممن واكبوا النهضة التعليمية في الحجاز، وإذ كان (المسند) حاضر التواصل مع أدباء مصر والشام، لانتقاله بالقوة من نجد إلى الحجاز، حين عزم الملك عبدالعزيز على النابغين من أبناء نجد باستكمال دراستهم، وبهذا اللحاق المبكر تشكلت مشاربه من ينابيع التراث الإسلامي، ومما جد في الساحة الأدبية والتعليمية والإعلامية، ومن هذا الجيل ومعه تشكلت شخصية (المسند) العلمية والأدبية، وهو قد أدرك نهايات جيل الرواد وبدايات جيل التأسيس، ولما لم يكن جيل التأسيس على وتيرة واحدة، فقد تنازعتهم تيارات أدبية وثقافية. فطائفة منهم سارت باتجاه الانطلاق والتفاعل الواعي مع المستجد الأدبي والاجتماعي، فيما سار آخرون باتجاه الرواد، متمترسين وراء كتب التراث وأنماط الحياة السائدة، وبقيت طائفة أخرى في موقعها محققة ذاتها الواقعية. ولأن (المسند) ممن لم يضعوا كل بيضهم في المشهد الأدبي، فإنه مقل لا يقدر أحد على تصنيفه. لقد اشتغل في مواقع كثيرة، وكان عملياً أكثر منه تنظيرياً أو كتابياً، والمتحدث عن جوانبه العملية سيجد الشيء الكثير، ولاسيما في قطاع الجمعيات الخيرية والمجال التعليمي. وفوق تأثير المهمات العلمية والتعليمية، امتدت إليه الوسائل الإعلامية، فاستجاب لها. والعمل الإعلامي وإن كان يستمد نجاحاته من الخلفيات الأدبية والثقافية فإنه يبتعد بها عن الصياغة الأدبية والتأنق الأسلوبي، ليقربها إلى العامة أكثر من زلفى. وإذ يكون العملُ الخيريُ والتوعيةُ الإعلاميةُ والعملُ الإداريُ ممارساتٍ عمليةً مهمةً، إلا أنها تأتي على حساب الأداء الأدبي إنشاءً ودراسة. ولقد قلت ذات مرة عن شاعر لم يأبه بالموهبة، ولم ينقطع للإبداع إنه (شاعر مع وقف التنفيذ)، فإنني أقول عن المسند: (إنه أديب مع وقف التنفيذ)، بمعنى أنه يملك الاستعداد، ويتوفر على الثقافة والإطلاع، ولكنه لم يشأ استغلال هذه الإمكانيات وحصرها في حقل معرفي واحد، بحيث يُعرف في الأوساط الأدبية كما عُرف غيره من نقاد: منظرين أو مطبقين، ومن شعراء أخرجوا للناس أعمالهم الشعرية، أو سرديين أخرجوا للناس أعمالهم السردية. لقد جعل الإمكانيات الأدبية مساندة للعمل الإعلامي والتأليف الاختياري، والمقالة الصحفية. وحين نقول بأن ممارسة (المسند) للكتابة بشقيها التأليفي والمقالي تأتي حسب الفراغ والرغبة، نقول بأنها مرتبطة بلغة تراثية علمية، لا يشوبها لحن ولا عامية ولا عجمة. بل أكاد أجزم بأن تأسيسه وتأصيله لآليات اللغة العربية لم يكن عبر الدرس الأكاديمي المتخفف، وإنما كان تأصيلاً عبر حلقات الدرس التقليدي. وهو تأصيل يعتمد على الاستظهار والتطبيق. وتراثية (المسند) تمس المكتسب وطرائق الأداء ومجالات التناول، وتلك الصفات الثلاث حين يقع الأديب تحت طائلتها، يكون ذا سمة محافظة وليست مقلدة. والأدباء المؤسسون الذين بدأ معهم (المسند)، ثم فارقهم، يتنازعهم العمل التأليفي وممارسة التعليم والتعلم، إذ لم تكن عندهم مراحل فاصلة، فهم طلبة وطلاب في آن، على حد: (رهبان في الليل فرسان في النهار)، وقد لا يواكب ذلك تحول سريع، فالمؤسسون والرواد من أكثر الأدباء أناة، فمشيهم لا ريث ولا عجل، ووعي الآخر بهم وعنهم يتشكل على ضوء اهتمامهم، إذ هناك علماء برزوا من خلال مؤلفاتهم، وآخرون برزوا من خلال إسهاماتهم العلمية أو العملية. و(المسند) وإن أسهم في التأليف، إلا أنه لم يشأ أن يكون مرتهناً لهذا الجانب، ومن ثم تعددت حقول اهتماماته، وتعذر حصره في مجال من المجالات. وباستعراض إسهاماته التأليفية والمقالية والبرامجية الإعلامية، بوصفها وثائق إثبات لأدبية النص عنده، وبخاصة برنامجه التفسيري الممتد لعشرات السنين، نجد أنه يمتلك لغة توصيلية، تأخذ حظها من الأدبية، غير أن التأنق الجمالي والانزياح المغرق لا يشكل أولوية عنده، فيما تقوم سلامة اللغة ووضوحها وأدبيتها. والمتابع لمقالاته وكتبه لا يجد اختلافاً بيناً بينها، إنه يكتب كما يتحدث، ويتحدث كما يكتب. وهذا باستثناء برنامجه (منكم وإليكم) الذي يتخذ طابع المشورة والنصيحة لشريحة من المجتمع، مما يتطلب تفصيح العامي وتعميم الفصيح. والفرق بين الكتابة والشفاهية واضح، وكل كاتب للمقالة لا يرى نفسه محترفاً، لا يخضع للأسلوب الصحفي، ولا يجد حرجاً من توحيد كتابته التأليفية والصحفية. وعنصر التنافس حين لا يشكل عاملاً رئيساً يظل الكاتب مشغولاً بتوصيل الرسالة وسلامة الوسيلة. وأياً ما كان الأمر فإن (المسند) بوصفه موضوعاً يتنازعُه العلماء والأدباء، فهو على شاكلة (الطنطاوي) الذي آلمه نفي الفقهاء والأدباء له معاً، فإذا خاض معترك الفقهاء قيل له: ليس هذا العش عشك فأدرج، وإذا خاض معترك الأدب شاح الأدباء بوجوههم عنه، وهو الأديب المتمكن والفقيه المتبحر. وتلك إشكالية المثقف، فهو يأخذ من كل شيء بطرف، وقد يعرف كل شيء عن شيء، ويعرف شيئاً عن كل شيء، ولكنه مع تعدد اهتماماته، وتنوع مجالاته، لا يقيد هواه في الحقول التي يلم بها، إذ لا يتلبث فيها إلا قليلاً. واستعراض عموده الأسبوعي في جريدة (القصيم) سابقاً، وفي جريدة (الجزيرة) لاحقاً (ما قل ودل) يكشف عن كاتب يتوفر على لغة أدبية مشوبة بالعلمية، وعلى خلفية ثقافية ذات مصدرين قويين: الفقه والثقافة، والمصدر الثقافي يستمد لحمته وسداه من كتب التراث الأدبي والتاريخي. ولهذا يوصف مقاله بالنص الثقافي، وليس بالنص الإنشائي، والكتبة المحترفون تغلب عليهم الإنشائية، ومن ثم لا يصنعون ثقافة، ولقد عُرفت شخصيات كثيرة، تهتم بثقافة النص، نجد ذلك عند معالي الدكتور الخويطر، وعند الأستاذ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعند الشيخ عبدالله بن خميس، وعند آخرين من شرق البلاد وغربها. لقد سبق لداته من نجد حين تشكل وعْيُه الصحفي من خلال صحافة الحجاز، يوم أن كان يدرس هناك، كما أتيح له العمل فيها مصححاً ومراجعاً، وهي بحق صحافة الأدب الحي، إذا لا يلي أمرها إلا الأدباء المؤصلون لمعارفهم، وصحافة الأمس بهذه الكوكبة أصبحت ذات صلة بالعلم والأدب، فيما جاءت صحافة اليوم ذات صلة بالفن الصحفي والخبر التسجيلي والتحليلي، حتى كادت تنفصل عن أدبية النص، ولم يعد النص الأدبي مطلب القارئ الذي يريد من الجريدة أن تكون إخبارية تتابع الحدث ساعة بساعة، ومادة النخبة ليست القضية الرئيسة في صحافة اليوم. وهي وإن توفرت فإنما هي لشريحة محدودة، ولسنا بصدد الموازنة بين صحافة الأمس واليوم، إذ البون شاسع، وعالم اليوم يكاد يختلف كلية عن عالم الأمس، وصحافة اليوم تشكل (إمبراطورية) متعددة الإمكانيات، فهي بما هي عليه من قدرات متنوعة تلاحق المتغيرات، وتستخدم أحدث الوسائل وأكثر الإمكانيات. وما نود الإشارة إليه التأكيد بأن صحافة الأمس تهتم بالمادة واللغة ودسامة الموضوعات ومحدوديتها، ومن فتحوا عيونهم عليها طبعتهم بطابعها الموضوعي الصرف، البعيد عن فنيات الصحافة من حيث الإثارة والاستمالة والإمتاع، إنها صحافة الفائدة وحسب، والشيخ (المسند) في مطلع شبابه عاش تلك العوالم، فكان الكاتب الموضوعي البعيد عن الإثارة. وهو إذا كتب المقالة الأدبية والاجتماعية فقد كتب الشعر، وكم قلت بأن الشعر ملكةٌ واقتدار، فأصحاب الملكة شعراء يحتاجون إلى ثقافة وموفق، أما المقتدرون فهم أولئك الذين خالطوا الشعر وحفظوا الشعر ودرسوه وألفوه وألفوا عنه، ثم قالوه في أضيق نطاق، وما أفرج عنه من مقطوعات ظفرت بها ابنته (الدكتورة غادة)، تشي بأنه ناظم مقتدر، وليس بشاعر، وهو قد أراح الدارسين والنقاد فقال بالنص (أنا لست شاعراً بالملكة ولا أقرض الشعر وإن طلبته قلته)، وما أكثر الذين قالوه اقتداراً، ثم انصرفوا عنه، لإيمانهم بأنه ملكة قبل كل شيء، من أمثال (طه حسين) و(حمد الجاسر) و(المنفلوطي) وعشرات آخرين، لقد توقف عدد من الأدباء عن نظم الشعر، نجد ذلك عند (أحمد محمد جمال) و(أحمد عبدالغفور عطار) و(راشد بن خنين) وهؤلاء متفاوتون في الإمكانيات، وقد يكون لسان حالهم أن جيده لا يقدرون عليه ورديئه لا يقبلونه لأنفسهم، أو أنهم كما الشافعي الذي قال: (ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد). وفي مجال التأليف فإن له أكثر من عشرة كتب، تمثل التنوع الثقافي، وهي بالجانب الشرعي ألصق، وقد يكون الدافع إلى تأليفها الشعور بأهمية القضية، ويهمنا منها ماله مساس بالثقافة والأدب، ومن بينها (الأندلس تاريخ وعبرة) و(الصين ويأجوج ومأجوج) و(سفينة الصحراء)، وقد تحسب هذه المؤلفات الثلاثة على (أدب الرحلة) وإن كان المنهجُ وأسلوبُ العرض يختلفان شيئاً قليلاً عن ذلك. ففي الأول يعتمد على التاريخ الأندلسي، ويحاول إثارة المشاعر والبكاء على الأطلال، فالأندلس هو الفردوس المفقود. وفي الثاني يسجل مشاهداته فيما سماه العالم المجهول، ويميل مع من يرون أن يأجوج ومأجوج عالم إنساني حي. فيما يحكي الثالث رحلة العقيلات على ظهور الجمال، ولقد طبقها مع لداته من هواة الرحلة كما لو كانوا من العقيلات وسلكوا طريق العقيلات المتجه نحو الشمال، وقد دوَّن مراحلها، وجسد ما كان يفعله المسافرون على الإبل، ووثق كل ذلك بالوصف والصور، ويعد كتابه هذا من أدب الرحلة التسجيلي. ولأنه يحمل هم استحضار القدوة الصالحة، فقد قدم الشخصيات الإسلامية والأحداث التاريخية، جاء ذلك في كتب ثلاثة: (المنهج المحمدي) و(إمام الصابرين) و(متى ينتصر المسلمون) والواقع المعاش بأمس الحاجة إلى قراءة الأحداث التاريخية وسير أعلام النبلاء للاقتداء ومعرفة رجالات الفكر والعلم، وفي نهاية المطاف: من يكون عبدالعزيز المسند العالم والأديب والكاتب والإعلامي والإداري والتربوي؟ إنه خليط من هذا وذاك وسيظل مادة حديث لكل من راقته الشخصيات المتعددة المواهب والاهتمامات نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#8 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
النص الهادف تربيةُّ وتهذيبُّ..!(1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل كل عالم أو مفكر أو أديب، يجب أن يسأل نفسه، قبل أن يضع سواداً على بياض: من يكون؟ وتساؤله لا يكون - بالضرورة - عن انتمائه الإنساني، فتلك نزعة مادية نوعية، تدخل ضمن مدلول {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} والمسلم يعي الحق الإنساني في سياق الحق العقدي، وقد لا يترتب على ذلك كبير فائدة، وإن كان قاسماً مشتركاً، يحل كثيراً من الإشكاليات. ومدار الكينونة الأهم إنما يكون عن الانتماء العقدي والمذهب الفكري، ليتم على ضوء ذلك تحديد هم الإنسان ومساره وحراكه الثقافي. فهو إذ يكون إنساناً بإزاء أمم أخرى: طائرة أو سابحة أو زاحفة أو ماشية، فإنه يكون منتمياً إلى (عقيدة) تفرض عليه الاستجابة لأمرها والعمل على إشاعتها، وليست كذلك بقية الأمم غير البشرية التي عُرضت عليها الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان، لظلمه وجهله، فكان أن حُمِّل مسؤولية التكليف. وكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه يكون ملتزماً بالانتماء، حتى (اللا منتمي) يعد منتمياً إلى عدمية الانتماء، لأنه بالتخلي وبالالتزام يصبح صاحب موقف مضاد للانتماء أو موافق له، والمسلم ينتمي إلى عقيدته المبلغة إليه بنص قائم محفوظ، وهو في عقيدته بإزاء أناسي آخرين: يهوداً كانوا أو نصارى، يحملهم ولاؤهم وعملهم على عدم الرضى إلا باتباع ملتهم، وتَمثُّل العقيدة يعني النهوض بمتطلباتها السلوكية: تلبساً ودعوة. وحين يتحدد انتماء الإنسان بطوعه واختياره، أو بولادته، وأسلمة أبويه له، تتحدد مهماته: الإبداعية والعلمية والعملية، وتتراتب تلك المهمات في سلم الأهمية، وليس هناك أهم من إشاعة القيم السلوكية: قولاً وعملاً، إذ المسلم مطالب بالجمع بين الحسنيين: القول السديد والعمل النافع، ولهذا كبر مقتاً عند الله أن يقول المسلم ما لم يعمل، ويكون في الدرك الأسفل من النار حين يكون منافقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ومهمة المسلم في الحياة: ذاتيَّة وغيرية. ومن الغيرية الاهتمام بأمر الإسلام، وحب الخير للمسلمين، ومجالات الاهتمام والحب كثيرة من أهمها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله ولرسوله ولِئولي الأمر، والحب في الله، وكف الأذى، وفي الحديث (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعلى ضوء ذلك يكون (تهذيب السلوك) جزءاً من مهمة المسلم المقتدر، وهو هم مشترك لكافة المؤسسات: التربوية والتعليمية والتثقيفية والأدبية. و(الأدب الإسلامي) بكل أبعاده: الإبداعية والنقدية أدب هادف ملتزم، وليس ملزَماً، ولهذا فهو يحمل رسالة التوعية والتهذيب، وهو إذ يحمل هم التهذيب السلوكي، فإنه في الوقت نفسه يحمل هم تربية الأذواق وإمتاعها، وواجبه أن يحفظ التوازن بين أدبية النص السردي وشعرية النص الشعري والمضامين الأخلاقية. فلا تجعله مهمةُ يدعُ الأخرى كالمعلقة، ذلك أن مقاصد الأدب الرفيع تنمية الأذواق، وإمتاع العقول، وإشباع العواطف. والأذن تعشق قبل العين أحياناً، والصوت الجميل مطلب إسلامي وإنساني، وفي الحديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وإذا كان الشعر إنشاداً، فإن القرآن ترتيلاً وتغنياً، والله قد أمر بترتيل القرآن. والمشركون تواصوا باللغو وبعدم السماع أملاً في الغلبة، وكل ذلك للحيلولة دون التأثير الجمالي للأصوات بوصفها تصدع بالنص الهادف، وجمال اللغة بحسن الصياغة، وسبيل ذلك الجرس والإيقاع والتقفية والسجع غير المتكلف والتوازي، والنص الهادف يحافظ على الجمال والجلال، حين يمّارس التهذيب والتربية. ولا أحسبه بمبادرته للتهذيب السلوكي والتربية الذوقية يدّعي الاستئثار بهذه المهمة، ولا يعني الانقطاع لها، لأنه إبداع فني إمتاعي بالدرجة الأولى، وكم هو الفرق بين الفن وسائر المعارف الإنسانية. وهو إذ ينهض بالتربيتين: السلوكية والذوقية فإنما يتخذ طرقاً لا تعتمد الأسلوب الوعظي المباشر، ولا لغة العلم التوصيلية. فالأدب العربي منذ عصوره الأولى، حتى يومنا هذا، ينهض بعضُ شعرائه وأدبائه بهذه المهمات، ثم لا يكون ذلك على حساب اللغة الأدبية. ولقد قيل: (أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري) وذوائق النقاد تختلف، فحكيم المعرة وصف شعر (المتنبي) بالإعجاز ووصف شعر (البحتري) بالعبث، والنقد الأخلاقي الممتد منذ العصور اليونانية والمدن الفاضلة حتى العصر الإسلامي الذي فرق بين شعراء الغواية والهداية، وأسس للكلمة الطيبة جزءاً من مهمة (الأدب الإسلامي)، وشاهد على عمقه الزمني. وما تحرف الأدباء لإبداع النص الهادف، وتحيزوا لمفاهيم الأدب الملتزم ومقتضياته إلا من بعد ما اختُرقت أجواءُ الأدب العربي بتعديات على المقدس والمعصوم والأخلاق، ولوثت فضاءاته، ففي ظل هذه الظروف المتردية أخلاقياً وفكرياً، وفي ظل التمرد على القيم الفنية واللغوية لزم نهوض الخيرين لتدارك الأمر، والخلوص من لوثات الفكر وتردَّيات الأخلاق، وإذ تعمدت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة إفساد الأخلاق والأذواق فإن واجب الأدباء الإسلاميين إصلاحها، وما من عاقل رشيد يشك بأن إبداعات بعض الحداثيين وطائفة من الإعلاميين تضمر إفساد السلوك، ف(الحداثة) المنقطعة الفوضوية أدت إلى فساد الأذواق والأخلاق، وترديات النصوص تتطلب صحوة متوازنة، تعيد الأدب إلى مساره الصحيح، وتقيل عثرته. وما تخلف (الأدب العربي) عبر عصوره عن النهوض بمهمة التهذيب والتربية، وإن واكب ذلك جنوح فردي تعهده النقاد الأخلاقيون بالتقويم، ولو نظر المتابع الواعي إلى موسوعات الشعر العربي القديم والحديث لتبين له أن ما يلتمسه في (النص الهادف) نثار في تلك الموسوعات، وكل الذي يمتاز به (الأدب الإسلامي) بوصفه وعاء ذلك النص أنه يحول دون اختراق أجوائه بما يسيء إلى السلوكيات المهذبة، والذوقيات السليمة، والأفكار المستقيمة. وما تفرق الذين غمرتهم النصوص المدانة إلا من بعد ما جاءهم مصطلح (الأدب الإسلامي) ببيانه وحذرهم من مغبة القبول بالكلمة السيئة، وما كان هدف الأدب والأديب إلا إشاعة الكلمة الطيبة والقول السديد، ومن تصور الأدب الإسلامي غير ذلك، فقد وهم وجار في حكمه. ولهذا يكون تهذيب السلوك جزءاً من رسالته، لا ينقطع لها، ولا ينقطع عنها، إذ هو في الحالين يخل بمهمته الأخلاقية وأدبيته الأصيلة، لكونه إبداعاً قولياً له رسالة إصلاحية، وبرَاعته في حفظ التوازن، إنه يعرف كيف يتناول المهمة الأخلاقية، دون أن يكون ذلك على حساب فنيات الإبداع الشعري والسردي. وكل الذي يفصله عن (الأدب العربي) شعوره بأهمية شرف المعنى، وهو فيما سوى ذلك أدب عربي بكل ما يعنيه ذلك المصطلح من دلالات ومقتضيات، نقول هذا لنثبت أن (الأدب العربي) يحمل هذا الهم الذي أدركه الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) حين ندب إلى حفظ الشعر، بوصفه ديوان العرب. وإشكالية الأدب الإسلامي، أن الذين يتلقون مصطلحه، يتصورونه شيئاً آخر، وأنه مختلف جداً عن سائر الآداب، وأن إسلاميته على حساب شعريته وأدبية سرده. وما ساور أحداً من دعاة الأدب الإسلامي أيُّ شك بأهمية الشعرية على قواعدها والأدبية على أصولها. وما شهدت المشاهد الأدبية صراعاً خارج أطر القضية، مثلما نشهده حول ذلك المصطلح. ومعضلة المصطلحات الجديدة أنها تستقر في الأذان منذ أول يوم، ثم لا يكون من اليسير تغيير ما استقر، و(الأدب الإسلامي) استقر على غير مراد ذويه، ولما يزل يعاني من هذه المفاهيم الخاطئة، ومنشأ ذلك كله أزمة المصداقية، فلو أن خصومه تلقوا مفهومه من ذويه، ولم يفتروا مفهوماً غير مقبول، لكان ذلك مؤذن بقبوله والتفاعل معه، وعذر المتلقي أنه تلقاه من غير مصادره المشروعة، فكان الخوف من التصنيف والخوف على الأدب مرتبطاً بالمفاهيم الخاطئة، والمشفقون على وظائف الأدب وسماته من الأسلمة، كالذين يروجون تحفظاتهم وتخوفهم من أسلمة العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع، وما دروا أن الأسلمة لا تمس قوانين العلوم ولا جوهر الأشياء، وإنما تطعِّمها بمقاصد الشريعة، وإذ يعتري الأدب سوءُ تعبيرٍ من الخصوم، فإن للمقصرين من الأنصار دوراً في غبش الرؤية، ولا أظن المقتضى المصطلحي مسؤول عن الجنايتين. فالمصطلح ذو شقين: - أدب يقتضي الأدبية والشعرية. - وإسلام يقتضي الاستقامة على الحق. ومن هنا يتبين لنا اضطراب المفاهيم فيما تتداوله المشاهد الأدبية. ولو أراد المناوئون فهم (الأدب الإسلامي) على ما هو عليه، لأعدوا أذهانهم، واستعدوا لقبول الحق، ثم ما وسعهم إلا مناصرتُه، والعملُ من خلاله، ذلك أنه أدب بكل ما تعنيه كلمة الأدب، وإسلامي بكل ما تقتضيه كلمة الإسلام. وليس في طرح هذا المصطلح ما يثير التساؤل، وإنما التساؤل هو في تصوره شيئاً آخر، يغاير (الأدب العربي). وما هو إلا أدب كأي أدب هادف، يستمد لحمته من رسالة حضارته التي ينتمي إليها. والإسلام حضارة شمولية، لا تدع شيئاً أتت عليه إلا تركت فيه نصاً ظاهر الدلالة أو مضمرها، تُستلهم الأحكام من ظاهر النص القطعي أو من دلالته الاحتمالية، ونظرية التلقي والتأويل تحدد المفهوم المباشر أو المفهوم المحيل إلى المقاصد والمقتضيات بمساندة القياس أو الاستحسان، وعبر آليات الاجتهاد، وعلى ضوء الأصول والقواعد التي يحيل إليها فقهاء الأمة عند غياب النص بمفهومه الفقهي. ف(النص) عند الفقهاء ما لا يحتمل إلا دلالة واحدة، ولهذا يقولون: (لا اجتهاد مع النص)، وعند غياب النص أو احتماله لعدة دلالات، يتوسلون بالمقاصد والأنساق والسياقات والأحوال، ويأتي من علماء الأمة من يستنبط الأحكام على ضوء المقاصد، وأدب كل أمة يسبح في فضاءات حضارتها، بحيث يستمد لحمته وسداه من مقاصدها، ومع أنه جزء مكمل لتلك الحضارة فإنه لا يكون متماثلاً مع الأجزاء الأخرى. لقد جاء القصص القرآني متوفراً على أحسن الأداء ومتضمناً لأحسن المضامين، وفي ظلاله سار القصص النبوي. والكلمة الطيبة تضطلع بمهمة التهذيب والتربية وتحتفظ بجمالياتها الإبداعية، وليس على الإبداع غضاضة إذا توفرت مقوماته لدى المبدع حين ينهض بمهمة التهذيب السلوكي والتربية الذوقية والأخلاقية، ومع تداخل المهمات بين الفنون والمعارف يعرف كل قوم مشربهم. فعلماء التفسير والحديث والفقه والتاريخ والفكر والأدب يعرفون رسالتهم وأبعاد فنهم، وشرط نصِّهم، ومع افتراقهم في الاستخدام اللغوي والمؤثرات الجمالية فإن للجميع غاية واحدة، تحددها آيات {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} و {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}ومع هذا التنصيص يجدون أنفسهم أمام حاجاتهم البشرية التي تجسدها آيات {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} و{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتوازن، يعطي الجسم حقه، ويعطي الروح حقها، ولا يبخس من الحقين شيئاً، كما أنه بتوازنه لا يقبل الغلو ولا التطرف ولا الانقطاع للعبادة، ويؤكد على الرفق عند الإيغال في الدين. وليس في الإبداع نصٌ لا يحمل رسالة، وليست هناك حضارة تقبل نصاً ينقض عراها عروة، عروة ويفسد أخلاق ذويها. وما النص الهادف إلا بعض مطالب الأدب الإسلامي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#9 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
النص الهادف تربية وتهذيب..!! (2 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل ومهمة (الأدب الإسلامي) ليست وقفاً على الفائدة الخالصة، وإنما هي خليط من الفائدة والمتعة، بل أكاد أجزم بأن الهدف الأسمى يقف حيث إشاعة الكلمة الطيبة، وتمكينها من النقاد عبر الكلمة الشاعرة أو النص الأدبي، وحين يحمل المبدع والناقد هذا الهم، يكون التهذيب السلوكي والتربية الذوقية عفويين يعبقُ بهما النص دون تعمُّل، وما من مبدعٍ متضلع من تراث حضارته، إلا ويكون إبداعه متعالقا مع مخرجات ذلك التراث، ذلك أنه تراث يعيش الخلطة مع النص المقدس والحكمة الموحاة، وهو نتاج ثقافة إسلامية مهيمنة، لا يحيد عنها إلا هالك، وأثرها بادٍ حتى على العرب من غير المسلمين. وما تفرق أدباء الأمة إلا من بعد ماجاءتهم حضارة الغرب، وهم فارغون من كنوز حضارتهم، إذ ما من محمدة في سائر مجالات الحياة إلا وهي ضالة المسلم، وكيف يفتقر الإسلام إلى قيم الغير؟ والله قد أكمله وأتم نعتمه ورضي الإسلام دينا. وعلماء التربية والنفس والاجتماع الفارغون من معارفهم، يجوسون خلال معارف الغرب، ويأخذون بأسوئها، وما في كتاب الله وسنة نبيه خير مما يجمعون، ومع ذلك فليس هناك ما يمنع من الاستفادة المشروعة من كل طارئ أياً كان مصدره. إن مهمة المبدع أن يجعل من بيانه سحراً حلالاً، لا يقود إلى بنيات الطريق ومتاهاته، وإنما يسلك بالمتلقي الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وليس في ذلك ما يضير، فالقرآن الكريم الزاخر بالقيم الأخلاقية السلوكية والدعوية، جاء في ذروة البلاغة والفصاحة والبيان، وكان إعجازه البياني مسرح الأدباء، ومجال البلاغين، محتفظاً بمكانته التي لا تنازع، ومن تصور أن شرف المعنى محسوبٌ على شرف اللفظ، فقد تقوَّل على الأدب الأخلاقي كل الأقاويل. وحين يؤكد الناقد الإسلامي على أهمية الاضطلاع بمهمة تربية السلوك، واستثمار آي الذكر الحكيم وصحيح السنة النبوية وسير السلف الصالح، فإنه لا يغمط الشعرية ولا الأدبية شيئاً من حقهما، ومناشدة التهذيب والدعوة إلى مكارم الأخلاق، لا يستجيب لها إلا الذين أشربوا في قلوبهم حبَّ القيم الأخلاقية السامية. ومهمة تهذيب السلوك مهمة كل مقتدر، وهي لذلك بعض مهمات الأدب الإسلامي، ولكل فن مسؤولية خاصة، ومسؤوليات مشتركة، والنهوض بالمهمة المشتركة لا يَفْترض التجانس بين التخصصات، بحيث يكون الأديب على ألق الشعر وسديد القول. ونكد الشعر يروضه الصدق ولا يغني عن صدقه كذبه، كما يقول (البحتري). إن باستطاعة القاص والروائي والشاعر أن يتوفروا على سائر القيم السلوكية، دون الإخلال بالشعرية والأدبية، ودون الخروج بالأدب عن خصوصيته الإبداعية وسمته الجمالية. ومن قعدت به إمكانياته الفنية والجمالية، لم تسبق به دلالته الدينية، وليس أضر على (الأدب الإسلامي) من ذلك المفهوم. لقد شاعت بين الطوائف والأحزاب والفئات أخلاقيات المداهنة وإعطاء الدنية، فكان أن هبطت الفنيات، وفقدت الضوابط، وأصبح كل مفرط محمي بمظلة الموالاة. ومن الخير للأدب الإسلامي ألا يقبل شرف المعنى دون أدبية النص أو شعريته. والمجاملة على حساب الثوابت إضاعة للقيم الباقية. والخائفون على خصوصية الأدب - وهو تخوف في محله - يجب أن يعرفوا أن المصطلح يسبق في تركيبه إلى الأدبية، فالفقيه والواعظ والنظَّام لا يكون أحدٌ منهم أديباً، ولا تصدُق على ما ينحتونه من القول سمةُ الأدب، وإن كانوا جميعاً يحملون هم تربية السلوك. والأديب المسلم يدرك مسؤولية الكلمة ومهمة المبدع ورسالة المفكر، وطريق النفاذ إلى المتلقي عبر المحفزات الجمالية، فهو لا يطلق لقلمه ولا للسانه العنان، بحيث يقول الكلمة، ولا يلقي لها بالاً، وفي الحديث الصحيح (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار) وحديث (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وهو إذ يعي خطورة الكلمة، فإنما ذلك امتدادٌ لاحترام الإنسان. وهو حين يحرص على شرف المعنى يعرف جيداً القيمة الجمالية للكلمة وأثرها في إمتاع المتلقي واستمالته وإقناعه، وقدوته في ذلك (القرآن الكريم) الذي اعتمد في تأثيره وإعجازه على الجلال والجمال، فالجلال جمال معنوي كامن في النص، والجمال مدرك حسي، يتمثل في روعة النظم وجمال الصياغة والانزياح اللغوي والمجاز والإيجاز والاستعارة والتشبيه وسائر المحسنات اللفظية والدلالية. وليس هناك ما يمنع من توفر الجمال والجلال في النص.. ومع ما يكتسبه المتلقي في عوائد يحملها جمال النص وجلاله فإن الكلمة الطيبة الرقيقة الجميلة تسهم في ترقيق الطباع ولينها، كما المناظر الجميلة، فكلما خشنت المناظر خشنت الطباع، وحياة الصحراء والجبال ولوافح الرياح تخشن معها الطباع، وقد تصل بتأثيرها إلى حد الفظاظة والغلظة، وكلما رقت المناظر رقت الطباع، ولقد أدرك (يوسف) عليه السلام خشونة البادية وأثرها على الطباع، وحمد الله على خروجه من السجن ومجيء أهله من البدو، وكذلك بحث الفقهاء الموقف من (التبدي). وعلماء الاجتماع يرون أن هناك علاقةً بين طباع البشر وطبيعة الجغرافيا التي يعيشون فيها، وحتى التعامل مع المخلوقات له انعكاساته، وفي الأثر (ما من نبي إلا رعى الغنم)، ذلك أن طبيعة الغنم الهدوء والنظر إلى مواطن الأقدام، بينما رعاة الإبل الغالب عليهم الخشونة والغلظة، وإذا ألف الإنسان سماع الكلمات الرقيقة الجميلة الطيبة تركت في نفسه أثراً حسناً، ولهذا ندب الإسلام إلى القول السديد قال تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وقال: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: { لاَ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ}، وفي الأثر: ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا بالمتفحش. فالكلمة الطيبة تسهم في تهذيب الأخلاق، وإن لم يتعمد المبدع ذلك، وتربية السلوك تأتي باستشعار المبدع، وتأتي كامنة في النص كما العبق. و(الأدب الإسلامي) الذي يأخذ على عاتقه مهمات تربوية لا ينسى أبداً دوره الأصيل بوصفه أدباً، يعتمد الجمال والإمتاع، فإذا كان المعلمون والخطباء والوعاظ يحملون هم التربية السلوكية، ويجعلون ذلك كل همهم فإن الأديب الإسلامي يعرف أنه مشاطر بهذه المهمة، ينهض بها عفوياً وقصداً، ولهذا استوفى الدكتور (شوقي ضيف) الجانب الأدبي في شعر الزهد والوعظ وعده ظاهرة أدبية في عصور الازدهار، مع أن طائفة منه مأخوذة بالنظم والمباشرة.. ولما كان إنتاج (الأدب الإسلامي) محسوباً على الأدب فقد يضع كلَّ الاعتبار لتقييد نفسه في محيط الأدب لا يبارحه، بحيث لا يكون الأديب واعظاً أو فقيهاً، والذين يبررون تخليهم عن الانضباط الأخلاقي بحجة أن مهمتهم ليست وعظية ولا تربوية، يرتكبون خطيئة التفريط في شرف المعنى المعادل لشرف اللفظ، ويصادرون شطراً مهماً من وظائف الأدب، وهي التأديب، وفي الأثر غير الصحيح (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فكلمة (أدب) قبل أن تكون مصطلحاً إبداعياً، هي ممارسة تقويمية، وتهذيب السلوك كامن في المصطلح ذاته. لقد تجاوز الأدب الظاهرة (الرومانسية)، وبقدر إغراقه السالف في الأحلام والأوهام أغرق في (الأدلجة) والتسييس، والأدباء والنقاد مسرفون في الحالين ف(المتأدلجون) و(الرومانسيون) لم يتوفرا على مطلب الوسطية التي ينشدها (الأدب الإسلامي). ولأنه كأي أدب عالمي يحافظ على أدبية السرد وشعرية النظم، وما يتطلبان من جماليات ممتعة ومستميلة ومقنعة، فإن الخلوص للتهذيب السلوكي قد يأتي على حساب الجماليات الإبداعية، وتلافياً لذلك لا يكون (النص الهادف) منقطعاً لمهمات العلوم الإسلامية، وإنما يحمل منها ما لا يؤثر على خصوصيته بوصفه أدباً بالدرجة الأولى، كما أنه لا يطالب المبدع أن ينقطع لأي مؤثر على فنياته، ولكنه يؤكد على سلامة النص من أي إخلال بالقيم الأخلاقية. وإذا اضطر المبدع أن ينطلق من قعر الواقعية فإن (الأدب الإسلامي) يود منه ألا يمارس الوصف والتسجيل المباشرين، فيقع في الحديث عن القاذورات الواجب سترها، ولا يترفع عن سفاسف الأمور، وينصاع إلى أدب الاعتراف المخل بالقيم. وكل من جنح إلى النص الواقعي فعليه أن يكون قدوته في ذلك ما قصه القرآن الكريم عن (يوسف) عليه السلام مع امرأة العزيز، لقد عرض لآثار لخلوة وفتنة النساء، وجاءت النهاية محققة انتصار الفضيلة، وكل أدب يحكم الصراع بين الفضيلة والرذيلة، ثم يجعل الانتصار للحق يعد أدباً إسلامياً، ولو ضربنا الأمثال بروائيين عرفوا بالواقعية السلوكية ك(نجيب محفوظ) وآخرين حاولوا حفظ التوازن ك(نجيب الكيلاني) لأدركنا كم هو الفرق بين مشيع للفاحشة ومحذر منها، وكلاهما اتخذ شخصياته وأحداثه من الواقع الاجتماعي، وتشابهت عندهم الأحداث ولم تتشابه المصائر والمآلات، مع أننا نتحفظ على بعض إبداعات (الكيلاني). وكل أداء تقبله الأذواق السليمة، ولا ينعكس أثره السيئ على الأخلاق، ولا يثير الغرائز الحيوانية، يعد من الأدب المقبول، وإن لم يكن في خدمة الإسلام المباشرة والمنقطعة. وفي الذكر الحكيم {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ذلك أن الإسلام يقدر النوازع البشرية، ومن ثم فإن مهمة المسلم عمارة الكون وعبادة الخالق وهداية البشرية والتمتع بالطيبات الحسية والمعنوية، لهذا يفسح المجال للمتعة واللهو البريء، وفي الحديث الصحيح: (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، وحين نضع مثل هذه التحفظات وتلك الاستدراكات فإنا نود الحيلولة دون رغبات جامحة تريد من الكلمة الإبداعية أن تكون وعظية لا تبرح الوعظ إلى غيره أو لا توفر أدبية النص عند الإلمام بالوعظ. وكم هو الفرق بين الأدب الإسلامي والأدب الديني وأدب الزهد والرقائق والتصوف، إنه أدب لا يدعو إلى طائفية ولا إلى رهبانية، إنه أدب فكر وهم وإحساس إسلامي، يلتمس فيه القارئ نصاعة الإسلام ونقاءه وسمو أهدافه ونبل غاياته. إنه أدب عالمي يتسع لكل من يشهد ألا إله إلا الله، ويعتمد لغة الأمة وأخلاقياتها السامية، ويرفض العهر والكفر والتنازع وإثارة الضغائن، وكيف يحتويه شيء من ذلك، وهو يتخذ من خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة ونبراساً، وكان خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وأسلوبه اللين، ولقد أشاد القرآن بصفاته { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} إن (الأدب الإسلامي) وهو يحمل هم الإسلام الدعوي، يحتفظ بكل مقومات الأدب، فلا يساوم على شيء منها، ولا يقبل من الضعفاء أن يكونوا شواهد في سوح الأدب، إنه الأدب الرفيع فناً ودلالة، كل الذين يتوسلون إليه بالمعاني الجليلة لا يقبلهم، إلا إذا توفروا على جمال النص وشرطه الإبداعي. وحين يستبطن المبدع الإسلامي هم التربية السلوكية، والذوقية، يهيئ لها مجالاتها، فالقصة والرواية والسيرة الذاتية وأدب الرحلة وسائر السرديات والأنشودة والقصيدة والمسرحية (الشعرية والسردية)، كلها مجالات صالحة للتهذيب، وحين لا يحمل المبدع ذلك الهم فلا أقل من أن يتحامى الإساءة إلى المتلقي. لقد حث الإسلام على القول السديد، فإن لم يكن، فلا أقل من الصمت، وحث على تجنب القاذورات، فإن لم يكن بد من ذلك، فلا أقل من الستر، وتجنب المجاهرة بالمعاصي، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) و(إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا فإن من بدت لنا صفحته أقمنا عليه الحد) وفي الذكر الحكيم: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، إن الكلمة مسؤولية، والمسلم مرتبط بها ومحيل إليها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#10 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
شاعرية مع وقف التنفيذ
د. حسن بن فهد الهويمل لن أعيد مقولة: الشعراءُ أربعة، بحيث أضعُ شاعرنا في موقعه المناسب، فلربما تأخذني العاطفة، لأقول: إنه يجري ولا يُجرى معه. وهو فيما أعلم من أزهد الناس بالثناء، ولو كان الثناء شهادةً بما عُلم. ولن أستذكر ما قلت من قبل، وكان مثار إعجاب البعض، وهو أن الشعر: موهبة أو اقتدار أو هما معاً. وكم من أدباء ألفوا الشعر: قراءة وتدريساً ومناقشةً وتحكيماً، فقالوه اقتداراً، ولم يقولوه موهبة، فجاء موزوناً مقفى، يحمل إيقاعاً ودلالة، ولكنه لا يحمل نبض الشعر. ولقد مللت من تكرار القول: بأن الشعر: موهبةٌ، وثقافةٌ، وموقفٌ، وأجواء. فإذا تخلف عنصرٌ من هذه العناصر الأربعة لأي عارض تخلف الشعر. وإذا اكتملت العناصرُ اكتمل الشعر. و(المتنبي) الشاعر الفذ، الذي شغل الناس، ونام عن شوارد شعره، له شعرٌ رديءٌ، يود محبوه أن يدسوه في التراب، وإذا أمسكوه فإنما يمسكونه على هون، وسبب ذلك تخلف عنصرٍ من تلك العناصر التي قد تكون مفقودة عند الأكثرين من الشعراء. ولما كان الشعر كالجمال والحب والسعادة لايُعرَّف، فإنه معهودٌ ذهني لا تكاد تخطئه العين. واختلافُ النقاد حول التجريب الشكلي أو الانزياح اللغوي، أو ما شئت أن تقولَه عن التحولات التي خَرجت بالكلام إلى مضائق الإبهام والانقطاع والانطفاء، كلُّ ذلك يصبُّ في اختلاف المفاهيم حول الشعر. ومن قال بأن الشعر وزنٌ وقافيةٌ واجهه المعارضون بالنظم العلمي. ومن لم يقلْ ذلك يواجه ب(القصيدة النثرية). ومثلما اختلف السلف والخلف حول مفهوم أدبية (النص الأدبي)، اختلفوا كذلك حول مفهوم شعرية (النص الشعري). ولو رحتَ تسأل: ما الشعر؟ لتقطعت بك الأسباب، مع أن مفهومه أقرب إلى العربي من حبل الوريد، ولكن التمحل أبعد النجعة، وأخرج التجريب الشعري من دائرة الشعر إلى دوائر أخرى، فكان قولهم كما تفسير (الرازي) فيه كل شيء إلا التفسير. أقول قولي هذا تمهيداً للوصول إلى نقطة لقاء، تؤجل المشكلة الشعرية، ولا تحسمُها، لأن في حسمها قطعاً متعمداً لأرزاق النقاد، وكما قيل: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق). وحين نَقْدر على تأجيل المشكلة، نعود لنبحث عن موقع شاعرنا (عبدالله بن صالح العثيمين) في هذه المعمعة. والشاعر أيُّ شاعر قد يقوَّم من خلال لغة الشعر، أو من خلال شكله، أو من خلال صوره وأخيلته، أو من خلال مضامينه. وكل ناقد يلقي بأدواته في زاوية من زوايا الشعر التي تتسع لكثرتها والتوائها وتنوعها لكل قائل، يود أن يقول ما يعقل وما لا يعقل، وما يفهم وما لا يفهم. ولأن الذوائق تختلف فقد يقال عن أي شاعر ما يصعد به فوق هام السحب، ويقال عنه من فئة أخرى ما يهوي به في مكان سحيق. وقضايا الأدب مفتوحة على كل الاحتمالات، لأنها ليست عملية رياضية، ولا حكماً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت. ولهذا فالنقاد في حل مما يقولون، متى حاموا حول الحمى. والشعراء مع النقاد كما (كثير عزة) مع محبوبته، يودون أن يكون ما استحلوا: (هنيئاً مريئاً غير داء مخامر). ومع أن مناسبات التكريم تستدعي ذكر محاسن المُكَرَّم كما الأموات إلا أن ما بيني وبين الشاعر يجعلني في حل من ذلك، والذين لايعرفون ما أنا عليه من الخلطة، يتصورون أنني جئت لأبني له قصوراً من الثناء. ومع أنه شاعر لا غبار على شاعريته، إلا أنه لم يشأ أن يكرِّس نفسه في مشاهد الأدب على أنه شاعر وحسب، وحين تتعدد إمكانيات الإنسان يصبح نهباً لها، وقدرُ الأدباءِ المتعددي المواهب والإمكانيات أن الناس يذودونهم عن الموارد. فالشعراء يقولون: إنه مؤرخ، والمؤرخون يقولون: إنه شاعر، والأدباء والنقاد والكتاب يفعلون مثل ذلك، ومن ليعيش كما الأعراف. غير أن شاعرنا ومؤرخنا وأديبنا (عبدالله العثيمين) لم يأبه بالمقولات، فهو لا يبحث عن المواقع، ولا يعنيه أن يذوده الآخرون، وكأني به يردد مقولة الأعرابي: (الصدر حيث أجلس). ولقد قلت من قبل: إن سمة (الشاعرية) حين يجود بها من يحترم المصداقية لا تعني التسليم بأن كل ما أبدعه الشاعر يأتي في ذروة التألق، وكيف يكون ذلك والنقاد الأقدمون يختصمون حول (أبي تمام) و(المتنبي) ويطلقون مصطلحات (الحكيم) و(الشاعر)، وقد يتساءلون: هل جيد شعره أكثر من رديئه؟ لقد سلموا بالرداءة، ولكنهم لم يسلموا بالغلبة، ومع ذلك ظل (المتنبي) شاعراً لا يبارى، وظل من قبله (أبو تمام) شاعراً لا ينازع. وبعد: أعيذها نظرات صائبة ممن يعنيهم أمر الشعر أن يحسبوا أن قولي هذا تمهيد لحملة نقدية جائرة ضد من يملؤني حباً وإكباراً. وأرجو - في الوقت نفسه - ألا يكون قولي من باب (وعين الرضى). فلقد عرفت الأستاذ الدكتور العثيمين منذ أمد طويل، وكنت من قبل أعده شاعراً لا يبرح رحابه، ذلك أن معرفتي به بدأت من كتاب (شعراء نجد المعاصرون) الذي صدر قبل نصف قرن، وكنت إذ ذاك شاباً أتوقد حماساً وثورة، وكانت موجة (الوحدة العربية) تعصف بالمشاهد، وكان شعره كما شعر (المتنبي) يجمجم عما في نفوسنا. إنه تعبير صادق عما ننطوي عليه من تطلع ملح إلى الوحدة العربية. وما كنا إذ ذاك ندري ما اللعب السياسية. ولما أن تبين لنا أنها (فن الممكن) تجرعنا مرارات الخطابات الثورية. لقد كان شعره ملتهباً، يكاد يرتمي في أتون القومية وخطابها التشنجي، ولما يزل يعاني من تفكك الأمة وتناحرها، وعجزها عن النهوض من عثرتها. والراصد لإبداعاته التي استهلها ب(عودة الغائب) عام 1401ه، وختمها ب(دمشق وقصائد أخرى) عام 1424ه، وجاء فيما بين هذا وذاك (بوح الشباب) و(لا تسلني) و(صدى البهجة) وهو شعر خصه لتقديم الفائزين ب(جائزة الملك فيصل)، المتابع لهذه الأعمال يحس بتحولات شعُورية ونضوج فكري. ولعل تخوم شعره قصيدة (بقينا كما كنا) التي تعد أقوى تعبير عن خطاب المرحلة التي تألق من خلالها، وهذه القصيدة من أوائل القصائد، وهي بكائية تجسد خطاب الستينيات الميلادية: (بقينا على مرِّ الليالي كما كنا فلم نستفد منها ولا غيرت منَّا) ولأنه قد اكتوى بالوعود الثورية الزائفة، وركض خلف سرابياتها فقد صاح في وجه اللاعبين بعواطف الشعوب: (أتى بالمنى الخضراء حين مجيئه وعوداً ولم يصدق بما كان قد منَّى) وجيل الستينيات من شباب العالم العربي كافة، من المحيط إلى الخليج وضع كل بيضه في سلة الخطابات الثورية، ومن ثم فوجئوا بخيبات أمل، قتلت فيهم كل التطلعات، وعلمتهم أن الممارسة شيءٌ، والخطابَ الإعلامي شيءٌ آخر. و(العثيمين) من ذلك الجيل الذي عايش السرابيات، وتكشفت له الأمور عن خيبات أمل. والشاعر لم يستحوذ عليه الخطاب السياسي، ولم يكن ممن يستمرئون جلد الذات، ولا مقاومة السلطة بالطريقة الانتهازية. لقد وجّه نقده اللاذع وسخريته المرة للأمة التي أسهمت في الانكسار، وفي مطولته (رسائل من الجبهة) ينحي باللائمة على الأمة التي غفلت عن ثغورها، وشغلتها المتع الزائلة عن معايشة الأحداث بروح جهادية. فهذا الفدائي المجاهد يسأل أمه: (ألم تزل حفلات الرقص دائرة والليلُ يقتلُه التهريجُ والزار؟) والشاعر راصد أمين لأحداث أمته، وناقد بصير، يضع أصبعه على مفاصل القضية، وإذ ضاقت نفوس الخيرين من قرارات دولية، تصدر تباعاً، ثم لا يكون لها أثر في صد العدوان، فإنه يعبّر عن ذلك الضيق في قصيدة (الحل السليم): (كلُّ القرارات التي صدرت وتعاقبت من هيئة الأمم بقيت كما كانت بلا أثرٍ لا خففت بؤسي ولا ألمي مفعُولها حبرٌ على ورقٍ ووجودُها ما زال كالعدمِ) إن شاعراً يحمل هم أمته، ويعاني من انكساراتها، ويسجل أحداثها، لابد أن يقترب منها، بحيث يطمئن على وصول رسالته واضحة، ومن ثم جاءت لغته سهلة ممتنعة. وظاهرة (السهل الممتنع) تمتد إلى المفردات والتراكيب، وذلك ما يمكن أن توصف به لغة الشاعر، فيها سماحةٌ وعفويةٌ وتلقائيةٌ، ولكنها تحتفظ بقدر وافر من الشعرية. لقد عرضت للشاعر تحولات دلاليةُ، فيما لم أجد تحولاته الفنية بهذا القدر، وإن كانت قصيدته (الأساطير) خير مثال على مجمل التحولات: الشكلية والفنية والدلالية، إلا أن تحوله من الاجتماعيات إلى السياسيات أقوى وأوسع، فلقد كان متناغماً في اجتماعياته مع (الرصافي) وبخاصة في قصيدته (بائسة) وقصيدته (ماذا يريد المستغيث) وهي قصائد تستثير، وتلوم، وتجسد واقعاً اجتماعياً غفل عنه كثير من الشعراء. ولقد اتخذ سبيله إلى الموعظة عن طريق الحديث على لسان غني بطرت معيشته: (ما للفقير المستغيث وما لي؟ أنا قد نعمت بثروتي وبمالي وترفعت عيني الكريمةُ أن ترى كفَّاً معذبةً تُمدُّ حيالي) وهي فيما أرى من أجمل القصائد التي تجسد واقع بعض الأثرياء، وفيها استدرار للعواطف بأسلوب جديد، تسامت فيه المعاني والتراكيب، فكانت القصيدة وثيقة إدانة للأثرياء الجشعين، وأسلوباً جديداً في معالجة الأدواء الاجتماعية. ولأن الشاعر يحمل هم أمته اجتماعياً وسياسياً، فقد كان الراصد والمتابع، وكأن شعره قد تحول إلى وثيقة تاريخية للأحداث. فهو مع ثورة الجزائر، ومع المقاومة الفلسطينية، ومع مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بغداد، ومع قضايا التحرير والمقاومة في جميع أنحاء الوطن العربي، يرصد، ويجسد، ويبدي استياءه من الصمت والتخاذل والتناحر، وكأنه موكل بقضايا أمته يذرعها جيئة وذهاباً. هذا اللون من الشعر المثقل بالهموم، لا تتاح له فرصة التحليق في فضاءات الخيال. إنه شاعر ملتزم بقضايا أمته، ومثلما التزم (الرصافي) و(عمر أبوريشة) و(بدوي الجبل) و(الشابي) وآخرون، فقد وقف شعره على تلك القضايا. ولم يفرغ لنفسه كما فرغ لها (عمر بن أبي ربيعة)، وأحسب أنه خص نفسه بالشعر الشعبي الذي رضي أن يجعله للهو البريء، وكيف لا يأخذ حقه من اللهو والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الأنصار: (يعجبهم اللهو)، لقد حجب عن الناس ذاتيات ممتعة، وحجب نفسه عن مجالات الغزل والسخرية، وارتهن نفسه في ملاحاة أمته. لقد كان في مواجهته لقضايا أمته عنيفاً متسائلاً: (قالوا: الخلافات القديمةُ سوِّيت وتبددت ظُلَم وحُلَّ المشكل ومضت دعايات الوفودِ قويةً لمظاهر اللقيا تَبُثُّ وتنقل أتوهموا أن الحقيقة تنطلي ومكامن الزيف المقنع يُجهل ما عاد سراً أمرُهم فليستحوا أن يطمسو أسرارهم وليخجلوا) نقد لاذع، وتحدٍّ سافر، ولوم عنيف، وكأنه في تساؤلاته ابن بجدة السياسة، يعرف خباياها، ويعي مغالطاتها، ويلوب (لوبياتها). قلت إنني عرفت الشاعر من خلال كتاب (ابن إدريس) الذي ترجم له وذكر بعض خصائصه الشعرية، وقدّم نماذج من شعره، وهو في سن الطلب، ومع هذا فقد بدت بوادر شاعريته واتجاهاته الموضوعية. يقول عنه ابن إدريس: (شاعر تعتمل في نفسه من خلال شعره عواصف الثورة) و (هو من الشعراء الناقمين على المجتمع الذي تُقَدَّسُ فيه الماديات وتُحْتَقَرُ المثاليات الإنسانية). ولست معه حين عدّه من شعراء البؤس والحرمان، إنه شاعر مناضل ضد الظلم الاجتماعي، ومناضل ضد الظلم السياسي، وخطابه في الاجتماعيات لا يختلف عن خطابه في السياسيات: ثورة عارمة، وتحد سافر، ومساءلة ملحة. وحين أقول بأنه: (شاعر مع وقف التنفيذ) فإن ذلك يعني أنه لم ينقطع للشعر، ولم يشأ أن يظل في ركاب الشعراء، فهو العالم المتخصص بالتاريخ الحديث، وبالتاريخ السعودي على وجه الخصوص، وهو الكاتب المتعدد الاهتمامات، وهو الأستاذ الجامعي المتألق، وهو المترجم لكتب الرحالة والمستشرقين، وهو المسؤول، والمستشار، وهو الإنسان المتواضع. وكثير من المفكرين والعلماء كانت لديهم مواهب فنية لم يتح لها النفاذ. - كان العقاد شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا مفكراً. - وكان الرافعي شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا أديباً. - وكان المازني شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا كاتباً. - وكان الشافعي من قبلهم موهوباً غلب الفقه على شاعريته، وقال في ذلك: (ولولا الشعر في العلماء يزري لكنت اليوم أشعرَ من لبيد) وكان (عبدالله بن صالح العثيمين) شاعراً، ولكنه شغل عن الشعر بالعمل الأكاديمي، والعمل الإداري، والتخصص العلمي، فكان لا يلم بالشعر إلا حيث يخلص من كل هذه المهمات، وهو حين يلم به لا يراه القضية الأهم، فهو متحدث يعبر عن مواقفه، وكاتب يجسد رؤيته، وما الشعر إلا قناة من عدة قنوات شُغل عنها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#11 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لوثات المشاهد الإعلامية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل المصاب بداء المتابعة للنجوى الإعلامية، بوصفه وعاء القول بكل مستوياته واتجاهاته وغثائياته وافتراءاته، يمضه درك الإحباط، ويؤرقه التناجي الآثم، فما من خائض في حديث أو كاتب لزخرف القول ينقض غزل أمته من بعد قوة أنكاثاً إلا يزكي نفسه، ويعدها من الأخيار. وما هو في الحقيقة إلا شقي الأمة وأشقاها، حتى لكأنه عاقر الناقة أو قاتل علي، وكيف لا يكون كأحد الشقيين، وهو الساعي بين الناس بالفساد والإفساد، وقدر الراصد لحراك الإعلام أنه لا يجد إمكانية الفرز بين الضالع في الخطيئة، والقائل بالتبعية، والعاجز عن التمييز يتجاوز بالإدانة إلى غير الضالعين، واتقاء الإساءة كاتقاء الفتنة. وحين لا يكون الاتقاءان، يستوي الناقض المتعمد والببغاء المردد، وسائر الفتن، وفتنة القول بالذات إذا أقبلت لا يعرفها أحد، ولا يرتاب منها أحد، وإذا أدبرت يعرفها كل أحد، ويفر منها فراره من الأسد، ونحن نعيش لوثة الإقبال الأهوج ولجاجة الاهتياج الأعزل من العل والألف، كما يقول (الشنفرى): (ولست بِعلِّ شره دون خيره أَلفَّ إذا ما رعته اهتاج أعزل) وما يتجشأ الكلمات الفارغة إلا الفارغون، والكلمة التي لا يلقي لها المتحدث بالاً، كما الرصاصة، متى انطلقت، مرقت، أو استقرت في صدر ظالم أو مظلوم، ومن استخف بها، تصيدته فيما تصيدت كمتخذ الضرغام بازاً لصيده، وما أشعل أوار الفتن إلا الإعلام المحيل إلى حرية التعبير، وما أضل الناس عن سبل الرشاد إلا الإعلام الذي يصنع ما يشاء لفقده للحياء، وما قوض شوامخ الأمة إلا الإعلام المدفوع الثمن، ولو رُشِّد القول، وكفت الألسن عن التناجي بالإثم والعدوان، لمارس الناس حياتهم، كما صنعتها تربيتهم، وجسدها تعليمهم، واقتضاها معتقدهم، وحملها إعلامهم، ومصميات الأمة من سحرة البيان والمنشئين في الحلية، الذين يقلبون الحقائق، ويكرسون المفاهيم الخاطئة عن سائر القضايا المتداولة، والمرحَّلة من عقد إلى آخر، والمعلوكة كما اللبان، من حقوق وقضايا ومذاهب ومصطلحات مصابة بوضر الحضارة المصدر من (ليبرالية) و(ديمقراطية) و(عولمة) وتلك شعارات تمثل الطعم الذي يلوح به من سلبوا (الحرية)، وصادروا (الحقوق)، ومارسوا نخاسة اللحم الأبيض، وأيدوا الأنظمة الظالمة. وما تلك الشناشن إلا بعض التغرير والاستدراج المتعمد من اللاعبين الكبار الذين ما فتئوا يوحون إلى السماعين لهم بما يربك المشاهد الإعلامية، ويشغل المصلحين والناصحين عن ممارسة مهماتهم في أجواء ملائمة، وشهوة الإعلام المستفحلة عند المندهشين بالآخر والمبتدئين غير الحذرين تقوم على تقويض ما أنجزته الطائفة المنصورة في آفاق المعمورة من ثقافة متوازنة، ودعوة حسنة، نبهت الغافلين، وأبانت لهم طرق الرشاد، وعلمتهم العفو والصفح، والغلطات المصمية تتمثل في الخلط بين (الإسلام السلفي) و(الإسلام المسيس) لتمرير اللعب، ولسنا في هذا التحذير من دعاة (نظرية التآمر) المتنصلين عن المسؤولية، ولا من المستبعدين للكيد والمكر، فالحياة رهينة الصراع عبر الكلمة أو البندقية، ومن أرادها برداً وسلاماً، فقد يؤخذ على غرة: (ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيها الأسد) والطيبون من الكتبة ومن دونهم يأخذون الوعد والوعيد على علاته، ولا يتثبتون، والأشد غفلة وسذاجة من يظنون أنهم بالسخرية والاستهزاء ينتصرون لقضاياهم، ويحققون الحضور المشرف، وما علموا أنهم بهذه (الغلوسات) إنما يخدعون أنفسهم، وما يشعرون، والجزر والمد في تداول الآراء يقتضي استحضار الثنائيات: الحسية والمعنوية، لا لتصعيد الحوار إلى الصراع، والصراع إلى الصدام، وإنما ذلك لاحتمال الأذى، وتحفيز النابهين على تغليب الحق على الباطل، والصدق على الكذب، والرفق على العنف، واللين على الفظاظة والغلظة، إذ لا مراء حول ثنائية التناقض أو ثنائية التلازم،{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(49) سورة الذاريات، وإذا كان بين ثنائية المحسوس تلازم مشروع، فإن بين ثنائية المعقول تناقض ممنوع. كالسلطة والتسلط، والكرم والإسراف، والحرية والعبودية، والفوضى، والانضباط، وكل شيء في الوجود له طرفان ووسط. {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29)سورة الإسراء، والمعضلة فيمن يقرر الوسطية والتطرف، وهي معضلة تمتد إلى من يقرر الثوابت والمتغيرات، والاختلاف المعتبر وما علم من الدين بالضرورة، والمحظور والمباح. والناس مستخلفون على ما في أيديهم، ورعاة في مواقعهم، وكل مكلف على ثغر من ثغور الأمة التي ينتمي إليها والحضارة التي يتشكل من خطابها، وما من خلل إلا وراءه جهل أو تقصير أو عمالة أو مروق، وسد الخلل رهين التغيير {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، والتغيير المواكب لتحولات الحياة المنسجم مع إيقاع المقاصد غير التهافت على سراب القيعان، وإتيان البيوت من أبوابها أفضل من تسلق المحاريب و(فقه الأولويات) من المعارف الغائبة، وحين تكون المسائل نسبية فإن الحق واحد، لا يتعدد، ولا يتناقض، قد تتعدد الآراء تبعاً لنظريات: التلقي والتأويل والمعرفة، ولكنها لا تتناقض، وإشكالية (النسبية) تمد بالغي كل من ألجمه الحق، ومتى أحصروا وجدوا في فسح الثنائيات والنسبيات والتأويلات مجالاً لمطل الحق، وتصعيد الاختلاف المفتعل قد يؤدي إلى اقتتال الطوائف المؤمنة عبر أفرادها، حتى مع الاختلاف المعتبر، فضلاً عن المفتعل، على الرغم من أن كافة الطرق تؤدي إلى (روما) متى كانت متوازية لا متعاكسة، واقتتال المتناحرين بالألسن والأقلام ليس بأقل خطراً من الاقتتال الحسي، وواجب المقتدرين الإصلاح، وعند البغي يلزم صد الباغي، ولوثة المشاهد الإعلامية من كتاب ينقصهم التأصيل والتحصيل، وهو نقص يؤدي إلى الخلط بين الثوابت والمتغيرات والأفكار والعقائد، والخوض في قضايا (الفقه الأكبر) مع جهل نواقض الإيمان، وحديثنا عن لوثة المشاهد الإعلامية يستدعي النظر في اللغط المستحر حول مفردات الفكر الإسلامي ورجالاته، فما من منجز إسلامي سابق لأحداث (الحادي عشر من سبتمبر) إلا وهو مجال للتشكيك والاتهام والتحميل، وقد يتجرأ المتسرعون على تصفيته: ذاتاً أو سمعة، دون أن يطرحوا بديلاً قابلاً للمساءلة، وكأن الكتبة موكلون بتقصي مفردات الدين وأعيان العلماء والدفع بهم إلى درك الاتهام والتشكيك والتصنيف، تمهيداً لتصفية السمعة والمشروع معاً. وبصرف النظر عن دوافع تلك الحملات الظالمة والعنيفة والمتواصلة فإنها تصب في سلال الأعداء، وتمكنهم من رقاب الأبرياء: دولاً كانوا أو فئات أو أفراداً، وإشكالية حملة الفكر الإسلامي أنهم باقون فاعلون منذ أن قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم ![]() والأحكام والضوابط والمسالك والمدارك مرتهنة للكلام، حتى تأخذ طريقها إلى التفعيل، ولا يتم شيء من ذلك إلا من خلال الامتثال الطوعي أو الرقابي، والذين لا يعرفون السلطة، ولا يحترمونها، لا يعرفون الحرية ولا يتمثلونها، وكل مجتمع مدني محكوم بسلطات: الدين والسياسة والمجتمع، وقد تند واحدة من هذه السلطات، فتكون تسلطاً محضاً، أو تكون خليطاً من السلطة والتسلط، ونزع السلطة أخطر من نزع الحرية، وجنوح السلطة إلى التسلط أهون من جنوح الأمة إلى الفوضوية (ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية)، والسلطة الجائرة أفضل من الفراغ الدستوري. والمتابع ليس بحاجة إلى أن يفتش في صفحات التاريخ القديم، فالأحداث الحية الماثلة من حوله أكبر شاهد، وكل من قال ما يعن له، دون النظر في ضوابط حضارته وأولويات قومه وخصوصية عشيرته يحول الحياة إلى فوضى (وجودية)، أو إلى عبث (سريالي)، أو إلى ضياع (بوهيمي) وتلك مصادر اللوثة الطارئة على المجتمع، ومع أن من المصلحة أن يكون الخصم ألج من الخنفساء، وأهجي من الحطيئة، إلا أن الأولوية في إرشاده وكسبه، فذلك أحب إلى المحتسب من حمر النعم، وقدوة المحتسب رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي أغري به السفهاء والعبيد، ولم ينتقم لنفسه، بل ظل يدعو لقومه بالهداية ويعذر لهم، ويوم أن ظفر بهم، وتمكن من رقابهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكلما طلب منه قتل المعارض قال: لا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#12 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لوثات المشاهد الإعلامية..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومثلما استشرى داء الطفرة، وأصاب الأحداث والمراهقين بفيروس الاسترخاء والترف والاتكالية واللامبالاة والتكسير، فقد استشرى داء التمرد والفوضوية، فأصاب المشاهد الإعلامية بلوثة اللغو والجهر بالسوء، والسخرية والاستهزاء والتنقص من الخصوم واتهامهم بالرجعية والماضوية والتخلف والجمود والجهل، وقد تولى كبر ذلك من هم في سن المراهقة الكتابية ومن امتد معهم التصابي والتعاظم والادعاء، حتى فاضت أنهر الصحف بفضول القول المغثي، وحتى كدنا نعد البعض منها صحفاً فضائحية، لا تجد سوقها الرائج إلا في التحريش والتهويش واللجاج. وقد يحمل الصلف والاستعلاء بعض الكتبة على افتراء الكذب، والتقول على المخالف كل الأقاويل، واستباق المشاكل التي تهيج الرأي العام. والمشهد الإعلامي بهذه الفوضوية وذلك الانفلات لا يؤسس عليه، ولا يجس نبض الشارع من خلاله، لأنه يعيش حالة من الاهتياج والانفلات. وإذ يكون من المحامد ألا تكون هناك رقابة صحفية، وأن تكون هوامش الحرية واسعة لكل الحراك الفكري والثقافي والسياسي، فإن الإسراف في استغلال تلك الرخص بطرائق غير مشروعة مؤذن بالعودة إلى ضبط الإيقاع، وقمع التعديات، ومنع القراءات المريبة، والحيلولة دون تحويل الشائعات إلى حقائق، وتبادل الاتهامات، وتشكيل الجماعات الضاغطة. والمتابع للحراك الفكري والثقافي عبر المشهد الإعلامي يدرك الحيدة من الموضوعي إلى الشخصي، وتلك خليقة يخال البعض خفاءها، ومهما ظن البعض ذلك فإنها ستعلم من لحن القول. ومزبلة التاريخ ترقب كل مزايد على مثمنات أمته متطاول على كفاءاتها. والوقوع في المثمنات والكفاءات مؤذن بالتحول إلى درك التنازع المخل بالأهلية، وعند استفحال النقائض لابد من بوادر تحمي المشهد، وتقيل عثرته. ولا أحسب الامة بحاجة إلى (محكمة آداب) كما فعل (السادات) ولا إلى إعادة الرقابة الرسمية، التي تقيد حرية التعبير، ولا إلى لجنة إعلامية تفض المنازعات، وإنما نحن بحاجة إلى رصد دقيق لخطل القول، وتوعية رفيقة لمن لا يسيطرون على انفعالاتهم من (ساديين) و(مازوشيين) و(نرجسيين). فعندما يتدخل (رئيس التحرير) أو من دونه من ذوي الخبرة الصحفية بطريقته الخاصة وبخبرته المهنية، ويلفت نظر الذين لم يهدوا إلى الطيب من القول، ولم يوفقوا إلى القول السديد، وسيتثير فيهم كوامن القيم الأخلاقية، وحق الأخوة الإسلامية، ويأخذ بأيديهم لا على أيديهم، يكون ذلك سبيلاً من سبل محاصرة اللوثة الصحفية. ولو أننا استطعنا معالجة الجنح أولاً بأول، ولم ننظر إليها على أنها عوارض قابلة للزوال الطبيعي، أو أنها في إطار حرية التعبير، لما استفحلت اللوثة والغثائية بهذا الشكل، ولما استمرأها البعض، ولما استعديت السلطة من المتضررين لحفظ حقوقهم، وهل من المعقول أن يبلغ العنف والصلف والتعنت من البعض إلى حد استعداء الدولة لترويض جماحة من أفراد متضررين أو من جماعة محتسبين. ومتى أحلنا كل تطاول على المبادئ والقيم والأعيان إلى حرية التعبير، دخلنا نفق التناجي بالإثم والعدوان، مما يتحاماه ذوو الأعراض المصونة، ويرتع فيه من سواهم، وذلك ما نخشاه، إن لم نتدارك الأمر. لقد أضر بنا فهم (الحوار الحضاري) على يغر أوصوله، وفهم (الحرية) المشروعة على غير ضوابطها، وفهم (الحقوق الإنسانية) على غير وجهها فكان أن استشرت النقائض. ف (الحوار) لا يعني التنازل عن الثوابت، وخلط الملح الأجاج بالعذب الفرات لا يمت إلى التحضر بصلة، (الحرية) لا تعني مطلق التصرف، و(الحقوق) لا تعني ترك الإنسان يفعل ما يشاء، يأخذ ما له ولا يعطي ما عليه. فالحدود والتعزيرات والعقاب والثواب والقوة والعدل قيم حضارية ودينية، والوازع: ديني وسلطاني. والأخذ على يد السفهاء وأطرهم على الحق مبدأ إسلامي، وإنكار المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب أمر يقتضي الوجوب، ودرء الحدود والعفو والرفق واللين قيم إسلامية، لا يجوز تغييب شيء من ذلك باسم الحرية أو الحقوق. واشتغال المبتدئين بالقضايا المصيرية، وتعملق الأقزام بحجة نحن رجال وهم رجال مضيعة للجهد والمال والوقت وفي النهاية: لا يصلح الناس فوضى لا سرات لهم ولا سرات إذا جهالهم سادوا وما أضر بالأمة وقضاياها إلا المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق. وأمريكا التي يستقبلها مثقفو (الغربنة) ومختلسو مناهج المستشرقين وأفكارهم والحالمون ب (الليبرالية) و(الديموقراطية) هي التي أجهضت الحرية، وعبثت بحقوق الإنسان. وآخر شهادة تتداولها وكالات الأنباء ما نشرته (منظمة العفو الدولية) من أن الكرامة الإنسانية سقطت ضحية الحرب الأمريكية على الإرهاب، بسبب ما تمارسه (واشنطن) من انتهاكات خطيرة لكافة الحقوق الإنسانية، منها على سبيل المثال: وسائل التعذيب، واختفاء شخصيات وطنية، وإطلاق صواريخ وقاذفات على منازل مشتبه بها، ومعاملات غير إنسانية في السجون والمعتقلات، وتدنيس متعمد لمقدسات العالم، واستفزاز وقح لمشاعر المسلمين. وعلى الرغم من التعري الصارخ للتعدي والتحكم والوصاية نجد طائفة من الكتاب يشايلون الخطاب الأمريكي، ويرون فيه حمامة سلام وبلسماً لجراح الأمة المهيضة الجناح، وما علموا أن الصهيونية العالمية تسيطر على (المال) و(الإعلام) وأنها جادة في أجهاض المشاريع الإسلامية التي تتبناها مؤسسات الدولة وجمعيات المواطين الخيرية، وفي مواجهة هذا التعنت والتدخل السافر في أخص الخصوصيات يجنح العقلاء المجربون إلى السلم والدفع بالحسنى والاتقاء قدر المستطاع، مفضلين ركوب أهون الضررين. ولست أدري ماذا سيخرج به أصحاب ثقافة التملق والانحناء والصدمة الحضارية الذين ما فتئوا يمطرون مفردات الإسلام ورجالاته بوابل من الاتهامات التي تصب في ملفات الادعاء الغربي ضد الإسلام؟. ولست أدري هل قرؤوا الخطاب المفتوح للسعوديين من (تانباسي هسو) فاستجابوا؟ وهل آلمتهم الركلات التي يستدبرهم بها (حيراند بوزنر)؟ أم أن جراحهم ميتة ليس فيها إيلام، وأنهم سيظلون كما الأطفال أمام الحركات البلهوانية لمّا يفيقوا من الانبهار المتحبس والاندهاش المتخلف. أن يسبقنا الغرب في ظاهر الحياة الدنيا، وأن تكون مكتشفاته محل تأمل ومجال تفكير، فذلك الحق الذي لا يكابر به إلا معاند، وأن ننبهر ونفقد التوازن والسيطرة ونعيش ذهول الصدمة، فذلك الخسار والبوار، والمأزقية في تشابه البقر، وثقافة اليأس، وجلد الذات، وتلك خليقة المستغربين التي نواجهها. والذين يرمون بثقلهم في مواجهة ما يسمونه ب (الإسلامويين) يخلطون الأوراق بشكل يشي بأن وراء الأكمة ما وراءها، إذ لا يفرقون بين من يحيل إلى الكتاب والسنة، ومن يحيل إلى فكر الطائفة ورؤية الفرقة، ومن هو على المحجة البيضاء، ومن هو تائه في بنيات الطريق، وفي المقابل نجد من الإسلاميين من يخلط في مواجهته بين (مثقفي المارينز) وطلاب القيم الحضارية التي أنتجها الإنسان في ظل أي حضارة. والمزعج والمريب أن بعض الكتاب لا تراه إلا مستهزئاً بالخيرين مستعدياً على مؤسسات الدولة ذات المهمات الإصلاحية، وعلى الجمعيات الخيرية ذات الفعل الإنساني، وحجة أولئك الداحضة بوادر أخطاء في التطبيق، لا تضاف إلى المبادئ، ولا تخرج عن المتوقع والمعقول، وإنما هي ممارسات تطبيقية مفضولة وظواهر طبيعية متوقعة. وكان الأجدى بهذا النوع من الكتاب أن ينطلقوا من حضارتهم مصلحين مجددين، لا أن ينطلقوا من مستنقات الآخر، ملوثين لمن حولهم، وألا يروا مستهزئين بالمظاهر، كالذين قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا...) أو مستعدين للسلطة، وكأنهم موكلون بالقعود للخيرين كل مرصد، إن هذا اللون من اللغط إمداد لأعداء الأمة، وتمكين لهم من رقابها، إذ كل ما تمسك به المؤسسات الغربية المعادية، وتعده حجة دامغة، إن هو إلا ذلك الطفح الرخيص من افتراء الكذب. وحين نحذر من النبش فإننا لا نمنح أحداً قداسة ولا عصمة، ولا نرى لمخلوق مكانة فوق النقد والمساءلة، ولكن نقد الذات يختلف عن جلدها، إن واجبنا جميعاً أن نواجه أعداء الأمة التي لا تفرق بين مداهن ومنافح، وأن نعرف أن مثمنات البلاد الحسية والمعنوية مستهدفة، وأن القبول باتهام الإسلام بصناعة الإرهاب شهادة من الأهل، يطير بها المتربصون فرحاً، ويعودون بها وثائق إدانة ومساءلة. لقد لُملمت أطراف الإرهاب والتطرف بعد هدم (البرجين) ووضعت في سلة الإسلام والمسلمين، ومؤسساتهم التعليمية والدعوية وجميعاتهم الخيرية، واستجاب لهذه الفرية بعض الكتاب الذين يحملون العلم على ظهورهم، ولا يستظهرونه في عقولهم، ولا يتمثلونه في سلوكهم، ومن ثم استدعيت كتب وشخصيات ومناهج وجمعيات يخدم فيها الإسلام والمسلمون. وكان حقاً على المرجفين أن يفرقوا بين الإسلام السياسي، والإسلام المسيس، وإسلام اللعبة الكونية، وإسلام الكتاب والسنة. ولو أنهم فعلوا ذلك لما وسعهم إلا تبرئة الإسلام والمسلمين من أي اعتداء لا مبرر له ولا شرعية. والإعلام الأمريكي المتصهين الذين يقود حملة التشويه صدرت من بعض مؤسساته الحيادية دراسة، تؤكد بالأرقام أن الهجمات الانتحارية لا يقوم بها مسلمون فقط، وأن أكثر من يقوم بها هم (الهندوس) وبخاصة (هندوس سريلانكا) الذين يسمون أنفسهم (نمور التأميل) كما أن أول هجوم انتحاري في التاريخ قام به اليهود، وذلك من أشار إليه (روبرت بيت) أستاذ جامعي أمريكي متخصص بالإرهاب. ومشهدنا الصحفي لا يعاني من (أزمة ثقافية) ولكنه واقع بطوعه واختياره في (ثقافة الأزمة)، بمعني أننا نتهافت على بؤر التوتر، وننقب عن الملفات الساخنة، وما من أمة ولا جماعة ولا أفراد إلا ولديهم من المشاكل والقضايا العصية ما لو عملوا على استدعائها لألهتهم عن كل عمل جاد، وفي الأثر (الفتنة نائمة) وهذا يؤكد أن الفتن موجودة، ولكنها نائمة، ومن الخير للإنسان السوي ألا يوقظها، ونبش القضايا النائمة تمثل ثقافة الأزمات. وكم نسمع ب (ثقافة الكراهية) و(ثقافة الموت) و(ثقافة الخوف)، وثقافات مضافات إلى ما لا نهاية، وهي كلمات تطلق على وقوعات لا على مبادئ. وكأنها الفتن التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة، ولو مُعجمت هذه الثقافات من خلال مقالات المرجفين، لكنا المصدر والمورد لكل الخطيئات، وكأن الله خصنا بهذا اللون من الثقافات. وليس من باب الصدفة أن تضاف كل هذه الثقافات الموبوءة إلى الخطاب الإسلامي المحلي، بوصفه الخطاب الفاعل والمؤثر، وقمعه يفتح ثنيات على حمى الله، والخطاب الإسلامي الرسمي المؤسساتي يمارس حق الدفاع عن نفسه، وليس مسؤولاً عن إسلام اللعب السياسية والتسيس (التكتيكي)، وهذه الإطلاقات التي تخلط الأوراق ماكرة بكل المقاييس، تلقاها السذج والمغفلون، وحسبوها من عند خطاب أمتهم. ولكي نجتاز المختنقات يجب أن نعدل عن نبش القضايا التي لا يشكل غيابها عائقاً لمسيرتنا الحضارية. وأن نشغل أنفسنا بإصلاح ذات البين، والتقريب بين وجهات النظر، وأن يكون نقدنا كما كان نقد الرسول صلى الله عليه وسلم (مالي أرى أقواماً..). ومتى اختلفنا في وجهات النظر، وجب علينا الرد إلى أهل الذكر وأرباب الحل والعقد، ممن يردون إلى الله والرسول، ذلك أن مصلحة الأمة في الالتفاف بجماعة المسلمين، واحترام العلماء الناصحين، والتقارب في وجهات النظر، ونبذ الحديات والتوترات، وتبادل الاتهامات. ويد الله مع الجماعة، والشذوذ مؤذن بفساد كبير، إن الراصد الحذر تتبدى له اللوثة بأبشع صورها، فالكتاب لا ينفكون من إثارة القضايا الساخنة، وتحميل التيار الإسلامي وحده مسؤولية الإخفاق والتوتر، وخطأ التشخيص يؤدي إلى مضاعفة العلة، وذلك ما نراه رأي العين في المشهد الإعلامي محلياً وعربياً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#13 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..! (1-3)
د. حسن بن فهد الهويمل الراصد لكافة المشاهد الأدبية والسياسية والفكرية، يشد انتباهه ذلك التثوير المتعمد لقضايا قتلت بحثاً، وتفرق أهلها أيدي سبأ، والناجون منهم لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول. والمصيخ لنجوى المختانين أنفسهم، يرتاب من استدعاء القضايا المحنَّطة، وبعثرة أوصالها على يد كُتاب لا يعرفون من الأشياء إلا رسمها ولا من الأفكار إلا اسمها، ولا يدرون كم تحت السواهي من الدواهي، ونكارة الاستدعاء أنه يأتي في ظروف بلغ فيها السيل الزبى، وطمع في مثمنات الوطن من لا يدفع عن نفسه، حتى لقد همّ الشجي أن يصيح: (إذا كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولمَّا أمزق) ومثل هذا التثوير والاستدعاء مؤشرٌ على سوء التوقيت والتقدير. فالعقلاء المدَّكرون المدركون للعواقب المشؤومة، يتخولون الظروف المناسبة والأجواء الملائمة، ولا يدفعون بأطياف الأمة إلى بؤر التوتر، ومضائق التلاحي، ومقترفات التنافي. وكل رفيق مشفق على تماسك أمته، حريص على وحدتها الفكرية وترابط جبهتها الداخلية، له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فهو لا يمارس عمله الدنيوي ولا اجتهاده الشخصي إلا بعد الاستخارة والاستشارة، وهو مع المقترفين من الرحماء، لمعرفته بالضعف الإنساني، حتى أنه يفرق في المساءلة بين أقوياء الإيمان وضعفائه، كما في قصة الثلاثة الذين خلّفُوا. وهو كذلك يفعل في الأعطيات، كما في أحداث (غزوة حنين) وكما يفعل مع المؤلفة قلوبهم حتى لقد أصبحوا من أهل الزكاة، وهم الذين أسلموا، ولم يؤمنوا، أو الذين يعبدون الله على حرف. وهو في الحدود يندب إلى الستر، ويتوخى التلقين ب(لعلك قبَّلْت..)، ويلوم الدافعين للاعتراف بالذنب والحائلين دون التراجع عنه. وهو لا يريد مواجهة الأخطاء التي يقع فيها أصحابه أو مصاحبوه من المنافقين، مخافة أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وهو في المواقف الحرجة يجنح للسلام واللين ورأب الصدع. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وفي الإسلام فسح (الاتقاء) وقبول (الإكراه) مع اطمئنان القلب بالإيمان، و(العدول) عن سبّ معبود الآخر إذا ترتب عليه سبّ للذات الإلهية عدواً بغير علم، وأحسب أنه من الانتهازية والمزايدة الرخيصة التهافت على القضايا المختلف حولها، وتحويلها إلى حدِّيات صارمة، وما ذاك إلا لتصور البعض أن الرياح تهب لصالحهم، وأن مثلهم كمثل المرخي عمامته الذي استغاث به (أبو حرزة): (يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا) وكأنهم بهذا التهافت يغتنمون الرياح قبل أن تسكن. وإذا حُفَّت الأمة بالأعداء المتربصين، واستبطنت بفئات ضالة مضلة، وكيلت الاتهامات الجائرة لمناهجها، وقادتها، وحركتها الإصلاحية، ودعاتها، ومؤسساتها الإسلامية، وإسهاماتها الداعمة للأقليات وللمراكز الإسلامية، فإن واجب حملة الأقلام أن يهبوا للدفاع عن بيضتها، وإن لم تطاوعهم أنفسهم، فلا أقل من الصمت، وذلك أضعف الإسهام. ومن البلية أن يلح البعض في التنقيب عن القضايا المعترك حول مشروعيتها، والممكن تأجيلها، وبخاصة ما يود الأعداء اختراق سيادتنا من خلالها، وأن يتذرع مُنْكُئو الجراح بدعوى الإصلاح، سواء في ذلك ما يتعلق بقضايا السياسة أو الدين أو المجتمع أو الفكر أو الأدب أو غيرها من الدعاوى التي تبدو في ظاهرها الرحمة، وبعض هذه المقترفات مظنة الاتهام بالمواطأة. إذ ما الفرق بين كاتب يعمم في الاتهام، ويوغل في التشكيك، ويتشفى بالتنقص، ويحمِّل المبادئ مسؤولية الممارسة، وإعلام مغرض يروِّج التهم ذاتها. أهذا من باب وقوع الحافر على الحافر؟، أم هو من باب كلُّنا في الهم غرب. ومع الشنآن لهذه الخلائق، فإن العدل والمصداقية تحملاننا على عدم الجزم بالاتهام، لكن الشنشنات لا تخلصنا من هاجسه. والذين يتعشقون نبش المسكوت عنه، وضرب السوائد المشروعة، والتحريض على قطع الصلة بالماضي، ووصل الحبال بأفكار الآخر وأخلاقه لا بعلمه وأشيائه (التقنية) ثم لا يحترمون مشاعر (الرأي العام)، إما جهلة أو مغرضون. والرسول صلى الله عليه وسلم احترم (الرأي العام)، وقدره قدره، حين دخل مكة، وفكر بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ولم يمنعه من ذلك إلا أن قومه كانوا حدثاء عهد بكفر، ولو كان مصير الأمة مرتبطاً بتغيير البناء لفعله، ولم يبال. والمملكة حين قامت بتوسعة الحرم المكي الشريف، أبقت على (مقام إبراهيم)، مع ما يشكله من عقبة في المطاف، وأبقت على (أروقة الحرم) التي بناها الأتراك، مع أنه من المصلحة العامة إقصاء (المقام) وإزالة (الأروقة). وكل القادة والعلماء والمفكرين الناصحين لعقيدتهم الرحماء فيما بينهم يرفقون بمشاعر العامة، ولا يتعمدون الاستفزاز، وبخاصة حين تكون الأوضاع غير ملائمة، أو حين تكون القضايا من الثانويات المؤجلة. وهل أحد لديه أدنى شك في سوء الأوضاع العالمية، وعدم احتمالها لمزيد من نشر الغسيل. والمخلصون المجربون من يتفادون استدعاء أي قضية لا تشكل عائقاً لمسيرة الأمة، إذا كان في استدعائها إثارة للخلاف أو الخوف، وليس من المصلحة ضرب الرؤوس بعضها ببعض، وتأزيم المواقف بين فئات الأمة، والتمتع بصخب التكسير، مهما كانت العوائد. وجمع الكلمة مقدم على كثير من المصالح العامة، ومقدم على كل المصالح الفردية. وفي الحديث الصحيح (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم) وقال في حديث آخر: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، وإذ نحمد الله على أن الخلاف لا يمس العلاقة بين الأمة والقيادة، فإن استدراج الرأي العام قد يقحم السلطة في الأزمة، وقد أقحمها في كثير من القضايا الثانوية، فضلاً عن الأولوية، والتناوش الصحفي يكاد يحتنك الهيبة والاحترام المشروعين. ولحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على وحدة الأمة وتماسكها نهى عن المنازعة وأمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، وألا ينازع الأمر أهله، ولكنه مع حرصه على جمع الكلمة، ولمّ الشمل، لم يترك الأمر على إطلاقه، بل حدد مسوغات الخروج بالقول أو بالفعل على ولي الأمر الجائر أو المخالف، بقوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) وانظر إلى عدد من اللطائف التعبيرية التي غابت عن كثير من الناس: كقوله: (تروا) ولم يقل (تسمعوا) وربط الكفر (بالبواح)، وهو الظهور والمجاهرة، إذ ما خفي أمره إلى الله، وربط (البرهان) بالله دون غيره من العلماء، وأجمل اللطائف قوله (برهان) ولم يقل (دليل) ذلك أن (البرهان) لا يكون حتى يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فيما يأتي (الدليل) بنص احتمالي الدلالة والثبوت. فإذا اختلف العلماء حول الدلالة أو الثبوت، فلا برهان. وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أعلام الأمة مليئة باللين والرفق والرأفة ودرء الحدود، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم، وكل من أطلق لقلمه ولسانه العنان في القضايا المختلف فيها والمسكوت عنها والمثيرة لمشاعر العامة لم يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة قدوة له. ومن المصميات ألاَّ يتوفر المزايدون على أدنى حد من المعرفة، وأشد من هذا وذاك التعالم، والتسلط، والتزكية، وشرعنة الفعل، ووصم المخالف بالتخلف، ووصف الصدمة الحضارية بالإعجاب البشري المشروع. والذين يحيلون إثاراتهم على الإصلاح والنصيحة والتصحيح، يغالطون أمتهم، فما من عالم ناصح أو مفكر واعٍ إلا ويحمل همّ الإصلاح والنصح والتصحيح. ولكن الإصلاح لا يكون بالتعالق المطلق مع الآخر، ولا يكون بالاقصاء والاستعداء، ولا بإدانة المبادئ، ولا بتحريف المفاهيم، ولا يكون في قلب الحقائق، ولا يكون بالتشايل مع الإعلام الخارجي المغرض، ذلك أنه إعلام موجه، لا يريد بالأمة إلا الضعف والفساد والتناحر. وهل عاقل يتصور أن أعداء الأمة يريدون لها القوة: المعنوية والحسية؟ وكيف يودون ذلك؟. والقوة المعنوية متمثلة بالإسلام الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبوحدة الأمة الإسلامية بكل فرقها ومذاهبها، والقوة الحسية متمثلة بأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، وما من عاقل مجرب أو متابع حذر يتصور قبول الصهيونية العالمية المتحكمة بوسائل المال والإعلام، ومن يشاركها الهمّ، ويشاطرها المسؤولية باستكمال القوتين: قوة الاقتداء والوحدة، والإعداد. وهل ما نتلقاه من الغرب بطوعهم واختيارهم يحقق لنا التوفر على القوتين؟ وهل حضوره العسكري والسياسي والإعلامي في مشاهدنا العربية والإسلامية ينطوي على خير للبلاد والعباد؟. ومتى سلمنا بسوء نواياه، وجب علينا أن نتخلى عن أي جدل يفضي بنا إلى الشقاق والتنازع. ومع أن الحق أبلج، فإن مصلحتنا في الكف عن منازعة الأقوياء، ما لم تضطرنا الأوضاع المتردية إلى قتال الدفع، ومتى اضطررنا إلى فك الاختناقات، فإن علينا الدفع بالتي هي أحسن، والجنوح للسلام، واتقاء الأقوياء المتغطرسين بالقدر المباح من التنازلات، {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}. وإذا كانت بوادر حضور الغرب في مشاهدنا لا تبشر بخير، فلماذا نبشر به، ونطرد الغربة عنه، ونطمئن إليه، ونحتفي برموزه من فلاسفة ومفكرين لا يقيل استدعاؤهم عثرة الأمة، ونهيئ للمعتدي الأجواء الملائمة لجمع الغنائم وطول البقاء، ولماذا نضيق بالمحذرين والمتحفظين على وجوده المطلق، ولماذا نخلط بين الإرهاب والمقاومة، وإسلام اللعب وإسلام السلف؟ ولماذا نبادره بإثارة القضايا التي يخادعنا بها؟ وتلك الإثارات تمهد الطريق له. لقد بدت نواياه ليس فقط من لحن القول، وإنما بدت من مباشرة الفعل والاحتلال المعلن بالقوة. ولسنا بمواقفنا المتحفظة نجهل قيمه ومنجزاته، ولا نحول دون الأخذ مما عنده، فحضارة الغرب منطوية على إيجابيات كثيرة، يستأثر بها وحدة، ولا يجود بفضله الكأس على من ظلوا يتغنون بأمجاده، وهو يشرب. والمدنية بادية للعيان في أنظمته، وتعليماته، واحترامه للدساتير والقوانين، وسعيه الدؤوب في مناكب الأرض للحرث والزرع والصناعة وبناء المعامل والمختبرات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية القوية المحْكمة الصنع والمحَكَّمة في الشؤون العامة والخاصة. ومن المؤكد أن ديننا يحثنا على اقتباس ما صلح من كل الحضارات، والسير في مناكب الأرض، والبحث عن المنافع الدنيوية، دون النظر إلى مصادرها، متى كانت عامل قوة واستغناء، ذلك أنها من ضوالّنا، وكثير مما عند الغرب من مقطوع وممنوع يعد من ضوالنا. فهل جاد طائعاً مختاراً بشيء منها؟. وهل أخذنا نحن بأحسنها؟ بل هل خلاَّ سبيلنا حين نمارس ما يحيينا، ويقوي جانبنا؟، وماذا استفدنا منه بطوعه أو ببراعتنا منذ (حملة نابليون) حتى (حملة بوش)؟. وهل شيء من أوامر الإسلام ونواهيه يحول دون تحقيق ما حقق الغرب من ظاهر الحياة الدنيا؟ بحيث نفكر في التحول عن ثوابت ديننا وهل قضايا المرأة وحدها التي تبني منصات الانطلاق لآفاق المعارف؟. والفرائض الغائبة، تتمثل: في جلب علمه، لا في جلب مدنَّيته، وجعله موضوعاً خاضعاً للمساءلة والانتقاء، لا مهيمناً يفيض علينا بما يحفظ لنا أدنى حد من العيش الذليل، ولا يسمح بوجود مستقل، لا يركن إليه، ورب عيش أخف منه الحمام. ومن الفرائض الغائبة تخاذلنا وعجزنا عن الاستفادة من جوانب حياته الجادة المنضبطة، وتخاذلنا وعجزنا عن تمثل الإسلام قولاً وعملاً. ومع التأكيد على أخذ الحذر وتوخي المفيد فإن من الأجدى والأهدى مصالحته ومعايشته ومبادلته المنافع، والحذر من تقديم مبادئنا وقيمنا وعقيدتنا قرابين لاسترضائه. وقبل ذلك وبعده، يجب أن نعرف كيف نصطلح مع بعضنا، لتكون لنا كلمة واحدة في المحافل الدولية، تدرء عنا انتهاكاته الموجعة. وها نحن نطيل القول في التوفر على أدبيات الحوار مع الآخر، ولم تحن منا التفاتة لنرى حجم التردي في حوارنا مع بعضنا. فهل نحن واثقون من نجاحنا في الحوار الذاتي؟ وهل يصلح الحوار مع الآخر، ونحن شيعّ يضرب بعضنا سمعة بعض، بل قد يضرب بعضنا رقاب بعض؟.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
#14 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
نعم حضارة الإسلام شمولية..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل كتب الأستاذ (محمد بن عبداللطيف آل الشيخ) في زاويته الأسبوعية (شيء من) 11 - 6 - 1426هـ متسائلاً عما إذا كانت الحضارة الإسلامية حضارة شمولية، ولم يرقب الجواب، بل بادر إلى النفي، وكان يجدر به إذ تصور نفسه الخصم والحكما ألا يقيم الدعوى، إذ من الفضول والتزيد أن تسأل وتجيب وتحكم. وليس مستبعداً اقترافه الأخطاء المنهجية. وكلمته المتسطحة بضاعة استشراقية لا ترقى لمنهجية المستشرقين ولا تضارع إحكام دعواهم، كلمة إنشائية مضطربة، تعتمد الابتسار، ولا تحسن الاستتار. وليس مزعجاً أن يعيد ما فرغ منه المستشرقون، فالإسلام صمد لصناديد الفكر، وأساطين الفلسفة، وجهابذة المنطق، أتوا إليه يجرون الجديد كأنهم مشوا بجياد ما لهن قوائم، وتكسروا تحت سفحه، كما الأمواج الملتطمة، وما زادوه إلا رسوخاً وثباتاً. والمخجل حقاً تلقف الراية بالرأي الفج والرؤية الناقصة.. ومصائد القضايا الكبرى في الإسلام أنها مرايا مقعرة، تكشف عن سمة المقتربين منها وعن مبلغهم من العلم. وما من كاتب سوَّلت له نفسه الاقتراب من جاذبيتها إلا تشظى في وهجها، وما هو في تقحمه إلا جرادة من جراد منتشر في سماء القضايا الحساسة، وكما ابتلعت المفازات أسراب الجراد، فإن فضاءات الإسلام قادرة على ابتلاع أي سابح فيها، وما حفزنا على الإجابة على تساؤله الإنكاري إلا أنه يشكل مع آخرين ظاهرة مريبة. وإلا فالحضارة الإسلامية ألفت هذه الموجات العاتية، وابتلعتها كما تبتلع الشواطئ أمواجها الأزلية، ونقض كلمته العشوائية أنكاثاً يكشف عن كاتب يفتقر إلى العلم الشرعي، والتأصيل المعرفي، ومنهج البحث العلمي. وهذا الإقواء أرتعه في نفاية المستشرقين، إذ لم يبتدر رأياً، ولم يفترس معلومة، وإنما وقع على بقايا من مفتريات من سلف منهم، وهو في إثارته الفضولية يشد عضد الذين أغثوا المشاهد الفكرية باجترار مقولات مهترئة، أكل عليها الدهر وشرب. والقول في الحضارة يختلف عن القول في مفرداتها، وهذا مكمن الخلل في تحرشه. فالمذاهب في الفروع، والطوائف في الأصول، والظواهر في الأفكار والنظريات في القضايا، كلها تضطرب وتتململ في جوف الحضارة الأم، كما البراكين في جوف الكواكب العملاقة، تثور ثم تخبو، وقد تتدفق حممها على السهول والمنحدرات، فتشكل جبالاً من الصخور، ولكنها مع كل ما تنطوي عليه، لا تنفصل عن الحضارة بكل اتساعها وامتدادها الزماني والمكاني. والقول عن مذهب ك(السلفية) مثلاً قول في جزئية من الحضارة، وتحجيم الحضارة من خلال رؤية العالم أو المذهب ممارسة فجة، ومؤشر جهل بأبسط متطلبات البحث المعرفي، علماً أن بعض العلماء يرى أن (السلفية) مرحلة زمنية مباركة، وليست مذهباً إسلامياً، وهو رأي يأتي في سياق الفعل ورد الفعل. وعندما نقول: الحضارة الإسلامية فإن ذلك المفهوم يتسع لكل المذاهب والملل والنحل، والمحطات الزمانية. والحضارة الإسلامية تشتمل على كل الفرق الإسلامية، وأي نحلة أو ملة أو عالم لم يُجمع المسلمون على كفرهم المخرج من الملة فهم مشمولون بالحضارة الإسلامية. وتحت هذا المفهوم لا يجوز لأي مستغرب أن يحصر الحضارة الإسلامية في مذهب أو مرحلة، فضلاً عن أن يحصرها في عالم أو عالمين، يبتسر من كلامهم ما يعزز رؤيته الفجة، ولو أخذنا مقولة الكاتب بالنص، وهي الحجة التي تنفي عنده شمول الحضارة الإسلامية، لوجدناه يقول: (فالإمام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً - اتخذ موقفاً مناهضاً بشدة لعلم الكيمياء وعلم الفلسفة وعلم المنطق)، ولقد أقام المناهضة على ابتسار مُخل من إجابة (ابن تيمية) عن عمل الكيميائيين، ولو قرأ كامل الفتياء، واكتشف مقاصدها، لعرف أنه يُقوِّل (ابن تيمية) ما لم يقل، ويحمِّل قوله ما لا يحتمل. فالفتياء حول استخدام الكيمياء للغش التجاري، وليس لها علاقة في الموقف من الظاهرة، ولهذا ركز ابن تيمية على (الذهب) الخالص، وسماه (المخلوق)، ونفى أن يكون المخلوق كالمشبه، وهو ما يعمله الكيميائيون، ويدَّعون أصالته. و(ابن تيمية) لو اختلفنا معه جدلاً في بعض مواقفه يعد من علماء الأمة، يحتج به على مذهبه السلفي، ولا يحتج به على الحضارة الإسلامية، ذلك أن الحضارة الإسلامية وسعت المذاهب في الفروع والأصول، وسائر العلوم والمعارف، والملل والنحل، ما ظهر منها وما بطن. والكاتب لم يقل في تساؤله (هل السلفية حضارة شاملة؟) بل قال: (هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة) وبصفتي (سلفي) العقيدة (حنبلي) المذهب (تيمي) الفكر فإنني أقبل نقد السلفية وعلمائها، ولا أقبل التنقص من الحضارة الإسلامية، أو المساس بها كمفهوم عام، ولست بالانتماء منغلقاً، ولا نافياً، ولا مقتصراً على مصدريه واحدة، وقراءتي لقادة الفكر، وزعماء الإصلاح، ورواد النهضة من ماديين ووضعيين يفوق قراءتي لمن أنتمي إليهم. والاختلاف مع (السلفية) حق مشروع، إذ كل يؤخذ من رأيه ويرد إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، أما الاختلاف مع الحضارة الإسلامية، وحصرها في نحلة بعينها فخطأ مخل بالأهلية، ولا يقترف مثل ذلك إنسان ملم بحدود الحضارات ومتطلبات البحث فيها. لقد نفى الكاتب (شمولية الحضارة الإسلامية) وتلك جرأة جاهل، وليست رؤية عالم، ومكمن الأذية أنك لن تجد من تخاصم. فالشمولية حسب فهم الكاتب الغرائبي لا تتحقق إلا بالتسليم المطلق لكل ظاهرة، والإذعان الطوعي لكل ناعق، والقبول بكل رؤية فجة، وذلك عين التمييع والفوضوية. فعندما يتصدى عالم لنظرية أو مبدأ أو ظاهرة تبناها الفلاسفة أو المناطقة، وطبقوها على الغيبيات والمتشابه، أو استخدموها في الغش والتدليس، وتلقفها المستشرقون والمبشرون كشاهد على المحدودية، يكون هذا التصدي مسقطاً لدعوى الشمولية حسب رؤية الكاتب. وما درى المتجرئ على المسلمات أن هناك مواقف ضد المبادئ والنظريات، ومواقف ضد الإجراءات والتطبيقات، ومواقف ضد الإطلاقات والتعميمات. والمبتسرون لا يفرقون بين هذه المواقف، ولا يدركون مشروعية الاختلاف وحدوده. ونفي الشمولية لمجرد أن (ابن تيمية) السلفي وقف في وجه (المناطقة)، و(الفلاسفة) و(الباطنية) و(الجهمية) و(المعتزلة) وسائر النحل والملل، مؤشر جهل بالمفهوم، ف(ابن تيمية) يشكل مرحلة تحتويها الحضارة، ولا يحتويها. و(ابن تيمية) ليس وحده الذي وقف أمام طائفة من علماء الكلام والأصوليين والفقهاء والمفسرين والفلاسفة والمنطقيين. وكان الأجدر بالكاتب أن يخوض معترك الخلاف بين العلماء، ليرى ما يشيب من هوله الوليد، فأين هو من المدارس النحوية والمذاهب الفقهية، وقول العالم في المسألة، ومقدم المذاهب والمتقدمين والمتأخرين داخل المنظومة المعرفية الواحدة. و(ابن تيمية) ليس بدعاً بين علماء عصره، فضلاً عمن سلف ومن لحق، لقد قامت بينه وبين علماء عصره ملاحاة آلت به إلى السجن، ولمّا يزل خصومه إلى هذه اللحظة ينالون منه، حتى أن بعضهم حكم ب(كفره)، وكنت أود من الكاتب الإبقاء على شمولية الإسلام، والأخذ بالمواقف المتطرفة ضد (ابن تيمية)، ليكون الإضرار بفرد أهون من المساس بحضارة أمة. والعلماء المتميزون بسعة علمهم ورجاحة عقولهم، حين تبدههم النوازل، يهرعون إلى النصوص الشرعية، يستفتونها، فإن أسعفتهم، وإلا انطلقوا إلى مصادر التشريع الرديفة، والتي تفوق العشرة: كالإجماع، والقياس، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، والبراءة الأصلية، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان. والعلماء الأفذاذ استخدموا عقولهم في الاجتهاد وتصور المقاصد. والرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى استفتاء القلب في قضية البر والإثم، وهو ندب يسقط حجة القائلين بتعطيل العقل. والأخذ بالنص القطعي الدلالة والثبوت، يسقط حجة القائلين بتفويض العقل. فالعقل عند السلفيين يدور في فلك النص. والنص عند المعتزلة يدور في فلك العقل. والخيرية في أن يخفق العالم في فضاءات التشريع بجناحي: النص والعقل. ومواجهة النوازل مرتهنة للقوانين والضوابط، ومن ثم نشأ علم الأصول والقواعد، وهي البديل الأمثل (للمنتطق الصوري) الذي واجهه الفلاسفة والعلماء والمفكرون، قبل الميلاد، وبعده، وفي العصور الذهبية للإسلام، وفي الحضارة الغربية المعاصرة. وأصول الفقه وقواعده قوانين استقرائية، فيما يقوم المنطق الأرسطي الذي تحاماه ابن (تيمية) على الصورية والنظرية. وإضافة لما سبق فإن الموقف من الفلسفة والمنطق والكيمياء مرتهن بالخفاء والتجلي، ومحكوم بمجالات التطبيق، فالعلماء لا يسلمون إلا بعد التصور، وقد يسلمون للنظرية، ولا يسلمون لمجال التطبيق. وكل جديد يظل مجالاً للأخذ والرد، حتى يستقر بشروطه وضوابطه ومعقوليته وإمكان تصوره، وتحقق انتمائه إلى العلم التجريبي، أو الفكر أو الفلسفة، فإذا بأن أن الظاهرة من العلم المنضبط بقواعده وأصوله انتزع الشرعية، وإن ظلت في دائرة الشك تخطاها العارفون إلى غيرها، ف(الكيمياء) ظهرت، واستخدمت في بادئ الأمر في غش المعادن، فكان تداول أحوالها عند العلماء مرتبطاً بالصناعات، بحيث جاء الافتاء بالمنع وتحريم استخدامها في الغش. والفلسفة والمنطق طبقاً في قضايا المغيبات، فأدى إلى نتائج مخالفة للنص القطعي الدلالة والثبوت، فحرم علماء الكلام الإسلاميين استعمالها، ولم يستبن العلماء المتقدمون للكيمياء إذ ذاك ما إذا كانت علماً أو سحراً، وحين تبين لمن خلف وجه العلمية المقننة أخذوا بالظاهرة، وبقيت آراء من سلف من العلماء تمثل مرحلة تاريخية وتتعلق بالاستعمال، والمتابع لآراء الفقهاء، يجد فيها الإباحة أو المنع أو التوقف، وكل عالم يسوق حججه، وبعض العلماء يتوقف، فلا يجيز، ولا يمنع، لعدم تحرر المسألة، وقد يتصور بعض اللعماء، أن الظاهرة تعارض ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيفتي بالمنع. مثال ذلك ما حصل حول القول بدوران الأرض، فلقد سئل الشيخ (ابن باز) رحمه الله عمن قال بدوران الأرض وثبات الشمس، فأفتى بالتحريم، لأن الشمس تجري لمستقر لها، وفي قراءة (لا مستقر لها) ولما قيل له: إنه لا تعارض بين الدوران والجريان عدَّل من فتياه. ونصائح العلماء في التزهيد بالدنيا والتحفظ على التطاول بالبنيان، لا يعني أن ذلك يمثل رؤية حضارية، وأن الإسلام ضد العمارة، وإنما الموقف وعظي ترغيبي لا إفتائي حدي، ف (ابن عثيمين) رحمه الله لا يحرم التطاول بالبنيان، وإن رأي أن الظاهرة مفضولة، وفات الكاتب أن الذين تحدثوا عن (الحضارة الإسلامية) جعلوا من سماتها (فن العمارة الإسلامية)، وبخاصة في المساجد والقصور. والشمولية التي خفي حدها على الكاتب تعني: الاتساع والاستيعاب. فالاتساع ذو ثلاثة مجالات: الزمان والمكان والمحتوى. ويتمثل المحتوى بشمول الحضارة لكل متطلبات العصر ومفرداته: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقضائية والعلمية البحتة والمهنية التطبيقية. وبهذا فاقت الحضارة الإسلامية جميع الحضارات، و(ابن تيمية) يعد لحظة في الزمان ونقطة في المكان، لا تُعرف الحضارة به، ولكنه يعرف بها. أما الاستيعاب فإن الإسلام التهم ما سبق من حضارات، وتفاعل مع ما جدّ من حضارات. وما يعانيه المسلمون من ضعف وتفكك لا يحال إلى رصيد حضارة الإسلام، وإنما هو لحظة ونقطة. فالتاريخ الحضاري الإسلامي غير تاريخ المسلمين، ومن خلط بين التاريخين فقد أساء للإسلام، والخلط لم يأتِ اعتباطاً، إنه هدف رئيس للمستشرقين والمستغربين، وشمولية الحضارة الإسلامية تقتضي موضعة الحضارات المعاصرة، والأخذ بأحسنها، والحق ضالة المؤمن. ولو كانت الحضارة الإسلامية تتعمد نسف الجسور مع منجز الحضارات لكان للبرمين منها وجه من الحق، غير أنهم يلزمون ما لا يلزم، فيفترضون نفي حضارتهم، تمهيداً لإحلال حضارة الآخر. واعتراض علماء المسلمين على (الفلسفة) و(المنطق) لا يمس الشمول والثبات، فاختلاف وجهات النظر من مظاهر خصوبة الحضارة، وحين يعترض (ابن تيمية) على (ابن رشد) بوصفه فيلسوفاً، أو حين يعترض على (الكندي) بوصفه منطقياً، فإن ذلك لا يمس شمولية الحضارة الإسلامية. والمناطقة المعاصرون والسابقون ل(ابن تيمية) كانوا في منطقهم صوريين نظريين، ولقد تجاوز ذلك الإسلاميون إلى المنطق الاستقرائي، وهذا المنطق العملي هو الذي أخذ به الأوروبيون على يد (فرانسيس بيكون) و(مل). وما أخذ به (الفارابي) و(الكندي) و(ابن سينا) و(ابن رشد) لا يتجاوز حدود المنطق اليوناني، ومواجهة أولئك الفلاسفة دافعة المجال والنتائج، وليس الظاهرة، فلقد اتخذت الفلسفة مجال الغيب، وخلصت إلى نتائج مخالفة لمقتضيات العقيدة السلفية، وكذلك فعل المناطقة، فكان لابد من حماية المجال ونفي النتائج، أما إعمال الفكر والعقل فمطلب إسلامي، وعلى الكاتب العودة إلى كتاب (العقاد) (التفكير فريضة إسلامية) ليرى كيف عالج الموقف من (المنطق)، ولمزيد من المعلومات يحسن الرجوع إلى (علي سامي النشار) في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي) المجلد الأول، وإلى (تطور المنطق العربي) ل(نيقولا ريشر) ترجمة (أحمد مهران) ليعرف الكاتب أنه يهرف بما لا يعرف. والمتعقب لآراء (ابن تيمية) في المنطق والفلسفة، يقف عند رؤية علمية عميقة، تبناها الفلاسفة والمفكرون والمناطقة المعاصرون، ذلك أنه يواجه المنطق الأرسطي في مجاله التطبيقي، الذي لم يعد ذا قيمة معاصرة، وحين تصدى علماء المسلمين لعلم المنطق الأرسطي، استطاعوا أن يقيموا منطقاً استقرائياً، يضبط إيقاع العقل، كما يضبط النحو إيقاع اللسان، فلم يكن رفض المسلمين للمنطق رفضاً سلبياً، ذلك أن المنطق الإسلامي منطق استقرائي تجريبي، وقد وظفوه في خدمة الطبيعة والطب والكيمياء ولم يُعمِلوه في (الميتافيزيقا)، وإذ يكون المنطق العربي بشقيه: الاستقرائي، والنظري، من مشمولات الحضارة الإسلامية، وإن اختلف العلماء حول الموقف منه، فقد أنجبت الحضارة الإسلامية في مختلف العصور أكثر من مئة وستين عالماً في المنطق، ذكر طائفة منهم (بروكلمان) واستدرك عليه (سزكين) ما فاته، وفات الاثنين أعداد كثيرة، ولهؤلاء المناطق ترجمات ومؤلفات وتطبيقات، والمؤلم أن ثروة الأمة العلمية نهبت من المكتبات العربية، ولم يستطع (معهد المخطوطات) التابع للجامعة العربية تصوير ما نهب، ولمّا تزد مصوراته عن نصف مليون كتاب، وهي نسبة تقل عن الخمس، وما كان صاحبنا على علم بما خلفته الحضارة الإسلامية، مما أصبح ركيزة للحضارة الغربية الباهرة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
![]() |
الإشارات المرجعية |
|
|