|
|
|
24-11-2006, 02:40 PM | #141 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
النقاد حاضرون في مشهدهم..!
د. حسن بن فهد الهويمل يثار بين الحين والآخر تساؤل عاتب عن غياب النقاد أو تخاذلهم في تلقي الإبداعات: الشعرية والسردية -المحلية على الأقل-. وقد يستدعي المثيرون نقاداً بأعيانهم، وقد يُضرب المثل بشعراء بأسمائهم، وليس هناك ما يمنع من مثل هذه الإثارات، غير أن بعض المثيرين يحيل إلى أسباب واهية. وعثرات المشاهد من الإطلاقات والتعميمات، ومن السهل أن يقول الكاتب ما يعن له، ولكن من الصعب الإتيان بالبراهين. ومما هو في هذا الصدد ما أثير من قبل على صفحات (المجلة الثقافية) 22-2-1425هـ الملحقة (بجريدة الجزيرة)، من أن المشهد النقدي متلفع بالصمت لأنه لم يفِ بحق شاعر كبير كالدكتور (عبدالرحمن العشماوي). والمحفز للحديث استدعاني من بين من يلام، بوصفي أنموذج المقصرين بحق من لا يستحق التقصير. وكأني عاقلة النقد، وحمَّال التقصير النقدي، وكأن أمر المشهد لن يستقيم حتى أثير عجاجته، وألزَّ في مضاميره، وليس فيما اقول امتعاض ولا استياء، ولكنه محاولة لدفع الالتباس، والحد من الإطلاقات التي تنحي باللائمة على سائر النقاد، وتصف المشهد بالتصوح، وقد تنفي وجود نقد متكافئ مع الإبداعات. ومعاناة المشاهد من هذه التعميمات التي لا يلقى لها المعنيون بالاً لفقدها الموضوعية، نقرؤها مكتوبة في الصحف والمجلات، ونسمعها أحاديث يتفوه بها المحاورون عبر الإذاعات والقنوات. ومثل هذه الإطلاقات تثبط العزائم، ولا تحيي موات النقد، وقلَّما تكون كالرياح اللواقح. وإذ أشكر للمستدعي ثناءه وتلطفه بالمؤاخذة، وتوسمه بي خيراً، أحب أن أطمئنه بأن النقد المحلي بخير، وأن الدراسات النقدية تكتنف الظواهر الأدبية والأعمال الإبداعية من كل جانب، وأن شاعراً مثل (العشماوي) يعيش حضوراً يليق بمثله، وليس بحاجة إلى من يقدمه إلى الجمهور. ولقد ذكرني ذلك بمقولة أحد الشعراء، وأحسبه (الصافي النجفي) حين لم يشأ تقديم ديوانه بالأسلوب المتعارف عليه، وإنما سماه (التيار) وكتب في مستهله:- (مقدمة التيار ما سوف يجرف). وحين لا يمارس المشهد النقدي الاحتفالية بشعر شاعر ك (العشماوي) بالقدر الذي يتطلع إليه المعجبون به، فليس معنى هذا أنه لايستحق ذلك، ولا أن النقاد يرون شعره دون المستوى المطلوب، ولا أن النقد لم يكن حاضر المشهد. وإشارة المعاتب إلى قولي في تسجيلات (أحد) بخصوص موقفي من الشاعر إشارة مبتسرة. فالشاعر حين يفوق الشعراء ببعض خصائص الشعر ومقوماته، فإن هذا لا يمنع من توقع الاختلاف معه حول السمات:اللغوية والفنية والدلالية. وليس شرطاً أن يكون هذا الاختلاف ناتج ضعف أو تقصير، إذ ربما يكون ناتج تباين في الذوائق والانطباعات والرغبات، وتفاوتاً في سلم الأولويات عند المتلقي. فعشاق الهمس يعيبون الخطابية، وطلاب اللمحات يمتعضون من البسط، وهواة الغموض يضيقون ذرعاً بالمباشرة. ودعاة الفن للفن لا يقبلون خدمة الحياة والعقيدة، والذاتيون لا يرحِّبون بالغيرية، ولا يقبلون شعر المناسبات، والحالمون المسترخون على الأنغام الهادئة لا تطربهم الصلصلة ولا الجلبة، وإنما يميلون إلى الإيحاء الذي يدب في الأوصال كالخدر، والذين يرون الشعر إنشاداً يطلبونه عالي النبرة، وطوائف أخرى تراه مجازاً وإيجازاً وانزياحاً، وآخرون من المتلقين يرونه بسطاً وإيضاحاً. ودعك من الاختلاف حول الوظائف والمهمات والأشكال والمباني والموضوعات والمعاني. ولكل مورد وُرَّاده، فلا تسأل الناس عن ذوائقهم. وما من شاعرٍ سلَّم له النقاد، وما من شاعرٍ عظيم إلا وكان مصدر عظمته اختلاف الناس حوله. ولقد كان من عادتي اصطحاب بعض الدواوين الشعرية كي أتخفف بقراءتها من عناء المغالبة لكتب الفكر والفلسفة، فكان أن صحبت في وقت واحد (إبراهيم ناجي) و (بدوي الجبل) وإذ لا يختلف أحد حول تألق الشاعرين، فقد وجدت (إبراهيم ناجي) شاعر مقطعات، و(بدوي الجبل) شاعر مطولات، وأحسست أن الشاعرين مأخوذان بهذه السمات، على الرغم من تألقهما. وما أحد لاقى من الإطالة والبسط بقدر ما ألاقيه من امتعاض، ومع ذلك لا أجد غضاضة من معايشة أصحاب المطولات: المتقدمين منهم ك (ابن الرومي) و(أبي العتاهية) والمتأخرين ك (الفقي) و(الأميري) و(بدوي الجبل). ودعك من هؤلاء وأولئك، وانظر إلى (المتنبي) في عصور الازدهار، وإلى (شوقي) في عصر النهضة، ينام أحدهما عن شوارد شعره، ليسهر الناس جراها ويختصموا، فيما يجزع الآخر، ويستعدي (القصر) على خصوم شعره. لقد بالغ خصومهما في النقد حتى كادوا يبلغون نفي الشاعرية عنهما، كما لقي (المتنبي) من العنف والحسد ما لم يلقه شاعر من قبل أو من بعد، وما قصر في المنافحة عن أصالة شعره، حتى لقد استنجد ب(سيف الدولة) ولما لما ينتصر له عاتبه عتاباً مؤلماً، ولم يجد بداً من مفارقته وهو يردد:- (إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم). والذين قادوا الحملة ضده من عمالقة الشعر وأساطين النقد، والذين نافحوا عنه كذلك، ومن ثم لا نعرف الصادق من الكاذب. وحكاية (المتنبي) مع النقاد والنحاة والشراح حكاية لا تنتهي. وهذا (أبو تمام) من قبلهم سن في الشعر ما لم يأذن به النقاد الذين عرفوا الشعر على غير ما جاء به، فناصبوه العداء، ونفوا الشاعرية عنه، ووجد النقاد الحداثويون المحدثون سبيلاً إلى توهين الخصوم، وذلك بجعل مواجهته مثلاً لكل متحفظ على التجديد، والصراع مع الحداثة ليس مرتبطاً بالتجديد، وإنما هو صراع فكري خالص، وقد نعود إلى مثل هذا الالتفاف الغبي. والنقاد الحكميون شاعت مقولاتهم، واتخذها البعض قضايا مسلمة، مثل مقولة: (المتنبي، وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري) ولو مضينا مع جاهزيات الأحكام لخرج من مشهد الشعر كل الشعراء، وبقيت سوحه خالية، ومع ذلك ظل كل واحد ممن نفي من مملكة الشعر كأنه علم في رأسه نار. وما انصرف النقاد إلا عمن لم يجدوا فيه إثارةً أو خروجاً على السوائد والمألوفات، وما أكثر الذين يعبرون الساحة لا لهم ولا عليهم. وأود في ضجة القول المتناقض طمأنة المتخوف على مكانة شاعره الذي ملأ عليه أقطار نفسه، ان شاعره يحتل في المشهد وفي النفوس ما يليق بمثله، وانه يعيش حضوراً استنه لنفسه، ولم يكن كأصحاب التشايل والتنافخ، ممن تبدو محاولاتهم الفجة تحت الأضواء كأسوأ ما يكون الشعر، حتى لقد تمنوا أنهم ما دفعوا بأنفسهم، ولا دفع بهم غيرهم. فأين هم الآن؟ لقد ذرتهم رياح الحقائق، كما ورق الخريف. ومع تثبيطي لهمة المتسائل فإنني لو وجدت فسحة من الجهد والوقت لتعمدت الاختلاف مع الشعراء الذين ملكوا ناصية الشعر بما توفروا عليه من شرفٍ في اللفظ وشرفٍ في المعنى. ولما استدعيت محاسنهم البادية للعيان، وإنما نقبت عن مثالب شعرهم، وجميل جداً أن أختلف مع شاعر بوزن (العشماوي)، فالأصالة ليست وقفاً على الثناء الزائف، وتثبيت الأقدام لا يكون بالإعجاب وحده، ولقد قيل:- لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود فكم أود لو أن النقاد أشعلوا النار من تحت أقدام الشعراء الذين نواليهم، لينتشر عبقهم، فما ثبتت ظواهر ولا مذهب إلا بفعل الخصوم. لقد ظل (شوقي) شاعراً لا يثير، يوم أن كان (شاعر القصر)، ويوم أن حشدت له حاشية القصر الشعراء والكتاب من كافة أنحاء الوطن العربي ليجعلوه أمير الشعراء، ويوم أن عمل القصر على إنشاء (جماعة أبوللو) لتكون في وجه (مدرسة الديوان)، ويوم أن قال حافظ:- (أمير القوافي قد أتيت مبايعاً وهذي وفود الشعر قد بايعت معي وهو حقيق بالإمارة، وإن غضب الشاعر والأديب معالي الدكتور(غازي القصيبي) الذي ملك عليه (المتنبي) نفسه وذوقه واحتل ذاكرته. وإذا كنا نقبل بإمارة شوقي فإننا لا نمانع من (إمبراطورية) (المتنبي). وشوقي المتألق بفنه أعشاه الثناء عن هنات شعره، فما كان يسمع إلا المكاء والتصدية. وحين تلَّه (عباس محمود العقاد) للجبين، وقسا في نقده، وتجاوز الحد في ذلك، تدارك أمره، وراجع شعره، ونفى منه أضعاف ما أخرج للناس، حتى جاء من ينقب في الصحف والمجلات ليخرج (الشوقيات المجهولة) وبعد تعهده لشعره ما كان من الناس المحبين والناقمين إلا أن وقفوا، لينظروا كيف يبني قواعد الشعر وحده، على حد قول الشاعر عن قومه:- (وقف الناس ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي) ومضت دواوين العقاد الأحد عشر دون ذكر، فيما بقي شوقي شاعر العروبة والإسلام. لقد كان من الشعراء الأفذاذ، وكان (العقاد) من المفكرين والنقاد الأفذاذ، فما زاد الجور شوقياً إلا شيوعاً وتجذراً، وما زاد العنف العقاد إلا حضوراً وتألقاً، مع أن (العقاد) متحامل على (شوقي) وحجته داحضة. وقليل عندي من يعدل (شوقياً) باستثناء (المتنبي)، ولا أحسب أحداً من المفكرين يعدل العقاد. وإذا كان المحب المعجب ب(العشماوي) يحسب أنه بحاجة إلى من يقدمه بالثناء إلى المشاهد فإنه يظلمه، ويظلم شعره. وحين لا يختلف المتلقون مع الشعراء تخمل سوح النقد، وتكسد سوقهم، وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً، بل لا تراهم إلا مفتعلين للقول، وجميل أن يبدئ النقاد ويعيدوا، وعلى المترددين أن ينظروا إلى المدارس النقدية والمذاهب الأدبية التي خلفها خصوم (أبي تمام) و(المتنبي)، لقد كان الاختلاف معهم سبباً في نشوء مذاهب نقدية، ولو سلَّم الناس لهما لما عُرفا إلا من خلال أعمالهم الشعرية وحسب. وما من شاعرٍ مرَّ به النقاد مرور الكرام أو سلموا له إلا كان أقرب إلى الانطفاء. وخمول المشاهد ناتج التسليم، وثراؤها ناتج الاختلاف المحكوم بضوابطه ودواعيه وتميز نقاده وشعرائه. وكل مضطلع بمهمة النقد يجد ما يلوم عليه، على حد:- (من نوقش الحساب عذب) والإعجاب لا يعشي العيون، وعداوة الشعراء في الراهن ليست بئس المقتنى، فما عاد الشاعر قادراً على الدفاع عن نفسه بشعره، وتقديراً للعتاب الرقيق من الأخ (فيصل العبودي)، سوف أغالب ظروفي، وأقرأ شعر العشماوي ناقداً لا متمتعاً، وأصدقكم القول فما من صعوبة تعادل صعوبة النقد لمن يملؤك حباً وإعجاباً، لأنك كلما أوغلت في الثناء، أحسست أنك تبتعد عن الموضوعية، وكلما تخلصت من عواطفك أحسست أنك تصَّعَّد في السماء. وقد صدقت الإعرابية التي سئلت عن:- أي أبنائها أفضل؟ فجالت بنظرها في خفايا خصالهم ثم قالت:- (ثكلتهم إن كنت أعرف، إنهم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها). وهكذا أنا مع طائفة من الشعراء السعوديين، فالحب قد يعمي ويصم، ولا أريد لأحد منهم، ولا لنفسي أن نتبادل أنخاب الثناء على حساب رسالة النقد. والتقريظ المجامل يضر بالشاعر، وما عهدنا أنفسنا مدَّاحين ولا متشايلين، وهل نفع المتذيلين للحداثة زائف المدح. لقد صدرت كتب بحالها، تتناول قصيدة واحدة لشاعر حداثي، ربما كان أغنى الشعراء عن مثل ذلك، ومع ذلك ظل كما هو في عيون المنصفين، وبعض المتعملقين على أكتاف المجاملات الزائفة ظلوا نكرات، وظل شعرهم كسقط المتاع. وحين يستعد الناقد الذي يحترم نفسه وقراءه للدخول في عالم شاعر ك(العشماوي) فإن ذلك يتطلب التفرغ لقراءة أعماله كلها، ليقف على أنساقه الثقافية، وسياقاته الدلالية، وسماته اللغوية، وتشكيلاته الموسيقية. فما من شاعر إلا وله عوالمه الممتدة معه من أول بيت حتى آخر قصيدة. والمتابعون يعرفون أن إبداعاته تشكل أشواطاً دلالية، تواكب النوازل، وترصد لأحداث عربية وإسلامية، وتنافح عن قضايا أمة مستباحة، وترافع ضد الظلم والتسلط والاستبداد. إنه شاعر يطربني بإنشاده وهمه وسلاسة لغته ونقاء موسيقاه وانسيابية قافيته وثورة عواطفه واحتدام مشاعره. وقد أقول مثل ذلك من المآخذ، وأكون صادقاً في الأولى، وغير كاذب في الثانية، وكأني بصاحبنا المعنف للمشهد النقدي يستذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:- (إن من البيان لسحرا)، فلقد قالها في موقف كهذا، رضي المتحدث فقال أحسن ما يعرف، وسخط فقال أسوأ ما يعرف. ومع كل ما سبق أعترف بكل مرارة أن مشاهدنا النقدية لم تفِ بما عليها إزاء المبدعين من الشعراء والسرديين، وإن وفت بما سوى ذلك، وأخاف أن نكون كمن لا يطربه زامر الحي. ولولا ما أخشاه من امتعاض البعض لسحبت البساط من تحت عشرات تعدهم المشاهد من الشعراء، ولكشفت عن سقطات لغوية ونحوية وصرفية وفنية ودلالية لا تُقْبل من السوقة. ولولا ما أخشاه من كشف عورات في الإبداعات السردية لزدت مئات القصاص والروائيين، وأعدتهم بمحاولاتهم الفجة إلى مقاعد الدراسة، وهم من هم عند أنفسهم وعند من لم يفرقوا بين القول والإبداع القولي، والنقد والنقاد مدانون حين يغمضون في الرديء أو حين يقولون كلمة زائفة تمنح الشاعرية لغير الشعراء والأدبية لغير المبدع السردي، وما أتيت المشاهد النقدية إلا من خلال المجاملات الزائفة والتنافخ الفارغ، أو من خلال كتبة يعدون أنفسهم نقاداً، وما النقد إلا موهبة وثقافة ودربة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:42 PM | #142 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
جامعة القصيم.. إياك أعني.. واسمعي يا جارة!
د. حسن بن فهد الهويمل خطوات وئيدة, ولكنها ثابتة وقوية وقاصدة, خطاها التعليم الجامعي في القصيم.. كانت الخطوة الأولى يوم ان تم افتتاح فرع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل ربع قرن, وكنت إذ ذاك مدرساً في التعليم العام, وشرفت بالتعاون مع الفرع, لإعطاء محاضرات عن (الأدب العربي في المملكة) فما كان حينذاك من المتعاقدين من يعرف شيئاً عنه, بل كان البعض منهم لا يصدق بوجوده، وكانت طائفة من أدبائنا مخدوعة بالقومية التي لا ترى الاقليمية ولا المواطنة القطرية, وترتاب من التجزيئية، الأمر الذي أضاع أدبنا المحلي في ضجة الآداب المحلية, حتى إذا بادرته الدراسات العليا, كان حضوره الذي يليق بمثله.. ولما حصلت على الدكتوراه بادرت الانتقال إلى كلية العلوم العربية والاجتماعية في الفرع, ولمَّا أزل بعد التقاعد استاذاً غير متفرغ للأدب الحديث, ممتعاً نفسي بالنظر إلى غراسي الذي أينع وأعطى ثماره.. وهل من فرحة تعدل فرحة الاستاذ, وهو يرى طلاب الأمس وزملاء اليوم من حملة الدكتوراه والماجستير, يمارسون التعليم, وينهضون بمهمات العمادات, ويؤثرون أساتذتهم, وهم من هم في علمهم وأخلاقهم، وما من أحد يرضى أو يسلم بتفوق أحد عليه إلا الآباء لأبنائهم، وإلا الأساتذة لطلابهم. وجاءت الخطوة الثانية بافتتاح فرع ل(لجامعة الملك سعود).. ولما كان فرع جامعة الإمام يلحق بالأصل في اعتماد الكليات النظرية, اتخذت جامعة الملك سعود الجانب العلمي، وسار الفرعان جنباً إلى جنب في نمو مطرد, وتنافس شريف, وتنوع مطلوب. وجاءت الخطوة الثالثة بشراء موقع الجامعة المرتقبة, والبدء في تنفيذ البنية التحتية, وبناء بعض الكليات والمعامل والمختبرات، وتلتها الخطوة الرابعة متمثلة بانشاء جامعة في القصيم, ليكون الفرعان نواة لها, واستبشر الناس, وانطوت مشاعرهم على فرحة غامرة بهذه المبادرات، ثم توجت تلك الخطوات بالخطوة الأهم, خطوة البدء الحقيقي, وذلك بتسمية الجامعة وتعيين مديرها. نسبت الجامعة إلى الأرض التي منها خلقنا, وفيها نعود, ليكون رفاتنا بعض أديمها, أرض الخيرات والكفاءات, أرض السنبلة والنخلة والرمال والتلال, أرض البطولات في مرحلة تكوين هذا الكيان العزيز بقيادة الملك عبدالعزيز, الأرض التي تمثل واسطة العقد الأجمل, عقد البلاد الفريد بكل مقدساته ومناطقه ومدنه وقراه ورجالاته.. ثم وقع الاختيار لإدارة الجامعة على كفاءة علمية عملية, عركته التجارب الأكاديمية, وحنكته المسئوليات المتعاقبة من تدريس وعمادة ووكالة وأمانة, وتلك التقلبات مكنته من الدربة والدراية, وستمكنه من توظيف هذه المكتسبات لمزيد من النجاحات.. وتعويلنا على من بيده ملكوت كل شيء، ثم عليه وعلى كوكبة العاملين معه من أبناء الجامعتين الأساس. وحين نستبشر بهاتين المبادرتين: مبادرة التسمية والتعيين, فإننا نتطلع إلى تحرف جديد, وتحيز مفيد, لتكون (جامعة القصيم) الأخيرة في الولادة السابقة في التحديث والتطوير, مبتدئة من حيث انتهت رصيفاتها.. فالعصر العصي لم يعد قابلاً للتردد أو التهيب أو النمطية, إنه عصر المبادرات والمفاجآت والمتغيرات, ومن هاب اقتحام العصرنة المتوازنة عاش دهره في المؤخرة, ومن لم يسدده تقديره الدقيق وتدبيره الحصيف قعد به تسويفه أو تاهت به مجازفاته. وإذ واجهت مخرجات التعليم الجامعي بعض الاخفاقات, بسبب ضعف التحصيل وضخامة التخصصات النظرية, فإن على الجامعة الجديدة الخلوص من تلك المعوقات, واعتماد (هيكلة جديدة), ترفع من كفاءة الخريجين, وتحول دون التضخم النظري, على أن تتفادى التعرض للانكماش الذي يحول دون استيعاب حملة الثانوية العامة. فالقصيمي لايريد ان توصد الأبواب في وجهه, وهو يعيش الاحتفالية بولادة جامعة طال انتظاره لها, كما أن أولياء الأمور يودون ان يكون التعليم مرتبطاً بالعرض والطلب, إذ لا مزيد على ما يعانيه خريجو بعض التخصصات من ترقب ممل لفرص العمل.. وإذ تكون مثل هذه الاجراءات مرتبطة بالسياسة العليا, فإننا نود أن يصل الصوت السليم إلى هذه السياسة, لتكون قراراتها وفق المتطلبات، فالسياسة العليا تنصت للمطالب والرغبات, وترصد التطلعات, وهدفها إرضاء الجميع, وتحقيق أفضل النتائج, وقراراتها لا تنزل من السماء, ولكنها تتشكل من الواقع ومما يشير به المنفذون. وإذا تفاعلت السلطات التشريعية مع التنفيذية, نسلت القرارات الراشدة, وتجسد العمل السليم, وأمر الأمة في النهاية شورى, ولأهميته استحضره الخالق في أكبر قضية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}, وأشار إليه في أصغر قضية: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}, والنصيحة جزء من المشورة. إن أمام المدير الجديد عدداً من المطالب الملحة, لعل من أهمها استكمال متطلبات الأجواء الجامعية. فالجامعة (مكتبة) و(معمل) و(مختبر) و(قاعات) و(ساحات) و(ملاعب) و(مساكن) و(خدمات) و(مطاعم) و(حدائق) تستوعب آلاف الطلبة, وتعتمد اليوم الدراسي, متخلصة من الساعات الفصلية التي تجعل المباني خاوية طوال الثماني عشرة ساعة. ولأن الجامعة مجرد اطلاق تسمية, ولأن طلبة الفروع من قبل يفوق عددهم الخمسة عشر ألف طالب, وهم بازدياد مطرد, ولأن حاجة السوق تتطلب تخصصات معينة فإن المؤشرات تتجه صوب النوعية لا الكمية, وذلك منعطف حساس, يحتاج إلى جهد استثنائي وتفكير عميق, يجنب العملية التعليمية غزارة الانتاج وسوء التوزيع. وعلى المسئولين في كل جامعاتنا توعية الرأي العام المتخوف من الاصلاح المتحفظ على التغيير, وذلك بالتأكيد على أن التعليم صناعة واعداد للمستطاع من القوة: الحسية والمعنوية, وأنه يكون بالنية الصالحة عبادة, وأن من حق المواطن أن تصنعه المؤسسات التعليمية وفق حاجة الأمة, وأن إغلاق قسم وفتح آخر أو التوسع في تخصص دون آخر، لا يرتبط إلا بحاجة المجتمع وبمصلحة المواطن, وعلى الجامعات أن تكون واعية لمتطلبات المرحلة, بحيث تسعى جهدها لسد حاجات الأمة, وعلى (مركز خدمة المجتمع) في كل جامعة التأكيد على أن المفاضلة بين تخصص وآخر مرتبط بإغناء الأمة عن خدمة الغير. وقدر البلاد الأصعب ان عنصر الشباب والانفجار السكاني وتعميم التعليم, تفوق الإمكانيات, وإذا لم تبادر جهات الاختصاص بجهد استثنائي أصبحنا أمام أزمات مستعصية. والإذعان للرغبات غير الواعية يفوّت على الأمة فرص الاكتفاء الذاتي في كثير من المجالات العلمية والطبية والفنية والحاسوبية والهندسية واللغوية وغيرها, كما أن الطرق التعليمية الحشوية والالقائية انعكست آثارها السلبية على التحصيل الكمي والمهارات الإجرائية, الأمر الذي أشاع الضعف, وبطَّأ بالاكتفاء الذاتي, وأسهم في خلق بطالة غير متوقعة وغير معقولة. ودولة تستوعب أكثر من سبعة ملايين وافد, لا يمكن ان تبادرها البطالة بهذه السرعة, وبتلك الفداحة. ومؤشرات الاخفاق أن تمارس بعض الجهات غير المعنية إدارة توطين الوظائف عن طريق الضغط والإلحاح. إن هناك خللاً مرده إلى مواد التعليم, وتخصصاته, وطرائق أدائه, وشح إمكانياته، وعلينا في مرحلة التطوير أن نجعل (الحبل) و(الفأس) اللذين أعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للمتسول نبراساً لكل تغيير, لقد أبعده عن صحبته, وأقصاه عن مواطن نزول الوحي, ووجهه صوب الوهاد والنجاد, ليعفه من ذل السؤال. والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع عن الفاضل إلى المفضول إلا بمسوغ، وآية النفور ركزت على التبعيض, بحيث يكون التفقه والإنذار لطائفة من الأمة, فيما تبقى الطوائف الأخرى في مواقعها العملية.. فملازمة الرسول أفضل, وتفقه الإنسان في الدين أنفع, ولكن عارض الحاجة جعل المفضول فاضلاً، وذلك يؤكد أهمية (فقه الأولويات), والمسلم مطالب بالتعادلية, فلا مساس بين مطالب الحياتين, كما أنه في عبادة في مسجده وفي بيته وفي سوقه وفي مصنعه متى حمل همَّ الأمة, ونصح لها, وقصد إغناءها, ولهذا كان أمر المسلم كله عجباً، وإصلاح المناهج يتجه صوب التخصصات وطرائق الأداء، وإقحام (الأسلمة) أو (العلمنة) مزايدة رخيصة وانتهازية مقيتة, ف(العقيدة) و(الوطن) خطاب القيادة, وهما كثنائية (الروح) و(الجسد), ومن أراد العز بغير الإسلام خذله الله، وفي النهاية فنحن لانريد أن يعود المتخرجون إلى بيوتهم, ليكونوا عبئاً على آبائهم, كما لا نريد مدرس الضرورة, ولا نريد وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب. وإذ تكون الجامعة لملمة لفرعين قديمين منتميين لجامعتين عريقتين, لكل واحدة منهما اهتماماتها, ونظامها, وأسلوب تعاملها فإن الأمر تجاوز مرحلة التأسيس إلى معضلة التجنيس والدمج, وطرح الذات المنعتقة من التنميط. ومع تباين الأداء بين الفرعين, يقوم تباين في المواقع, وتفاوت في القابلية, يضيق أحدهما عن الاستيعاب, فيما يتسع الآخر للاستيعاب, وتتوافر القابلية والأهلية في موقع, فيما تحول ظروف المكان والتصميم دون ذلك في الموقع الآخر, ولكيلا تضيع الجهود بين موقعين متباعدين, يحسن حسم الوضع, وتوجيه الاهتمام صوب الموقع الأصلي القابل للتوسع, ووضع خطة مرحلية لجمع الأشتات, وتفادي العمل المؤقت, وإن كان المثل الانجليزي يقول: (لا يدوم إلا المؤقت)، وليس هناك ما يمنع من تحويل الموقع المستغنى عنه للطالبات بعد تحصينه وتحسينه. ولقد أشرت أكثر من مرة إلى أن الجامعة أحوج ما تكون إلى توفير الأجواء الجامعية, وبخاصة أنها لم تكن في عاصمة ك(الرياض) المليئة بالمكتبات والمعامل والمختبرات والقاعات المساندة.. والأجواء الجامعية ليست ميسورة بالقدر الذي يتوقعه البعض, ف(المكتبة) -على سبيل المثال- في الفرعين بإمكانياتها ومواقيتها وآلياتها لا تسد أيسر الحاجة, وطلبة الكلية فضلاً عن طلبة الدراسات العليا يجدون حرجاً من شح المراجع, فضلاً عن فقد المكتبتين لمتطلبات الخلوة والحاسوبات والتواصل مع مكتبات العالم. والمعامل والمختبرات ومجالات التطبيق العملي كل ذلك يتطلب مزيداً من التوسع, ومزيداً من التحديث والمتابعة وتحسين النوعية والأداء.. ولن تكون الجامعة قادرة على الندية والمنافسة حتى تتغلب على أجوائها ومسانداتها, وحتى تهيئ لأعضاء هيئة التدريس كل الإمكانيات والفرص والوسائل المتوافرة لزملائهم في جامعات الحواضر, كالمساكن والخدمات ومدارس الأبناء وسائر المميزات.. ولن نتحدث عن تطلع أعضاء هيئة التدريس إلى كادرهم الموعود, فذلك شأن السياسة العليا, وهي السباقة إلى كل مكرمة، وكل ما نقول تطلعات تختلج في النفوس يمسك بعضها برقاب بعض: (وما استعصى على قوم منال إذا الأقدام كان لهم ركابا) ومن حق كل مواطن أن يفكر بصوت مرتفع, ليُسمع القادرين على تحقيق الطموحات, فنحن أمة هيأ الله لها ما لم يهيئه لغيرها، والوقوف دون هام السحب إخلال بالأهلية على حد: (إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم) والهواجس والتطلعات على قدر العزمات و(على أقدر أهل العزم تأتي العزائم...) ومعولنا على الوضع الجديد التخلص من هاجس الفرعية, فإمكانيات الفروع ما كانت لتفي بأقل المتطلبات, كانت من قبل بيوتاً مستأجرة وإمكانيات متواضعة, ثم انتقل فرع (جامعة الإمام) إلى المقر الجديد, وتكدست كل الكليات في مبنى كلية واحدة, ثم بدأ التوسع وفق الإمكانيات, وكان فرع (جامعة الملك سعود) لا يقل في أوضاعه المؤقتة عما كان عليه رصيفه, حتى انتقل إلى المدينة الجامعية المرتقبة. ولما تزل الأجواء دون المؤمل على الرغم من كونها من أولويات المطالب, ودعك من عمادة البحث العلمي والدراسات العليا, وما يتطلبه ذلك من الإمكانيات البشرية والحسية, ولو أن أحداً أصاخ لما يدور بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس وكافة أفراد المجتمع من طموحات وتطلعات لتصور أن الأمر كالغول والعنقاء والخل الوفي, غير أن المسألة دون ذلك بكثير, وتعبنا في الطموحات التي لا تحد, وما على المسئولين من سبيل إذا سددوا وقاربوا وبشروا, والتكليف وفق الوسع. لن يفوتني وأنا أجمجم عما في نفوس الناس أن أشير إلى جهود مشكورة, واكبت مشروع التعليم الجامعي في القصيم وأنشأته من لا شيء, تبنتها كوكبة من المسئولين, يقدمهم صاحب السموّ الملكي أمير المنطقة المتابع لكل صغيرة وكبيرة في المسيرة التعليمية, كما أنني بثناء لا يحد على جهود الجامعتين الأصليتين: (جامعة الإمام) و(جامعة الملك سعود) ومن ورائهما معالي وزير التعليم العالي. والشكر موصول لكل من يحمل همَّ أمته, أو يباشر العمل بصدق وإخلاص وأهلية.. وكل عامل ناصح ينال حظه من شرف الخدمة للدين والوطن, وكل عامل متفانٍ يؤدي واجبين: واجب المسئولية وواجب المواطنة, ولا يكتم أفضال المتفضلين إلا العققة.. وكل مسلم على ثغر من ثغور الوطن, والسعيد من يسطر على صفحات تاريخه ما يشرفه, ويشرف انتماءه لهذا الوطن الذي أعطى الكثير, ولم نرد له أيسر حقوقه. ولما لم يكن في حسابنا ان تختط الجامعة الجديدة لنفسها خطة منفردة, ولا أن تكون في معزل عن أنساقها وسياقاتها ورصيفاتها, ولا أن تقفز فوق الحواجز والإمكانيات فإننا نربط أنفسنا ونقيد طموحاتنا بمعطيات الواقع, وهو واقع مواتٍ, وقادر على تخطي العقبات.. ومن أراد ان يطاع فليطلب المستطاع, وليس من المنطق الخنوع لما يتصوره المتشائمون واقعاً غير مواتٍ. وإشكالية البعض تكمن في وقوعه تحت طائلة (نكون كما نريد, أو لا نكون), فيما يكون الأفضل أن نشتغل في المساحة المتاحة, ونحاول استغلال أقصى طاقات المتاح, على مبدأ (خذ وطالب), والجامعة في بدايتها لن تحقق كل الطموحات, ولكنها بالتدبير والمواربة وترتيب الأولويات والمطالبة الملحة ستجتاز مشاكل البدايات, وهي مشاكل مقدور على تذليلها.. وكم نحن سعداء بهذا الحدث التاريخي الذي طال انتظاره, فجاء مولوداً سوياً, وجاءت بوادره كالمبشرات, ورهاننا رهين الكفاءات والإمكانيات والأجواء وحسن النوايا, وهي قائمة فيمن وُكِّلَ إليهم الأمر, نحسبهم كذلك, ولانزكي على الله أحداً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:43 PM | #143 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الجهود الأدبية للعلامة العبودي
د.حسن بن فهد الهويمل كلما جمعتني المناسبات بالعلامة معالي الشيخ (محمد بن ناصر العبودي) طُوِيت أمامي بوادر الشيخوخة، وعزمات الكهولة، وذكريات الشباب، ليندلق عبق الطفولة بكل طهره وبراءته. وليس من السهل أن يقفز الإنسان بذاكرته نصف قرن، ليستعيد واقعاً بدائياً مفعما بالبساطة والعفوية. كانت تلك اللحظة المترائية لي من بعد في إحدى صباحات صفر من عام 1374هـ أي قبل إحدى وخمسين سنة. كنت يومها في الصف الرابع الابتدائي، وكان (المعهد العلمي) قد فتح أبوابه في ظل إدارة معاليه، والناس إذ ذاك ينظرون إلى تلك المعاقل وأناسيها على أنهم خلق آخر. ولن أنسى أول ليلة صعدت فيها منبر (نادي المعهد) الأسبوعي، لأقدم ركن الفكاهات، الذي اختارني له معاليه، موصياً بالتنقيب عن النوادر في العقد والمستطرف، وأخبار المغفلين والنوكى والأذكياء عند ابن الجوزي. وكان ذلك مؤذناً بالتعرف على كتب التراث الأدبي، وما زلت أذكر أول نكتة أملاها عليَّ من كتاب العقد الفريد:- يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد ولو يستطع لتقتيره تنفس من منخر واحد وبعد دراسة متعثرة امتدت ثلاث سنوات، تفرقت بنا السبل، فما عدت أراه إلا من خلال منجزاته. وكلما نظرت إليه وإلى ما تركه من كتب، تذكرت الموسوعيين في القديم ك(الجاحظ) و(السيوطي)، وفي الحاضر ك(الطنطاوي) و(عبدالسلام هارون). وكلما قرأت في سير أعلام النبلاء، أو في علم الطبقات، تبدت لي ملامحه. فغالب علماء السلف تتعدد اهتماماتهم، وتتنوع مقروآتهم، يحقرون المناصب والأضواء في سبيل التحصيل المعرفي والإنجاز العلمي. ورجل أنجز مئات الكتب: إنشاءً وتأليفاً واختياراً في مختلف المعارف، لا شك أنه ترك الدنيا خلف ظهره، وصحبها بلا آمال زائلة. والحديث عن الجانب الأدبي في عطاءاته، يتطلب العودة إلى أنساقه وسياقاته وظروفه التي عاشها، ولأني واكبت بداياتها عن قرب، فإنه من اليسير تبين ملامحها. كانت مكتبة (المعهد العلمي) منطلق الصبغة الأدبية، لأنها ذات منزع أدبي، فأبرز محتوياتها الموسوعات الأدبية: ك (الأغاني) و(العقد الفريد) و(البيان) و(صبح الأعشى)، والمختارات ك (المفضليات) و(الأصمعيات) و(الحماسيات) و(الجمهرة) و(دواوين الشعراء الجاهلين والأمويين والعباسيين)، وكتب العلوم العربية ك (المعاجم) و(النحو) و(الصرف) و(البلاغة)، وكتب التاريخ ك (البداية) و(المروج) و(علم الرجال) و(الطبقات) و(السير)، وهذه التركيبة التراثية المتنوعة مؤذنة بتشكل نزعة أدبية مفعمة بثقافة تراثية عميقة وشاملة. والنص الأدبي حين يحفظ التوازن بين الجماليات الحسية والقيم الدلالية يحوز شرفي اللفظ والمعنى. وكتب العبودي تراوح بين القيم الدلالية واللفظية، وتتوخى الوسطية، ولقد عرفت المشاهدُ الأدبية كتاباً انصبت اهتماماتهم على جماليات الصياغة، وآخرين عنوا بالمعاني، فيما جمعت طائفة بين جمالية النص وثقافته، وتلك سمة الموسوعيين، ويند عن هؤلاء وأولئك العقلانيون والفلاسفة والمفكرون. والمشاهد بحاجة إلى هؤلاء وأولئك. ف(العقاد) مفكر تشغله الفكرة عن العبارة، و(المنفلوطي) عاطفي تشغله العبارة عن الفكرة، فيما يأتي (أرسلان) معرفياً بيانياً، ويمتد خيط الجمالية متواشجاً مع الدلالة عند (طه حسين) و(أحمد حسن الزيات) و(الرافعي)، فيما تغرق العقلانية ب (أحمد أمين)، ولقد شغلت (الأسلوبية)، بكل مفاهيمها وتحولاتها طائفة من النقاد، وراوحت بين التنظير والتطبيق، فكان أن أغرق اللغويون في البنائية، وأغرق الدلاليون في التكوينية، وقامت بينهم ملاحاة لم تنته بعد. وفي ظل هذه الاندفاعات المتناقضة سيئت وجوه البيان والمعاني والبديع على حد سواء، وما كان لعالم أديب ك (العبودي) أن يشغله لغط النقاد وتلاحيهم، ذلك أنه يكتب عن هم وسليقة، وهو يرسل كلمته مستبطناً همَّه متوخياً إيصال فكرته، فأصحاب القضايا يعتمدون الإمتاع والاستمالة والإقناع. وتقصي أدبية النص عند موسوعي ك (العبودي) تبدو من المعضلات، لتنوع اهتماماته وتداخلها. حتى لا تكاد تفصل بين الديني والأدبي والتاريخي والجغرافي، وتلك سجية المسكونين بهم الثقافة. ولو عدنا مثلاً إلى الدراسات التي أنجزت حول (الجاحظ) مثلاً، لرأيناها أخلاطاً من الفكر والأدب والنقد والعلم والتاريخ وسائر المعارف. وكل دارس يجد مراده، حتى ليظن أنه المصيب للمخر، ويبقى (الجاحظ) يرقب دارسين آخرين، يكتشفون قضايا في عالمه المعرفي. و(العبودي) من هذه النوعية، ومن ثم حاولت حصر دراستي في خمسة كتب من مؤلفاته أحسبها جماع الجهود الأدبية في تنوعات أدائه هي:- - أخبار أبي العيناء اليمامي. - كتاب الثقلاء. - نفحات من السكينة القرآنية. - سوانح أدبية. - صور ثقيلة. وهذه الكتب كما يبدو من عناوينها تراوح بين الجمع والدراسة والإنشاء: المقالي أو القصصي. ولقد حاولت أن أشير إلى محورين هامين في جهوده الأدبية: - أدبية النص. - والموضوع الأدبي. وبين المحورين عموم وخصوص. فأمَّا (أدبية النص): فهي خاصة بجمالية اللفظ من حيث الكلمة والجملة والعبارة والأسلوب ومراعاة الجماليات: الصوتية في الجرس والإيقاع، والصورية في التخيل والحركة. وقد تمتد الأدبية إلى فنية الأداء كالقص والرواية أو الشعر. ويجب أن أشير إلى أن سلامة النص غيرُ جمالياته، فقد يتوفر الكاتب على سلامة اللغة وقواعد النحو وضوابط الإملاء، بحيث لا يلحن في اللفظ، ولا يتوهم في المعاني، ولا يخطىء في الرسم، ولكنه لا يتوفر على الجمالية الأدبية. فالمؤرخون والعلماء والفلاسفة لا يلحنون، ولكنهم لا يبدعون. وإشكالية الفصل بين السلامة والأدبية والدلالية لما تزل قائمة في المشهد النقدي، على أن طائفة من السرديين عولت على (واقعية اللغة)، وأحالت على (مراعاة مقتضى الحال) فهبطت باللغة إلى درك العامية. و(أدبية النص) كما يشير (توفيق الزيدي) في كتابه (مفهوم الأدبية في التراث النقدي) تقوم على (التحول) و(الإيقاع) و(التقنية) و(الخصائص) ومتى عول الكاتب على عنصرين هامين في العملية الإبداعية هما:- - المجاز. - والانزياح. توفر على أدبية النص، وسلم الأدبية يتفاوت، إذ ليس كل متوفر على المجاز والانزياح بقادر على توفير أسلوب أدبي متميز، وامتلاك المفاتيح لا تتحقق معه الرغائب، فالأسباب تهيىء المجال ولا تحقق النتائج. والسؤال البدهي: هل يستحضر العلامة (العبودي) هذه الضوابط، وهو يكتب في الموضوع الأدبي على الأقل، أم أنه يتوفر عليه طبيعة وسجية؟ لقد تبدت الأدبية: الموضوعية والأسلوبية في مجمل تناولاته، ولم تحل بينه وبين التعددية المعرفية، فهو حين يكتب في الجغرافيا أو في التاريخ أو في الرحلات تبدو أعناق الأدبية من خلال كتاباته، إذ هو أديب بطبعه واهتمامه، وتحول الاهتمام من الأدبي إلى الشرعي، لم يخلص عالماً ك (ابن القيم) من أدبية النص. أما (الموضوع الأدبي) فقد سبق لي أن جسدته في الحديث عن (أدب الرحلة) عنده ليلة تكريمه في (المهرجان الوطني للتراث والثقافة)، وجاء البحث مركزاً على متطلبات هذا اللون من الأدب. و(أدب الرحلة) تتنازعه معارف متعددة، كالأدب والتاريخ والجغرافيا والسير الذاتية. وكل هذه المعارف تعوِّل على أدبية النص بمفهومه القديم والحديث وتحيل إلى الموضوع الأدبي. و(العبودي) من الكتّاب الذين يهتمون بتدوين المعلومات والملاحظات، ما دق منها وما جلَّ، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما في كتبه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية كسبية، فهو عالم بالتراث، ومؤلف معرفي قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً، ولا اجتماعياً، ولا سياسياً. ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين، لتوفره على القيم العلمية والأدبية، واللغة التي يعتمد عليها، ويتوسل بها لغة فصيحة سليمة، لا يعمد فيها الى التزوير ولا إلى التنقيح، ولكنه يكتب كما يتحدث، وذلك سر الإكثار والقبول. وبعض الأساليب توصف بالسهل الممتنع، ف (طه حسين) كاتب جذاب وممتع، ولا تستطاع محاكاته، ولو كانت عند العلامة عناية لغوية أو أدبية أو معرفية دقيقة محددة، لكان أن قل عمله وانحصر مريدوه. ومع العفوية احتفظ بمستوى أدبي ولغوي ومعرفي يجعله في مصاف غيره من الأدباء الممارسين للكتابة الأدبية. لا تجده ناقداً ولا منظراً، وإن كان يستبطن التساؤل والمراجعة، كما في مداخلاته اللطيفة مع المفسرين في كتاب (نفحات من السكينة القرآنية). على أنه لم يوجه اهتمامه لصناعة الأدب، ولم يشأ الاشتغال المنقطع لشيء من فنونه، وإن جود آلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية، فإنما ذلك بوصفها علوم العربية لا بوصفها آليات الأدب. وحفوله بالأدب حفول المتمتع، لا المحترف. كما لم تكن له إلمامات أدبية حديثة، بل كان ولما يزل مع التراث ينتقي منه ما يحلو له من الحكايات والأخبار والنوادر ولطائف التفسير، وعزماته الجادة تراها رأي العين فيما سوى الأدب من معارف إنسانية، ومتى وضع يده وحدد مهمته أعطى عطاء العلماء المتمكنين من معارفهم ومناهجهم وآلياتهم. ومن هنا قلنا بأنه لم يكن جادا في ممارسته الأدبية، ولم يشغله الأدب بصفته الفنية مثلما شغلته اللغة وأدب الرحلة والأمثال والجغرافيا. وما كان الأدب عنده إلا من جهة أدبية النص، وسلامة اللغة، وثراء المعارف، وتنوع الاهتمامات، ومحاولات مترددة في القص جاءت في (سوانح أدبية) وفي مخطوطات لم تر النور. وموسوعيته جعلته يأخذ من كل شيء بطرف، وتلك سجية العلماء الأوائل، وما أصابتنا أمية التخصص إلا بعد أن أصبح العلم صناعة والتعليم وظيفة، وإلا بعد أن تنازعتنا الرغبات، فكانت عين في الكتاب وعين في الوظيفة. وأما اهتمامه ب(العامية) فلأنها مصدر معرفي أو تاريخي، ولم يهتم بها كلغة رديفة، ومن ثم ألف في الأمثال، وفيما انقرض من الألفاظ. ولما لم أكن حفيا بمثل هذا الاهتمام، فقد عدلت عنها، ووقفت منها موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من (الضب)، لم يحرمه، ولكن نفسه تعافه. ومسميات الكتب الأدبية تشي بالاهتمامات والدلالات والخطرات، وأقرب ما توحي به أن الأدب عنده للإمتاع أولا ثم للانتفاع ثانياً. فلقد صرف همه إلى ما يمكن تسميته بالضحك الهادف، بحيث تقصى أخبار الثقلاء والنوكي والمغفلين ونوادر الأخبار، نقلها بروايتها وأسانيدها تارة، وعلق على بعضها و تولى روايتها بنفسه تارة أخرى. أما في (سوانحه الأدبية) فهو منشىء أو مبدع، وكأني به يتخفف بهذه الإلمامات من جد العمل، ولقد سلف من كبار العلماء من جعل الممارسة الأدبية انتباذا غير قصي عن جد العمل. نجد ذلك عند (ابن حزم) في (طوق الحمامة)، وعند (ابن الجوزي) في (صيد الخاطر)، وعند (ابن قيم الجوزي) في (روضة المحبين)، وفي (عقلاء المجانين) ل (النيسابوري)، وفي (كتاب التطفيل) ل (البغدادي). وكتابه (أخبار أبي العيناء اليمامي) من ذلك اللون الذي أشرنا إليه، وكل جهده يتمثل في التنقيب والبحث فلا هو دراسة ولا ترجمة ولا نقد، وإنما هو جمع وتخريج للاستمتاع والتملح والتفكه. وأجمل قاعدة نقدية قالها:- أن النقد والتقويم (شأن من يرى لا من يروي). و(أبو العيناء) شغل طائفة من الموسوعيين والأدباء، فقد انتثرت أخباره في الموسوعات، ولو عدنا إلى الإحالات في الهوامش لهالنا عددها، ولم يكن من بينها (نثر الدرر في المحاضرات) ل (الآبي) الذي استل منه الدكتور (نعمان محمد أمين طه) كتاب(نوادر أبي العيناء ومخاطباته)، وقد أسِف على فَقْد مخطوطة (أخبار أبي العيناء) للصاحب بن عباد، وسمى كتابه باسمه ومع التشتت والضياع جاء كتابه أوسع وأشمل وأدق وأوفى من مستل (نعمان طه) الذي اقتصر فيه على تحقيق ما يخص (أبي العيناء) في المخطوطة. ومعضلة هذه النوعية من العلماء الموسوعيين صعوبة التصنيف فليسوا بالفقهاء ولا بالأدباء. ولقد امتعض (الطنطاوي) من حالة (الأعراف) التي يعيشها، فالأدباء يذودنه عن حقولهم، والفقهاء يكبرون أنفسهم عن اهتماماته، فلا هو فقيه مع الفقهاء ولا أديب مع الأدباء، وإن كان يبز هؤلاء وأولئك. ولو استدعينا (أدب الرحلة) عند العبودي لكان فيه علماً من أعلام الأدب، ولو استدعينا (المعجم الجغرافي) لكان فيه علماً من أعلام البلدانيين، ولو استدعينا (الأمثال العامية في نجد) لكان فيها علماً من أعلام المحققين. ولكن إمكانية تصنيفه ضاعت بين قبائل العلم، فكان أمة وحده، وكان من حقه أن يقول لكل داع له إلى الصدارة:- الصدر حيث أكون.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:45 PM | #144 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تسديد النقد (المؤدلج) وتفعيله..!
د. حسن بن فهد الهويمل تقوم بين الناقدين (سعد البازعي) و(عبدالعزيز حموده) وشائج تقارب وافتراق, وكأني بهما يقتسمان الهم والمهمة والرؤية والتصور, ويتحسسان عن مواقع التيه والرشاد للنقد الحديث. واقتراب أحدهما من الآخر يوطئ له تجانس المصادر والموارد, إذ يتظامَّان في التلقي المنضبط من الآخر, ويقتربان من وعي الحد المسموح به. وما أكثر المتلقين وأقل الواعين. فالذين ذهبوا إلى الغرب أو الشرق, وتلقوا معارفهم على أيدي أساطين الاستشراق, عادوا إلى حضارتهم واعدين أو متوعدين. فطائفة من المبتعثين استوعبت الحضارة الغربية, وعرفت مكوناتها ومحركاتها ومقتضياتها. وهذا حسن ومطلوب, ولكن عيبها أنها استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير, ظناً منها أن الحضارة الاسلامية ترفض مدنية الآخر وعلمه, وأن إظهار الدين وإقامة شعائره عقبة في طريق المعامل والمختبرات وسبر الآيات في الآفاق والأنفس, ولم تكتف بالاستبدال, وإنما تجاوزت ذلك إلى الوقيعَة والتوهين والمساس بأهلية الحضارة الأحق بالوجود الكريم, وتحميلها تقصير أهلها المشهود بالصوت والصورة. ومن زكى أحوال المسلمين فقد واطأ على التخلف. وطائفة أخرى لم تكن قادرة على الاستيعاب, فعادت متورمة متشبعة, كالعائل المستكبر, أو كلابس ثوب الزور, تدعي تضلعها, وتدعو إلى أوهامها, وهذه الطائفة هي التي تملأ الرحب, وتستأثر بوسائل التوصيل, إذ تغامر ببدنها, والغريق لا يخشى من البلل, والذي لا يلوي على شيء لا يخاف من المغامرات, والنظارة تستهويهم البهلوانيات. وطائفة ثالثة تضلعت من الطارف والتليد, واختطت لنفسها طريقاً قاصداً, متيحة فرص التفاعل بين الأشباه والنظائر. إذ ما من حضارة إلا ولها مع سائر الحضارات مناطق لقاء وافتراق. والحصيف المتضلع من يدق نظره, ويلقي سمعه, ويفقه ذاته, ويستوعب غيره, حتى إذا التطمت في فكره أمواج الحضارات, أخذ من الطارف ما ينقص حضارته من قيم علمية أو فنية أو مدنية, واستدعى من التليد ما لا تقوم الحضارة إلا به من ثوابت, هن أم الحضارة. وكل حضارة لها حيازاتها التي تميزها, ومشاركاتها التي تفعلها. إذ ليس هناك نص محض, ولا حضارة محض. والإسلام استوعب طائفة من قيم الجاهلية, والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض أخلاق القوم وممارساتهم, وأثنى على خيارهم في الجاهلية, واستحسن إبداعات بعض الشعراء, وقال عن شعر (أمية) أسلم لسانه وكفر قلبه - أو كما قال - وأحسبه تمنى رؤية بعض الشعراء, وأكبر (سفّانه) لأن أباها يحب مكارم الأخلاق, وفضّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه شعر (زهير), وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد زعماء القبائل بعد إسلامه: - (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة). فهل (الشيوعية) تنصف (الرأسمالية)؟ وهل إحداهما تذعن للحق, وتسلم له, مثلما سلّم له الإسلام؟ ذلك بعض ما غفل عنه المبهورون, وأنكره المأجورون. وما أشرنا إليه دليل على تداخل الحضارات, وتقارضها, وتفاعلها. ومن تصور نفسه على غير ذلك, فقد أضر بحضارته وبغيرها, وما أصاب الأمة من الانكماش أو الضياع إلا الاحتباس أو الاندفاع غير المبررين. والذين ينقمون على حضارتهم, ويباهون بالآخر, ويبشرون به, ويقدمون بين يدي تبشيرهم التقليل من شأن موروثهم, لا يزيدون راهنهم إلا ارتكاساً في حمأة التبعية, وتعميقاً للخلاف. وهؤلاء القوم إما مخدوعون, أو مواطئون, أو جهلة بنواقض الحضارات, وأصول المبادئ, وحدود الحريات. والتاريخ الحديث تشف صفحاته عن مفكرين وأدباء وعلماء منهم الصالحون, ومنهم دون ذلك, ومنهم الذين مردوا على الوقيعة ممن يعرفهم الراصدون للحراك الفكري والسياسي والثقافي. وهل يخفى على المتتبع الحصيف ما تتجرعه الأمة من البأس الشديد بين أبنائها, وما يصنع فيها ولها من لعب؟. وإشكالية المشاهد جهل الحدود وأمداء القبول بالآخر ومفهوم الوسطية والتسامح والحقوق. وما أحوج الأمة في ظروف التخطف إلى من يقسم بالله على الوفاء والولاء للعقيدة بمثل قسم الرسول صلى الله عليه وسلم, حين عرضت عليه الدنيا ليتخلى عن رسالته. والمتعمدون لتوهين مفردات الحضارة الإسلامية لا يجدون حرجاً من جر الأقدام بأي ثمن, وعبر أي وسيلة. وضعفاء النفوس يتهافتون على شهوات الغرائز أو على شهوات الرغائب. وكل مدع للمعرفة مباه بالابتعاث غير مبلغ عن حضارته ولو آية مأخوذ من مأمنه أو من شهواته. وما اخترقت التحصينات إلا بمن غلبت عليهم شهوات المتع أو أضواء الشهرة. وما من لعبة مضرة إلا ولها كتّابها المأجورون أو المخدوعون. فالألسنة والأقلام ليست بأقل أثراً من القاذفات والراجمات, ومن استخف بالكلمة, وقع في الحبائل. والمواجهة بين الحضارات لا تعتمد المناجزة والحسم بالسلاح, إن هناك سياسة النفس الطويل المتمثلة بالتحيز والتحرف والتقدير والتوقيت والترغيب والترهيب والغزو والتآمر والتماكر والتشكيك. وليس بغريب أن يواجه المسلم كل هذه الخطط, سواء نهض بها المستشرقون أو ناب عنهم المستغربون, وسواء تولت أمرها المحافل الماسونية او الصهيونية أو السياسية, وليس شرطاً أن يكون كل حائد عن جادة الصواب من هؤلاء, ذلك أن المفاهيم والاستعدادات تختلف من مفكر إلى آخر, والغزو والتآمر لا يبرئان من المسؤولية وقابلية الاستعمار. وفي ظل هذه الظروف العصيبة نحن أحوج ما نكون إلى الوسطية والتوازن والدفع بالتي هي أحسن, وتفادي سوء النوايا والأثرة, وأحوج ما نكون إلى استبدال الصدام بالحوار. فالعالم المادي يحكم قبضته على الضعفاء بآلته النافذة ومؤسساته الثابتة, ومن قلل من أهمية علمه أو من أسلوب مؤسساته الدستورية والتشريعية والتنفيذية, فقد ضلّ الطريق , وأطال أمد تخلفه. وإذا كان الغرب ينطوي على مثمنات ومناهج وآليات وأنماط حياة هي ضالة المسلم, فإن على قادة الفكر العمل على تمثل الحسن منها دون استهجان للذات, أو تعقب لعثرات الدعاة والمصلحين, ودون تفكير بحسم الاختلاف المشروع, والهم الإسلامي على أي مستوى لا يقتضي المنابذة ولا الصدام ولا تعمد الإفساد. وواجبنا أن نحاور ما أمكن الحوار, وأن نتفاعل ما أمكن التفاعل, وأن نستفيد ما أمكنت الاستفادة. وليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الآخر بالذهاب إليه أو باستقدامه. والمسلم البصير بمقدوره ان يتعلم على أساطين الكفر ما يحتاج إليه الإسلام, دون أن يمس ذلك عقيدته أو يخل بولائه, أو يفسد أخلاقه, وما أضر بالأمة إلا القطيعة المطلقة أو الارتماء المطلق. وإشكالية المشاهد الفكرية والأدبية أنها أوزاع بين متهافتين أو متصومعين, ولما ينبري من يجمع بين الحسنيين: يلتزم الثوابت الإسلامية, ويستفيد من منجز الآخر. والإسلام دين الحضارة والمدنية, دين العلم والفكر, دين العمل والعبادة, فمن ظنه غير ذلك فقد أساء إلى نفسه وإلى أمته. أقول قولي هذا وأنا أستعرض ما يمكن ان أسميه مشروعاً أدبياً تبنّاه الاستاذ الدكتور (عبدالعزيز حموده) من خلال ثلاثة كتب, أثارت حفائظ البعض وضيقت الخناق عليهم وأفقدتهم صوابهم, وجاء معه أو من بعده الأستاذ الدكتور (سعد البازعي) يحمل ذات الهم وذات النفس وذات الإمكانيات في كتابه (استقبال الآخر الغرب في النقد العربي الحديث) والمؤلف يستخدم دلالة (الاستقبال) في التلقي والتوجه, كما استقبال القبلة, ولعله يقصد الدلالة الأكثر مؤاخذة. وجميل من استاذ درس في الغرب أن يبتدر الأخذ بحجز المتهافتين عليه دون وعي, وجميل من نقاد متخصصين ومتمرسين يرصدون للتحولات والانتكاسات والتهافت بمصداقية واقتدار, ويقدمون أنجع الحلول للخلاص من التهلكة. والمؤلم ان مثل هؤلاء يزور عنهم المتابعون, ويمر بهم الإعلاميون مرور الكرام, فيما تبتدر وسائل الإعلام المخفين. والمثير أن المخفين أسرع وأشيع, على حد مقولة (المتنبي) عن الجيش والقتام, ولهذا تراهم الأكثر حضوراً والأكثر تأثيراً, وما ذاك إلا لأن بضاعتهم أشبه باللغط الإعلامي الذي يروق للدهماء. ولقد يخرج إلى الناس كتاب لا يقول شيئاً ذا بال, ثم تراهم يتسابقون عليه. والفاجعة ليست في خلو الكتاب من الجدوى, ولكنها في خلو أدمغة الدهماء, ووجود من يغرر بهم. وإشكالية العزوف ليست قصراً على من نمضي معهم, وإنما تمس من نختلف معهم, ممن نحترم التكثيف المعرفي والدقة المنهجية في أطروحاتهم, وسنعرض لبعض أولئك, لإثبات أننا مع الحق, وإن كان مع من نختلف معه. والدكتور (سعد البازعي) الذي يعبر كتابه الساحة دونما صخب يعرض لإشكالية عصية, هي إشكالية التواصل مع الغرب في النقد الأدبي الحديث خاصة. وإن كانت الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية أشد خطورة وأعمق تأثيراً. واشتغاله في هذا الجانب المهم جعله يتتبع حركة النقد العربي من خلال تواصلها مع المناهج الغربية, وموقف النقاد العرب منها: تبنياً او رفضاً أو تأصيلاً. وقد مسح البحث فترة زمنية تبدأ بمرحلة التأسيس أو بدايات الاستقبال, وتنتهي بمرحلة التأصيل. وفي هذا المسار اكتفى ببعض المناهج الأكثر شهرة ك(الرومانسية) و(الواقعية) و(الشكلانية) و(البنيوية) و(التقويضية) مغفلاً الفلسفات التي تأسست في ظلها هذه المناهج وغيرها ك(الوجودية) و(المادية) و(التاريخانية) وما انبثق عنها من مناهج ونظريات نقدية عديدة. لقد اتيحت لي قراءة الكتاب مع طائفة من الزملاء, وكنت أكثرهم احتفاء به, واكثرهم تحفظاً على بعض رؤاه, ولقد أحسسنا معاً بتعالقه مع مشروع الدكتور (عبدالعزيز حموده) وهو تعالق لا يمت بصلة إلى التناص أو الاستلاب, بل أكاد أجزم أنه لم يرجع إلى أطروحات (حموده), ولكن الهم المشترك أوجد التجانس. والدارس يفترض سؤالاً عن كيفية استقبال الآخر, ويتخذ موقفاً نقدياً محدداً ومبرراً من سائر النقاد, فمنهم المتخذ للمناهج الغربية على علاتها, نتيجة انبهار وتسليم كلي, ويصدق على هذه الفئة اتخاذ الغرب قبلة. ومنهم المؤصّل الذي يدعو إلى التمحيص والتصفية, بحيث يتفاعل ولا ينفعل, فيما أغفل المؤلف موقف المتلقي الثالث الرافض لكل ما يأتي من الغرب, وإن كانت له أصوله في التراث العربي, ومتضمناً في نظريات النقد الغربي الحديث. فالمناهج والنظريات لم تأت طفرة, وليس هناك أمة أحق بها من غيرها, لأن التفاعلات الحضارية وما صاحبها من صراع فكري وسياسي و(أيديولوجي) وثقافي أو مثاقفة لم تتم بمعزل عن الملابسات التاريخية. والباحث يراوح بين اجراءات الاستقبال والمثقافة, فالاستقبال يعني خلو المتلقي من رصيد معرفي نقدي مواز لرصيد الآخر, وبالتالي يصبح تابعاً او مقلداً, في حين تعني (المثاقفة) موازنة الوافد على ضوء الموروث, وفتح حوار بين ندين متساويين فكراً وحضارة. وذلك ما يفقده المستغربون الذين يراهنون على جياد (الحداثة) و(الفرانكفونية) و(الاستغراب). الباحث يرى أنه ليس هناك خصوصيات محضة في نشأة المناهج النقدية الغربية انطلاقاً من التفاعلات التاريخية بين الحضارات المتتالية, وما أفاده الغربيون من الحضارة العربية الاسلامية في الفلسفة والفكر العلمي، ولقد أومأ (العقاد) إلى ذلك في كتاب مقارن ألمح فيه إلى التعالق الفني ونقده. والباحث ضرب مثلاً بمنهج الشك الديكارتي, وكيف ابتدعه (ديكارت), ثم طوره (هوسرل) في منهجه الظاهراتي, وهذا المنهج له جذور تاريخية في الدراسات العربية, يراها البعض عند (أبي حامد الغزالي) في عنصرين: عنصر اليقين في الثوابت, وعنصر الشك في المتغيرات. وقد نقله إلى أوروبا خلال القرن الثاني عشر المستشرق (أدلر أوف) بعنصر واحد هو عنصر الشك, بوصفه باحثاً غير ملتزم باليقينيات الدينية كما هو الشأن لدى المسلمين. ولما جاء (طه حسين) حاول تطبيقه في دراسته للشعر الجاهلي بعنصر واحد أيضاً, مغفلاً العنصر اليقيني في الثوابت القرآنية, ولم يراع سياقه وملابساته التاريخية, ومن هنا جاءت خطيئته القاصمة التي أدت إلى محاكمته وإدانته. وتمتد رؤية الباحث إلى التيار الواقعي بوصفه أدباً, وهذا يحفز إلى استشعار واقعيات: فنية واشتراكية ومادية ووجودية... ولعل إغفال هذا التمييز هو ما حدا ببعض النقاد العرب مثل (محمد مندور) كي يجعل الواقعية مرادفة للأدب الملتزم أو الأدب المسؤول. والدارس يرى أن البنيوية تفرعت من (الشكلانية) و(الواقعية), ولم يشر إلى دواعي ظهور (الشكلانية) وملابسات إعادتها إلى بيت الطاعة (الماركسية) تحت مفهوم (التكوينية). والباحث يعود محدداً عمومية الرؤية أو مناقضاً لها بالقول عن تلبسها بأحد التيارات أو طرق التفكير. و(التفرع) و(التلبس) متباينان. كنت أود لو أسس لبحثه بمقدمة عن الجذور الفلسفية للبنيوية بأبعد مما ذهب إليه (فؤاد زكريا), ثم هو يعدها منهجاً تحليلياً, وهي كذلك, ولكن التحليلية ليست من خصوصيتها, فالبنيوية صفة نص تستدعي آلية ومنهجية تفكك النص, وحتى كلمة (تفكيك) تكون إجراء, وتكون رؤية, وإشكالية المشتغلين عدم التمييز بين الرؤية والإجراء, وهذا ما أشار إليه الباحث, وهو يتحدث عن (التفكيكية), ولأهمية هذا الكتاب وحاجة المشهد إلى مثله فسوف تكون لي عودة تفصيلية لبعض وجوهه, وبخاصة عند حديثه عن (البنيوية التكوينية).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:47 PM | #145 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
إذا سَلِمْتَ..!
د. حسن بن فهد الهويمل حمداً لله على ما أصاب. وحمداً لله على ما أنعم. ومثلما ألمنا للعارض، سعدنا بجلائه، وهكذا الدنيا فيوض من الأفراح والأتراح، وما كنا قادرين على احتمال أي حدث محزن، ولا سيما في ظروف تداعت فيها الأيدي الآثمة على مثمنات البلاد وأهلها، وإن كنا لا نقدر على رد القضاء، ولا نملك إلا الصبر والاحتساب وسؤال اللطف فيه. وكم تكون الشدائد خيِّرة معطاءة، لما تكشفه من معادن الرجال وقيم المجتمعات، ولما تعود به من فرج؛ إذ لا فرج إلا بعد شدة، ولن يغلب عسر يسرين، وما العارض الصحي الذي ألمَّ بالأمير العزيز (سلطان بن عبدالعزيز) إلا حلقة في سلسلة الابتلاء الذي يتعرض له الأفراد والجماعات والكيانات، وما هو إلا مجسٌّ تبدت فيه قيم نعرفها من قبل، ولكننا لم نكن نتصورها بهذا الحجم: - تلاحم أسري. - وتلاحم شعبي. - وتقدير عالمي. وبقدر ما أفزعنا الحدث، وتشعبت بنا قراءاته وتنبؤاته إلا أن فيوض المحبة أسعدتنا، كما سرتنا بوادر التظاهرة الإنسانية التي أحيط بها سموه من أشقائه وأبناء وطنه ورجالات العالم، وكل ما أفرزه العارض من اهتمام: محلي أو عربي أو إسلامي أو عالمي تحال قِيمه إلى الأمة التي أنجبت المحتفى به، وإلى الشعب الذي ينتمي إليه، وإلى السياسة المتوازنة التي تتصف بها مؤسسات البلاد، وهو رجل فاعل من خلالها، وما من أحد إلا ويتمنى أن يرى مكانته في النفوس، ويسمع شيوع ذكره الحسن على كل لسان. و(الذكر للإنسان عمر ثانِ). وما تَقاطُرُ الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات على جناح سموه إلا تجسيدٌ عملي لمكانة البلاد ورجالاتها ووزنها الرزين في المحافل الدولية. وفي مثل هذه المظاهر تختلط مشاعر الزهو بمشاعر الخوف، حتى لا يكون بينهما برزخ فاصل. ومثلما فزع (المتنبي) بآماله إلى الكذب من الخبر الذي طوى الجزيرة حتى بلغه فزعنا للأنباء المفاجئة عن الوضع الصحي لسموه الكريم، ولما لم يدع صدقه أملاً، عللنا أنفسنا بما صاحب ذلك من تدافع رجالات العالم للاطمئنان على صحته. وللعارض وتبعاته تداعياتهما وأثرهما في اضطراب المشاعر بين إشفاق واشتياق، غير أن ألسنتنا لم تتعثر في أفواهنا، كما تعثرت في فم المتنبي، بل أكثرنا من الحمد والشكر والدعاء أن يذهب بأس سموه، وأن ينعم عليه بالشفاء العاجل. ولا شك أن المحبين لسمو الأمير، العارفين بأفضاله، لا يحتملون ما تعرض له من وضع صحي أطال غيبته عن كافة المشاهد التي هي أحوج ما تكون إلى مثله، وليست لأحد القدرة على رد ما أراد الله، ومع كل ذلك يبتهج المحبون لسموه بهذا الاحتفاء المنقطع النظير، والتظاهرة التي قادها الأمير الإنسان (عبدالله بن عبدالعزيز) بزياراته المتكررة، بددت الخوف، وقوَّت العزمات، وخففت الآلام. وتعرض سموه لهذه الوعكة، وما استدعته من تدخل جراحي في ظروف ضاغطة: محلياً وعربياً وعالمياً، وما تطلبته من فترة للنقاهة امتدت كأطول ما يكون الامتداد، وهي مدة أثارت الكثير من المواقف والتوقعات والهواجس، فما كان هناك متسع من الجهد، ولا فائض من الطاقة لاحتمال مزيد من المفاجآت غير السارة، وما كان من إجراء عملية جراحية ناجحة لسموه أدخل المهتمين بالشأن المحلي في دوامة من التساؤل والترقب، فما كان من السهل احتمال مثل هذا النبأ في ظل هذه الظروف العصيبة التي تجتاح العالم بأسره، وينفذ إلينا دخنها معكراً صفو أمننا واستقرارنا وسائر شؤوننا، ورجل مثل النائب الثاني لا يمكن الاستغناء عن مثله في ظل هذه الأوضاع المستحكمة. فتعرض مسؤول بحجم سموه لحالة مرضية قد تبطئ بعودته إلى وضعه الطبيعي ومواصلة أدائه إلى جانب أشقائه ومواطنيه، والغياب الاضطراري سيترك أثراً في نفوس عارفيه ومحبيه، وسموه الذي شهد ما يكنه الناس له سيكون أرفع معنوية، وأقدر على مواجهة العارض وتحمل عقابيله، والمهتمون بوضعه الصحي تغمرهم السعادة من خلال التطمينات التي بثتها المؤسسة الصحية، وبعد أن تشرف بالسلام على خادم الحرمين وولي عهده الأمين تمهيداً لعودته إلى قواعده سالماً معافًى. وانعكاسات الحدث وأثره على نفوس المواطنين عبرت عنه الزيارات المتكررة لسمو ولي العهد يوم أن كان طريح الفراش، ومن المبشرات أن الله لن يتر المؤمن الذي عرفه في الرخاء عمله، وأمر المؤمن كله عجب، فإذا أقعده المرض عن فعل الخير، كتب له ما كان يعمل من قبل، وإذا شِيك كتب له أجر ما يناله من ألم، وكل مسلم مرتهن بمرض أو أي عارض تمضي صدقاته الجارية في تعويض ما فات، وتمضي نيته الصالحة في كسب الخير، ولا شك أن وقع الحدث أشد أثراً على آلاف المستفيدين من فيوض إحسانه، من فقراء ومساكين وغارمين وأرامل وأيتام ومرضى، فوجئوا بهذا العارض على غير توقع، وكل مَن قيدهم إحسانه: (ومَن وجد الإحسان قيداً تقيَّدَا) يمطرونه بدعائهم الصادق، سائلين الله أن يذهب عن سموه البأس، وأن يكتب له الأجر والعافية، وأن يسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة؛ ليستأنف سعيه في دروب الخير والعطاء، ويستأنف عمله في تصريف شؤون أمته عضداً قوياً وأميناً لأخويه اللذين شملاه بالعطف والرعاية وكل الذين يحملون همَّ أمتهم ويعرفون أوضاع المعوزين يشاطرون المشمولين بأفضاله فرحتهم. وكم نحن متفائلون وواثقون ببشارة الصادق الأمين: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء). والصدقات والأقدار تصطرع بين السماء والأرض، والصدقة تطفئ غضب الرب، وهي برهان على صدق الإيمان، وما من ساعٍ في حاجات الناس إلا وله مَن يسعى في حاجته، وكم هو الفرق بين سعي الله وسعي المخلوق، وعلى الذين أنعم الله عليهم من أهل الدثور والوجاهة أن يقتدوا، وأن يكبحوا جماح النفس الأمَّارة، وأن يبادروا بالإنفاق من مال الله الذي آتاهم، وأن يبذلوا ما أنعم الله به عليهم من الوجاهة، لتسهيل مهمات ذوي الحاجات. والمؤمن المفعم بحب عباد الله، العامر القلب بفضائل الأخلاق، يحبه الناس، وهذا الحب العفوي يحفزهم على الدعاء له بظهر الغيب ممن يعرفه وممن لا يعرفه، وممن شمله بإحسانه وممن سمع عن كرمه وإحسانه، وأبواب الله مفتوحة، وقد وعد بالاستجابة وطمأن بالقرب، وكم من رجل لا يُؤبه له لو أقسم على الله لأبره، والله عند وعده، ومَن أوفى بعهده من الله، ولقد قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وما من مسلم سعى الأمير في حاجته إلا ويلهج بالثناء والدعاء، وكل مسلم عامر القلب بحب الخير لعباد الله مستغنٍ بما أنعم الله به عليه عما سواه يحب مَن أحب العباد، ومن ثَمَّ يكون الدعاء من أسير الإحسان ومن حبه للآخرين، وإجماع الناس على الحب والثناء يوجب القبول، وفي الحديث قصة الميتين اللذين مرت جنازتاهما على الناس، فأثنوا على واحدة، وذموا الأخرى، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله: (وجبت، فالناس شهود الله في أرضه). وقوله تعليم واستنهاض. والسعيد السعيد مَن سلم الناس من لسانه ويده، فكيف إذا طال الناس الإحسان من يده، والكلم الطيب من لسانه، وفاق برأيه وحكمته ومحتده وطلاقة وجهه. وتلك التظاهرة الاحتفائية تذكرة لمَن قعد بهم التسويف ممن أفاء الله عليهم بالمال أو بالجاه أو بالعلم أو بالمسؤولية، أو بهم جميعاً أو ببعضهم، وما أكثر ما يحول الشيطان بيننا وبين فضائل الأعمال، وكم يَعِدُنا بالفقر، ولو عرف المسوِّفون أنهم سيأتون الله فرادى تاركين ما خوَّلهم وراء ظهورهم لكان أن هانت عليهم نفوسهم ووجاهاتهم وأموالهم ثم تسلطوا عليها ينفقونها لإقالة العثرات وسد الفاقات. لقد حرصت ألا تفوت مثل هذه الفرصة دون موعظة وتذكير، فلسنا مادحين، وليس سموه متطلعاً إلى المدح، ولكنها المناسبات السعيدة تحمل على الحمد والشكر والدعاء. وهذه الوعكة التي ألمت بسموه ثم أنعم الله عليه بالصحة والعافية وأعاده إلى حيث كان ساعياً في حاجات الناس وحاجات وطنه، استدعت ما كنا نحفظه من عيون التراث العربي، وليس بدعاً أن تتداعى المتشابهات، وليس أقرب إلى الذاكرة من تلك الرائعة التي قالها أبو الطيب المتنبي بعدما عُوفي مثله الأعلى (سيف الدولة): المجد عُوفي إذ عُوفيت والكرمُ وزال عنك إلى أعدائك الألمُ صحَّت بصحتك الغارات وابتهجت بها المكارم وانهلَّت بها الدِّيَمُ وما أخصُّك في برء بتهنئة إذا سَلِمْتَ فكل الناس قد سلموا فالمتنبي استدعى مكارم الأخلاق وخصال البطولة والإقدام وسداد الرأي، ومَن لم يكن ذا يسار وجاهٍ فقد وجَّهه المتنبي الوجهة السليمة: (لا خيل عندك تهديها ولا مالُ فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ) لقد كنا في (جدة) يوم أن كان سموه على السرير الأبيض يتلقى فيوض المهنئين، وكان مرتَّباً لوفد (جامعة القصيم) أن يلتقي بولي العهد وسموه وسمو وزير الداخلية غير أن فترة النقاهة حالت دون ذلك، ولما يزل محبوه في (القصيم) يترقبون ما عوَّدهم عليه من زيارة سنوية أخوية، يطلع فيها على أحوالهم، ويلبي مطالبهم، ويزور أعيانهم. اللهم أنزل لنا القبول في الأرض، واستعملنا في طاعتك، وشدَّ أزرنا لنسعى في حاجات عبادك، وجنِّب بلادنا وقادتنا وكل مخلص لدينه ووطنه غوائل الدهر وفجاءات النِّقم، فأنت وحدك مجيب المضطر إذا دعاه، وأنت وحدك كاشف السوء.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:48 PM | #146 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
جدلية الخفاء والتجلي في المنهج! (1ـ 2)
د. حسن بن فهد الهويمل لا مراء في أن مستويات القراءة وأهدافها وخلفيات القراء: المعرفية والفكرية تستدعي مصطلحات ومفاهيم كثيرة، ولست بصدد إنكار دعوى وجود المضمرات في المناهج، ولست معنياً بالتزكية ولا بالإدانة، وكل همي منصب على أخطاء التوقيت والتقدير وإمكانيات المبادرين للحديث عن (الخفاء) و(التجلي) ومشروعية التناول ووثوقية الدليل. ويقيني أن مشاهد الأمة العربية: الفكرية والسياسية والأدبية متخمة بالكلام وحسب. وكأن قضاءها وقدرها أن تظل مرتهنة خارج دائرة الفعل، لا يملك أبناؤها إلا القول المحتدم والتلاسن السالق. وشاهدنا تتابع المصطلحات في مختلف القضايا: الإنسانية واللسانية، والخروج منها إلى غيرها بأقل النتائج وأفدح الخسائر. نستعذب سك المصطلحات: الفكرية والسياسية والأدبية متى تقطعت بنا أسباب الاختلاف، ومع كل موجة منها يقوم رهان التفوق ونهاية التاريخ. فإذا بلغ السيل الزبى نبذت كما سقط المتاع، لتَلقِّي مسكوكات جديدة، وكأننا الأعرابي الذي يعبد (العجْوة)، حتى إذا جاع أكلها، وما أكثر ما تسك في الشرق أو في الغرب مصطلحات نكرات فنلتقطها لتكون لنا عدواً وحزناً. ولو عدنا إلى بدايات النهضة الحديثة لوجدناها مُلئت بالمصطلحات ذات الوزن الثقيل ك(الخلافة) و(الدستور) و(القومية) و(القطرية) و(الأممية). ولو تقصى المتابعون الإبداعات الشعرية التي صدح بها شاعر واحد مثل (جميل صدقي الزهاوي) في أعقاب مخاضات (الدستور العثماني) لأدركوا أنهم ليسوا وحدهم ضحايا التغرير والإغراء، ومع اختلاط الخطابات فإنه غير مجدٍ في راهننا أن ننحي باللائمة على طائفة بعينها، ولا أن نستبعد التآمر والمواطأة، لنظل مرتعاً خصباً للمتماكرين. والمتابع لمخاضات المشاهد ومبتسراتها، يقف على متلاسنين (ألج من الخنفساء)، وعلى مصطلحات يباب، استنزفت كل الجهود، وعلى أخرى جوف تجاوزها المتجادلون، بعد أن فاض معينهم بالضغائن والأحقاد. فأي مصطلح سياسي أو فكري أو أدبي نفض المعنيون أيديهم منه، بعد ما توصلوا فيه إلى قناعة جماعية؟ وهل سجل التاريخ الحديث قضية واحدة سلَّم لها الجميع، وابتدروها بالفعل بعد القول؟ وهل سجل مصطلحاً واحداً سكه الغرب، ثم رده الشرق على أعقابه، دون أن يفعل فعله في تفريق الكلمة، وتشتيت الفكر، وإهدار الجهود؟. وأي موقف مشرِّف تبدت من خلاله وحدة الصف أو الهدف، وحُمِل إلى المحافل الدولية كإرادة عربية واحدة؟ وأي تجربة سياسية أو فكرية و أدبية ترقَّت بفعلنا إلى سدة الندية؟ إن هي إلا فتنة المصطلحات الثاوية كأعجاز نخل خاوية. لقد شغل مصطلح (الخلافة) أساطين الفكر، وأحدث تصدعات لمَّا نزل نتجرع غصصها، وتمخض الجدل الذي أحكم المغرضون صنعه عن مصطلحات أخرى أشد عنفاً وأعنف قيلا ك(الحاكمية) و(العلمانية) و(الديمقراطية) والدولة: (الدينية) و(المدنية). وتشكلت منظمات وأحزاب وجماعات وإخوان، لكل واحدة منها خطابها الجامع المانع، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، ونهض علماء وساسة ومفكرون، كتبوا وحاضروا وألَّفوا عن مفهوم (الخلافة الإسلامية) وتبعاتها: كالبيعة والاستخلاف والشورى والاختيار والانتخاب، ومصدر الحكم بين النص والشعب، وأهل الحل والعقد، وإمكانيات (الفكر السياسي الإسلامي) ومدى أهليته لطرح مشروع سياسي مستوعب للمستجدات: الدستورية والتشريعية والتنفيذية والرقابية، وما يلحق بذلك من مجالس متعددة المهمات والصلاحيات. وكتاب (الإسلام وأصول الحكم) ل(علي عبدالرزاق ت1386ه) وما أحدثه من تصدعات وخلافات أنموذج لإشكاليات سك المصطلحات، ودعك من (قضايا المرأة) و(قاسمها)، ومخلفات (الحرب الباردة) و(هيكلها)، و(الحداثوية) و(أدونيسها) و(البنيوية) و(سوسيرها) والتعالق المقوي مع المستجدات في مشاهد العلوم الإنسانية كافة. ومن ذا الذي لا يمسك على هون وثائق التبعية البائسة أو يدسها في التراب ليتخلص من عار الانهزام وقابلية الاستعمار، وفي القوم من يتشفى بجلد الذات وتمجيد المستعبد وشرعنة مقترفاته. ولمَّا نكد نفرغ من الشقاق حول (العولمة) و(النظام العالمي الجديد) ومشاريع (القطب الواحد) ك(الشرق الكبير) و(الإرهاب) حتى بدهتنا مصطلحات جديدة تتعدد مفاهيمها بتعدد المتلقين لها. وها نحن بعد هذا التطواف الممل، نتلقى مصطلحاً قديم الإطلاق جديد الإنزال على الوقوعات العارضة، مؤاده أن هناك منهجاً معلناً، يتداوله العلماء والمعلمون، والأدباء والمفكرون، والساسة والدعاة، وآخر خفياً لا يعرفه إلا العالمون ببواطن الأمور. وأن هذا الخفاء ينطوي على مناقضة لرديفه الجلي. والمصلطح قائم منذ أن عُرف (التلقي) و(التأويل)، ولكنه نائم كما الفتن، مثلما كانت (الخلافة) قائمة من قبل، حتى أيقظها (علي عبدالرزاق). وإيقاظ المصطلحات في ظروف غير مواتية كإيقاظ الفتن. وأخوف ما أخاف تصعيد الخلاف وتنويع مواقعه، وقد يأذن المتجادلون بإعادة التاريخ، وما يحمله من تنظيمات سرية وحركات باطنية، وما تداولته العصور الخوالي من مصطلحات (التغنص) و(الردة) و(الزندقة) وما تمخضت عنه من طوائف وأحزاب ومذاهب في الفروع والأصول، كالخوارج والمرجئة والمعتزلة والزيدية والشيعة والسنة وسائر الطوائف ذات البعد السياسي، إذ لكل نحلة منهجها الجلي والخفي. ومتى اجترح المتجادلون افتراض المنهج الخفي وحمَّلوه أوزاراً مفترضة وأحيل إلى فئة مفترضة أيضاً، دخلت الأمة في تنازع هي في غنى عنه. وإذ عشنا مرارات المساءلة الجائرة للمناهج وللدعوة السلفية وللجمعيات الخيرية وللمراكز الصيفية فإننا سنجد من يتلقف الراية ممن لا يريد للقطا أن ينام، ليزيد قوائم الاتهام، ولو عرف المستدعون لمثل هذه المصطلحات - ممن لا نتهم إخلاصهم ولكننا لا نثق بقدراتهم - أن هناك متربصين، لما كانت لهم رغبة في أن تتكسر النصال على النصال على جسم الأمة، ولا أن يخلص إليها الاتهام وعندها كل اتهام على حد: (أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف خلصت أنت من الزحام) لقد أشفقت على الذين استدعوا هذا المصطلح دون تحرير معرفي، ودون رصد تاريخي، ودون استصحاب للمحاذير، ودون استكمال للمادة والآلة، وأشفقت على الذين باركوه، وشمروا عن سواعدهم للخوض في لججه، دون حساب للعواقب، ودون تخوف من السماعين والمتربصين، وأشفقت على قوم آخرين من قبلهم طرحوا مصطلح (التنوير) وجروا قدم أعرق الجامعات، لتكون غرضاً للمساءلة. وأشفقت على الأمة المدانة من لغط أبنائها، وأشفقت من القبول بمصطلح (التنوير) بكل ظروفه وملابساته (الأوربية) في القرون الوسطى، وكأن الأمة تعيش ظلامها وطغيان كنائسها. وكأن الأخذ بأسباب الحضارة والتجديد والتطوير يعني الخروج من سراديب الظلام وكهوف التخلف إلى نور الحضارات. إن التسابق إلى نبش جثامين المصطلحات وإنزالها على واقع مغاير ومسيرة مختلفة يعني إثارة الرأي العام، وتحفيزه للتساؤل والتحفظ والاتهام، وما كان إشفاقي على المستدعين والمستقبلين إلا لأنهم كالمريب الذي يقول خذوني. والإشفاق لا يعني الاتهام ولا سوء الظن. وكيف يكون من مثلي الاتهام، وما شققت عن صدر أحد، وما كنت لدى المشتغلين وهم يختصمون حول الخفاء والتنوير. غير أني أتوقع جانباً من المآلات متبديةً من لحن القول ومن المؤشرات، فما عاد خافياً ما يتخلق به البعض من اهتياج أعزل، وما يتعمده آخرون من فلتات ألْسِنةٍ غير محسوبة. والخطأ في الاستدعاء أو الخطأ في التناول أو الخطأ في التوقيت لا يمس الأمانة، ولا يسيء الظن، ولكنه يقدح في الأهلية، ومن اشتغل في شؤوننا الحساسة فليرحب صدره للمساءلة. ومن ضاق ذرعاً، فليلزم بيته، وليطوي كشحه. والصدق والإخلاص والنصح غير كافية لشرعنة سك المصطلحات أو استدعائها. وواجب من يحملون هم قضاياهم ارتياد الخصب وتحري الأمان: (ومن رعى غنماً في أرضِ مَسْبَعةٍ ونام عنها تولى رَعْيها الأسَدُ) وعلى المتقحم لهذه المضائق أن يعرف حال أمته المنهكة، وقدر نفسه المتواضع، وإمكانياته المعرفية المغايرة، وخبرته التجريبية الناقصة، ومن استمرأ السباحة ضد التيار فعليه أن يتأكد من لياقته وقدرته. ولأن مصطلحي (الخفاء) و(التنوير) عائمان، فإنهما بحاجة إلى تحديد المكونات والمفاهيم والمقتضيات والدواعي والمآلات. وفي مثل هذه الظروف لا تنفع الإنشائيات، ولا العاطفيات، ولا تبادل الاتهامات، ولا تهويل الوقوعات، ولا اجترار المقولات.وكل مسكون بالهم الفكري أو السياسي أو الأدبي يعيش حالة من الارتياب والشك، فبوادر الأمور لا تبشر بخير، وتتابع الإخفاقات لا تدع مجالاً للتفاؤل. وافتراء الكذب على مناهج التعليم، والحركة الإصلاحية، والجامعات، والجمعيات، والمراكز، لا يجوز تعزيزها من الداخل، وبخاصة حين تكون البلاد مشروعاً للإملاءات والتساؤلات. وكم تُجرُّ قدم المسكون بالهم من حيث لا يريد، ليقول في النوازل والقضايا والظواهر رأياً فطيراً، لا يزيد الأمور إلا تعقيداً واستحالة. وقد تتشابه الأمور على المتثبت فيقع في المحذور. وكم من مخلص تكشفت أمامه اللعب، فتمنى أنه لم يقل كلمة، ولم تخط يمينه سطراً. فأين الذين قالوا عن (الجهاد الأفغاني)؟ وأين الذين مجدوا (بطل البوابة الشرقية)؟ ألم يكن البْعض منهم صادقاً مخلصاً ناصحاً. وأحسبني معذوراً حين أكون في ريب مما يقال وما يفعل على مختلف المستويات، ومن كل الفئات: محلياً وعربياً. وحين أكون (ديكارتياً) في شكه فليس ذلك لأن فلاناً من الناس ابتدر هذا المصطلح أو ذاك، ولكن لأن الوسط قابل للارتياب، ومن حق متابع مثلي أن يشك في نفسه، وقد فعلها (عمر) حين سأل (حذيفة): أعدّني رسول الله من المنافقين. ذلك أني خبرت المذاهب والأحزاب والتيارات والقضايا، واشمأزت نفسي من تجشؤات الفارغين وتشبع المتذيلين لنفايات الحضارة المادية، وفزعت من تدنيس المقدس والتطاول على الذات الإلاهية ونسف الثوابت، وتجرعت مرارات الخداع، واكتويت باللعب الكونية التي قلبت الأوضاع، وأضاعت المصالح، وأذلت الأمم، وقلت فيها ما أعتقد، أحسنت الظن في بعضها فعاضدت، وأسأته في البعض الآخر فخذلت، والتبست عليَّ الأمور في أخرى فتوقفت. وما ابرئ نفسي من اندفاعات غير محسوبة، أو من تردد لا مبرر له. والاعتراف بالخطأ فضيلة، والرجوع إلى الحق أفضل، ومحاسبة النفس قبل أن تحاسب من الكياسة. ولو أن المشتغلين بالشأن العام حين تبين لهم الحق أسرعوا العودة إليه، ولم يتهيبوا من الاعتراف بالخطأ، لكان أن صفَّت الأمة حساباتها أولاً بأول. غير أن الأخسرين أعمالاً يصرون على الحنث الصغير والكبير. والمتابعون لمذكرات الساسة وقاهري الشعوب من بعد ما نجوا بجلودهم من غضبها، يعرفون الجرائم المرتكبة، ولكنهم لا يعرفون المجرمين، فكل قادر على الكلام ينحي باللائمة على شركائه الهالكين أو المرتهنين وراء القضبان. والطيبون يصدّقون ما يقال، ويقبلون بتلميع الوجوه المشوهة، وإبراء النفوس الظالمة، والمنصفون من يقولون كلمة الحق، ويعترفون بمقترفاتهم وجناياتهم على أمتهم، ويطلبون منها العفو والتسامح، ليكونوا كالذين تابوا من قبل أن تقدر عليهم الشعوب. وهل أحد ينكر زمن التيه، وفي القوم من يتطوع للدفاع عن (صدام حسين)، وفيهم من يبرر المقترفات الغربية، والقتلى المدنيون الأبرياء نيفوا على ثلاثة عشر ألف عراقي، وانتهاكات حقوق الإنسان تتصدع لها صم الجنادل، و(إسرائيل) تفتك بالإنسان الفلسطيني، ثم لا تجد من ينكر المنكر باليد ولا باللسان ولا بالقلب، وذلك أضعف الإيمان. بل نسمع ونرى من يشدو متغزلاً بشمطاء قبحت مخبراً ومنظراً وعاتية أفسد الظلم نضارتها. إن الجنايات المتنامية فوق الساحة العربية ليست مقترفات ساسة وحسب، إنها جنايات علماء ومفكرين وعسكريين وحزبيين وطائفيين وأدباء ومبدعين. وما فتئت الأمة واهنة حزينة تحت وابل الكلمات الرنانة، حتى لقد نُبزت بأنها (ظاهرة صوتية). وهل أحد ينكر مقترفات أرباب الكلمة؟ إن الأمة العربية تتجرع مرارات من كل جانب، ومن تصور الأزمة بأنها (أزمة حكام) فقد اختصر المذنبين. إنها أزمة شعوب وعلماء وأدباء ومفكرين وحزبيين وطائفيين، وأزمة تسلط القوي على الضعيف، وكف يده وتفكيره عن التصرف السليم. أزمة شائعة في كل الأوساط ومن كل الأوساط، ولابد - والحالة تلك - أن يدع حملة الأقلام نبش العفن، وأن يكفوا عن الاشتغال بالفرضيات، تمهيداً لالتقاء الأطياف على كلمة سواء، والانطلاق إلى الثغور المكشوفة لوقف الاختراقات، فما عادت الأمة بوضعها المتردي قادرة على تحمل مزيد من التنازع والشقاق وإيقاظ الخلايا النائمة، وسك المصطلحات الأكثر التياثاً ومراوغة. فحاجة الأمة عودة نصوح، تمكن أبناءها من معرفة قدرها وإمكانياتها ومتطلبات مرحلتها. ولن يتأتى ذلك إلا بالبحث عن الحق المجرد، واستبعاد البحث عن براءة الذات، وإدانة الآخر، وإدامة التنازع. وما أحوجنا إلى تغليب الإيثار على الأثرة، والتفسح في منصات القول، وتفادي المصادرة والنفي والتهميش والإلغاء وواحدية الخطاب، وبرهان ذلك كله المشاركة الإيجابية، وصرف النظر عن قيل وقال، وكثرة ترديد الشائعات، وتحويل الوقوعات الجزئية إلى نظريات و(أيديولوجيات)، فالأمة لقيت في مسيرتها النصب والتعب وذهاب الريح، ولم تعد قادرة على تحمل مزيد من النكسات الموجعة، ولن يتحقق النصر إلا بأن نفيء إلى أمر الله، ونلزم الجماعة، ونعود إلى نصاعة النص المغيب. لقد حيل بين الأمة ومرجعيتها النَّصِّية البيضاء، واشتغل المفكرون والمنظرون ب(النص الرديف) الذي أنتجه قراء متفاوتون: زماناً ومكاناً وإمكانيات ل(النص الأصل) في ظروف تختلف عن ظروفنا. إن خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، وزمن الثورات العلمية يختلف عن زمن المعارف النظرية، والقرية الكونية تختلف عن الإقليمية المغلقة والقلاع والمدن المسورة.ومع كل هذه التحولات فالأمة العربية أمة مسلمة، ولن يتحقق لها النصر إلا بالإسلام، إسلام التمثل لا إسلام الهوية والادعاء، الإسلام الذي لا تمليه طائفة، ولا يستغله مذهب، ولا تحتكره إقليمية ولا قبلية. الإسلام دين عالمي إنساني علمي حضاري مدني، ومن أراده على غير ذلك فقد أساء له ولأمته. ولو أن الأشتات المتفرقين عرفوا ذلك، وأخذوه من مصادره ومن جيله الأول، لما اختلفوا، ولما تناحروا. وإذا كنا نقدر الأنساق الثقافية وآليات التأويل ومناهج التفكير والتلقي فإننا لا نريد لهذه التعددية أن تصل بنفسها إلى حد القطيعة والتنابز وتبادل الاتهامات. نعم نقبل بالتعددية وبالتعايش والتعاذر، ونقبل بالخطابات المتباينة، ولكننا لا نرضى بالانقطاع، ولا نقبل بالتحريف، نريدها حرية منضبطة ووسطية ممتثلة على حد (واستقم كما أمرت).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:49 PM | #147 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
جدلية الخفاء والتجلي في المنهج..! «2-2»
د. حسن بن فهد الهويمل و (التلقي) و (التأويل) نظريتان أوْلاهما علم اللغة الحديث كل الأهمية، وعول عليهما في تجسيد الرؤى والتصورات وافتراض (التجلي) و (الخفاء) ، وألحق بهما (علم الدلالة) ، و (الأنساق) و (السياقات) فكان أن أصبح النص محكوماً في دلالته بما هو خارج البنية اللغوية. ولما ذر قرن (التقويضية) كادت اللغة الماثلة للعيان تفقد مهمتها، لتحل محلها لغة مفترضة وغير محكومة الاستدعاء، وأصبحت مجرد هيكل لا يلوي على كل شيء. وكل مصطلح يبعد النجعة، حتى لا يكون للكلام المقروء أو المسموع دور رئيس في تجسيد الدلالة. و(الباطنيون) في قضية (الظاهر والباطن) سلف سيئ لمن خلف. و(الظاهريون) ردة فعل للتعليل والقياس، واضمحلال الحضارات من الأفعال وردودها ومن الاسترفاد وتهيب المبادرة والصراع حول بضاعة الغير بين متهافت بائس ومتمتع كالعائل المستكبر. ومصطلحات علم اللغة الحديث ومتعلقاته الإبداعية والقرآنية وتداول المركزية بين (النص) و (المؤلف) و (القارئ) أسهمت في تشكل (المنهج الخفي) الذي استدعي بطريقة بدائية وتصور ساذج، ليكون ك (الثور) يضرب لما عافت البقر. على أن الذين استدعوه وتظاهروا حوله لم يدر بخلدهم إلا الوقوعات. وأخطاء التطبيق لا تنتج نظرية ولا تدين مبدأ، والوقوعات الاحتمالية لا ترقى بالقول إلى سدة التنظير. ولكيلا يقع المنظرون في متاهات القراءات فإنه من الممكن أن توضع ضوابط ل (التأويل) وقواعد ل (التلقي) بحيث يكون (المنهج الخفي) عند استدعائه حقاً مشروعاً تنتجه إمكانيات استثنائية، وتجسده رؤى وتصورات واعية، وحينئذ لا يكون استدعاؤه للمساءلة للإدانة. ولن يكون الاستدعاء مأمون العواقب حتى يقتصر التداول على المتضلعين من نظريتي (التلقي) و (التأويل) من الجهابذة الذين يأتون البيوت المعرفية من أبوابها. وقد فعلها سلفنا الصالح، بحيث جعلوا لكل مذهب قواعده وأصوله وآليات استنباطه وخطة مساره، وتراتب علمائه، وسقف اختلافه. حتى لقد عرف المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد، وعرفت أسباب الاجتهاد وشرعيته ومحله وأقسامه وطرقه وشروطه: الذاتية والعلمية، ووسائله: النصية والتعليلية. وما عهدنا أحداً من العلماء المؤصلين عني بالوقوعات العارضة إلا للافتاء، وما كان أحد منهم متخذاً السقطات محفزة لسك المصطلحات، ولو أن كل جنحة أقيمت عليها رؤية، وسك لها مصطلح، لملئت المدارج بالحرس الشديد والشهب. ومتى حددت القواعد والأصول، أمكنت مواجهة المرجعيات الدينية النصية، ولن يكون هناك -والحالة تلك- قطيعة بين فرضية المنهج الخفي والجلي. ومن خلال متابعة المتداول من القول حول المنهجين تبين لي أن المقاربة بدائية وغير حصيفة، لاعتمادها على المرافعة ضد غائب، واعتماد مصدريتها على قيل وقال. وليست إشكاليتنا الفكرية ناتج همِّ الأسلمة، وكيف نتصور ذلك وهي مقتضى السياسة التعليمية، وليست إشكاليات المنطقة العربية ناتج تعليمها، بحيث نتصور أن خطاباً محلياً خافتاً كان بمقدوره أن يربك العالم ويغزوه في عقر داره. وهل ما يمر به العالم من رعب يعد ناتج انحراف معلم أو واعظ أو مركز صيفي أو جامعة تخلت عن رسالتها التنويرية؟ إن ربط مشاكل العالم بهذه الممارسة المحلية يعني استعدادنا لمواجهة العالم بأسره، وتعزيز ادعاءاته بأن بلادنا مصدر العنف، وعلى البراغشيين أن يعللوا لنا وحشية اليهود وغطرسة الأمريكان وهمجية القتل في الجزائر والحروب الأهلية الشرسة في بقاع كثيرة من العالم. والتحفظ على الفرضيات مرده إلى هم المفترض ومراميه، فالأوضاع الاستثنائية تنفرد بأحكامها ومحظوراتها ومباحاتها، ولهذا عرفت (حالة الطوارئ) . فما يقبل في ظل ظروف عادية ليس حتماً أن يقبل فيما سواها. وإذا اختلفنا فيجب ألا نقع في مأزق تبادل الاتهامات، وفرض وجهات النظر، وتحميل الآخر ما لا يحتمل، وتقويله ما لم يقل. التعاذر والتعايش هما السبيل الوحيد لاجتياز المنعطف الخطير. وإذا صنع الغرب أعداءه بغطرسته، ولم يستطع تفكيك لعبه ف (يداه أوكتا وفوه نفخ) ، ولسنا ملزمين باجترار أطروحاته وتصديق تخرصاته، ولا معذرين لمقترفاته. وليس من مصلحتنا استعادة ما تراكم من مخلفات الجدل العقيم في زمن الاسترخاء والنزف المعرفي وأجواء الثقة. وليس من المناسب أن نطرح أنفسنا بوصفنا طرفاً في قضايا العصر، ورؤوس الفتنة: (بوش) و (بلير) يصطرخان تحت أسواط الرأي العام، وقد تدركهما حرفة الكذب، كما أدركت (رتشارد نكسون) خطيئة (ووتر جيت) رغم مبادراته المتميزة. وحين يرهبنا ويرعبنا ما يحصل في بلادنا فيجب ألا يكون حملة الأقلام في معالجة الأحداث ك (سعد) في إيراده لإبله، ولا كمن أراد أن يعرب فأعجم. وإذا شُرع القول أو الفعل المغاير للسائد والمألوف في ظل ظروف قائمة فإن تبدل الأحوال وقيام الحاجة إلى قول أو فعل مغاير لا يقتضي استدعاء القول السالف وفعله للمساءلة، إن لكل ظرف خطابه وفعله، والسياسة (فن الممكن) ومن حق الرأي العام ألا تلغى ذاكرته، وألا تستفز عواطفه، بحيث يتحول الفعل المشروع في زمن إلى مقترف في زمن لاحق. ولعل من الطرائف المضحكة، وشر البلية ما يضحك، أن تكون من قائمة الاتهامات الموجهة ل (صدام حسين) حربه مع إيران، وهي الحرب التي منحها العالم كله الشرعية وأيدها ودعمها، وما كان فيها (صدام حسين) إلا لاعباً غبياً. وكم يكون الإنسان مكرهاً لا بطلاً، وكم يكون خياره محصوراً بين ضررين فلا يجد بداً من ارتكاب أهونهما. ومكمن الخطورة في سك المصطلحات لتكون وثائق مزورة بيد من لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ومشاهدنا العربية بليت بمن يأتي الغرب من أهله بنبأ غير يقين. والغلاة المتطرفون والمداهنون المتحللون وجهان لعملة واحدة يقتسمان الخطايا. وخلاصة القول: إن المجتمع بكل أطيافه يتحمل شطراً مما حصل فيما تتحمل فلول اللعب الكبرى الأشطر الباقية، وعلينا أن نرسم طريق الخلاص، لا أن نمعن في التخلص، وإن علينا أن نرصد لاتجاه الريح، لنقوض أشرعتنا، ونحتضن مجاديفنا فالريح وحدها كفيلة بدفع السفينة، وإذا تفجرت بالراجلين ألغامهم التي زرعوها بأيديهم، فليس من الحكمة أن تدفع مؤسساتنا الثمن، ولا أن نقبل بالاتهام. وإذا كنا بما وهبنا الله مواسين وآسين ومتوجعين فليس من البر احتمال خطيئات الآخرين. كل الأوضاع الشاذة في الوطن العربي بقايا لعب كونية، ومن كثرت مسابيره ومجساته تكشفت له الأوضاع على حقيقتها. لقد كانت لي متابعات وإلمامات ومشاركات في مؤتمرات وحوارات داخل البلاد وخارجها، وتبدى لي أن كل ناهض بمهمته يدعي أنه رب الوسطية وصاحب الحق والشرعية، وأن للغلو والتطرف والتنطع أرباباً يحمونها ويؤزونها، وأن قوله صدق لا يحتمل الخطأ، وقول غيره خطأ لا يحتمل الصدق، وهذا التوهم يحمله على الشطط والانفعال وتصور نفسه منقذاً يمارس الإنذار، ولا يميل إلى الحوار، ويتعمد النقد، ولا يتخذ سبيل التساؤل والاستبانة. وكل منظر لا ينبس ببنت شفة، حتى يفترض ملائكيته وشيطنة ما سواه، وذلك لعمر الله بيت الداء ومكمن الإشكالية، وما رأس الدواء إلا البصر والبصيرة وتعزيز النفس اللوّامة وتخذيل الأمّارة، وحمل المخالف على خطأ التصور أو نقص المعارف. وإشكالية (الوسطية) التي يدعي وصلها كل متحدث تزداد تعقيداً كلما أمعنا في التعويل عليها، دون تصور دقيق لحدودها ومقتضياتها. فالذي يتخذ من الوقوعات العارضة (أيديولوجية) لا يعد وسطياً، والذي يجمع كل الخطايا في سلة الخفاء ليس وسطياً، والحدِّي المحتدّ ليس وسطياً، والمتحلل من كل ضابط المميع للدين ليس وسطياً، وتلك الرؤى الخاطئة توقعنا في إشكالية المفاهيم الخاطئة. ولهذا يظل كل متمذهب يدعي الوسطية والتسامح، وسيظل الادعاء قائماً ما لم يحتكم الأطراف إلى مرجعية معتبرة نافذة القول. والأمة تواجه خطر الاستبداد بالرأي، وعدم احترام العلماء المشهود لهم بالعلم والصدق والإخلاص والاستقامة، ومتى ذهب كل مبتدئ برأيه، ولم يسلم للمرجعية المعتبرة اتسع الخرق على الرقع. ولو أن حملة الأقلام عمدوا إلى تحديد دقيق لمفهوم الوسطية، وأذعنوا لمرجعية: نصية أو شخصية اعتبارية، تقطع دابر الخلاف، وتنهي الجدل. ولو أن كل الأطراف التزمت أو اقتنعت على الأقل بأن تحقق الوسطية لا يكون إلا بالاستقامة على المأمور لكان أن أرحنا واسترحنا. والذين يفترضون التجلي والخفاء يشغلون المشهد بإضافة جديدة، غير ملموسة وغير محددة، فمن هم ذوو التجلي وما صفتهم، ومن هم ذوو الخفاء وما الحق منهم وما المبطل؟ القول بالتجلي والخفاء قول مشروع، لو لم تكن هناك غايات رديفة، ولو لم تكن هناك ظروف غير ملائمة، ولو لم يكن هناك منهج خفي يستبطنه المتصدي للمنهج الخفي، حتى لكأننا بهذه السفسطة المتنامية عشوائياً نقف أمام (المرايا المتقابلة) . والخوف من تداول المصطلحات ان يُجعل منها مجالٌ لتحميل الخطاب الديني كل جرائر الإرهاب، ومن ثم تعزز حجج اللاعبين الكبار، الذين يُحركهم يمين متدين متشدد لا يريد لغيره أن تحركه عقيدته. وإذ تلتطم في سائر المشاهد عدة خطابات، يحتمل كل واحد منها شطراً من تلك الظاهرة الخطيرة، فإن على المتقحمين لهذه المضائق أخذ الحذر وإعداد العدة، تفادياً لإصابة قوم بجهالة. ولست هنا معنياً بتبرئة أي خطاب، ولا الإحالة إلى خطاب بعينه، فكل خطاب له طرفان ووسط، وله أقوام يضلون بغير علم، كل الذي أريده تفادي سك المصطلحات، أو استدعائها لإعادة التنازع من جديد. وليس ببعيد عن هذا الهلاك من يتقحم سوح الفكر والسياسة ببضاعة مزجاة. وقوانين اللعب السياسية ليست بأقل من أصول المعارف، إذ ليس بفقيه من لا يعرف أصول الفقه وأقطاره الثلاثة: فقه الأحكام والواقع والأولويات. وليس بسياسي من لا يعرف التاريخ السياسي، ومكر الأعداء، و (اللوبيات) و (جماعات الضغط) و(الاستراتيجيات) و (التكتيك) وتعارض المصالح، واللعب الكونية، وتنازع البقاء، وسنن التدافع، وقانون التداول، وأسباب سقوط الحضارات. وحين نتخوف من تداول أي مصطلح قائم أو مفترض فإنما خوفنا من مستدعين متسطحين، ومن متلقين فارغي الأذهان، لا يعرفون إلا ظاهر القول، ومن (متأدلجين) أو (متحدثنين) أو (متعولمين) لا يقدرون جرائر هذه الصيرورة، ولا يعرفون نواقض الانتماء. وجدوها فرصة مواتية، فحسبوا أن الرياح تهب لصالحهم، فاغتنموها قبل أن تسكن، ومن فلول لعب قاتلة ذهب اللاعبون بالأجور، وتركوا المنفذين نهباً للضياع، ومن مشفقين ناصحين استدبروا الواقع، وأوغلوا في أرض موحلة مكشوفة، ليس لديهم من يحمي ساقتهم، ولا من يرود لمقدمتهم. ومع التحذير من تداول المستجد من المصطلحات التي تُستدعى، ولا تقوم الحاجة إلى مثلها، فإننا لا ننكر أن لكل طائفة أو نحلة رؤيتها وتصورها ومفهومها للأحداث والنوازل، وأن أي متحدث عن النوازل أو الظواهر أو القضايا إنما يتحدث عن رؤيته وتصورها ومفهومها للأحداث والنوازل، وأن أي متحدث عن النوازل أو الظواهر أو القضايا إنما يتحدث عن رؤيته وموقفه، متحملاً كامل التبعات والمسؤوليات، وأن من حق كل مفكر أن يتمتع بكامل الحرية في التفكير والتعبير ما لم يؤدِ ذلك إلى إخلال في الأمن أو خروج على الشرعية أو مخالفة صريحة ومتعمدة للنص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت، أو إضرار بالآخرين. ولو أننا تعقبنا المفكرين وحجرنا عليهم، لكان أن دخلنا كهوف الرتابة والنمطية، واستفحلت فينا عقدة (الأبوية) التي واجهت بها الأمم أنبياءها. والاجتهاد لأهله المؤهلين مشروع، والاختلاف صنوف الاجتهاد، فهو اختلاف مشروع أيضاً، لأن قضايا الدين والفكر والسياسة والأدب تختلف عن ظواهر العلم التجريبي. فقانون الماديات كالسنن الكونية، لا تتبدل، ولا تتحول، والخلاف حولها لا يخرج عن الخطأ المحض أو الصواب المحض، أما ما سواها فالاختلاف يكون خطأ، ويكون دون ذلك. فتنوع الآراء يدخل في إطار الفاضل والمفضول والأفضل. وقلّ أن يكون ثنائي الخطأ والصواب. وما اختلف العلماء من قبل، وما ظهرت المذاهب، وما تعددت القراءات إلا لأن هناك رؤية خاصة وموقفا خاصا ومفهوما خاصا. تتعدد بتعدد القراء والعصور والنوازل. ولا يجوز أن نحيل ذلك إلى المنهج الخفي أو الجلي، ولا أن نجعل الخفي مداناً بإزاء الجلي، ولا أن نحمل الخفاء جرائر الاخفاقات. ولو فعلنا ذلك لكان علينا أن نعيد النظر في اختلاف أئمة المذاهب في الآفاق الإسلامية، الذين فجرت بقايا الحضارات في أقطارهم مواهبهم، إذ في الشام بقايا حضارة الرومان، وفي العراق فلول الحضارة الفارسية، وفي مصر شواخص الحضارة الفرعونية. ففقه (الشافعي) في مصر يختلف عن فقه (ابن راهويه) في نيسابور، وفقه (الأوزاعي) في الشام يختلف عن فقه (أبي حنيفة) في الكوفة وعن فقه (ابن حنبل) في بغداد. وما أحد من الأئمة خطّأ نده، ولكن المتعصبين هم الذين أفسدوا التعدد المذهبي، وما تجاوزت المسألة عندهم الراجح والمرجوح، أو المقدم من المذهب، وما كان الاختلاف إلا ناتج تعدد المناهج والآليات والقواعد والأصول والخلفيات المعرفية واتساع فضاءات النص وتفاعله مع النوازل. وها نحن نواجه حضارة الغرب دون أن تكون مؤسساتنا الفقهية موحدة القوى، لمواجهة المستجد، وكم نود تفعيل (المجمع الفقهي) و (هيئات كبار العلماء) في آفاق العالم الإسلامي، لتبادر النوازل ب (فتيا) جماعية، قبل أن تختلف الآراء حولها، وتفرق كلمة المسلمين. ولو كان استدعاء المنهج (الخفي) من مقتدرين يمتلكون الآليات والأصول والقواعد، وفي ظل ظروف مواتية ومناسبة لما كان منّا تمنعاً ولا تخوفاً. وكيف نحمل هم الحجر والنص أي نص يحمل دلالات قد لا تتوفر في ذات النص، إذ ان هناك معهودات وسياقات وأنساق وفضاءات ومناسبات ونوازل وأرضيات معرفية تساعد على تعدد الدلالات وتنوعها، وكل قارئ يتوفر على شيء مما هو خارج اللغة تنبثق من قراءاته دلالات ليست من ذات اللغة. وليس من الحصافة أن نقول بأن هناك منهجاً خفياً أو جلياً، ثم لا نعول إلا على وقوعات قالها طالب أو مدرس أو موجه، وليس من المناسب القول في ذلك في وضع محتدم ومتوتر، كهذه الأوضاع التي يعيشها العالم بأسره. إننا نثير انتباه المتربصين، ونتيح لهم أكثر من مرتع، ونهيئ أنفسنا للمساءلة والإدانة. وهل بعد التملق ل (الناخب الأمريكي) من أحد مرشحي الرئاسة لاتخاذ موقف متشدد من المملكة العربية السعودية لو فاز في الانتخابات مزيد من النبش في المناهج. وأي تناول تستدعيه أحداث عارضة يخرج من مفهوم البحث (الأكاديمي) إلى الجهد (الأيديولوجي) ضمن دائرة الصراع العالمي، مما يترتب عليه رؤية وإجراء لا يصيبان الذين ظلموا خاصة. ولو أن المنهج (الخفي) بلغ أجله لما ملئت السجون بالمذنبين، ولما ملئت دور الرعاية باللقطاء، ولتحول الناس جميعاً إلى عباد للرحمن يمشون على الأرض هوناً، وكم نحن بحاجة إلى المنهج الخفي للحد من الجريمة والسقوط الأخلاقي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:52 PM | #148 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
اضطراب المفاهيم حول (الفكر السياسي الإسلامي)
د. حسن بن فهد الهويمل بيت الداء في الراهن العربي الحديث (السلطة) المتذبذبة بين (العدل) و(التسلط)، وما من فتنة تلتطم أمواجها العاتية إلا وتحركها أعاصير التنازع حول سدة الحكم، ومن كفي أمره فقد نجا من كل غائلة، ولمّا تزل مفاهيم العلماء والمفكرين في أمر مريج، منذ شهيد المحراب (عمر بن الخطاب) حتى قعيد الحفرة (صدام حسين). وفي كل مرحلة تبدو المشكلة بثوب جديد، ويكون لها خطابها وخطباؤها وإشكاليتها، ولم يستحر الجدل العلمي (المؤدلج) إلا في العصر الحديث يوم أن سُيّس الدين والأدب، و(أُدلج) كل شيء، وسيم المسلمون الخسف. وكل حركة أو تنظيم لا يقومان إلا بحبل من الله أو بحبل من الناس، فدولة العدل والمساواة وإظهار الدين منصورة بنصر الله، ودولة الظلم والاغتصاب والتسلط مسنودة بحبل من الناس. ولما سقطت (الخلافة) على يد (مصطفى أتاترك) بمواطأة من الغرب المسكون بالخوف من أي تحرّف أو تحيّز فكري إسلامي، اذن لكل قادر على القول أو الفعل أن يدلي بدلوه، عبر خطاب مستقل أو منتمٍ. وفي هذه المعمعة نهض (الفكر العلماني) الذي جعل قضيته الأولى الإجهاز على أي فكر سليم يرد الحكم إلى الله والرسول. وتهافت المفكرون والعلماء والساسة على الحديث عن آثار خلو المشهد السياسي العالمي لأول مرة من (الخلافة الإسلامية). وهو خلو فاجع يدمي القلوب. وفداحة الصدمة لم تتح فرصة للتأمل والتفكير، وإنما أدخلت الأمة في لجج من الفتن، وأصبح بأسها بينها شديد. والصدمة جاءت مذهلة على الرغم من أن (الخلافة) لم تكن متمشية مع المقاصد الإسلامية، ولم تكن من القوة العلمية والعسكرية والاقتصادية بحيث تمارس حقها بندّيّة، وليست منذ أن انتهت الثلاثين سنة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم متمشية وفق المقتضى الشرعي، ولكنها مع كل هذه المعوقات ظلت رمزاً ينظر إليه الكافة، كما ينظر أهل المريض إلى مريضهم، فلا يأس مع رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكان معوّلهم أن المُلك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء. وكانت الشرارة التي تحوّلت إلى ضرام كتاب القاضي الشرعي (علي عبدالرازق ت 1386هـ) (الإسلام وأصول الحكم) لأسباب منها:- أولاً:- تطرّفه في تصور الفكر السياسي الإسلامي، إذ يرى أن الإسلام دين لا دولة وعبادة لا علاقة لها بالحكومة والسياسة، وأن الرسول لم يؤسس دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يستخلف حاكماً، وما ورَّث إلا العلم. ثانياً:- أنه جاء في لحظة حاسمة، فعندما سقطت (الأستانة) تململت (القاهرة) لتتلقى راية الخلافة، فأفسد هذا الكتاب ما كان القصر الملكي يؤمّله، وبهذه الضربة اللازبة قمع الاستعمار هذا التطلع، وشغل الأمة بالجدل العقيم حول مشروعية الخلافة من خلال هذه الصنيعة الماكرة، وقضي الأمر بعد اتفاقية (سايكس بيكو). ثالثاً:- يعد الكتاب لعبة استعمارية للحيلولة دون التفكير بالخلافة من جديد، ومن ثم أصبح بداية حرب كلامية وتطرّف فكري مازال العالم الإسلامي يتجرع مرارته إلى ما بعد يومنا هذا. رابعاً:- الظروف التي خرج فيها الكتاب ظروف استثنائية، فسقوط الخلافة أحدث فاجعة، أفقدت العلماء صوابهم، حتى حكموا بعودة الجاهلية الأولى، وتطرّف بعضهم بتكفير المجتمعات الإسلامية، لأنها استكانت، ولم تبايع خليفة، يحكم بما أنزل الله، ويرفع راية الجهاد لمواجهة (العلمانية) التي التبست مقتضياتها في أذهان الخاصة والعامة، وأصبح القول فيها محور أي (أيديولوجية) أو تنظيم حركي. ولقد سبق هذا الكتاب كتاب يتناول إشكالية الخلافة للعلامة السلفي (محمد رشيد رضا، ت 1354هـ) (الخلافة أو الإمامة العظمى) ولكنه لم يثر من الجدل ما أثاره كتاب (علي عبدالرازق)، ذلك أنه جهد تطوعي، فيما جاء كتاب (عبدالرازق) جهداً تآمرياً, وإن قيل بأنه عمل صالح ضد تآمر المستعمر مع القصر بنقل الخلافة، ولو دخلنا في دوامة القول ونقيضه لبعدت علينا الشقة، ذلك أن بوادر السياسة كما آثار محترفي الإجرام تكون مطموسة المعالم، ودليل ذلك أن المؤلف لم يكن من ذوي الفكر السياسي، وما كان متوقعاً من مثله اجتراح مثل هذا العمل الجريء الخارج على كل الأعراف، حتى لقد وجّه الاتهام لمن هو أهل لمثل هذا التآمر وهو (طه حسين) إذ أشيع أنه هو المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب الضجة. وفي تلك الفترة بدأت التحولات على مختلف المستويات، فعلى المستوى الاجتماعي كان (قاسم أمين)، وعلى المستوى الحضاري كان (طه حسين)، وعلى المستوى المرجعي كان (أبو رية) وما من قضية كبرى إلا ولها متمردها. والمتابع لإفرازات الكتاب يقف على فرضيات متعددة، تدل على أنه عمل يكمن تحت سطوره عفن المكر الاستعماري. لقد تصدت له طائفة من العلماء والمفكرين أمثال (محمد الخضر حسين، ت 1377هـ) و(محمد بخيت المطبقي، ت 1354هـ) واقتصر جهدهما على نقض ادعائه، ولم يستدعيا ملابسات المقترف. فالإشكالية لم تكن حول اختلاف المفاهيم، وإنما هي حلقة من حلقات المؤامرة الكبرى التي لمَّا تزل تخلع قناعاً وتلبس آخر ويتعاقب عليها متمردون لوجه الرحمن أو لوجه الشيطان. هذا التطرف في الآراء حول القضايا المحورية المصيرية أدخل الأمة في دوامة لا توقّف لها، وبهذه الآراء المتضاربة فُقدت (الوسطية) وحل محلها الغلو والتطرف والتنطع، وهذا الغلو نسل منه تطرف مضاد، ولكل رؤية وسط وطرفان، ولكل رؤية أشياع وأتباع، لا يترددون في إزهاق أنفسهم في سبيل فرض مشروعهم. وعلى مستوى الدراسات الحيادية أو المنتمية طرحت عدة مشاريع:- - مشروع (الفكر السياسي الإسلامي). - مشروع (الفكر العلماني الديموقراطي). - مشروع (الحكومة الدينية الثيوقراطية). وكل هذه الأفكار ظلت حبيسة التنظير، إذ لم يفعّل مشروع منها وفق مقتضياته، وتداولت المشاريع الثلاثة ثلاثة انتماءات كمونية: الوطنية والقومية والدينية، وتخلل ذلك وسبقته إطلاقات جائرة، تكفر المجتمعات الإسلامية، لأنها لا تحمل بيعة إسلامية، ولا تخضع لخلافة إسلامية. ولقد كانت للمفكر الإسلامي (محمد عمارة) مجموعة من المؤلفات حول هذه المشاريع حاول فيها الوصف والتاريخ والتوفيق، وفي ظل التلبس العاطفي أمعن في عقلنة الخطاب، حتى عده البعض من معتزلة العصر. ووجدت طائفة من عشاق الشهرة والمخالفة أو عشاق العلمانية المتطرفة فرصة لإشعال فتيل الفتنة، وعلى رأس أولئك المستشار (محمد سعيد العشماوي) في مجموعة من الكتب من أهمها (الخلافة الإسلامية) و(الإسلام السياسي)، والماركسي الهالك (خليل عبدالكريم) في مجموعة من الكتب المليئة بالنقد الساخر للتاريخ السياسي الإسلامي، وبخاصة تاريخ الصدر الأول. ودخلت طائفة من (الحداثويين) والمفكرين الماديين في هذه المعمعة مصعِّدة التوتر معمِّقة الصدام، جاء على رأسها (محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(علي حرب) وكل (المتعلمنين) أو (المتحدثنين) يدلون بدلوهم في الشأن السياسي ونمط الحكم والخلافة، إما بطريق مباشر أو غير مباشر. وكلما ألممت بحقل السياسة في مكتبي قلت في نفسي:- لن يجتمع الأشتات، وتمنيت لو يتعاذروا ويذهب كل طرف بما قسم الله له. وآزر هذه الأشتات مصلحيون كل واحد منهم ركب الموجة التي تناسبه، حتى شاعت مقولة:- (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، وحتى جاء من يقول مقابل مقولة:- (إن تطبيق الشرع هو الحل) (هو اللا حل ذاته)، وهذا التراشق غير المنضبط صعّد التوتر. كما أن الحِدة والحدِّيات صعدت الخلاف وعززت إمكانيات التطرف، ولو أن كل طائفة تحامت استفزاز الآخر، لكانت الأمور دون هذا التوتر. ولم يقف الأمر عند طرفي القضية، وإنما دخل المعمعة وسطاء توفيقيون أو تلفيقيون حاولوا التقريب بين وجهات النظر، دون معرفة تامة بالثوابت والمتغيرات، حتى لقد صار ضرر بعضهم أكبر من نفعه. هذا الصراع الفكري أتيحت له الفرصة ليتحول إلى صراع عسكري، وذلك بوصول بعض الطوائف إلى سدة الحكم، ولقد بلغت الأمة ذروة التوتر بتلاحق الثورات، وتعويلها على الدعم الخارجي الذي وجد الفرصة مواتية فثبّت وجوده بتعزيز الطائفيات والعرقيات والقوميات وجعل من كل ذلك ملفّات ساخنة يحركها متى شاء. وفي ظل التحكم الخارجي، واضطراب مشاريع الثوريين بين عدد من (الأيديولوجيات)، وفي درك الشقاء انحصرت كل الخطابات حول (السلطة) بوصفها الطريق الوحيد لطرح المشروع الفكري، وخرج الجيش من ثكناته، وأقبل من ثغوره، لينتزع السلطة منحياً المدنيين والدينيين، وتحول الشعب إلى غنيمة تعتورها سهام الأبناء والأعداء على حد سواء، وكم رددت الشعوب أمام مغتصبها من أبنائها:- (قفوا وقفة المعذور عني بمعزل وخلّوا نبالي للعداء ونِبالها) وفيما بين هذا وذاك التطم المشهد الفكري والسياسي بخطابات متعددة تبنّاها مصلحون سياسيون ودينيون مستقلون أو منتمون من أمثال:- (أبو الأعلى المودودي) و(سيد قطب)، ومثل هؤلاء تناولوا القضية من خلال انتماء فكري حركي معارض لسياسات قائمة، ولقد كان لمثل هذه التنظيمات دور في تنفيذ اللُّعب السياسية مواطئين أو متقاطعين، وكل لاعب محترف ينتهي بانتهاء اللعبة، وقد تكون لديه بقية من أقنعة تمد أمد بقائه على المسرح، ولمّا تزل قضية (الحاكمية) المصدر والمورد لكل مفكر إسلامي أو علماني أو متذبذب، والمختصون حول مفاهيم (الخلافة) و(الحاكمية) تجتالهم رؤى وتصورات يؤزها الضالعون في صنع اللعب والمتحكمون في مسرح العرائس. ولم تكن القضية شأن الحركيين وحدهم بل تناول الموضوع ساسة ومفكرون من خلال رؤية علمية، وما من متناول فكري أو علمي إلا وله همه ورؤيته وتشكّله الفكري وميله الفطري، فالنظرة العلمية الخالصة الحيادية غير ممكنة، ولو نظرنا إلى نقد (العقل السياسي) عند طائفة من المفكرين أمثال (محمد عابد الجابري) في مشروعه (نقد العقل العربي) لوجدنا كتابه الثالث في السلسلة يتناول الإشكالية السياسية من خلال محورين: (المحددات) و(التجليات). فالمحددات عنده تنطلق من عاملين: عامل الدعوة، وعامل الردة، ومؤداهما إلى الدولة أو الفتنة. والمشهد الفكري زاخر بالأطروحات المتفاوتة حول الفكر السياسي الإسلامي ومشروعيته، فمن منطلق من التاريخ السياسي الإسلامي، ومن منطلق من النصوص الإسلامية غير المفعّلة، ومن مجتر لمقولات المستشرقين، ومن معوّل على عصور الفتوحات الإسلامية غير مدرك لواقع الأمة، ومن مستخذٍ محبط ميْئِس. وكل الأطروحات تتنازعها الوسطية والإفراط والتفريط. نجد ذلك عند (برهان غليون) في كتابه (نقد السياسة: الدولة والدين)، وعند (خلدون النقيب) في (الدولة التسلطية)، وعند آخرين تتفاوت اهتماماتهم ومدركاتهم ك(عبدالعزيز البدري) و(يوسف القرضاوي) و(محمد الغزالي)، وآخرين ركزوا على الصراع بين الإسلام والعلمانية. وأجمل من تناول نظام الحكم في الإسلام ووفَّاه حقه وحرّر مسائله وقدّمه بحثاً علمياً متوازناً الدكتور (عبدالحميد متولي) في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) وإن كان قد توسع في الحديث عن الفقه وأصوله بوصفه آلية تحديد الخلافة ومنهجها، والمتابع للطرح الفكري والسياسي تتفرق به السبل، وإن لم يكن على بينة من دينه فإنه سيضل الطريق، وقد يقع في التطرف من حيث لا يريد. وحتى الدساتير تجد بعضها يتملق الرأي العام فيقول:- إن الإسلام مصدر من مصادر التشريع وليس هو المصدر الرئيس ولا الشامل، وهذه التعددية في المصدرية تفتح آفاقاً من العلمانية بكل ما هي عليه من اضطراب في المفاهيم. وحاجة الأمة في راهنها أن تحيد كافة الأطروحات المتشنجة والمثالية المتطرفة والصدامية المتنمرة، وأن تصرف النظر عن كافة الممارسات، وأن تسقط من حساباتها الخطاب الإعلامي التبريري، وأن تدخل معمارها القائم لإصلاحه من الداخل، فما عاد الاستبدال حلاً، وما عاد الهدم مطلباً، الإصلاح من الداخل وفي الداخل وبإرادة وطنية هو السبيل لتجاوز الأزمة القائمة، وليست المسمّيات ولا الأساليب مهمة، المهم النتائج. فإذا وجد العدل والإحسان والحرية والمساواة وإظهار الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثمة الحكم الإسلامي، وليكن النظام: ملكياً أو جمهورياً أو سلطانياً أو إماراتياً شورياً أو (برلمانياً) اختيارياً أو انتخابياً استخلافاً أو غير ذلك. العبرة بالمصائر، وما يتوفر للشعوب من حقوق مشروعة. وأخطر ما تواجهه الأمة جماعات الضغط (المؤدلجة) المسيّسة، والجماعات المنازعة للسلطة من وراء قناع المعارضة المشروعة، والناكثين للعهد المفارقين للجماعة تحت أي مسمّى. وكأني بالخلافة الأزمة كمعدة الجسم الإنساني التي هي (بيت الداء).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:53 PM | #149 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ابن إدريس ناقداً..! 1-2
د. حسن الهويمل 1-1 الدهماء من الناس من يظن أن المحتفى به لا يستوفي متطلبات التكريم حتى يكون الأول في كل شيء. وفي ظل تلك الرؤى حُجبت المعرفة، وأفل العلم، وحل محلهما الثناء والمجاملات. وليس ذلك وليد الساعة، وإنما هو خليقة عرفها الباحثون عن الحق. وما على المتردد إلا أن ينقب في (كتب المناقب) و (سير أعلام النبلاء) ، و (تاريخ الرجال) ، ليرى ما لا يمكن توقعه من مبالغات قد تُخرّف القضايا وتؤسطر الرجال. ولما كنت ممن يُدعى إذا حيس الحيس وإذا تكون كريهة للحديث عن الرواد المكرمين أو المؤبنين، فقد روضت نفسي على مواجهة المواقف بأسلوب وسطي، يحفظ التوازن بين (الحق) و (الحقيقة) ف (حق) المحتفى به أن نلتمس أحسن ما عنده. و (الحقيقة) ألا نقول عنه إلا الحق. وإذ يود المحتفون بالأديب (ابن ادريس) تسليط الضوء على جوانب متعددة من منجزاته، فقد وكل إليّ تناول حظه من النقد. و (النقد) مصطلح يقتضي الجمع والمنع، ولا يؤتاه إلا من كان متوفراً على مقتضياته: المعرفية والمنهجية. والقول عن نصيبه منه، يستدعي استعراض ما أنجز من أعمال نقدية، وتمريرها على أدنى حد من المقتضيات، فإن توفر عليها، كان ناقداً فاضلاً، وإن كان على شيء منها كان ناقداً مفضولاً. ولأن المتحدث عن الشخصيات والظواهر والقضايا يُري نفسه الآخرين، مبدياً من خلال حديثه مبلغه من العلم، ونصيبه من المصداقية فإنني سآوي إلى وثائق تعصمني من التجهيل أو التكذيب، وتنجيني من مغبة المجاملة أو معرة التحامل، إذ لو تصورت النقد على غير ما هو عليه لكنت جاهلاً في نظر العالمين، ولو قلت عن المحتفى به غير الحق لكنت كاذباً في نظر العارفين، وفي الحالين لا أفيد المحتفى به شيئاً، ولا أحفظ ماء الوجه. والاستاذ عبدالله بن عبدالعزيز بن ادريس خلَّف وراء ظهره فيوضاً من القول الأدبي المعهود في الأذهان، والمطبوع في الكتب، ولا أحد منا يملك إنكار شيء منها، ولا إضافة صفة لا يحتملها شيء منها، وليس بيد أحدنا أن يحمل تاريخ الرجال ما يريد، ولا أن ينزع منه ما لا يريد، فلقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وإن كان ابن ادريس حاضراً بيننا، يقول، ويفعل، ويملي فصول حياته الأخيرة التي نرجو له فيها إنْساءَ الأجل، ومزيد العمل، فإنه وبعد هذا العمر الحافل بالأداء قد استقر في الأذهان منذ بوادره الأولى: شاعراً جزل العبارة، وناقداً حاد النبرة. ولمَّا تكنْ صلتي به طوال هذه المدة مقطوعة ولا ممنوعة. فلقد عرفته وأنا طالب يبهرني كل شيء، كان يومها في نظر لداتي الشاعرَ الذي لا يطاول، والأديب الذي لا ينازع، والصحفي الذي لا يبارى، والناقد الذي لا يجارى. ونمت معارفي، واتسعت مداركي، واقتربت منه: ذاتاً ومضموناً، وشبت رؤيتي عن الطوق، وتنوعت اهتماماتي، وتعددت قراءاتي، فكان واحداً من عشرات الكتّاب والشعراء والنقاد الذين يؤخذ من قولهم ويترك، وتخطى بي الزمن لأكون الصديق والزميل، وتوثقت الصلات، وتعددت اللقاءات، وتجاوزنا معاً مرحلة المجاملات، وما عاد أحد منا ينتظر من صاحبه إلا قول الحق، وفوق كل ذي علم عليم. ولأنه شاعر وأديب من بلادي، فقد كان قدرنا معاً أن يكون مادة بحث ودراسة، فاهتمامي بالأدب السعودي فرضه علي موضوعاً. تناولته شاعراً في رسالتي للماجستير وللدكتوراه، وتناولته ناقداً فيما كتبت من مداخل لدراسة الأدب السعودي. ومَوْضعة الذات تغيب العلاقات والمجاملات، بحيث يصبحُ الإنسان شيئاً من الأشياء، يقول عنه الدارسُ ما يقوله عمن سبقه من شعراء أو كتاب، لم يرهم من قبل، وإنما نفذت إليه أقوالهم وما قيل عنهم، مما حفظه التاريخ، فشعراء الجاهلية والإسلام، والمعاصرون من مبدعين ونقاد، أصبحوا خبرا بعد عين، ومواضيع يختصم حولها من بعدهم. وابن ادريس الذي ترك السرى خلفه، وخلا بأعز جليس، تحوّل منجزه الكلامي إلى موضوع، يملك كل قارئ حق التعبير عما يراه إزاء ما يملك من وثائق. وهنا وفي ظل هذه الحيثيات والمسوغات، عدت قارئاً جديداً لما سبق أن قرأتُ عنه وله، ولما سبق أن كتبتُه عنه في غيابه. وليس من السهل في هذا الموقف أن أبذل القول غير القول، ولا أن أملك حرية القول في لحظة احتفاء واحتفال. والرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (إن من البيان لسحرا) إنما استدعاه لهذا القول متحدث عن (الزبرقان) - فيما أعلم - رضي المتحدث عنه فذكر أحسن ما يعلم، وفي ذات الموقف سخط عليه فذكر أسوأ ما يعلم، ومع ذلك أقسم أنه صدق في الأولى، ولم يكذب في الثانية. والمتحدث ذو أحوال ثلاثة: - إما أن يكون راضياً أو ساخطاً أو طالباً للحق، لا يدفعه رضا ولا يثنيه سخط. وكل حالة توجه المسار. ومع كل هذا فإن القول عن أي ظاهرة محكوم بانتماء المتحدث فكرياً وبرؤيته فنياً وبإمكانياته معرفياً. ومن ثم فليس هناك قول فصل، ولو آمنا بالحدِّية لكنا قد فرغنا من شعرائنا وكتابنا منذ أمد طويل. والحديث عن ابن ادريس في جانب من اهتماماته الأدبية يحفزنا إلى استكناه ذلك الجانب مفصولاً منه، حتى إذا تصورناه نظرنا إلى مبلغه فيه. و (النقد) له سياقه المحلي والعربي، وله مذاهبه وتياراته وآلياته وتحولاته، وللنقد المحلي ريادته وتأسيسه وانطلاقه، وله رواده ومؤسسوه، ولكل ناقد مرجعيته واهتماماته، وابن ادريس في هذه المعمعة واحد من الدارسين والمؤرخين، وما من متعامل مع الحركة النقدية في المملكة إلا ويعرض له متفقاً أو مختلفاً معه، ويكفي أن يكون جزءاً من التاريخ الأدبي، والحديث عن النقاد يقود إلى الحديث عن النقد، وهو مصطلح قائم بذاته تتنازعه ثنائية: التطبيق والتنظير، وتتجاذبه الآليات والمناهج والمذاهب، ويختلف المؤرخون والمنظرون للنقد حول من يدخل فيه. ومن لا يدخل، فمتى يكون الكاتب ناقداً أو مفكراً أو فيلسوفاً أو مثقفاً أو مبدعاً، ومتى لا يكون؟ ومتى يستحق الجمع بين سمتين؟ وابن ادريس أبدع الشعر، وكتب النقد، ونازع في امتلاك السمتين، ولكنه لم يفرغ لواحدة منهما، وأخشى أن يكون قد سوِّد قبل أن يتفقه، ومع ذلك فقد أخرج للناس كتباً في الإبداع وأخرى في النقد، وحفز الدارسين والنقاد لقراءة شعره وتحديد مذهبه النقدي، ومهمتنا أن نعرف مبلغة مما نحن بصدد الحديث عنه وهو (النقد) . 2-1 والسؤال الملح: يحدونا إلى التساؤل عن مكانته في سلم النقد وأنواعه، فهل عبدالله بن ادريس (ناقدٌ) أو (مؤرخ أدبي) ؟. وحين نسلم بإحدى السمتين أو بكلتيهما، فأي السمتين الصق به: النقد الأدبي بقسميه: التنظيري والتطبيقي. أو التاريخ الأدبي بقسميه: الرصدي والوظيفي؟ وهل المؤرخ الأدبي يعد ناقداً؟ وهل مَن كتب في موضوعات الإبداع القولي، يعد ناقداً؟ وهل الانطباعية والذوقية منهجان من مناهج النقد؟ إننا أحوج ما نكون إلى تحرير (مفهوم النقد) ، وتحديد مستوياته وأنواعه قبل وضع الشخصية المدروسة في موضعها الطبعي. وأعيذها نظرات صائبة من المتلقي ان يحسبني أفتعل دوامة كلامية، وأثير غبار الاحتمالات، لأتسلل لواذاً كاتماً ما أرى، كمؤمن آل فرعون، ذلك أن الأمر لا يحتمل مثل هذه التحفظات، فمن جعل ابن ادريس ناقداً وجد ما يعزز به رأيه، ومن قصره على التاريخ الأدبي أو الانطباعية أو الذوقية وجد ما يدفع به غوائل المؤاخذة. ولا استبعد أن تكون مَوْضعةُ ابن ادريس إشكالية، فالنقاد الأكاديميون لا يتفسحون لغيرهم في مجالس النقد، لتعويلهم على المنهج الصارم والخطة الدقيقة، والنقاد المتضلعون من فيوض النقد الغربي الحديث وتحولاته يرون النقد علماً ومعياراً، والنقاد الشعراء ومنهم ابن ادريس يعدون أنفسهم أبناء بجدة النقد، يوم كان الزمان زمان الشعر، ولما يزل في كؤوس الجدل بقية، وقد نخرج من جدلنا هذا بإضافة إشكاليات جديدة. لقد عرفت ابن ادريس منذ خمسين سنة يوم كنت طالباً في الصفوف التمهيدية، كان ذلك عام 1374ه، وكان يومها مفتشاً ملء السمع والبصر. وقرأت له منذ أربعين سنة، حين أخرج للناس كتابه (شعراء نجد المعاصرون) وأحدث به ردود فعل واسعة، وقدم به مرجعية تهافت عليها عدد من الدارسين. وتناولته ناقداً وشاعراً منذ ثلاثين عاماً، حين باشرت في إعداد رسالتي للماجستير، وعدت اليه قبل خمسة وعشرين عاماً حين درسته في رسالتي للدكتواره، ولما يزل يتقلب بين يدي موضوعاً في قاعات التدريس، وصالات المناقشة، ومنابر المنتديات، أكتبه موضوعاً لدراسة أعدها، وأقرؤه موضوعاً لرسالة أناقشها. يرفعه قوم، ويضعه آخرون، ويتفق معه ناقد، ويختلف معه آخر. وما من أحد نفى شاعريته، ولا أنكر منجزه النقدي، وإنما الاختلاف حول قيمة هذا المنجز، وتصنيفه، وتوصيفه وموقعه في سياقه. وإذ نكاد نتفق على انه شاعر وناقد، يظل الخلاف محصوراً في مبلغه من الشعر والنقد، والمريح إنه لم يظفر أحدٌ من الناس بالإجماع على مبلغه في أمر من أمور الأدب والفكر، فالنقاد قد يتفقون على السمة، ولكنهم يختلفون على مبلغ الانسان منها، فهذا (المتنبي) ، مالئ الدنيا وشاغلُ الناس، النائم عن شوارد شعره، والمسهر للخلق، وخالق الخصومات منذ ألف عام أو تزيد، يختلف الناس حوله، وكلما تعمقت الخلافات عظمت الشخصية، وتكرس حضورها، والناس لا يختلفون إلا حول المتميزين، فهاكم (أبا العتاهية) يمر به القراء مر الكرام مسلمين بشاعريته، فيما يطيلون الوقوف حول (المتنبي) ثم لا يسلمون بشاعريته، وبين الاثنين مثلما بين الثرى والثريا. وقد قيل: أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري. 3-1 ولسنا بهذه الاستهلالات نريد النفاذ من هذا المأزق، ولا نريد خلط الأوراق، وإنما نود أن نثبت أفئدة المتلقين، حين لا نتفق مع ابن ادريس أو حين لا نسلم بما سلم به غيرنا، على أننا جميعاً لا نقول إلا معاراً أو معاداً من أحاديث مكررة. والحديث عن الناقد يقود إلى إشكاليات النقد ومفاهيمه المتعددة، والناس بعد تحولات النقد وحدوث متغيرات في الآلية والمنهج والمقاصد غيروا من مفاهيمهم، واضطروا إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وأبعد بعضهم النجعة، حتى لكأنك مع بعضهم في ملاعب جنة، لو سار فيها سليمان لسار بترجمان. ذلك أن النقد اليوم غيره بالأمس، ولما يعد الوقت وقت مسلمات ونمطيات، والتسليم بكل التحولات يجعل من الأكثرية كتبة في الادب ليس غير، والخلطة النقدية مع الغرب غيرت المفاهيم والاهتمامات، وقلبت الأوضاع رأساً على عقب، ومذاهب النقد الحديث وظواهره كادت تطمس معالم النقد العربي القديم. والمنظرون للنقد الحديث نفوا من مدينة النقد من كنا نعدهم من رواد النقد وعمده، والدراسة المنصفة لأي شخصية من تأخذه في سياقه وإمكانيات مرحلته، ومن الخطيئة التخطي بمعطيات المرحلة وتقويمها على ضوء الإمكانيات القائمة. وحين لا نسلم بالتخطي والابتسار نسلم بما يعتري الحركة النقدية من تحول مستمر، ولكل زمان نقده ونقاده، ومن يعش منا فسيرى اختلافاً كثيراً، والمؤصل من يستوعب التراث والمعاصرة، ويؤاخي بين القديم والجديد، ويختط لنفسه طريقاً قاصداً، لا يفصله عن تراثه، ولا يحرمه من مستجدات العصر، وتلك معادلة صعبة ومعقدة، وليس لها ضابط متفق عليه، ولكن الحق أبلج، ولا مجال للتَّغنُّص، وعلى طلاب الحق ألا يستزلهم المستغربون، وألا تثبطهم عقدة الأبوية، والرحيل إلى التاريخ، والمتمكن من لا يستسيغ إلا ما افترس من رؤى وتصورات، فانتظار النوال، والاهتياج الأعزل في وجه كل جديد مضيعة للجهد والوقت، والتولي عند مواجهة الآخر تخلية لثغور الحضارة، ومن الخير للأمة أن يرحب صدرها لكل طرح، ولكن في إطار ما يتطلبه الوجود الكريم، وما يحقق الهوية، ويحافظ على الخصوصية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 02:54 PM | #150 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ابن إدريس ناقداً..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ولأن لحظات الاحتفاء ستنتهي، وتظل وثائقها. وما يصلح لزمن الاحتفاء قد لايصلح لما بعده، ولأن الحديث مقتصر على جانب النقد في حياة ابن إدريس، ولأن ابن إدريس لم يفرغ للنقد، ولم يشغل نفسه به، ولم يرد أن يكون ناقداً لا يبرح سوحه إلى غيره، فقد كان لزاماً علينا التحرف لنجوة من وقتية المناسبة، والالمامات غير العازمة. لقد كان الشاعرَ والكاتبَ والناقدَ والصحفيَّ والإداريَّ، فكان كما جسم المتنبي موزعاً في جسوم كثيرة، اشتغل في الصحافة محترفاً وكاتب مقال، واشتغل في كافة الأعمال الإدارية يتقلب معها، واشتغل في الشعر مبدعاً لا يلم به إلا حيث تحفزه مناسبة أو يثيره موقف. وكان اشتغاله في النقد مثل اشتغاله في الشعر ثانوياً، ولم تكن له عزمات جادة. ومع كل ذلك، فقد وثّق خطراته النقدية، ما كان منها عن جد وقصد، وما لم يكن عن جد وقصد. وما كتبه من دراسات تاريخية أو نقدية ينمّ عن وعي بما يدور في كافة المشاهد الأدبية، وإن جاءت إلماحاته النقدية مدفوعة بمناسباتها. ولكننا مع كل ذلك أمام عمل أدبي رائد، وظّف فيه كل خبراته وإمكانياته، وارتبط اسمه به، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إنه عرف به، ذلكم هو كتابه (شعراء نجد المعاصرون) ومع أنه من بواكير إنتاجه إلا أنه ظل الأكثر حضوراً، ولربما كان العملَ الوحيدَ الذي نفلَه جهدَه، وفرغ له، ولقد كانت لي معه وعنه أحاديثٌ خبرت بها لماذا بادر إلى التأليف، ولماذا فرض شرطه الفني والدلالي على الشعراء المترجمين، ولماذا أراد له أن يظل كما هو، لايضيف إليه، ولا يحذف منه. ولقد أشرت من قبل إلى الخلاف القائم بين منظّري النقد في تصنيف النقاد. فقد يتردد البعض منهم في عدّ المؤرخين والمترجمين وأصحاب المختارات من النقاد. ويبالغ البعض حين يجعل النقد موهبة كالشعر، بحيث لا يكون كلّ من كتب في الدراسات النقدية ناقداً، وفي مقابل المضيِّقين لدوائر النقد، نجد آخرين يتوسعون في مفهومه، فيجعلون أصحاب المختارات والموسوعات والتراجم والدراسات والتحقيق نقاداً. والنقد الحديث الذي ركن إلى العلمية والمنهجية، لم يحفل بالذوقية ولا بالانطباعية، والشعراء النقاد يميلون كل الميل إلى التذوق والانطباع ويدَّعون القدرة النقدية، فهم أهل الشعر وخاصته، وهم الأدرى بما فيه. وأمام هذه التصنيفات نجد أنفسنا بحاجة إلى أن ننتزع الاعتراف بأن ابن إدريس ناقد. وليس شاهدنا في ذلك ما كتبه من تراجم ومختارات وخطرات نقدية غير عازمة، ولكن لما ينطوي عليه من استعداد مبكر للنقد، ولما قدّمه فيما بعد من خطرات تؤكد أهليته لذلك. ولا أحسبنا بحاجة إلى مزيد من المنافحة حول هذا الموضوع، والذين لا يعدّون المتذوقين نقاداً، لهم بعض الحق، ولكن الناقد الذي تجاوز التذوق والانطباعية أو تجاوز بهما يمتلك آلية النقد ومنهجيته، والمحدثون من المنظّرين للنقد لا يعدّون من قَصَر قراءته على التذوق الأدبي ناقداً، ولا من كتب في تاريخ الشعراء، وتلك رؤية قائمة لها أنصارها. وابن إدريس المتفاعل مع المشاهد الشعرية والنقدية يفرق بين (الذوقية) و(الانطباعية) من جهة وبين العملية النقدية بعلميتها ومنهجيتها من جهة أخرى، ويعترف باعتماده على الذوق، وهو يعي تماماً أن الذوقية مباينة لمناهج النقد الحديث، قال هذا في كتابه (كلام في أحلى الكلام)(ص9) وأحسب أن الناقد الشاعر غيرُ الناقد العالم، وقد يُدِلُّ الشعراء النقاد بمعرفتهم النقدية، وتلك ظاهرة واكبت حركة الشعر العربي القديم والحديث، وابن إدريس في باكورة انتاجه النقدي (شعراء نجد المعاصرون) ناقدٌ متذوقٌ ووصَّافٌ وحكميٌّ وانتقائيٌّ ومؤرخٌ أدبيٌّ. تفلَّت من إسار التاريخ الأدبي، وتجاوز متطلبات الترجمة، ولم يكن متذوقاً ولا انطباعياً وحسب، وهو في كتابيه (كلام في أحلى الكلام) و(عزف أقلام) متذوق وانطباعي، يسجل انطباعاته عما يقرأ، وإن كانت له مناوشات مع لداته في (عزف أقلام) والمتابع لكتاباته يدرك وعيَه المبكّر للمتداول من القضايا والظواهر، وقد نفذ كثيرٌ منها عبر شبات قلمه، ولكنه لا يريد أن يكون مع أحد من النقاد، مثلما أنه لم يكن الناقدَ المخلص للممارسة النقدية، وما أحسبه فرغ له، ولا حبس نفسه لشيء من ذلك، وإنما يلم به متى شاء أو متى أثير. ولكي أدلل على وعيه بالظواهر والمذاهب النقدية أشير إلى كتابه الأول (شعراء نجد المعاصرون) لقد ألّفه والمشهد النقدي المصري حفي بمذهبين نقديين: الاتجاه النفسي الذي يتزعمه (عباس محمود العقاد). والاتجاه الاجتماعي الذي يتزعمه (طه حسين). والمشهد النقدي اللبناني حفي (بالرمزية) فيما يأتي أوزاع من النقاد العرب في مصر والشام والعراق تتنازعهم الاهتمامات. والشعراء في نجد يصيخون هذه الظواهر، ويأخذون ببعضها، والنقاد الواعون للمتغيرات يرصدون تلك التحولات، وابن إدريس بحسّه وعلميّته رصد تلك الظواهر، وتلمّسها في شعر الشعراء المدروسين، وما على المتابع إلا أن يتأمل إشاراته الخاطفة في تراجمه للشعراء الثلاثة والعشرين الذين قدّمهم واختار لهم، ليرى أنه عوّل كثيراً على معطيات الاتجاهات النفسية والاجتماعية والرمزية. فهو حين تتبدّى نزعة دلالية عند شاعر نجدي، يلوذ بالحالة النفسية أو بالوضع الاجتماعي، ويحيل إلى أحدهما، فعل ذلك مع (عبدالله الفيصل)، ومع (حمد الحجي)، ومع (صالح العثيمين)، وتلمّس رمزية (بودلير) عند (محمد عامر الرميح) و(المنصور) ولأن المشهد الأدبي في مصر يوغلُ في الحديث عن (الواقعية) بكل تنوعاتها، وهو قد شارف على النهاية من حديثه عن (الرومانسية) فإنك تراه يقبض طائفة من الشعراء ليلحقهم في حقل الواقعية، ويمارس الفعل ذاته مع (الرومانسيين) وحين تشغله الدلالة فإنها لا تلهيه عن الفنّيّات: الشكلية واللغوية، وله في الظاهرتين كلام مفتوح، أقرب إلى التنظير، وألصق بالرؤى العامة غير المحررة، وما من أحد ندب نفسه لقراءة الحركة النقدية في المملكة إلا وعوَّل على كتاب (شعراء نجد المعاصرون) فهو لم يكن للترجمة وحسب، ولم يكن اختياره للشاعر ولنماذجه المختارة عفوياً ولا عشوائياً. لقد كان واعياً للمهمة النقدية، ومدركاً لشرطه الفني والدلالي، ولهذا صرف نظره عن طائفة ممن يعدّهم الوسط النقدي شعراء، ترجم للشاعر (محمد بن عثيمين) ولكنه لم يترجم للشاعر (محمد بن بليهد)، وهو شاعر له ديوان مطبوع، وأقيمت من حوله وعليه دراسات قطعت بشاعريته، وكذلك فعل مع (سليمان بن سحمان) صاحب المطولات الذي دُرس أكاديمياً كذلك، وكان بإمكانه أن يلملم طائفة من قصائد العلامة (حمد الجاسر)، ويجعله شاعراً من شعراء نجد، غير أنه لم يفعل، وهو قد سبق في تحفظه على شعر المناسبات، وتعويله على شعر المواقف والقضايا، وضوابطه تلك أعطت كتابه قيمة فنية ودلالية، وأثارت من حوله زوبعة من النقد، وتخطت به وهاد الجمع والترجمة إلى نجاد الدراسة والتصنيف، ولفتت أنظار كبار الأدباء والنقاد إلى كتابه أمثال (العقاد) و(مندور). وكتاب ابن إدريس (شعراء نجد المعاصرون) له قيمة سياقية وتاريخية تحولان دون المساس بسائر القيم. وتحولات النقد وإمكانياته المعاصرة لا تمس الأعمال الرائدة بسوء، ولا تقلل من أثرها في مرحلتها، لقد أدت ضوابط التأليف عنده إلى إعادة التفكير بالمواقف والمثيرات والأغراض والمعاني، وهذا بحد ذاته مؤشر وعي للعملية الإبداعية والنقدية على حد سواء، وليس هناك من بأس حين نتقرى همومه وهو ينقّب عن الشعراء وشواهد الشعر عندهم أن نسوق مقولات تُجمل رؤيته، وقد تصل إلى الجملة المفتاح، كما يقول أحد الدارسين، فهو يقول عن الشاعر (صالح بن عثيمين) (شاعر يقف على الأعراف) وعند حديثه عن (عبدالله الجهيمان) يمارس المراوغة الذكية، ويصف شعر (المنصور) (بالتشخيص الأسطوري) ويقول عن رمزية الشبل: بأنها الايحاء والإبهام والغموض، وليست رمزية مذهبية. وقد عاب على (العيسى) ذاتيته، كما أشار إلى علاقة العروض بالمشاعر عند دراسته (لأبي أحيمد) وتلك قضية لم تحسم بعد، ووصف شعر (الفيصل) بالعفوية وشبوب العاطفة والتصوّف، فيما وصف شعر (عبدالله العثيمين) بالسلاسة والعمق والاتساق، وقال عن شعر (الحجي): - إنه يمتاز بالرواء والتناسق. ومع وقوعه في الإطلاق والتعميم إلا أن مقولاته تلك مؤشرات إيجابية. ولو تعقبت أحكامه على شعر الشعراء لأتيت على كل المتداول من الأوصاف، وإطلاقاته ليست اعتباطية. وعندما نهض للترجمة والاختيار اشترط (التأثير والموسيقية والتصوير والتعبير والخيال والعذوبة والتدفق الشعوري وعمق الإحساس)، وتلك السمات التي وضعها كشرط أساسي، ألحق بها (البناء العضوي للقصيدة) و(الصياغة) و(الصورة الشعرية). وقد جعل كتابه في قسمين: قسم للدراسة، تناول فيه نشأة الشعر وتطوره، ومركز نجد في الشعر، ومكانتها في النهضة العربية، ورصدَ للشعر في تلك الحقبة، وتحدث عن الشعر المعاصر وعوامل تطوره، ثم ناقش الاتجاهات الشعرية. ومن تلك الرؤى انقدحت عندي فكرة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) والتي تحولت إلى موضوع أكاديمي، نوقش وطُبع وأصبح كتاباً يقرؤه الناس، فيسخر به بعضهم ويعجب منه آخرون. وحين أنجز المؤلف قسم الدراسة، لم يكتف بالترجمة والاختيار، وإنما التمس لكل شاعر مذهباً أو خصوصية، فكان بذلك المترجم والمصنّف والناقد والمختار. بهذه الإلمامة العجلى تتبدى لنا ملامحه النقدية من خلال كتبه الثلاثة التي وعت ما رضي عنه من قول في الأدب يدخل به مشاهد النقد بالاتفاق أو بالتغليب، ثم يكون الاختلاف على أشده حول موقعه داخل المشهد.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 06:46 PM | #151 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تداعيات القراءات الدمشقية..! (1ـ 2)
د. حسن بن فهد الهويمل كنت كلما هممت بالسفر، تذكرت رحلات (طه حسين) السنوية إلى (فرنسا)، مع زوجته (سوزان) التي أصرت على البقاء على دينها وعلى لغتها الفرنسية. وشدته بأمراس كتان إلى صُمِّ حضارتها، فكان بذلك إمام المتهافتين على (الفرانكفونية) يستقبل بهم شواخصها. وتذكرت انتقاءه لما يعن له من كتب أدبية أو فكرية أو إبداعية، والفراغ لسماع قارئه، وهو يترنم بالشعر على جبال (الألب)، ثم الخروج بجهد تأليفي، يكون ثمرة السياحة. وأهم معطيات تلك الخلوات المزعومة، ما تمخضت عنه تلك الرحلة التي صحب فيها ديوان (أبي الطيب المتنبي) دون أن يصطحب ما عنده من دراسات وشروح، كان قد ألمَّ بها في عامه الدراسي، لكيلا يعول فيما توصل إليه على شيء منها، ولهذا اقتصر جهده في كتابه (مع المتنبي) على الإملاء، لا يتوقف فيه إلا لضرورات الحياة. ولم يتردد في إهدائه إلى تلك الزوجة الصابرة المشفقة الراحمة - على حد تعبيره -. وسواء صدق فيما يدعي، ام لم يصدق، فقد جاء الكتاب مثيراً وممتعاً ومغالطاً في آن، لا تمل من قراءته، ولا تود مسايرته فيما يذهب إليه من قراءة ذوقية انطباعية، فيها شيء من التعنت والإصرار والتحامل. و(طه حسين) حين يقدِّم أعماله إلى الناس، لا يتورع عن اللعب بعواطفهم، وإثارة فضولهم، وشد انتباههم. ومن يقرأ الاستهلال لا يجد بداً من قراءة الكتاب، وأكبر الظن أنني قرأته مرة أو مرتين ومازلت أغالب الشوق إليه والشوق أغلب. وإذ يريد من كتابه غمط المتنبي، وتزهيد الناس فيه، فإنه أدهى وأمكر من صاحبه (القصيمي) الذي لا يتقي، ولا يداري، ولهذا طُويت كتبٌ كثيرة عن المتنبي، وبقي كتابه متداولاً، غير أن المفاجأة المثيرة ما خرج به تلميذه العنيد (محمود محمد شاكر) مدعياً أن (أستاذه) سرق كتابه عن المتنبي، كما سرق رؤية (مرجليوث) في الشعر الجاهلي ومنهج (ديكارت) في الشك.. ولأنني في أمر مريج من هذا الاتهام فإنني لم أكلف نفسي عناء الحصحصة، وإن كان فيها ما فيها من اغتلاب الارتياب؛ ذلك أن ما بين الكتابين مختلف جداً، فكتاب (طه حسين) تغلب عليه الانطباعية والإبداعية والمراوغة والتماكر والغمز واللمز، فيما تغلب على كتاب (شاكر) العلمية والتمحيصية والترجيحية بين سائر الأقوال. وكتاب (شاكر) هو الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية، وما كان يومها حفياً باختيار هذا الكتاب دون ما سواه من كتب أنضج وأعمق، فكتابه عن المتنبي كان في شرخ الشباب، وكانت له كتب وتحقيقات تراثية تفوق ما كُتب عن المتنبي، ولهذا نقد لجنة الاختيار والتحكيم بإيماءة ذكية، وظن الناس يومها ان قوله هذا من باب التواضع أو المزاح، وما عرفوا أنه يعتب على لجنة التحكيم اختيار أقل كتب شأناً. والكتابان يلتقيان عند نقطة حساسة، تتعلق بنسب المتنبي، ثم يفترقان إلى أبعد حدود الافتراق، وما كنت معنياً الآن - على الأقل - بتقصي ما انطوى عليه الكتابان من آراء ممحصة أو مرتجلة، منصفة أو متحاملة، وبخاصة ما يتعلق بالنسب، والعقيدة، واضطراب المواقف، والمبالغة في كل أغراض شعره. لقد اضطربت الأقوال حول (نسبه) و(قرمطيته) و(تنبئه) وحق لها أن تضطرب، ومازال فيها بقية لمريد. وما من متحدث عن (المتنبي) لا تثبِّت قواعده غزارة المعارف، ولا تكبح جماح عواطفه نوازع العدل والإنصاف، إلا ويكون مجال التندر والسخرية؛ فالمتنبي كالبحر اللجي، إن خضت في شاعريته أو في أخلاقه، أو في نسبه، أو في عقيدته، غرق زورقك، وتكسرت مجاديفك، ومن ثم لابد للخائض في لججه من الفلك المشحون بالمعارف. وما أكثر الذين يحسبون ورمهم شحماً وبعرهم درراً، لفظتهم أمواجه كالزبد الذي يذهب جفاء، وقليل من المتحدثين عنه قالوا ما ينفع الناس، فمكث كما تمكث البذرة في الأرض الطيبة، ترقب موسمها لتنشق عنها التربة بأطيب الثمار. وما أكثر ما ينتابني الشوق إلى الحديث عن (إشكاليات المتنبي)، وعن تعدد الرؤى حوله عند ناقديه في القديم والحديث، بحيث لا يكون التقصي رصداً إحصائياً وصفياً على شاكلة ما كتبه أستاذنا الدكتور (محمد عبدالرحمن شعيب) في دراسته الأكاديمية (المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث). وإذ يكتفي (القعيد الأعمى) بحمل كتاب لا يبرحه حتى يأتيه من أقطاره، فإنني ملول، لا أصبر على كتاب واحد، وليس من عادتي حين أبرح أرض بلادي أن أكتفي بما أحمله من كتب، وإنما اختلس شطراً من الوقت، وأزور ما تيسر من المكتبات، لأشتري منها أحدث الإصدارات في مختلف المعارف، ثم أطويها قراءة عجلى، تأخذ كل مستويات التلقي، فإذا اكتشفت في شيء منها تسطحاً أو ادعاء، تركتها حيث أقيم، مع ما يتركه كل مبارح من نفايات، محتسباً أجر الجهد والمال والوقت على الله. ولا يدخل في القبول أو الرفض اختلاف الآراء، فما كنت لأحفل بشيء حفولي بالذين يتحدون إمكانياتي، وما استأت من شيء استيائي من جهد قرائي لا يضيف إلى معارفي معارف، أو لا يضطرني إلى التحيز أو التحرف أو إرجاع البصر مرة أو مرتين لاختراق أجواء الكاتب الفكرية. وكم تخادعني العناوين وجودة الاخراج، فأنخدع، ودور النشر تبدع في ذلك، ومن ثم يقع في حبائلها الذين لا يعدلون بالكتاب شيئاً:- (وخير جليس في الزمان كتاب). وكم من كاتب متسطح لا يؤبه به، نفذ من خلال خداع العناوين وحسن صناعة الكتاب، مستخدماً جرأة بعض الناشرين. وها نحن نسمع بين الحين والآخر عن إصدار دراسة أو مجموعة إبداعية: شعرية أو سردية خارج البلاد، ويكفي المؤلف أو المبدع أن يقول: طبع لي كتاب في (بيروت) أو في (المغرب)، وكأن دور النشر في بلادنا زامر حي لا يطرب. وفي كل مكتبة أدخلها أسأل صاحبها عن أحدث الكتب في مختلف الفنون والمعارف، فيتبادر إلى ذهنه أنني (معارض سياسي)، وأنني أبحث عما يتناول سياسة بلادي ورجالاتها، ومن ثم يركم أمامي هذا النوع من الكتب المغثية، فلا اجد حرجاً من استعراضها، فإن وجدت فيها ما يفيد، اشتريت منها ما أريد. ورحم الله من تطوع بإهداء عيوبنا إلينا.. (ويأتيك بالأخبار من لم تزود).وإن لم أجد ما يفيد تركتها حيث هي، وفرغت لتصحيح مفهوم الكتبي عما تعدو إليه عيني. فأنا أبحث عن كتب الفكر والسياسة والمعاجم والموسوعات الحديثة ومذاهب النقد الأدبي الحديث: تنظيراً وتطبيقاً. ولست معنياً بمن معي أو ضدي في الفكر والسياسة والأدب، المهم أن أجد قدرة في التناول، وغزارة في المعرفة، ووعياً عميقاً للظواهر والمذاهب والتيارات وانضباطاً منهجياً. وآخر ما أفكر فيه أن يكون المؤلف معي، بل ربما لا يعنيني من هو معي. وقد تنشئ هذه الرغبة جدلاً بيني وبين صاحب المكتبة، بحيث يمضي مع الريح، حسبما يتوافر عنده من معلومات تعجل في تجميعها عما تهواه نفسي. وما كان لي أن أضيق ذرعاً بما يتشكل عنده من انطباعات، وما تستند عليها من أقوال، فما هي إلا ساعة، ثم لا أراه بعدها. ولربما يكون هواه قومياً أو علمانياً أو وجودياً أو إسلامياً، وقد لا يكون مسلماً. وأسوأ ما يكون عندي حين يحترف السياسة، ثم لا يكون مدده إلا ما تضخه القنوات الفضائية أو ما تتدفق به أنهر الصحف السيارة. مع حماسه وانفعاله، لا يدع المداراة التي قد تصل حد المداهنة، لكيلا يخسر صيداً ثميناً، تفوح رائحة النفط من بين إبطيه. وحكايتي مع المكتبات حكاية تطول، وتتشعب، وعندي أمل في تقصيها، ففيها بعض الفائدة، وكثير من المتع. ولقد تحدث الكتبيون عن همِّ الكتاب، فأمتعوا عشاقه. تذكرت (المتنبي) ومن حوله يوم أن عدت إلى شرفة السكن في منتجع (بلودان) متأبطاً بما ظفرت به من كتب، هارباً بجسمي عما يفيض به ذلك المصيف الريفي الجميل من السواح الخليجيين، الذين لا يدعون لك فرصة التمتع بالمناظر ولا التسوق في المعارض؛ فالنساء والأطفال والشباب والشيوخ يسرحون ويمرحون جيئة وذهاباً، ومن ثم لا تجد بداً من الخلوة في تلك الشرفة المطلة على الأودية الخضراء والجبال الشاهقة، ومن حولك ما تود قراءته من كتب مثيرة. لقد ظفرت في أولى جولاتي بثلاثة كتب ل(القصيمي) هي:- - العرب ظاهرة صوتية. - هذي هي الأغلال. - عاشق لعار التاريخ. كان الأول قد فقد من مكتبتي، والآخران لم أحصل عليهما من قبل. قلت في نفسي: هذا هو الوقت المناسب لاعادة قراءة القصيمي، بعد انقطاع طال أمده، فلقد عرفته قبل أربعين سنة، وأنا يومئذ في (الكويت) كان ذلك في عام 1965م حين اشتريت أنا وأحد الزملاء كتاب (العالم ليس عقلاً) في طبعته الأولى، قبل أن يجزأ إلى ثلاثة كتب، على ما أذكر، وكانت تلك الطبعة قد صدرت قبل ذلك الوقت بثلاث سنوات، قرأناه بعد حل حبكه وتبادله أوراقاً مفرقة، وكلما فرغنا من قراءة ورقة، مزقناها، وألقيناها في اليم، ظنَّاً منَّا أننا بذلك نئد فكراً مناهضاً للإيمان. ومن بعد هذا نقبت في البلاد عن مؤلفاته، كلما ألقتني المناسبات أو المهمات في (بغداد) الرشيد، أو في (قاهرة) المعز، أو في (دمشق) الأمويين. ولم يند عني من كتبه إلا القليل، ولما قرأت كتابه (الكون يحاكم الإله) أحسست بأن الأمر بلغ دركه، وأنه لم يعد بالإمكان احتمال ما يقول. وإذا كان اليهود قد تجرؤوا على القول بأن:- (يد الله مغلولة)، فإن القصيمي قال ما هو أسوأ من هذا، غير أني لم أجد بداً من ترويض نفسي على قراءة المخالفين أو الاستماع إليهم، ما دامت نواصيهم بيد الله، وما داموا لا يعجزونه، وما دام انه لو شاء لهدى الناس جميعاً، وما دمت قادراً على منازلتهم، وكشف إلحادهم. وسلفي في ذلك (ابن تيمية) الذي جالد غلاة الفرق، وجدل المناطقة، وسفسطة الملاحدة، وخلَّف تراثاً لم يسلم من أغيلمة القنوات اللجوجين، وقنافذ الصحف الهداجين، ومواقع المعلومات والمنتديات المخجلة. والذين ينقمون على الغيورين على محارم الله الصادعين بما أمروا به، لا تحين منهم التفاتة واعية منصفة إلى المتجرئين على محارمه، المنتهكين لحدوده. وكأني بمثل هؤلاء يطلبون التخلي عن الثغور وإلقاء السلاح من طرف واحد. والمنصف من إذا أراد أن يفك الاشتباك، ويصلح ذات البين، أن يقف على مقولات كل الأطراف وأفعالهم، وأن يعرفهم بمقترفاتهم، وأن يحمَّل كل طرف جرائره. فالعدل والإنصاف يقتضيان سماع الدعوى والدفاع، والحَكم العدل مَنْ لا يحكم لطرف عند غياب الطرف الآخر. وما أكثر الذين يخدعهم معسول الكلام، فيظنون الاستسلام سلاماً، والضِّعة تواضعاً، والاتكال توكلاً، وما أكثر السذج ومثقفي السماع الذين يحسبون كل صيحة عليهم، حتى لقد طال الرعب ثوابتهم، فكان كل قول في الدين عندهم مؤشر تطرف وبداية إرهاب. ولو أتيح لدعاة الخنوع متابعة ما تطفح به كتب المتطرفين من علمانيين وطائفيين، لما وسعهم إلا أن يصدعوا بالحق، ويعرضوا عن الجاهلين. ومن الضعف والضعة القبول بالتعايش من طرف واحد، وذلك ما تريده دول الاستكبار وغطرسة القوة وشراذم التسلط. وإذا طلب منا الجنوح للسلام فإن شرطه أن يجنح الآخرون إليه، أما أن نترك للمتجرئين على المحارم حرية القول، ونعد ذلك من باب التسامح والوسطية، فذلك الخطأ بعينه، والتقصير نفسه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 06:47 PM | #152 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تداعيات القراءات الدمشقية..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل وفي ظل هذا العنت والصلف من الظلاميين والمارقين طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وأعطيت الدنية في الدين، وكاد الواهنون المداهنون أن يخربوا عامر معارفهم بأيديهم. والمذعن للقلم وما يسطِّر، وللسلاح وما يدمِّر وفي إمكانه أن يفل الحديد، ويفند صلف العنيد لا ينفك من تجرع ذل العاجل وعذاب الآجل: (واحتمال الأذى ورؤية جانيه.. غذاء تضوى به الأجسام) لقد جمعتني هذه الخلوة في المصيف، بما أرفض من الأفكار، ومن أكره من المفكرين، وذكرتني ب(طه حسين) وب(القصيمي) وبآخرين جاؤوا من بعدهم، يكاد الوهن يشل حركتهم، ويكاد الاختلاس يبدو من بين سطورهم، ف(القصيمي) تحدث عن (المتنبي) حديثاً كأني أراه، وأسمعه، يخرج من أفواه أحياء يدبون على الأرض، يدَّعون أنهم أول من اكتشف عظمة المتنبي في الشاعرية وفي الاسترفاد، ولقد تمر بك جمل وعبارات، تحسب أنك قرأتها من قبل، فإذا تأملتها عرفت من أي المستنقعات هي. و(القصيمي) و(طه حسين) ينقمان على (المتنبي)، ولكل واحد منهما وجهة هو موليها، ولكنهما لم يستبقا الخيرات، وإن كان (طه حسين) أذكى من صاحبه وأقدر على استدعاء الأدلة والبراهين والخداع بالمراوغة الذكية، مستعيناً بطاقات اللغة التي مكن الله له فيها، فكان من ذوي الأساليب الفنية الأخاذة، فيما لم يكن بمقدور (القصيمي) المثري من اللغة إلا التكرار الممل. وكم كنت حريصاً على استكمال ما ينقص مكتبتي من كتب لمؤلفين معينين أو من كتب تتعلق بقضايا وظواهر ومذاهب وأفكار لها حضورها الأكثر شغبا في كافة المشاهد، ومن ثم ظفرت بما ينقص مكتبتي من كتب الهالك (عبدالله القصيمي)، أو مما هو من باب التعويض عما خرج منها معاراً، ولم يعد، وما أكثر المستعيرين الذين لا يجدون بأساً بالمماطلة، ولا حرجاً من الإنكار، وللعلماء أقوال وأشعار تتعلق بإعارة الكتب، وهم معذورون، فاستنساخ الكتاب أو شراؤه يتطلب جهداً ومالاً لا قبل لهم باحتماله. ومع ما ظفرت به من كتب القصيمي، ظفرت بكتب أخرى في الفكر المعاصر، وهو فكر مضطرب مهدور الجهد في خدمة الغير. لقد تحسرت على مفكرين مهيئين لطرح نظريات عربية تتناغم مع حاجة أمتهم، ولا تجد حرجاً من استثمار المستجدات المنهجية والآلية ثم لا يفرغون لها، وكأن أفكار الغرب ومصطلحاته وسائر شؤونه قصيدة (عمرو بن كلثوم) التي ألهت بني تغلب عن كل مكرمة، والداء العضال الذي تعانيه طائفة من مفكرينا وأدبائنا جهلهم بتراثهم، وعدم تمكنهم من التأصيل لمعارفهم، والتعامل مع الآخر بندية، والتفاعل معه للإفادة والاستفادة. ولما كانت قراءاتي ل(القصيمي) استعادة وتذكراً، فلقد كنت أعرف مراميه وأهدافه وقدرته على التلاعب بالألفاظ، وتقصي المترادفات والجمل المتشابهة، حتى لكأنه ملم كل الإلمام ب(تحويلية) (نعوم تشومسكي) يقلب الجملة، حتى لا يدع تركيباً إلا استدعاه، ولا مرادفاً إلا ساقه. ولقد تقرأ الصفحات الطوال، ثم لا تخرج إلا بمعلومة واحدة، كل ما تحويه الإنكار أو التنكر، يشقق لها العبارات، ولا يشقق المعاني، وفرق كبير بين الإمكانيتين. ف(الجاحظ) يمتلك القدرتين: تشقيق العبارات، وتشقيق المعاني. فيما لا يستطيع (القصيمي) إلا تشقيق العبارات. فإذا تحدث عن أي قضية حام حول حماها، وكأنه مشدود الوثاق برقبته إلى شاخص يلف حوله، بحيث لا يبرح مكانه وإن ظلَّ يركض برجله، وكل ما يملكه الجرأة الوقحة على المقدس، يغرق في التشكيك، ويقطع في الإنكار، ويمعن في الهجاء والسخرية، وذلك لعمر الله أحط ما عرفت من الأخلاق، وأسْفَه ما رأيت من القول، وأسخف ما قرأت من الكتابة، ولست أعجب من شيء عجبي من عدم تمعر وجوه بعض المتابعين لكتاباته، التي لا يشفع لها عقل ولا نقل. وإذا الإيمان ضاع فلا عقل ولا عاطفة ولا إنسانية. وكيف يكون الإنسان بلا إيمان، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأساطين المادية والإلحاد يؤمنون بالوجود المطلق، ولهم تصورهم عن بدء الوجود، و(الله) في نظرهم قوة مطلقة، وموته عند (نيتشه) لا يعني عدمه، وإنما يعني شيئاً آخر، فيما لا يؤمن القصيمي بشيء من ذلك البتة، ولا يحسن توجيه أقوال الفلاسفة، أو لا يريد أن يشغل نفسه بغير الرفض والتمرد والإنكار، والمتعقب لآراء الفلاسفة وعلماء الكلام حول تصور الوجود وموجده، يقف على آراء تحيل على العقل أو على النقل، وقد يمضي المعقول في ظل المنقول، وقد يفترقان، أو يتعارضان، حتى إذا عجز العقل عن التصور وازورَّ عن الإيمان، وقع في المحذور، لأن المرتهن في عالم الشهادة ليس بقادر على استيعاب عالم الغيب، ما لم يعضده الإيمان والتسليم. ولم يكن القصيمي معولاً على عقل ولا على نقل. وإذا كان في الفكر والفلسفة مهرجون، فهو رائدهم، ذلك أن المهرج يقول ويطيل القول، ثم لا يتوفر على دليل نقلي، ولا على برهان عقلي، ولا يحيل إلى نص محكم، ولا يستدعي تجربة علمية، ولا ملاحظة دقيقة على مجريات الأحداث، ومن ثم لا ينفك من اللجاجة الفارغة. و(القصيمي) الذي يثير بآرائه الاشمئزاز والغثيان، يتولاه من لا خلاق له، ممن استحوذت لوثة المفاهيم على عقولهم. ومن تابع كتاباته التي انهمرت بعد كتابه الفاصل بين الحق والباطل (هذه هي الأغلال)، لا يجد تطوراً في فكره ولا تعقلاً في آرائه، وكيف يتأتى له التطور، وهو لا يملك إلا الرفض، ولك أن تقرأ ما قاله عن (الثوريين) في (عاشق لعار التاريخ) أو ما قاله عن (المتنبي) في (العرب ظاهرة صوتية) أو ما قاله عن خالقه في (الكون يحاكم الإله) لتجد أنه يتداول قاموساً واحداً من الشتائم، ولك أن تتحامل على نفسك وعلى أعصابك، وتقرأ أطرافاً مما قاله في كتابه (الكون يحاكم الإله) لترى أنه لا يفرق بين (الثوري) و(المتنبي) و(الإله). والذين يرصدون أطروحات العلماء والمفكرين يجدونها تحيل إلى النص أو إلى العقل أو تحيل إليهما معاً، ثم يجدونها متماسكة في الآراء والتصورات، محيلة إلى مصادر الحضارات ومرجعياتها. والقصيمي لا يحيل إلى شيء منهما، وتلك خليقة الهدامين الذين لا يوفرون علماً ولا ثقافة، ولا يزودون قارئهم بقاعدة، ولا أصل، ولا منهج. فمن أحال إلى (عالم الشهادة) وحسب، فتفكيره مادي وضعي، ولكنه يوفر معلومات تجريبية عن ظاهر الحياة الدنيا، ومن أحال إلى (عالم الغيب والشهادة) معاً، فهو مفكر إيماني (ميتافيزيقي)، ولكل من الطرفين مرجعيته التي يحيل إليها، ويتعاضد معها، وله منهجه وآليته التي يعرف بها. إذ لا طريق لعالم الغيب إلا الإيمان أولاً، ثم الوحي القطعي الدلالة والثبوت ثانياً، فليس طريق ذلك العلم التجريبي ولا الرصد والمشاهدة. وليست هناك طريق لعالم الشهادة إلا المتابعة والملاحظة والتجريب على حد:- (أنتم أدرى بأمور دنياكم). وما شق الغرب طريقه إلى السنن الكونية إلا بواسطة (المعامل) و(المختبرات) و(المراصد) و(جمع المعلومات) وتحليلها. فالكون له نظامه وسننه، ومن أدرك شيئاً منها سيطر عليه. وليس شرطاً أن يكون المفكر المؤمن بالغيب سالكاً طريق الرشاد، فالطوائف الإسلامية المنحرفة تؤمن بالغيب وبالرسالات، ولكنها تخطئ في التلقي والتأويل، وهي فيما توصلت إليه درجات أو دركات، يؤخذ من قولها ويترك، فتصوف السلوك يختلف عن تصوف الحلول ووحدة الوجود. ول(القصيمي) إلمامات متعددة، فهو حين يتحدث عن (عالم الشهادة) يسلك طريق مفكري الرفض والتمرد، أما حين يتحدث عن (عالم الغيب) فإنما يسلك طريقاً آخر، قلَّ أن يكون له سلف فيه، وقوام طريقه التهكم والسخرية والإنكار والتساؤل الذي لا يرقب إجابة، فهو تساؤل مجازي. حتى الذين ينكرون (عالم الغيب) لا يمتد إنكارهم إلى الوجود المطلق، وإنما يقتصرون على إنكار الرسالات أو البعث أو غيرهما، معتمدين على الطاقة العقلية، ولهم حججهم العقلية التي يسوقونها دون تطاول. أما (القصيمي) فيعمد إلى الذم والمساءلة أو التطاول، واتهام كل الأطراف: المعبود والعابد والمبلغ. فلا هو شكوكي (ديكارتي) ولا حائر (معري) ولا متأول (باطني)، وإنما هو رافض هدام هجاء متمرد. ومع وضوح ضلاله فإنه عِشْق المتمردين. وهو بمجموع غثائياته يشكل معيناً تكدره دلاء الحداثويين وعشاق الإثارة والاستفزاز، يبيتون ليلهم يقرؤونه، حتى إذا تضلعوا من مائه الآسن، ودنسوا ثيابهم من مستنقعه المتعفن خرجوا إلى الناس بقول يعيش في ظلاله، ويعب من ضلاله. فكان ذلك الاختلاس سبيلاً إلى الحضور، ومغرياً لوسائل الإعلام والنشر لتخطفهم كي تقضي بهم وطر الدعاية والجذب. وما من متمرد على الدين أو متطاول على خالقه إلا وعلى (القصيمي) كفل من مقترفه، وما أكثر ما نقف على فلتات الألسن، وزلات الأقلام من كتبة لا يتوقع من مثلهم مثل ذلك. وبمحاولة التعرف على مصادرهم يتبين أن (القصيمي) وأضرابه هم القدوة السيئة، ولقد تولى الروائيون كبر ذلك، فكان أن شككوا بالثوابت، وترددوا في صدق اليقينيات، ودنسوا المقدس، وأنسنوا الإله، وأحالوا كل ذلك إلى حرية التعبير والتفكير. وإشكالية المتسطحين الذين يعدون أنفسهم من المفكرين المؤسسين عدم التفريق بين الخطأ العارض للمفكر والانحراف الفكري في المبدأ، وبين من يقرأ القرآن ويفهم معانيه ومقاصده، ويقيم حروفه، ثم لا يقيم حدوده. ولقد سمعت من يقول عن (طه حسين)، وعن (القصيمي) إنهما يحفظان القرآن ويحفِّظانه لمن حولهما من الأولاد. والقضية ليست في المعرفة ولا في الحفظ، ولكنها في الفكر والمنهج، فالمستشرقون كتبوا عن القرآن وعلومه من قراءات وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، وأسباب نزول وغيرها عن علم غزير ومتابعة دقيقة، وعرفوا عن لطائف التفسير، والإعجاز البياني والعلمي ما لم يتوفر عليه كثير من علماء المسلمين، ولكنهم فعلوا ذلك للتضليل والتشكيك. وإذا كان (القصيمي) هَّداماً فإن (طه حسين) غربي متفرنس، وفرق كبير بين الاثنين. ولأن (القصيمي) هدام قد طواه النسيان، فإنه لم يعد مطروحاً في المشاهد بمثل غيره من المنتمين. وأعداء الحضارة الإسلامية يستثمرون جهود (المنتمي) و(اللا منتمي) فالأول مبشر بحضارة الغرب، والثاني مخرج من حضارته، وأعداء الإسلام مستفيدون من الحالين، من اللاحق بهم، ومن الخارج على حضارته، والدوائر (الاستعمارية) و(الصهيونية) و(الماسونية) جادة في إذكاء الصراع العسكري والفكري بين أبناء الملة الواحدة، وها هي تجني ثمار مؤامراتها، فمن أشعل الحروب الأهلية والحدودية والطائفية أو باركها أو دعمها أو استغل حالات التوتر والارتياب؟ أليسوا هم الأعداء المتربصين الكامنين ؟! وحين تقتضي المناسبات استدعاء مفكر عربي أو غربي فليس القصد الشماتة، وإنما القصد أخذ العبرة والاستفادة من الإخفاقات، فالخطأ يكون إيجابياً حين يحملك على التحرف للصواب، والعاقل من وُعِظَ بغيره، ودونه من وعظ بنفسه، وأسوأ الأحوال ألا يتعظ لا بنفسه ولا بغيره. السؤال الأكثر إلحاحاً والأكثر تحدياً لكل المغمضين على تجاوزات القصيمي،ما الشخص الذي مجَّده القصيمي؟ وما القيم التي يتمسك بها؟ وما الحضارة التي أعجب بها؟ وما الايديولوجية التي ينتمي إليها؟ ولو صدقت (بروتوكولات صهيون) لكان القصيمي واحداً من معاولها. إن مفكراً هذه خليقته لجدير بأن توزن الكلمات فيه وعنه، فالتعذير والتحذير مسؤوليتان، يحاسب عليهما الإنسان. وحين تصل الأمور إلى المصير لا يحسن الإغماض، ومن وجد فيه ما لم نجد، فليفض علينا مما عنده، فنحن طلاب الحق، وهو ضالتنا، وعليه ألا يحيل إلى القائلين عن القصيمي، وإنما عليه أن يحيل إلى أقوال القصيمي نفسه، ومن قرأ عن القصيمي، فهو تبع لمقروئه، أما الذين اجترحوا قراءته فأولئك الذين يخبرونه، ويعرفون منطوياته، وقليل ما هم، وكم هو الفرق بين أن تقرأ الشيء أو تقرأ عنه، تلك بعض التداعيات، وفي الذاكرة أشياء ترقب وقتها عن مفكرين ومبدعين لقيتهم عياناً أو عبر كتبهم ومن الخير للمشهد الفكري أن نعيد قراءتهم أملاً في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وما أردنا إلا التوفيق بين الأطراف وإصلاح الشأن العربي ما استطعنا .. وما التوفيق إلا بالله.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 06:48 PM | #153 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لولا اشتعال النار..!
د. حسن بن فهد الهويمل الأمير سلطان بن سلمان يرحب صدره بقدر الفضاء الكوني الذي ذرعه في رحلته التاريخية التي ما زلنا نرقب ذكرياتها، وهو فيما أعلم ك(العود) الذي لا يعرف طيبه إلا حين تشعل النار فيه: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود وأمام رحابة الصدر وكمون العَرْف اقترفت الإثارة والالحاح، وقلت ما بي، والسياحة في بلدي مغامرة محفوفة بالمخاطر والمغامرات، لأنها ممنعة بخطام القيم والأعراف والاستغناء. لقد سعدت بالرد الموضوعي الهادئ الذي كتبه سموه الكريم على مقالي عن السياحة، وسعدت أكثر بدعوته الكريمة للاطلاع على منجزات الهيئة، وما كنت أشك في عملها ومشاريعها ولكنني عشت واقعاً ما كان لي أن أدعه يمر دون مساءلة وأي منشأةٍ يدعمها الكتاب لا تعد شيئاً، وأي منشأةٍ لا تأنس بتضارب الآراء واختلاط الأصوات حولها ليست ذات بالٍ و(عباس محمود العقاد) حين قدّم لكتابه (عبقرية علي) أشار إلى أن من بوادر العظمة والعبقرية أن يختلف الناس حول الشخصية وما اختلف أحد بمثل اختلاف المفكرين والسياسيين والدارسين حول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفي أن طائفة أحبته فعبدته وأخرى كرهته فقتلته، وهذا (المتنبي) شغل الناس منذ أن سقط قتيل شعره حتى هذه اللحظة، وويل للسياسي والفنان والمسؤول الذي لا يلتفت إليه الناس ولا تناله الأقلام، ولا تتأصل المذاهب ولا تتكرس إلا بفعل الخصوم، فليطمئن سموه على ما قيل، وما أشار إليه سموه من إنجازات ليست بحال اختلاف، ولكننا قوم نؤمن بمبدأ (خذ وطالب) ومع أنه لا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل فإنه لا مكان عندي لاجترار المنجز، وكيف لي أن اقنع بما تم واقترف جريرة التثبيط، فالذين يبادلون المسؤولين اتحاب الثناء يضعون العصي في عجلاتهم ورغم كل ما حصل فإنني أثمّن جهد الهيئة وأثق بما تنطوي عليه وأحمد للجهات العليا الحرص على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب كل ذلك أضمره، ولكنني أظل أطالب وألح في المطالبة وأوقد النار ليعرف طيب عرف العود، والهيئة بكل ما استعرضه سموه من إنجازات في رده تظل مجالاً للأخذ والرد، والسائح هو الشاهد العدل وبخاصة من تتاح له فرصة التنقل من مكان لآخر، ولقد طفت هذا الصيف في ست دول عربية سائحاً أو في مهمات وخبرت حلو السياحة ومرها، وأحسب أن أمرّها من لا تتوفر فيه متطلبات السياحة، ولسنا بحاجة إلى استعراضها، وحين يكون في النفس حاجة فإن في سموه فطانة. أقول قولي هذا وأنا على يقين من أن الهيئة وعلى رأسها سموه الكريم قادرة على تحقيق الشيء الكثير وهي قد حققت أشياء ولكنها دون المؤمل: و(شبابٌ قُنّع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا) تحية إكبار وتقدير لرجل قدّر النقد قدره وواجه التّساؤلات بموضوعية ورحابة صدر، وكم نحن بحاجة إلى مسؤولين يقتدون به بحيث لا يثورون ولا يغالطون ولا يناصبون النقاد العداء، وهل هناك أعز عندي من الدعوة الشخصية التي وجهها لي سموه لزيارة الهيئة والوقوف على منجزها إنها الأصالة والأخلاقيات، ومع هذا فلن تدرأ الطيبة لذعات النقد فيما نستقبل من أيام.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
24-11-2006, 06:48 PM | #154 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ذيل التداعيات الدمشقية..!
د. حسن بن فهد الهويمل وتمتد التداعيات، تثيرها مشاهدات واعية، أو قراءات متقصية، أو أحاديث مجالس تؤزها الأحداث بكل أوجاعها. ومن حق أي متابع عبر أي مصدر من مصادر المعرفة أن يقول رأيه فيما يقرأ أو يسمع أو يشاهد، متى كان مقتدراً وذا فهم سليم. وتحفظنا على ذوي الأفهام الضحلة الذين يفسدون ولا يصلحون، ومع ذلك فلسنا عليهم بمسيطرين، وما نريد تهميشاً ولا إقصاءً، وما نقوله مسوغ في إزاء حقهم في التفكير والتعبير. ولولا تضارب الآراء لما انقدحت الحقيقة، ولقد ضاق المتنبي من ذوي الأفهام السقيمة، وأطلقها مثلاً يردده الناس: (وكم من عائب قولاً صحيحاً .... وآفته من الفهم السقيم) (ولكن تأخذ الآذان منه ذ ..... على قدر القريحة والعلوم) وليست التجاوزات التي نضيق منها، ونضيق بها مرتهنة للفهم السقيم وحسب، ولكنها لون من التعنت والمجازفة وسبق الإصرار. يقترفها الخليون والمبتدئون وذوو المآرب وطلاب العاجلة، لا لشيء إلاّ للابتزاز أو للاستفزاز، وهو أسلوب المتعجلين للظهور أو النهمين للكسب، ولقد سئلت أكثر من مرة عمن يستعذبون الاستقطاب حول الذات، ويستمرئون اللجاجة والصخب، ويمارسون شد الانتباه بأيِّ أسلوب، ويتعمدون الحضور باجتراح القدح بالمتفق عليه من الأقوال والأفعال والأناسي، دونما حاجة قائمة أو استجابة ملحة، إلاّ ما هو معروف من كسب رخيص يتعجلون اجتناءه من كتب يؤلفونها أو مقالات يكتبونها لوسائل إعلامية تتقن لعبة الإثارة والاستقطاب. وليس بمستبعد أن يطرح البعض نفسه للتندُّر بثمن بخس، ولو خلت الحياة من هذه النوعيات لأُخذ الناس بجد صارم. ولقد سمى العرب مثل أولئك المضحكين بالحركات أو بالأقوال أو بالأزياء (أهل السماجات) ولسنا معهم في كل ما يذهبون إليه ولكننا نقدر رؤيتهم ونقبل بعض آرائهم والرجل السمج هو الذي يقترف شهرته عن طريق استفزاز الرأي العام، ويتعمد المخالفة لذاتها بلا برهان، ومع ذلك فإنه ليس بحصيف من يستسلم للخطأ اتقاء الرأي العام المتشكل على غير هدى، ومثله من يتعمد إثارته رغبة في الشهرة، وكم هو الفرق بين أدب السخرية وسماجة الأدب. والسخرية ظاهرة فنية، تقصّاها النقاد، وعرفت بها طائفة من الكُتّاب، وفي القرآن الكريم أسلوب ساخر، تقصاه الدارسون للإعجاز البياني. وما كل من ثار عليه الرأي العام معدود من ذوي السماجات، وما كل من خفت روحه، ولطفت عبارته، ولذعت سخريته محسوب من أولئك المهرجين. ولو أخذنا بهذا المفهوم على إطلاقه، لكان أن عطَّلنا الاجتهاد والتجديد والإصلاح والتصحيح، وحلنا دون تعدد المذاهب والتيارات والإمتاع والمؤانسة، و(أدب السخرية) أدب يمتد مع الزمن، عرف به عمالقة الأدب في القديم والحديث، تجلّى ذلك في أدب (الجاحظ) وفي أدب (أبي حيان) في القديم، وتجلّى في أدب (المازني) و(مارون عبود) و(السعدني) وآخرين في الحاضر. وفي المقابل نجد العلماء الجادين ذوي المواقف ك(العز بن عبدالسلام) و(ابن تيمية) ومن سمّاهم البعض متمردين لوجه الله. وتاريخ الفكر الإسلامي حافل بالعلماء والمفكرين الأفذاذ ممن نذروا أنفسهم لقضايا أمتهم، وكم تعرّض بعض العلماء والمفكرين للسجن أو المقاطعة بسبب آرائهم المخالفة للجمود والنمطية المتوارثة. وحكايات العامة في بغداد في القرن الرابع مضحكة مبكية فلقد لقي منها العلماء النصب، وقصة (الطبري) مشهورة حين أوصدوا عليه بابه وبنوه بالآجرّ. ومثل هؤلاء الأفذاذ من العلماء وإن اختلفنا مع بعضهم يختلفون عمن يتقن فن الدعاية والإعلان وتسويق الذات بمثل هذا الأسلوب غير الحضاري، بحيث يُكذَّب الصديقون. وتُنكر البراهين، وتُدنس المقدسات، وتنسف المسلمات. مع أن هذه الطائفة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من الهم، وليس الاجتهاد ولا الاختلاف الذي يتصف به أساطين العلم والفكر والأدب من هذا النوع، وليست السكونية ولا الأبوية ولا تهيب المغامرة المحسوبة مما يحمد. والذين تعقبوا المسلمات، وفندوا خطأها، وحملوا الكافة من الفاضل إلى الأفضل يعدون مجددين، وكم هو الفرق بين المجددين الذين بشّر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، والهدامين الذين يرفضون اليقينيات، وينهجون منهج الشك الديكارتي، والحرية المطلقة، والقلق المطلق. فما كنت لأعيب الاجتهاد من أهله وخاصته، ولا أمتعض من الاختلاف المعتبر، ولا أشفق من مواجهة المسلمات من عادات وتقاليد، ولكني ضد الخلط وفوضى الحواس. واستدعاء الثوابت واليقينيات والمسلمات والشخصيات باسم حرية التعبير والتفكير دخول في الفوضى. لقد كانت إلماماتي العجلى والمتأنية في كتابات (القصيمي) ومسترفديه مدعاة إلى استذكار عدد من المجازفين الذين لا يلوون على شيء مما يقولون، وما عندهم إلا الادعاء والتشبع والتجشؤ من فراغ. و(القصيمي) قدوة سيئة لهذه النوعية من الكتّاب. وجهابذة العلماء وكبار الشعراء وأساطين الفكر زاد لمن لا زاد له، وسلّم يرقى به القاعدون إلى سدة الأضواء، وسيظل العلماء الكبار والشعراء المفلقون مورداً لا تكدره الدلاء. واستدعاء (القصيمي) لشاعر ك (المتنبي) حلقة في هذه السلسلة الصدئة، غير أنه في هذا الاستدعاء يود ان يؤكد دعواه بأنّ (العرب ظاهرة صوتية)، وأنّ صوت المتنبي خير من يمثل هذه الظاهرة، غير أنه في غمرة الحقد نسي ما يريد تحقيقه، وذهبت به تخبيصاته إلى أمور أخرى، ليست من مقتضيات الحديث عن الظاهرة الصوتية. وتلك من أبرز سماته، فهو يخب ويضع في أمور ليست من متطلبات حديثه، وكثيراً ما يقع في التناقض، حتى لقد أدرك عليه المتقصون لفكره نقض الحجة في موضع والاحتجاج بها في موضع آخر، وذلك بعض ما أشار إليه صديقنا (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري) في كتابه (لن تلحد) وكتيبه (ليلة في جاردن سيتي). وإشكالية (القصيمي) أنه لا ينتمي إلى نحلة لها أشياعها وأتباعها، وهو بهذا يُعَدُّ من المتمردين لوجه الشيطان، ومن أصحاب مذهب (اللامنتمي). و(اللا انتماء) توصف بها إبداعات (نجيب محفوظ) وهو الذي مهّد له الطريق إلى (جائزة نوبل)، وهناك فرق بيِّن بين الاثنين، قد نعرض له حين نفرغ من الحقيقة (الدمشقية) و(الصنعانية) و(القاهرية)، والمتابع لفيوض (القصيمي) يجزم بأنه يخدم بهوسه واهتياجه وحقده خصوم الحضارات، فكل طائفة تتأذى منه في جانب، وتستفيد منه في جانب، فهو كجناحي الذباب، أحدهما داء والآخر دواء. وحين تقرؤه كوحدة دلالية، يتبين لك أنه يريد الخروج من كل شيء، والتصدي لكل شيء، وذلك سر نبذ الناس له، وسر حقده على الناس. ولقد مر في حياته الفكرية بثلاث مراحل في غاية التناقض، مرحلة (السلفية) ومرحلة (الليبرالية) ومرحلة (التمرد)، وهو عنيف في كل مراحله، فالذي يقرأ كتبه السلفية يدرك حدته وعنفوانه، تجد ذلك في (البروق النجدية) و(الثورة الوهابية) و(الإسلام والوثنية) وغيرها. و(المتنبي) مضمار لزز تجري فيه الخيل الكرام وغير الكرام، وكل من أراد تجريب آلياته ومناهجه تخطى إلى مضاميره، لأن عالمه حافل بكل الاحتمالات، والاشتغال به على أيِّ شكل سبيل من سبل الحضور، غير أنّ الإطلاقات المعممة لا تغني ولا تقني. وقد يتقن البعض (البهلوة) فيجمع بين السيئتين:- الجهل والتعميم، وقد تتعمد وسائل الإعلام الإثارة للجذب والاستقطاب، ولا يهمها بعد هذا في أي واد هلكت القيم والمثمنات. على أن قضايا الفكر والدين والسياسة والأدب لا يجوز أن تكون سلماً للاشتهار. وجرجرتها عبر وسائل الإعلام ووسائط النشر إخلال بالبنية الفكرية للأمة، وتزييف لوعي الذين لا تعدو نظراتهم إلى تليد الفكر وطريفه. والمتابع لفيوض الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد ينتابه الخوف من الخائضين في آيات الله دون علم. ولست أشك في أن مئات من المتحدثين عن العمالقة لا يريدون من وراء ذلك إلاّ أن يكون لهم ولو مفحص قطاة في مشاهد الفكر والأدب، وما عرف أولئك أنهم يبدون سوآتهم ويحرقون سمعتهم ويربكون الرأي العام ويحفزونه على الاحتقان دونما أي جدوى، والذين يخبرون العمالقة يعرفون مقاصد المتعالمين من المتعاملين، و(المتنبي) عرف ما هو عليه، وعرف أنّ ما ترك وراءه من شعر سيكون مجالاً للأخذ والرد، ولهذا قال:- (أنام ملء جفوني عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصموا) ومع إعجابي به وبشعره إلاّ أنه يظل مشروعاً لكل رؤية، ومجالاً لكل دارس، وهو كما الكلأ يشترك الناس فيه، وليس من حق أحد أن يحتكره، ولا أن يذود الناس عن مراتعه، غير أن تعامل (القصيمي) ومن عول عليه واستلهم ضغائنه من (الحداثويين) أو من (شعراء) أمعنوا في هجائه أو من (كتّاب) أمعنوا في ازدرائه، لا يعد من ذلك النوع المضيف، فهو حشد من الأحكام المناقضة للواقع، وحشد من الكلمات البذيئة الساقطة التي لا يتداولها إلا السوقة، فالعلم له آدابه، والعلماء لهم ضوابطهم، والمسألة واضحة المعالم. وليس من المزعج ولا المخيف أن يكون (المتنبي) مادة حديث مرتجل، ولكن الجرأة تجاوزت (المتنبي) إلى غيره من القضايا والأناسي، وهي قضايا تُعَدُّ من الثوابت، و(المتنبي) مظنة القول ونقيضه، لأنه خلف شعراً له وعليه، يجد فيه المادح ما يبرر مدحه، ويجد فيه القادح ما يبرر مآخذه، ولكن في حدود المعقول. ومآخذنا على الذين ينفونه من كل المشاهد، وهم كثيرون، ولقد كانت لي جلسات حديث ممتع في (صنعاء) مع لفيف من المعجبين والناقمين، وتبين لي أن (المتنبي) شاغل الناس إلى يوم الدين. ومن تتاح له قراءة ما قاله (القصيمي) ومن تطفل على نفاياته، لا يمكن أن يسلّم لأحد منهم، ولا أن يجد مبرراً لما يقولون، و(المتنبي) لم يثبت أقدامه في مشاهد الأدب إلا الخصوم، ولكنهم خصوم شرفاء، حاولوا التماس إخفاقاته، وهي كثيرة، ولم يفتروا الكذب، ولم يكتفوا بالهجاء المقذع والسب المقيت، والمثير للناقمين ذلك الشيوع والحضور، فكل متحدث عن أي قضية لا يحلو حديثه حتى يستدعي بيتاً للمتنبي، يُجْمل فيه رويته، ويُجَمِّل فيه حديثه. فهو مصدر (الإجمال) و(التجميل)، وخصوم المتنبي يغمرهم طوفانه، وإن أووا إلى جبل الكراهية، ليعصمهم من الحضور الملح والشيوع والسيرورة، وظاهرة الحضور ضاق بها ذرعاً معاصروه، حتى لقد نسوا ما هم فيه من حزن المصاب، واغتموا من شيوع شعره ووروده على كل لسان. للحديث صلة
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
الإشارات المرجعية |
|
|