بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:48 PM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
جدلية الخفاء والتجلي في المنهج! (1ـ 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لا مراء في أن مستويات القراءة وأهدافها وخلفيات القراء: المعرفية والفكرية تستدعي مصطلحات ومفاهيم كثيرة، ولست بصدد إنكار دعوى وجود المضمرات في المناهج، ولست معنياً بالتزكية ولا بالإدانة، وكل همي منصب على أخطاء التوقيت والتقدير وإمكانيات المبادرين للحديث عن (الخفاء) و(التجلي) ومشروعية التناول ووثوقية الدليل. ويقيني أن مشاهد الأمة العربية: الفكرية والسياسية والأدبية متخمة بالكلام وحسب. وكأن قضاءها وقدرها أن تظل مرتهنة خارج دائرة الفعل، لا يملك أبناؤها إلا القول المحتدم والتلاسن السالق. وشاهدنا تتابع المصطلحات في مختلف القضايا: الإنسانية واللسانية، والخروج منها إلى غيرها بأقل النتائج وأفدح الخسائر. نستعذب سك المصطلحات: الفكرية والسياسية والأدبية متى تقطعت بنا أسباب الاختلاف، ومع كل موجة منها يقوم رهان التفوق ونهاية التاريخ. فإذا بلغ السيل الزبى نبذت كما سقط المتاع، لتَلقِّي مسكوكات جديدة، وكأننا الأعرابي الذي يعبد (العجْوة)، حتى إذا جاع أكلها، وما أكثر ما تسك في الشرق أو في الغرب مصطلحات نكرات فنلتقطها لتكون لنا عدواً وحزناً.
ولو عدنا إلى بدايات النهضة الحديثة لوجدناها مُلئت بالمصطلحات ذات الوزن الثقيل ك(الخلافة) و(الدستور) و(القومية) و(القطرية) و(الأممية). ولو تقصى المتابعون الإبداعات الشعرية التي صدح بها شاعر واحد مثل (جميل صدقي الزهاوي) في أعقاب مخاضات (الدستور العثماني) لأدركوا أنهم ليسوا وحدهم ضحايا التغرير والإغراء، ومع اختلاط الخطابات فإنه غير مجدٍ في راهننا أن ننحي باللائمة على طائفة بعينها، ولا أن نستبعد التآمر والمواطأة، لنظل مرتعاً خصباً للمتماكرين.
والمتابع لمخاضات المشاهد ومبتسراتها، يقف على متلاسنين (ألج من الخنفساء)، وعلى مصطلحات يباب، استنزفت كل الجهود، وعلى أخرى جوف تجاوزها المتجادلون، بعد أن فاض معينهم بالضغائن والأحقاد. فأي مصطلح سياسي أو فكري أو أدبي نفض المعنيون أيديهم منه، بعد ما توصلوا فيه إلى قناعة جماعية؟ وهل سجل التاريخ الحديث قضية واحدة سلَّم لها الجميع، وابتدروها بالفعل بعد القول؟ وهل سجل مصطلحاً واحداً سكه الغرب، ثم رده الشرق على أعقابه، دون أن يفعل فعله في تفريق الكلمة، وتشتيت الفكر، وإهدار الجهود؟. وأي موقف مشرِّف تبدت من خلاله وحدة الصف أو الهدف، وحُمِل إلى المحافل الدولية كإرادة عربية واحدة؟ وأي تجربة سياسية أو فكرية و أدبية ترقَّت بفعلنا إلى سدة الندية؟ إن هي إلا فتنة المصطلحات الثاوية كأعجاز نخل خاوية.
لقد شغل مصطلح (الخلافة) أساطين الفكر، وأحدث تصدعات لمَّا نزل نتجرع غصصها، وتمخض الجدل الذي أحكم المغرضون صنعه عن مصطلحات أخرى أشد عنفاً وأعنف قيلا ك(الحاكمية) و(العلمانية) و(الديمقراطية) والدولة: (الدينية) و(المدنية). وتشكلت منظمات وأحزاب وجماعات وإخوان، لكل واحدة منها خطابها الجامع المانع، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، ونهض علماء وساسة ومفكرون، كتبوا وحاضروا وألَّفوا عن مفهوم (الخلافة الإسلامية) وتبعاتها: كالبيعة والاستخلاف والشورى والاختيار والانتخاب، ومصدر الحكم بين النص والشعب، وأهل الحل والعقد، وإمكانيات (الفكر السياسي الإسلامي) ومدى أهليته لطرح مشروع سياسي مستوعب للمستجدات: الدستورية والتشريعية والتنفيذية والرقابية، وما يلحق بذلك من مجالس متعددة المهمات والصلاحيات. وكتاب (الإسلام وأصول الحكم) ل(علي عبدالرزاق ت1386ه) وما أحدثه من تصدعات وخلافات أنموذج لإشكاليات سك المصطلحات، ودعك من (قضايا المرأة) و(قاسمها)، ومخلفات (الحرب الباردة) و(هيكلها)، و(الحداثوية) و(أدونيسها) و(البنيوية) و(سوسيرها) والتعالق المقوي مع المستجدات في مشاهد العلوم الإنسانية كافة. ومن ذا الذي لا يمسك على هون وثائق التبعية البائسة أو يدسها في التراب ليتخلص من عار الانهزام وقابلية الاستعمار، وفي القوم من يتشفى بجلد الذات وتمجيد المستعبد وشرعنة مقترفاته.
ولمَّا نكد نفرغ من الشقاق حول (العولمة) و(النظام العالمي الجديد) ومشاريع (القطب الواحد) ك(الشرق الكبير) و(الإرهاب) حتى بدهتنا مصطلحات جديدة تتعدد مفاهيمها بتعدد المتلقين لها. وها نحن بعد هذا التطواف الممل، نتلقى مصطلحاً قديم الإطلاق جديد الإنزال على الوقوعات العارضة، مؤاده أن هناك منهجاً معلناً، يتداوله العلماء والمعلمون، والأدباء والمفكرون، والساسة والدعاة، وآخر خفياً لا يعرفه إلا العالمون ببواطن الأمور. وأن هذا الخفاء ينطوي على مناقضة لرديفه الجلي. والمصلطح قائم منذ أن عُرف (التلقي) و(التأويل)، ولكنه نائم كما الفتن، مثلما كانت (الخلافة) قائمة من قبل، حتى أيقظها (علي عبدالرزاق). وإيقاظ المصطلحات في ظروف غير مواتية كإيقاظ الفتن. وأخوف ما أخاف تصعيد الخلاف وتنويع مواقعه، وقد يأذن المتجادلون بإعادة التاريخ، وما يحمله من تنظيمات سرية وحركات باطنية، وما تداولته العصور الخوالي من مصطلحات (التغنص) و(الردة) و(الزندقة) وما تمخضت عنه من طوائف وأحزاب ومذاهب في الفروع والأصول، كالخوارج والمرجئة والمعتزلة والزيدية والشيعة والسنة وسائر الطوائف ذات البعد السياسي، إذ لكل نحلة منهجها الجلي والخفي. ومتى اجترح المتجادلون افتراض المنهج الخفي وحمَّلوه أوزاراً مفترضة وأحيل إلى فئة مفترضة أيضاً، دخلت الأمة في تنازع هي في غنى عنه. وإذ عشنا مرارات المساءلة الجائرة للمناهج وللدعوة السلفية وللجمعيات الخيرية وللمراكز الصيفية فإننا سنجد من يتلقف الراية ممن لا يريد للقطا أن ينام، ليزيد قوائم الاتهام، ولو عرف المستدعون لمثل هذه المصطلحات - ممن لا نتهم إخلاصهم ولكننا لا نثق بقدراتهم - أن هناك متربصين، لما كانت لهم رغبة في أن تتكسر النصال على النصال على جسم الأمة، ولا أن يخلص إليها الاتهام وعندها كل اتهام على حد:




(أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف خلصت أنت من الزحام)


لقد أشفقت على الذين استدعوا هذا المصطلح دون تحرير معرفي، ودون رصد تاريخي، ودون استصحاب للمحاذير، ودون استكمال للمادة والآلة، وأشفقت على الذين باركوه، وشمروا عن سواعدهم للخوض في لججه، دون حساب للعواقب، ودون تخوف من السماعين والمتربصين، وأشفقت على قوم آخرين من قبلهم طرحوا مصطلح (التنوير) وجروا قدم أعرق الجامعات، لتكون غرضاً للمساءلة. وأشفقت على الأمة المدانة من لغط أبنائها، وأشفقت من القبول بمصطلح (التنوير) بكل ظروفه وملابساته (الأوربية) في القرون الوسطى، وكأن الأمة تعيش ظلامها وطغيان كنائسها. وكأن الأخذ بأسباب الحضارة والتجديد والتطوير يعني الخروج من سراديب الظلام وكهوف التخلف إلى نور الحضارات. إن التسابق إلى نبش جثامين المصطلحات وإنزالها على واقع مغاير ومسيرة مختلفة يعني إثارة الرأي العام، وتحفيزه للتساؤل والتحفظ والاتهام، وما كان إشفاقي على المستدعين والمستقبلين إلا لأنهم كالمريب الذي يقول خذوني. والإشفاق لا يعني الاتهام ولا سوء الظن. وكيف يكون من مثلي الاتهام، وما شققت عن صدر أحد، وما كنت لدى المشتغلين وهم يختصمون حول الخفاء والتنوير. غير أني أتوقع جانباً من المآلات متبديةً من لحن القول ومن المؤشرات، فما عاد خافياً ما يتخلق به البعض من اهتياج أعزل، وما يتعمده آخرون من فلتات ألْسِنةٍ غير محسوبة.
والخطأ في الاستدعاء أو الخطأ في التناول أو الخطأ في التوقيت لا يمس الأمانة، ولا يسيء الظن، ولكنه يقدح في الأهلية، ومن اشتغل في شؤوننا الحساسة فليرحب صدره للمساءلة. ومن ضاق ذرعاً، فليلزم بيته، وليطوي كشحه. والصدق والإخلاص والنصح غير كافية لشرعنة سك المصطلحات أو استدعائها. وواجب من يحملون هم قضاياهم ارتياد الخصب وتحري الأمان:



(ومن رعى غنماً في أرضِ مَسْبَعةٍ
ونام عنها تولى رَعْيها الأسَدُ)


وعلى المتقحم لهذه المضائق أن يعرف حال أمته المنهكة، وقدر نفسه المتواضع، وإمكانياته المعرفية المغايرة، وخبرته التجريبية الناقصة، ومن استمرأ السباحة ضد التيار فعليه أن يتأكد من لياقته وقدرته. ولأن مصطلحي (الخفاء) و(التنوير) عائمان، فإنهما بحاجة إلى تحديد المكونات والمفاهيم والمقتضيات والدواعي والمآلات. وفي مثل هذه الظروف لا تنفع الإنشائيات، ولا العاطفيات، ولا تبادل الاتهامات، ولا تهويل الوقوعات، ولا اجترار المقولات.وكل مسكون بالهم الفكري أو السياسي أو الأدبي يعيش حالة من الارتياب والشك، فبوادر الأمور لا تبشر بخير، وتتابع الإخفاقات لا تدع مجالاً للتفاؤل. وافتراء الكذب على مناهج التعليم، والحركة الإصلاحية، والجامعات، والجمعيات، والمراكز، لا يجوز تعزيزها من الداخل، وبخاصة حين تكون البلاد مشروعاً للإملاءات والتساؤلات. وكم تُجرُّ قدم المسكون بالهم من حيث لا يريد، ليقول في النوازل والقضايا والظواهر رأياً فطيراً، لا يزيد الأمور إلا تعقيداً واستحالة. وقد تتشابه الأمور على المتثبت فيقع في المحذور. وكم من مخلص تكشفت أمامه اللعب، فتمنى أنه لم يقل كلمة، ولم تخط يمينه سطراً. فأين الذين قالوا عن (الجهاد الأفغاني)؟ وأين الذين مجدوا (بطل البوابة الشرقية)؟ ألم يكن البْعض منهم صادقاً مخلصاً ناصحاً.
وأحسبني معذوراً حين أكون في ريب مما يقال وما يفعل على مختلف المستويات، ومن كل الفئات: محلياً وعربياً. وحين أكون (ديكارتياً) في شكه فليس ذلك لأن فلاناً من الناس ابتدر هذا المصطلح أو ذاك، ولكن لأن الوسط قابل للارتياب، ومن حق متابع مثلي أن يشك في نفسه، وقد فعلها (عمر) حين سأل (حذيفة): أعدّني رسول الله من المنافقين. ذلك أني خبرت المذاهب والأحزاب والتيارات والقضايا، واشمأزت نفسي من تجشؤات الفارغين وتشبع المتذيلين لنفايات الحضارة المادية، وفزعت من تدنيس المقدس والتطاول على الذات الإلاهية ونسف الثوابت، وتجرعت مرارات الخداع، واكتويت باللعب الكونية التي قلبت الأوضاع، وأضاعت المصالح، وأذلت الأمم، وقلت فيها ما أعتقد، أحسنت الظن في بعضها فعاضدت، وأسأته في البعض الآخر فخذلت، والتبست عليَّ الأمور في أخرى فتوقفت. وما ابرئ نفسي من اندفاعات غير محسوبة، أو من تردد لا مبرر له. والاعتراف بالخطأ فضيلة، والرجوع إلى الحق أفضل، ومحاسبة النفس قبل أن تحاسب من الكياسة. ولو أن المشتغلين بالشأن العام حين تبين لهم الحق أسرعوا العودة إليه، ولم يتهيبوا من الاعتراف بالخطأ، لكان أن صفَّت الأمة حساباتها أولاً بأول. غير أن الأخسرين أعمالاً يصرون على الحنث الصغير والكبير. والمتابعون لمذكرات الساسة وقاهري الشعوب من بعد ما نجوا بجلودهم من غضبها، يعرفون الجرائم المرتكبة، ولكنهم لا يعرفون المجرمين، فكل قادر على الكلام ينحي باللائمة على شركائه الهالكين أو المرتهنين وراء القضبان. والطيبون يصدّقون ما يقال، ويقبلون بتلميع الوجوه المشوهة، وإبراء النفوس الظالمة، والمنصفون من يقولون كلمة الحق، ويعترفون بمقترفاتهم وجناياتهم على أمتهم، ويطلبون منها العفو والتسامح، ليكونوا كالذين تابوا من قبل أن تقدر عليهم الشعوب. وهل أحد ينكر زمن التيه، وفي القوم من يتطوع للدفاع عن (صدام حسين)، وفيهم من يبرر المقترفات الغربية، والقتلى المدنيون الأبرياء نيفوا على ثلاثة عشر ألف عراقي، وانتهاكات حقوق الإنسان تتصدع لها صم الجنادل، و(إسرائيل) تفتك بالإنسان الفلسطيني، ثم لا تجد من ينكر المنكر باليد ولا باللسان ولا بالقلب، وذلك أضعف الإيمان. بل نسمع ونرى من يشدو متغزلاً بشمطاء قبحت مخبراً ومنظراً وعاتية أفسد الظلم نضارتها.
إن الجنايات المتنامية فوق الساحة العربية ليست مقترفات ساسة وحسب، إنها جنايات علماء ومفكرين وعسكريين وحزبيين وطائفيين وأدباء ومبدعين. وما فتئت الأمة واهنة حزينة تحت وابل الكلمات الرنانة، حتى لقد نُبزت بأنها (ظاهرة صوتية). وهل أحد ينكر مقترفات أرباب الكلمة؟ إن الأمة العربية تتجرع مرارات من كل جانب، ومن تصور الأزمة بأنها (أزمة حكام) فقد اختصر المذنبين. إنها أزمة شعوب وعلماء وأدباء ومفكرين وحزبيين وطائفيين، وأزمة تسلط القوي على الضعيف، وكف يده وتفكيره عن التصرف السليم. أزمة شائعة في كل الأوساط ومن كل الأوساط، ولابد - والحالة تلك - أن يدع حملة الأقلام نبش العفن، وأن يكفوا عن الاشتغال بالفرضيات، تمهيداً لالتقاء الأطياف على كلمة سواء، والانطلاق إلى الثغور المكشوفة لوقف الاختراقات، فما عادت الأمة بوضعها المتردي قادرة على تحمل مزيد من التنازع والشقاق وإيقاظ الخلايا النائمة، وسك المصطلحات الأكثر التياثاً ومراوغة. فحاجة الأمة عودة نصوح، تمكن أبناءها من معرفة قدرها وإمكانياتها ومتطلبات مرحلتها. ولن يتأتى ذلك إلا بالبحث عن الحق المجرد، واستبعاد البحث عن براءة الذات، وإدانة الآخر، وإدامة التنازع. وما أحوجنا إلى تغليب الإيثار على الأثرة، والتفسح في منصات القول، وتفادي المصادرة والنفي والتهميش والإلغاء وواحدية الخطاب، وبرهان ذلك كله المشاركة الإيجابية، وصرف النظر عن قيل وقال، وكثرة ترديد الشائعات، وتحويل الوقوعات الجزئية إلى نظريات و(أيديولوجيات)، فالأمة لقيت في مسيرتها النصب والتعب وذهاب الريح، ولم تعد قادرة على تحمل مزيد من النكسات الموجعة، ولن يتحقق النصر إلا بأن نفيء إلى أمر الله، ونلزم الجماعة، ونعود إلى نصاعة النص المغيب. لقد حيل بين الأمة ومرجعيتها النَّصِّية البيضاء، واشتغل المفكرون والمنظرون ب(النص الرديف) الذي أنتجه قراء متفاوتون: زماناً ومكاناً وإمكانيات ل(النص الأصل) في ظروف تختلف عن ظروفنا. إن خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، وزمن الثورات العلمية يختلف عن زمن المعارف النظرية، والقرية الكونية تختلف عن الإقليمية المغلقة والقلاع والمدن المسورة.ومع كل هذه التحولات فالأمة العربية أمة مسلمة، ولن يتحقق لها النصر إلا بالإسلام، إسلام التمثل لا إسلام الهوية والادعاء، الإسلام الذي لا تمليه طائفة، ولا يستغله مذهب، ولا تحتكره إقليمية ولا قبلية. الإسلام دين عالمي إنساني علمي حضاري مدني، ومن أراده على غير ذلك فقد أساء له ولأمته. ولو أن الأشتات المتفرقين عرفوا ذلك، وأخذوه من مصادره ومن جيله الأول، لما اختلفوا، ولما تناحروا. وإذا كنا نقدر الأنساق الثقافية وآليات التأويل ومناهج التفكير والتلقي فإننا لا نريد لهذه التعددية أن تصل بنفسها إلى حد القطيعة والتنابز وتبادل الاتهامات. نعم نقبل بالتعددية وبالتعايش والتعاذر، ونقبل بالخطابات المتباينة، ولكننا لا نرضى بالانقطاع، ولا نقبل بالتحريف، نريدها حرية منضبطة ووسطية ممتثلة على حد (واستقم كما أمرت).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  


قديم(ـة) 24-11-2006, 02:49 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
جدلية الخفاء والتجلي في المنهج..! «2-2»
د. حسن بن فهد الهويمل


و (التلقي) و (التأويل) نظريتان أوْلاهما علم اللغة الحديث كل الأهمية، وعول عليهما في تجسيد الرؤى والتصورات وافتراض (التجلي) و (الخفاء) ، وألحق بهما (علم الدلالة) ، و (الأنساق) و (السياقات) فكان أن أصبح النص محكوماً في دلالته بما هو خارج البنية اللغوية. ولما ذر قرن (التقويضية) كادت اللغة الماثلة للعيان تفقد مهمتها، لتحل محلها لغة مفترضة وغير محكومة الاستدعاء، وأصبحت مجرد هيكل لا يلوي على كل شيء. وكل مصطلح يبعد النجعة، حتى لا يكون للكلام المقروء أو المسموع دور رئيس في تجسيد الدلالة. و(الباطنيون) في قضية (الظاهر والباطن) سلف سيئ لمن خلف. و(الظاهريون) ردة فعل للتعليل والقياس، واضمحلال الحضارات من الأفعال وردودها ومن الاسترفاد وتهيب المبادرة والصراع حول بضاعة الغير بين متهافت بائس ومتمتع كالعائل المستكبر.
ومصطلحات علم اللغة الحديث ومتعلقاته الإبداعية والقرآنية وتداول المركزية بين (النص) و (المؤلف) و (القارئ) أسهمت في تشكل (المنهج الخفي) الذي استدعي بطريقة بدائية وتصور ساذج، ليكون ك (الثور) يضرب لما عافت البقر. على أن الذين استدعوه وتظاهروا حوله لم يدر بخلدهم إلا الوقوعات. وأخطاء التطبيق لا تنتج نظرية ولا تدين مبدأ، والوقوعات الاحتمالية لا ترقى بالقول إلى سدة التنظير. ولكيلا يقع المنظرون في متاهات القراءات فإنه من الممكن أن توضع ضوابط ل (التأويل) وقواعد ل (التلقي) بحيث يكون (المنهج الخفي) عند استدعائه حقاً مشروعاً تنتجه إمكانيات استثنائية، وتجسده رؤى وتصورات واعية، وحينئذ لا يكون استدعاؤه للمساءلة للإدانة. ولن يكون الاستدعاء مأمون العواقب حتى يقتصر التداول على المتضلعين من نظريتي (التلقي) و (التأويل) من الجهابذة الذين يأتون البيوت المعرفية من أبوابها. وقد فعلها سلفنا الصالح، بحيث جعلوا لكل مذهب قواعده وأصوله وآليات استنباطه وخطة مساره، وتراتب علمائه، وسقف اختلافه. حتى لقد عرف المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد، وعرفت أسباب الاجتهاد وشرعيته ومحله وأقسامه وطرقه وشروطه: الذاتية والعلمية، ووسائله: النصية والتعليلية. وما عهدنا أحداً من العلماء المؤصلين عني بالوقوعات العارضة إلا للافتاء، وما كان أحد منهم متخذاً السقطات محفزة لسك المصطلحات، ولو أن كل جنحة أقيمت عليها رؤية، وسك لها مصطلح، لملئت المدارج بالحرس الشديد والشهب.
ومتى حددت القواعد والأصول، أمكنت مواجهة المرجعيات الدينية النصية، ولن يكون هناك -والحالة تلك- قطيعة بين فرضية المنهج الخفي والجلي. ومن خلال متابعة المتداول من القول حول المنهجين تبين لي أن المقاربة بدائية وغير حصيفة، لاعتمادها على المرافعة ضد غائب، واعتماد مصدريتها على قيل وقال. وليست إشكاليتنا الفكرية ناتج همِّ الأسلمة، وكيف نتصور ذلك وهي مقتضى السياسة التعليمية، وليست إشكاليات المنطقة العربية ناتج تعليمها، بحيث نتصور أن خطاباً محلياً خافتاً كان بمقدوره أن يربك العالم ويغزوه في عقر داره. وهل ما يمر به العالم من رعب يعد ناتج انحراف معلم أو واعظ أو مركز صيفي أو جامعة تخلت عن رسالتها التنويرية؟ إن ربط مشاكل العالم بهذه الممارسة المحلية يعني استعدادنا لمواجهة العالم بأسره، وتعزيز ادعاءاته بأن بلادنا مصدر العنف، وعلى البراغشيين أن يعللوا لنا وحشية اليهود وغطرسة الأمريكان وهمجية القتل في الجزائر والحروب الأهلية الشرسة في بقاع كثيرة من العالم.
والتحفظ على الفرضيات مرده إلى هم المفترض ومراميه، فالأوضاع الاستثنائية تنفرد بأحكامها ومحظوراتها ومباحاتها، ولهذا عرفت (حالة الطوارئ) . فما يقبل في ظل ظروف عادية ليس حتماً أن يقبل فيما سواها. وإذا اختلفنا فيجب ألا نقع في مأزق تبادل الاتهامات، وفرض وجهات النظر، وتحميل الآخر ما لا يحتمل، وتقويله ما لم يقل. التعاذر والتعايش هما السبيل الوحيد لاجتياز المنعطف الخطير.
وإذا صنع الغرب أعداءه بغطرسته، ولم يستطع تفكيك لعبه ف (يداه أوكتا وفوه نفخ) ، ولسنا ملزمين باجترار أطروحاته وتصديق تخرصاته، ولا معذرين لمقترفاته. وليس من مصلحتنا استعادة ما تراكم من مخلفات الجدل العقيم في زمن الاسترخاء والنزف المعرفي وأجواء الثقة. وليس من المناسب أن نطرح أنفسنا بوصفنا طرفاً في قضايا العصر، ورؤوس الفتنة: (بوش) و (بلير) يصطرخان تحت أسواط الرأي العام، وقد تدركهما حرفة الكذب، كما أدركت (رتشارد نكسون) خطيئة (ووتر جيت) رغم مبادراته المتميزة. وحين يرهبنا ويرعبنا ما يحصل في بلادنا فيجب ألا يكون حملة الأقلام في معالجة الأحداث ك (سعد) في إيراده لإبله، ولا كمن أراد أن يعرب فأعجم. وإذا شُرع القول أو الفعل المغاير للسائد والمألوف في ظل ظروف قائمة فإن تبدل الأحوال وقيام الحاجة إلى قول أو فعل مغاير لا يقتضي استدعاء القول السالف وفعله للمساءلة، إن لكل ظرف خطابه وفعله، والسياسة (فن الممكن) ومن حق الرأي العام ألا تلغى ذاكرته، وألا تستفز عواطفه، بحيث يتحول الفعل المشروع في زمن إلى مقترف في زمن لاحق. ولعل من الطرائف المضحكة، وشر البلية ما يضحك، أن تكون من قائمة الاتهامات الموجهة ل (صدام حسين) حربه مع إيران، وهي الحرب التي منحها العالم كله الشرعية وأيدها ودعمها، وما كان فيها (صدام حسين) إلا لاعباً غبياً. وكم يكون الإنسان مكرهاً لا بطلاً، وكم يكون خياره محصوراً بين ضررين فلا يجد بداً من ارتكاب أهونهما. ومكمن الخطورة في سك المصطلحات لتكون وثائق مزورة بيد من لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ومشاهدنا العربية بليت بمن يأتي الغرب من أهله بنبأ غير يقين. والغلاة المتطرفون والمداهنون المتحللون وجهان لعملة واحدة يقتسمان الخطايا.
وخلاصة القول: إن المجتمع بكل أطيافه يتحمل شطراً مما حصل فيما تتحمل فلول اللعب الكبرى الأشطر الباقية، وعلينا أن نرسم طريق الخلاص، لا أن نمعن في التخلص، وإن علينا أن نرصد لاتجاه الريح، لنقوض أشرعتنا، ونحتضن مجاديفنا فالريح وحدها كفيلة بدفع السفينة، وإذا تفجرت بالراجلين ألغامهم التي زرعوها بأيديهم، فليس من الحكمة أن تدفع مؤسساتنا الثمن، ولا أن نقبل بالاتهام. وإذا كنا بما وهبنا الله مواسين وآسين ومتوجعين فليس من البر احتمال خطيئات الآخرين. كل الأوضاع الشاذة في الوطن العربي بقايا لعب كونية، ومن كثرت مسابيره ومجساته تكشفت له الأوضاع على حقيقتها. لقد كانت لي متابعات وإلمامات ومشاركات في مؤتمرات وحوارات داخل البلاد وخارجها، وتبدى لي أن كل ناهض بمهمته يدعي أنه رب الوسطية وصاحب الحق والشرعية، وأن للغلو والتطرف والتنطع أرباباً يحمونها ويؤزونها، وأن قوله صدق لا يحتمل الخطأ، وقول غيره خطأ لا يحتمل الصدق، وهذا التوهم يحمله على الشطط والانفعال وتصور نفسه منقذاً يمارس الإنذار، ولا يميل إلى الحوار، ويتعمد النقد، ولا يتخذ سبيل التساؤل والاستبانة. وكل منظر لا ينبس ببنت شفة، حتى يفترض ملائكيته وشيطنة ما سواه، وذلك لعمر الله بيت الداء ومكمن الإشكالية، وما رأس الدواء إلا البصر والبصيرة وتعزيز النفس اللوّامة وتخذيل الأمّارة، وحمل المخالف على خطأ التصور أو نقص المعارف.
وإشكالية (الوسطية) التي يدعي وصلها كل متحدث تزداد تعقيداً كلما أمعنا في التعويل عليها، دون تصور دقيق لحدودها ومقتضياتها. فالذي يتخذ من الوقوعات العارضة (أيديولوجية) لا يعد وسطياً، والذي يجمع كل الخطايا في سلة الخفاء ليس وسطياً، والحدِّي المحتدّ ليس وسطياً، والمتحلل من كل ضابط المميع للدين ليس وسطياً، وتلك الرؤى الخاطئة توقعنا في إشكالية المفاهيم الخاطئة. ولهذا يظل كل متمذهب يدعي الوسطية والتسامح، وسيظل الادعاء قائماً ما لم يحتكم الأطراف إلى مرجعية معتبرة نافذة القول. والأمة تواجه خطر الاستبداد بالرأي، وعدم احترام العلماء المشهود لهم بالعلم والصدق والإخلاص والاستقامة، ومتى ذهب كل مبتدئ برأيه، ولم يسلم للمرجعية المعتبرة اتسع الخرق على الرقع.
ولو أن حملة الأقلام عمدوا إلى تحديد دقيق لمفهوم الوسطية، وأذعنوا لمرجعية: نصية أو شخصية اعتبارية، تقطع دابر الخلاف، وتنهي الجدل. ولو أن كل الأطراف التزمت أو اقتنعت على الأقل بأن تحقق الوسطية لا يكون إلا بالاستقامة على المأمور لكان أن أرحنا واسترحنا.
والذين يفترضون التجلي والخفاء يشغلون المشهد بإضافة جديدة، غير ملموسة وغير محددة، فمن هم ذوو التجلي وما صفتهم، ومن هم ذوو الخفاء وما الحق منهم وما المبطل؟ القول بالتجلي والخفاء قول مشروع، لو لم تكن هناك غايات رديفة، ولو لم تكن هناك ظروف غير ملائمة، ولو لم يكن هناك منهج خفي يستبطنه المتصدي للمنهج الخفي، حتى لكأننا بهذه السفسطة المتنامية عشوائياً نقف أمام (المرايا المتقابلة) .
والخوف من تداول المصطلحات ان يُجعل منها مجالٌ لتحميل الخطاب الديني كل جرائر الإرهاب، ومن ثم تعزز حجج اللاعبين الكبار، الذين يُحركهم يمين متدين متشدد لا يريد لغيره أن تحركه عقيدته. وإذ تلتطم في سائر المشاهد عدة خطابات، يحتمل كل واحد منها شطراً من تلك الظاهرة الخطيرة، فإن على المتقحمين لهذه المضائق أخذ الحذر وإعداد العدة، تفادياً لإصابة قوم بجهالة. ولست هنا معنياً بتبرئة أي خطاب، ولا الإحالة إلى خطاب بعينه، فكل خطاب له طرفان ووسط، وله أقوام يضلون بغير علم، كل الذي أريده تفادي سك المصطلحات، أو استدعائها لإعادة التنازع من جديد. وليس ببعيد عن هذا الهلاك من يتقحم سوح الفكر والسياسة ببضاعة مزجاة. وقوانين اللعب السياسية ليست بأقل من أصول المعارف، إذ ليس بفقيه من لا يعرف أصول الفقه وأقطاره الثلاثة: فقه الأحكام والواقع والأولويات. وليس بسياسي من لا يعرف التاريخ السياسي، ومكر الأعداء، و (اللوبيات) و (جماعات الضغط) و(الاستراتيجيات) و (التكتيك) وتعارض المصالح، واللعب الكونية، وتنازع البقاء، وسنن التدافع، وقانون التداول، وأسباب سقوط الحضارات. وحين نتخوف من تداول أي مصطلح قائم أو مفترض فإنما خوفنا من مستدعين متسطحين، ومن متلقين فارغي الأذهان، لا يعرفون إلا ظاهر القول، ومن (متأدلجين) أو (متحدثنين) أو (متعولمين) لا يقدرون جرائر هذه الصيرورة، ولا يعرفون نواقض الانتماء. وجدوها فرصة مواتية، فحسبوا أن الرياح تهب لصالحهم، فاغتنموها قبل أن تسكن، ومن فلول لعب قاتلة ذهب اللاعبون بالأجور، وتركوا المنفذين نهباً للضياع، ومن مشفقين ناصحين استدبروا الواقع، وأوغلوا في أرض موحلة مكشوفة، ليس لديهم من يحمي ساقتهم، ولا من يرود لمقدمتهم.
ومع التحذير من تداول المستجد من المصطلحات التي تُستدعى، ولا تقوم الحاجة إلى مثلها، فإننا لا ننكر أن لكل طائفة أو نحلة رؤيتها وتصورها ومفهومها للأحداث والنوازل، وأن أي متحدث عن النوازل أو الظواهر أو القضايا إنما يتحدث عن رؤيته وتصورها ومفهومها للأحداث والنوازل، وأن أي متحدث عن النوازل أو الظواهر أو القضايا إنما يتحدث عن رؤيته وموقفه، متحملاً كامل التبعات والمسؤوليات، وأن من حق كل مفكر أن يتمتع بكامل الحرية في التفكير والتعبير ما لم يؤدِ ذلك إلى إخلال في الأمن أو خروج على الشرعية أو مخالفة صريحة ومتعمدة للنص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت، أو إضرار بالآخرين. ولو أننا تعقبنا المفكرين وحجرنا عليهم، لكان أن دخلنا كهوف الرتابة والنمطية، واستفحلت فينا عقدة (الأبوية) التي واجهت بها الأمم أنبياءها. والاجتهاد لأهله المؤهلين مشروع، والاختلاف صنوف الاجتهاد، فهو اختلاف مشروع أيضاً، لأن قضايا الدين والفكر والسياسة والأدب تختلف عن ظواهر العلم التجريبي. فقانون الماديات كالسنن الكونية، لا تتبدل، ولا تتحول، والخلاف حولها لا يخرج عن الخطأ المحض أو الصواب المحض، أما ما سواها فالاختلاف يكون خطأ، ويكون دون ذلك. فتنوع الآراء يدخل في إطار الفاضل والمفضول والأفضل. وقلّ أن يكون ثنائي الخطأ والصواب. وما اختلف العلماء من قبل، وما ظهرت المذاهب، وما تعددت القراءات إلا لأن هناك رؤية خاصة وموقفا خاصا ومفهوما خاصا. تتعدد بتعدد القراء والعصور والنوازل. ولا يجوز أن نحيل ذلك إلى المنهج الخفي أو الجلي، ولا أن نجعل الخفي مداناً بإزاء الجلي، ولا أن نحمل الخفاء جرائر الاخفاقات. ولو فعلنا ذلك لكان علينا أن نعيد النظر في اختلاف أئمة المذاهب في الآفاق الإسلامية، الذين فجرت بقايا الحضارات في أقطارهم مواهبهم، إذ في الشام بقايا حضارة الرومان، وفي العراق فلول الحضارة الفارسية، وفي مصر شواخص الحضارة الفرعونية. ففقه (الشافعي) في مصر يختلف عن فقه (ابن راهويه) في نيسابور، وفقه (الأوزاعي) في الشام يختلف عن فقه (أبي حنيفة) في الكوفة وعن فقه (ابن حنبل) في بغداد. وما أحد من الأئمة خطّأ نده، ولكن المتعصبين هم الذين أفسدوا التعدد المذهبي، وما تجاوزت المسألة عندهم الراجح والمرجوح، أو المقدم من المذهب، وما كان الاختلاف إلا ناتج تعدد المناهج والآليات والقواعد والأصول والخلفيات المعرفية واتساع فضاءات النص وتفاعله مع النوازل.
وها نحن نواجه حضارة الغرب دون أن تكون مؤسساتنا الفقهية موحدة القوى، لمواجهة المستجد، وكم نود تفعيل (المجمع الفقهي) و (هيئات كبار العلماء) في آفاق العالم الإسلامي، لتبادر النوازل ب (فتيا) جماعية، قبل أن تختلف الآراء حولها، وتفرق كلمة المسلمين. ولو كان استدعاء المنهج (الخفي) من مقتدرين يمتلكون الآليات والأصول والقواعد، وفي ظل ظروف مواتية ومناسبة لما كان منّا تمنعاً ولا تخوفاً. وكيف نحمل هم الحجر والنص أي نص يحمل دلالات قد لا تتوفر في ذات النص، إذ ان هناك معهودات وسياقات وأنساق وفضاءات ومناسبات ونوازل وأرضيات معرفية تساعد على تعدد الدلالات وتنوعها، وكل قارئ يتوفر على شيء مما هو خارج اللغة تنبثق من قراءاته دلالات ليست من ذات اللغة. وليس من الحصافة أن نقول بأن هناك منهجاً خفياً أو جلياً، ثم لا نعول إلا على وقوعات قالها طالب أو مدرس أو موجه، وليس من المناسب القول في ذلك في وضع محتدم ومتوتر، كهذه الأوضاع التي يعيشها العالم بأسره. إننا نثير انتباه المتربصين، ونتيح لهم أكثر من مرتع، ونهيئ أنفسنا للمساءلة والإدانة. وهل بعد التملق ل (الناخب الأمريكي) من أحد مرشحي الرئاسة لاتخاذ موقف متشدد من المملكة العربية السعودية لو فاز في الانتخابات مزيد من النبش في المناهج.
وأي تناول تستدعيه أحداث عارضة يخرج من مفهوم البحث (الأكاديمي) إلى الجهد (الأيديولوجي) ضمن دائرة الصراع العالمي، مما يترتب عليه رؤية وإجراء لا يصيبان الذين ظلموا خاصة. ولو أن المنهج (الخفي) بلغ أجله لما ملئت السجون بالمذنبين، ولما ملئت دور الرعاية باللقطاء، ولتحول الناس جميعاً إلى عباد للرحمن يمشون على الأرض هوناً، وكم نحن بحاجة إلى المنهج الخفي للحد من الجريمة والسقوط الأخلاقي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:52 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
اضطراب المفاهيم حول (الفكر السياسي الإسلامي)
د. حسن بن فهد الهويمل


بيت الداء في الراهن العربي الحديث (السلطة) المتذبذبة بين (العدل) و(التسلط)، وما من فتنة تلتطم أمواجها العاتية إلا وتحركها أعاصير التنازع حول سدة الحكم، ومن كفي أمره فقد نجا من كل غائلة، ولمّا تزل مفاهيم العلماء والمفكرين في أمر مريج، منذ شهيد المحراب (عمر بن الخطاب) حتى قعيد الحفرة (صدام حسين). وفي كل مرحلة تبدو المشكلة بثوب جديد، ويكون لها خطابها وخطباؤها وإشكاليتها، ولم يستحر الجدل العلمي (المؤدلج) إلا في العصر الحديث يوم أن سُيّس الدين والأدب، و(أُدلج) كل شيء، وسيم المسلمون الخسف. وكل حركة أو تنظيم لا يقومان إلا بحبل من الله أو بحبل من الناس، فدولة العدل والمساواة وإظهار الدين منصورة بنصر الله، ودولة الظلم والاغتصاب والتسلط مسنودة بحبل من الناس.
ولما سقطت (الخلافة) على يد (مصطفى أتاترك) بمواطأة من الغرب المسكون بالخوف من أي تحرّف أو تحيّز فكري إسلامي، اذن لكل قادر على القول أو الفعل أن يدلي بدلوه، عبر خطاب مستقل أو منتمٍ. وفي هذه المعمعة نهض (الفكر العلماني) الذي جعل قضيته الأولى الإجهاز على أي فكر سليم يرد الحكم إلى الله والرسول. وتهافت المفكرون والعلماء والساسة على الحديث عن آثار خلو المشهد السياسي العالمي لأول مرة من (الخلافة الإسلامية). وهو خلو فاجع يدمي القلوب. وفداحة الصدمة لم تتح فرصة للتأمل والتفكير، وإنما أدخلت الأمة في لجج من الفتن، وأصبح بأسها بينها شديد. والصدمة جاءت مذهلة على الرغم من أن (الخلافة) لم تكن متمشية مع المقاصد الإسلامية، ولم تكن من القوة العلمية والعسكرية والاقتصادية بحيث تمارس حقها بندّيّة، وليست منذ أن انتهت الثلاثين سنة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم متمشية وفق المقتضى الشرعي، ولكنها مع كل هذه المعوقات ظلت رمزاً ينظر إليه الكافة، كما ينظر أهل المريض إلى مريضهم، فلا يأس مع رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكان معوّلهم أن المُلك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وكانت الشرارة التي تحوّلت إلى ضرام كتاب القاضي الشرعي (علي عبدالرازق ت 1386هـ) (الإسلام وأصول الحكم) لأسباب منها:-
أولاً:- تطرّفه في تصور الفكر السياسي الإسلامي، إذ يرى أن الإسلام دين لا دولة وعبادة لا علاقة لها بالحكومة والسياسة، وأن الرسول لم يؤسس دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يستخلف حاكماً، وما ورَّث إلا العلم.
ثانياً:- أنه جاء في لحظة حاسمة، فعندما سقطت (الأستانة) تململت (القاهرة) لتتلقى راية الخلافة، فأفسد هذا الكتاب ما كان القصر الملكي يؤمّله، وبهذه الضربة اللازبة قمع الاستعمار هذا التطلع، وشغل الأمة بالجدل العقيم حول مشروعية الخلافة من خلال هذه الصنيعة الماكرة، وقضي الأمر بعد اتفاقية (سايكس بيكو).
ثالثاً:- يعد الكتاب لعبة استعمارية للحيلولة دون التفكير بالخلافة من جديد، ومن ثم أصبح بداية حرب كلامية وتطرّف فكري مازال العالم الإسلامي يتجرع مرارته إلى ما بعد يومنا هذا.
رابعاً:- الظروف التي خرج فيها الكتاب ظروف استثنائية، فسقوط الخلافة أحدث فاجعة، أفقدت العلماء صوابهم، حتى حكموا بعودة الجاهلية الأولى، وتطرّف بعضهم بتكفير المجتمعات الإسلامية، لأنها استكانت، ولم تبايع خليفة، يحكم بما أنزل الله، ويرفع راية الجهاد لمواجهة (العلمانية) التي التبست مقتضياتها في أذهان الخاصة والعامة، وأصبح القول فيها محور أي (أيديولوجية) أو تنظيم حركي.
ولقد سبق هذا الكتاب كتاب يتناول إشكالية الخلافة للعلامة السلفي (محمد رشيد رضا، ت 1354هـ) (الخلافة أو الإمامة العظمى) ولكنه لم يثر من الجدل ما أثاره كتاب (علي عبدالرازق)، ذلك أنه جهد تطوعي، فيما جاء كتاب (عبدالرازق) جهداً تآمرياً, وإن قيل بأنه عمل صالح ضد تآمر المستعمر مع القصر بنقل الخلافة، ولو دخلنا في دوامة القول ونقيضه لبعدت علينا الشقة، ذلك أن بوادر السياسة كما آثار محترفي الإجرام تكون مطموسة المعالم، ودليل ذلك أن المؤلف لم يكن من ذوي الفكر السياسي، وما كان متوقعاً من مثله اجتراح مثل هذا العمل الجريء الخارج على كل الأعراف، حتى لقد وجّه الاتهام لمن هو أهل لمثل هذا التآمر وهو (طه حسين) إذ أشيع أنه هو المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب الضجة. وفي تلك الفترة بدأت التحولات على مختلف المستويات، فعلى المستوى الاجتماعي كان (قاسم أمين)، وعلى المستوى الحضاري كان (طه حسين)، وعلى المستوى المرجعي كان (أبو رية) وما من قضية كبرى إلا ولها متمردها.
والمتابع لإفرازات الكتاب يقف على فرضيات متعددة، تدل على أنه عمل يكمن تحت سطوره عفن المكر الاستعماري. لقد تصدت له طائفة من العلماء والمفكرين أمثال (محمد الخضر حسين، ت 1377هـ) و(محمد بخيت المطبقي، ت 1354هـ) واقتصر جهدهما على نقض ادعائه، ولم يستدعيا ملابسات المقترف. فالإشكالية لم تكن حول اختلاف المفاهيم، وإنما هي حلقة من حلقات المؤامرة الكبرى التي لمَّا تزل تخلع قناعاً وتلبس آخر ويتعاقب عليها متمردون لوجه الرحمن أو لوجه الشيطان.
هذا التطرف في الآراء حول القضايا المحورية المصيرية أدخل الأمة في دوامة لا توقّف لها، وبهذه الآراء المتضاربة فُقدت (الوسطية) وحل محلها الغلو والتطرف والتنطع، وهذا الغلو نسل منه تطرف مضاد، ولكل رؤية وسط وطرفان، ولكل رؤية أشياع وأتباع، لا يترددون في إزهاق أنفسهم في سبيل فرض مشروعهم.
وعلى مستوى الدراسات الحيادية أو المنتمية طرحت عدة مشاريع:-
- مشروع (الفكر السياسي الإسلامي).
- مشروع (الفكر العلماني الديموقراطي).
- مشروع (الحكومة الدينية الثيوقراطية).
وكل هذه الأفكار ظلت حبيسة التنظير، إذ لم يفعّل مشروع منها وفق مقتضياته، وتداولت المشاريع الثلاثة ثلاثة انتماءات كمونية: الوطنية والقومية والدينية، وتخلل ذلك وسبقته إطلاقات جائرة، تكفر المجتمعات الإسلامية، لأنها لا تحمل بيعة إسلامية، ولا تخضع لخلافة إسلامية. ولقد كانت للمفكر الإسلامي (محمد عمارة) مجموعة من المؤلفات حول هذه المشاريع حاول فيها الوصف والتاريخ والتوفيق، وفي ظل التلبس العاطفي أمعن في عقلنة الخطاب، حتى عده البعض من معتزلة العصر. ووجدت طائفة من عشاق الشهرة والمخالفة أو عشاق العلمانية المتطرفة فرصة لإشعال فتيل الفتنة، وعلى رأس أولئك المستشار (محمد سعيد العشماوي) في مجموعة من الكتب من أهمها (الخلافة الإسلامية) و(الإسلام السياسي)، والماركسي الهالك (خليل عبدالكريم) في مجموعة من الكتب المليئة بالنقد الساخر للتاريخ السياسي الإسلامي، وبخاصة تاريخ الصدر الأول.
ودخلت طائفة من (الحداثويين) والمفكرين الماديين في هذه المعمعة مصعِّدة التوتر معمِّقة الصدام، جاء على رأسها (محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(علي حرب) وكل (المتعلمنين) أو (المتحدثنين) يدلون بدلوهم في الشأن السياسي ونمط الحكم والخلافة، إما بطريق مباشر أو غير مباشر. وكلما ألممت بحقل السياسة في مكتبي قلت في نفسي:- لن يجتمع الأشتات، وتمنيت لو يتعاذروا ويذهب كل طرف بما قسم الله له. وآزر هذه الأشتات مصلحيون كل واحد منهم ركب الموجة التي تناسبه، حتى شاعت مقولة:- (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، وحتى جاء من يقول مقابل مقولة:- (إن تطبيق الشرع هو الحل) (هو اللا حل ذاته)، وهذا التراشق غير المنضبط صعّد التوتر.
كما أن الحِدة والحدِّيات صعدت الخلاف وعززت إمكانيات التطرف، ولو أن كل طائفة تحامت استفزاز الآخر، لكانت الأمور دون هذا التوتر. ولم يقف الأمر عند طرفي القضية، وإنما دخل المعمعة وسطاء توفيقيون أو تلفيقيون حاولوا التقريب بين وجهات النظر، دون معرفة تامة بالثوابت والمتغيرات، حتى لقد صار ضرر بعضهم أكبر من نفعه. هذا الصراع الفكري أتيحت له الفرصة ليتحول إلى صراع عسكري، وذلك بوصول بعض الطوائف إلى سدة الحكم، ولقد بلغت الأمة ذروة التوتر بتلاحق الثورات، وتعويلها على الدعم الخارجي الذي وجد الفرصة مواتية فثبّت وجوده بتعزيز الطائفيات والعرقيات والقوميات وجعل من كل ذلك ملفّات ساخنة يحركها متى شاء. وفي ظل التحكم الخارجي، واضطراب مشاريع الثوريين بين عدد من (الأيديولوجيات)، وفي درك الشقاء انحصرت كل الخطابات حول (السلطة) بوصفها الطريق الوحيد لطرح المشروع الفكري، وخرج الجيش من ثكناته، وأقبل من ثغوره، لينتزع السلطة منحياً المدنيين والدينيين، وتحول الشعب إلى غنيمة تعتورها سهام الأبناء والأعداء على حد سواء، وكم رددت الشعوب أمام مغتصبها من أبنائها:-




(قفوا وقفة المعذور عني بمعزل
وخلّوا نبالي للعداء ونِبالها)


وفيما بين هذا وذاك التطم المشهد الفكري والسياسي بخطابات متعددة تبنّاها مصلحون سياسيون ودينيون مستقلون أو منتمون من أمثال:- (أبو الأعلى المودودي) و(سيد قطب)، ومثل هؤلاء تناولوا القضية من خلال انتماء فكري حركي معارض لسياسات قائمة، ولقد كان لمثل هذه التنظيمات دور في تنفيذ اللُّعب السياسية مواطئين أو متقاطعين، وكل لاعب محترف ينتهي بانتهاء اللعبة، وقد تكون لديه بقية من أقنعة تمد أمد بقائه على المسرح، ولمّا تزل قضية (الحاكمية) المصدر والمورد لكل مفكر إسلامي أو علماني أو متذبذب، والمختصون حول مفاهيم (الخلافة) و(الحاكمية) تجتالهم رؤى وتصورات يؤزها الضالعون في صنع اللعب والمتحكمون في مسرح العرائس. ولم تكن القضية شأن الحركيين وحدهم بل تناول الموضوع ساسة ومفكرون من خلال رؤية علمية، وما من متناول فكري أو علمي إلا وله همه ورؤيته وتشكّله الفكري وميله الفطري، فالنظرة العلمية الخالصة الحيادية غير ممكنة، ولو نظرنا إلى نقد (العقل السياسي) عند طائفة من المفكرين أمثال (محمد عابد الجابري) في مشروعه (نقد العقل العربي) لوجدنا كتابه الثالث في السلسلة يتناول الإشكالية السياسية من خلال محورين: (المحددات) و(التجليات). فالمحددات عنده تنطلق من عاملين: عامل الدعوة، وعامل الردة، ومؤداهما إلى الدولة أو الفتنة.
والمشهد الفكري زاخر بالأطروحات المتفاوتة حول الفكر السياسي الإسلامي ومشروعيته، فمن منطلق من التاريخ السياسي الإسلامي، ومن منطلق من النصوص الإسلامية غير المفعّلة، ومن مجتر لمقولات المستشرقين، ومن معوّل على عصور الفتوحات الإسلامية غير مدرك لواقع الأمة، ومن مستخذٍ محبط ميْئِس. وكل الأطروحات تتنازعها الوسطية والإفراط والتفريط. نجد ذلك عند (برهان غليون) في كتابه (نقد السياسة: الدولة والدين)، وعند (خلدون النقيب) في (الدولة التسلطية)، وعند آخرين تتفاوت اهتماماتهم ومدركاتهم ك(عبدالعزيز البدري) و(يوسف القرضاوي) و(محمد الغزالي)، وآخرين ركزوا على الصراع بين الإسلام والعلمانية. وأجمل من تناول نظام الحكم في الإسلام ووفَّاه حقه وحرّر مسائله وقدّمه بحثاً علمياً متوازناً الدكتور (عبدالحميد متولي) في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) وإن كان قد توسع في الحديث عن الفقه وأصوله بوصفه آلية تحديد الخلافة ومنهجها، والمتابع للطرح الفكري والسياسي تتفرق به السبل، وإن لم يكن على بينة من دينه فإنه سيضل الطريق، وقد يقع في التطرف من حيث لا يريد. وحتى الدساتير تجد بعضها يتملق الرأي العام فيقول:- إن الإسلام مصدر من مصادر التشريع وليس هو المصدر الرئيس ولا الشامل، وهذه التعددية في المصدرية تفتح آفاقاً من العلمانية بكل ما هي عليه من اضطراب في المفاهيم.
وحاجة الأمة في راهنها أن تحيد كافة الأطروحات المتشنجة والمثالية المتطرفة والصدامية المتنمرة، وأن تصرف النظر عن كافة الممارسات، وأن تسقط من حساباتها الخطاب الإعلامي التبريري، وأن تدخل معمارها القائم لإصلاحه من الداخل، فما عاد الاستبدال حلاً، وما عاد الهدم مطلباً، الإصلاح من الداخل وفي الداخل وبإرادة وطنية هو السبيل لتجاوز الأزمة القائمة، وليست المسمّيات ولا الأساليب مهمة، المهم النتائج. فإذا وجد العدل والإحسان والحرية والمساواة وإظهار الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثمة الحكم الإسلامي، وليكن النظام: ملكياً أو جمهورياً أو سلطانياً أو إماراتياً شورياً أو (برلمانياً) اختيارياً أو انتخابياً استخلافاً أو غير ذلك. العبرة بالمصائر، وما يتوفر للشعوب من حقوق مشروعة. وأخطر ما تواجهه الأمة جماعات الضغط (المؤدلجة) المسيّسة، والجماعات المنازعة للسلطة من وراء قناع المعارضة المشروعة، والناكثين للعهد المفارقين للجماعة تحت أي مسمّى. وكأني بالخلافة الأزمة كمعدة الجسم الإنساني التي هي (بيت الداء).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:53 PM   #4
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ابن إدريس ناقداً..! 1-2
د. حسن الهويمل


1-1 الدهماء من الناس من يظن أن المحتفى به لا يستوفي متطلبات التكريم حتى يكون الأول في كل شيء. وفي ظل تلك الرؤى حُجبت المعرفة، وأفل العلم، وحل محلهما الثناء والمجاملات.
وليس ذلك وليد الساعة، وإنما هو خليقة عرفها الباحثون عن الحق. وما على المتردد إلا أن ينقب في (كتب المناقب) و (سير أعلام النبلاء) ، و (تاريخ الرجال) ، ليرى ما لا يمكن توقعه من مبالغات قد تُخرّف القضايا وتؤسطر الرجال. ولما كنت ممن يُدعى إذا حيس الحيس وإذا تكون كريهة للحديث عن الرواد المكرمين أو المؤبنين، فقد روضت نفسي على مواجهة المواقف بأسلوب وسطي، يحفظ التوازن بين (الحق) و (الحقيقة) ف (حق) المحتفى به أن نلتمس أحسن ما عنده. و (الحقيقة) ألا نقول عنه إلا الحق. وإذ يود المحتفون بالأديب (ابن ادريس) تسليط الضوء على جوانب متعددة من منجزاته، فقد وكل إليّ تناول حظه من النقد. و (النقد) مصطلح يقتضي الجمع والمنع، ولا يؤتاه إلا من كان متوفراً على مقتضياته: المعرفية والمنهجية. والقول عن نصيبه منه، يستدعي استعراض ما أنجز من أعمال نقدية، وتمريرها على أدنى حد من المقتضيات، فإن توفر عليها، كان ناقداً فاضلاً، وإن كان على شيء منها كان ناقداً مفضولاً. ولأن المتحدث عن الشخصيات والظواهر والقضايا يُري نفسه الآخرين، مبدياً من خلال حديثه مبلغه من العلم، ونصيبه من المصداقية فإنني سآوي إلى وثائق تعصمني من التجهيل أو التكذيب، وتنجيني من مغبة المجاملة أو معرة التحامل، إذ لو تصورت النقد على غير ما هو عليه لكنت جاهلاً في نظر العالمين، ولو قلت عن المحتفى به غير الحق لكنت كاذباً في نظر العارفين، وفي الحالين لا أفيد المحتفى به شيئاً، ولا أحفظ ماء الوجه.
والاستاذ عبدالله بن عبدالعزيز بن ادريس خلَّف وراء ظهره فيوضاً من القول الأدبي المعهود في الأذهان، والمطبوع في الكتب، ولا أحد منا يملك إنكار شيء منها، ولا إضافة صفة لا يحتملها شيء منها، وليس بيد أحدنا أن يحمل تاريخ الرجال ما يريد، ولا أن ينزع منه ما لا يريد، فلقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وإن كان ابن ادريس حاضراً بيننا، يقول، ويفعل، ويملي فصول حياته الأخيرة التي نرجو له فيها إنْساءَ الأجل، ومزيد العمل، فإنه وبعد هذا العمر الحافل بالأداء قد استقر في الأذهان منذ بوادره الأولى: شاعراً جزل العبارة، وناقداً حاد النبرة. ولمَّا تكنْ صلتي به طوال هذه المدة مقطوعة ولا ممنوعة. فلقد عرفته وأنا طالب يبهرني كل شيء، كان يومها في نظر لداتي الشاعرَ الذي لا يطاول، والأديب الذي لا ينازع، والصحفي الذي لا يبارى، والناقد الذي لا يجارى. ونمت معارفي، واتسعت مداركي، واقتربت منه: ذاتاً ومضموناً، وشبت رؤيتي عن الطوق، وتنوعت اهتماماتي، وتعددت قراءاتي، فكان واحداً من عشرات الكتّاب والشعراء والنقاد الذين يؤخذ من قولهم ويترك، وتخطى بي الزمن لأكون الصديق والزميل، وتوثقت الصلات، وتعددت اللقاءات، وتجاوزنا معاً مرحلة المجاملات، وما عاد أحد منا ينتظر من صاحبه إلا قول الحق، وفوق كل ذي علم عليم. ولأنه شاعر وأديب من بلادي، فقد كان قدرنا معاً أن يكون مادة بحث ودراسة، فاهتمامي بالأدب السعودي فرضه علي موضوعاً. تناولته شاعراً في رسالتي للماجستير وللدكتوراه، وتناولته ناقداً فيما كتبت من مداخل لدراسة الأدب السعودي. ومَوْضعة الذات تغيب العلاقات والمجاملات، بحيث يصبحُ الإنسان شيئاً من الأشياء، يقول عنه الدارسُ ما يقوله عمن سبقه من شعراء أو كتاب، لم يرهم من قبل، وإنما نفذت إليه أقوالهم وما قيل عنهم، مما حفظه التاريخ، فشعراء الجاهلية والإسلام، والمعاصرون من مبدعين ونقاد، أصبحوا خبرا بعد عين، ومواضيع يختصم حولها من بعدهم.
وابن ادريس الذي ترك السرى خلفه، وخلا بأعز جليس، تحوّل منجزه الكلامي إلى موضوع، يملك كل قارئ حق التعبير عما يراه إزاء ما يملك من وثائق. وهنا وفي ظل هذه الحيثيات والمسوغات، عدت قارئاً جديداً لما سبق أن قرأتُ عنه وله، ولما سبق أن كتبتُه عنه في غيابه. وليس من السهل في هذا الموقف أن أبذل القول غير القول، ولا أن أملك حرية القول في لحظة احتفاء واحتفال. والرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (إن من البيان لسحرا) إنما استدعاه لهذا القول متحدث عن (الزبرقان) - فيما أعلم - رضي المتحدث عنه فذكر أحسن ما يعلم، وفي ذات الموقف سخط عليه فذكر أسوأ ما يعلم، ومع ذلك أقسم أنه صدق في الأولى، ولم يكذب في الثانية. والمتحدث ذو أحوال ثلاثة: - إما أن يكون راضياً أو ساخطاً أو طالباً للحق، لا يدفعه رضا ولا يثنيه سخط. وكل حالة توجه المسار. ومع كل هذا فإن القول عن أي ظاهرة محكوم بانتماء المتحدث فكرياً وبرؤيته فنياً وبإمكانياته معرفياً. ومن ثم فليس هناك قول فصل، ولو آمنا بالحدِّية لكنا قد فرغنا من شعرائنا وكتابنا منذ أمد طويل. والحديث عن ابن ادريس في جانب من اهتماماته الأدبية يحفزنا إلى استكناه ذلك الجانب مفصولاً منه، حتى إذا تصورناه نظرنا إلى مبلغه فيه. و (النقد) له سياقه المحلي والعربي، وله مذاهبه وتياراته وآلياته وتحولاته، وللنقد المحلي ريادته وتأسيسه وانطلاقه، وله رواده ومؤسسوه، ولكل ناقد مرجعيته واهتماماته، وابن ادريس في هذه المعمعة واحد من الدارسين والمؤرخين، وما من متعامل مع الحركة النقدية في المملكة إلا ويعرض له متفقاً أو مختلفاً معه، ويكفي أن يكون جزءاً من التاريخ الأدبي، والحديث عن النقاد يقود إلى الحديث عن النقد، وهو مصطلح قائم بذاته تتنازعه ثنائية: التطبيق والتنظير، وتتجاذبه الآليات والمناهج والمذاهب، ويختلف المؤرخون والمنظرون للنقد حول من يدخل فيه. ومن لا يدخل، فمتى يكون الكاتب ناقداً أو مفكراً أو فيلسوفاً أو مثقفاً أو مبدعاً، ومتى لا يكون؟ ومتى يستحق الجمع بين سمتين؟ وابن ادريس أبدع الشعر، وكتب النقد، ونازع في امتلاك السمتين، ولكنه لم يفرغ لواحدة منهما، وأخشى أن يكون قد سوِّد قبل أن يتفقه، ومع ذلك فقد أخرج للناس كتباً في الإبداع وأخرى في النقد، وحفز الدارسين والنقاد لقراءة شعره وتحديد مذهبه النقدي، ومهمتنا أن نعرف مبلغة مما نحن بصدد الحديث عنه وهو (النقد) .
2-1 والسؤال الملح:
يحدونا إلى التساؤل عن مكانته في سلم النقد وأنواعه، فهل عبدالله بن ادريس (ناقدٌ) أو (مؤرخ أدبي) ؟. وحين نسلم بإحدى السمتين أو بكلتيهما، فأي السمتين الصق به:
النقد الأدبي بقسميه: التنظيري والتطبيقي.
أو التاريخ الأدبي بقسميه: الرصدي والوظيفي؟
وهل المؤرخ الأدبي يعد ناقداً؟ وهل مَن كتب في موضوعات الإبداع القولي، يعد ناقداً؟ وهل الانطباعية والذوقية منهجان من مناهج النقد؟ إننا أحوج ما نكون إلى تحرير (مفهوم النقد) ، وتحديد مستوياته وأنواعه قبل وضع الشخصية المدروسة في موضعها الطبعي.
وأعيذها نظرات صائبة من المتلقي ان يحسبني أفتعل دوامة كلامية، وأثير غبار الاحتمالات، لأتسلل لواذاً كاتماً ما أرى، كمؤمن آل فرعون، ذلك أن الأمر لا يحتمل مثل هذه التحفظات، فمن جعل ابن ادريس ناقداً وجد ما يعزز به رأيه، ومن قصره على التاريخ الأدبي أو الانطباعية أو الذوقية وجد ما يدفع به غوائل المؤاخذة. ولا استبعد أن تكون مَوْضعةُ ابن ادريس إشكالية، فالنقاد الأكاديميون لا يتفسحون لغيرهم في مجالس النقد، لتعويلهم على المنهج الصارم والخطة الدقيقة، والنقاد المتضلعون من فيوض النقد الغربي الحديث وتحولاته يرون النقد علماً ومعياراً، والنقاد الشعراء ومنهم ابن ادريس يعدون أنفسهم أبناء بجدة النقد، يوم كان الزمان زمان الشعر، ولما يزل في كؤوس الجدل بقية، وقد نخرج من جدلنا هذا بإضافة إشكاليات جديدة. لقد عرفت ابن ادريس منذ خمسين سنة يوم كنت طالباً في الصفوف التمهيدية، كان ذلك عام 1374ه، وكان يومها مفتشاً ملء السمع والبصر. وقرأت له منذ أربعين سنة، حين أخرج للناس كتابه (شعراء نجد المعاصرون) وأحدث به ردود فعل واسعة، وقدم به مرجعية تهافت عليها عدد من الدارسين. وتناولته ناقداً وشاعراً منذ ثلاثين عاماً، حين باشرت في إعداد رسالتي للماجستير، وعدت اليه قبل خمسة وعشرين عاماً حين درسته في رسالتي للدكتواره، ولما يزل يتقلب بين يدي موضوعاً في قاعات التدريس، وصالات المناقشة، ومنابر المنتديات، أكتبه موضوعاً لدراسة أعدها، وأقرؤه موضوعاً لرسالة أناقشها. يرفعه قوم، ويضعه آخرون، ويتفق معه ناقد، ويختلف معه آخر. وما من أحد نفى شاعريته، ولا أنكر منجزه النقدي، وإنما الاختلاف حول قيمة هذا المنجز، وتصنيفه، وتوصيفه وموقعه في سياقه. وإذ نكاد نتفق على انه شاعر وناقد، يظل الخلاف محصوراً في مبلغه من الشعر والنقد، والمريح إنه لم يظفر أحدٌ من الناس بالإجماع على مبلغه في أمر من أمور الأدب والفكر، فالنقاد قد يتفقون على السمة، ولكنهم يختلفون على مبلغ الانسان منها، فهذا (المتنبي) ، مالئ الدنيا وشاغلُ الناس، النائم عن شوارد شعره، والمسهر للخلق، وخالق الخصومات منذ ألف عام أو تزيد، يختلف الناس حوله، وكلما تعمقت الخلافات عظمت الشخصية، وتكرس حضورها، والناس لا يختلفون إلا حول المتميزين، فهاكم (أبا العتاهية) يمر به القراء مر الكرام مسلمين بشاعريته، فيما يطيلون الوقوف حول (المتنبي) ثم لا يسلمون بشاعريته، وبين الاثنين مثلما بين الثرى والثريا. وقد قيل: أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري.
3-1 ولسنا بهذه الاستهلالات نريد النفاذ من هذا المأزق، ولا نريد خلط الأوراق، وإنما نود أن نثبت أفئدة المتلقين، حين لا نتفق مع ابن ادريس أو حين لا نسلم بما سلم به غيرنا، على أننا جميعاً لا نقول إلا معاراً أو معاداً من أحاديث مكررة. والحديث عن الناقد يقود إلى إشكاليات النقد ومفاهيمه المتعددة، والناس بعد تحولات النقد وحدوث متغيرات في الآلية والمنهج والمقاصد غيروا من مفاهيمهم، واضطروا إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وأبعد بعضهم النجعة، حتى لكأنك مع بعضهم في ملاعب جنة، لو سار فيها سليمان لسار بترجمان.
ذلك أن النقد اليوم غيره بالأمس، ولما يعد الوقت وقت مسلمات ونمطيات، والتسليم بكل التحولات يجعل من الأكثرية كتبة في الادب ليس غير، والخلطة النقدية مع الغرب غيرت المفاهيم والاهتمامات، وقلبت الأوضاع رأساً على عقب، ومذاهب النقد الحديث وظواهره كادت تطمس معالم النقد العربي القديم. والمنظرون للنقد الحديث نفوا من مدينة النقد من كنا نعدهم من رواد النقد وعمده، والدراسة المنصفة لأي شخصية من تأخذه في سياقه وإمكانيات مرحلته، ومن الخطيئة التخطي بمعطيات المرحلة وتقويمها على ضوء الإمكانيات القائمة. وحين لا نسلم بالتخطي والابتسار نسلم بما يعتري الحركة النقدية من تحول مستمر، ولكل زمان نقده ونقاده، ومن يعش منا فسيرى اختلافاً كثيراً، والمؤصل من يستوعب التراث والمعاصرة، ويؤاخي بين القديم والجديد، ويختط لنفسه طريقاً قاصداً، لا يفصله عن تراثه، ولا يحرمه من مستجدات العصر، وتلك معادلة صعبة ومعقدة، وليس لها ضابط متفق عليه، ولكن الحق أبلج، ولا مجال للتَّغنُّص، وعلى طلاب الحق ألا يستزلهم المستغربون، وألا تثبطهم عقدة الأبوية، والرحيل إلى التاريخ، والمتمكن من لا يستسيغ إلا ما افترس من رؤى وتصورات، فانتظار النوال، والاهتياج الأعزل في وجه كل جديد مضيعة للجهد والوقت، والتولي عند مواجهة الآخر تخلية لثغور الحضارة، ومن الخير للأمة أن يرحب صدرها لكل طرح، ولكن في إطار ما يتطلبه الوجود الكريم، وما يحقق الهوية، ويحافظ على الخصوصية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:54 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ابن إدريس ناقداً..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولأن لحظات الاحتفاء ستنتهي، وتظل وثائقها. وما يصلح لزمن الاحتفاء قد لايصلح لما بعده، ولأن الحديث مقتصر على جانب النقد في حياة ابن إدريس، ولأن ابن إدريس لم يفرغ للنقد، ولم يشغل نفسه به، ولم يرد أن يكون ناقداً لا يبرح سوحه إلى غيره، فقد كان لزاماً علينا التحرف لنجوة من وقتية المناسبة، والالمامات غير العازمة. لقد كان الشاعرَ والكاتبَ والناقدَ والصحفيَّ والإداريَّ، فكان كما جسم المتنبي موزعاً في جسوم كثيرة، اشتغل في الصحافة محترفاً وكاتب مقال، واشتغل في كافة الأعمال الإدارية يتقلب معها، واشتغل في الشعر مبدعاً لا يلم به إلا حيث تحفزه مناسبة أو يثيره موقف. وكان اشتغاله في النقد مثل اشتغاله في الشعر ثانوياً، ولم تكن له عزمات جادة. ومع كل ذلك، فقد وثّق خطراته النقدية، ما كان منها عن جد وقصد، وما لم يكن عن جد وقصد. وما كتبه من دراسات تاريخية أو نقدية ينمّ عن وعي بما يدور في كافة المشاهد الأدبية، وإن جاءت إلماحاته النقدية مدفوعة بمناسباتها. ولكننا مع كل ذلك أمام عمل أدبي رائد، وظّف فيه كل خبراته وإمكانياته، وارتبط اسمه به، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إنه عرف به، ذلكم هو كتابه (شعراء نجد المعاصرون) ومع أنه من بواكير إنتاجه إلا أنه ظل الأكثر حضوراً، ولربما كان العملَ الوحيدَ الذي نفلَه جهدَه، وفرغ له، ولقد كانت لي معه وعنه أحاديثٌ خبرت بها لماذا بادر إلى التأليف، ولماذا فرض شرطه الفني والدلالي على الشعراء المترجمين، ولماذا أراد له أن يظل كما هو، لايضيف إليه، ولا يحذف منه.
ولقد أشرت من قبل إلى الخلاف القائم بين منظّري النقد في تصنيف النقاد. فقد يتردد البعض منهم في عدّ المؤرخين والمترجمين وأصحاب المختارات من النقاد. ويبالغ البعض حين يجعل النقد موهبة كالشعر، بحيث لا يكون كلّ من كتب في الدراسات النقدية ناقداً، وفي مقابل المضيِّقين لدوائر النقد، نجد آخرين يتوسعون في مفهومه، فيجعلون أصحاب المختارات والموسوعات والتراجم والدراسات والتحقيق نقاداً. والنقد الحديث الذي ركن إلى العلمية والمنهجية، لم يحفل بالذوقية ولا بالانطباعية، والشعراء النقاد يميلون كل الميل إلى التذوق والانطباع ويدَّعون القدرة النقدية، فهم أهل الشعر وخاصته، وهم الأدرى بما فيه. وأمام هذه التصنيفات نجد أنفسنا بحاجة إلى أن ننتزع الاعتراف بأن ابن إدريس ناقد. وليس شاهدنا في ذلك ما كتبه من تراجم ومختارات وخطرات نقدية غير عازمة، ولكن لما ينطوي عليه من استعداد مبكر للنقد، ولما قدّمه فيما بعد من خطرات تؤكد أهليته لذلك. ولا أحسبنا بحاجة إلى مزيد من المنافحة حول هذا الموضوع، والذين لا يعدّون المتذوقين نقاداً، لهم بعض الحق، ولكن الناقد الذي تجاوز التذوق والانطباعية أو تجاوز بهما يمتلك آلية النقد ومنهجيته، والمحدثون من المنظّرين للنقد لا يعدّون من قَصَر قراءته على التذوق الأدبي ناقداً، ولا من كتب في تاريخ الشعراء، وتلك رؤية قائمة لها أنصارها. وابن إدريس المتفاعل مع المشاهد الشعرية والنقدية يفرق بين (الذوقية) و(الانطباعية) من جهة وبين العملية النقدية بعلميتها ومنهجيتها من جهة أخرى، ويعترف باعتماده على الذوق، وهو يعي تماماً أن الذوقية مباينة لمناهج النقد الحديث، قال هذا في كتابه (كلام في أحلى الكلام)(ص9) وأحسب أن الناقد الشاعر غيرُ الناقد العالم، وقد يُدِلُّ الشعراء النقاد بمعرفتهم النقدية، وتلك ظاهرة واكبت حركة الشعر العربي القديم والحديث، وابن إدريس في باكورة انتاجه النقدي (شعراء نجد المعاصرون) ناقدٌ متذوقٌ ووصَّافٌ وحكميٌّ وانتقائيٌّ ومؤرخٌ أدبيٌّ. تفلَّت من إسار التاريخ الأدبي، وتجاوز متطلبات الترجمة، ولم يكن متذوقاً ولا انطباعياً وحسب، وهو في كتابيه (كلام في أحلى الكلام) و(عزف أقلام) متذوق وانطباعي، يسجل انطباعاته عما يقرأ، وإن كانت له مناوشات مع لداته في (عزف أقلام) والمتابع لكتاباته يدرك وعيَه المبكّر للمتداول من القضايا والظواهر، وقد نفذ كثيرٌ منها عبر شبات قلمه، ولكنه لا يريد أن يكون مع أحد من النقاد، مثلما أنه لم يكن الناقدَ المخلص للممارسة النقدية، وما أحسبه فرغ له، ولا حبس نفسه لشيء من ذلك، وإنما يلم به متى شاء أو متى أثير. ولكي أدلل على وعيه بالظواهر والمذاهب النقدية أشير إلى كتابه الأول (شعراء نجد المعاصرون) لقد ألّفه والمشهد النقدي المصري حفي بمذهبين نقديين:
الاتجاه النفسي الذي يتزعمه (عباس محمود العقاد).
والاتجاه الاجتماعي الذي يتزعمه (طه حسين).
والمشهد النقدي اللبناني حفي (بالرمزية) فيما يأتي أوزاع من النقاد العرب في مصر والشام والعراق تتنازعهم الاهتمامات. والشعراء في نجد يصيخون هذه الظواهر، ويأخذون ببعضها، والنقاد الواعون للمتغيرات يرصدون تلك التحولات، وابن إدريس بحسّه وعلميّته رصد تلك الظواهر، وتلمّسها في شعر الشعراء المدروسين، وما على المتابع إلا أن يتأمل إشاراته الخاطفة في تراجمه للشعراء الثلاثة والعشرين الذين قدّمهم واختار لهم، ليرى أنه عوّل كثيراً على معطيات الاتجاهات النفسية والاجتماعية والرمزية. فهو حين تتبدّى نزعة دلالية عند شاعر نجدي، يلوذ بالحالة النفسية أو بالوضع الاجتماعي، ويحيل إلى أحدهما، فعل ذلك مع (عبدالله الفيصل)، ومع (حمد الحجي)، ومع (صالح العثيمين)، وتلمّس رمزية (بودلير) عند (محمد عامر الرميح) و(المنصور) ولأن المشهد الأدبي في مصر يوغلُ في الحديث عن (الواقعية) بكل تنوعاتها، وهو قد شارف على النهاية من حديثه عن (الرومانسية) فإنك تراه يقبض طائفة من الشعراء ليلحقهم في حقل الواقعية، ويمارس الفعل ذاته مع (الرومانسيين) وحين تشغله الدلالة فإنها لا تلهيه عن الفنّيّات: الشكلية واللغوية، وله في الظاهرتين كلام مفتوح، أقرب إلى التنظير، وألصق بالرؤى العامة غير المحررة، وما من أحد ندب نفسه لقراءة الحركة النقدية في المملكة إلا وعوَّل على كتاب (شعراء نجد المعاصرون) فهو لم يكن للترجمة وحسب، ولم يكن اختياره للشاعر ولنماذجه المختارة عفوياً ولا عشوائياً. لقد كان واعياً للمهمة النقدية، ومدركاً لشرطه الفني والدلالي، ولهذا صرف نظره عن طائفة ممن يعدّهم الوسط النقدي شعراء، ترجم للشاعر (محمد بن عثيمين) ولكنه لم يترجم للشاعر (محمد بن بليهد)، وهو شاعر له ديوان مطبوع، وأقيمت من حوله وعليه دراسات قطعت بشاعريته، وكذلك فعل مع (سليمان بن سحمان) صاحب المطولات الذي دُرس أكاديمياً كذلك، وكان بإمكانه أن يلملم طائفة من قصائد العلامة (حمد الجاسر)، ويجعله شاعراً من شعراء نجد، غير أنه لم يفعل، وهو قد سبق في تحفظه على شعر المناسبات، وتعويله على شعر المواقف والقضايا، وضوابطه تلك أعطت كتابه قيمة فنية ودلالية، وأثارت من حوله زوبعة من النقد، وتخطت به وهاد الجمع والترجمة إلى نجاد الدراسة والتصنيف، ولفتت أنظار كبار الأدباء والنقاد إلى كتابه أمثال (العقاد) و(مندور). وكتاب ابن إدريس (شعراء نجد المعاصرون) له قيمة سياقية وتاريخية تحولان دون المساس بسائر القيم. وتحولات النقد وإمكانياته المعاصرة لا تمس الأعمال الرائدة بسوء، ولا تقلل من أثرها في مرحلتها، لقد أدت ضوابط التأليف عنده إلى إعادة التفكير بالمواقف والمثيرات والأغراض والمعاني، وهذا بحد ذاته مؤشر وعي للعملية الإبداعية والنقدية على حد سواء، وليس هناك من بأس حين نتقرى همومه وهو ينقّب عن الشعراء وشواهد الشعر عندهم أن نسوق مقولات تُجمل رؤيته، وقد تصل إلى الجملة المفتاح، كما يقول أحد الدارسين، فهو يقول عن الشاعر (صالح بن عثيمين) (شاعر يقف على الأعراف) وعند حديثه عن (عبدالله الجهيمان) يمارس المراوغة الذكية، ويصف شعر (المنصور) (بالتشخيص الأسطوري) ويقول عن رمزية الشبل: بأنها الايحاء والإبهام والغموض، وليست رمزية مذهبية. وقد عاب على (العيسى) ذاتيته، كما أشار إلى علاقة العروض بالمشاعر عند دراسته (لأبي أحيمد) وتلك قضية لم تحسم بعد، ووصف شعر (الفيصل) بالعفوية وشبوب العاطفة والتصوّف، فيما وصف شعر (عبدالله العثيمين) بالسلاسة والعمق والاتساق، وقال عن شعر (الحجي): - إنه يمتاز بالرواء والتناسق. ومع وقوعه في الإطلاق والتعميم إلا أن مقولاته تلك مؤشرات إيجابية. ولو تعقبت أحكامه على شعر الشعراء لأتيت على كل المتداول من الأوصاف، وإطلاقاته ليست اعتباطية. وعندما نهض للترجمة والاختيار اشترط (التأثير والموسيقية والتصوير والتعبير والخيال والعذوبة والتدفق الشعوري وعمق الإحساس)، وتلك السمات التي وضعها كشرط أساسي، ألحق بها (البناء العضوي للقصيدة) و(الصياغة) و(الصورة الشعرية). وقد جعل كتابه في قسمين: قسم للدراسة، تناول فيه نشأة الشعر وتطوره، ومركز نجد في الشعر، ومكانتها في النهضة العربية، ورصدَ للشعر في تلك الحقبة، وتحدث عن الشعر المعاصر وعوامل تطوره، ثم ناقش الاتجاهات الشعرية. ومن تلك الرؤى انقدحت عندي فكرة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) والتي تحولت إلى موضوع أكاديمي، نوقش وطُبع وأصبح كتاباً يقرؤه الناس، فيسخر به بعضهم ويعجب منه آخرون. وحين أنجز المؤلف قسم الدراسة، لم يكتف بالترجمة والاختيار، وإنما التمس لكل شاعر مذهباً أو خصوصية، فكان بذلك المترجم والمصنّف والناقد والمختار. بهذه الإلمامة العجلى تتبدى لنا ملامحه النقدية من خلال كتبه الثلاثة التي وعت ما رضي عنه من قول في الأدب يدخل به مشاهد النقد بالاتفاق أو بالتغليب، ثم يكون الاختلاف على أشده حول موقعه داخل المشهد.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:46 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تداعيات القراءات الدمشقية..! (1ـ 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


كنت كلما هممت بالسفر، تذكرت رحلات (طه حسين) السنوية إلى (فرنسا)، مع زوجته (سوزان) التي أصرت على البقاء على دينها وعلى لغتها الفرنسية. وشدته بأمراس كتان إلى صُمِّ حضارتها، فكان بذلك إمام المتهافتين على (الفرانكفونية) يستقبل بهم شواخصها. وتذكرت انتقاءه لما يعن له من كتب أدبية أو فكرية أو إبداعية، والفراغ لسماع قارئه، وهو يترنم بالشعر على جبال (الألب)، ثم الخروج بجهد تأليفي، يكون ثمرة السياحة. وأهم معطيات تلك الخلوات المزعومة، ما تمخضت عنه تلك الرحلة التي صحب فيها ديوان (أبي الطيب المتنبي) دون أن يصطحب ما عنده من دراسات وشروح، كان قد ألمَّ بها في عامه الدراسي، لكيلا يعول فيما توصل إليه على شيء منها، ولهذا اقتصر جهده في كتابه (مع المتنبي) على الإملاء، لا يتوقف فيه إلا لضرورات الحياة. ولم يتردد في إهدائه إلى تلك الزوجة الصابرة المشفقة الراحمة - على حد تعبيره -. وسواء صدق فيما يدعي، ام لم يصدق، فقد جاء الكتاب مثيراً وممتعاً ومغالطاً في آن، لا تمل من قراءته، ولا تود مسايرته فيما يذهب إليه من قراءة ذوقية انطباعية، فيها شيء من التعنت والإصرار والتحامل. و(طه حسين) حين يقدِّم أعماله إلى الناس، لا يتورع عن اللعب بعواطفهم، وإثارة فضولهم، وشد انتباههم. ومن يقرأ الاستهلال لا يجد بداً من قراءة الكتاب، وأكبر الظن أنني قرأته مرة أو مرتين ومازلت أغالب الشوق إليه والشوق أغلب. وإذ يريد من كتابه غمط المتنبي، وتزهيد الناس فيه، فإنه أدهى وأمكر من صاحبه (القصيمي) الذي لا يتقي، ولا يداري، ولهذا طُويت كتبٌ كثيرة عن المتنبي، وبقي كتابه متداولاً، غير أن المفاجأة المثيرة ما خرج به تلميذه العنيد (محمود محمد شاكر) مدعياً أن (أستاذه) سرق كتابه عن المتنبي، كما سرق رؤية (مرجليوث) في الشعر الجاهلي ومنهج (ديكارت) في الشك.. ولأنني في أمر مريج من هذا الاتهام فإنني لم أكلف نفسي عناء الحصحصة، وإن كان فيها ما فيها من اغتلاب الارتياب؛ ذلك أن ما بين الكتابين مختلف جداً، فكتاب (طه حسين) تغلب عليه الانطباعية والإبداعية والمراوغة والتماكر والغمز واللمز، فيما تغلب على كتاب (شاكر) العلمية والتمحيصية والترجيحية بين سائر الأقوال.
وكتاب (شاكر) هو الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية، وما كان يومها حفياً باختيار هذا الكتاب دون ما سواه من كتب أنضج وأعمق، فكتابه عن المتنبي كان في شرخ الشباب، وكانت له كتب وتحقيقات تراثية تفوق ما كُتب عن المتنبي، ولهذا نقد لجنة الاختيار والتحكيم بإيماءة ذكية، وظن الناس يومها ان قوله هذا من باب التواضع أو المزاح، وما عرفوا أنه يعتب على لجنة التحكيم اختيار أقل كتب شأناً. والكتابان يلتقيان عند نقطة حساسة، تتعلق بنسب المتنبي، ثم يفترقان إلى أبعد حدود الافتراق، وما كنت معنياً الآن - على الأقل - بتقصي ما انطوى عليه الكتابان من آراء ممحصة أو مرتجلة، منصفة أو متحاملة، وبخاصة ما يتعلق بالنسب، والعقيدة، واضطراب المواقف، والمبالغة في كل أغراض شعره.
لقد اضطربت الأقوال حول (نسبه) و(قرمطيته) و(تنبئه) وحق لها أن تضطرب، ومازال فيها بقية لمريد. وما من متحدث عن (المتنبي) لا تثبِّت قواعده غزارة المعارف، ولا تكبح جماح عواطفه نوازع العدل والإنصاف، إلا ويكون مجال التندر والسخرية؛ فالمتنبي كالبحر اللجي، إن خضت في شاعريته أو في أخلاقه، أو في نسبه، أو في عقيدته، غرق زورقك، وتكسرت مجاديفك، ومن ثم لابد للخائض في لججه من الفلك المشحون بالمعارف. وما أكثر الذين يحسبون ورمهم شحماً وبعرهم درراً، لفظتهم أمواجه كالزبد الذي يذهب جفاء، وقليل من المتحدثين عنه قالوا ما ينفع الناس، فمكث كما تمكث البذرة في الأرض الطيبة، ترقب موسمها لتنشق عنها التربة بأطيب الثمار. وما أكثر ما ينتابني الشوق إلى الحديث عن (إشكاليات المتنبي)، وعن تعدد الرؤى حوله عند ناقديه في القديم والحديث، بحيث لا يكون التقصي رصداً إحصائياً وصفياً على شاكلة ما كتبه أستاذنا الدكتور (محمد عبدالرحمن شعيب) في دراسته الأكاديمية (المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث).
وإذ يكتفي (القعيد الأعمى) بحمل كتاب لا يبرحه حتى يأتيه من أقطاره، فإنني ملول، لا أصبر على كتاب واحد، وليس من عادتي حين أبرح أرض بلادي أن أكتفي بما أحمله من كتب، وإنما اختلس شطراً من الوقت، وأزور ما تيسر من المكتبات، لأشتري منها أحدث الإصدارات في مختلف المعارف، ثم أطويها قراءة عجلى، تأخذ كل مستويات التلقي، فإذا اكتشفت في شيء منها تسطحاً أو ادعاء، تركتها حيث أقيم، مع ما يتركه كل مبارح من نفايات، محتسباً أجر الجهد والمال والوقت على الله. ولا يدخل في القبول أو الرفض اختلاف الآراء، فما كنت لأحفل بشيء حفولي بالذين يتحدون إمكانياتي، وما استأت من شيء استيائي من جهد قرائي لا يضيف إلى معارفي معارف، أو لا يضطرني إلى التحيز أو التحرف أو إرجاع البصر مرة أو مرتين لاختراق أجواء الكاتب الفكرية. وكم تخادعني العناوين وجودة الاخراج، فأنخدع، ودور النشر تبدع في ذلك، ومن ثم يقع في حبائلها الذين لا يعدلون بالكتاب شيئاً:- (وخير جليس في الزمان كتاب). وكم من كاتب متسطح لا يؤبه به، نفذ من خلال خداع العناوين وحسن صناعة الكتاب، مستخدماً جرأة بعض الناشرين. وها نحن نسمع بين الحين والآخر عن إصدار دراسة أو مجموعة إبداعية: شعرية أو سردية خارج البلاد، ويكفي المؤلف أو المبدع أن يقول: طبع لي كتاب في (بيروت) أو في (المغرب)، وكأن دور النشر في بلادنا زامر حي لا يطرب.
وفي كل مكتبة أدخلها أسأل صاحبها عن أحدث الكتب في مختلف الفنون والمعارف، فيتبادر إلى ذهنه أنني (معارض سياسي)، وأنني أبحث عما يتناول سياسة بلادي ورجالاتها، ومن ثم يركم أمامي هذا النوع من الكتب المغثية، فلا اجد حرجاً من استعراضها، فإن وجدت فيها ما يفيد، اشتريت منها ما أريد. ورحم الله من تطوع بإهداء عيوبنا إلينا.. (ويأتيك بالأخبار من لم تزود).وإن لم أجد ما يفيد تركتها حيث هي، وفرغت لتصحيح مفهوم الكتبي عما تعدو إليه عيني. فأنا أبحث عن كتب الفكر والسياسة والمعاجم والموسوعات الحديثة ومذاهب النقد الأدبي الحديث: تنظيراً وتطبيقاً. ولست معنياً بمن معي أو ضدي في الفكر والسياسة والأدب، المهم أن أجد قدرة في التناول، وغزارة في المعرفة، ووعياً عميقاً للظواهر والمذاهب والتيارات وانضباطاً منهجياً. وآخر ما أفكر فيه أن يكون المؤلف معي، بل ربما لا يعنيني من هو معي. وقد تنشئ هذه الرغبة جدلاً بيني وبين صاحب المكتبة، بحيث يمضي مع الريح، حسبما يتوافر عنده من معلومات تعجل في تجميعها عما تهواه نفسي. وما كان لي أن أضيق ذرعاً بما يتشكل عنده من انطباعات، وما تستند عليها من أقوال، فما هي إلا ساعة، ثم لا أراه بعدها. ولربما يكون هواه قومياً أو علمانياً أو وجودياً أو إسلامياً، وقد لا يكون مسلماً. وأسوأ ما يكون عندي حين يحترف السياسة، ثم لا يكون مدده إلا ما تضخه القنوات الفضائية أو ما تتدفق به أنهر الصحف السيارة. مع حماسه وانفعاله، لا يدع المداراة التي قد تصل حد المداهنة، لكيلا يخسر صيداً ثميناً، تفوح رائحة النفط من بين إبطيه. وحكايتي مع المكتبات حكاية تطول، وتتشعب، وعندي أمل في تقصيها، ففيها بعض الفائدة، وكثير من المتع. ولقد تحدث الكتبيون عن همِّ الكتاب، فأمتعوا عشاقه.
تذكرت (المتنبي) ومن حوله يوم أن عدت إلى شرفة السكن في منتجع (بلودان) متأبطاً بما ظفرت به من كتب، هارباً بجسمي عما يفيض به ذلك المصيف الريفي الجميل من السواح الخليجيين، الذين لا يدعون لك فرصة التمتع بالمناظر ولا التسوق في المعارض؛ فالنساء والأطفال والشباب والشيوخ يسرحون ويمرحون جيئة وذهاباً، ومن ثم لا تجد بداً من الخلوة في تلك الشرفة المطلة على الأودية الخضراء والجبال الشاهقة، ومن حولك ما تود قراءته من كتب مثيرة. لقد ظفرت في أولى جولاتي بثلاثة كتب ل(القصيمي) هي:-
- العرب ظاهرة صوتية.
- هذي هي الأغلال.
- عاشق لعار التاريخ.
كان الأول قد فقد من مكتبتي، والآخران لم أحصل عليهما من قبل. قلت في نفسي: هذا هو الوقت المناسب لاعادة قراءة القصيمي، بعد انقطاع طال أمده، فلقد عرفته قبل أربعين سنة، وأنا يومئذ في (الكويت) كان ذلك في عام 1965م حين اشتريت أنا وأحد الزملاء كتاب (العالم ليس عقلاً) في طبعته الأولى، قبل أن يجزأ إلى ثلاثة كتب، على ما أذكر، وكانت تلك الطبعة قد صدرت قبل ذلك الوقت بثلاث سنوات، قرأناه بعد حل حبكه وتبادله أوراقاً مفرقة، وكلما فرغنا من قراءة ورقة، مزقناها، وألقيناها في اليم، ظنَّاً منَّا أننا بذلك نئد فكراً مناهضاً للإيمان. ومن بعد هذا نقبت في البلاد عن مؤلفاته، كلما ألقتني المناسبات أو المهمات في (بغداد) الرشيد، أو في (قاهرة) المعز، أو في (دمشق) الأمويين. ولم يند عني من كتبه إلا القليل، ولما قرأت كتابه (الكون يحاكم الإله) أحسست بأن الأمر بلغ دركه، وأنه لم يعد بالإمكان احتمال ما يقول. وإذا كان اليهود قد تجرؤوا على القول بأن:- (يد الله مغلولة)، فإن القصيمي قال ما هو أسوأ من هذا، غير أني لم أجد بداً من ترويض نفسي على قراءة المخالفين أو الاستماع إليهم، ما دامت نواصيهم بيد الله، وما داموا لا يعجزونه، وما دام انه لو شاء لهدى الناس جميعاً، وما دمت قادراً على منازلتهم، وكشف إلحادهم. وسلفي في ذلك (ابن تيمية) الذي جالد غلاة الفرق، وجدل المناطقة، وسفسطة الملاحدة، وخلَّف تراثاً لم يسلم من أغيلمة القنوات اللجوجين، وقنافذ الصحف الهداجين، ومواقع المعلومات والمنتديات المخجلة. والذين ينقمون على الغيورين على محارم الله الصادعين بما أمروا به، لا تحين منهم التفاتة واعية منصفة إلى المتجرئين على محارمه، المنتهكين لحدوده. وكأني بمثل هؤلاء يطلبون التخلي عن الثغور وإلقاء السلاح من طرف واحد. والمنصف من إذا أراد أن يفك الاشتباك، ويصلح ذات البين، أن يقف على مقولات كل الأطراف وأفعالهم، وأن يعرفهم بمقترفاتهم، وأن يحمَّل كل طرف جرائره. فالعدل والإنصاف يقتضيان سماع الدعوى والدفاع، والحَكم العدل مَنْ لا يحكم لطرف عند غياب الطرف الآخر. وما أكثر الذين يخدعهم معسول الكلام، فيظنون الاستسلام سلاماً، والضِّعة تواضعاً، والاتكال توكلاً، وما أكثر السذج ومثقفي السماع الذين يحسبون كل صيحة عليهم، حتى لقد طال الرعب ثوابتهم، فكان كل قول في الدين عندهم مؤشر تطرف وبداية إرهاب. ولو أتيح لدعاة الخنوع متابعة ما تطفح به كتب المتطرفين من علمانيين وطائفيين، لما وسعهم إلا أن يصدعوا بالحق، ويعرضوا عن الجاهلين. ومن الضعف والضعة القبول بالتعايش من طرف واحد، وذلك ما تريده دول الاستكبار وغطرسة القوة وشراذم التسلط. وإذا طلب منا الجنوح للسلام فإن شرطه أن يجنح الآخرون إليه، أما أن نترك للمتجرئين على المحارم حرية القول، ونعد ذلك من باب التسامح والوسطية، فذلك الخطأ بعينه، والتقصير نفسه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:47 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تداعيات القراءات الدمشقية..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


وفي ظل هذا العنت والصلف من الظلاميين والمارقين طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وأعطيت الدنية في الدين، وكاد الواهنون المداهنون أن يخربوا عامر معارفهم بأيديهم. والمذعن للقلم وما يسطِّر، وللسلاح وما يدمِّر وفي إمكانه أن يفل الحديد، ويفند صلف العنيد لا ينفك من تجرع ذل العاجل وعذاب الآجل:
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه.. غذاء تضوى به الأجسام)
لقد جمعتني هذه الخلوة في المصيف، بما أرفض من الأفكار، ومن أكره من المفكرين، وذكرتني ب(طه حسين) وب(القصيمي) وبآخرين جاؤوا من بعدهم، يكاد الوهن يشل حركتهم، ويكاد الاختلاس يبدو من بين سطورهم، ف(القصيمي) تحدث عن (المتنبي) حديثاً كأني أراه، وأسمعه، يخرج من أفواه أحياء يدبون على الأرض، يدَّعون أنهم أول من اكتشف عظمة المتنبي في الشاعرية وفي الاسترفاد، ولقد تمر بك جمل وعبارات، تحسب أنك قرأتها من قبل، فإذا تأملتها عرفت من أي المستنقعات هي. و(القصيمي) و(طه حسين) ينقمان على (المتنبي)، ولكل واحد منهما وجهة هو موليها، ولكنهما لم يستبقا الخيرات، وإن كان (طه حسين) أذكى من صاحبه وأقدر على استدعاء الأدلة والبراهين والخداع بالمراوغة الذكية، مستعيناً بطاقات اللغة التي مكن الله له فيها، فكان من ذوي الأساليب الفنية الأخاذة، فيما لم يكن بمقدور (القصيمي) المثري من اللغة إلا التكرار الممل.
وكم كنت حريصاً على استكمال ما ينقص مكتبتي من كتب لمؤلفين معينين أو من كتب تتعلق بقضايا وظواهر ومذاهب وأفكار لها حضورها الأكثر شغبا في كافة المشاهد، ومن ثم ظفرت بما ينقص مكتبتي من كتب الهالك (عبدالله القصيمي)، أو مما هو من باب التعويض عما خرج منها معاراً، ولم يعد، وما أكثر المستعيرين الذين لا يجدون بأساً بالمماطلة، ولا حرجاً من الإنكار، وللعلماء أقوال وأشعار تتعلق بإعارة الكتب، وهم معذورون، فاستنساخ الكتاب أو شراؤه يتطلب جهداً ومالاً لا قبل لهم باحتماله. ومع ما ظفرت به من كتب القصيمي، ظفرت بكتب أخرى في الفكر المعاصر، وهو فكر مضطرب مهدور الجهد في خدمة الغير. لقد تحسرت على مفكرين مهيئين لطرح نظريات عربية تتناغم مع حاجة أمتهم، ولا تجد حرجاً من استثمار المستجدات المنهجية والآلية ثم لا يفرغون لها، وكأن أفكار الغرب ومصطلحاته وسائر شؤونه قصيدة (عمرو بن كلثوم) التي ألهت بني تغلب عن كل مكرمة، والداء العضال الذي تعانيه طائفة من مفكرينا وأدبائنا جهلهم بتراثهم، وعدم تمكنهم من التأصيل لمعارفهم، والتعامل مع الآخر بندية، والتفاعل معه للإفادة والاستفادة. ولما كانت قراءاتي ل(القصيمي) استعادة وتذكراً، فلقد كنت أعرف مراميه وأهدافه وقدرته على التلاعب بالألفاظ، وتقصي المترادفات والجمل المتشابهة، حتى لكأنه ملم كل الإلمام ب(تحويلية) (نعوم تشومسكي) يقلب الجملة، حتى لا يدع تركيباً إلا استدعاه، ولا مرادفاً إلا ساقه. ولقد تقرأ الصفحات الطوال، ثم لا تخرج إلا بمعلومة واحدة، كل ما تحويه الإنكار أو التنكر، يشقق لها العبارات، ولا يشقق المعاني، وفرق كبير بين الإمكانيتين. ف(الجاحظ) يمتلك القدرتين: تشقيق العبارات، وتشقيق المعاني. فيما لا يستطيع (القصيمي) إلا تشقيق العبارات. فإذا تحدث عن أي قضية حام حول حماها، وكأنه مشدود الوثاق برقبته إلى شاخص يلف حوله، بحيث لا يبرح مكانه وإن ظلَّ يركض برجله، وكل ما يملكه الجرأة الوقحة على المقدس، يغرق في التشكيك، ويقطع في الإنكار، ويمعن في الهجاء والسخرية، وذلك لعمر الله أحط ما عرفت من الأخلاق، وأسْفَه ما رأيت من القول، وأسخف ما قرأت من الكتابة، ولست أعجب من شيء عجبي من عدم تمعر وجوه بعض المتابعين لكتاباته، التي لا يشفع لها عقل ولا نقل. وإذا الإيمان ضاع فلا عقل ولا عاطفة ولا إنسانية. وكيف يكون الإنسان بلا إيمان، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأساطين المادية والإلحاد يؤمنون بالوجود المطلق، ولهم تصورهم عن بدء الوجود، و(الله) في نظرهم قوة مطلقة، وموته عند (نيتشه) لا يعني عدمه، وإنما يعني شيئاً آخر، فيما لا يؤمن القصيمي بشيء من ذلك البتة، ولا يحسن توجيه أقوال الفلاسفة، أو لا يريد أن يشغل نفسه بغير الرفض والتمرد والإنكار، والمتعقب لآراء الفلاسفة وعلماء الكلام حول تصور الوجود وموجده، يقف على آراء تحيل على العقل أو على النقل، وقد يمضي المعقول في ظل المنقول، وقد يفترقان، أو يتعارضان، حتى إذا عجز العقل عن التصور وازورَّ عن الإيمان، وقع في المحذور، لأن المرتهن في عالم الشهادة ليس بقادر على استيعاب عالم الغيب، ما لم يعضده الإيمان والتسليم. ولم يكن القصيمي معولاً على عقل ولا على نقل. وإذا كان في الفكر والفلسفة مهرجون، فهو رائدهم، ذلك أن المهرج يقول ويطيل القول، ثم لا يتوفر على دليل نقلي، ولا على برهان عقلي، ولا يحيل إلى نص محكم، ولا يستدعي تجربة علمية، ولا ملاحظة دقيقة على مجريات الأحداث، ومن ثم لا ينفك من اللجاجة الفارغة.
و(القصيمي) الذي يثير بآرائه الاشمئزاز والغثيان، يتولاه من لا خلاق له، ممن استحوذت لوثة المفاهيم على عقولهم. ومن تابع كتاباته التي انهمرت بعد كتابه الفاصل بين الحق والباطل (هذه هي الأغلال)، لا يجد تطوراً في فكره ولا تعقلاً في آرائه، وكيف يتأتى له التطور، وهو لا يملك إلا الرفض، ولك أن تقرأ ما قاله عن (الثوريين) في (عاشق لعار التاريخ) أو ما قاله عن (المتنبي) في (العرب ظاهرة صوتية) أو ما قاله عن خالقه في (الكون يحاكم الإله) لتجد أنه يتداول قاموساً واحداً من الشتائم، ولك أن تتحامل على نفسك وعلى أعصابك، وتقرأ أطرافاً مما قاله في كتابه (الكون يحاكم الإله) لترى أنه لا يفرق بين (الثوري) و(المتنبي) و(الإله). والذين يرصدون أطروحات العلماء والمفكرين يجدونها تحيل إلى النص أو إلى العقل أو تحيل إليهما معاً، ثم يجدونها متماسكة في الآراء والتصورات، محيلة إلى مصادر الحضارات ومرجعياتها. والقصيمي لا يحيل إلى شيء منهما، وتلك خليقة الهدامين الذين لا يوفرون علماً ولا ثقافة، ولا يزودون قارئهم بقاعدة، ولا أصل، ولا منهج. فمن أحال إلى (عالم الشهادة) وحسب، فتفكيره مادي وضعي، ولكنه يوفر معلومات تجريبية عن ظاهر الحياة الدنيا، ومن أحال إلى (عالم الغيب والشهادة) معاً، فهو مفكر إيماني (ميتافيزيقي)، ولكل من الطرفين مرجعيته التي يحيل إليها، ويتعاضد معها، وله منهجه وآليته التي يعرف بها. إذ لا طريق لعالم الغيب إلا الإيمان أولاً، ثم الوحي القطعي الدلالة والثبوت ثانياً، فليس طريق ذلك العلم التجريبي ولا الرصد والمشاهدة. وليست هناك طريق لعالم الشهادة إلا المتابعة والملاحظة والتجريب على حد:- (أنتم أدرى بأمور دنياكم). وما شق الغرب طريقه إلى السنن الكونية إلا بواسطة (المعامل) و(المختبرات) و(المراصد) و(جمع المعلومات) وتحليلها. فالكون له نظامه وسننه، ومن أدرك شيئاً منها سيطر عليه. وليس شرطاً أن يكون المفكر المؤمن بالغيب سالكاً طريق الرشاد، فالطوائف الإسلامية المنحرفة تؤمن بالغيب وبالرسالات، ولكنها تخطئ في التلقي والتأويل، وهي فيما توصلت إليه درجات أو دركات، يؤخذ من قولها ويترك، فتصوف السلوك يختلف عن تصوف الحلول ووحدة الوجود.
ول(القصيمي) إلمامات متعددة، فهو حين يتحدث عن (عالم الشهادة) يسلك طريق مفكري الرفض والتمرد، أما حين يتحدث عن (عالم الغيب) فإنما يسلك طريقاً آخر، قلَّ أن يكون له سلف فيه، وقوام طريقه التهكم والسخرية والإنكار والتساؤل الذي لا يرقب إجابة، فهو تساؤل مجازي. حتى الذين ينكرون (عالم الغيب) لا يمتد إنكارهم إلى الوجود المطلق، وإنما يقتصرون على إنكار الرسالات أو البعث أو غيرهما، معتمدين على الطاقة العقلية، ولهم حججهم العقلية التي يسوقونها دون تطاول. أما (القصيمي) فيعمد إلى الذم والمساءلة أو التطاول، واتهام كل الأطراف: المعبود والعابد والمبلغ. فلا هو شكوكي (ديكارتي) ولا حائر (معري) ولا متأول (باطني)، وإنما هو رافض هدام هجاء متمرد. ومع وضوح ضلاله فإنه عِشْق المتمردين. وهو بمجموع غثائياته يشكل معيناً تكدره دلاء الحداثويين وعشاق الإثارة والاستفزاز، يبيتون ليلهم يقرؤونه، حتى إذا تضلعوا من مائه الآسن، ودنسوا ثيابهم من مستنقعه المتعفن خرجوا إلى الناس بقول يعيش في ظلاله، ويعب من ضلاله. فكان ذلك الاختلاس سبيلاً إلى الحضور، ومغرياً لوسائل الإعلام والنشر لتخطفهم كي تقضي بهم وطر الدعاية والجذب. وما من متمرد على الدين أو متطاول على خالقه إلا وعلى (القصيمي) كفل من مقترفه، وما أكثر ما نقف على فلتات الألسن، وزلات الأقلام من كتبة لا يتوقع من مثلهم مثل ذلك. وبمحاولة التعرف على مصادرهم يتبين أن (القصيمي) وأضرابه هم القدوة السيئة، ولقد تولى الروائيون كبر ذلك، فكان أن شككوا بالثوابت، وترددوا في صدق اليقينيات، ودنسوا المقدس، وأنسنوا الإله، وأحالوا كل ذلك إلى حرية التعبير والتفكير.
وإشكالية المتسطحين الذين يعدون أنفسهم من المفكرين المؤسسين عدم التفريق بين الخطأ العارض للمفكر والانحراف الفكري في المبدأ، وبين من يقرأ القرآن ويفهم معانيه ومقاصده، ويقيم حروفه، ثم لا يقيم حدوده. ولقد سمعت من يقول عن (طه حسين)، وعن (القصيمي) إنهما يحفظان القرآن ويحفِّظانه لمن حولهما من الأولاد. والقضية ليست في المعرفة ولا في الحفظ، ولكنها في الفكر والمنهج، فالمستشرقون كتبوا عن القرآن وعلومه من قراءات وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، وأسباب نزول وغيرها عن علم غزير ومتابعة دقيقة، وعرفوا عن لطائف التفسير، والإعجاز البياني والعلمي ما لم يتوفر عليه كثير من علماء المسلمين، ولكنهم فعلوا ذلك للتضليل والتشكيك. وإذا كان (القصيمي) هَّداماً فإن (طه حسين) غربي متفرنس، وفرق كبير بين الاثنين. ولأن (القصيمي) هدام قد طواه النسيان، فإنه لم يعد مطروحاً في المشاهد بمثل غيره من المنتمين. وأعداء الحضارة الإسلامية يستثمرون جهود (المنتمي) و(اللا منتمي) فالأول مبشر بحضارة الغرب، والثاني مخرج من حضارته، وأعداء الإسلام مستفيدون من الحالين، من اللاحق بهم، ومن الخارج على حضارته، والدوائر (الاستعمارية) و(الصهيونية) و(الماسونية) جادة في إذكاء الصراع العسكري والفكري بين أبناء الملة الواحدة، وها هي تجني ثمار مؤامراتها، فمن أشعل الحروب الأهلية والحدودية والطائفية أو باركها أو دعمها أو استغل حالات التوتر والارتياب؟ أليسوا هم الأعداء المتربصين الكامنين ؟!
وحين تقتضي المناسبات استدعاء مفكر عربي أو غربي فليس القصد الشماتة، وإنما القصد أخذ العبرة والاستفادة من الإخفاقات، فالخطأ يكون إيجابياً حين يحملك على التحرف للصواب، والعاقل من وُعِظَ بغيره، ودونه من وعظ بنفسه، وأسوأ الأحوال ألا يتعظ لا بنفسه ولا بغيره.
السؤال الأكثر إلحاحاً والأكثر تحدياً لكل المغمضين على تجاوزات القصيمي،ما الشخص الذي مجَّده القصيمي؟ وما القيم التي يتمسك بها؟ وما الحضارة التي أعجب بها؟ وما الايديولوجية التي ينتمي إليها؟ ولو صدقت (بروتوكولات صهيون) لكان القصيمي واحداً من معاولها.
إن مفكراً هذه خليقته لجدير بأن توزن الكلمات فيه وعنه، فالتعذير والتحذير مسؤوليتان، يحاسب عليهما الإنسان. وحين تصل الأمور إلى المصير لا يحسن الإغماض، ومن وجد فيه ما لم نجد، فليفض علينا مما عنده، فنحن طلاب الحق، وهو ضالتنا، وعليه ألا يحيل إلى القائلين عن القصيمي، وإنما عليه أن يحيل إلى أقوال القصيمي نفسه، ومن قرأ عن القصيمي، فهو تبع لمقروئه، أما الذين اجترحوا قراءته فأولئك الذين يخبرونه، ويعرفون منطوياته، وقليل ما هم، وكم هو الفرق بين أن تقرأ الشيء أو تقرأ عنه، تلك بعض التداعيات، وفي الذاكرة أشياء ترقب وقتها عن مفكرين ومبدعين لقيتهم عياناً أو عبر كتبهم ومن الخير للمشهد الفكري أن نعيد قراءتهم أملاً في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وما أردنا إلا التوفيق بين الأطراف وإصلاح الشأن العربي ما استطعنا .. وما التوفيق إلا بالله.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:48 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لولا اشتعال النار..!
د. حسن بن فهد الهويمل


الأمير سلطان بن سلمان يرحب صدره بقدر الفضاء الكوني الذي ذرعه في رحلته التاريخية التي ما زلنا نرقب ذكرياتها، وهو فيما أعلم ك(العود) الذي لا يعرف طيبه إلا حين تشعل النار فيه:
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
وأمام رحابة الصدر وكمون العَرْف اقترفت الإثارة والالحاح، وقلت ما بي، والسياحة في بلدي مغامرة محفوفة بالمخاطر والمغامرات، لأنها ممنعة بخطام القيم والأعراف والاستغناء.
لقد سعدت بالرد الموضوعي الهادئ الذي كتبه سموه الكريم على مقالي عن السياحة، وسعدت أكثر بدعوته الكريمة للاطلاع على منجزات الهيئة، وما كنت أشك في عملها ومشاريعها ولكنني عشت واقعاً ما كان لي أن أدعه يمر دون مساءلة وأي منشأةٍ يدعمها الكتاب لا تعد شيئاً، وأي منشأةٍ لا تأنس بتضارب الآراء واختلاط الأصوات حولها ليست ذات بالٍ و(عباس محمود العقاد) حين قدّم لكتابه (عبقرية علي) أشار إلى أن من بوادر العظمة والعبقرية أن يختلف الناس حول الشخصية وما اختلف أحد بمثل اختلاف المفكرين والسياسيين والدارسين حول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفي أن طائفة أحبته فعبدته وأخرى كرهته فقتلته، وهذا (المتنبي) شغل الناس منذ أن سقط قتيل شعره حتى هذه اللحظة، وويل للسياسي والفنان والمسؤول الذي لا يلتفت إليه الناس ولا تناله الأقلام، ولا تتأصل المذاهب ولا تتكرس إلا بفعل الخصوم، فليطمئن سموه على ما قيل، وما أشار إليه سموه من إنجازات ليست بحال اختلاف، ولكننا قوم نؤمن بمبدأ (خذ وطالب) ومع أنه لا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل فإنه لا مكان عندي لاجترار المنجز، وكيف لي أن اقنع بما تم واقترف جريرة التثبيط، فالذين يبادلون المسؤولين اتحاب الثناء يضعون العصي في عجلاتهم ورغم كل ما حصل فإنني أثمّن جهد الهيئة وأثق بما تنطوي عليه وأحمد للجهات العليا الحرص على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب كل ذلك أضمره، ولكنني أظل أطالب وألح في المطالبة وأوقد النار ليعرف طيب عرف العود،
والهيئة بكل ما استعرضه سموه من إنجازات في رده تظل مجالاً للأخذ والرد، والسائح هو الشاهد العدل وبخاصة من تتاح له فرصة التنقل من مكان لآخر، ولقد طفت هذا الصيف في ست دول عربية سائحاً أو في مهمات وخبرت حلو السياحة ومرها، وأحسب أن أمرّها من لا تتوفر فيه متطلبات السياحة، ولسنا بحاجة إلى استعراضها، وحين يكون في النفس حاجة فإن في سموه فطانة.
أقول قولي هذا وأنا على يقين من أن الهيئة وعلى رأسها سموه الكريم قادرة على تحقيق الشيء الكثير وهي قد حققت أشياء ولكنها دون المؤمل:
و(شبابٌ قُنّع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا)
تحية إكبار وتقدير لرجل قدّر النقد قدره وواجه التّساؤلات بموضوعية ورحابة صدر، وكم نحن بحاجة إلى مسؤولين يقتدون به بحيث لا يثورون ولا يغالطون ولا يناصبون النقاد العداء، وهل هناك أعز عندي من الدعوة الشخصية التي وجهها لي سموه لزيارة الهيئة والوقوف على منجزها إنها الأصالة والأخلاقيات، ومع هذا فلن تدرأ الطيبة لذعات النقد فيما نستقبل من أيام.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:48 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ذيل التداعيات الدمشقية..!
د. حسن بن فهد الهويمل


وتمتد التداعيات، تثيرها مشاهدات واعية، أو قراءات متقصية، أو أحاديث مجالس تؤزها الأحداث بكل أوجاعها. ومن حق أي متابع عبر أي مصدر من مصادر المعرفة أن يقول رأيه فيما يقرأ أو يسمع أو يشاهد، متى كان مقتدراً وذا فهم سليم. وتحفظنا على ذوي الأفهام الضحلة الذين يفسدون ولا يصلحون، ومع ذلك فلسنا عليهم بمسيطرين، وما نريد تهميشاً ولا إقصاءً، وما نقوله مسوغ في إزاء حقهم في التفكير والتعبير. ولولا تضارب الآراء لما انقدحت الحقيقة، ولقد ضاق المتنبي من ذوي الأفهام السقيمة، وأطلقها مثلاً يردده الناس:
(وكم من عائب قولاً صحيحاً .... وآفته من الفهم السقيم)
(ولكن تأخذ الآذان منه ذ ..... على قدر القريحة والعلوم)
وليست التجاوزات التي نضيق منها، ونضيق بها مرتهنة للفهم السقيم وحسب، ولكنها لون من التعنت والمجازفة وسبق الإصرار. يقترفها الخليون والمبتدئون وذوو المآرب وطلاب العاجلة، لا لشيء إلاّ للابتزاز أو للاستفزاز، وهو أسلوب المتعجلين للظهور أو النهمين للكسب، ولقد سئلت أكثر من مرة عمن يستعذبون الاستقطاب حول الذات، ويستمرئون اللجاجة والصخب، ويمارسون شد الانتباه بأيِّ أسلوب، ويتعمدون الحضور باجتراح القدح بالمتفق عليه من الأقوال والأفعال والأناسي، دونما حاجة قائمة أو استجابة ملحة، إلاّ ما هو معروف من كسب رخيص يتعجلون اجتناءه من كتب يؤلفونها أو مقالات يكتبونها لوسائل إعلامية تتقن لعبة الإثارة والاستقطاب. وليس بمستبعد أن يطرح البعض نفسه للتندُّر بثمن بخس، ولو خلت الحياة من هذه النوعيات لأُخذ الناس بجد صارم. ولقد سمى العرب مثل أولئك المضحكين بالحركات أو بالأقوال أو بالأزياء (أهل السماجات) ولسنا معهم في كل ما يذهبون إليه ولكننا نقدر رؤيتهم ونقبل بعض آرائهم والرجل السمج هو الذي يقترف شهرته عن طريق استفزاز الرأي العام، ويتعمد المخالفة لذاتها بلا برهان، ومع ذلك فإنه ليس بحصيف من يستسلم للخطأ اتقاء الرأي العام المتشكل على غير هدى، ومثله من يتعمد إثارته رغبة في الشهرة، وكم هو الفرق بين أدب السخرية وسماجة الأدب. والسخرية ظاهرة فنية، تقصّاها النقاد، وعرفت بها طائفة من الكُتّاب، وفي القرآن الكريم أسلوب ساخر، تقصاه الدارسون للإعجاز البياني.
وما كل من ثار عليه الرأي العام معدود من ذوي السماجات، وما كل من خفت روحه، ولطفت عبارته، ولذعت سخريته محسوب من أولئك المهرجين. ولو أخذنا بهذا المفهوم على إطلاقه، لكان أن عطَّلنا الاجتهاد والتجديد والإصلاح والتصحيح، وحلنا دون تعدد المذاهب والتيارات والإمتاع والمؤانسة، و(أدب السخرية) أدب يمتد مع الزمن، عرف به عمالقة الأدب في القديم والحديث، تجلّى ذلك في أدب (الجاحظ) وفي أدب (أبي حيان) في القديم، وتجلّى في أدب (المازني) و(مارون عبود) و(السعدني) وآخرين في الحاضر.
وفي المقابل نجد العلماء الجادين ذوي المواقف ك(العز بن عبدالسلام) و(ابن تيمية) ومن سمّاهم البعض متمردين لوجه الله. وتاريخ الفكر الإسلامي حافل بالعلماء والمفكرين الأفذاذ ممن نذروا أنفسهم لقضايا أمتهم، وكم تعرّض بعض العلماء والمفكرين للسجن أو المقاطعة بسبب آرائهم المخالفة للجمود والنمطية المتوارثة. وحكايات العامة في بغداد في القرن الرابع مضحكة مبكية فلقد لقي منها العلماء النصب، وقصة (الطبري) مشهورة حين أوصدوا عليه بابه وبنوه بالآجرّ. ومثل هؤلاء الأفذاذ من العلماء وإن اختلفنا مع بعضهم يختلفون عمن يتقن فن الدعاية والإعلان وتسويق الذات بمثل هذا الأسلوب غير الحضاري، بحيث يُكذَّب الصديقون. وتُنكر البراهين، وتُدنس المقدسات، وتنسف المسلمات. مع أن هذه الطائفة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من الهم، وليس الاجتهاد ولا الاختلاف الذي يتصف به أساطين العلم والفكر والأدب من هذا النوع، وليست السكونية ولا الأبوية ولا تهيب المغامرة المحسوبة مما يحمد. والذين تعقبوا المسلمات، وفندوا خطأها، وحملوا الكافة من الفاضل إلى الأفضل يعدون مجددين، وكم هو الفرق بين المجددين الذين بشّر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، والهدامين الذين يرفضون اليقينيات، وينهجون منهج الشك الديكارتي، والحرية المطلقة، والقلق المطلق. فما كنت لأعيب الاجتهاد من أهله وخاصته، ولا أمتعض من الاختلاف المعتبر، ولا أشفق من مواجهة المسلمات من عادات وتقاليد، ولكني ضد الخلط وفوضى الحواس. واستدعاء الثوابت واليقينيات والمسلمات والشخصيات باسم حرية التعبير والتفكير دخول في الفوضى. لقد كانت إلماماتي العجلى والمتأنية في كتابات (القصيمي) ومسترفديه مدعاة إلى استذكار عدد من المجازفين الذين لا يلوون على شيء مما يقولون، وما عندهم إلا الادعاء والتشبع والتجشؤ من فراغ. و(القصيمي) قدوة سيئة لهذه النوعية من الكتّاب. وجهابذة العلماء وكبار الشعراء وأساطين الفكر زاد لمن لا زاد له، وسلّم يرقى به القاعدون إلى سدة الأضواء، وسيظل العلماء الكبار والشعراء المفلقون مورداً لا تكدره الدلاء. واستدعاء (القصيمي) لشاعر ك (المتنبي) حلقة في هذه السلسلة الصدئة، غير أنه في هذا الاستدعاء يود ان يؤكد دعواه بأنّ (العرب ظاهرة صوتية)، وأنّ صوت المتنبي خير من يمثل هذه الظاهرة، غير أنه في غمرة الحقد نسي ما يريد تحقيقه، وذهبت به تخبيصاته إلى أمور أخرى، ليست من مقتضيات الحديث عن الظاهرة الصوتية. وتلك من أبرز سماته، فهو يخب ويضع في أمور ليست من متطلبات حديثه، وكثيراً ما يقع في التناقض، حتى لقد أدرك عليه المتقصون لفكره نقض الحجة في موضع والاحتجاج بها في موضع آخر، وذلك بعض ما أشار إليه صديقنا (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري) في كتابه (لن تلحد) وكتيبه (ليلة في جاردن سيتي).
وإشكالية (القصيمي) أنه لا ينتمي إلى نحلة لها أشياعها وأتباعها، وهو بهذا يُعَدُّ من المتمردين لوجه الشيطان، ومن أصحاب مذهب (اللامنتمي). و(اللا انتماء) توصف بها إبداعات (نجيب محفوظ) وهو الذي مهّد له الطريق إلى (جائزة نوبل)، وهناك فرق بيِّن بين الاثنين، قد نعرض له حين نفرغ من الحقيقة (الدمشقية) و(الصنعانية) و(القاهرية)، والمتابع لفيوض (القصيمي) يجزم بأنه يخدم بهوسه واهتياجه وحقده خصوم الحضارات، فكل طائفة تتأذى منه في جانب، وتستفيد منه في جانب، فهو كجناحي الذباب، أحدهما داء والآخر دواء. وحين تقرؤه كوحدة دلالية، يتبين لك أنه يريد الخروج من كل شيء، والتصدي لكل شيء، وذلك سر نبذ الناس له، وسر حقده على الناس. ولقد مر في حياته الفكرية بثلاث مراحل في غاية التناقض، مرحلة (السلفية) ومرحلة (الليبرالية) ومرحلة (التمرد)، وهو عنيف في كل مراحله، فالذي يقرأ كتبه السلفية يدرك حدته وعنفوانه، تجد ذلك في (البروق النجدية) و(الثورة الوهابية) و(الإسلام والوثنية) وغيرها.
و(المتنبي) مضمار لزز تجري فيه الخيل الكرام وغير الكرام، وكل من أراد تجريب آلياته ومناهجه تخطى إلى مضاميره، لأن عالمه حافل بكل الاحتمالات، والاشتغال به على أيِّ شكل سبيل من سبل الحضور، غير أنّ الإطلاقات المعممة لا تغني ولا تقني. وقد يتقن البعض (البهلوة) فيجمع بين السيئتين:- الجهل والتعميم، وقد تتعمد وسائل الإعلام الإثارة للجذب والاستقطاب، ولا يهمها بعد هذا في أي واد هلكت القيم والمثمنات. على أن قضايا الفكر والدين والسياسة والأدب لا يجوز أن تكون سلماً للاشتهار. وجرجرتها عبر وسائل الإعلام ووسائط النشر إخلال بالبنية الفكرية للأمة، وتزييف لوعي الذين لا تعدو نظراتهم إلى تليد الفكر وطريفه. والمتابع لفيوض الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد ينتابه الخوف من الخائضين في آيات الله دون علم. ولست أشك في أن مئات من المتحدثين عن العمالقة لا يريدون من وراء ذلك إلاّ أن يكون لهم ولو مفحص قطاة في مشاهد الفكر والأدب، وما عرف أولئك أنهم يبدون سوآتهم ويحرقون سمعتهم ويربكون الرأي العام ويحفزونه على الاحتقان دونما أي جدوى، والذين يخبرون العمالقة يعرفون مقاصد المتعالمين من المتعاملين، و(المتنبي) عرف ما هو عليه، وعرف أنّ ما ترك وراءه من شعر سيكون مجالاً للأخذ والرد، ولهذا قال:-
(أنام ملء جفوني عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصموا)
ومع إعجابي به وبشعره إلاّ أنه يظل مشروعاً لكل رؤية، ومجالاً لكل دارس، وهو كما الكلأ يشترك الناس فيه، وليس من حق أحد أن يحتكره، ولا أن يذود الناس عن مراتعه، غير أن تعامل (القصيمي) ومن عول عليه واستلهم ضغائنه من (الحداثويين) أو من (شعراء) أمعنوا في هجائه أو من (كتّاب) أمعنوا في ازدرائه، لا يعد من ذلك النوع المضيف، فهو حشد من الأحكام المناقضة للواقع، وحشد من الكلمات البذيئة الساقطة التي لا يتداولها إلا السوقة، فالعلم له آدابه، والعلماء لهم ضوابطهم، والمسألة واضحة المعالم. وليس من المزعج ولا المخيف أن يكون (المتنبي) مادة حديث مرتجل، ولكن الجرأة تجاوزت (المتنبي) إلى غيره من القضايا والأناسي، وهي قضايا تُعَدُّ من الثوابت، و(المتنبي) مظنة القول ونقيضه، لأنه خلف شعراً له وعليه، يجد فيه المادح ما يبرر مدحه، ويجد فيه القادح ما يبرر مآخذه، ولكن في حدود المعقول. ومآخذنا على الذين ينفونه من كل المشاهد، وهم كثيرون، ولقد كانت لي جلسات حديث ممتع في (صنعاء) مع لفيف من المعجبين والناقمين، وتبين لي أن (المتنبي) شاغل الناس إلى يوم الدين. ومن تتاح له قراءة ما قاله (القصيمي) ومن تطفل على نفاياته، لا يمكن أن يسلّم لأحد منهم، ولا أن يجد مبرراً لما يقولون، و(المتنبي) لم يثبت أقدامه في مشاهد الأدب إلا الخصوم، ولكنهم خصوم شرفاء، حاولوا التماس إخفاقاته، وهي كثيرة، ولم يفتروا الكذب، ولم يكتفوا بالهجاء المقذع والسب المقيت، والمثير للناقمين ذلك الشيوع والحضور، فكل متحدث عن أي قضية لا يحلو حديثه حتى يستدعي بيتاً للمتنبي، يُجْمل فيه رويته، ويُجَمِّل فيه حديثه. فهو مصدر (الإجمال) و(التجميل)، وخصوم المتنبي يغمرهم طوفانه، وإن أووا إلى جبل الكراهية، ليعصمهم من الحضور الملح والشيوع والسيرورة، وظاهرة الحضور ضاق بها ذرعاً معاصروه، حتى لقد نسوا ما هم فيه من حزن المصاب، واغتموا من شيوع شعره ووروده على كل لسان.
للحديث صلة
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:49 PM   #10
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
يوم لا كالأيام..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لست مع الصامتين، ولا مع الذين يقتصرون في مشاركتهم بالمناسبات الوطنية على التمجيد والثناء، وإن كان لوناً من ألوان الوفاء، و(اليوم الوطني) يمر بنا كل عام، وقد لا نتذكره إلا من خلال وسائل الإعلام، والناس في بلادي لم يتعودوا على لغة الشعارات وهتافات الانقلابات، وإن كان حقاً عليهم أن يلهجوا بالثناء والدعاء لمن أنجز لهم هذا الكيان السياسي وأحكم صنعه.
وإذا كانت الخطابات الثورية تحلم بوحدة شاملة وتَعِد بها ويدعيها من لا يفتأ يفرق شمل أهله فإن الملك عبدالعزيز قد أنجز وحدة ماثلة للعيان دون أن يسبق ذلك بقول، وكأني به يردد: (ماترون لا ما تسمعون) لقد أنجز وحدة إقليمية وفكرية يَتَقرَّاها القاصي والداني.
ولو أن أبناءنا الذين ولدوا في أحضانها ولم يشهدوا مخاضاتها المؤلمة عرفوا أحوال أمتهم يوم أن كان الملك عبدالعزيز شاباً يتوقد ذكاء وحماساً في ملجئه في الكويت، ويوم أن عاد خالي الوفاض إلا من مشروعية فعله وحسن سمعته لكان لهذا اليوم طعم ونكهة لا يماثلهما شيء، لقد قضى ثلاثة عقود في معركة البناء يمده الناس بالسلاح والمقاتلين ويلتفون من حوله لأنه جاء على قدر، ولما ان لملم أطراف البلاد ووحد كلمة الأمة خلع لامة الحرب ولبس بردة البناء، فكان اليوم الوطني هو اليوم الفاصل بين معركة التكوين ومعركة البناء ويوم يفرغ فيه الملك عبدالعزيز ورجاله من مهمة شاقة ويتحرفون لمهمة أشق جدير بأن يقف الناس جميعاً لينظروا كيف أنجز هذا الكيان وما مراحل إنجازه، إنه يوم حقيق بالتذكر الإيجابي، ولن تتأتى الإيجابية إلا حين نسأل أنفسنا: ماذا صنعنا لهذا الوطن؟ وهل فرغنا لرد الجميل؟ لقد ظل وظننا يعطي ويعطي ونحن نرفل بحلل الأمن والرخاء.
وها هي الذكرى السعيدة تمر بنا والوطن يتعرض لاختراقات مؤذية بالسلاح والكلام، وكأن لسان حال البعض منا يقول لرجل الأمن ولحملة الأقلام الشرفاء: اذهبوا أنتم وحدكم وقاتلوا إننا ها هنا قاعدون.
أحسب أن هذا اليوم الاستثنائي يمر بظروف استثنائية ومن ثم فهو بحاجة إلى قراءة متأنية لتاريخ البلاد في أمسها يوم أن كان لا جيش ولا عتاد بل كانت عزمات مخلصة صادقة وإلى قراءة حذرة للأوضاع المحدقة بالأمة، والخروج بموقف موحَّد نضع فيه أيدينا مع بعضها. ينطلق الأستاذ إلى قاعته والعالم إلى منبره والإعلامي إلى محطته والصحفي إلى صحيفته والمفكر إلى صومعته لنقول كلمة واحدة: (العقيدة والوطن) منهما ننطلق وإليهما نعود لا نزايد ولا نقامر فهما وجهان لعملة واحدة فمن نال من أحدهما فقد نال من الآخر، وإذا كان آباؤنا قد وفوا للقائد الباني وأنجزوا معه هذا الكيان العظيم فلا أقل من أن نفي لقادتنا لنجتاز هذا المنعطف الخطير بأقل الخسائر وأيسر التكاليف وكل عام وأمة الإسلام بخير.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:49 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
المثقف بين الحقوق والواجبات..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما أوغلت الأمم في الماديات، وحقق علماؤها مزيداً من الاكتشافات في الآفاق وفي الأنفس، أعاد علماء (المعارف النظرية) قراءة مسلّماتهم. وثورة المعلومات والاتصالات هزت يقينيات كثيرة، وغيّرت ترتيب الأولويات، وشفَّت عن معميات بطأ بها اختلاف المفاهيم واختلاط الأصوات. وإذا كانت المرجعية مترددة في مشروعية التفاعل المنضبط مع المستجد، كان احتمال تجاوزها ممكناً. والمؤسسة الدينية بوصفها المهيمنة إن لم تتمكن من تجديد مناهجها وآلياتها ومجال تناولها، أصبح من الصعوبة بمكان احتمالها لمواجهة المستجدات المتلاحقة. ولأن القرآن الكريم من عند الله، ومبلّغه لا ينطق عن الهوى، والكون كله خلق الله، فإن محكم التنزيل وصحيح السنة قادران على استيعاب النوازل. وما يتبادر إلى الأذهان من تفاوت فإنما مرده إلى عجز المتلقي، أو إلى خطأ التأويل. فالنوازل تتطلب مبادرة وقدرة، لاستنباط حكمها من النص الذي يحتمل أكثر من تأويل، ويستجيب لأكثر من نازلة، ويتسع لأكثر من رأي، وطبعي أن تجعل الثورة المتعددة المثيرات وضع المثقف معقّداً ومهمته عصيّة. ومهما حاول ترويض نفسه، وتطويع واقعه فإن الأمر جد عصي.
وكيف لا يكون وضعه عسيراً، وهو يعيش وسط متغيرات: اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويعايش ثورة معلوماتية، ويغالب مذاهب وتيارات فكرية ودينية ذات مناهج متعددة، ومقاصد متنوعة، وتتنازعه (ايديولوجيات) متناقضة، الأمر الذي ضاعف مسؤولياته، وعقّد أوضاعه، ومما يصعّد إشكاليته أن الوضع المعاش وضع مضطرب، تسوده القوة، وتقمعه الغطرسة، ويثنيه عن عزماته الاستبداد، ويقعد به تسلط القوي على الضعيف من الأناسي والدول. حتى لقد لجت تلك الكوابح في عتو ونفور، لتضعه على مفترق طرق، بحيث لا يعْرف معها أين المفر. فيما لا تزال بعض الرؤى المستشرفة للمستقبل متعثرة بعقدة الأبوية وألوهية الهوى وذهاب كل معجب بما يرى. وفي ظل هذه الظروف فهي أحوج ما تكون إلى مطابخ مؤسساتية بما تملكه من مجسات ومسابير واستشارة واستخارة لكي تهدئ الروع، وتبعث الثقة، وتحْسم الفرقة، وتقر في الأذهان صائب الآراء وصحيح المفاهيم. وفي ظل هذا الواقع المأزوم نسلت مذاهب وتيارات، ونجمت على إثرها صحوة عقلية واعية، حفزت المؤسسة السياسية إلى التحرف الصادق لمواءمة المستجد. ولما كان المثقف أول الفاعلين، وأسرع المتأثرين، وأشد المأزومين بهذه التحولات: العلمية والسياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية والثقافية، فإن مسؤوليته تزداد اتساعاً وتعقيداً، ورؤيته تشتد اضطراباً وتردداً، وليس من السهل القول في الحقوق والواجبات، دون سبر الأغوار ورصد الآفاق.
والحقوق والواجبات في ظل هذه المتغيرات تتبدل ويتبدل معها تراتب الأولويات. والقول فيها لا تتحقق معه الجدوى بالاستدعاء المجرد، بل لابد من إرجاع البصر والبصيرة في التليد والطريف، إذ لكل زمان خطابه. وما أضاع الفرص إلا الثبوتية والتكرار. ومع مشروعية القول في عموميات القضايا وكلياتها فإن المواءمة دأب العالمين ببواطن الأمور. ولا مراء في أن حفظ التوازن أولى خطوات التخطي. وما استعصى على قوم منال إذا أسسوا بنيانهم على القيم الحضارية اليقينية الثابتة، ووطؤوا لذلك بتحديد المطلوب، وتحرير المفهوم، والخلوص من غبش التصور واضطراب الرؤى. وما أوهى اللقاءات الحوارية إلا ذهاب كل متحدث بما يرى، دون إفساح المجال للآخرين. وأحسب أن النفي والمصادرة والتهميش وواحدية الخطاب لا يتسع لها عصر المؤسسات والمجتمع المدني.
والتعايش الواعي مع المستجدات: محلياً، وعربياً، وإسلامياً، وعالمياً، يكشف عن مسلّمات وثوابت ليست على شيء من المشروعية، ومع ذلك فإن المساس بها مدعاة لإثارة (الرأي العام) الذي تشكّل عفوياً على هذه القناعات، ولم يعد بالإمكان ممارسة التصحيح والإصلاح دون تحرّف حذر، يعتمد الحلم والأناة وطول النفس والتحول المرحلي.
ومن حق (الرأي العام) الذي تشكّل في ظل ظروف غير سوية، ألا يواجه بالحقائق عارية من المداراة والاتقاء واللين والتراخي. ولقد أشار الذكر الحكيم إلى نتائج اللين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، فسواء غفل المثقف عن (الرأي العام) في مراحل التشكل، أو أسهم في تشكيله الخاطئ فإن على النخب المثقفة بوصفهم دعاة مصلحين كفلاً من المسؤولية. وتنصل الخطاب السياسي أو الديني أو الثقافي من المسؤولية مؤذن بتسلل خطاب متربص، ينساب كالخدر، ليعمّق المأساة، ويعقّد الحل. و(الرأي العام) حقيقة ماثلة في كل المجتمعات: المدنية والبدائية. وإذ تكون كينونته تطورية، وليست انبثاقية، فإن مسؤولية المتحكمين في شأنه ألا يتصوروه إناء يفيض بالرؤى، وأن بالإمكان إفراغه الفوري من محتواه وملأه بالمراد. إن الجهد والوقت اللذين استغرقهما (الرأي العام) في تشكّله وأخذ وضعه مساويان للجهد والوقت اللذين يتطلبهما المصلحون لتحويل مساره، وتغيير تصوره، وتحديد مواقفه من الأشياء حين يتعلق الأمر بالمتغيرات السياسية بوصفها لحظية، مصلحية، وليست موقفية. حتى لقد عرّفها البعض بأنها:-(فن الممكن) تكون مفاجآتها التحولية عقبة دون الاستيعاب والاستجابة الطوعية. وقدر المثقف المأزوم اختلاط الأصوات السياسية والفكرية والدينية والإسراف في (الأدلجة) والتسيس لكل المشاهد.
وحين نحاول استبيان (حقوق المثقف) و(دوره في التنمية) في ظل هذه الظروف، يجب أن ننظر أولاً إلى الحيز الأدائي الذي يشغله إلى جانب المؤثرات الأخرى المسهمة معه في تشكيل الوعي الجماهيري، كالمؤسسات: التربوية والإعلامية والدينية والمعلوماتية، بوصفها شخصيات اعتبارية متشكلة من منظومة بشرية متخصصة، تتوفر على قسط كبير من الثقافة، ومن لم يحسب لثورة المعلومات والاتصالات ما يليق بها أدركه الغرق في طوفانها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ونحن بصدد القول في (الحقوق) و(الواجبات) بوصف الدور المؤمل من المثقف في التنمية عين (الواجبات): مَن المثقف؟ ومَن الذي يملك تحديد الحقوق وتفعيلها وحمايتها؟ ما نوع التنمية التي يمكن أن يسهم المثقف في تفعيلها؟ أهي خطط التنمية المتداولة؟ أم هي تنمية معنوية، تتحقق معها ثقافة المجتمع المدني المتجه صوب التشكل المؤسساتي؟ وفي ظني أن إثارة التساؤل لتحفيز الانتباه غير كافية، بل لابد من التحديد والتحرير والتأصيل. تحديد المجال، وتحرير القضية، وتأصيل المعرفة. ولو مضينا في تقصي ذلك، لخضنا في بحر لجي من الاختلافات. ويكفي أن نشير إلى أن (الثقافة) مصطلح لم يعد جامعاً مانعاً، فما توصّل أحد بعد إلى تحديد مفهومه. وما أكثر المصطلحات السهلة الممتنعة، التي لا تبرح المعهودات الذهنية، يتصورها المهتم، ولا يقدر على تحديدها أو تفسيرها، وإن فعل فإنه كمن فسّر الماء بعد الجهد بالماء، ويأتي على شاكلة (الثقافة) (الحب) و(السعادة) و(الجمال) و(الشعر). واضطراب المفاهيم لا يشكل عقبة في طريق المستدعين لمثل هذه المصطلحات. وليس مهماً التوصل إلى مفهوم دقيق محدد مادام أن المعهود الذهني كافٍ للإجابة على الأسئلة الأولية.
ومصطلحات (الحقوق) سواء كانت مضافة إلى (الإنسان) أو إلى (المرأة) أو إلى (المثقف) أو إلى (العمال) أصبحت لوثة ألسنة ومزلق أقلام. ولقد وسعت المجتمعات المدنية منظمات ومؤسسات وروابط ونقابات، تدافع عن حقوق الإنسان والحيوان. ولم تكن (حقوق المثقف) صارخة ولا فاقعة اللون كما هي في (حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) على سبيل المثال. وليس هناك ما يمنع من التفكير الجاد بالحقوق مضافة إلى أي فئة، فهي من متطلبات (المجتمع المدني) وليس بالإمكان التشكل المجتمعي بمعزل عن العالم، ولاسيما أنه بسبب المكتشفات وتطور (التقنية) أصبح قرية صغيرة متفاعلة. وخيارات التجانس والتعايش والتعاذر خيارات صعبة، لا تقل صعوبتها عن خيار التدابر والتنازع والتدافع والأثرة. إذ كل فعل له رد فعل مساو. وقانون التحول المجتمعي نافذ، شئنا أم أبينا، وأولى لنا أن نستشرف المستقبل، وأن نحدد الحقوق والواجبات لقادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد النهضة، مثلما نحددها للنساء والعمال والحيوانات، وما لم نستطع استبانة الطرق، تفرقت بنا بنياتها.
ومن الخير لنا أن نعي المراحل الحساسة، مراحل التحول الحتمي، فإذا تمنعنا عن الاستجابة أو ترددنا معتمدين على عقدة الأبوية فاتنا الركب. وإذا ترددنا معتمدين على اضطراب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات وحجم اليقينيات والقطعيات وقعنا في إشكالية التنازع. وإذا سهل انقيادنا للآخر الأقوى في مادياته وراهنه، ولم ننظر إلى مواقع إقدامنا دخلنا مرحلة المسخ والاضمحلال. إذاً فالمعادلة صعبة، والإقدام والإحجام يقتسمان الخطورة والأهمية. والرأي السديد لا يعتمد الثنائية الصارمة في مجالات الفكر، بحيث لا تكون هناك مناطق وسط. وعلى ضوء ذلك فليس هناك إقدام محمود على إطلاقه، ولا إحجام مذموم على إطلاقه، وإذ تكون هناك قطعية: ثبوتية ودلالية، تكون هناك ثوابت ويقينيات. والقواصم في تضارب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات، وقدرنا الحميد أن لنا حضارتنا بكل سموقها ونديتها وتأثيرها على سائر الحضارات وإرثها لكل ما سبق منها، وتجاربها الناجحة على كل المستويات. وفي ظل هذا القدر المقدور، فإن استقبال الآخر دون شعور بأحقية الكينونة المتميزة يعني الذوبان، وليس من لوازم ذلك إقصاء الآخر، أو الاستغناء عنه. ولو فعلنا ذلك لوقعنا بما وقع فيه (اليهود) من دعوى نقاء (العنصر) و(المعتقد)، وفي ذلك إخلال بمتطلبات (عالمية الإسلام) ومرونته وتفاعله.
ولأن المثقف يمثل شريحة متميزة وقليلة في المجتمع - أي مجتمع - كان لابد من مقاربة مفهوم (الثقافة) و(المثقف) وتبيّن دوره في الحياة كافة، وفي التنمية على وجه الخصوص، ولاسيما في زمن الخلطة الفكرية والتواصل الجبري عبر القنوات ومراكز المعلومات. والحقوق أي حقوق تكون عامة للإنسان بسبب آدميته، وللمسلم بسبب إسلاميته، وللمواطن بسبب مواطنته، وللمثقف بسبب ثقافته. و(حقوق المثقف) مجال الحديث هي تلك الحقوق التي لا يشاركه فيها غيره. فحق الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والأمن حقوق مشتركة لكل مواطن، وليست للمثقف وحده. وتكريم الإنسان، وتمكينه من تحقيق الخلافة في الأرض حق مشترك للمثقف ولغيره من الأناسي.
إذاً فالحقوق التي ينفرد بها (المثقف) دون غيره من شرائح المجتمع سواء استحقوها بالإنسانية أو بالإسلامية أو بالمواطنة أو بالفئوية أو بالنوعية تحتاج إلى تحديد وتوصيف. وكم نسمع ب(حقوق المرأة) وهذه حقوق نوعية، ونسمع ب(حقوق العمال) وهذه حقوق فئوية، ونسمع ب(حق المسلم) على المسلم وحق الجار وذوي الرحم، وتلك حقوق إضافية. وهناك حقوق وضعية عارضة ك(حقوق المسافر) و(المعوَّق)، وحقوق أخلاقية ك(حق الطريق). ولن نمضي في استقصاء أنواع الحقوق إلا بقدر ما يساعدنا على تحرر مصطلحاتنا ذات العلاقة.
ولعل أولى هذه الحقوق (الحرية) وهي وإن كانت حقاً عاماً إلا أنها ذات خصوصية في جانب المثقف. فالمثقف يحتاج إلى لون خاص من ألوان الحرية، لأنه يعالج الأفكار والآراء والتصورات، ويبدي رأيه في الثوابت والمتغيرات على كل الصعد، يفعل ذلك لأنه يرى أن مسؤوليته في أن يرسم للأمة طريق الخلاص، وهو بسبب ممارسته القولية واقع تحت طائلة سلطات متعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الدولة، ولكل سلطة حقها في مساءلة المثقف حين يواجه القضايا العامة أو الخاصة، وليس هناك أصعب من تحديد الحرية تحت طائلة السلطات الثلاث. وكثير من المثقفين يطلقون لأقلامهم وألسنتهم العنان، ويصرون على أن من حقهم أن يقولوا ما يشاؤون، متى شاؤوا، وفي أي قضية تعن لهم. وقليل منهم من يفهم الحرية على وجهها، ويتصور المجال بكل أبعاده وحدوده. وللمفكرين آراء متضاربة حول (مفهوم الحرية) ومقتضياته ومجالاته. ومن الخير للمثقف المسلم أن ينطلق من المفهوم الإسلامي للحرية، ذلك أن بعض الرؤى الغربية ترى أن سلوك الفرد حيال الآخر محكوم بالقانون الوضعي المتفق عليه، فيما يكون سلوكه حيال ذاته مطلقاً لا يحكمه قانون، ولا تحده قيم، ولا تضبطه أعراف، والرؤية الإسلامية لا ترى ما يراه الغرب. ولكل حضارة رؤيتها، ولا مشاحة مع الاصطلاح، وإذا كانت الطرق كلها تؤدي إلى المراد، فليس هناك ما يمنع من تعددها واحترام هذا التعدد.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 06:50 PM   #12
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
المثقف بين الحقوق والواجبات..!! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولما كان المثقف يشترك مع غيره من الأناسي بحق (الحرية) العامة، كان له مجال ينفرد به، وهو (حرية التعبير)، وإشكالية هذا الحق تضارب الآراء حول إمدائها ومجالاتها وحدودها. فالمثقف حين يتناول القضايا والظواهر والمذاهب بالكتابة أو بالخطابة، أو حين يبدي صفحته، ويشيع فحشه، أو حين يمس المقدس، ويهز اليقين ينازع المالكين لحق الأطر حقوقهم باسم الحرية دون استذكار ما للكافة من حسيات ومعنويات من حواضن ومرجعيات وأنساق وسياقات. بمعنى أنّ الحرية مخاض حضارة لا تدعها غير منضبطة، ولا غير مصطبغة. وكل مثقف فهم الحرية على غير مراد حضارة الانتماء يخل بمقتضيات (العقد الديني) المقابل ل(العقد الاجتماعي) كما هو عند (جان جاك رسُّو). إذ كل مجتمع له قوانينه، وهي في بداياتها مواضعات عفوية وأعراف توارثية، سلَّمت لها العقلية الجمعية، ثم أصبحت شرطا للكينونة، ومؤشراً لوجود الحرية. ومهمة المثقف تشخيص المواضعات والأعراف والتمهيد للتغيير بالتوعية لا بالتسلط. والحياة السوية تقوم على نظامين: حسي ومعنوي. ف(الحسي) ثبوتي، عبّر عنه الوحي بالسنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول، وهو نظام الكون الذي استمد منه العلم قوانينه ومكتشفاته، ومحاولات اختراقها بأيِّ تصرف إخلال خطير بنظام الكون، لا يغير السنن، ولكنه يسيء التعامل معها، ولهذا جيء ب(أخلاقيات الطب) وضوابط (التلوث البيئي) فالنار والماء والطاقة نعم تتحول إلى نقم، إما بالتدبير الإلهي أو بالخطأ التعاملي. أما (المعنوي) فهو إما ثبوتي أو تحولي، واكب بدايات التجمع الإنساني.ومصدريته إما: تشريع وضعي أو تكليف رباني. ولن نمضي مع التفاصيل الدقيقة لحراك التشكل ومراحل التحول، وحق الإنسان في التدخل. ومن إشكاليات الحرية على مختلف مستوياتها ومرجعياتها، اختلاف الناس حول (المفهوم) و(المقتضى) و(المجال) و(الثابت) و(المتغير) و(حق الإنسان فيها): تشكلاً وتمثلاً.
والإغراق في التفاصيل الدقيقة للحرية وحق التدخل في الأنظمة وحدودها يفضي بنا إلى متاهات الجدل السوفسطائي. والحرية في ظل كل المفاهيم حق مشروع لكل الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا بد من كفالتها وحمايتها. و(الحرية) و(التسلط) و(الاستبداد) و(السلطة) المشروعة قيم سلوكية، تستوي بما تحتاجه من جهود وإجراءات ودعم. وفي الحديث: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) فهناك (غدو) يرمز إلى الجهد، ومصيره إلى النجاة أو الهلاك، وهناك (عتق) وهو الحرية. ومثلما يُستعبد الإنسان من إنسان مثله، يُستعبد كذلك من قيم فكرية أو سلوكية. وليس هناك أخطر من تأليه الهوى، وفي القرآن الكريم {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فلا حرية مع الأهواء، ولا توازن مع العواطف، ولا سلامة مع العنف. والمجتمع السوي من يحمي الحرية وييسرها للتمتع. والمهم أن تكون الأمة واعية تحسن استعمال الأشياء وفق مقتضياتها. وإذا قلنا بحق (الحرية التعبيرية) للمثقف وكفالتها، فإننا لا ننفك من النسق والسياق. فما النسق الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي للمتمتع بحرية التعبير والتفكير؟. إن المتعقب للرؤى والتصورات يُرِيانه أن مفهوم الحرية أصبح إشكالية، تَضَخَّم معها التنظير، وضاق حيز الممارسة. والناس قد يتمتعون بقسط لا بأس به من الحرية، ولكنهم لا يشعرون بذلك، لأن عيونهم تعدو إلى حريات أوسع تقترب من هاوية الفوضوية، وهذا التفاوت يعد إشكالية أخرى، لم يحسمها المغرمون بالتنظير. وأسوأ شيء في المفاهيم الخلط بين حرية السلوك وحرية الفكر وحرية التعبير.
وأحسب أن كفالة الحرية لكل من هب ودب وقوع في العبودية، فكل شيء تجاوز حده ينقلب إلى ضده، وإظهار الدين يقوم على مبدأ الأطر على الحق والإذعان للسلطة الشرعية، ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية، والمسلم مطالب بالمصير إلى جماعة المسلمين.
وليست الحرية أن يمكن المثقف من التعبير عن وجهة نظرة وحسب، وإنما هي في تحديد المجال ودرء الضرر اللاحق به من (الرأي العام) حين يعبر عن وجهة نظره، وتوفير الأجواء الملائمة للتفكير والتعبير، والعمل على تثمين جهده الفكري، وتعويضه عنه متى شحت موارده. فإذا كان للجهد العضلي ثمن، فإن الجهد الفكري أولى به، وإذا كنا نتيح للمثقف أن يقول، ثم لا ندرأ عنه ما يناله من الآخر، لا نكون وفيناه حقه، وحق الحرية الشمولي يفضي بنا إلى حق آخر لا تكتمل الحرية إلا به، ذلكم هو ضمان العيش الكريم للمثقف، وإذا كانت حرفة الأدب طريقا للعوز فإن من حق المثقف أن يتوفر على مستوى معيشي مناسب، لا يكون به طاعما كاسياً، يمنُّ عليه غيره. فرب عيش أخف منه الحمام. ولن يتوفر العيش الكريم حتى تحفظ حقوقه الفكرية، وتكون بمنزلة غيرها من الجهود، ف(الرياضي) أو (المغني) و(الممثل) تتخطفهم وسائل الإعلام، ويتلقون أثمانا باهظة لجهودهم، بينما يظل المثقف يعطي ولا يأخذ، وهو فيما يقول عرضة للاتهام والمساءلة. ولكي يحصل المثقف على حقه، لا بد أن تتشبع ذهنيات المجتمع بالقيم الحضارية، لترى قيمة للكلمة: فكراً وإبداعاً، مثلما عُرفت القيمة (لقدم الرياضي)، و(أنامل الموسيقي)، و(حنجرة المغني)، و(جسم الممثل). إذاً هناك:
- ضمان الحرية.
- وتوفير الأجواء.
- ودرء الضرر.
- والتعويض.
وإذا ضاع جهد المثقف، ونيل من سمعته فقد ضاع معه المفهوم المحدد لحريته والمتعقب للمفكرين والفلاسفة والعلماء الشرعيين، ممن عنوا بأمر الحرية على كل مستوياتها وانتماءاتها، يجد أكثرهم مرتبطين بقواعد معارفهم ومقتضيات انتماءاتهم، على حد: (وما أنا إلا من غزية) وهذه الكينونة الفئوية لا يمكن معها تحرير مفهوم الحرية، لتكون مفهوما وإجراء متجانسين. وحين نقول بحق الحرية فإننا نستصحب الحدود والقيود التي لا تتحقق إلا بامتثالهما. ومثلما اختلف الفقهاء حول مقتضيات (سد الذرائع) و(درء المفاسد) وقاعدة (دفع المضرة مقدم على جلب المصلحة) فقد اختلفوا حول حقيقة الحرية، وعلى كل التوقعات، وفي ظل كل المحاذير فإن طلاب الحق قادرون على تحرير مسائلهم، ومن أهمها مسألة (الحرية).
ولما كانت الحرية لا تتعارض مع قيم الحضارة، فإنّ على المثقف ألا يكتفي باحترامها، وإنما عليه أن يدعو إليها، وأن ينافح عنها، ومهما اختلف الناس حول أهمية القيم وتراتبها في منظومة الأولويات، فإن الاختلاف لا يعني مشروعية المواجهة ما دام أن هناك حواراً يسبق الصراع والصدام، والأخذ بالأيسر مطلب شرعي. ومتى تبين للمثقف وجه الصواب، وجب عليه أن يتحقق من إمكانية المتلقي وقدرته على النهوض بالمبادىء التي يطرقها، ومن أهم واجباته: أن يعرف ذاته ومدى قدرته على تلقي النوازل وطرح الحلول المناسبة، بحيث لا يقع في خطأ التقدير أو التوقيت، والمساس بما لا يجوز المساس به، كالعزوف عما يجب التعاطي معه، وتقحم القضايا دون استعداد معرفي تجريبي يعرض المجتمع إلى الارتباك وينزع الثقة بالمثقف.
ومتى سقطت أهليته وهيبته أصبحت القابلية للصدام قائمة، ومن ثم يتحول الأداء إلى داء. فالواقعية والمثالية والوُسْع ممارسات وتكاليف متفاوتة في القدر والمشروعية والحظر. ومتى استطاع المثقف فقه الواقع وفهم القضايا وأدرك الأهمية تمكن من معالجة الأشياء بإجراءات مناسبة. ولن تتحقق التنمية المعرفية والفكرية وسائر متطلبات الحياة في ظل التعنت والشطط. ومتى تبدّى للمثقف اختلاف في وجهات النظر ومشروعية هذا الاختلاف، وجب عليه تحامي الاندفاع العاطفي، وترويض نفسه وتمكينها من الدخول على القضايا بروح عملية وعقل متزن. ذلك أن القضايا الخلافية لا تستدعي الحماس ولا التشنج العاطفي، وما أكثر الذين يفقدون أدوارهم بالاندفاعات غير المحسوبة أو بالمثاليات غير الممكنة. ونحن بهذا نضيف إلى الضمان والأجواء والدرء والتعويض (التوازن في الممارسة)، والتوازن لون من ألوان الرفق، وما دخل الرفق في شيء إلى زانه.
إن أثمن شيء تحققه السلطات المتعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الحكومة هو (حرية الفكر والعمل والتعبير) ولن تكون الحرية سليمة ما لم تنسجم مع تلك السلطات الثلاث، وما لم تعرف حقها في ضبط التصرف والتعبير.
ومتى اختلت العلاقة بين الحرية والسلطات الثلاث، استفحلت الفوضوية، وتقلصت الفضائل، وقام الاستبداد مقام العدل، والعاطفة مقام العقل، وتلك سمة سادسة تتمثل ب(الانسجام مع سلطات المجتمع)، وهنا نكون أمام:
- ضمان للحرية.
- وتوفير للأجواء.
- ودرء للضرر.
- وتعويض للجهود.
- وتوازن في الممارسة.
- وانسجام مع السلطات.
وليس شرطاً أن يكون الخلل من جانب السلطة، إذ ربما نفهم الحرية على غير مراد المشرِّع، فيكون المجتمع نفسه هو الذي يصنع العبودية، مثلما يصنع الفقراء الفقر. حتى لقد أدرك بعض المفكرين ما يسمى ب(قابلية الاستعمار). وقد تسلب الحرية بقوى خارجية، تفرض رؤيتها ومناهجها ومفهومها للحياة والسلوك والكون، والمثقف ليس بأقل أهمية من المحارب المدجج بالسلاح لمواجهة الغطرسة، ذلك أن حرب الكلمة أهم من حرب السلاح، وفي البدء كانت الكلمة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
وإشكالية المثقف العربي فيما أشرب في قلبه من حب للثورة والتمرد، والخلط بين مفهوم السلطة والتسلط، ومن ثم لا يجد المتعة إلا بمقاومة السلطات الثلاث، متصورا أن وجودها مؤذن بغياب الحرية. فالخطاب المعاصر تتنازعه (ثورية) عنيفة تجر إلى الصدام أو (راديكالية) صاخبة تجر إلى الصراع أو (ليبرالية) منفلتة تجر إلى الفوضى والاستخفاف بالعهود والمواثيق. وجهل مقتضيات العهود والمواثيق ك(البيعة) مثلا تحمل الأطراف على تعطيل الحرية. وإذا تضخمت في الأذهان سلطة دون أخرى، غفل المعنيون عن سلطة المجتمع أو سلطة الدين أو سلطة السياسة. فالعادات والتقاليد والمسلمات والثوابت واليقينيات والمقدسات التي ما أنزل الله بها من سلطان تلح المجتمعات في تكريسها وتقديسها، وإذا انبرى مفكر أو مثقف لتصحيح المفاهيم، قمعته واحدة من تلك السلطات، وأخطرها سلطة المجتمع متى حدَّت من حرية التعبير، ومع خطورة هذه السلطة إلا أن لها أدواراً إيجابية، فما كل خارج على سلطة المجتمع مسدد الرأي صائب القول، ولو أن المجتمع والمثقف أذعنا عند الاختلاف لحكومة الدين والعقل والمنطق والعهود والمواثيق والأنظمة، واطَّرحوا جميعا الوهم وعقدة الأبوية لكان أن وجد المثقف طريقاً قاصداً لتصحيح الأفكار والمفاهيم.
ولما كانت الدولة في إطار الإصلاح الشامل سباقة في بلورة (المجتمع المدني)، ولما كان تحققه لا يتأتى إلا من خلال التشكل المؤسساتي فإن جماعة المثقفين أولى بهذا التجمع، والفئات الثقافية في العالم المتحضر تعتمد (النقابات) و(الروابط) و(الاتحادات)، ولها تجاربها في التنظيم والهيكلة والتشكيل والوسائل الانتخابية.
ومن حق المثقف أن يجد ملاذا فئوياً، يوفر له أجواء ملائمة للطمأنينة على مستقبله، ويهيىء له العطاء المناسب لمجتمعه. ولن تتوفر الأجواء بالتفرق، واعتماد كل مثقف على جهده الشخصي، وإذا كانت يد الله مع الجماعة، فإن العيش الكريم والأمن بكل شعبه لن يتوفر شيء منه إلا بتشكيل كيانات قوية ترود، وتحمي، وتدعم، وتهيىء الأجواء، وتوفر الحياة الكريمة للمثقف ولأسرته. وإذا كانت هناك تطلعات إلى بدائل محدودة ك(صندوق الأديب) أو (مشروع التأمين) أو (الضمان الاجتماعي) فإن مثل هذه البدائل لا توفر الأجواء الملائمة للعطاء، وإن تحقق من خلالها جانب لم تتحقق الجوانب الأخرى التي ربما تكون اكثر أهمية. وهذا الحق يدخل في الحماية والتعويض كسمتين أوليين للحرية السوية.
ولأن المثقف قد لا يستطيع إيصال صوته إلى شرائح المجتمع المتعددة، فإن من حقه أن تيسر له قنوات التوصيل، ليسهل تداول آرائه وأفكاره، وأحسب أن تلك مسؤولية المجتمع والسلطة. فإذا كان من واجبه المبادرة في قول الحق، فإن من حقه تسهيل الطرق، ليقول هذا الحق، وليصل هذا الصوت إلى أكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع، وقنوات التوصيل، وبخاصة الاعلامية منها بعض سبل النفاذ إلى الآخر، ولكن الأهم من ذلك، إيجاد (دور النشر) القوية ودعمها، فصناعة الكتاب دخلت فضاء الدعاية والإعلان وحسن التسويق، ولم يعد إنجاز المادة وحده كافياً، بل لا بد من الإخراج والدعاية والتوصيل، ومعضلة المعضلات في الوسط الفكري والأدبي عملية التسويق. والأدباء والمفكرون لا يجدون من يطبع إنتاجهم، وإذا طبعوه على نفقتهم، كسد في أيديهم، وإذا تولت دور النشر الضعيفة طباعة الكتاب، فإنها لن تحسن الطباعة، ولن تتقن الاخراج، ولن توفر الدعاية، ولن تقدر على التسويق. وتلك عقبات تحول دون إيصال الآراء والأفكار. وفوق كل ذلك فإن مجرد الإصدار والتسويق وحدهما غير كافيين، بل لا بد من الاستحضار وإثارة الانتباه، ولا يتم ذلك إلا بالحركة النقدية التطبيقية التي تكشف عن الآراء وتصحح الأخطاء، وتثري الفكر بالتلاقح، والمشاهد تكاد تكون خاوية على عروشها، فالأدباء والمفكرون يفضون بما لديهم، ولكنهم لا يحسون بمستقبل متفاعل، وهذا الحق داخل بحق التعويض والتمكين والأجواء، وتحقيق الفاعلية عصي المنال ما لم يكن هناك إقدام ومبادرة مشتركة. والمجتمعات المتحضرة توفر لمثقفيها الأجواء الملائمة لتواصل العطاء. ومدار كل شيء على العلم قبل القول والعمل. لقد أطلت الحديث عن (الحرية): مفهوماً وممارسة، لأنها جماع الحقوق والواجبات. ومتى فهمت على حقيقتها، ومورست وفق مقتضياتها، بلغت السفينة شاطىء السلامة، وتحقق ما سواها من حقوق، ومتى دعونا إلى التحول المؤسساتي لتجميع الجهود وحفظ الحقوق وتفاعل الآراء كان علينا أن نضع كل الأهمية للتجمعات التي لا تكون سوية، وقد بدت بوادرها السيئة في تشكيل ذهنيات متشددة أو منحرفة، تنذر بخلل الوحدة الفكرية للأمة، وآخر دعوانا ألا نستخف بالمخاضات، وألا نستهين ببوادر الخطابات، والمثقف خير من نندبه لمواجهة النوازل والملمات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 07:53 PM   #13
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لم تنته اللعبة يا دوري..!
د.حسن بن فهد الهويمل


الأستاذ الدكتور (محمد الدوري) المندوب الدائم لحكومة (صدام حسين) لدى الأمم المتحدة (دشن) كتابه (اللعبة انتهت) متعجلاً إصداره في ست وثمانين ومئتي صفحة. محاولاً فيه عقلنة الحديث وتقنينه، تمشياً مع تخصصه وأستاذيته للقانون الدولي في (جامعة بغداد)، قبل أن يلتقطه حزب القبيلة، ليكون لسان حالها ومقالها في أروقة الأمم معذراً ومبرراً خطيئاتها. وأحاديثه المتلفزة بين الحين والآخر، وبخاصة ما قدمته إحدى القنوات على مدى عدة حلقات، تستمرئ أخلاف الواقعية الحذرة، وتتقي لعنة التاريخ، وتفيض تحسراً ومرارة بعد فوات الأوان. ولا أحسبه الأول الذي حاول النفاذ بجلده من سبة الدهر، ولن يكون الأخير، ذلك أن فصائل الانقلابات يتقاذفون كرة الخطيئة، كي لا تستقر في شباك أحدهم، لأنها متى استقرت تشرذم الفريق بين قتيل وسجين ومشرد.
ولقد كنت مغرماً بمتابعة اللقاءات الموسعة مع عراقي الشتات وفلول الانقلابات، ممن أفلتوا من قبضة النظام، أو اختطاف المحتل، وكانوا من قبل من آلية النظام التي طحنت كل شيء أتت عليه: يقتلون، ويسجنون، وينفذون أقسى العمليات بمبادرة منهم، أو بأمر من الحاكم المتسلط. وما من أحد منهم اعترف بجنايته على أمته وجيرانه، وطلب من المعذبين في الأرض الصفح والمغفرة، والتنصل سجية محترفي السياسة، يقتلون البريء، ثم يمشون في جنازته، ويحضرون مأتمه، ويتقبلون أحرَّ التعازي بفقده.
وإذا لم يكن الهدف من قولنا الشماتة، ولا حز الرقاب، فإننا نود أن تقال الحقائق، وأن يتوقف نزيف الكذب والإسقاط وتبادل الاتهامات، وأن يتحمل المقترفون ما اقترفوا، وأن يطلبوا من شعوبهم الصفح، وأن يعظوا الممسكين بأزمة الأمور، فما عادت الأكاذيب قادرة على طمس الحقائق، وما عادت الشعوب قادرة على احتمال مزيد من العذابات. والذين لطخوا أيديهم، ودنسوا سمعتهم، ثم نجوا بجلودهم، وما زالوا يبتغون الفتنة من بعد، ويقلبون للمتابعين الأمور، لا يليق بمثلهم مواصلة الأكاذيب والمغالطات، ولا يحق لهم أن يبرروا مقترفات الأنظمة الظالمة، ولا أن يبرئوهم من الجرائم الوحشية، ولا أن يشرعنوا لغطرسة المحتل. لا مراء في أن إسقاط النظام المنيخ بكلكله على صدور المواطنين فرج بعد شدة، ولا مراء في أن حضور المحتل بخيله ورجله أذية غير محتملة وسبة دهر لا يزيلها إلا رحيله غير مأسوف عليه، ذلك أن الاحتلال - أي احتلال - لا مسوغ لتبرير وجوده. وما يعانيه الشعب العراقي اليوم إن هو إلا حصائد ما زرعته أيدي النظام البائد. وهل عاقل يرضى بما يلاقيه الإنسان العراقي من قتل همجي وإذلال مهين؟ وهل أحد يتوقع لعراق الحضارة والأمجاد عوداً حميداً في عاجل الأيام؟ لقد اقترف أزلام النظام البائد أبشع الجرائم: تقتيلاً وتنكيلاً، ولما يزل الشعب المغلوب على أمره، يتخبط في حمامات الدم، وتلك مرحلة ليست بأحسن حالاً مما كان عليها من قبل. ومع هذا يطلع علينا المرجفون القنواتيون بين الفينة والأخرى بمقترفين، يبرئون أنفسهم، ويزكون أعمالهم، ويعذرون للمعتدين، ولا يضعون أصابعهم على مكمن الداء. فسقوط أي نظام مهما كان سيئاً مؤذن بفساد كبير، يؤدي إلى فراغ دستوري، ويستدعي تدخلاً عسكرياً، يحول دون استشراء حروب أهلية. وصدق القائل إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). و (الدوري) الذي أفضى ببعض ما لديه، تطوع الصحفي اللبناني (جورج فرشخ) بتجميع الكتاب من اللقاءات المتلفزة من قبل ومن بعد، مع شيء من الإضافات والتشذيبات الملائمة للتحولات المفاجئة.
وليس المؤلم إنكار المقترف خطيئته، ولكن المؤلم أن يساير المقولة من دون قائلها في الفقه السياسي، ممن يتقحمون أتون المشاهد السياسية دون أهلية، ثم يقطعون مع القائلين: بأن اللعبة الكونية قد انتهت. ولو أن الفضوليين المجازفين لا يضلون إلا أنفسهم لهان الأمر، ومع ذلك فلسنا نتهم القائلين ولا المتلقين بالخيانة العظمى، فلربما يكون مبلغهم من العلم ما توصلوا إليه من مثل هذه النتائج.
وكل ما نريده الكف عن تضليل (الرأي العام). وإذا كان البعض يرى أن اللعبة قد انتهت، ثم لم يتبع قوله توقعات لما سيكون، فإن آخرين سايروه بنهاية اللعبة، ولكنهم جعلوا النهاية بداية للمأساة.
واحتلال العراق من قبل قوات شقت عصى الطاعة، وفسقت عن أمر المؤسسات الدولية، التي أريد لها صد الظلم وإقامة العدل، وكف أيدي الناس الأقوياء عن الاعتداء السافر، وحفظ حقوق المستضعفين في الأرض، يعد ذلك أو بعضه بداية لعبة جديدة تسكر العقلاء وتذهل المرضعات، فهي مع آثارها السيئة ستكون مغرية للمتمردين لممارسة احتلال عسكري، يسلب الحق، ويشيع لغة القوة والغطرسة. وهذا التعدي يفوق ما تركته اللعب القاصمة في (حروب الخليج) كلها. وقضاء الأمة العربية أنها تخرج من لعبة مصمية، لتدخل في لعبة أدهى وأمر. وما الحروب والانقلابات والنزاعات والتصفيات إلا لعب يأخذ بعضها برقاب بعض، والشعوب المهمشة تدفع (فاتورة) الحساب من قوتها وأمنها وحليب أطفالها، بحيث لا تجد من يطعمها من جوع، ولا من يؤمنها من خوف. ومن ثم تصبح وقود الصدامات: العسكرية والفكرية. وليست اللعبة وقفاً على إسالة الدماء، وإنما هي في إسالة الأحبار أيضاً، وما الأحبار إلا قطرات تحيي موات الفتن، وتنبت أفتك الأسلحة، مع أن مراد النفوس أهون من التعادي والتفاني - كما يقول المتنبي -. وكم من لاعب بلاغي أودى قلمه بحياة الآلاف من الأبرياء. والأصنام لا يحكم صنعها إلا الإعلام المتواطئ، والأقلام المرتزقة، وأنكر الأصوات. وهل أحد يجهل مقترفات الكتاب الذين كذبوا على أمتهم، وأضلوها سواء السبيل؟ وهل يستطيع مغتصب أن يبني أوهامه إلا عن طريق الأقلام التي تستمرئ الكذب؟. والضالعون في التبرير والتعذير والترويض فئام من جهلة، أو متسرعين، أو مواطئين، والله وحده العالم ببواطن الأمور.
وإذا كان (الدوري) الرجل الضالع في اللعبة قد روى ل(جورج فرشخ) عن نهايتها فإن (هشام عليوان) ألف كتاباً مماثلاً، وكم هو الفرق بين لاعب في المسرح السياسي ولاعب في المسرح الإعلامي، وإن كان لكل حقه من الخير أو الشر. وبين الكتابين تباين واضح، فالأول يحاول تخفيف حدة الغضب على النظام البائد بالتأكيد على خيانة السقوط، وإن كان يدينه في كثير من المواقف، فيما يأتي الكتاب الثاني راصداً للتحولات والمصائر، موغلاً في الإدانة وتضخيم الأحداث تبعاً لما وقف عليه من فيوض الإعلام. الكتاب الأول تحت عنوان (انتهت اللعبة)، والثاني تحت عنوان (نهاية اللعبة) ولم يكن الحديث عن اللعب السياسية جديداً، فلقد سبق أولئك شرقيون وغربيون، كتبوا عن لعب كونية وأخرى إقليمية، فجاء بعضهم مدلساً، فيما جاء البعض الآخر سافر الكذب، وقليل منهم من أسر النجوى في قول الحق.
وكان قدري أنني فتحت عيني، وعقلت أمري على أحداث دامية وأقلام راعفة، تصف الانقلابات بالثورة، وليس ما يحدث في الوطن العربي، حقيقاً بأن يوصف بالثورية، وإنما هو انقلاب عسكري، يتراوح بين الدموية وحمامات الدماء، وقل أن يكون انقلاباً أبيض، لا يشوبه عنف، ولا يدنسه ظلم. والفرق بين (الثورة) و (الانقلاب) أن (الثورة) إحداث نظام، و (الانقلاب) اختلاف حكام. بمعنى أن الثورة رؤية و (أيديولوجية) وشرعة ومنهاج، فيما يكون الانقلاب تنازعاً على التسلط لا على السلطة، يكون فيها الشعب ومثمنات الوطن غنيمة. والمتحدثون عن اللعب السياسية من أربابها الذين فرغوا من أداء دورهم الغبي، قد يصدقون، لأنهم يفيضون بما لديهم، وفي حسابهم من يرصد لهم من مؤسسات وأناسي، ولقد بدأ وعيي السياسي مع كتاب (لعبة الأمم) ل (بوكلاند) فكان أن رسخ في نفسي أن كل شيء قابل لممارسة اللعب، وأن لكل لعبة قانونها المعرفي والإجرائي، ومن لم يتقن قانون اللعبة لا يحسن التمييز بين ما هو عمل ظاهره كباطنه، وما هو غير ذلك، وليس أضر على (الرأي العام) من الخلط بين الأحداث المختلفة الأسباب والدوافع، أو الخلط بين الظواهر والوقوعات.
استهل ( الدوري) كتابه بمقدمة في اثنتي عشرة صفحة، تبدت فيها أنات المذنبين وحرقة المفلسين وتبرير المخطئين، وما كنت لأفسد الحديث بسوء الظن، ولن أستبق الحكم قبل قراءة الفصول التي جاءت على شكل إجابات على أسئلة (الدوري) بحيث جاء الفصل الأول إجابة على التساؤل عن كيفية استعداد اللاعبين. و ( الدوري) أطلق كلمة (انتهت اللعبة) أو (اللعبة انتهت) في التاسع من أبريل عام 2003م، وهو قد تعمد تخفيف حدة الدعوى، بحيث وصف النهاية بأنها تعني (انتهاء المسرحية التي استمر عرضها سنوات طويلة على مسرح الأمم المتحدة). ولست هنا معنياً بالربط بين مسرحي: الواقع الذي يقوده (صدام) والمرافعات في هيئة الأمم المتحدة التي يقودها (الدوري) ، وكون أحدهما يجهز للآخر، ويدفع إليه. فاللسان والسيف كلاهما صارمان، وقد لا يبلغ السيف مبلغ اللسان، وكل الذي أوده التأكيد على أن اللعبة شبكة من الحركات والفصول، تختلط فيها الحروب الباردة والساخنة. وعند إطلاق كلمة (اللعبة) يكون هناك نسيج قوي التماسك دقيق التداخل متعدد الفصول متنوع الشخصيات. فاللعبة رواية مطلقة، وليست أقصوصة مقيدة ببطلبها وزمانها ومكانها. إن هناك عدداً من اللاعبين الأذكياء والأغبياء والظاهرين و (اللوبيين)، وإذا تكتم (الدوري) على بعضهم أو على بعض الأدوار فإن قراء السياسة يعرفونهم بسيماهم. وقدر الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية من ورائه أن اللعب كالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، فها نحن نسمع ب (الصدر) ونراه، ونسمع ب(الزرقاوي) ولا نراه، وما الحرب إلا ناتج لعبة أو بداية لعبة.
لقد جاءت أحاديث (الدوري) في الوقت الضائع محاولاً ارتهانها في الوسطية، متحامياً القطعيات والحديات، متيحاً فرصة الاحتمالات ورياضة الفكر، والقارئ بهذه التعمية المتعمدة يلتاث عليه الأمر، فلا يحسم امراً في الشأن العراقي. والمذكرات والذكريات واليوميات والسير الذاتية السياسية، يمارس أصحابها لعبة التطهير والتدنيس في آن: تطهير الذات، وتدنيس الآخر. فيما يأتي حديث (الدوري) محاولاً المخادعة بالحيادية. والحيادية التي حاول التمويه بها لم تخلصه من شوائب الانفعال والافتعال، ولهذا حول كل الأفعال إلى مفردات في متن اللعبة الكونية. ولأن السياسة هي (النص) الحقيقي الذي يشتمل على ظاهر وباطن، وقد يتسم الظاهر بالرحمة والباطن بالعذاب، فإنه لا يحق الحق في مثل هذا اللبس إلا أن نفقه قواعد اللعبة، فهي التي توفر القدرة على قراءة الحدث السياسي وفق توجيه القواعد، متى استمدت كينونتها من المنطقية والعلمية.
والذين يعوِّلون على وسائل الإعلام في تفكيك الحدث السياسي، لا يتجاوزون ظاهر الرحمة، وبذلك يهيئون أنفسهم لباطن العذاب.
وليس أضر على الأمة من نمطية القراءة والتسليم لمقولة اللاعب الذي ربط القول بالفعل. وكل لعبة يؤرخها قوم، ويصفها آخرون، وتحللها فئة، وتقومها فئة أخرى. وإذا لم يتوفر المتعاطون معها على فقه الأحداث وقواعد الفعل وآليات التفكيك ومناهج التحرك فإن احتمالات التضليل أقوى من احتمالات التنوير، ولقد أشرت إلى المعولين على وسائل الإعلام ومثقفي السماع. والإشكالية أنهم الأكثر حضوراً والأندى صوتاً، وفيهم ومنهم تتشكل الرؤى والتصورات، وناتج ذلك أن الأمة لما تزل في مرحلة التيه، ولن ينجيها من عذابات اللعب وتتابعها ونمطيتها إلا أن تقوي إيمانها بأن الأحداث لا تقرأ وفق رغبة الصانع للحدث أو منفذه، وما أحوج القراء إلى (موت المؤلف) ليخلوا للمتلقي وجه الحدث.
والكتابان (انتهت اللعبة) و (نهاية اللعبة) يقعان تحت طائلة تلاحق الأحداث التي قد تصنع نفسها، إذ لم تكن كلها ناتج إعداد مسبق، ومن ثم فقد يكون للأحداث المفاجئة دورها في نهاية دور الكتابين. (هشام عليوان) مؤلف كتاب (انتهت اللعبة) متابع للأحداث من الخارج، وراصد لها بالحرف والصوت والصورة، وهو قارئ للحدث من الخارج، فيما يكون مؤلف (نهاية اللعبة) (محمد الدوري) من منفذي الحدث غير أنه يتحامى قول الحقيقة عارية من لغة السياسة المراوغة. وإذ يجزم (عليوان) بأن لعبة جديدة قد بدأت، يقطع (الدوري) بأن اللعبة الكبرى قد انتهت، وأن ما يليها حصادها.
فالمتغيرات في نظر البعض نتائج، وليست لعباً جديدة، والإشكالية أن بعض قراء الكف السياسي يرون الفصل بين لعبة وأخرى، وأن كل لعبة لها ذيولها ونتائجها التي تستأثر بالمشهد السياسي، فيما يذهب آخرون إلى أنه لا مجال للفراغ، فاللعب كحلقات السلسلة، والنتائج لا تحول بين اللعبة وتاليتها. ويبدو لي أن (الدوري) يقول بنهاية اللاعبين، وليس معنياً بما يليهم، إذ ليس شرطاً أن يتلقف فريق اللعبة المنتهية راية اللعبة اللاحقة، ومن ثم فإن اللعبة بالنسبة له منتهية لأنه يربطها باللاعبين. وعلى كل الأحوال فإن (الدوري) لا يكشف المخبأ، ولا يستحضر الغائب، ولكنه يكشف عن نفسه، ويستحضر دوره، وهو كشف واستدعاء يلتحفان رداء التطهير الذاتي.
كل الذي نوده، ونحن نرثي لأحوال اللاعبين المنبوذين ك (الدوري) أن يكفوا عن ترميم السمعة المدنسة، وأن يدعوا للتاريخ فرصة ملاحقة (الأحداث، ليدونها بصدق وأمانة، وإذ لا يقدر العالم العربي ونخبه المتشرذمة على درء الضرر، فلا أقل من أن يتعظ الجميع بما يجري، بحيث لا تكون الأمة ونخبها كمن عُمِّيت عليهم الأمور، فصاروا وليمة مرتقبة لأكلة نهمين. فهل نتعظ بالآخر. أم نتعظ بأنفسنا، أم لا نتعظ بشيء، ونكون كالسائمة ترقب فراغ الجزار؟.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 07:54 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لماذا المساس بالعلماء والتشكيك بالثوابت؟(1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ما من عصر أو مصر إلا ويخلو فيهما من يربك المسيرة، ويصدِّع التلاحم، ويضع الأمة على مفترق الطرق، حتى لا تدري أين المفر.
وما تفرقت الأمة إلا من بعد ما جاءتها قوافل المستغربين، تحمل رايات التزهيد بتراث الأمة، والتشكيك بقطعيات الدلالة والثبوت، وحتى التاث أمرها بأنصاف المتعلمين، ممن احتلوا وسائل الإعلام للقول في سائر الشؤون، فكان أن ضيق عليها المتنطعون، حتى التقت أضلاعها، ووسع لها المتعلمنون، حتى فقدت ضوابطها، وأضلها الجاهلون حتى حارت بعد الكور. وضاع الوسطيون في ضجة الإفراط والتفريط، ولقد ظاهرت دعاة الاستغراب موجات الغزو والتآمر المتدفقة من كل حدب وصوب، مؤدية دورها المرسوم وتدبيرها المحكم. ومما صعد الإشكاليات فهم الأشياء على غير وجهها وذهاب كل مفكر بما يرى، دون بصر أو بصيرة. واشتغال غير أولي التخصص والتأصيل المعرفي بما سلف من علم شرعي أو بما خلا من علماء أجلاء، أقيمت على جهودهم حضارة أمة، قبست منها كل الحضارات. والحائمون حول الحمى: إما جهلة يفتقرون إلى معلمين، أو ضالون يتطلبون مرشدين، أو مواطئون يحتاجون إلى محذرين أو إلى متعقبين، يتجاوزون لحن القول إلى ما تخفي الصدور.
ومما يعكر صفو الحيوات الفكرية والحضارية، ويذكي أوار الارتياب والشك ما يتعمده ذوو القامات القصيرة والمحصول السمعي المضطرب من استدعاء غير مبرر لأساطين الفكر وجهابذة العلم، ممن جددوا لهذه الأمة أمر دينها، وتعاملوا مع النوازل بعلم غزير، وفقه دقيق وإلمام بمتطلبات المرحلة التي عاشوها بكل ظروفها وملابساتها، وخلوا بما كسبوا واكتسبوا.
واستدعاء العلماء الأفذاذ، لا يكون بابتسار مفردة من مفرداتهم التي خالفوا بها الإجماع، وأجمع خلفهم على انفرادهم بها، وكانت في النهاية من خطأ الاجتهاد، الذي لا ينفك منه عالم نذر نفسه لمواجهة النوازل وعالم أتقن العلوم وأصولها ونازل أساطين الملل والنحل، وفند أقوالهم، لا تسقطه مخالفة في الفروع، فلكل مجتهد مطلق أو مقيد، ولكل مذهب يحيل إلى الأصول والقواعد الخاصة به مفردات لا يعضدها إجماع، ولكنها تظل شاهداً على الحراك السليم للاجتهاد المشروع. وكيف نتأفف من خطأ الاجتهاد، والصحابة رد بعضهم على بعض، وخالف بعضهم بعضاً.
وكم كنت أتمنى من أولئك المغرمين بإيقاظ النوم، وإزعاج الآمنين، أن يدعوا من ودعهم من سلف الأمة، ممن لم تكن لهم مواقف أو آراء تناقض ما علم من الدين بالضرورة، وإن كان ثمة فضلة من جهد أو وقت، فإن عليهم إنفاقها في البحث عن منقذ للأمة، مما هي فيه من تخل عما يحييها، وتقاصر متعمد عما في أيدي الناس من مهارات، وما في أدمغتهم من معلومات عن ظاهر الحياة الدنيا. وعلماء السلف الذين يستمرئ الجهلة المغامرون النيل منهم، لا يمنعون من علم، ولا يحولون دون اجتهاد، ولا يضيقون واسعاً، ولا يدعون إلى رهبانية، ولا يحبذون انكفاء على الذات، ولا يصدون عن إعداد أي قوة: حسية كانت أو معنوية. وإذا كان قدرهم قد ألقاهم في آتون الفتن، وجاء بهم في زمن التداعي على الأمة، مما شغلهم بالتصدي والتحدي والصمود، فإن ذلك لا يعني عنفهم ولا صلفهم، وإنما يعني الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، وأين الناقمون من حملات الصليبيين، وعنف التتار وجور المقتسمين لتركة الرجل المريض التي تمخضت عنها اتفاقية (سايكس بيكو)؟.. وأين هم من غطرسة القوة ووحشية المحتل؟ فأي فترة من فترات الإسلام فعل فيها الحكام والعلماء ما يفعل بالمسلمين القابعين في ديارهم؟.. والناقمون على علماء الأمة تمتد نقمتهم إلى تراثها، وكان عليهم إذا اتجهوا صوب الموروث العلمي أو الفكري أو الأدبي أو إلى أحد من رجالات هذه المعارف أن يكون ذلك لاستيعابه أولاً، وفهم أنساقه وسياقاته وظروف تشكله، ثم استصحاب ما تقوم الحاجة إليه، وما لا يتحقق الوجود الكريم إلا به. فما من حضارة إلا ولها كتابها المنزل، وشرعها المستنبط، ومنهجها المحكم، وحملة تلك الأمانة. وليس منتمياً من لا يتمثل الثوابت، ويظهر الدين: سلوكاً وشعائر ومنهج حياة. وبخاصة أن الدين الإسلامي: شرعة ومنهاج وشمول. ولن تأخذ الحضارة الإسلامية حقها المشروع حتى تكون بادية للعيان: بشعائرها ومشاعرها وأوامرها ونواهيها وأنظمتها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة.
وليس بمسلم من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض وإذا استحر الهجوم على الإسلام ومؤسساته وعلمائه من الإعلام الغربي، فالواجب أن نكون ردءاً له، ندفع بالتي هي أحسن، ومتى استقاموا لنا استقمنا لهم، وابتدرنا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نشايع معتدياً، ولا نسكت على باطل، ولا نقع تحت طائلة الانفعال والافتعال، نصدق القول الجائر، ونقبل الدنية في الدين. وإذا فهم المتنطعون والمتطرفون قضايا الدين على غير وجهها فإن ذلك لا يحمل الوسطيين والميسِّرين على إسقاطها أو الامتعاض منها، ف(التكفير) و(الولاء) و(البراء) و(الردة) و(الجهاد) قضايا إسلامية، يعد المساس بها كالفهم الخاطئ لها.
وإذا كان قدرنا - وهو قدر حميد - أن ولدنا على الفطرة، وأن آباءنا أسلمونا، مثلما هود غيرنا أبناءه أو نصروهم، فواجبنا أن نكون كما أراد الله لنا متمثلين للإسلام، كما أراده الله، محتملين تبعاته في المنشط والمكره، مقتفين أثر السلف الصالح في تقدير الأشياء قدرها، كافين عن الخوض بما لا نعلم، عافين عن أعراض العلماء، فالعلم قبل القول والعمل. ووسط ضجة المتعالمين والمتعالقين مع الآخر لابد من احترام التخصص، والتضلع من العلم، والتزود بالخبرة، والتعامل مع المستجد وفق المقاصد والمقتضيات الإسلامية، وعلى ضوء المناهج والأصول والقواعد إذ ما كان بمقدور سلفنا إنجاز تلك المعارف والفنون، لولا ما توفروا عليه من علم غزير، وفهم دقيق، وخبرة واسعة، ومنهج واضح، وآلية مرنة، ومعرفة كل شيء عن مجال الاجتهاد وآليته ومنهجه. والمؤذي أن طائفة من الأحداث استدبروا النوازل، وأنشبوا أظفارهم بما كفوا مؤونته من كليات ناضجة، وبما خلا من علماء أفذاذ.
وهذا التحرش بالثوابت وبالعلماء أخلى الثغور لمن مالوا على الأمة بأفتك الأسلحة، وأحد الألسنة، فأهلكوا الحرث والنسل، وأيقظوا الفتن، وفرقوا الشمل. وكلما نهض الغيورون لفك الاشتباك، وإيقاف التدهور، وصفوا بضيق العطن، واتهموا بالحد من الحرية. وما علموا أنه من حق كل مقتدر مساءلة أي مشتغل بحيازات الأمة، فكان منه الإفراط أو التفريط وليس هناك ما يمنع من تلقي التراث، وقراءته بعيون العصر وإرادته، ولكن دون تنقص أو إسقاط. ولن تكون القراءة لحضارة الذات سليمة، ما لم يتزود القارئ بالمعرفة والخبرة والصدق والتقوى، ولن تستوي الحضارة ما لم تتزود بما ينقصها من حضارات الغير، مما لا يتعارض مع المقاصد والمقتضيات.
والصفقات الخاسرة في اشتغال الخلي بالتشكيك في بناة الحضارة، من علماء متمكنين، ومفكرين مقتدرين، ومصلحين ورعين. وهو بعد لم يسد المكان الذي سده أولئك، ممن أصبحوا مجالاً للاتهام والتجريح والسخرية والاستهزاء.
ولو أن علماء السلف الذين شيدوا صرح هذه الحضارة، كان ما تركوه من تراث عقبة في طريق التحضر والتمدن، لباركنا لهؤلاء مساسهم بهم.
ولو كانت المراجعة لموطن خلاف معتبر، ما كان منا امتعاض، ولا تذمر، ولا ارتياب. ولو أن أخذ العالم بالمسألة على رأي يترتب عليه اضطراب في المفاهيم، لكان لزاماً على من خلف تدارك ما سلف. ولو أن مقاصد المراجعة لرأب الصدع وإعادة الوفاق بين أطياف المذاهب، لكان مثل ذلك داخلاً في إصلاح ذات البين، وتنقية الدين مما علق به من دواعي الفرقة والتنازع.
ولو أن المراجعة تمت دون المساس بأهلية العالم أو التشكيك بقدرته أو الطعن في أمانته، لكان ذلك داخلاً في الاختلاف المشروع.
ولو كانت المراجعة لتخليص الأمة من حرج، أوقعها فيه العالم، لكان في ذلك تفريج لكربة الأمة، وتيسير عليها. وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.
ولو كانت المراجعة من عالم متخصص، يشتغل في مجاله، ويستكمل رؤيته، وفق النوازل والمعاصرة، لما كان في ذلك محذور، فباب الاجتهاد مفتوح. لكن الأمر غير ذلك كله، وكل الذين يتجرؤون على علماء الأمة ما هم منهم، لا في علمهم، ولا في ورعهم، ولا في حملهم لهم الدين والدنيا، ولا في صدعهم بالحق. وما تلك الزوبعة إلا من اللغط الإعلامي الذي يسد فيه الكاتب أو المتحدث فراغاً، أو يكسب فيه شهرة، أو يحصل به على ثمن بخس من لعاعات الدنيا.
وقراءة التراث قراءة مريبة، تقاطر عليها مستشرقون ومستغربون، كانوا خليطاً من متمكنين ومتسطحين، وباحثين عن الحق، ومضلين عنه. وتعشق الحديث عن المسكوت عنه عفة أو تفويضاً مؤذن بفساد كبير، وقد يكون المسكوت عنه من المتشابه، والراسخون في العلم لا يزيدون على الإيمان أو التفويض. والمريب أننا لا ننفك من طلعات موجعة، تشكك في اليقينيات والثوابت، وتستدعي المتشابه والمسكوت عنه، وتقدح بثقات أجمعت الأمة على عدالتهم وأهليتهم. وكيف تسلم الأمة عبر حقبها التاريخية لمتكلم، أو محدث، أو فقيه، أو مصلح. ثم يأتي نكرة لجوج يخرج على الإجماع، فيطعن في الأمانة، أو يقلل من المعرفة، أو يصف بالسفاهة.
والمتابع لفيوض الإعلام، ينتابه الخوف مما يعتري قضايا الأمة ورجالاتها من سهام أبنائها. ومصميات الأمة أن كل انتهاك لقطعيات أو تجريح لعلماء يسوغه المنتهكون بدعوى الحرية وحق الاجتهاد، وتلك شنشنة لا ننفك نسمعها من كل أفاك أثيم.
وإذا كان تراثنا مليئاً بالقول والقول المناقض فإن بإمكاننا أن نتخول الزمن المواتي والأسلوب المحكم، فالوضع المعاش مثقل بكل العوائق. وإذا استطاعت الأمة احتمال المواجهة فإن علينا أن نستعرض مفردات الحضارة على مهل، ثم نأخذ بأحسن النتائج فليس كل ما خلفه علماؤنا مما تقوم الحاجة إليه، وليست العصمة لأحد غير الرسل، فكل عالم راد ومردود عليه، ولكن المواجهة مركب صعب، لا يؤتاها إلا الأفذاذ، وليس من الاقتداء السليم أن نأخذ كل ما توصلوا إليه بحذافيره، ولا أن نتمثله كما لو كنا معهم في زمانهم. وكيف يتأتى ذلك و(عمر بن الخطاب) قد استحضر تغير الزمان، وأكد على أن أبناء معاصريه خلقوا لزمان غير زمانهم، و(الشافعي) قد استحضر تغير المكان، فكان له مذهبه القديم والجديد، وما تحفظنا إلا على ما نراه من نسف للتراث، وإدانة للعلماء، أما أن نعيد قراءة التراث بعيون العصر وإمكانيات الحاضر، فذلك عين الصواب، غير أن ما نسمعه، وما نراه، يختلف عن ذلك كل الاختلاف. وكيف يحتمل (الرأي العام) من يتكئ على أريكته باسترخاء، ثم يصدر أحكامه بكل برودة أعصاب وسوء قصد، فيحكم بكفر عالم أجمعت الأمة على جلال قدره، وحفل التاريخ ببطولاته، وماذا يضيف منكر القول إلى أمة مثخنة الجراح مهيضة الجناح.
ومتى كثر لغط المبتدئين، وتعالى صخب المتعصبين، فإن من حق الشركاء في السفينة الأخذ على يد السفهاء والمجازفين، الذين يهزون الثوابت والمسلمات، ويشككون لداتهم في يقينيات الأمة. والأدهى والأمر أن ذلك كله يتم دونما حاجة قائمة، وفي ظل ظروف غير ملائمة. فالأمة متوترة، والأعداء متحفزون، والقول في حق العلماء لا يحل إشكالاً، ولا يزيل عقبة، ولا يؤلف قلوباً، ولا يقيل عثرة، وما أتيت الأمة إلا من جهلة يتعالمون بقول معار أو معاد، وكل ما يقال لا يعدو كونه اجتراراً لما فرغ منه المستشرقون والمستغربون والمتعصبون لمذاهبهم وما تلقفه المستشرقون، وبنوا من ذراته قباباً، لا ينخدع به إلا الفارغون من المعرفة أو الغافلون عن مكائد الأعداء. والمتعقب للطرح المستفز، لا يجد فيه إلا طبيخاً مغباً أعيد تسخينه. فما ترك المستشرقون والظلاميون قولاً لقائل، لقد قالوا عن الله وفي الله ما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، وقالوا عن رسوله، وعن مصدري التشريع، وعن سلف الأمة ما لا تحتمله الجبال الراسيات. وما أضر بالمسيرة الفكرية للأمة إلا الذين تصوروا أن كل قول يقال يمتلك الشرعية، وتحميه حرية القول، وإلا الذين لا يقرؤون أطروحات العصر وتقلباته الفكرية، وإلا الذين لا يفقهون المتغيرات، ولا يحسبون للواقع حسابه. إذ ما يقال في زمن القوة والتماسك لا تحتمله الأمة في زمن الضعف والتهالك. وأحوال الأمم كأحوال الأجسام، تتعرض للأمراض، ثم لا تقدر على الحركة ولا على الاحتمال، ومن عرض الجسم المريض لما لا يقدر على احتماله، فقد حمله ما لا طاقة له به. والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وهل من عاقل رفيق يرى أن أمته بوضعها الحالي قادرة على الإمعان في بلبلة فكرها وإثارة شكوكها بآراء وتصورات ومواقف ليست من متطلبات المرحلة؟ وإذ نؤمن بأن بعض العلماء قد يتعرضون لإشكالية الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وقد لا تدق رؤيتهم، بحيث لا يفرقون بين الشرائع والأعراف والسوائد والمسلمات فإن معالجة تلك الإشكاليات لا تكون بالنيل منهم والسخرية بهم، وإسقاط عدالتهم، والتشكيك بأمانتهم، وإنما هي بإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والتماس العذر لمخطئهم، ذلك أنهم اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، وحين لم يحالف بعضهم الصواب فإن من واجبنا أن نستدرك إخفاقاتهم، مع الترحم عليهم، والاستغفار لهم، وحسن الظن بهم، وعدم الجزم بصواب ما نرى وخطأ ما يرون. فقضايا الاجتهاد مجال للأخذ والرد، ومن خلط بين اليقين والاحتمال، وقع في تأليه الهوى. وليس من الحصافة أن نتبع سنن الأعداء، ولا أن نسلم لكل دعاويهم. لقد نالوا من مرجعيات الأمة: الكتاب والسنة، وطعنوا في حملة الرسالة وورثة الأنبياء، وكرسوا الطائفية والمذهبية، وعززوا جانب التعصب، وباركوا تنازع العلماء، ونقبوا في تراث الأمة بحثاً عن المتشابه، وكل من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه. ولقد تلقت طائفة من أبناء هذه الأمة راية الطعن والتشكيك، واستمرؤوا الخوض في آيات الله بغير علم، واستحلوا تجريح علماء الأمة، وأحلوا قومهم دار البوار، فكان أن هددت حصون الأمة من الداخل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 01:37 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)