بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

 
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:40 PM   #27
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومصائب المشاهد المصمية ليست بمن يَلْبَسون لكل موقف لبوسه، ويقولون لنا ما يرضي حتى إذا خلوا إلى من يودون قالوا: إنا معكم. مصيبتنا في المتلقي الذي تشابهت عليه بقرات الحداثة، وخدعته الأقاويل، والتبست عليه الألاعيب، وأتاحت غفلته المعتقة لمثل أولئك التصرف البهلواني:




وما انتفاع أخ الدنيا بناظرة
إذا استوت عنده الأنوار والظلم


لقد وقفت على تصورات ورؤى، اخذتها الدهماء بوصفها قضايا مسلمة، فالأمر عندها تقليد او تجديد، وليس حداثة فكرية منحرفة وتجديدا متزنا، ثم ان المتحدث عن «الفكر الإسلامي» والمتبني «للأدب الإسلامي» في نظرهم مدعٍ للطهر الملائكي متقمصاً الفوقية والوصاية، فيما يكون غيره في نظر ذلك المفكر المظلوم ضالاً مضلاً تابعاً. وعلم الله انني ما عهدت احداً ممن يحملون هم الدعوة، ويضطلعون بقضية الأدب الإسلامي قال بذلك، وما تصور أحد منهم أن الآخر رجس من عمل الشيطان.
المفكر الإسلامي والأديب الإسلامي يشعر كلٌ منهما بواجبه حيال أمته، وحيال قضيته، وحيال عقيدته، وهو يمد غيره بما يراه حقاً وصواباً، ولا يرى فيمن حوله دونية في مكان، ولا ضعفاً في علم، ولا خللاً في فكر، ولا سوءاً في أخلاق، إلا إذا كان عنده مما هم عليه من الله برهان، والتناصح لا يشترط فيه ان يكون بين مؤمن وكافر، ولا بين ضال بيّن الضلال ومؤمن قوي الإيمان، التناصح تبادل خير بين طرفين متماثلين، ومن تصور دعاةالفكر الإسلامي سلطويين فوقيين متهمين للآخر، وعمم، ولم يخصص، فقد افترى عليهم الكذب، وفقد المصداقية التي يحب توفرها كحد ادنى للاستقامة على الحق. ومثلما احيلت الحداثة الى التجديد، ووصف مناوئوها بالماضوية والتسلطية، احيل الوقوف في وجه «العامية» ومظهرها الأهم «الشعر الشعبي» بانه منع للإبداع، وتجريم للشعراء العاميين، واستهجان بالمتذوقين له من خاصة القوم وعامتهم، وعلم الله موقفي من «الإبداع الأمي» يقف عند حد الحيلولة دون تقعيده ودراسته بآليات الفصحى والتخطي به الى محافل التعليم. ومن فعل ذلك فقد أصَّل للعامية، وشرعن للازدواج اللغوي، وأحيا النعرات اللهجية، ومكن للتزاحم بالعاميات المتعددة عند أبواب المدارس والجامعات. وحري بنا وقد انفقت الدولة الأموال الطائلة لتعليم اللغة العربية ان نساعد على حضورها في كل محفل، وان نحاصر العامية وظواهرها الإبداعية في محيطها الشفوي، وفي اوساطها العامية، بعيداً عن التدوين والدرس، وان علينا ان نتمثل ما علمنا قولاً وسلوكاً، فالعلم لا يكون حتى يتمثله المتعلم، وإذا تعلمنا لغتنا، ثم لم نستعملها في القول والكتابة كنا مبذرين مقصرين، ولغتنا ليست كاللغات، انها مرتبطة بكتابنا الذي تعبدنا الله بتلاوته وفهمه وتدبره والعمل بما فيه، ولن يتأتى ذلك مع استفحال العامية. هذا ملخص موقفي من الحداثة والعامية، غير ان الخصوم الذين لا يحترمون المصداقية يتقولون على خصومهم كل الأقاويل، وينسبون اليهم ما لم يقولوه، وعلينا ان نحمد الله على ما انعم به علينا من وحدة اللغة والعقيدة والأرض، فلسنا شيعاً يضرب بعضنا رقاب بعض، ومن واجبنا ان نتحامى الوقوع في أي فرقة: فكرية أو دينية أو عرقية او اقليمية او لهجية، وفقد المصداقية قد يتجاوز كتم العلم او تحريفه الى الافتراء والاختلاف، وذلك الدرك الأسفل من سوء الخلق وخيانة الأمانة، ولقد تعرضت طائفة من العلماء والمفكرين والأدباء الى الكذب والافتراء، ونسب اليهم ما لم يقولوا، ومع نفيهم وتكذيبهم فإن المشاهد قد لا يصل إليها قولهم بمستوى الإشاعات الكاذبة عنهم، ومن ثم يأخذ السماعون بتلك الإشاعات بوصفها حقائق ثابتة. ولو أن المتجادلين توفروا على الصدق فيما يقولونه ابتداء، وفيما يروونه عن غيرهم اتباعاً، لما بلغ بهم الجدل إلى حد التنابز بالألقاب، ولعلنا نستعيد دروس (الإفك)، وما تركه من عظات وآية (التبيُّن) وما شرعته من أسلوب في التلقي.
ومثلما يقال عن (المصداقية) بوصفها خليقة طبْعِيَّة أو تطبعيَّة يقال عن اختلاف (المفاهيم) إلا أن (المصداقية) تحال إلى القيم الأخلاقية، فيما تحال (المفاهيم) إلى التصورات والرؤى المعرفية، ودواء الأولى في التربية السليمة، ودواء الثانية في التعليم الجاد. و(مفهوم) المصطلحات والظواهر والقضايا حين لا يكون كما أراده المنشئ يوقع في اللبس، وإشكالية (المفهوم) من أعقد الإشكاليات، وهي مبعث الاختلاف، وجذرُ التنازع ومحفزُه.
والمصطلحات المتنامية عبر الترجمة أو التعريب أو النقل هي التي توقع في اللبس، فهي تتشكل عبر تصورات المترجمين أو المعربين أو الناقلين، الذين يلتمسون ما يقابلها في العربية، من كلمة تحمل ذات الدلالة، أو صيغة صرفية تستوعب بعض المقاصد، أو نقل يرادفه تعريف، قد لايطابق مراد المنشئ. وفوضى الترجمة والتعريب يواكبها متلقٍ يعطي مفهوماً زائداً أو ناقصاً أو مناقضاً، ويشتغل على ضوئه. ومكمن الخطورة في المصطلح الحمَّال للمتناقضات. فالجذر العربي (حدث) تعني دلالتُه الوضعية مجردَ التحديد أو جدَّةَ الحدوث، ولكن الدلالة الاصطلاحية كما يراها المنشئ الغربي، تعني أشياء أخرى، ليست من الجدة، ولا من التجديد في شيء، والمتبنون للمصطلح أوزاع، منهم الواعون لمقاصد الحداثة، كما يراها الغربيون، ومنهم الغافلون الذين لايتجاوزن بالمفهوم حد الجديد. والمفكرون الإسلاميون المتصدون للحداثة قد لايتثبتون، ومن ثم يصيبون الذين لاتتجاوز المعارف تراقيهم بجهالة، وتعدد المفاهيم يطال الجميع، وإذا اختلطت المفاهيم حول (مصطلح الحداثة) وتعدد مقتضياته فإن إشكالية مصطلح (الأدب الإسلامي) عددت مستويات الخصوم بين رافضين ومتحفظين ومتسائلين، ولم يختلف أحد منهم حول مصطلح (الأدب الجاهلي) ولا (الأدب الوجودي) ولا (الأدب الماركسي) وقد يجمع بعض الإسلاميين خصومه في سلة واحدة، وفي ذلك ظلم عظيم، فالمتحفظ والمتسائل يختلف عن الرافض الذي يستمد رفضه من رفض الحاكمية الإسلامية وإظهار الدين. واضطراب الرؤى حواضن مخصبة للتنازع المورث للعداوة والبغضاء. والحداثة الفكرية المنحرفة تخادع الخليين بتعدد المفاهيم، وأساطينها كما المنافقين، إذا واجههم النقاد الناصحون قالوا: - إننا مجددون، وإذا خلوا إلى أساطين الحداثة المنحرفة قالوا:- إنا معكم حداثيون. وقد يكون المدَّعون للحداثة لايتجاوزن بها حد التجديد، ومن ثم فإنه من الظلم ان نجعل المجددين كالمنحرفين، ومن حق المحكوم ان يقول: - ما لكم كيف تحكمون؟ ودافع الحكم الجائر مرده إلى اختلاف المفهوم باتساع الجذر لعدة دلالات، على أنه من الخطأ ان يعاند المجدد، ويصر على ان الحداثة لا تعني إلا التجديد، والقرآن الكريم منع أن نقول:- (راعنا) من الرعاية، لأنها قد تحمل بالتنوين مفهوم (الرعونة)، وإذا كان المفهوم المتعدد يوقع في اللبس، ويعرض الأبرياء للغيبة، فإن الضائعين في خطيئة الحداثة الفكرية يتقون بالتعددية سهام الحق.
والناقد المنصف من يتجاوز المصطلح، ومن تبناه عن مواطأة أو عن جهل، إلى الوثائق النقدية والإبداعية، وإلى المواقف من أساطين الحداثة من مبدعين ونقاد، فالوثائق والولاء والبراء لا مجال فيها للمغالطة أو الإدعاء، والالتفاف الغبي على تعدد المفاهيم لا يغني من الحق شيئا. ولو أننا تحرينا الدقة في تحرير المفاهيم، وربطنا شاهد الوثائق بغائب المفهوم، ولم نبادر بالاتهام لكنا عادلين منصفين. ومتى فُقد العدل والإنصاف مع المخالف وقعنا في التنازع الجالب للفشل وذهاب الريح. ومتى توفرت (المصداقية) وتحرر (المفهوم) تراءت لنا جذورٌ ومحفزات أشد وأعتى، نجد ذلك في تعدد (نظريات المعرفة). وإشكالية التلقي والتأويل مع النص المفتوح أو النص الحمَّال من الإشكاليات التي لا يقل أثرها السلبي عن فقد المصداقية وتعدد المفاهيم.
والحضارة الإسلامية تعرضت لهذه الإشكالية، وتولدت الملل والنحل والمذاهب من تعدد (نظريات التلقي)، ولسنا نتطلع إلى حسم هذه الإشكالية، ولكننا نود التقريب بين وجهات النظر، ومتى استوعبناها، خفت حدة التوتر، واستطعنا توقع ما سيقوله المختلفون معنا، وقد تكون الاستبانة سبيلا من سبل التقارب أو التعاذر أو الاعتزال، والمتابع للعلوم والفنون يجد ان مرد الاختلاف فيها إلى اختلاف (نظرية التلقي)، ومع مشروعية التعدد فإن بعض المذاهب بلغت بها نظرياتها المعرفية إلى حد تحريف الكلم عن مواضعه، والأشد خطورة حين يجتمع مع اختلاف (نظرية المعرفة) اختلاف (المرجعية) أو اختلاف (أصول العلم) فالمذاهب الكلامية والفقهية والفلسفية لها نظرياتها المتعددة ومرجعياتها المتنوعة وأصول معارفها المتباينة. فبعض المذاهب يركن ذووها في التلقي إلى الحدس والتذوق والكشف والرمز والإشارة، والبعض الآخر يأخذ بظاهر النص، ومن الطوائف الإسلامية من يدعي الظاهر والباطن، ويصنع تصوراً مغايراً لمعنى المعنى أو الدلالة العميقة أو الدلالة المجازية، بحيث يعطل دور اللغة، ويركن إلى دعوى العلم اللَّدنِّي، ومن المذاهب من يفوض للنص معطلاً العقل، ومنهم من يفوض للعقل معطلاً النص، ومنهم من يفوض للمصدر معطلاً العقل والنص معاً ك (للاأدرية) و(المفوضة)، وكل مذهب له آليته ومنهجه ونظرية تلقيه ومرجعيته وأصول علمه، وليست كل نظرية صادقة كل الصدق، ولا كاذبة كل الكذب، وإنما مرد الأمور إلى التغليب، وهكذا كان التشريع، وعلينا أن نستفيد من كل نظرية معرفية ونتوقى مزالقها وشطحاتها، وبخاصة حين يصاحب ذلك اختلاف المرجعية. والتنازع الناتج من تعدد نظريات التلقي، واختلاف المرجعية تنازع عقدي، قد يبلغ بالأمة حد القطيعة، وقد لا تتيح تلك النظريات فرصة الحوار المعتدل، الحوار الباحث عن الحق دون الانتصار والغلبة. والحق الخالص ضالة المؤمن، وحوار الطوائف المتناقضة قد يبرر للوسيلة المنحرفة بالغاية المدَّعى سلامتها، والإسلام لا يجعل سبيلا لتبرير الوسيلة الجائرة. وإذا تجاوزنا، (المصداقية) و(المفاهيم) و(التأويل) و(المرجعية) واجهتنا إشكالية دون ذلك، وهي تفاوت (الأفهام)، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ندب أصحابه إلى التبليغ قائلاً: (فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع) وحين شبه ما نزل عليه بالمطر، واصفاً المتلقي بالأرض وتفاوتها في تقبل الماء، فالوعي خاصية إنسانية، يهبها الله لمن شاء من خلقه مؤمناً كان أو كافراً. وقد يؤدي الفهم السقيم إلى إذكاء حدة التنازع، فالمرسل قد لا يراعي مقتضى الحال، والمتلقي قد لا يعرف قدر نفسه، ومن ثم يتقحم على المعضلات، مثلما يهتاج المرتاع، وهو أعزل، ونزع العلم الشرعي وكثرة الجهل من أشراط الساعة، والأدعياء الذين لا يستحون يصنعون ما يشاؤون، وكم نسمع كلمة:- (نحن رجال وهم رجال) يتفوه بها غلام لايهز القناة، ولا يثنيها، وارتباك المشاهد واللغط الذي لايُبين يتأتى من هذه النوعيات المتسرعة في القول وفي الحكم، ولو قام الجدل بين العلماء المجربين لكان الاختلاف مقدوراً عليه:-
(ومن البلية عذل من لا يرعوي....
عن غيه وخطاب من لا يفهم)،
ومما تفتقر الساحة الثقافية والأدبية والفكرية إليه تجويد آليات المعارف وضوابطها وأصولها ومناهجها وأسبابها وآداها، فالكم المعرفي وحده غير كافٍ للتوفر على الحوار الحضاري والجدل المتزن، ومثقفو السماع، وسائر الكتبة، ينقصهم التأصيل والتحرير والتأسيس. ومتى لم يكن هناك تأصيل معرفي، وتحرير للمسائل والمصطلحات، وتأسيس قوي فإن الحالة تزيد سوءاً. إننا لكي نُحاصر التنازع، ونضّيق الخناق على الاختلاف المؤثر على وحدة الأمة وسلامتها، يجب علينا أن نأتي المشاكل من قواعدها، نَصْدُق، ونَعْدِل، ونُحرر المفاهيم، ونؤلف بين نظريات التلقي، ونوحد المرجعية، ونعي أصول العلم ومناهجه وآلياته، ونبادر إلى معالجة الضعف والهوى والاستبداد والعقم والتقليد، نربي أذواقنا، ونَصَّفي نصنا، ونرسم مناهجنا، ونحدد مشروعنا، وأهدافنا، ومكمن اختلافنا، ونثري نقدنا، ونؤدب حوارنا، ونعرف قدر أنفسنا ومبلغنا من العلم، فذلك طريق السلامة وسبيل النجاة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
 

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 06:32 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)