بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 25-11-2006, 12:13 AM   #169
حرف جر
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 294
والله فرق بين هذا الأسلوب العملاق وبين تمتمة الحمقاء وصراخ المتعاملين والمتعالمين وثرثرة الصغار ..
معقوله المهوس حاط راسه الفاضي برأس هذا الكبير ..
لكل داء دواء يستطب به .............الخ
مشكور ياعباس
حرف جر غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 06:10 PM   #170
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حرف جر
شكرا لمرورك الجميل أيها الحبيب المحب

لفتة :

أخي الحبيب / يمكنك مشاهدة 100 رد في صفحة واحدة وذلك بالرجوع إلى لوحة التحكم الخاصة بك أو برابط ( مكتبي ) ثم ( الخيارات ) ثم ( التصفح ) ثم اختر ( 100رد في الصفحة الواحدة) حتى يسهل عليك التصفح

سنبدأ الآن بمقالات الدكتور المنشورة في عام 2003م
ثم سأنقل إن شاء الله تقريرا آخر عن تكريم الدكتور حسن
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:26 PM   #171
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
رهان (الحداثة) بين التجلِّي والتولِّي!
د. حسن بن فهد الهويمل


بعض الدارسين والنقاد والمحاضرين والمؤلفين المناوئين للحداثة يقطعون بأنها اضمحلت تحت وابل الضربات المسددة، وكل الشامتين يقوم رهانهم على ان توليها مرتبط بغياب من كانوا تحت رايتها ملء سمع المشاهد وبصره، فيما يقولون، وفيما يراهنون عليه من غلبة واستفاضة لقيمها: الفنية واللغوية والدلالية.
وبعض المتفائلين الظانين بها ظن السوء أخلوا ثنياتهم، وهبوا لجمع «مخيال» الغنائم التي خلفها لهم الوهم، مصوراً لهم ان الحداثيين تركوا فلولها في ساحة الوغى، مثلما فعل الرماة في «أحد»، وهم يحسبون ان الذين اغثونا بادعائها في مشاهدنا المحلية هم خاصتها وعيبتها وسوادها الأعظم، وان انطفاءهم مؤذن بانطفائها في كل بقاع الأرض الواسعة، والتأسيس النقدي على ان الحداثة والحداثيين أصبحوا خبراً بعد عين تأسيس على جرف هار، ذلك ان الذين لم يتقوا الشبهات بادعائها ممن اعطوا الدنية في ثوابتهم لأساطينها الضالعين فيها شرذمة قليلة، لا يقدمون، وقد لا يؤخرون، ولا يدق تمييزهم بين المحظور والمباح في سائر العوالم: الدينية والأدبية والاجتماعية، وكل ما يوصفون به انهم سماعون لسدنة الحداثة، ممن ينظرون إليهم نظر المزدري، لعلمهم بأن هذه النوعية غوغاء، لا يضيفون شيئاً، لأنهم لا يملكون خيلاً يهدونها ولا مالاً يعطونه، ولا منطقاً حسنا يعوضون به إقواءهم المعرفي، حين لا تسعدهم المعارف ولا تسندهم الآليات، وكل الذي يؤدونه ان يذكروا عند أربابها بما لم يفعلوا، وغياب مثل هؤلاء أو بياتهم الشتوي، لا يحفز على تداول القول في تخلف الحداثة عما سواها من الظواهر، فضلاً عن القطع بذهابها.
و«الحداثة» التي نقف في وجهها، ونتقرب إلى الله بالتصدي لمعتنقيها باقية، متنامية، متعددة المواقع والقضايا والظواهر والمفاهيم، وتجذرها في المشاهد الغربية وأثرها في الرؤى والتصورات والمواقف من المسلمات التي لا مجال للتشكيك فيها، وكيف يبشر الناقمون بزوالها، وهي قائمة في الإبداعات السردية والشعرية وفي النقد، حاضرة في الصحف والمجلات والكتب والمنتديات، مؤثرة على «اللغة» و«الشرط الفني» و«القيم الدلالية» شائعة كالوباء في الفن والفكر والأخلاق، لها حماتها من النقاد والدارسين، ولها أشياعها من القراء والكتاب، ولها مجالاتها في الصحف والمجلات والكتب والروابط والنقابات والمؤسسات والقنوات، والمتابع الواعي لا يغتر بخلط الأوراق، فالحداثة مصطلح مصنوع، والتجديد مصير محتوم، ومع اننا نتصدى لفيوضها لا يجرمنا شنآن أقوامها على ألا نقول الحق، فيما أحدثوه، وفيما أضافوه من مناهج وآليات في مجال النقد، ومن عمق دلالي وتألق فني في مجال الإبداع، فأصحاب المواهب والمثقفون من الحدثيين استطاعوا ان يتركوا أثراً عميقاً، لا ينكره إلا مغالط، ثم ان الموهبة والاقتدار والثقافة إمكانيات ذاتية، لا ترتبط بمذهب، ولا تختص بنحلة. والرسول صلى الله عليه وسلم عرف لخصومه حقهم واقتدارهم، ولهذا دعا ربه ان يعز الإسلام بأحب «العمرين» إليه: «عمرو بن هشام» و«عمر بن الخطاب» وهما إذ ذاك، كافران يكيدان له وللإسلام وللمسلمين، فهدى الله ابن الخطاب رحمة، وأضل أبا جهل عدلاً، فأساطين الحداثة على جانب من المواهب والإمكانيات المعرفية، وليس كذلك الغثائيون والزبد الذين ينقُّون كما الضفادع، ثم لا يُسمنون ولا يغنون من جوع، وكل أقلية منبوذة تكرس جهدها، وتشرعن له بإعداد القوة والسيطرة على مجالاتها من علم وإعلام ومال، والذين يودون معرفة أحوال الحداثة الفكرية ومحاكمة ذويها بعدل وانصاف ومعرفة، عليهم ان يضعوا في اعتبارهم عدة اشكاليات، لعل من أهمها:
الأول: المفهوم.
الثاني: المجال.
الثالث: الاقليمية.
الرابع: الادعاء.
وما يتناسل منها من اشكاليات مربكة، ولست على يقين من حسم هذه الأمور في الوقت المنظور، وما انا ممن يربطون بين الكُموُن والذهاب، ولا مع الذين يحسبونها ماثلة في الذوات دون الواقع، ولا مع الذين يقصرون أحكامهم على مدها وجزرها الاقليمي، ذلك ان اجواء بعض الاقاليم ليست ملائمة لحداثة الفكر، وان تهافت عليها من لا يلوون على معرفة، ولا يخافون على سمعة، ولا يفرقون بين الجمرة والتمرة، وبعض المتهافتين على الطوارئ لا تسبقهم المسابير ولا المجسات، ولا يقيسون قبل ان يغوصوا في أعماق المستجدات، فهم أشبه بالفراش، يتهافتون على اللهب ليحترقوا، ولهذا لا يجدون معرة في التحول السريع.
والتعالق مع أي قضية يكتنفها الغموض، وتناسل مفاهيمها يحول دون كف الغيبة عن النفس، وحين تتقطع بمثل أولئك الأسباب، يحصرون مفهوم الحداثة عند حد التجديد والتغيير والطفرة، والمتحدث في أي قضية فكرية أو أدبية مشتركة بين حضارة وأخرى لم تتحرر عنده: تاريخاً وموطناً ومفهوماً ومرجعية وتحولاً، يأتي بالعجائب، ويكشف عن قدرة إنشائية، لا تلوي على ثقافة، ولا على معرفة، ولا تقول شيئاً، وبعض السرعان من هؤلاء الأشياع والأتباع يصلون بخفتهم وتقلبهم في المذاهب حافة البهلوانية، فيكثر نظّارهم، ويرتفع من حولهم المكاء والتصدية، ويختلط الأمر على المتابعين لهم، فكل ما يقولونه يدل على ان المعرفة لما تدخل في قلوبهم، إذ لم يكونوا بالمؤصلين، ولا بالصابرين على لأواء المغالبة، وتقصي القضايا، وتحقيق الإيمان الذي يطمئن معه القلب، وتسكن عنده الجوارح. وبين «المتحدثنين» و«المتعالقين» تأتي طوائف أخرى، تتوهم انها على فهم دقيق بمجريات الأحداث الفكرية والأدبية، حتى إذا فُزِّع عن قولهم، تجلى الزيد المجفو، وظهر الرجم بالغيب، فالمبادئ والمذاهب والمناهج والآليات لا يكفي تلقفها من وسائل الإعلام، ولا من ثقافة السماع، بل لابد من تقصيها من تخومها، والوصول إليها في مطارح أهلها، ورصد الأجواء الفكرية لمنشئها، والتعرف على جذورها الفكرية وتحولاتها المقصدية، ومراحل تقاطعها مع التيارات، وتنقلها بين المبادئ والمذاهب، وما يلقى مثل ذلك إلا الصابرون، أما الراكضون في ركابها: تبعية وإمعية، وان اشتعلت رؤوسهم شيباً، ووسدت بعض الأمور إليهم، فقد تعوزهم المعرفة، وتنقصهم الأهلية، والمشاهد العربية تنوس بها نكرات ومعارف: مقتدرون وادعياء، وتطفو في مشاهدها مذاهب وآليات ومناهج، و«الحداثة» تتسع لهؤلاء وأولئك، فآليات النقد اللغوي الحديث ك«البنائية» و«التحويلية» و«التفكيكية» نسلت من أحداب كثيرة، ولك ان تقتفي أثر «البنائية» وتقلبها في العلوم، وهي: آلية، وتصور، وفرضية، لها جذورها الفلسفية، وبوادرها الضاربة في عمق التاريخ الفكري واللغوي والأدبي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي وسائر المذاهب، وسوف تقف من هذا الاقتفاء على العجب العجاب، والذين التقوا بها، أو تقاطعوا معها على أي صعيد من هذه الصعد يتصورونها من خلال ذلك المجال، وليست لدى بعضهم القدرة ولا الإمكانيات التي تساعدهم على ملاحقتها في كل حقل معرفي، ومثلهم في ذلك مثل «العميان» الذين جمعوا حول «فيل» ليتمكنوا من تصوره، فكل واحد منهم تقرّاه بلمس، كما صورة انطاكية التي راعت المتلمس، وحين اجتمعوا لتحديد تصورهم له، أتوا بالمضحكات، وانفض سامرهم دون اتفاق، ولو انهم أبصروه لما اختلفوا، وهكذا «البنيوية» نظر إليها اشباه «أم الحليس» مثلما تلمس «العميان» جوانب «الفيل»، ويقال عن «الحداثة» و«العولمة» و«العلمانية» ما قيل عن «البنيوية» فهي قائمة في كل شيء، ف«الشكلانيون» و«التشكيليون» ومصممو «الأزياء» و«المساكن» يصفون اضافاتهم وتجديدهم بأنه عين «الحداثة»، وفي تصورهم انها تتحقق بمجرد المغايرة، والموجفون عليهم بخيلهم ورجلهم، والذائدون عنها بسلاحهم، حين تتجلى لهم بصورتها الحقيقية، يعرفون انهم يضربون في فجاج الوهم، وذلك بعض ما نشاهده من الخصوم والأنصار، والجذر اللغوي «ح. د. ث» يعطي ذات المفاهيم، ويوقع في اللبس، ولكن الدلالة الوضعية تضمحل في ظل الدلالة المصطلحية، ومن ثم فإن «للحداثة» حكايات لا تجليها المغالطة، ولا يحررها الجهل، ف«الحداثة» غير التجديد، وغير المعاصرة، وغير التحديث، وغير المجيء من البدو إلى الحاضرة، ومن القرية إلى المدينة، والتحول من الجمل إلى السيارة، إنها «ايديولوجيا» صنعت على عين الغرب المادي، وبوحي من الفلسفة الوضعية، وكل قائل عنها يعري نفسه على حد: «تحدث حتى أراك» ومعتقدنا وتصورنا: انها: مذهب «فكري» و«سلوكي» يقتضي: «العدمية» و«التدمير» و«الانقطاع» و«التهتك»، و«الغموض» و«الهروب» و«العصاب» و«الازدراء» و«النفي» و«الالغاء» و«التساؤل» و«الاحتجاج» و«التوتر» و«الغثيان»، وكل ذلك بعض ما يقوله ذووها بأفواههم، لا ما نقوله نحن، ومثلما يدعيها غير الأدباء، يدعيها المبدعون والدارسون والنقاد والمهندسون والتربويون وعلماء الاجتماع واللغة والنفس، وهي في تقلبات مع المفكرين والسلوكيين والساسة وسائر علماء المعارف الإنسانية، فأي حداثة يريد القائل بذهابها، والمتملقون لها في المشاهد المحلية لا يملكون الحسم في أمرها، وكيف يتأنى لعائل مستكبر ان يقول كلمة الفصل، وهو الطاعم الكاسي؟.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:27 PM   #172
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
رهان الحداثة بين التجلي والتولي..!
د. حسن بن فهد الهويمل


والنقاد الذين يرصدون لها من خلال الحركة الداخلية، ليسوا على شيء مما يدور في سائر المشاهد العربية. وتجلي الحداثة في القول او في الفعل يتطلب الدقة في تحديد المراد، والمتعاملون معها بوعي سليم، وتصور دقيق، تعن لهم مجالات وأنواع وقضايا وظواهر. واستدعاء اللغط الدائر حول إقبالها وإدبارها يقتضي الإيماء إلى إشكاليات ثنائية، ففي شأن «الحداثة الأدبية» نجد:-
- حداثة الفن:- السردي والشعري
و- حداثة الدلالة- الفكرية والسلوكية.
و- حداثة النقد: التنظيري والتطبيقي.
وما لم يكن المتحدث على معرفة تامة بهذه الثنائيات فإن حديثه أضغاث احلام. فعلى أي الثنائيات يقوم رهان التولي والانكماش الذي يدعيه البعض؟ وإذا كانت الرؤية الحداثية واضحة لأساطينها في الوطن العربي، متجلية للمتصدين لها هنالك، فإنها لدينا ملتبسة، ذلك أن المتعالقين معها: إما جهلة بمرجعياتها الفكرية والسلوكية، او جهلة بمفاهيمها الفنية المتعددة بتعدد المتصدين لها. وتبذبذها بين: الفن والفكر، وبين الإبداع والنقد، وبين الأداء والتلقي، وبين التشيع والتمنع كل ذلك ومثله معه يزيد في صعوبة الاستيعاب. والقائلون بنكوصها على اعقابها وذهاب ريحها إنما يمنون أنفسهم ويعدونها. وكيف يتصور البعض أن خفوت صوتها علي صفحات الصحف المحلية، وتفرق مدعيها بين المذاهب والتيارات مؤذن بنهايتها؟ وهل الحداثة منتج محلي، بحيث نتحكم بمصائرها؟. وهل لهؤلاء أثر في شيوعها، وتجذرها، وتقلبها في البلاد؟ بحيث ينعكس انطفاؤهم عليها، لقد أحسوا انها سبة الدهر، فخلصوا نجيا، ولم يرحلوا بها معهم إلى ملاذاتهم ومدخلاتهم، بل ظلت كما هي، مع من يملكون قلب المعادلات، والذين فرقتهم أيدي سبأ خرجوا بأقنعة جديدة، وسيظلون يستبدلون قناعاً بآخر، حتى تنفد الأقنعة.
والحداثة بمفهومها الفكري وتصورها الشمولي وانقطاعها المضاعف مع التراث والمتلقي ليست محلية، بل ليست عربية، وريحها العقيم التي هبت على مشاهدنا لم يكن مصدرها من اجوائنا، ولهذا ضوت وخوت، وتوقع البعض انحسارها، بل هبوا لاقتسام الأنفال والغنائم، وإذ تفرق اشياعها في الراهن المحلي فإن ذلك تفرق لا يقلل من أمرها شيئاً. وحين نتقصى إشكاليات الحداثة المشار اليها في مستهل الحديث، نجد أن «المفهومية» إشكالية تطال كل المصطلحات الوافدة، وهي أم المشاكل، ومصدر الإزعاج، ومجال الخلاف والاختلاف، ولو اتفق الجميع على مفهوم المصطلح لحسم الأمر، وقام مقامه الوفاق علي كلمة سواء، ولهذا نجد الوالغين في مستنقعاتها والمدانين بقولهم يدَّعونها، وهم أحق بها وأهلها، كما ان المجددين دونما خطيئة دلالية تقتضيها حداثة الفكر يدَّعونها، وهم ليسوا من اهلها، والذين خبُّوا ووضعوا في مضاميرها، تشبثوا بتعدد المفاهيم، ولاذ بعضهم بمفهوم التجديد، والمتصدون لها، يأخذون «الوالغ» و«المجدد» على حد سواء لانضوائهم تحت مصطلح له مفهومه المنحرف عند المتصدين لها.
والمصطلح حين يتنقل عبر الوهاد والنجاد الفكرية والحضارية تتغير مفاهيمه من محطة الى اخرى، والداخلون فيه، والخارجون منه، او عليه، لا يعطون الوصف الدقيق، فهو في تحول مفهومي مستمر. وقضية «الثبات» و«التحول» مثلما تكون في ممارسة الأداء،تكون في تحديد المؤدى، ولهذا فإننا بحاجة ماسة يفرضها العدل إلى ان نسأل «المتحدثن»» عن حداثته، ما مفهومها عنده؟ وما مقاصدها؟
وعلينا ان نقرأ معطياته الإبداعية، او النقدية، لندينه من فمه، او نصدق دعوى التجديد عنده، ذلك أن الأداء والقول في سلم التقويم الفكري والسلوكي دركات او درجات، ومثلما أن النفاق قسمان:- نفاق عقيدة، ونفاق عمل، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، فإن الحداثة هي الأخرى «حداثة فكر» و «حداثة فن» و«حداثة تجديد» وبين الحداثات مسافات واسعة، لا يعلمها الا قليل، والمراء فيها يؤدي إلى تعميق الخلاف. ومثلما أن «الإسلام» دون «الإيمان»، وقد نُبِهَ الأعرابُ بأن الإيمان لمَّا يدخل في قلوبهم فإنه لا يجوز التغافل عن الدركات حين القول في شأن الحداثة والحداثيين. ولعل القائلين بغياب الحداثة المحلية ينظرون الى انطفاء المصطلح في التداول، دون المفاهيم المتعددة.
ومثلما تختلف «المفاهيم» حول الحداثة تختلف «المجالات». فما مجال الحداثة، أهو اللغة؟ أم الفن؟ أم الفكر؟ أم السلوك؟ أم الحرية الفوضوية؟. إن تحديد المجال الذي تتجسد فيه يحاصر التشتت في المفاهيم، نجد الإبداع عند «أدونيس» له طابعه الحداثي، وهذا يحال إلى الفكر، ونجده عند الروائي «محمد شكري» له طابعه الاخلاقي، وهذا يحال الى السلوك، ونجده عند الشاعر «أنس الحاج» له طابعه اللغوي الانقطاعي وهذا يحال الى الغموض، وإن كانت لبعض هؤلاء شطحات فكرية وسقوط أخلاقي، وهكذا يجلي كل حداثي في أكثر من مجال، ثم تكون له منازعه ونكهته الخاصة، وتجلي التحديث اللغوي والفني عند بعض أولئك لا يشرعن الدلالة والمقاصد.
وتبذبذب المواقف بين الفني والدلالي، وحداثي الأصل والتبعي، يؤدي كل ذلك الى سوء الظن بطائفة من النقاد، حيث اتهموا بالحداثة، وتلبستهم الريبة، لادعائهم إياها في جانبها الفني دون تحفظ او براءة مما يصنع غيرهم، وتلبست الريبة طائفة اخرى اشادت بأساطين الحداثة الفكرية المنحرفة، والتصقت بهم، وخالطتهم، والتفت بعباءاتهم، ولم تعتزلهم حين يخوضون في النيل من ثوابت الأمة.
وإشكالية «المجال» التعدد والتنوع والتباين، فمجال الحداثة «اللغة» بوصفها وعاء الفكر و«الإبداع» بوصفه مجال التجديد والمغايرة و«الأخلاقيات» بوصفها مجال الممارسة و«الفكر» بوصفه مجال الاعتقاد والتصور، و«النقد» بوصفه المنظر والمعذر والمجادل. ثم إن تجليها في «الفن» دون «الدلالة» لا يحمل على التجريم، ولا على التفسيق. فالتجديد في الشكل واللغة والشرط الفني من القضايا التي لا تمس قضايا الفكر والاخلاق. ومن ثم فإنها في بعض المجالات غير مثيرة، لوقوعها في مجال الاختلاف المعتبر. والإشكالية أن طائفة من المتصدين لها لا يفرقون بين المجالات، وفي ذلك ظلم لا يليق. وعند تخطي «المجال» الى «الإقليمية» نجد أن الحداثة تبدت في مشاهدنا الثقافية وتلقفها «عرابات» كثيرون، وتلقفها من هم دون ذلك. فأساطينها من المنظرين والنقاد والمبدعين في الوطن العربي من امثال «أدونيس» و«جابر عصفور» و«الماغوط» و«الصائغ» و«الخال» و«درويش» يدركون أبعادها الفكرية والفنية، ويتصورونا كما لو كانت من عند انفسهم. أما من هم دون ذلك من المتعالقين معها دون وعي، ودون ثقاقة، ودون فهم دقيق، فهم غوغاء لا تؤخذ منهم عينة، ولا ترصد حركتها من خلال سكونهم أو تحركهم. ولهذا تجد طائفة منهم تدعيها في تباه وتطاول، ولا تقول من خلالها، وطائفة أخرى مرت بها، ولم تتلبث بها الا قليلاً، وأوزاع حاولت أن تقلد في الإبداع السردي او الشعري، فلم تفلح، ولأن الجميع في ركابها زوائد وزبد، وليسوا أصولاً ومنافع، فقد تساقطوا كورق الخريف، ثم انسحقوا، وذرتهم الرياح. وأمام هذا الاضمحلال تصور الراصدون المحليون أن الحداثة ذهبت بذهابهم، وما علموا انها قائمة بذهابهم، وستظل قائمة، وإن خبت جذوتها المقتبسة في المشهد المحلي. اما عن «الادعاء» فحدث ولا حرج. وكما أن الحديث عن بني اسرائيل مباح على اطلاقه فإن الحديث عن غثائيات المدعين كذلك، ومدعو الحداثة يحفزهم عشق الأضواء والحضور والإثارة، ولما يدركوا خطورة الانتماء لمذهب فكري منحرف باعتراف أساطينه. ومثلما يغثينا أدعياء الحداثة يغثينا المتصدون لها بدون فهم، ومشهدنا مليء من هذه النوعيات التي لا تتقن إلا شهادة الزور، وتزكية من لا تعرف، والركض في فجاج التيه، والقضية في النهاية كما «الجيش» و«القتام» يعلو الاخف وينحط الاثقل. وما على المراهنين على زوالها إلا أن تعدو عيونهم الى مطارحها في الآفاق، ليروها جذعة قوية، وكيف نقطع بزوالها وشيطانها الذي يؤز قومها من المنظرين إلى يوم الدين.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:29 PM   #173
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حقوق الإنسان وتهافت الفارغين!
د. حسن بن فهد الهويمل


كل يوم تطلع فيه الشمس يطلع معها مشروع فكري أو ديني أو سياسي أو اجتماعي، ويطلع معه خليون يتعهدونه بالاشاعة والتأييد والتنطع. والطاعم الكاسي يقعي بفؤاد هواء، يرقب ما يأتي، مما هو بحاجة إليه، ومما ليس بحاجة إليه، فالمستهلك الخاوي عروش الفكر والمعرفة يبحث عن ملء الفراغ، ولو بالفراغ، مثله كمثل الهرة الطوافة بحثاً عن خشاش الأرض. والاشكالية ان المقعين والمقوين يعدون أنفسهم من النخب: الفكرية والدينية والسياسية والأدبية، ممن هم صفوة الصفوة، ومعتصر المختصر. ومع أنني حفي بالمستجدات، حريص على توفر كامل الحريات والحقوق، ومع قطعي بأن المشاهد العربية بكل تنوعاتها بحاجة أمس إلى المؤسسات بكل أنواعها: - الدستورية والشورية والتشريعية والتنفيذية وغيرها فإنني أراهن على أن المجتمع العربي يجتر القيم والمبادئ الغربية كما «اللبان» ولا يبلع إلا ريقه، فحكم الفرد، وتسلط الطائفية والفئوية والحزبية واحتكار السلطة من أدواء المجتمعات النامية، وهي أحوج ما تكون إلى الأدوية الناجعة التي تتحول بها من الفردية إلى المؤسساتية، ومن الأثرة والاستئثار إلى الشورى والمداولات والإيثار، ولما لم أكن سكونياً ولا ماضوياً، ولا مأخوذاً بعقدة الأبوية ولا خائفاً من التجديد، فإنني أمقت الذواقين الفارغين الذين لا يستقرون على قرار، ولا يؤسسون لفكر، ولا ينهضون لتحرير قضاياهم والتأصيل لها، ولا يصبرون على ثوابتهم، ولا يعرفون ضوابط الحرية ولا مستوياتها، وكل فعلهم أن يتلقوا ركبان المستجدات، ليأخذوها بالأحضان، ثم لا يترددون في إراقة مياههم كلما تراءت لهم سرابيات القيعان، وإذا أبديت امتعاضك واستياءك وطلبت التريث والتثبت والأخذ بأحسن ما عند الآخر، قالوا لك:- إنك جمودي مقلد متخوف، لا تريد لهذه الحياة أن تسبح في آفاقها المتاحة. ولو أن أحدنا نظر إلى ما حوله من المذاهب والظواهر والتيارات الحاضر منها والباد، لهالته كثرتها، وراعه تناسخها، وأزعجته الجهود والأموال والأوقات المهدرة في سبيل استقبالها واستدبارها، دونما رشد أو تثبت في الحالين. ولكل أمة وجهة وهاد إليها، ولا تكون الأمة أمة، ولا تستكمل مقومات وجودها إلا إذا كان هداتها على بينة من الأمر، يعرفون الثابت والمتحول، ويردون الاختلاف إلى ما أمروا بالرد إليه، ومتى وجدوا الدليل القطعي الدلالة والثبوت استجابوا لله وللرسول دون أن تكون لهم الخيرة، ومع التسليم والرضى فليس هناك ما يمنع من استقبال فيوض الحضارات والأخذ بأحسنها ولكن بعد وعي عميق للذات وللآخر، وبمعرفة تامة بحاجات الأمة وطاقاتها، وبما يصلح لها من تلك الفيوض. ومرحلة الغثائية، لا تتحقق، ولا يتمكن الأكلة من التداعي عليها إلا إذا فقدت الأمة مقوماتها الحضارية، وسادها جهالها، واتبعت سنن من كان قبلها. والرسول صلى الله عليه وسلم الحريص على أمته حذرها من زمن «الغثائية» و«تداعي الأمم» على قصعة الحضارة و«اتباع سنن الآخرين» و«كثرة الهرج» و«التقاء المسلمين بسيفيهما»، ومن نظر بعين البصر والبصيرة في الفتن واشراط الساعة وعلاماتها التي أجملها الرسول صلى الله عليه وسلم أيقن أنها حاضرة، يديرها القوم فيما بينهم. ومما نعايشه الآن من مستجدات الغرب الضاحك علينا بمئل شدقيه «العولمة» و«الارهاب و«حقوق الانسان» ولما تزل مشاهدنا كمطارح الفتن، تتناثر في أرجائها أشلاء المذاهب والعقائد والأفكار، فيما تنحسر المعارف الانسانية والعلوم التجريبية والحقائق العلمية، لقد نشبت فيما بين الأخ وأخيه والجار وجاره حروب: باردة وساخنة، حول «الماركسية» و«القومية». وما أن أذعن لها المغلوبون على أمرهم: طوعاً أو كرهاً انشقوا على أنفسهم، وأعادوا التنازع جذعة حول المفاهيم والأولويات، حتى لقد وصف المنشقون سلفهم بالردة والتنكر لمبادئ الحزب، وقامت عشرات الثورات البيضاء والحمراء من أجل تلك المفاهيم التي لم تبلغ التراقي. وإذا كنا جميعاً لا ننكر ذلك، ولا يجهل أحد ما خسرته الأمة من رجال وأموال ومثمنات في سبيل هذا التطاحن لزم إعادة النظر فيما هو آت، وهل أحد منا يجهل التبذير المسرف للأموال والجهود والدماء والمقدرات من أجل تكريس مذهب طارئ أو عقيدة زائفة، وما على المتردد إلا أن يقرأ التاريخ الحديث للأمة العربية من ثورة «حسني الزعيم» إلى اليوم، ليعرف كم من كفاءات بشرية ومثمنات: حسية ومعنوية أريقت تحت أقدام المستجدات، فاضت المنافي وامتلأت السجون واكتظت المقابر، وما استقر أحد من هذا العالم النائم المتخلف على نحلة أو مذهب. والأمة التي زين لها سوء عملها لا تعيد قراءة التاريخ، ولا تقّوم الأحداث، ولا تتأمل أحداثها وحوادثها الجسام قبل الاستقبال أو الاستدبار، وحين لا يكون للأمة ذاكرة، ولا مركز معلومات، ولا حكيم يتولى أمر الصدور والورود تظل في حالة من النزيف الدموي الذي يدخل بها مرحلة الغيبوبة ثم الموت الزؤوم.
وإذا كنا فيما مضى لا ندخل في نحلة حتى نفرغ من سالفها، فإننا اليوم نشتغل في أكثر من نحلة، نضع أيماننا في عقيدة، وشمائلنا في أخرى، فيما نستشرف بعيوننا مذهباً مادياً قادماً من بعيد، ونلقي السمع لما عند غيرنا، مما يصلح، ومما لا يصلح، نجمع الأشتات، ونحفل بالنقائض، ونقبل تحقيل أنفسنا للتجارب. ومصدرو المذاهب والعقائد يجرون فينا تجاربهم، مثلما يجري العلماء تجاربهم في مختبراتهم على حيواناتهم الأليفة والمتوحشة. ومصائب الأمة تتضاعف، ومشاكلها تدلهم ومصاعبها تتفاقم، حين تقع الغفلة المعتقة بين نخبها وقادة الفكر فيها. ولو ضربنا المثال بدعوى «حقوق الانسان» وتهافت الأدباء والمفكرين والعلماء والإعلاميين والساسة عليها، لتبدت لنا السذاجة والبلاهة، وتهافتنا يوحي بأن الحديث جديد، وأن «حقوق الانسان» من لدن المشرق أو المغرب، وما كان نور الله الذي يهدي إليه من يشاء من شجرة شرقية ولا غربية، ولم يكن الغرب حفياً بنا، وبما نلاقيه من ظلم ذوي القربى، وكأننا لم نعرف هذا الحق إلا حين أشاعه الغرب في أوساطنا، وكأن إسلامنا خلو من ذلك. ولو كنا نعقل ونفكر ونتدبر لأوقفنا هذه الدعوى خارج مشاهدنا، واستفتينا إسلامنا عما عنده من قيم ومبادئ، تحفظ حقوق الخاصة والعامة: - سياسياً، واجتماعياً وفكرياً، وتحول دون الظلم،وتدعو إلى العدل والاحسان والمساواة، فإذا توفرت المبادئ واكتملت الاجراءات طرحنا مشروعنا وأخذنا بمقتضاياته، وكيف لا نجد في إسلامنا ما يشفي ويكفي، وهو قد حفظ للحيوان حقه، فمنع حبسه، وأدخل النار امرأة حبست هرة، وأدخل الجنة مومساً سقت كلباً، وجعل في كل كبد رطبة أجر، وأمر بإبلاغ المشرك المستجير مأمنه، وجعل إيذاء الذمي كإيذاء أكرم الخلق.
والغرب الذي يدوف لنا سراب الوعود بمعسول الكلام يلهينا بمصطلحات جذابة ك»الحرية» و «الديمقراطية» و«حقوق الانسان» ولو أن قائداً عربياً أخذ بشيء منها أخذ صدق وامتثال، كما هي شائعة عندهم، لحالوا بينه وبين ما يشتهي، ذلك أن ما يقولونه، ويتداولونه لمجرد الدعاية والاستهلاك، وكيف يودون لنا العلم والحرية والاكتفاء، وهم ينظرون إلينا بوصفنا غنيمة باردة، يشترون خيرات البلاد العربية والإسلامية بثمن بخس دراهم، ويعيدونها إليهم بعد تحويلها إلى مستعملات مستهلكة بأغلى الأثمان، يجربون في مشاهدنا وعلى حدودنا وبين فئاتنا سلاحهم وخططهم العسكرية ولعبهم الماكرة، ويخوفون بعضنا من بعض، يحيون فينا أسباب الفرقة، ويعمقون بؤر التوتر، ويجذرون الكراهية، ويساعدون بعضنا على بعض، حتى إذا غرسوا في نفوسنا الشك والخوف والارتياب والعداوة والبغضاء، تنحوا قريباً، وجلسوا جلسة الشامت، ينظرون إلى أثار تآمرهم فينا.
وحين نحفل بمبادئهم المفرغة من محتوياتها، ونقبل بها، فهل تكون احتفاليتنا مرتبطة بما في حضارتنا من قيم وآليات لتنفيذها؟ لهم دينهم ولنا ديننا، ولن يرضوا عنا إلا باتباع ملتهم.
الإسلام له رؤيته الثاقبة في كل شؤون الحياة:{مَّا فّرَّطًنّا فٌي الكٌتّابٌ مٌن شّيًءُ} وقد جاء كتاب الله {تٌبًيّانْا لٌَكٍلٌَ شّيًءُ}.
والحضارة الغربية لها رؤية تناسب حياة ذويها، وتسد حاجاتهم، وتستجيب لمطالبهم، حتى لقد تربوا عليها كحيوانات «السيرك» وما عندهم من حق وعدل ومساواة وعمل جاد وإعداد للقوة المعنوية والحسية يعد ضالتنا، فالأمة الإسلامية مطالبة بالأخذ بأسباب الحضارة المادية. وما لا تقوم الحياة السَّوية إلا به شأن المؤسسات الإسلامية من أنظمة وشروط، وهذا الافتراض مشروع، متى لم يلغ الخصوصية، ولا يحول دون الدخول في الدين كافة.
و«حقوق الإنسان» في الإسلام مكفولة مع «الجلد» و«الرجم» و «القطع» و «القتل» و«الصلب» و«النفي من الأرض» و«قضايا المرأة» و«الانجاب» و«الإسكان» وسائر الظواهر الاجتماعية، أما حقوقه في الحضارة الغربية فإنها تمنع قتل القاتل وقطع يد السارق وجزاء الحرابة ورجم المحصن الزاني وجلد ما سواه والطلاق والإرث. وإذا أخذنا بمفاهيم الغرب تمشياً مع رؤيته لحقوق الانسان خرجنا من ديننا، وإذا أخذنا بمفاهيم الإسلام عطلنا «حقوق الانسان» كما يفهمها الغرب. فكيف نحافظ على ثوابت الدين، ونحق الحق. والغرب الذي يتغنى بالحرية والعدل ماذا فعل بالإنسان العربي، وماذا فعل بالمسلم المستضعف في كل بقاع الأرض وعبر التاريخ الحديث، فأين هو من الإنسان الفلسطيني، والانسان العربي خاصة والانسان المسلم عامة وانسان العالم الثالث، وأين هو من «حقوق الانسان» كما هي عنده؟
أحسب أننا أحوج ما نكون إلى المواجهة الحضارية، مواجهة الحوار وتبادل المصالح، وإلى مساءلة الغرب المتغطرس ليحقق مقتضيات «حقوق الانسان» مع غيره، وعلينا أن نصوغ رؤيتنا لحقوق الانسان من خلال حضارتنا العربية والإسلامية، وأن نقدم مشروعنا، وأن نثبت للغرب أنه أول المتنكرين لحقوق الانسان.
هامش:
* قد نصل الحديث عن حقوق الانسان في الإسلام.
بعد إدكار المراجع.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:30 PM   #174
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة المتن وثقافة الهامش..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


وجدت في احدى (الأجندة) المهترئة في جيبي كلمة، نقلتها على عجل ل (ألبرت مكسيكو) تقول: (جئت لهذا الوجود لأختلف معه). ولست أعرف عن هذا المشاغب شيئاً، ولما أزل أبحث عنه في غيابة التاريخ. فمن يعرف عنه شيئاً، فليبلغ أقرب صديق لنا. وكنت أحفظ كلمة قالها الدكاترة (زكي مبارك) عفا الله عنه للدكتور طه حسين الذي دمَّر حياته، وقَدَرَ عليه رزقه عامله الله بما يستحق تقول: (الويل لنا إن لم نختلف). ولست أدري أين قرأتها، فمن يعرف موقعها من كتب (المبارك)، فليشر إليها، فكتبه، وما كُتِبَ عنه في زاوية مغبرة من مكتبتي، التي شغلني عنها وعما يماثلها من جيد القول وعميق المعرفة وسداد الرأي جيلُ الشغب والإثارة، ملأ الله أفواههم علماً وحكمةً، وأفعم قلوبهم هداية وثباتاً على الحق.
ومقولتا (مكسيكو) و(مبارك) سُقتهما فاتحةً للجدل الذي قد يصل إلى حد المراء الباطن لا الظاهر، ومقدمة كما الصدقة بين يدي النجوى، لإطفاء غضب المتحفزين للمناكفات. والذي جر قلمي إلى هذه التهويمات والتحْويمات والمقدمات الإطفائية ما يقال عن (الثقافة) المحلية، أو العربية، أو الإسلامية المتداولة في المشهد العربي والعالمي، واقتراف تقسيمها إلى: ثقافة (متن)، وثقافة (هامش)، وافتراء الكذب بجعل ثقافة الأمة المسلمة ثقافة وَهْمٍ وهامش، دون استثناء أو تحفظ.
والإطلاقات العامة رماية طائشة، تؤذي، وتخيف، وتكشف عن جهل وتسرع وتحامل لا يليق من مجتمع (الرياضة) و(الفن) فضلاً عن مجتمع الفكر والحضارة، والقول دون استثناء إيغال في العموميات وإذكاء للاختلاف، واقتراب من (الخلاف) المورِّث للتنازع والفشل وذهاب الريح. فالكاتب المتمرد على الثوابت والسوائد حين يتولى كِبر التقسيم، لاشك أنه يستأثر بالمتن، جاعلاً ما سواه في الهامش، وهو بعد حدث في رحاب العالم، وإن وهن عظمه، واشتعل رأسه شيباً، وقسمة كتلك تعد قسمة ضيزى. وطبعي أن يأتي مهمَّش آخر لينتزع المتن من مدعيه، قائلاً له: (ليس هذا العش عشك فادرج) ويظل الجميع كعشاق (ليلى):




وكل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا


وهذا على أصح روايات البيت وخبرتي القرائية والعراكية التي ناهزت نصف قرن ولا فخر أثبتت لي أن أقل الناس خبرة، وأقلهم معرفة، واحدثهم سناً اجرؤهم على التطاول والمباهاة، وأحفلهم بالتصنيف والقطعيات والأثرة وبالتألي بالحكم الناجز والحرمان القاطع. وتلك مصائب المشاهد والمواقع والمنابر. والأحداث المتزببون يتعجلون العملقة بصلف القول وفجاجة الرأي. والتصدي لهم أو التعفف والمرور الكريم مركبان أحلاهما مرٌّ، فحين تمر بمثل أولئك وكأنك لم تسمع، ولم يقل، تساعد على إخلاء الثنيات، ليتحكم الجهلة في رقاب الحقائق، والتصدي لهم يرفع رصيد البذاءات، ويجعل الحصيف الآخذ بحجز المتهافتين عرضة للسَّفاهات والتفاهات.
وما لا مراء فيه، ولا اجتهاد معه وجود (المتن) و(الهامش) في أي ثقافة: إسلامية أو غير إسلامية، متى كانت منجزاً بشرياً، يحكمه التفاوت العقلي والمعرفي والتجريبي، ولكن المراء وكل الاجتهاد في تحديد المتن والهامش، فتلك قاصمة الظهر، ومراتع الفتنة. فبعض المنشَّئين في الحلية، وهم ألد الخصام، يرون أن الثقافة الإسلامية بكل ما وسعت من قيم: عقدية وتشريعية وأخلاقية هي الهامش، فيما تأتي ثقافة التمرد والانقطاع والتبعية ثقافة متن، وتلك لعمر الله بلية البلاوي. وإشكالية (الحدية) و(القطعية) عند المتعالمين والمرجفين ومثقفي السماع تكشف عن التسطح والتسرع وقول ما قاله النَّائين بجنوبهم. فحين يتحدث أحدهم عن (التجربة الغربية) أو (التجربة الشرقية) ثم يربط نجاحها بشكل قطعي حصري بالتخلص من (الدين) بواسطة (النقد) الصريح والمواجهة العنيفة.
وحين يأتي آخر، وهو بصدد الدفاع عن (الأدب العامي) ليقول: إن أوربا لم تنهض إلا بعض اهتمامها بلهجاتها، ثم يعقبه ثالث ليقول إن (اللادينية) هي منطلق الحضارة والمدنية، ويتهافت متربيون على القول عن (المرأة) أو (الثقافة) أو (الحرية) أو (الديمقراطية) وكل هؤلاء بمجازفاتهم لا يزيدون أمتهم إلا خبالا، ومع الترديد لمقولات سلفت، ملتها المشاهد، ومجتها الأسماع، يكون لكل هؤلاء القائلين عما ليس لهم به علم ولا لآبائهم أشياع وأتباع، يطيرون بما يسمعونه منهم فرحاً، وكأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من الذكر الحكيم، ومع أن هؤلاء وأولئك كما المتردية والنطيحة إلا أنهم يغثون ويؤذون ويعوِّقون.
وليس لأحد منهم سابقة إلا سابقة المخالفة، وضرب السوائد، والاستفزاز، واجترار المقولات التي مجتها أسماعنا منذ (رفاعة الطهطاوي) و(عصر النهضة) و(قاسم أمين) و(مصطفى عبدالرازق) و(طه حسين) وحتى (أدونيس) و(أبي زيد) و(خليل عبدالكريم)، وهي مقولات جاهزة تشيع الذكر، والمتخلل إليها بلسانه كما البقرة يكون حاضر المشاهد.
والمشاهد الضاوية الأجسام الخاوية المظاهر يحركُ ساكنها من يوردون الأمور ولا يصدرون، وآلاف المفكرين والفلاسفة والكتاب قالوا مثل قولهم، وعشرات القادة غامروا، فقال قائلهم: (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين) فيما ترى وتسمع من اللاحقين بهم من لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول المكرور، ومن ثم فإن الجديد عندهم في السياق والربط، ووصف ثقافة الواقع المحلي بالهامش أو الوهم. فما (المتن) وما (الهامش) وما (الوهم) وما (الحقيقة)؟ سؤال حقيق بالطرح، ملزم بالجواب الأدق للتحديد، فمثل هذه الإطلاقات والمفرقعات لا تقال عن مثل هذه القضايا المصيرية.
وحين يربط الكاتب المسلم بالهوية أو العقيدة أو بهما معاً عن جهل أو عن علم وإصرار نجاح أوربا (إزاحة الدين)، وب (حرية النقد)، يكون قوله تحريضاً وإغراءً للجهلة ومرضى القلوب على ممارسة التجربة الغربية مع ثوابت الأمة، من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة صحيحة، لم ينطقها صاحبها عن الهوى، وهو قول سمعه من كان قبلنا، وليس ببعيد أن يسمعه من سيأتي بعدنا، فالمقوون كالأثرياء المفلسين، يفتشون في أوراقهم القديمة، وما يقال عن فكاك أوربا من هيمنة الكنيسة وانطلاقها نقل تاريخي متداول، ورواية صحيحة لا غبار عليها، فالنهضة الأوربية لم تنجح حتى لملمت ذيول السلطة الكنسية (وطقَّستها) وجعلتها للفارغين والمعوَّقين، والشيوخ والعجزة والعجائز، ولكن الكارثة حين يلح المستدعي للتجربة الأوربية على نقلها، محرضاً أمة الإسلام على (تطقيس) دينهم، ورفع مصحفهم الذي جاء تبياناً لكل شيء.
والواقعة الباقعة أن (المتعلمنين) حين يتفجعون على واقع أمتهم، وهو بالشك واقع مفجع، يمعنون في ارتكاسها، وما منا من أحد إلا وهو متفجع على هذا الواقع، متألم منه، ملتمس الخلاص من وهدته، ولكن الخلاص لن يتحقق بالفرار من الدين، وإنما بالفرار إلى الله جميعاً، وحتى ندخل في الدين كافة، ونتمثله اعتقاداً في الجنان، وقولاً في اللسان، وعملاً بالأركان، محققين مقتضياته في التفكير والتدبير والتوقيت وإعداد القوة، لا أن نفر من ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وعلى هذا فالاختلاف في الحل، وليس في توصيف الواقع الأليم، ذلك أن واقع الأمة الإسلامية لا يطاق، وأم المشاكل في تحديد طريق النجاة، وسؤال المستبدلين سؤال مشروع، فالكاتب حين يخط بقلمه ما يرى، ثم يفضي به إلى الناس، يكون من حقهم التساؤل، فالقول كالغذاء، فالمعدات تلتهم الطعام، والأدمغة تلتهم الأفكار، وكلا الغذاءين مؤثر على المتلقي: آكلاً أو قارئاً، والكارثة أن مثل هذا الغذاء الفكري تضوى به الأفكار.
وما أضاع الأمة إلا اقتلاع التجربة الغربية والأخذ بعصمها، دون وعي لخصوصية كل حضارة وإمكانيات كل أمة. والنفور من المساءلة والمراجعة دليل على ممارسة الوصاية وحسم القضايا المصيرية مع غياب ذوي الشأن، ومن مصائب راهننا أننا حين ننفر لحماية الثغور وإحقاق الحق، يحال نفورنا إلى الجهل والتخلف، ولو تنادينا إلى كلمة سواء، وحررنا قضايانا ومسائلنا، لاستطعنا تخطي العقبات والمعوقات.
للحديث صلة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:30 PM   #175
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة المتن وثقافة الهامش...!
د/ حسن بن فهد الهويمل


ومشروعية التساؤل عن المرجعية والأحقية للمتداول من القيم والأفكار الطريف منها والتليد قد يضايق البعض، ويرفع نبضه، ويربك حركته، ولربما يقلبها رأساً على عقب، ذلك أن طائفة من المشتغلين بالثوابت، أو المتحدثين عن المسكوت عنه، أو المتسائلين عن هوية السوائد، يتصورون أنهم يقولون كلمة الحق، وأنهم لا يسألون عما يفعلون، وأن المناوىء لهم مغرم بالتجريم والتحريم والإدانة ليس غير، وكأن هذا البعض قد ورث المشهد من أبيه وأمه. وما درى هذا المسكين أن الله لم يمض مع رسوله المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي لا يتقول على الله بعض الأقاويل، في كثير مما تعجل به، أو فعله بوصفه بشراً، حتى لقد راجعه في الدعاء على من لقي الأذية منهم، فقال له:- «ليس لك من الأمر شيء». وهو قد خالفه في أمر الفداء وفي تحريم ما أحل الله له لمرضاة أزواجه، واستدرك عليه مواقفه من الأعمى وممن يدعون ربهم بالغداة والعشي.وهؤلاء الذين يتلقون ركبان الاستغراب، ويسارعون في طمس الهوية والسمة والخصوصية مندمجين مع الآخر الحفي بخصوصيته وسمته وهويته إلى حد:«ولن ترضى عنك..»، هؤلاء لا يحسون بما تركوه من أثر سلبي وإرباك متعمد للمشهد الفكري والثقافي. وبخاصة عندما تكون الآراء فجة، والمتحدثون نقلة لما لا يفهمون، وكثير مما نقرؤه مضى زمنه، وكلحت نضارته وشمطت ملامحه.
وبعض الكتبة يقول الكلمة المخلة بالقيم والخارجة على الضوابط، لا يلقي لها بالاً، تهوي به سبعين خريفاً من عيون العارفين بالمقتضيات والمقاصد، ومع ذلك تعرج به إلى سماوات البهرجة والشهرة الزائفة عند من لا دراية ولا رواية عندهم، وما أصدق الحكيم المجرب حين قال لأحد جلسائه:«تحدث حتى أراك». وأبو حنيفة المتأذي من آلام ركبته، لم يمكنه من مد رجله إلا كلام المظهري الفارغ. وبعض الكتبة تحتدم مشاعرهم، وتتوتر أعصابهم، ويدخلون الحلبة بورقة واحدة، ولو دخلوها بأكثر من ورقة لكانوا أربط جأشاً، وأرحب صدراً. وكلما أوغل الإنسان في المسؤوليات، واستشرف المعارف، وحنكته التجارب، وخبر حلو الحياة ومرها، كان أكثر هدوءاً، وأرحب صدراً، وأقرب إلى التعذير.
وما أضر بالأمة إلا المبتدئون الذين يخطفون كلمة من هنا وكلمة من هناك، ثم يشعلون بهما نار الفتنة، ويربكون المشاهد، وإذا دعوا إلى كلمة سواء لووا رؤوسهم، ولقد يكونون موغلين في الدين بدون رفق، فيحرمون ما أحل الله من زينة أو طيبات، ويحيلون حدتهم وشدتهم إلى سد الذرائع والغيرة على الدين، ومن هؤلاء من نحقر عبادتنا عند عبادتهم، وصلاتنا عند صلاتهم، ولكنهم أحداث يمرقون بتنطعهم في الدين كما يمرق السهم من الرمية، وضياع الدين بين جاهل متنطع ومنافق جلد، فهما بين الإفراط والتفريط، وكيف بنا إذا عشنا حتى نرى متنطعاً يغلو في دينه، ثم ينقلب على عقبيه حاملاً معه جلابيب الدين، بعد أن حولها كما المستغيث، فكان على نقيض تنطعه ورهبانيته، وهو في كلا الحالين نقمة ووبال. وكيف بنا إذا خبّ السفيه ووضع في مراتع الفتن وتنقل بين«الراديكالية» و«الإيغال» في الدين بلا رفق! ثم لم يجد من يأخذ على يده، ويأطره على الحق أطراً.
والمحيل على التجربة الأوروبية، وضاربها مثلاً، ونسيان ما هو أهم مثله كمثل الذي ضرب مثلاً ونسي خلقه وصنيعه لعبة مكشوفة وعملة قديمة متحفية، ومؤشر انهزام داخلي، والمجتر لها كهفي يغدو بورقه إلى ذوي الشأن، ليكشف عن ماضوية تجاوزتها أبجديات العصر. والتجربة المعشوقة ما زالت ليلى المغفلين والساذجين والماكرين والمأجورين.
وأين هم من تجارب أخرى شرقية وجنوبية وشمالية من ذوي الديانات الوضعية المضحكة؟ ومع ذلك لم تحل دياناتهم الوضعية الخرافية بينهم وبين اختراق الآفاق، والاتيان بمثل ما أتت به أوروبا وأمريكا المتعلمنة. لقد طرحت مشاريع كثيرة متناقضة لإقالة عثرة الأمة العربية، ولم يكن من بينها العودة إلى ما كان عليه محمد وأصحابه، وكل تجربة مضرة تبدىء وتعيد مقولة« عزل الدين عن الدولة» أو «عزل الحياة المتحفيين تذكر «غاندي» و«نهرو» و«أنديرا» فكيف بمن هم على المحجة البيضاء، واليهود المتعصبون ليهوديتهم وللغتهم استطاعوا تحقيق متطلبات الحياة الدنيا، وبحبل من الذين كفروا أقاموا دولة دينية تعتمد المؤسسات والديمقراطية، وما أحد منهم شكك في أثر الدين اليهودي المحرف على المعاصرة. وعلى ضوء ذلك فإنه لا يمكن ربط التخلف بالعقيدة، والقرآن الكريم قد أشار إلى ذلك«يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا»، وحين يتفوق الأوروبيون مدنياً فإنهم مخفقون حضارياً، وليس لهم في الآخرة من خلاق، وحين يتفوق الإسلاميون مدنياً يتفوقون حضارياً، ويرجون من الله مالا يرجوه غيرهم.
إن «ثقافة المتن» و«ثقافة الهامش» و«ثقافة الوهم» تكون عند العلماني وعند الإسلامي، متى لم يحسن أحدهما التعامل مع المستجدات، ومتى لم يحسن الإسلامي تمثل المقتضيات والمقاصد الإسلامية، ومتى غاب الإسلام ممارسة، وحضر ادعاء، والأمة الإسلامية تمر بوضع حرج وتحديات لاقبل لها باحتمالها، وجبهتها الفكرية حين يكون أفرادها كما بني إسرائيل وبقرتهم يدب في أوصالها الداء، ويصيبها الوهن والحزن، ولا تحقق العلو الذي أراده الله لها، وإذا كانت مثخنة الجراح من سهام العلمانيين والحداثيين والذوّاقين وأنصاف المتعلمين فإنها ضاوية الجسم خائرة العزيمة من طوائف الإسلاميين الذين يظنون أن المواجهة القولية والفعلية هي الحل، دون تربية وتصفية وفهم وعمل، وعزاؤها وعد الله بالنصر لمن نصره، والبقاء للطائفة المنصورة، والمبعوث المجدد على رأس كل قرن.
إن ما نريده من السائمين في مزابل الغرب المجترين لمقولات تكشف عوارها أن يجربوا الاستبداد ولو لمرة واحدة، وأن يحاولوا طرح مشروع إسلامي حضاري، يحترم العلم والمدنية وإنسانية الإنسان، ويقدس النظام والحرية والوفاء بالعهود، مما يجعل العدو كأنه ولي رحيم، فهل نظفر بهذا النوع من المفكرين؟ أحسب أن الوقت مواتٍ، والظروف مناسبة، ولم يبق إلا صياغة الخطاب الحضاري.؟
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:31 PM   #176
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
على هامش المجتمع والتربويين..
قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصاً..!
د.حسن بن فهد الهويمل


لو دعيت إلى التظاهرة التربوية الكبرى، لتحديد المراد المتبادل بين ثنائية: (المجتمع) و(التربويين) لكان في فمي ماء، وكيف ينطق من في فيه ماء!. أما وقد كفيت عناء المجادلة والمجاهدة، أو المجاملة والمداهنة، فقد وجدتها مناسبة (لأرسلها العراك) على حدِّ قول (لبيد) ورأي (سيبويه). ونحن في غمرة التلاحي أحوج إلى التوفيق منه إلى التحريش. وما من أحد منا تختلط عنده الرؤى والمفاهيم، إلا ويكون قوله (ضغثاً على إبَّاله). فالوزارة الأخطبوطية المنتشرة كالضباب مجلّلةً الوهاد والنجاد، لا تطلب المزيد من العناء، ولا رد اللفحات، وإنما تعطو إلى نسمات اللطف. ومن الحقائق الغائبة في ضجة الجدل أن (التعليم) يكون صناعة، ويكون فريضة وعبادة. والدهماء من الناس لاتفرق بين المهمتين، مشكّلةً بلحمها وعظمها عقبة في طريق التحرف السليم، وما لا مراء فيه ان لكل مطلب مرجعيته ومشروعيته، فصناعة الإنسان للإنتاج تتطلب العصرنة، وصناعته للعبادة تتطلب الترثنة. وفوق ذلك فالتعليم شطر التربية، كما (الحياء شطر الإيمان)، ومن جعله الكل في الكل، ونسي البيت والسوق والمسجد وضخ القنوات وتدفق مراكز المعلومات، وما تحمله وسائل الاتصال، وما يختصره ويزويه عصر القرية الكونية، وما تفاجئ به التحولات الحضارية والمدنية فقد حمّل التعليم ورجالاته مالا يحتملون، وغفل عن تلك المؤثرات التي تطال التفكير والتدبير والقيم والمفاهيم والمواقف. ومع هذا وذاك فإن التعليم شبكة معقدة من المشاكل والإشكاليات، لا تحسم بذهاب مسؤول ومجيء آخر، ولا تقلّص بنزع غلاف من مقرر ووضع آخر، ولا تحل بتغيير مسمى المفتش بالموجه ولا المراقب المرشد، ولا تنقض مشاكله عروة عروة بابتداء لقاء وانتهاء آخر، ولكنها تكون بتلك وبأشياء غائبة. ومن توقع أن أحداً من المشرعين أو المنفذين يمكن أن يأتي متوكئاً على عصا موسى، أو أن أمره بين (الكاف) و(النون) فقد وقع في أضغاث لأحلام، وفوت على قومه فرصاً لا تعوض.
وعلى المشرِّعين والمخططين ومن دونهم من المنفذين ومن حولهم من المتابعين: الراضين أو الساخطين معرفة ذلك تمام المعرفة، لمواجهة مجمل التساؤلات والإشكاليات مواجهة حضارية. وحين تُخْلط الأوراق، ثم لايفرق المتعقبون للعملية التعليمية بين (التعليم الدنيوي) القائم على التدريب المهني والتأهيل المعرفي والتعليم التجريبي، لإعداد القوة المادية من أطباء ومهندسين وعلماء تجريبيين وإداريين وفنيين وحرفيين ومحاربين، و(التعليم الشرعي) للتفقه في الدين، وإعداد القوة المعنوية من فقهاء ومحدثين ومفسرين ومتكلمين وناهضين بمسؤوليات القضاء والدعوة والحسبة يستفحل فيما بينهم التنازع والتنابز والهمز واللمز، الذي قد يبلغ أحطَّ دركاته. والسرعان من الناس من يخلطون بين: الديني والدنيوي، ولايفرقون بين طلب العلم الفريضة وطلبه الاختياري، ومثل هذا التشابه يهيئ الأجواء لتناسل الارتياب والاتهام، وقتل السمعة. ولو أن المتجادلين فرقوا بين الثابت والمتحول، وعالجوا الأمور وفق أهدافها وغاياتها، وفي إطار مجالاتها، وعلى ضوء الإمكانات المتاحة، لهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
والدولة حين ترتبط بالشريعة: وجوداً وعدماً، وتصدر منها، فيما تأتي وتذر، وتخضع لها حاكمية، يكون إقدامها وإحجامها حساسين، وتحرفها مثيراً للمساءلة والتحفظ، ويكون الإشفاق من أي محاولة للتغيير، مهما كانت المبررات والحيثيات. فالزمن الرديء لايبشر بخير، والأوضاع المتردية عن يمين وشمال تخيف المخيفين، وما من أحد إلا وفي أعماقه عقدة التآمر والمكر، لكثرة تعرضه لها وقوعه في حبائلها، فالأعداء المتربصون وممن حولنا من المداهنين، يأتون السوائد والثوابت ينقصونها من أطرافها، ويمهدون لذلك بما يشيعونه عن البلاد وأهلها وتعليمها من قالة السوء. ولقد تناولت أطرافاً من هذه الشائعات بمقالين عن: - (صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية) (الجزيرة 21423/2/4 و1/3/1423هـ). وفي ظل هذه الأجواء المتوترة لا يكون تفكير في التغيير إلا ويكون إلى جانبه تفكير في الاعتراض. وجميل أن يكون تفكير وتساؤل واعتراض حصيف، ولكن الأقبح أن يحال التغيير إلى سوء النوايا، أو أن يربط بالحملات الإعلامية الغربية، فينشأ تردد معيق وارتياب مخيف. وعندما نبيح لأنفسنا التشكيك بالعمل والعامل نعطل المسيرة ونظن بأنفسنا ظن السوء، ونتيح للمشاكل أن تتراكم، كما الظلمات التي بعضها فوق بعض. والمعترض على أي إجراء: إما أن يكون ناصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإما أن يكون نقيض ذلك أو دونه، على غرار: - (فمن كانت هجرته). وعلى شاكلة المقاتل الذي يكون قتاله لإعلاء كلمة الله، أو يكون حمية أو شجاعة. ولما كان أمر الدنيا على الظواهر، وأمر الآخرة على البواطن، كان من واجبنا ألا نتعمد شق الصدور.
والأمر لاينتهي عند حسن النية أو عند سوئها، ولا عند التبين والعلم، وإنما يتجاوز ذلك إلى أمور أخرى، تتعلق بأسلوب الممارسة وظروفها، وحجم التطلع وإمكاناته. ثم إن المعترض يكون ناصحا وصادقا، ومع ذلك يكون عرضة للجهل أو للتسرع أو لخطأ التقدير أو التوقيت، وقد لايتوفر في مواجهته على ما يحب الله من الحلم والأناة، وقد يكون متأثراً بالشائعات، غير منصاع للتثبت، رابطاً بين ما يثار من اتهام، وما يشاع من ريبة، وعند هذا لايكون نصحه وصدقه منجيين، والنصح الصادق لابد له من الدراية الواعية والتثبت الدقيق، وشيء من فقه الواقع، ومعرفة الأحوال والمتغيرات والأجواء والإمكانات، وحسن النية وإحسان الظن، والتماس العذر لمن لم يحالفه الحظ. فنحن أحوج ما نكون إلى الأجواء الملائمة للمحو والإثبات. وليس من شك أن العلم الدقيق بالملابسات أولى بشائر التسديد والتوفيق، والعلم شرط القول والعمل، فالسبيل الدعوي الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلانه، ربطه الله ب (البصيرة) وهي العلم.
والبصيرة ليست فقط في إتقان ما يقال، ذلك أن الإنسان يكون حافظاً لكتاب الله، مقيماً لحروفه وحدوده، مستوعباً للحكمة: قولاً وعملاً وإقراراً، ولكنه غير فقيه، سواء أكان الفقه: فقه أحكام أو فقه أحوال و(رب مُبلّغ أوْعى من سامع). إذاً نحن أمام شرط أساسي في مواجهة المتغيرات المصيرية، وهذا الشرط تجمله (البصيرة). ولكل حقل معرفي بصيرته، فالسياسي له بصيرته السياسية، ولكل من الاقتصادي والتربوي والأديب والمفكر والفيلسوف ورجل الأعمال بصائرهم. و(البصيرة) لا تكون على المحجة البيضاء حتى يخالطها الصدق والإخلاص والاستبراء للدين والعرض. فكم من عالم نحرير أضله فساد الفكر أو انحراف المعتقد أو سوء الظن بالمسلمين، أو الهوى المتأله. وبصيرة العصر تختلف عن بصائر ما سلف، ذلك أن النوازل تعقد الأمور. كما أن تعدد الاحتمالات، والتماكر، والمخادعة، وبراعة اللاعبين، ولطائف اللعب أمور يشيب من هولها الوليد. وإذ يكون المتابعون للعمليات المصيرية رواداً فإن السمة اللازمة للرائد ألاَّ يكذب أهله، ولعلي فيما أقول حفي بأوضاع القائلين بشأن التعليم لا بالتعليم ومتطلباته، فالشنشنات تكاد تعرِّف بنفسها، ووميض النار من خلل الرماد يكاد يكون ضراما، ومتى سدد الله على طريق الحق أطراف العملية، أخذ التعليم طريقه القاصد، وذلك ما كنا نتطلع إليه. ولما كانت الأمم العظيمة محفوفة بتربية عظيمة، لزم أن تكون الأمم الضعيفة متعثرة بتربية ضعيفة، وعلينا وعي أنفسنا، ومعرفة من نكون، وماذا يجب أن نكون.
والدولة حين يأتمن الله مسؤوليها على مصالح المسلمين وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وأفكارهم وأخلاقهم، يكون عليها واجب، ولها حق. فواجبها التفاني والنصح، وحقها السمع والطاعة والمناصحة. وليس أضر على الأمة من الخيفة المتبادلة. فالدولة حين تخشى الرأي العام وتداريه، والكافة حين تخاف الدولة وتلوذ بالصمت، تقوم الريبة، ويستفحل الخوف. ومتى قامت الريبة بين المتعاقدين صُرفت كل الجهود تلقاء حماية الذات، ووجهت كل الأفكار للتحايل، وتمرير المراد بوسائط غير مشروعة. وجهل العلاقة الشرعية بين طرفي العقد، يؤدي إلى قيام أنماط من العلاقات غير السوية. وما علينا من بأس حين نواجه أقدارنا بشجاعة، ونعرف كيف نتصرف في ظلها، فالتكتم كالداء الدفين، يستشري في الأبدان، وتضوى به الأجسام، ك (احتمال الأذى ورؤية جانية). ولسنا بدعاً في مجمل السياقات التاريخية والسياسية والدينية والإقليمية، فكل فترة لها مشاكلها، والحازم من يقدر على تكييف نفسه مع ظروفه، ويجتهد في التغلب عليها، ومن قال: -بأن الأمور سمن على عسل، وأنها على خير ما يرام، فقد أضلّ بالتصديق ولم يهد بالصدق. وإذ نتفق على أن هناك خللاً في التربية، يكون لزاماً علينا تداركه، سواء مايتعلق منه بالمهارات أو بالتعاملات أو بالأخلاقيات، وإذا كان لكل زمان دولة ورجال، فإن لكل زمان تربية وتعليماً.
والدولة المعاصرة مهيمنة، وممسكة بكل المصائر، كما رب الأسرة، وإن كانت (العولمة) وراء تحجيم دورها وخصخصة مجالاتها، وعزلها عن كثير من مهماتها. وهيمنتها تتطلب منها ملاحقة المستجدات والشفافية والمصارحة، إذ لا مكان للخائف المترقب ولا للمداري المتردد. وحين يكون الطرفان: -الحاكم والمحكوم في سفينة واحدة - وهم كذلك- فإن عليهما توخي السلامة، لأن أي خلل يعترض السفينة يمس الكبير والصغير. وقد ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناصح لأمته المثل بالقوم المستهمين على المواقع داخل السفينة، مبدياً أهمية الأخذ على الأيدي المضرة بتصرفها لنجاة الجميع، وكان حقاً على المقتدرين استصحاب هذا المثل الحي، ومعرفة حدود (الحق) و(الحرية): حق طرفي العقد وحرية التصرف واحترام النظام. وطريق الحفاظ على سلامة السفينة لا يكون بالضرورة طريقاً لتبادل الاتهامات والإسقاطات. والاختلاف في وجهات النظر لاينزع الأهلية، ولايدعو إلى الإخلال بمقتضيات العقد الاجتماعي، وكم نرى ونسمع من بعض المؤتمرين أو المنتدين أو القنواتيين أو الكاتبين إطلاقات في النقد وتعميمات في الاتهام. وكيف يمكن القبول بهذه التعميمات وكافة المسؤولين قد مروا بمراحل التعليم، وتسنموا بموجبها مختلف المناصب، وقبلتهم أرقى الجامعات العلمية في كل أنحاء العالم، حتى لقد روى لي أحد العاملين في إحدى ملحقياتنا في الغرب اطمئنان الجامعات (الكندية) إلى حملة الشهادات الطبية من جامعاتنا. وما على المرتابين إلا أن يجيلوا أنظارهم في جامعاتنا ومستشفياتنا وسائر المواقع العلمية والعملية: التشريعية والتنفيذية ليروا أبناءنا من حملة الشهادات الجامعية. فهل تكفلت جامعات العالم ومدارسه بتعليمنا؟
نقول هذا، ونحن على يقين من قيام الحاجة الماسة والملحة إلى النظر الشامل إلى مناهجنا، وتلافي ماينقصها، وعلينا قبل البدء في النقد تحديد مواطن الضعف ومصادر الخلل، وإرشاد المسؤول إليها، وحمله على مباشرة التصحيح، دون أن نشيع الخطأ، أو أن نضخمة، أو أن نمعن في السخرية والتيئيس، أو أن نركن إلى الإطلاقات والتعميمات، ودون أن تأخذ المسؤول العزة بالإثم، إذ لانريد أن نكون ك (غزية) وشاعرها الذي أبان لها النصح، فلم تستبنه إلا في ضحى الغد
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:32 PM   #177
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
على هامش المجتمع والتربويين..
قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصاً..! «2 - 2 »
د. حسن بن فهد الهويمل


ومما لا نماري فيه ظاهراً ولا باطناً حاجتنا إلى مواكبة التحولات السريعة في ميادين العلم التجريبي، وسائر المعطيات الإنسانية. ولن يتأتى التوفر على المعرفة بظاهر الحياة الدنيا إلا إذا عرفنا ما نحن بحاجة إليه، وعرفنا كيف نحافظ على الخصوصية الحضارية مع تحقيق المتطلبات المدنية. ولا مراء في أن المعادلة الصعبة تتمثل في حفظ التوازن بين مقتضيات النقل وسبحات العقل. ولقد نجمت الإشكالية بينهما في وقت مبكر، واستطاع «ابن تيمية» حسمها في درء التعارض بين المنقول والمعقول. ولما كانا يلتقيان على وجوب إعداد القوة بكل أشكالها، لزم أن يكون من أوجب واجبات التربية صناعة الإنسان، فهو القوة والثروة.
وإن كان ثمة إشكاليات قائمة بين أهم المصادر المعرفية: العقل والنقل، فإن مردها خلل المنهج وضعف الآلة، وإلا فخالق العقل هو موحي النص، ولن يكون بينهما تعارض ذاتي، وحينئذ يكون علينا توخي الطريق القاصد للجمع بينهما، بوصفهما مصدرين هامين لبناء المعرفة، وتشكيل النسق الثقافي، وصناعة الإنسان المعاصر. والعملية التعليمية من أخطر العمليات وأهمها. وحين سبق الشرقيون إلى غزو الفضاء، لم يكن بد من مساءلة الغربيين لتعليمهم، وإناطة المسؤولية به. والأمة الإسلامية فيما هي عليه من ضعف وتخلف وتفكك بحاجة ماسة إلى مساءلة ملحة لتعليمها قوامها نشدان الحق الذي هو ضالتها، ومن يتهيب الرأي العام، ثم لا يواجهه بالحقائق، تقعد به حساباته الاحترازية.
وإذا كنا على يقين بأن الدولة تنفق ربع ميزانيتها على التعليم، فإننا على يقين مماثل بأن التعليم لا يواكب التنمية، ولا يستجيب للحاجة بالقدر المطلوب، ولا يصنع الإنسان، ولا يوازن بين حق «المدنية» و «الحضارة» ولا يوفي كلاً منهما حقه، وهل أحد ينكر أهمية التعليم في توفير الثروة الحقيقية للأمة؟ وهل عاقل يقدِّم على صناعة الإنسان أي صناعة؟ فالثروة الحقيقية ليست في كنوز الأرض، وإنما هي في مكتنزات الأدمغة، وبراعة الأنامل، وقوة السواعد، ولا يتحقق شيء من ذلك إلا بتوفر المعارف والعلوم والتقنيات التي سبيلها التعليم التجريبي.
وفي المقابل فإن من الإسراف في النقد أن نحيل إلى التعليم كل مظاهر التخلف، ونجعله السبب الرئيس في تكريسها، وقد لا يقتصر الناقمون على ما يخصه، مما هو مرتبط به ارتباطاً مباشراً، وإنما تمتد رؤيتهم إلى جوانب المعاملات والتصورات والمواقف والمهارات والأخلاقيات. ومثل هذا التوسع في التحميل الجائر، يتيح الفرصة لمعوقات بادية للعيان، كي تلعب دوراً بارزاً في تكريس التردد والارتباك. وحين لا نتردد في تحميل العملية التعليمية جانباً من المسؤولية فإننا أحوج ما نكون إلى العدل بين المعوقات، وعلينا أن نستصحب السياقات والأنساق، والضعف وقلة الحيلة وهوان الأمة، والتدافع وتداول الأيام بين الناس. والذين يمعنون في مؤاخذة التعليم وحده، ثم لا ينظرون إلى المناخات القائمة، يعطلون دور متابعتهم، فالتعليم كالنوابت التي تسقى بماء واحد، ولكنها تختلف جودة وغزارة لاختلاف المناخات والمتابعات، وليس أضر على التعليم من الأجواء السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية غير الملائمة.
وحين يتقن أطراف العقد سواء كان: سياسياً أو تعليمياً أو غيرهما بنود عقدهم، ويجتهد كل طرف في مجاله، تعمر القلوب بالمحبة، ويسود الوئام، وتقوم الثقة مقام الشك و الارتياب. وليس شرطاً اقتصار الأطراف المتنازعة على المؤسسة السياسية وما يليها، إذ كل شخصية: اعتبارية أو ذاتية تبادل شخصية أخرى الفعل باتفاق مسبق، يقوم بينهما عقد يتفاوت في الأهمية والخطورة. فوزارة المعارف أو الصحة أو العدل أو المواصلات لكل واحدة موقعها في سلم الأهمية، وإنسانها يكتسب ذات الأهمية، ولك أن تنظر لما دون ذلك حتى الحارس الأمي ولما فوق ذلك حتى الخليفة الصادق، على حد «كلكم راعٍ و كلكم مسؤول عن رعيته».
وحين نخطئ السبيل القاصد، وتأخذنا بنيات الطريق، نحيل ما يكون من الإخفاقات المتوقعة وغير المتوقعة إلى النوايا والأثرة، حتى تفيض أوعيتنا بالحزازات والعداوات. ومع الزمن تتضاءل القضايا وتتضخم الشخصيات، ثم لا يكون في الساحة إلا غاضب ومغضوب عليه.
والإشكالية عند الاختلاف تتمثل في الخلط بين خطأ الاجتهاد وخطيئة الإصرار، وبالتالي تستشري مفاهيم: التآمر والعمالة، وتتضخم عقدة الشك والارتياب. ولو قامت بين المختلفين ضوابط الاختلاف المعتبر، وأحسن كل طرف ظنه بالآخر، وعد ما هو حاصل من تقصير من باب خطأ الاجتهاد، وما سيحصل من تحرف لتدارك التقصير من باب النُّصح، لعمرت البلاد واطمأن العباد. والكتبة عبر وسائل الإعلام، والمتحدثون في المنتديات أو في المجالس، والناقمون عبر المواقع لا يحررون مسائلهم، ولا يحددون مجال نقدهم، ولا يعِفُّون عن النيل من الكفاءات، ولا يبادرون بالحلول الممكنة: الناجزة أو المرحلية، ولا يقتصرون فيما يكتبون وفيما يقولون على القضايا المعينة المحددة بأوصافها وأسبابها، وإنما يعمدون إلى الاطلاقات والتعميمات واستدعاء الشخصيات، وذلك بعض ما يعانيه العاملون في مختلف الحقول، ولا شك أن العواطف والانفعالات تجتال الأكثرين من المتعقبين لخطأ التقصير أو لخطأ الاجتهاد، بحيث يفقد تداولهم جانباً من أهميته وأهليته، فكل من سُئل عن «مناهج التعليم» على سبيل المثال لا الحصر أو تحدث عنها، أوسعها ذمّاً، ونال منها دون اقتصاد، ودون تحديد، وسلبها أبسط منجزاتها، وإذا فكر المسؤول بالاستجابة ثارت ثائرة الشكوك والاتهامات، حتى لقد كدنا نقع تحت طائلة «احفظ ولا تصلح». وحين لا نجد غضاضة من القول فيما ينقص المناهج، نجد كل الغضاضة في الإطلاقات غير المسؤولة. فالدولة التي تنفق عشرات المليارات، وتستقبل الملايين من الطلبة والطالبات في مختلف المستويات من الحضانة والروضة إلى الماجستير والدكتوراه لا يمكن أن تصر على الحنث العظيم، بحيث لا تفكر في التطوير والإصلاح، وملاحقة المستجدات، وحين تفكر في التغيير لا يمكن أن تصادم الثوابت.
ووزارة بلغت أشدها، وبلغت خمسين عاماً، تقع في التقصير، ولكنها لا تقع في الخطيئة والجهل. وحين يبدو الضعف في مخرجات التعليم، وتسوء الأخلاق في أوساط الناشئة، أو يفوق العرض الطلب، أو يكون هناك غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع، أو حين تضيق المقاعد الدراسية بأهلها، يكون هناك: خلل مخل، ولكن ذلك لا يستدعي الإدانة وحدها، ولا الإطلاقات الطائشة، وإنما يستدعي تقصي المعوقات، والتحرف الصادق للمواجهة الشجاعة. والوزارة إذ تفعل ما في وسعها لمواجهة الترديات، تكون بحاجة ماسة إلى من يتعقبها بالحكمة والموعظة الحسنة، والنقد الهادئ المشفوع بحسن النية والتفاؤل. والويل لأمة يستبد مسؤولوها، ويغفل نخبها، وكل الويل لأمة يستحر الشجار بين مسؤوليها ونخبها، ثم لا يكون إلا تبادل الاتهامات وتزكية الأنفس.
وكم كان حسناً لو أن الناقمين على «المناهج» وبخاصة في زمن تتواكب فيه الاتهامات من الخارج المعادي ومن الداخل المرتبك، أخذوها بمتابعة دقيقة وتقويم موضوعي، ووضعوا أيديهم على مكامن الضعف ومفاصل المشكلة، وطافوا حقول التربية والتعليم العالمي ليقطفوا من كل حقل زهرة، مشكلين «فسيفساء» أخاذة و«سمفونية» ممتعة، ولما لم يكن أحد منا ببعيد عن الممارسة التعليمية. فالمناهج والمقررات بين أيدي الطلبة والطالبات، وكل كاتب له أبناء وبنات يدرسون، كان على الناقمين التخلص من العموميات والرشق العشوائي، والتحديد بالصفحة والسطر أهم المآخذ، وشفعها بالبدائل، وبخاصة في المواد «الدينية» و«العربية» و«الاجتماعية». غير أنا لم نبرح جلد الذات، ولم نتجاوز التهكم والسخرية والنيل المباشر من رجال هم من أبناء جلدتنا، أحسبهم يحترقون من أجل النجاح، ولا أزكي على الله أحداً.
ولما كانت العملية التربوية تركيبة عجيبة يتنازعها: البيت والسوق والمسجد والمدرسة والاتصالات والقنوات و مراكز المعلومات، ولما كانت المدرسة: مقراً ومكتبة ومختبراً وصالة وساحة ومقصفاً وأستاذاً وكتاباً ومنهجاً ومادة ووسائل وأسلوب أداء، كان على المتعاطين مع القضية التعليمية والتربوية تحديد واطن الخلل. وما لا مراء فيه أن التعليم في بلادي بحاجة ماسة إلى النظر في كل مفرداته، وبحاجة ماسة إلى التعديل والتبديل في كل مرحلة من مراحله، وفي كل لحظة من لحظاته، في متطلباته المدنية المحملة على التعليم، وفي مقتضياته الحضارية المحملة على التربية، وأطرافه بحاجة إلى تبادل الثقة، وإشاعة الطمأنينة، والشجاعة في مواجهة الأقدار. والأسئلة الملحة: كيف نحدد الحاجة؟وكيف نحدد المنهج؟ وكيف نقدر وننوع، ونستجيب لمتطلبات العصر؟ وكيف نرسم الطريقة المثلى؟ وكيف نعد المدرس؟ وكيف نهيىء الأجواء الملائمة: زماناً ومكاناً؟ وما النوع المعرفي المطلوب؟ وما القدر المعرفي الكافي؟ وما المهارات؟ وما التخصصات؟ وما حاجة المجتمع؟ وفوق كل ذلك: ما الامكانيات التي يجب أن نتحرك على ضوئها؟ وهل نمارس «التكتيك» أو «الاستراتيجية»؟.
إن علينا أن ندع أطراف القضية يتبادلون الخيارات، والمسألة في النهاية: عرض وطلب، ولكل واحد منا نصيبه من تلك الثنائية المعقدة، حتى لكأن أحدنا ذلك المسكين المتذمر من أسماله المنفجر أمام عروض ليس بحاجة إليها:




قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه
قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً


المسألة في النهاية فيما أحتاج، لا فيما أنت قادر على إنجازه، نريد تعليماً يغنينا عن «سبعة ملايين وافد»، يستنزفون أكثر «من خمسين ملياراً» من ثروة الأمة، تعليماً لا يترك مواطنا عاطلاً، ولا مكاناً شاغراً، لا يغرق سوق العمل بما لا يحتاج، تعليماً يربي الناشئة على تمثل القيم وإظهار الدين. فهل نملك القدرة والشجاعة على مواجهة الحقائق؟ وحين تحاصرنا التطلعات، وتكبِّلنا الإمكانيات، يجب أن نتصرف بحكمة ورويّة، بحيث لا نفوّت الفرص بعنجهية: نكون أو لا نكون. إننا أمام خمسين في المئة من المقرات المستأجرة، وتحت طائلة ستمائة مليار من الديون، وعشرات الآلاف من التخصصات النظرية غير التربوية، وأمام حمل بعير من المقررات التي يغني عنها حمل طفل، وأمام احتقانات عاطفية يكاد المرء معها يشك في نفسه.
والنقد حين لا تحدد موارده، وحين يتخذ سمة الاستخفاف والإحباط والتيئيس والإطلاقات العامة والتطلعات الباذخة، لا يقيم له المسؤول وزناً، ومع تكرره على الألسن، وقرعه للأسماع، تألفه الآذان، وتثبت معه الأفئدة، ثم لا يكون مثيراً، فمثله كمثل الأدوية التي تُتَناول بدون وصف أو تحديد.
إن علينا في خِضَمِّ اللَّغط حول العملية التعليمية أن نعي الفرق بين: تعليم الفريضة على كل مسلم، وتعليم التأهيل الكفائي. وكيف لا نعي مثل ذلك، والذكر الحكيم ندب إليه بقوله تعالى:{فّلّوًلا نّفّرّ مٌن كٍلٌَ فٌرًقّةُ مٌَنًهٍمً طّائٌفّةِ لٌَيّتّفّقَّهٍوا فٌي الدٌَينٌ} ولم يقل: فلولا نفرت كل الأمة، وعلينا قبل هذا وبعد هذا أن نتخذ من التعليم ما يظهر الدين، ويفعّل قيمه على حد: «الدين المعاملة».
فالسمة العامة شيء، والتخصص الدقيق شيء آخر، وأَسْلَمَةُ المناهج وهي مُؤَسْلَمَةٌ بلا شك تحقق السمة، والحاجة تحقق التخصص. والأذكياء من يتقنون التركيبة الأدق والأعقد، ويرتدون إلى الداخل، ويمارسون صمت المتأمل، وقضاء الحوائج بالكتمان، نريد كوكبة من الخبراء والمجربين الذين لا يُرى إلا أثرهم بادياً في الأنفس وفي الآفاق. وبعد تفاقم الأزمات، وتعدد الاتجاهات، واعتزام المسؤولين على خوض معركة التغيير الجذري، لا بد من التحرف الحصيف لتحقيق مادة مناسبة وأسلوب سليم، وأجواء ملائمة. وعلينا أن نحاصر الشائعات، وأن نبني الثقة المتبادلة، وألا نستغل الظروف المشحونة بالتوتر لبناء الشخصيات الزائفة، إن الزمن رهيب والمستقبل عصيب. والعالم من حولنا يركض في دروب المدنية، ونحن بين: مرتاب خائف، ومتهم غاضب، وقضية كاد يضيع دمها بين الفريقين.إن مهمة التربية والتعليم صناعة الإنسان لمواجهة الحياة، فما الحياة القائمة؟ وما الذي نحن بحاجة إليه لمواجهتها؟ تلك هي الحلقة المفقودة في جدل «المجتمع» و«التربية» لقد أخطأنا في الصناعة والزراعة والتجارة، والمعنيون ماضون في تلافي الخطأ، ولا شك أننا نمارس الكثير من الأخطاء في صناعة الإنسان، وليس لدينا ما يمنع من تلافي الخطأ، فلنكن في مستوى عصرنا ومسؤوليتنا، وإذا عزمنا فلنتوكل على الله، صارفين النظر عما يشاع من أقاويل لن يزيدنا السماع إليها إلا خبالاً. ومراد المجتمع لن يتحقق إلا بتحرف جذري، يأخذ العملية التعليمية من جذورها بثقة وشجاعة واطمئنان، إن علينا ألا تضيع الفرصة بين ناقد لا يفهم ومسؤول لا يستبد، وإمكانيات لا تفي بالمتطلبات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:32 PM   #178
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ويلي عليك وويلي منك يا عرب!!
د. حسن بن فهد الهويمل


كنت - ولما أزل - مشغولاً بتقصي الخطابات والتصريحات المتلاحقة اللاهثة وراء بعضها، ومتابعة الرحلات المكوكية واستباق الزمن بما يذرعه أو يُفيض به إلى آفاق المعمورة أخطر ناطق بالوعد والوعيد وما يتبعه من مؤسسات ومن رجالات، لم يقيدوا نعمة القطبية، ولم يحسنوا استغلال ظروفها ومعطياتها. بحيث تجلت مثبطات الغطرسة من ضجة العالم، وتصدع الوئام بين رموز القادة الغربيين في سابقة لا مثيل لها. وكان المعنيون بخطابات التهديد والوعيد والمجاورون لهم، يتفحصون المنطوق، وينقبون عن المضمر بحذر وخوف وتفاؤل، ويستمطرون قرَّاء الكف، ومفككي الشفرات، وحذاق التأويل، لمعرفة المستبطن وما تحت السطور، ويستشرفون ما سيتركه الحلان العسكري أو الدبلوماسي، وهما الخياران اللذان يستبقان الصدارة، ويَقِدُّ كل واحد منهما قميص الآخر من قبل أو من دبر. وخطابات الزعيم المتعالي وتصريحاته إن لم تترجم إلى فعل ناجز، أوضع خلال الفرقاء يبغيهم الفتنة، وممن حولنا من المتربصين سماعون لهم، وما أن يتفوه بوعده أو وعيده، حتى يتلقفهما المترجمون بالصوت الفوري، ثم يتعقبهم آخرون بالتفكيك والتشريح والتقويض بحثاً عن المضمرات، وتطوعاً لايصال ذلك كله إلى المعنيين بالترغيب أو الترهيب، عبر رؤى وتصورات وتأويلات تدع العاقل في حيرة من أمره، ولاسيما ما يعقب ذلك من تعليقات ودراسات تضرب في فجاج التخرصات، لقد سمعت لغطاً تؤزه أوكار الحقد ومدافن الضغينة، ويتهافت عليه الخليون والماكرون والطيبون، ممن لا يحسنون فك الشفرات، ولا قراءة ما تحت السطور، ولأن هذا اللغط يحز إلى العظم، فقد عدت إلى خبراتي وقراءاتي ومتابعاتي، عبر كل المطبوعات والقنوات والمواقع، استعين بها لفلك الطلاسم، ومعرفة أي الخيارات أجدى وأهدى لأمة لا تقدر على دفع الأذى عن نفسها، والفتن التي تعصف في أرجاء الوطن العربي لا تهدد بلداً عربياً، ولا تكسر عظماً (أيديولوجياً) واحداً دون غيره، إنها فتن عمياء، تهب كالريح العقيم، فتقتلع الأشجار المثمرة، وتهدم البيوت المأهولة، وتذرو الأسواق العامرة، تقتل الشيخ المنقطع، والعجوز المتبتلة، والطفل الرضيع، والعذراء المخدَّرة حياء وعفة. والواقع العربي بهذه الفتن الهوجاء لا تقف فيه على وفاق سياسي، ولا ثقافي ولا إعلامي، فقادته وجلون، ومفكروه مرتابون، وعامته متخبطون،والكل في غمة كاسفة، ليس لها من دون الله كاشفة، حتى يقول الناجي من أهل الحل والعقد: اللهم إني لا أسألك إلا نفسي، ولربما عاد التاريخ ليذر قرنه من جديد، فقلد قال الرجل الصنم: «تركيا للأتراك» واليوم، وتحت الضغوط والفتن عاد آخرون يؤكدون القطرية، فيما تلاشت سائر الانتماءات، وقد يكون لبعض أولئك شيء من الحق، فعندما تدلهم المشاكل، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فلكل زعيم وقطر شأن يغنيه، فعاجز عن توفير الرغيف ومتخاذل عن حماية الثغور، ومشغول بقهر المصفدين والتحسس عن الخلايا النائمة، وما أكثر العجزة في زمن بلغت فيه الأمة الدرك الأسفل من الذلة والهوان. وبعد لأي ومشقة ويأس محبط عدلت عن قراءة الخطابات ومثيراتها، وعدت أفكر في واقع عربي مؤلم، يصنع عذاباته بيده، ويعمق فرقته بلسانه، تؤزه نار الكلمات الحاقدة، وتوقظ فتنه النائمة زعانف لا تلوي على مثمنات معنوية ولا مادية، وأخوف ما يخاف العقلاء من صعاليك يتسكعون في سوق النخاسة البلاغية، يقول قائلهم:
«أنا الغريق فما خوفي من البلل؟».
والعالم العربي بما كسبت أيدي عملائه ومغفليه وثواره ومقامريه، وبما اقترفته بعض ألسنة إعلامية، وبما حبّرته أقلام كتابه، يمر بمرحلة حرجة، ومنعطف خطير، فكل اقليم لديه ما يذهله عن غيره، وصدق الله: {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً} فالفتن المشتعلة في بقاع العالم عامة، وفي أرجاء العالم العربي خاصة، وعلى أرض الخليج وما جاورها بالأخص، بلغت حداً لا يطاق، وما من دولة عربية بقادرة على اتخاذ قرار مستقل، لا يتقي ولا يداهن، وبوادر الاستعمار الذي لملم نثاره، ورحل بثمن باهظ من الدماء الطاهرة، عاد من جديد، يذكيه الحقد الصهيوني، وتشعله بؤر التوتر في عالمنا الموبوء، من طائفية و«إثنية» ومشاكل حدودية ونزاعات قبلية، هذا الوجه الجديد الذي جاء بمسميات جديدة من «نظام عالمي» و«عولمة» وبمبررات مكافحة «الإرهاب» ونزع «السلاح» صنعناه بأيدينا، ليتحكم بالمصائر، ويؤدب بكسر العظام، وإحراق الأرض، وإشعال الفتن، ومن ورائه مرتزقة يجازفون بالتخوين والتجريم، وهم ربائب الغرب وأذنابه، هذا الوضع المتردي لا مثيل له إلا ما عرف من (حكم الطوائف) في الفردوس المفقود.
ومع أن مصالح العالم العربي على شفا جرف هار، فإن من يعَّول عليهم من علماء ومفكرين وساسة وإعلاميين، تستدرج الأندى صوتاً منهم الغوغاء، ويحدوهم لهيب العواطف، وتستخفهم المظهرية، وتغريهم الأضواء، فلا يقفون لتأمل، ولا يفرغون لمراجعة، وكيف تتأتى لهم فرص الاستخارة والاستشارة ومن حولهم من محترفي الإعلام والمتاجرين بالأقلام، يؤزمون المواقف، ويوغرون الصدور، وينبشون ماضياً دفيناً، وما أحد منهم حاول تقريب وجهات النظر، وسعى في نسيان المآسي، وسبق إلى تضميد الجراح، واثَّاقل عن نكئها، وفرَّ إلى الله، فهو القادر على كشف الضر، ومن أعوزه الدليل فليصخ إلى القنوات، أو ليقرأ الصحف، أو ليدخل إلى الشبكة «الإنترنت»، أو ليلق السمع إلى هدير المنابر، ليسمع التناقض العجيب، والتناحر الغريب، من همز ولمز وكل خطيب تحسبه واقفاً على ترسانة نووية، يلوم الآخرين ولا يحاسب النفس، ويدين الأبعدين، ويبرئ الذات، لا يدعو إلى تفكير، وإنما يحرض على تدمير، ولا يؤلف بين القلوب، وإنما يوغر الصدور، ومثمنات الأمة يفري حشاها الأبعدون، وما من حكيم يأطر على الحق، ويثبت القلوب الواجفة من الفتن الراجفة،فكل وجه إعلامي وهبه الله القدرة على الإثارة والجذب عمد راغباً أو راهباً إلى توظيف طاقاته لإشعال العداوات وإحياء الأحقاد، وكل كاتب قدير سخر قلمه للوقيعة، وتلفيق التهم، وإشاعة الكذب، والتحريض على الشر، وإحياء الضغائن والأحقاد بين الأخ وأخيه والجار وجاره، وكل عالم متمكن أجهد نفسه سعياً وراء فتوى مرجوحة لتفريق الكلمة، وتكريس الطائفية والمذهبية، ونبش عفن التاريخ، وكل سياسي أجهده الركض وراء سراب القيعان، بحثاً عن الحماية من الأخ وابن العم، وما درى أولئك أنهم بهذا الركون المبادر أو المضطر مأكولون، وقصة الثيران الثلاثة تعيد نفسها، كما التاريخ، ومقولة :«أكلت يوم أكل الثور البيض»، ليست ببعيدة، إن علينا قراءة تاريخ الفردوس المفقود إذ ما أشبه الليلة بالبارحة، وبديهي أنه عندما تبلغ الروح الحلقوم تضيق الخيارات، وتنعدم فرصة المراجعات، ولا يبقى إلا طريق قاصد: إما الفرار إلى الله: وإما التردي في الهاوية، وبعد انكشاف الضر، لا بد من المراجعة والمساءلة، لكيلا تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وكم أبدأنا القول وأعدناه، وناشدنا الفرقاء تضميد الجراح، وتناسي ما فات، وتجاوز المرحلة العصيبة، ونصحنا بالسكينة ولزوم الجماعة، والبحث فيما يرأب الصدع، ويستل الضغائن، فما بأيدينا صرنا إلى ما صرنا إليه، إن هناك تحولات ومصائر تطاولت مع الزمن، وقضيت بليل، وقلنا وما زلنا نقول: - إن اللعب بالنار حول الهشيم ينذر بحريق هائل، يأكل الرطب واليابس، وها هي طبول الحرب الخليجية الثالثة التي ستكون أرض الخليج وإنسانها مسرحاً ووقوداً لها، تقترب من درجة الصفر، وبطل المغامرات يتعنتر تارة، ويستخذي تارة أخرى، يجني على قومه، ويلجئ من لا ناقة لهم ولا جمل إلى مواقف الضعف، حتى لا يجدوا بداً من الدفع بالتي هي أسوأ، ومتى انقشعت الغيوم، عاد كالهرة التي تأكل أولادها، أنهك المنطقة، وشل حركتها، وقتل شبابها، وأحيا نساءها للترمل والضياع، وعوق أصحاءها، وشرد أهلها وأذل شرفاءها، ولما يزل يجد من يموء من ورائه، الأمر الذي جعل الحليم حيران، فبقاء مثله مظلمة كبرى، وضرب أمة منهكة من أجل تصفيته جريمة لا تغتفر، وليس أضر على الأمة من نقيضين لابد من ارتكاب أحدهما، ومع انبلاج الحق يظل الناس في حيرة وتردد وتناقض، فلا تخلو الاجتماعات المصيرية من رافض أو متحفظ أو مقاطع، ولا تخلو البيانات من أسلوب دبلوماسي مراوغ، يحفظ ماء الوجه، ويعدد المخارج، والقطب الواحد لا يضع عصاه عن كتفه، يشج رأس هذا، ويكسر عظم ذاك، يستقدمه خائف، ويشرعن لفعله موتور، ويشيطنه متصعلك، ويتحداه غريق لا يخشى من البلل، ومن الظواهر الحدية التي لا تحتمل المراء تلقف ذلك القطب لراية الاستعمار البغيض التي كانت في يوم من الأيام بيد امبراطورية لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها، وبعض الشر أهون من بعض، فميزة الاستعمار القديم أنه يعتمد التفتيت والتفريق، والتماكر والمخادعة والإيمان بمبدأ «آخر الطب الكي» وتسمين المحلوب والمأكول فيما يذهب الاستعمار الجديد إلى أن الأجدى والأهدى أن يكون «الكي» و«الانهاك» أولاً. وليس من المعقول أن يعيد المستعمر نفسه في زمن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، فلكل زمام أنماطه وأساليبه، وليس من المعقول أن يقبل أحد بالوجود الأجنبي، مهما كان الثمن، على أن مواجهة المتغيرات المصيرية باهظة التكاليف، والدول المستهدفة هي التي ستدفع الثمن، وأمريكا التي تزحف بترسانتها، وتزج بشبابها، لن تعطي المتفرجين شيئاً من الكعكة، ومن ثم فسوف يحل الخلاف مكان الوفاق، قد تنتصر في المنظور القريب، وسيظل الناس جميعاً يخافونها، ويحسبون لها ألف حساب، ولكن دولة الظلم لا تدوم، والمقتدرون مادياً أو استراتيجياً سيرتكبون أهون الضررين، وسيمنحونها تسهيلات أو دعماً غير مشروط، ولكنهم سيكونون معها كراكب الأسد، يخيف الناس، وهو منه أخوف، وعندما تقوم الأوضاع على الظلم والإكراه، تظل يد الظالم على الزناد، ويظل في حالة حرب، لا يفرغ لنفسه، ولا يدع الآخرين يفرغون لأنفسهم، ومن ثم يتعسكر العالم، ويدخل مرحلة إرهاب عنيف، يفضل فيها الجائع الرصاصة على الرغيف، في زمن لا يحتمل المزيد من الترديات والانهيارات الاقتصادية، التي بدأت نذرها بإفلاس شركات عملاقة.
وأمريكا اليوم تدخل مرحلة المقامرة والمغامرة، ومن ورائها أتباع مغررون، يجرون قدمها إلى الوحل، لتنشط تجارة السلاح، وتتسع رقعة الإرهاب، وسيظل العرب مسرحاً لكل الأحداث، والتوغل في هذا المسار سيعود عليها وعلى حلفائها وأصدقائها بالضرر، والشيء المؤكد أن مكافحة الإرهاب بعد الاتفاق على مفهومه عربياً وإسلامياً وعالمياً، وتغيير النظام في العراق ضرورة إنسانية، وواجب وطني، أما نزع السلاح فقضية فيها نظر، وفي الوقت ذاته فإن اضطلاع أمريكا بالمهمة منفردة، واستخدام القوة ليس ضرورياً ولا واجباً ولا حتمياً. ومع أن إشكاليات الحكم في العالم الثالث بحاجة إلى إعادة النظر إلا أن التدخل الخارجي غير مشروع، وغير نزيه، وغير عادل، فكم من أنظمة ظالمة متلاعبة، وجدت من يدعمها ويحميها، وكم من أنظمة وطنية عادلة، وجدت من يشكك في أهليتها، والمسألة لم تعد في صالح الشعوب المغيبة عن المغانم والمستحضرة في المكاره، لقد أسهم العالم الثالث في شرعنة التدخلات العسكرية، ورضي أن يكون مسرحاً للعب الكونية والتجريب الحي، ولما غفل اللاعب الأكبر عن الجيوب والخلايا الناسلة في ظل الانشغال بالعمليات المصيرية تحولت إلى ظواهر ليست بأقل خطراً من القضايا الرئيسية، وما التدخل في الصومال والسودان ولبنان ومن بعد في أفغانستان والعراق إلا لملمة لهذه الذيول، والطامة الكبرى تكمن في الجبهات الداخلية التي تنسل من حدب الظروف الصعبة وفي ساعة العسرة لتربك أهل احل والعقد، وتهيىء الأجواء لملائمة اللارتماء في أحضان العدو، وتمكينه من استعمال عصاه الغليظة، والأمة العربية التي تعيش أسوأ حالاتها، لم ترعو، ولم تعرف أسلوب التعامل مع الأحداث المصيرية، ونخبها وإعلاميوها ومفكروها يؤزون فتنها، ويعمقون فرقتها، ويمارسون التيئيس والاحباط، ويستبقون الأضواء بالحديث عن المسكوت عنه، ولم يفكر أحد منهم بجمع الكلمة، ورأب الصدع، والتقريب بين وجهات النظر، والحمل على التعاذر، وتناسي الضغائن والأحقاد، والعمل على تماسك الجبهات الداخلية، فويل ثم ويل لأمة يهدم صفوتها جبهتها الداخلية، وكأنهم بفعلهم يستعجلون العذاب، وما علموا أنه قد يأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:33 PM   #179
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حصاد اليوم وجبة غير شهية..!!
د/حسن بن فهد الهويمل


1/ قد لا يَسبق استعراضي للصحافة صباح كل يوم أيُّ فعل قرائي، بحيث آوي إلى فراشي بعد قراءة جادة، قد تمتد إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم لا أعود إليها قبل الاستفتاح بصحف الصباح. وفي كل يوم أجد على مكتبي أكثر من عشرين مطبوعة، ما بين صحف محلية ومهاجرة وعربية، ومجلات أسبوعية وشهرية ودورية، ومطبوعات وزارية، قد تكون بعدد الوكالات والإدارات العامة في الوزارة الواحدة. وأمام هذا الكم أباشر القراءة الاستعراضية العجلى للعناوين البارزة أو الجانبية، ثم أعود لما علق بالذهن من مقالات أو دراسات أو تحليلات أو أخبار مزعجة أو مبهجة في الفكر والسياسة والأدب، لأقرأه على مكث، فأستل ما أريد، لاستدعائه متى دعت الحاجة إليه.وفي كل يوم أصاب بالذهول، وينتابني شيء من الخوف جراء ما أقف عليه من حوادث وجرائم وكوارث تجتاح العوالم: العالمية والإسلامية والعربية والمحلية. وأقول في نفسي عما تقع بين ظهرانينا: كيف يحصل هذا في بلد يطبق الشريعة، ويتوفر على قطاع أمني قوي، وتقوم مناهجه على التربية الإسلامية، وتقام فيه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الأمر الذي يحفزني على التساول عن مكامن الخلل، فلما نزل نسمع عن قتل الأبوين أو التخلي عنهما في ساعة العسرة، أو انتهاك المحارم، وعن السطو والسرقة والرشوة، وحوادث المرور، التي يغيب فيها الموت أسرة بكاملها، وعن ترويج المخدرات، وارتكاب المحرمات. كل ذلك يمر بنا، وكأنه مخيال برع في صياغته مبدع موهوب.
ومما لا خلاف فيه أن هناك نسبة من الكوارث والحوادث والجرائم متوقعة، لوقوع مثلها والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهر المسلمين، من حرابة وسرقة ورشوة وزنا وخمر وإفك. وحصولها في حدود المعقول لا يثير الانتباه، لأنه ما من مجتمع صاخب، يشكل اقتصاده وتنميته أرضية جذب مغرية إلا وكان له نصيب من المنغصات، وكيف لا تتفاقم المشاكل، وفوق أرضه سبعة ملايين وافد، وحدوده مسرح للتسلل الفردي والجماعي المنظم، والمتخلفون من الحج والعمرة بمئات الآلاف، والمواطئون والمتسترون من ضعفاء النفوس يفوتون فرص الانضباط. ولست ممن يتطلع إلى مجتمع ملائكي، ولكن الأمور حين تتجاوز النسبة المعقولة، أو حين تقع الجرائم أو تنفذ بشكل بشع، أو تتكرر بشكل مثير، يكون هناك مشروع تساؤل ومتابعة وتفكير في كل الأوضاع، ليس فقط فيمن اقترف الذنب، ولكن فيمن حفز الأسباب، وفيمن وضع الحلول ونفَّذها.
ولكي أكون «رقمياً» في لغتي، فقد استعرضت الصحف الصادرة يوم الخميس 19/12/1423هـ وتتبعت الحوادث والكوارث والجرائم بوصفها حصاد يوم أليم، ليس بأقل إيلاماً من أي يوم سلف أو خلف. ومثلما أن للمجتمعات الفقيرة مشاكلها، فإن للمجتمعات النفطية مشاكلها، وحتى نوع الأمراض وأساليب الحياة: «وكل من لاقيت يشكو دهره» وما سأعرض له عينات تتكرر، ولكن بصيغ مختلفة.
2/ فكان أولى الحصاد التغطية الصحفية في جريدتي «الجزيرة» و«الرياض» وغيرهما لتشييع جنازة وكيل الإمارة ب«الجوف» المغدور، كخطوة ثانية بعد اغتيال قاضي المستعجلة في مكان واحد، وتحت ظروف غامضة متشابهة، وتلك سابقة لا مثيل لها، فلم يكن أهل هذه البلاد عدوانيين، ولم يكن القتل سهلاً، فالمسلم يعرف أنه حين يقتل مؤمناً متعمداً فإن جزاءه نار جهنم خالداً فيها. والتساؤل الملح: ما الدوافع؟ وهل مثل هذه الجرائم ناتج خلل في التربية، أو خلل في الأمن، أو خلل في الأداء. نحن لا نشك أن استشراء القتل أو السطو ناتج خلل، ومن واجبنا أن نواجه أنفسنا به، أياً كان مصدره: تربوياً أو سلطوياً أو أمنياً، وإن لم نفعل رمت الجروح على فساد، وبان منها إهمال المسؤول، ولست أشك أن رجال الأمن جادون في متابعة الحدث، والبحث عن خيوط الجريمة، وليس من الحصافة ممارسة المهمات تحت عدسات التصوير لإشباع الفضول، غير أنا مع كل ما نحن فيه من ثقة واطمئنان، يأخذنا ما أخذ إبراهيم عليه السلام، حين قال لربه: ) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة:260)
، ولربما كانت «الشفافية» بوصفها منهجاً حضارياً سبباً من أسباب اطمئنان القلب، بيد أنها كشفت عن أشياء، ما كنا نعرفها من قبل، ومن ثم وجدت الصحافة نفسها أمام مثيرات تستقطب بها القراء، بحيث تركت الحرية لكامراتها ومتابعات محرريها، كي ينقبوا في البلاد عن أي كارثة أو جريمة لتقديمها إلى القراء وجبة غير شهية، ومثل ذلك يدفع بالمواطن إلى الاحتقان والتوتر. و«الشفافية» في نظري، ليست وقفاً عند حد معرفة «دراماتيكية» الحدث، «الشفافية» تعني: أن يعرف المواطن كيف حصل الحدث ولماذا؟ وكيف تمت مواجهته؟ ومن الطرف الضالع فيه؟ وهل قطع دابره؟ فالجزاء وحده غير كاف، متى تُركت مخرجاته، تستعد لإنجاز جريمة أخرى، والشاعر الحكيم يقول:




لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا


وأهم معرفة يتطلع إليها المواطن: كيفية المواجهة والعلاج، وهل تلقفت وزارات «التعليم العالي» و«المعارف» و«العمل» و«الشؤون الإسلامية» و«الإعلام» ملفات القضايا، والتفت حول بعضها للتحليل والدراسة والتقويم ووضع الحلول؟ فالمشاكل لا يعالجها رجل الأمن بإزالة آثارها، وإنما بالعمل على قطع دابر أسبابها، ومواجهة كل الأطراف الضالعة فيها، ذلك أن الحياة تقوم على عقد بين طرفين، فأي إخلال في العقد تنشأ عنه جنايات وكوارث وجرائم. وعلينا إزاء هذه الأحداث ألا ندع أي جهة أو شخص فوق المساءلة والنقد، ولا يمكن تلافي الأخطاء بالتعذير، والدفع بالحدث إلى مجهول، أو القول: بأن العملية تمت بنجاح.
3/ وفي حصاد اليوم متابعة لحادث قتل الجندي «علي يحيى دعسيس» رحمه الله، وكنا من قبل قد قرأنا عن حوادث مواجهات مسلحة لرجال الأمن، تمكن فيها المجرمون من فتح ثغرات، أو اهتبال ثغرات مفتوحة من قبل والهروب، وإن تم القبض عليهم فيما بعد. وتعريض حيوات رجال الأمن للقتل وسمعتهم لحديث المجالس، يحتاج إلى مراجعة، فالمداهمات أو التحريات حين لا تكون بمستوى الجريمة، يتولد منها جرائم أخرى، أشد نكاية منها. والمداهمات يجب أن يخطط لها، وأن يتوفر الأفراد على وسائل أمن ووقاية، تمنع تعريضهم للإصابات القاتلة، وتمنع انفلات المجرم من محاصرتهم، ولعلنا سمعنا ما حصل عند مداهمة «الشقق المفروشة» في الرياض، وتمكن المطلوبين من النفاد بأنفسهم، بعد قتل وإصابات، ولو أن هناك خططاً دقيقة محكمة مدروسة لما حصل ما حصل، وحتى لو حصل تبادل لإطلاق النار، لما تمكن المجرمون من اختراق الأطواق المحكمة، فمن الذي جازف، ومن الذي اتخذ القرار بالمداهمة، دون احترازات وأطواق أمنية، تحول دون نفاد المجرم بجلده؟ ومن الذي عرَّض رجال الأمن للإخفاق؟ سؤال مشروع، وممكن الحل في المستقبل، والغلطة إذا أفادت تعد درساً توعوياً.
4/ وفي حصاد اليوم اصطدام سيارة ب«جمل» يذرع الطرق، ووفاة شخص «الرياض ص12» وفي كل يوم تقع حوادث مماثلة، و«الجمال» السائمة تسرح وتمرح قريباً من الخطوط، وتُرى رأي العين من العابرين ورجال المرور وأمن الطرق، وما من أحد اتخذ موقفاً رادعاً، فلماذا لا يتخذ قرار بمصادرة المواشي السائمة حين تقترب من الطرق بمسافة لا تزيد عن خمسمائة متر، وذبحها، وتقديم لحومها للجمعيات الخيرية، ومن راجع فيها، يحمَّل تكاليف المصادرة والذبح والتوزيع، ولو اتخذ مثل هذا القرار، لكان كل مالك للمواشي السائمة رجل أمن وجندي مرور. و«من أمن العقاب أساء الأدب»، ويكفي تجهيز سيارة شحن برافعة تابعة للمحافظات أو لمراكز أمن الطرق، تقوم بمسح الطريق بين الحين والآخر، وتقتنص كل ماشية تقترب منه، مع توعية خطية للعابرين، تذكر بمهاتفة أمن الطرق، متى شوهدت المواشي مقتربة من الطرق.
5/ ومن حصاد اليوم «الرياض الصفحة الأخيرة» «الإمارات تصدر جوازات سفر خاصة للصقور» ويعد هذا الإجراء الأول من نوعه في العالم، ولما يكن هذا الخبر هو الوحيد الذي يبادر به الخليجيون، فلقد سمعنا عن «خيول» و«جمال» و«تيوس» و«حمام» تباع بالملايين. وتابعنا مهرجانات تستنفر فيها كل الجهود لمثل هذا النوع، ومن حق كل عاقل رشيد أن يتساءل عن هذا التبذير والإسراف في مدخرات الأمة وكنوز الأجيال، ومتى يعرفون أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين؟ وإن لم يعرفوا فلا أقل من أن يستتروا، ولا يعرضوا أنفسهم للغيبة؟ و«رحم الله امرأً كف الغيبة عن نفسه». والذين أفاء الله عليهم بالأموال من واجبهم أن يرعوا نعمة الله، وأن لا يعطوا صورة سيئة عمن لم ينالوا خيراً. وإذا أوسع الله على أحد منهم، فعليه أن يتبنى مشروعاً: علمياً أو إنسانياً، يدرأ به عن نفسه وعن بلاده مكر الله، وفي الحديث: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وها نحن نرى طائفة من المحسنين، تبدي الصدقات أو تخفيها.
6/ وفي الصفحة الأخيرة من الرياض أيضاً «إطلاق نار على حافلة تقل فريقاً طبياً في حائل» والحدث صدر من أحداث أربعة، يستقلون سيارة. والسؤال: من أتاح الفرصة للأحداث كي يحملوا السلاح، ويعرضوا أنفسهم للقصاص، لو أن هذه الرصاصة الطائشة استقرت في موقع قاتل من جسم إنسان بريء. أليس هذا التسيب مسؤولية الأباء والمعلمين ورجال الأمن، إن حمل السلاح أولى خطوات الجرائم، وإذا كان لا بد من حمله، وعلى أضيق نطاق، فليكن للرجال العقلاء، وفي المواقع المخيفة، بحيث لا يسمح بحمله في المدن والأسواق والمدارس والجامعات والمساجد وسائر المواقع العامة، ومن و جد معه سلاح صودر وسجن وغرم. والله شرع الحدود، وأباح التأديب، ومن رغب عن سنة الرسول فليس منا، وليس من مقتضيات الحرية الشخصية، ولا من متطلبات حقوق الإنسان ترك الحبل على الغارب، لا بد من الأطر والأخذ على يد السفيه.
7/ وفي الصفحة الأخيرة من جريدة المدينة «القبض على ثلاث طالبات مدمنات في الخميس» وبالتحليل تبين تعاطيهن المخدر منذ فترة طويلة، وتلك كارثة الكوارث، وطامة الطوام، فكيف وقعن في المخدر؟ وكيف حصلن عليه؟ وهل الوصول إليه بهذه السهولة؟ بحيث تتمكن طالبات ثانوي من استعماله وخلال مدة طويلة. وكيف تتفشى الظاهرة، ولقد تذكرت اعتراض المجالس التشريعية لمطالبة «كلينتون» رفع ميزانية مكافحة المخدرات، بحيث تتجاوز الأربعة مليارات دولار، لعدم تحقيق أي تقدم من المكافحة، على الرغم من الميزانيات الباهظة والإمكانيات الضخمة.
ونحن في بلادنا نقتل المهرب والمروج، ونعالج المتعاطي، وتلك طرائق سليمة، ولكن المخدرات وآثارها لما تزل بازدياد. فما نقطة الضعف بعد تنفيذ أشد العقوبات؟ أهي في الإجراءات أم في الجزاءات؟ إننا بحاجة إلى أن نسأل، وأن نبحث عن الحلول الجذرية التي تحسم الإشكالية، أو تضعها في الحجم المقبول. ولا أحسب الذين يُقتلون لمجرد أنهم هربوا الهيروين المركز في أحشائهم كاف لحسم المشكلة، المشكلة أكبر من الأحشاء والأدبار. إن علينا أن نضع مركز معلومات لهذه الظاهرة القاتلة، وأن نضطلع بإجراءات حاسمة، تحول دون تفشي المشكلة بشكل مخيف، ومن الأفضل أن نمسك الخيط من بدايته، حتى نصل إلى الضالعين بالتهريب. ولما كانت المخدرات وكر الجرائم وأم الخبائث، كان علينا أن نراهن على حسمها، وألا تأخذنا الرأفة ولا الرحمة. فالمخدرات تدمير للأمن والاقتصاد والصحة، وإذا قطع دابرها، رجعت مؤشرات الجرائم إلى الوضع الطبيعي. ولن أمضي مع بقية الكوارث والجرائم، فالأمة العربية تعيش تحت أزمات قاتلة، وما الحرب التي تتدفق معداتها وعددها ورجالها من كل صوب إلا أم الكوارث، وفي «الاقتصادية» توقع خسارة ستين مليار دولار للبنوك العربية وحدها، لو قامت الحرب، فأين منا الرجال والنساء والأطفال والثروات الظاهر منها والباطن؟ ومع هذا لا نجد أية بادرة عربية لمواجهة الاحتمالات السيئة، وتلك مصائب جسام، ليس لها من دون الله كاشفة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:33 PM   #180
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط!
د. حسن بن فهد الهويمل


علينا قبل القول المباشر في اشكاليات الابداع السردي الناجمة عن الفهم الخاطئ ل«الحق» و«الحرية»، أن نحدد مفهومنا الشخصي لمفردات العنوان، وهو مفهوم تكاملي، «يتناص» مع مفاهيم متعددة، مشكلاً معها دوائر متداخلة - لا مستقلة ولا مطابقة -، وليس ببعيد أن يثير اختلافاً كثيراً، وتأويلات تحيد به عن مقاصده، وبخاصة ممن لا يحترمون المصداقية، وليس هناك أدنى احتمال للتوافق بين وجهات النظر، ما لم يكن هناك معرفة ومصداقية. بل أكاد أقول: - بأنه ليس هناك رغبة في التوافق، متى كان الاختلاف في سبيل البحث عن الحق، فنحن أحوج ما نكون إلى المزيد من الاجتهاد، والمزيد من الاضافات، ومع مشروعية الاجتهاد والاختلاف، فإنه لابد من أهلية وضابط، للتوفر على قواسم مشتركة، تمكن من تقارب وجهات النظر، أو التعاذر، وهو ما نود مناهزته في بحثنا هذا، وفيما نستقبل من بحوث. ولما أن كانت المفاهيم متعارضة أو متفاوتة، كان علينا أن نحاول استعراض مجملها، وأن نكشف عن السلبيات والايجابيات جراء اصرار المختلفين الذين تجتالهم العموميات، وتستزلهم محدثات غيرهم، مما لا يعد من مشتركات الحضارات الانسانية، دون علم بالمعاصرة، ودون استيعاب للأصالة، والمتقحمون للمشاهد برؤى مهزوزة، وتصورات سقيمة، وبضائع مزجاة، يسيئون للمتضلعين والمتثبتين، لأنهم لا يتوفرون على القدر المطلوب من أدب الحوار ومؤهلاته المعرفية، فتقليد الطارف ليس بأحسن حال من تقليد التليد، والمجدد الحق من يتقن لعبة «التناص» بحيث يغيب الآخر، ولا يغيب فيه، وأكثر المتحدثين لا يتقنون هذه اللعبة، ومن ثم فهم واقعون فيما ينهون عنه، وما ظواهر الخلل المضاعف إلا بعض مقترفات من تلتبس عليهم الأمور. ولما كان الاجتهاد مشروعاً، كانت نتائجه مشروعة. ومشروعية الاجتهاد لا تكون إلا لمن يملك حقه من علم أصيل، وتجريب معاصر، وفقه للواقع ومتطلباته، ومنهج دقيق، وآلة معرفية، وتحرف سليم، وعقل وتفكير متزنين. والحديث من السرديات يطال مرتكزات حضارية.
حديث عن «اللغة» بوصفها الشفرة التواصيلة، ولاسيما في ظل المستجدات اللغوية من «بينوية» و«تفكيكية» و«تحويلية». وحديث عن «المضمون» بوصفه مضغة الجسد السردي، ولا سيما في ظل تعدد «الأيديولوجيات» وصراع الحضارات. وحديث عن «الفنيات» بوصفها الحد الفاصل بين أنواع الفن القولي، ولاسيما في ظل التحولات والتخليات. وإذ يكون للشعر ضوابطه، تكون للسرديات ضوابطها، ومن استخف بها، كان استخفافه بقية من رؤى سلفت، لا تقيم وزناً للقص، لأنه لا يرقى إلى سدة الفن الشعري الرفيع، حسب زعمهم الذي أردى الفن السردي إلى حين، والتفلت على الضوابط دون قيد الغاء ضمني للتنوع الابداعي، وهو ما يقترفه المترسمون خطى الغرب باسم التجديد تارة، وباسم الحداثة تارة أخرى، وباسم الحق والحرية تارة ثالثة. وما من شيء من ذلك ابتدروه، أو استبدوا به. وإذ يكون هناك متاهات في حدود الحق الفني، تكون هناك متاهات أشد وأنكى في حدود الحق الديني والأخلاقي والحضاري، وحديثنا عن حدود «الحق» و«الحرية» في : «اللغة» و«المضمون» و«الشرط الفني»، يتطلب منا معرفة المفاهيم، واعتماد الوسطية. و«السرد» أو «السردية» مصطلح مراوغ، وهو في نظري يقابل «النظم» بمفهومه الشعري، وإن كان بين مصطلح «السرد» و«النظم» عموم وخصوص، فهو عند «الخليل» غيره عند «الجرجاني» الذي يراه: تركيباً للكلام بطريقة ابداعية معجزة، وعبر لغة انزياحية، و«السرد» الابداعي مثله، ومن ثم يختلف عن «السرد» العادي. وحين يكون ابداعاً، تكون له ضوابطه: البنائية، والشكلية، والدلالية، وهو مصطلح يطلق على صيغة مخصوصة من صيغ الخطاب، تتعلق بحبك الأحداث ومتعلقاتها: الشخصية والظرفية، لا وصفها أو رصدها كما اتفق، وله أنواعه ك«السابق» و«اللاحق» و«المزامن» و«المتداخل» و«المضاد». و«السردية» علم السرد المميز له عن «المسرحية» و«القصيدة» و«القول» العفوي. واختلاف طبيعة النص، فوتت على المعنيين تحقق علمية السرد، في ظل «علمية النقد». وقد أحال الدارسون إلى رؤية «جينيت» و«قريماس» و«باختين»، ولا يتحقق التصور السليم إلا إذا عرفنا ما تتحقق به الأشياء، وما تتميز به. وقديماً قيل: - «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والذين يكتبون بلغة شائعة، وتراكيب مألوفة، ونصوص فارغة، وحوار ممل، لا يكون أحد منهم من ذوي المواهب ولا المعارف يميتون الفن، ومن لم يتوفر على معرفة تامة بنظام اللغة: من نحو وصرف، وأساليب الكلام، وجماليات الفن، وضرورة الكلم الطيب والقول السديد، ومقتضيات القيم الحضارية التي ينتمي إليها المبدع، والناقد، ثم لا يكون المبدع موهوباً، يمارس بموهبته، وبمحفزات موقفه، وتجربته، وثقافته، ووعيه للأنموذج، ومنازعته قصب السبق، يكون كل ما يأتي به غثاء كغثاء السيل، وزيد يذهب جفاء، يلفه النقاد الحقيقيون، كما يلف الثوب الخلق، ثم يرمون به وجه صاحبه. ولا تخلو المشاهد من الطائفتين: الضعفاء والجهلة، ولا عبرة بالمجاملات، والمسايرات والمقايضات التي يستبقها البعض. ولو أنصف النقاد، وصدعوا بالحق، ولم يخشوا به لومة لائم، تلاشت فلول الأدعياء، وصينت كرامة الفن واللغة والقيم. والمجاملات، وبناء الأمجاد الوهمية بالتملق تصيب المشاهد بالتصوح، ثم يكون ركام الروايات، التي لا تكاد تجد فيها راحلة، تبلغ بك الغاية من اثراء جمالي ولغوي وقيم ثقافية وفنية وأخلاقية.
ولأن المبدعين والمتلقين كما المستهمين في سفينة الحياة والفن فإن مفاهيمهم ل«اللغة» و«المضمون» و«السرد» و«الشكل» و«الحبكة» و«الحرية» حين لا يَضْبِطُ إيقاعها شرط، ولا تحكمها قيم، تُخرق السفينةُ، ويَغرق أهلها، سواء كانوا أهل فن أو لغة أو قيم. وما لم يكن كل شيء بمقدار، وخاضعاً لنظام، ومدعوماً بمعرفة، يعود الانسان إلى بدائيته الأمية، وكيف نرضاها، وما من أمة إلا خلا فيها حراس فضيلة، وأهل علم، يأطرون، ويعلمون. وليس من مصلحة الفن ألا ينبري لهذه الفوضى المستحكمة والعبثية المستشرية حكيم، يقول الحق، ويهدي سواء السبيل، ولا شك أن المجاملات والمداهنات، تدفع بالبعض إلى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير: دلالة ولغة وفناً. بحيث يدعي التألق الفني من لا يحمل الموهبة. والفن القولي وغيره لا يؤتاه إلا موهوب، ولا تتفجر الموهبة إلا في اللحظة الضاغطة. وحين لا يبدع الشعر إلا شاعر، ولا يبدع السرد إلا سارد، فإن هناك طوائف من المقتدرين: لغة وثقافة، ينظمون الكلام، ويكتبون القول، ثم يجدون من يؤكد لهم أوهامهم. والشباب المبتدئون حين لا يروض جماحهم حكيم مجرب وعالم حصيف، يستخفهم الثناء الكاذب، ثم يرون أنفسهم فوق النقد، وفوق التوجه والمراجعة. وقد يبلغ بالناشئين منهم سوء الخلق إلى منازلة الناصحين، والرتوع في أعراضهم، من أجل الاحتفاظ بما أهدي لهم. ولما كان واجب العارفين بالظواهر الفنية والبواطن اللغوية الأخذ على أيدي الجريئين المجازفين لطمس المعالم والغاء الشروط، أصبح من الطبيعي أن تدار القضايا والظواهر السردية سعياً وراء الوصول إلى أرضية مشتركة، تحسم الخلاف، أو تخفف من حدته. وإذ لا نرى بداً من الاختلاف في وجهات النظر، فإننا لا نريد لهذه اللازمة أن تصل بالمختلفين إلى حد التنازع المخل بالمروءة، ولا نريد لغير أهل الاجتهاد أن يجتهدوا، فيوقعوا الآخرين في اللبس. وإذ يكون التجديد والتغيير والتبديل من السنن الكونية، يكون من لوازم ذلك أن يكون المجدد متجاوزاً بتجديده الأنموذج الابداعي الذي شد الانتباه، وقدم السمة، وحدد النوع الفني، وبلغ الرقم القياسي، الذي لم يحطم، الأنموذج الذي أمد النقاد بما انطوى عليه من سمات ابداعية. وحين تكون للأنموذج سمته، يكون من واجب المجدد أن يجتهد في تقديم نص أفضل منه، وإذا لم يكن قادراً على التحدي والتجاوز، فمن الخير له وللمشهد أن يحافظ على المنجز، لا أن يهدمه، ثم لا يقيم بديلاً أفضل. ولا يعني حق التجديد مطلق المغايرة، وإنما يعني: الاستجابة للحاجة، والتواؤم مع الذائقة، وتحقيق الأفضل. وتقليد التجريب الغربي لا يكون تجديداً، وأصحاب كل علم أو فن يفرقون بين التجديد والمحاكاة، ويعرفون القدر المشروع من «الحرية» و«الحق العام»، ويعرفون حق المتضلعين بشروط الفن وضوابط القيم في الأخذ على يد كل من يقترف الخطايا أو ينتهك الفنون باسم الفهم الخاطئ للحرية والحق، وما من عاقل يقول بمطلق الحق، ومطلق الحرية، ويرضي اختلاط الفنون، وفقدها لأبسط سماتها، بحيث يكتب الكاتب ما شاء، عما شاء، بالشكل الذي يريد، وعبر اللهجة العامية التي تؤسس للازدواج اللغوي، وتفصل الأمة عن تراثها، ثم يكون في نظر المسايرين: رغبة أو رهبة الشاعر المفلق، والروائي المتألق. وعلينا استرجاع ما قيل عن أعمال روائية، لم يكتب أصحابها من قبل شيئاً، وما أن تلقفتها الأيدي، أو سمعت بها الآذان، حتى أصبحت الفتح المبين في عالم السرديات، وتقاطر السرعان من الكتاب والنقاد يمطرونها، ويمطرون أصحابها بالثناء الباذخ. ولنضرب المثل بروايتي «الحزم» و«سقف الكفاية» حتى لقد سخر الأخير - رغم حداثة سنة - بالمندفعين سخرية مرة. ولو نظر فيهما النقد العلمي المتزن، وتفحصهما بآليات المعارف وموازين القيم، لأخذت كل رواية موقعها الطبعي. وماذا أبقى المغرّرون للسنوات القادمة والأعمال المرتقبة، ولقد شهدنا امتعاض البعض منهم واستغرابهم من تزويد المؤسسات بالنصائح للمبدع، وما علم أولئك أن: - «الدين النصيحة» وأن المبدع وغيره يظل طالب علم، ومن استغنى عن التعلم والنصائح، فهو مصاب بجنون العظمة، ومما خدعنا به اهتام القارئ «الأوروبي» واحتفاء النقاد الغربيين بالمنجز السردي الشرقي، مع أنه لا يعد شهادة تفوق ولا تألق، فالغربيون يحتفون بإبداعاتنا التي تكرس مفهوم البدائية والهمجية والتوحشية والشبقية. ولك أن تنظر إلى ما كتبوه عن «ألف ليلة وليلة» وما هي إلا حديث خرافة بلغة عامية، تهبط بالمدينة والحضارة المشرقية إلى درك البدائية، حتى لقد تعقبها بعض الدارسين، وبرهن عن مصادرها اليهودية. ولما نزل نراها سفيرنا إلى عوالم الابداع السردي، ونساير الغربيين في اختصارنا ابداعياً فيها. ومتى رأيت احتفاء غربياً بفن أو فكر عربي، فالتمس حوله عهر أو كفر، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. ولو أعطى الناس هذا القدر من الحرية في القول ورد القول، لهدمت فنون، وعقائد، وقيم، تضبط إيقاع الحياة، وتحفظ توازنها. والمتحدثون دون علم بضوابط الفن، ودون موهبة، ودون ثقافة، يشيعون فيما بينهم هذا القدر من الحق المطلق، وهذا النمط من الحرية الفوضوية، ليشرعنوا كل خطأ أو خطل. ولو قبل منهم هذا الاطلاق، لضاعت الحقوق، وانعدمت الحريات، وما من مُخِفّ من المعرفة، خال من الموهبة، مقو من اللغة مفتقر إلى الحياء والحشمة إلا يعوض تلك النواقص بالتزود من الفحش في القول، والامعان في المناقضة، والانتهاك للغة والفن، والايغال في المسكوت عنه، ليلهي الناس عن ملكة معطوبة، وجهل مستحكم، وخلق دنيء. وهذه النوعية تعول على الحرية والحق ورفض الوصاية والنصح. وكم نود من المبدعين السرديين والنقاد المواكبين لهم أن يعرفوا حدود الحرية في القول وفي الفن، ومفهوم: الحكاية والخرافة والأسطورة، ومقتضيات الحبكة، ومتطلبات السرد، والزمن، والمكان، والشخصيات، لكي يحال بين الفن الرفيع وساقط القول. ولقد مرت بنا مقولات البرمين من ضوابط الفن، وبخاصة الشعر، حتى لقد بلغ المترخصون حد النثرية، وشاع مصطلح «قصيدة النثر» ووجد المجازفون من يبارك تجاوزاتهم التي ألغت فن الشعر، وخلطت بينه وبين النثر. ومعلوم أنه لا يضيق بالضوابط إلا من لا يتوفر على موهبة، ولا يضيق بالاحتشام والالتزام الأخلاقي إلا من لا يتمثل القيم الحضارية. وفي اطار استصحاب الحدود والقيود، نجد من يُحكم القبضة ويقدس الأنموذج، ويستمرئ مقولة: - «ما ترك الأول للآخر شيئاً» حتى لا يتمكن أحد من الحصول على الحد الأدنى من حقه المشروع في التفكير والتعبير، فيما نجد آخرين يلغون الحدود والقيود، حتى لا يعرف أحد حدود ماله وما عليه. وفيما بين الافراط والتفريط، تقوم الوسطية الراشدة، وذلك ما نسعى إليه، ونراه ضرورة في ظل الفوضويات التي أباحت المحظور. وإذ يوجه القرآن الكريم إلى ألا تجعل اليد مغلولة إلى العنق، ولا مبسوطة كل البسط، ويوجه بعدم الغلو في الدين، فإن عوالم الفن كعوالم المال والعبادة، لا بد لها من حفظ التوازن والوسطية. والمطالبون بتبسيط اللغة، لا يقبلون بالعامية، والمطالبون بتيسير الدين لايقبلون بالتحلل والمجون، والمجددون الحقيقيون لا يلغون ضوابط الفن، وخصوصيات الأنواع. وقبل التعالق مع الغرب، كان للأمة العربية سردياتها، التي غلب عليها سلطان الشعر، فأبقى عليها، كما كانت عند القصاص والمذكرين الشفهيين، وامتداد الشفاهية أضاع ثروة لا تعوض، إذ لم يتسع التدوين إلا للعلوم والمعارف والشعر. وجاء القرآن الكريم موظفاً القصص لأهداف تربوية، وبعد أمة جاءت «المقامات» و«الرسائل» التي تعتمد الخيال والحوار والشخوص والأحداث والأمكنة والأزمنة مؤسسة للفن السردي، وظلت حالة القصص مقموعة بسلطان الشعر، حتى نفذت سرديات الغرب ونظرياته الروائية والقصيية، وتمثلها المبدعون، واستقرت أشكالها، وتوارثتها الأجيال، وأصبحت بشكلها وشرطها، كما لو أنها جزء من التراث، ومثلما واكبنا الغربيين في التماثل، واكبناهم في التعبير، غير أن وعينا للتماهي أدق من تصورنا للتغيير.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:34 PM   #181
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط..! «2»
د. حسن بن فهد الهويمل


ولما كانت «السرديات» الإبداعية وهي مجال بحثنا متعددةً متنوعة، كان لا بد أن نميز كل نوع بسمته، ثم نجعل هذه السمة كالاسم، لا تكون إلا له، ومن أحدث في السمة ما ليس منها فهو رد، لأنه يطمس معالمها. ولزوم السمة لا يمنع من التجديد، ولا من مواكبة الحياة. وعندما ندخل مرحلة الطمس، يكون لزاماً على ذوي الأبصار والبصائر والذخائر المعرفية بذل العلم، وإسماع الجاهل.
والذكر الحكيم ندب إلى سؤال أهل الذكر، والرسول الكريم أبان بأن دواء العي السؤال. وإذا استبد الجاهل بمثمنات الحضارة، تحت أي مظلة، نقضت حضارة الأمة عروة عروة، وانمسخت شخصيتها، والمتعالون على التعليم والإرشاد، وهم أحداث مبتدئون ترتفع بهم خفة عقولهم، كما الدخان أو القتام، وكيف يرفض التزود من العلم عاقل، ومن ذا الذي شب عن الطلب، واستغنى عن المؤسسات الثقافية، وما نحن عليه من ضعف واستكبار مؤشر استبداد جاهلي، وغلبة حداثية، خرجت بالأمة من شرطها النهضوي، ولم تسلك بها طريق الرشاد، فكان أن تقطعت بها الأسباب.
ولو ضربنا الأمثال فيما نحن بصدده، لتبدت لنا عثرات ألْسنة، وسقطات أقلام. ومن البدهيات أننا حين ندعو الأشياء بأسمائها ونقول: هذه «رواية» وتلك «قصة» وتيك «سيرة ذاتية» وهذا «أدب رحلة» فإنما نقول ذلك بموجب معهود ذهني، يضمر الشرط والضابط المتكرسين مع التداول. واحترام المعيارية والقيم لا يعني السكونية والتحجر، وحمايتها لا تعني الوصاية، فالفن واللغة كوائن حية تنمو، مثلما تنمو الأجسام والأشجار، فالجسم ينمو، ولكنه يحتفظ بالمكونات الأصلية والملامح المميزة، ويظل جسماً لا يختلف أحد حول جسميته، قد تتغير ملامحه، ويزداد في الخلق بسطة، ولكنه لا يبرح سمته، ولا معهوده في ذهن المتصور له، والنمو والتطور لا يجعل القرد إنساناً، إلا فيما ذهب إليه «الداروينيون». ومثلما يكون النمو والتطور مع الإنسان، يكون مع الفن، ولكنه لا يحيل النثر إلى شعر، ولا الشعر إلى نثر، ولا يجعل الخاطرة قصة، ولا المقالة رواية. وحين يكون من حق «المبدع» السارد و«الناقد» المنظر الدخول في معمار أي سمة فنية للتعديل أو التبديل بالقدر الذي يحفظ لهذه السمة مرتكزاتها، يكون من حق «الناقد» الحكمي التطبيقي، بوصفه رديفاً للمبدع، أن يتصدى لكل من أراد تحريف المصطلحات عن مواضعها، وأن يمسك بالمتسلقين محاريب الفن من المبتدئين الذين لا يحملون موهبة، ولا يتقنون لغة، ولا يتوفرون على ثقافة، ولا يستحون من ممارسة الرذيلة وتحويلها إلى نص سردي، يفسد الذوائق والأخلاق. وحين لا يذود الناقد المتمكن عن حياض الفن الرفيع، تهدم أركانه، ويستباح حماه. وفنون القول لا يعددها إلا تعدد سماتها، واحتفاظ كل نوع بسمته. ومن خطل الحداثيين القول بمصطلح «الكتابة» ليكون فن القول مجموعاً بهذا المصطلح. ويكون من حق المتسلق أن يخلط بين الفنون، كما يخلط المبتدئ بين البحور الشعرية، ثم لا يرضيه إلا أن يكون الشاعر والقاص والروائي والمسرحي، موجباً على النقاد أن يجعلوه المجلي في كل فنون القول، وإن لم يفعلوا أحال اعتراضهم لكبت الحرية، وغمط الحق، وممارسة الوصاية وسلطة المؤسسة، والقصاص والروائيون ليسوا بذي شوكة بحيث نتألف قلوبهم، وواجبهم سماع الرأي، وواجبنا مواجهتهم حتى يفيئوا لأمر الفن واللغة والقيم.
والمتعقب للإبداعات السردية يقف على انتهاكات فنية، وإخفاقات لغوية، وضحالة دلالية، وسقوط أخلاقي، وانحراف فكري، ومدارة ومداهنة، وكأن العابثين قِدِّيسون معصومون، وكأنه محرم علينا إرشادهم. حتى لقد ادعى بعض المتطاولين على الفن الموهبة الروائية والقصصية والشعرية، و لم يقدم لإثبات هذه الدعاوى العريقة إلا كلاماً سوقياً، لا يحمل أي سمة من سمات الإبداع الروائي أو القصصي أو الشعري. ولقد وقفت على مؤلفات تشبه الموسوعات، تتداخل مع كتب التاريخ، وتأخذ من كل فن بطرف، بحيث لا يدلك على نوعها إلا ما كتب على أغلفتها. ولو أن ذكياً نزع الغلاف، وطمس اسم الكتاب، وقدمها إلى قارئ عادي، لما عرف لهذا الجمع أصلاً معرفياً، ولما أعاره أدنى اهتمام، ولكن الأسماء الملمَّعة، والمذهبية المعْمِية، والشللية المصمة، غمرت المشاهد، وحالت دون أعمال متميزة: فنياً ودلالياً ولغوياً. ولو رضينا بما يتبادله أولئك من أنخاب الثناء، وأعطينا المدعين بدعواهم، لما كان شعر ولا رواية ولا قصة. وذلك بعض ما تعاني منه مشاهد الأدب، وما على المرتاب إلا أن تمتد يده إلى فيوض الإصدارات، ليقف على مقترفات لا تغتفر، ولسنا بدعاً من الأمم، فالروائيون والقصاص ومن ورائهم النقاد المواطئون على الخطايا، يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا أشهر الروائيين المعاصرين أوجوستوفورنتيرو/ ت2003» كتب سطراً أو بعض سطر، مدعياً أنه أقصر قصة. وهذا نصها: «.. وعندما استيقظ كان الديناصور ما يزال هناك» ولقد تقبلها النقاد بقبول حسن. ومن مبتدئينا من كتب السطور الثلاثة، وسماها قصة، ووجد من يداهنه. وإذ نعرف عمق الاختلاف المشروع حول «شكل الرواية» وحول مفهوم «السرد» فإننا لا نأخذ بالصرامة والحدية والقطعية، ولكننا نفسح المجال لكل التصورات المنضبطة. ولقد تقصى الاختلاف حول «الشكل» و«مفهوم السرد» دارسان في كتابين التزما فيهما المنهجية والموضوعية، هما كتاب: «بنية الشكل الروائي» تأليف حسن بحراوي، وكتاب «السرد في الرواية المعاصرة» تأليف د. عبدالرحيم الكردي، بحيث استوفيا كل الاحتمالات. واستفحال التناقض بين المفاهيم والتصورات، يحدو بالباحث عن المعلومة، توخي الحق، وعدم البحث عن الرخص أو العزائم وحدها. وما لا نريده، انفلات العقد في صرعة التجريب، وتبرم المبتدئين ورفضهم السلطة باسم التسلط. وإذ تكون المختبرات العلمية تُسِرُّ فعلها التجريبي، ولا تبدي به، حتى يُعتمد من ذوي الخبرة والاختصاص، فإن على التجريبيين في الفن ألا يتخذوا تجريبهم قضية مسلمة، وعملاً لا معقب له، ما لم تتفحصه المؤسسات، ويختبره النقاد، وتقبله المشاهد.
ولما كانت الإشكالية المتولدة عن تعدد المفاهيم، قد دفعت بأطراف القضية إلى الإيغال في الانقطاع المضاعف: انقطاع بين المبدع والمتلقي، وانقطاع بين المبدع والفن بشروطه وجذوره، وانقطاع بين المبدع والناقد من جهة، وسائر القيم الحضارية من جهة أخرى، فإننا والحالة تلك سنتقصى الطرائق التي تكفل أدنى حدٍ من التواصل، ولا تقع في الخطابية والمباشرة والتسطح. وليس أضر على أمة الفن من التلاحي في غياب الاستيعاب للطارف والتليد، وذهاب كل مخاصم بمفهومه للحدود والآفاق. وأين منا من يرى «التجلي» وصمة إخفاق و«الخفاء» سمة تألق، ثم لا يكون تحديد للقدر المطلوب منهما؟ وأين منا من ينتمي لحضارته، ولا يرى المزايدة حول ثوابتها ومحققاتها في الأنفس والآفاق، ثم يخالف ما هو معلوم منها بالضرورة؟ وإذا قيل له: اتق الله. أحال إلى التسلط والوصاية والمزايدة. وتلاحق التخليات، أدت إلى تباعد الشقة بين أمهر المتلقين وأبرع المبدعين.. وبالخفاء المتعمد والمتكلف تعطلت لغة الكلام، وقامت مقامها معميات ومبهمات باسم الغموض والانزياح والرمز والأسطورة والإشارة والقناع ، وما شيء منها جاء على أصوله وضوابطه، وإن كانت حدة الانقطاع ماثلة في الشعر الحداثي، كما هي عند «أنسي الحاج» وأضرابه، فقد تستشري في السرديات، إن لم يتدارك النقاد الأمر، ويثبتوا أفئدة الناشئة التي عصف بها الاستدراج. وإذ نكون مع الرمز والأسطورة والعدول والقناع فإن الكينونة مشروطة بمعقولية ذلك كله ومشروعيته. وإذ تكون السرديات الإبداعية غير «الشعرية» في قصدية الجمال والانفعال، يكون النص السردي أقرب إلى «الأدبية»، فيما يكون النص الشعري أقرب إلى «الشعرية»، ولقد حاول البعض الإيغال في الأدبية السردية، لتناهز الشعرية، وتلمسها النقاد في بعض الإبداعات المتميزة، نجد ذلك عند «بشير القمري» في كتابه «شعرية النص الروائي» وعند «سامي سويدان» في كتابه «في دلالة النص وشعرية السرد».
وتلك الرؤى والتصورات تجعلنا أمام مستويات قولية:
القول العادي المهتم بمجرد التوصيل القطعي الدلالة، دونما جمال أو إمتاع أو ضابط فني، ويشمل: كلام العامة فيما بينهم، والقول العلمي الحامل لرسالة معرفية، مثل كلام الفقهاء والمؤرخين، ومن في مستواهم.
والقول الأدبي الذي يحمل هم الإمتاع والاستمالة والإقناع، ويتطلب توفر «أدبية» السرد و«شعرية» النظم، وهما سبيل المحفزات الفنية.
وعلى ضوء ما سبق فإن هناك «الشعرية» و«الأدبية» و«القولية» والإبداعات السردية تحتل الوسطية، فليست «شعرية»، وليست «قولية»، وإنما هي «أدبية»، والتخلي عن الأدبية بحجة الواقعية اللغوية رجوع إلى الوراء، وخروج من دائرة الفن.
وهنا نتساءل عن امكانية جعل النص نصاً أدبياً، ومتى يكون المرسل قادراً بالعفوية لا بالتعمل على إنتاج نص أدبي، يتميز عن سائر النصوص المعرفية؟ ولتجلية الامكانية الإبداعية، نحتاج إلى تقصي «مفهوم الأدبية» في التراث والمعاصرة، لنعرف أي الحزبين بلغ في التمييز بين سائر الأنواع القولية: المنضبطون أم المتفلتون الذين لم يصبروا على لأواء الفن ومتطلبات الإبداع. وفوق كل هذا: هل من واجبنا الإذعان لكل قول، والقبول بما يضفيه عليه المواطئون من صفات، دون الاحتكام إلى ضوابط الفن، ونظام اللغة، وموازين القيم؟.
وهل ممارسة هذا الحق المشروع يعد وصاية تقمع الحريات، وتسلب الحقوق؟ لقد ظهرت نغمة الوصاية والمزايدة والتحكمية، كاتهام لمن يحاول التصدي للترديات اللغوية والفنية والدلالية. وهي إطلاقات تخلصية تملصية، فالنقد حق مشروع للمتلقي: انطباعياً كان أو ذوقياً أو معرفياً، فنياً أو لغوياً أو دلالياً. والقائلون ب«الشعرية» و«الأدبية» يعرفون شرطهما المستخرج من النماذج المتطاولة مع الزمن، والمتداولة بين النقاد، والمصار إليها بالعفوية، دون تكلف أو تعمل.
ومثلما عرف «العصفور» كيف يبني عشاً في الشجر، عرف الشاعر كيف يبني قصيدته، وعرف السارد كيف يبني روايته أو قصته أو أقصوصته. وإذ لا نجد القول الفصل في نشأة اللغة، لا نجده عن نشأة الشعر على هذه الشاكلة، وبتلك الصفة. والحالة تمتد إلى الإبداع السردي. لقد فرق المتلقي بين القاص، والعالم، والمؤرخ، والفقيه، والواعظ، وعرف المذكرين والقصاص. فمن الذي علمهم ذلك؟إنها: الفطر، والمواهب، والأعراف. ولا عبرة بتعدد التقنيات السردية، ولا بالأنماط المختلفة، حتى بين أعمال الكاتب الواحد. وتمسكنا بضوابط التحول والثبات، لا يحيل رؤيتنا إلى لزوم نمط واحد، وتقنية واحدة، فالمسألة ليست عملة ورقية، لا تختلف إلا بالرقم، إننا نتصور الشعر والرواية والقصة على الرغم من التحول المستمر. ولا أتصور اجتماع طائفة من الناس للتواضع على مفهوم «الشعرية» أو «السردية»، وإذ تكون اللغة في نظري تعليماً وإلهاماً، تكون «الشاعرية» و«السردية» وسائرمفردات الفن إلهاماً وموهبة، ينميها الصقل، وتثريها الثقافة، وتفجرها المواقف. وإذ لا يقدر أحد على الإحالة إلى المواضعة، تكون المسألة الإبداعية إنتاج موهبةٍ كالغريزة. والقائلون ب«الأدبية» يعرفون شرطها، والعابثون الذين يتحللون من الشرط، يلغون «الشعرية» و«الأدبية» ولا يأتون ببديل يتوفر على قدر كاف لتحقيقهما على أي شكل، وإذا أسقطت دعوى الإصلاح عندهم لاذوا بمقتضيات الحرية، وحق التعبير، ووصفوا المتصدي لهم بالوصي والمرشد والمزايد والأصولي. ولقد يبلغ بهم التخلي عن الحضارة حداً يكونون فيه غربيين أكثر من الغرب، و«فرانكفونيين» مأجورين. وهذا الاستخذا للآخر، والتنمر على الأهل والعشيرة، يفوت على المشاهد كل فرص العلاج لهذه الترديات. و«الشعرية» و«الأدبية» من الثوابت التي لا يمكن القبول بالتخلي عنهما، تحت أي مبرر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 25-11-2006, 08:35 PM   #182
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط! «الحلقة الأخيرة»
د. حسن بن فهد الهويمل


والذين يحيلون الخلاف فيما بيننا وبينهم إلى جدلية التجديد والتقليد، أو المعاصرة والمحافظة يفتقدون المصداقية، فنحن دعاة التجديد، وكيف يتأتى التجديد من مثلهم، وهم ينسفون الثوابت، ويقلدون الآخرين؟ والسمة ضابط ثبوتي لمسمى لها ما يحقق انضباطيتها، ولن تتحقق الهوية دون حد أدنى من السمات والشروط التي يحيل إليها المختصمون، وحين لا تكون سمة ولا شرطاً، فإلى أي شيء يكون الرد؟ وحين يصر المتحدثنون وأعني بهم المتذيلين لا المبدئيين المبادرين على دعواهم الكاذبة بقيامهما في القوليات، تختلط الأمور، ثم لا يكون درجات ولا دركات. وإذ يقولون بمطلق «الحق» و«الحرية» فمقتضى ذلك ألا يستقيما مع شرط سابق يخل بالمطلقية. وهذا الدرك الذي بلغوه في النثرية وللاأخلاقية ناتج طبعي لهذه الدعاوي، واقرؤوا إن شئتم «الخبز الحافي» لشكري و«الوليمة» لحيدر، وما أحدثته الأخيرة من تصدع مخيف في المشهد الفكري والأخلاقي، ومن الناس من يرى ان التصدي لمثلهما يفقد الحرية والحق. ومثلما تردى الشعريون في النثرية والسرديون في العبثية المضاعفة، وقعوا في الانقطاع بكل أنواعه: انقطاع المرجعية، وانقطاع التواصلية، ونشأ من جراء الانقطاعين خلل في اللغة، وخلل في القيم المعرفية والأخلاقية، فجاء التغامض المتكلف لا الغموض الطبيعي، وتسربت العامية الاقليمية، واستشرى الانحراف الفكري، وشاع الفحش القولي، واحتج كل قبيل بحق التعبير وحرية التفكير، وعولوا على ظواهر سلوكية، ركن إليها الغربيون، حيث اتخذوا «أدب الاعتراف» حجة ومحجة، وما عرفوا ان كل مقترف معافى إلا المجاهرون، وان المبتلى بالقاذورات من واجبه الاستتار. وإذا قيل لهم عن «الاستتار» و«العفو» قالوا: إنما نحن رواة أحداث، وحكاؤون لوقائع، وما فعلنا ذلك إلا لقصد الحبك الفني. وقد يكون لأكثرهم بعض المسوغ، متى عرفوا حدود الحق، ومقداره، ومجال الحرية ومداها، ومتى جاء بالجنح دون تفحش، ليصرعها الحق، وينقيها الطهر، وتنتصر عليها الفضيلة، وما قصة يوسف وامرأة العزيز إلا من هذا النوع المعول عليه، دون فهم للمقاصد وحدود التناول. ولقد ارتكس من ارتكس عن جهل أو عن بينة، وحل ما يسمى بالحرية الجنسية، وتهافتت على هذه المثيرات المغريات طائفة من المبدعين، نجد ذلك عند «غادة السمان» التي تربت في بيت علم وأدب وتصوف، ثم تمردت عليه، لقد قالت عن ردة فعلها على ما أسمته بالكبت وسلب الحرية: «فهذه التربية القاسية منعتني من لقاء شباب مراهق مثلي دفع بي ببساطة إلى استدعائه للبيت ليلاً بعد ان ينام الجميع دون ان يرف لي جفن ولكن المسكين كان يرتعد خوفاً وفقد كل حرارته فعفوت عنه وسمحت له بالهرب» هذا الاعتراف معدود من الحرية، والحق انه من العهر والتهتك، اللذين أفسدا الفن، وهدما الأخلاق، ومعهما لا يسع ناقداً ينتمي لحضارة تمثل الشرعة والمنهاج ان يغمض فيه، ولا ان ينخدع لمفهوم الحق والحرية على الطريقة الحداثية أو الوجودية.
ولما كانت الأعمال السردية داخلة في الاتصال اللغوي، فإن على المبدع والناقد ان ينظرا في ترسيمات الاتصال، كما هي عند مشاهير اللغويين المعاصرين.. ولنا ان نعوِّل على «ياكبسون» بوصفه الحكم العدل عند الحداثيين. فلقد حصر عناصر الاتصال في «المرسل، والمتلقي، والرسالة، والسياق، والشفرة، والصلة» وهذه العناصر الستة في المجال السردي تجعل «الرواية» و«القصة» أو «السيرة الذاتية» أو «أدب الرحلة» رسالة من سارد، يرسلها إلى مسرود له، يقرأ السرد أو يسمعه، و«شفرتها» اللغة التي لا تطاوع الطرفين، حتى يتقنا نظامها النحوي والصرفي، وحين يحسن المبدع استعمالها استعمالاً أدبياً يعتمد الانزياح والجرس والايقاع والايجاز والمجاز والايحاء والتمنع والاحتمال الدلالي، ولا يكتفي بالتوصيل المباشر دون أي محفزات، و«صلة» الرسالة الكلامية هي الرسم الإملائي، و«سياقها» الثقافة والأوضاع والأعراف المشتركة بين طرفي: الارسال والتلقي، ولأن لكل عنصر مكوناته، ولكل مكون سماته، فإن «الحق» و«الحرية» إزاء التصرف بالعنصر ومكوناته مقيدان بما يحقق ما هية العنصر، وليس لأحد ان يتصور العنصر دون ضابط، ولن تتأتى الحرية المطلقة مع الضابط، والسياق بوصفه الأهم ، يكون: عاماً أو خاصاً، خارجياً أو داخلياً، فالخارجي يرتبط بالمكونات، والداخلي يرتبط بالتكوين، وبمعنى أدق: الظروف التي ترسم النص، والنص الذي يرسم الأحوال، فالنص له راسم ومرسوم كما الدال والمدلول. وراسم النص ليس هو المبدع مفصولاً عن المكونات والمؤثرات.. ومصطلح «التناص» يؤكد انه ليس هناك نص بريء، وليس كل تأثير خفي من السرقة أو الاسترفاد المخل بالعملية الإبداعية، فالمبدع في النهاية وصي، جسَّد الأثر، وتجسُّدُ الأثر يضاعف السياق، بحيث يكون للنص مرجعيتان سياقيتان: سياق خارجي، يعني النسق الثقافي، وسياق داخلي، يعني النسق اللغوي، والمبدع والناقد حين يجهلان الانساق والسياقات، ولا يقيمان لهما وزنا، تضطرب عمليات الأداء والاتصال، وذلك ما نعايشه في مشاهدنا باسم «حرية القول» و«حق التعبير»، والمتمردون على الضوابط والأنظمة والقيم يصفون من يأطرون عليها بالأوصياء وبالسلطويين، ويفتعلون الأنفة ليحموا أنفسهم من مباضع النقد، الساعي لاحقاق الفن، بكل ما له من جلال وجمال.
ومثلما نازع الثوريون السلطة، نازع الحداثيون الضوابط والأنظمة والقيم والحضارات، ومن هذا التمرد غير الراشد وقعت الشعوب في حمامات الدم، ووقع الفن في وحل التسيب، فالذين اتخذوا العامية لغة للنص أخَلَّوا بعنصرين: عنصر اللغة، وعنصر السياق في جزئه الداخلي. والذين استمرءوا الفجور والتهتك والفحش دونما حياء أخلُّوا بعنصر السياق في جزئه الخارجي، ومثلهم الذين اتخذوا «الايديولوجيات» و«الأنساق الثقافية» المغايرة لأفكار حضارتهم وأنساقها، والذين رضوا بأن يطلقوا على ما يقولون سمة فنية ك«الرواية» أو «القصة» ولم يترددوا في مناقضة المقتضيات، كل أولئك خارجون عن مفاهيم «الحق» و«الحرية»، ولا يعد ما يأتون من باب التجديد، ولا يكون الاعتراض عليهم والأخذ على أيديهم وثنيهم عن غوايتهم من باب الوصاية والمزايدة.
وكيف يكون شيء من ذلك والناس كافة تمارس أداءها وفق عقد اجتماعي ملزم سواء كتب أو عرف؟ ومن لا يختار الالتزام بمحققات حضارته التي يدين بها ويدين له، وجب الزامه، فمن رضي بها لزمه تمثلها، والتخلي عن مقتضيات العقد فوضى، ترجع بالأمة إلى الخلف، ولأن النص الإبداعي لغة فإن المبدع لا يكون متألقاً ما لم يمتلك ناصية اللغة، وما لم تكن اللغة معه طائعة انسيابية، يشكلها كما يشكل الرسام صوره بالألوان، وكما يشكل النحات أشكاله بالأدوات، وكما يصوغ الموسيقي ألحانه بالأنامل والآلات فإنه يعيق الحركة الإبداعية، ويشكل عبئاً ثقيلاً وعقبة معوقة، والسرد كالشعر صعب وطويل سلمه، ومن استخف به فإنما يستخف بنفسه، ولسنا فيما نتطلع إليه معارضين ولا معترضين على التجديد، ولا على التفاعل والتبادل مع الآخر، ولكن البون شاسع بين ما نقول وما يفعله المتهافتون على منجز الآخر.
ومع ان أماني المفكرين في حضارة عالمية تتفادى الصدام أماني رومانسية، وليست واقعية، وما يفعله البعض لا يعد من التقارب وإنما هو انسلاخ وانمساخ وتمييع لكل ضابط وَحَدٌّ، والذين يعطون التنازلات يلغون حضارتهم، ويؤصلون لحضارة الغير، وقد تكون المدنية الغربية قد فعلت فعلها بالترويض للهيمنة الحضارية، وإذ تكون اللغة وعاء الحضارة ومنطلقها، فقد قرضت من كل جانب، وإذا لم يستطع المتأمركون والمتفرنسون إحلال لغة حضارة أخرى مكانها فلا أقل من ان تنازعها العامية لتدخل الأمة مرحلة الازدواجية، وما العامية إلا أولى خطوات الانقطاع الفكري مع التراث، وأهم مرتكزات «الرسالة» اللغة، فهي الوسيلة الأهم، والرسالة بوصفها عملاً سردياً تحيل إلى وسيلة الأداء، وكل وسيلة لها توصيفها ونظامها، والرسالة قبل ان تتلبس بوسيلة الأداء تمتلك توصيفها ونظامها، وهنا فنحن أمام مواصفات: «الرسالة» و«الوسيلة» وليس لكائن من كان ان يعول على «الحق المطلق» أو «الحرية المطلقة» ليحمل الرسالة أو الوسيلة على مناقشة السمة المميزة لها، وهل أحد يقبل الحاق عالم الحيوان بعالم الإنسان، أو ان يخلط العذب الفرات بالملح الأجاج؟ وهل أحد يستطيع ان يحلّ حرفاً مكان حرف في المعنى الوضعي أو في الدلالة الصوتية؟ والمجازيون أقاموا علاقة عند مصائرهم الاستعارية أو التشبيهية أو المجازية المرسلة، ولا يمكن ان تكون الاستعارة أو التشبيه اعتباطيين، ولو أن أحداً من المبدعين لم يضع أي قيمة للعلاقة أو لوجه الشبه كان قولاً هذراً لا قيمة له، مع انه مارس في هذه الاعتباطية حرية القول وحق التعبير المطلقين، وفي ظل هذه التحفظات التي قد تحيل إلى الوضوح والمباشرة، أو قد يفهمها البعض فهماً آخر، فإننا نعرف «الرمز» و«الاسطورة» وحدود «التجلي» و«الخفاء» المشروعين، وليس هناك مبدع حقيقي، ولا إبداع حقيقي بتلك الصفة إلا وهو على شيء من الانزياح اللغوي الذي ينقل اللغة من الاستعمال العادي إلى الاستعمال المتميز، بكل ما يتطلبه النص من جمال وجلال، وفي الذكر الحكيم جاء الاستهلال بالحروف المقطعة، ثم أشار بعدها إلى «الكتاب» فكأن في ذلك على رأي بعض المفسرين إشارة تحدٍّ وتنبيه إلى ان مادة القرآن من تلك الحروف، التي يستعملها الناس في أحاديثهم العادية، ولكن النظم شيء آخر يختلف عن استعمال البشر، فاللغة هي اللغة، ولكن النظم يختلف، وهكذا يجب ان يكون الإبداع البشري، استعمال اللغة، ولكن بطرائق لا يبلغها إلا المبدعون، ولما كانت السرديات بوصفها رسالة صامتة تحمل شكلها وشفراتها إلى من تفترض فيه القدرة على فهم المعنى المقصود بفك الشفرة، كان على المبدع مراعاة أمرين:
الأول: ألا تناقض الشفرة دلالتها المصطلح عليها.
الثاني: ألا تناقش الرسالة شكلها المعتبر والمميز لها، والتشفير حين يناقض المعهود بين طرفي الرسالة: المرسل والمتلقي، تفقد الرسالة مهمتها الرئيسية، ولا تكون شيئاً ذا قيمة، بمعنى انها تفقد القيمتين: الشكلية والدلالية، وكل ما نسوق من تحفظات واحتراسات تحفظات لا تمنع التجديد ولا التعصرن، ولكنها تحفظات واحتراسات تمكن من اكتشاف الفرق: بين التجديد والتخريب، والحرية والفوضوية، والحق والتسلط، وتكشف عن ذوي المواهب والتجارب والثقافات، ومن يندس معهم من الأدعياء والمتقولين على الفن والمواطئين لهم، والاحالة إلى حرية القول وحق التعبير بلغ بالإبداع حد الانفلات والطلسمة، بحيث لا يعرف الغادي الذي هو رائح، والذين اهتاجوا مما نقول، يحسبون كل صيحة عليهم، والمتعقب للغطهم، يدرك ما يعانونه من ريبة في صدورهم.
ومثلما أوغل البعض في الانقطاع السياقي مما انطمست معه معالم الفن، أوغلت طائفة من الحداثيين في الانقطاع اللغوي، واتخذوا الانغلاق والإحالة سمة مميزة، وساقوا تراكيب وعبارات ليست مفهومة، وليست مقبولة، وتلاحقُ هذه التراكيب والعبارات واغراقها في المغايرة ينسف جسور التواصل، ولقد خلفت «السريالية» و«الوجودية» عبثية وغثائية أوغل فيها الحداثيون، فكانوا إلى العبثية أقرب منهم إلى الانضباطية، والعبث بالقيم الفنية لا يكون تجديداً، والعبث بالقيم الأخلاقية لا يكون من الحضارة ولا من التمدن، و«الحق» لا يغمطه الأطر على الجادة، بل لا يتحقق إلا بالأطر، ومن تصور الأشياء على غير مفاهيمها، واحتج بحرية التعبير وحرية التفكير وقع في الشبُهات، والنقاد كالقضاة في فض المنازعات وكالرواد في البحث عن الطريق القاصد والمرتع والمخصب الآمن، فإذا جار القاضي، وكذب الرائد، حلت الفوضى، واستفحلت الغثائيات، وذلك ما نشاهده ونعايشه، ومجمل القول ان السرديات كلام من الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ولأنه صنو الشعر وشقه فإن مبدعها كمبدع الشعر، يحتاج ما يحتاجه الشعر من موهبة تولد مع الشاعر، ومن دربة تواكب حياته، ومن ثقافة تنمو بنمو مداركه وحاجاته، ومن موقف مثير، وناقد خبير متيقظ، يسدد ذويه، ويحمي ساقه الفن ومقدمته من ان يلحق به من ليس من أهله، والمتضاوون من قولنا، يخشون كشف عوارهم.
ثم إن السرديات رسالة مقروءة، وحين تكون كذلك، فإنه يجب ان تستكمل شروط المكونات والوسائل، ولما كان القارئ يريد من قراءته إثراء معارفه، وتوسيع ثقافته، وتهذيب اخلاقه ولسانه، وامتاع نفسه، كان على السارد ان يتوفر على ذلك، ففاقد الشيء لا يعطيه، وعلى القارئ ألا يفرط بجهده وماله ووقته في قراءة لا تزيده إلا جهلاً، وعلى الناقد الحكيم ان يكون أميناً صادقاً في نهوضه بدور الوسيط والمقوم والشارح والمتذوق والمنقب عن المضمرات، ولن تبلغ السرديات تمامها حتى يكون الثلاثة: المبدع، والمتلقي، والوسيط، على وعي تام بما يجب ان يكون، ومن قعدت به موهبته أو ثقافته أو موقفه ان يعرف قدر نفسه، وألا يقتحم مدارج الفن ليعيق الباحثين عن القيم الفنية والمعرفية والأخلاقية واللغوية، والذين يبطئ بهم تفريطهم باللغة الفصيحة والفن الرفيع والخلق الحسن لا يسرع بهم افراطهم بالتمسك الحرفي بكل ما سبق، ولن تؤتى مملكة الفن الرفيع إلا بالمفاهيم الخاطئة والتعويل على الفوضوية باسم الحرية والتقليد للغرب باسم التجديد والمجاهرة بالرذائل باسم أدب الاعتراف والوقوع في العامية باسم الواقعية اللغوية، ولتحقيق الإبداع الرفيع المثري للمعارف، المهذب للأخلاق، والمقيم للسان، لابد من تمرير المسائل، وتحديد المفاهيم، وحفظ التوازن، والصدع بالحق، والاعراض عن المجاملات والمداهنات، والمرور الكريم باللغو، وذلك ما نود ان نأخذ به أنفسنا ما استطعنا إليه سبيلاً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 07:08 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)