|
|
|
25-11-2006, 08:36 PM | #183 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تفكيك الوهم ووهم التفكيك:الخطاب الثوري أنموذجاً..! «1/2»
د. حسن بن فهد الهويمل بين مفهوم «الدول النامية» و« الدول النائمة» فاصل وهمي، محكوم بلغة دبلوماسية مخاتلة. وذلك سر التعثر، وناموس الفشل، وداء الاحباط واليأس. ومع ما يعتري هذا العالم الثالثي، - وبخاصة العالم العربي، بوصفه ذروة سنامه - من تفرق في الكلمة، واختلاف في الانتماء، واستفحال في الريبة والخوف، واستشراء للوهن والحزن، فإنه يمشي في أرض السياسة مرحاً، دون أن يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولا. ورغم ضعفه، وضعته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، تراه يعيش حالة من النرجسية، وجنون العظمة، والمغالطة، وممارسة التحدي والتصدي، دون استعداد للمواجهة، أو إعداد للقوة. وكل ضربة تلقيه على الأرض، تمحو ما علق بذاكرته عن مشاكله ومكائد أعدائه، الأمر الذي يحمله على نسيان المآسي، والخلط بين الأعداء والأصدقاء، وتصديق الأوهام، والتخبط في الظلام. وما قصة «أشعب» منه ببعيدة، فلقد كذب على من حوله بدعوى الوليمة، ولما انطلقوا الى الوجهة التي أشار اليها، خاف أن تكون الكذبة حقيقة، فلحق بهم. والعالم المتنرجس بكل عيلته المستكبرة، لا ينفك من حالة الوهم والتوهيم، بحيث لا يفرق بين المبادرة والاسترفاد، ولا بين الأخذ بيد صاغرة والافتراس، ولهذا تراه عندما يدّعى أحدٌ من ثورييه أو متعالميه مشروعاً، أو يعلن عن حزبٍ، أو يحدث نظاماً، أو يختلس ظاهرة، أو يقلد نظرية، أو يظاهر قضية، يستلحق نسبها، ويزعم ابتكارها، ويتحفز للمقايضة عن حق الامتياز، ويتهم الآخر بسرقة النظرية، ويفتش عما يمكن أن يرافع من خلاله عن حقوق الملكية الفكرية، ويخفي موتها، كما فعلت «شجرة الدر»، ويميت ما سواها، كما يفعل المبهورون بنظريات الآخر. وإذا أعوزت أحد هؤلاء العصامية، لاذ بالعظامية، وإذا أعياه قول: ها أنذا، قال: - كان أبي، ثم لا يتردد في مزاحمة الأقوياء بالمخلب الغض والجناح القصير والتصدي لمن إذا قال فعل، يعرض المهتاج الأعزل لضربات موجعة، ويضعه تحت طائلة المراقبة والتقزيم، وهو لا يلوي على شيء مما يتعنتر به. وليس من شك أن مثل هذه الأوهام والأحلام تحال الى جنون العظمة، واستفحال الهلوسة، وعشق الذات. وهي خصال بادية للعيان. فالخطاب الاعلامي يجعل من الصحراء المترمدة جنة تجري من تحتها الأنهار، ويجعل الفظَّ الغليظَ ليِّن الجانب مخفوض الجناح من الذل. وكل فارغ من القيم المعنوية والمعرفية والموقفية، يجنح الى الحرية الفوضوية والثورية الدموية، ثم لا يجد حرجاً من منازعة السلطة، وشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، برؤية فجة، وقول ضعيف، ورأي مرجوح، وحجة واهية، ممعناً في سك المشاريع والاغراق في الادعاء العريض. يكون ذلك على مستوى المنظومة، وعلى مستوى أفرادها. فالأمة مجموعة أفراد يشكلون رؤيتها، والوادي المتدفق قطرات من المطر تتجمع ثم تتدافع، وهوس المشاريع عند الأفراد المتعالمين، تتناغم مع هوسها عند المؤسسات المتحكمة بمصائر الشعوب. ومثمنات العالم العربي وطاقاته استنزفها التجريب وأذهبت ريحها جرائر الايمان بالمبدأ أول النهار، والكفر به آخره. وكل نظرية يبادر بها الغرب، ثم ينبذها وراء ظهره، يتلقفها المنشَّؤون في الحلية باليمين، مدّعين أنها من بنات الأفكار، متحفزين للغيرة عليها، كما الغيرة على البنات الأبكار، فيما تبقى ثوابت الأمة كالأيتام على موائد اللئام. ومع ذلك لا يعدم أحدهم الغوغاء والفارغين، الذين ينفخونه حتى التورم والتوهم، منفضّين من حول المؤصلين المتحسسين عن الحق، ليكونوا غرباء، - وطوبى للغرباء -. ولمَ لا تكون الغربة؟ والرسول يأتي ومعه الرجل، ويأتي ومعه الرجلان، ويأتي وليس معه أحد. فيما يأتي عَبَدة الشيطان والفروج والبقر، ومن ورائهم سواد عظيم، وكم نتذكر البلابل، وهي تذاد عن دوحها، لتكون حلالاً للطير من كل جنس. وتزيين سيئ الأعمال لمقتحمي الصدارة الفكرية أو السياسية، تحجب الرؤية، وتعمق المحنة والابتلاء، وما أُتيت الأمة إلا من هذه النخب التي تمارس تفكيك الأوهام على أنها حقائق، وحين تنهض النخبة بمهمة التوسط بين السلطة والأمة أو بين المرسل والمتلقي تعيش حالة من الوهم، مشكلة ظواهر صوتية فارغة من أي معنى. والظواهر الصوتية على مستوى الساسة والأدباء والمفكرين والمبدعين إفراز طَبَعي لهذه الأجواء الموبوءة بالدجل والادعاء، وحكم الفرد المتغلب المستبد، وتحكم المستعمر بمؤسساته ومساعداته ولعبه وعملائه. ولا يندُّ عن ذلك إلا من يبعثه الله على رأس كل مئة سنة، ليجدد للأمة أمر دينها، ولم تفقد الأمة مثل ذلك، تحقيقاً لوعد الرسول بالطائفة المنصورة. وأدواء الدول الصوتية كثيرة متناسلة، وكأنها زعيمة بحفظ النوع المكتوب عليه التخلف. ولو استمع المسكون بهم أمته، المتألم من تردياتها الى لحن الخطابات المتوارثة، لاستبان النمطية، والتناظر، وعدم التفكير بما تراكم من مشاكل واحباطات، وكل ما تجود به خطاباتها التلميع والتمييع والتحريف والتزييف. وكأنه محرم على هذه الأمة من المحيط الى الخليج مساءلة الذات عَمّا بدر منها. ولن يستقيم أمرها ما لم تراجع نفسها، وتحاكم فعلها، وتقوِّم منجزها، وتمتلك الجرأة والشجاعة على مواجهة الذات بكل ما هي عليه من مقترفات بحق الأهل، أو بحق الغير، ثم لا تجد غضاضة من المراجعة والنقد. ومن تأبى على الشرعة والمنهاج وفق ما تمليه عقيدة الأمة وتستهلُّ به دساتيرها، متجاوزاً حدود ما أبيح له، كره الناس انبعاثه، وانفضُّوا من حوله، ووكله الله الى حبال الناس المتهافتين على إمداده، بمقدار، وبثمن باهظ من كرامته وحريته. ومتى آلت الأحوال الى هذا المستوى، تفرقت به السبل، وضل الطريق القاصد، وتخطفه شرار الخلق، ليكون اللاعب الغبي، مزلقاً أمته في مهاوي المكائد. ولو نظر المتابع الى ما مرت به الأمة من أحلاف وأحزاب وطوائف ومبادىء، وما اعتراها من ضعف، وما اقترفه أبناؤها من تعديات على بيضتها، لعرف أن الضياع هو الرهان الوحيد. والأمة العربية مرت بفترات متفاوتة في أنماطها السياسية، وتقلباتها: الحزبية والطائفية والقومية والقطرية والدستورية، وفي تجريبها المتسطح، ولما تزل تجتر مآسيها، ثم لا تجد من يقيل عثرتها، وإذ يكون العاقل من وعظ بغيره، فانها لم توعظ بنفسها، على الرغم من النكسات الموجعة على كل الصعد، وعبر كل الفترات، ومن ثم تلاحقت نكباتها، وتضاعفت مصائبها، واضطربت في مشاريعها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتعارضت مصالحها، وتنوعت ألوان كتبها من «أخضر» الى «أبيض» الى «أحمر» الى «رمادي»، وكل زعيم يذهب في ادعاءاته العريضة، متألهاً بأوهامه، ومن ورائه بطائن سوء، تقلب له الأمور، وتزين له سوء الأعمال، وتحول بينه وبين المحب الناصح. وهذا الاستبطان، ينسيه ما يكتبه التاريخ، ويشغله عن التفكير بلحظة العودة الى بارئه، كما خلقه أول مرة، تاركاً ما خوّله وراء ظهره. وما من خطاب عاطفي أهوج، ارتفعت نبرته في تجريم سلفه، وتخوينه، إلا وهو وثيق الصلة بذات الخطاب المجبول على التخوين، والتخوين المضاد. والناس مرتهنون بين قادم على مطايا السلاح الذي اقتطع ثمنه من خبز الفقراء، ليكون عدواً وحزناً، يخيف به الآمنين، وهالك تكشف وعده عن غرور. ومع حدة الخطاب وصلفه، تظل الأمة بانحدار، مرتكسة في وحل الضعف، والتمزق، والافتقار الى أدنى حد من الامكانيات اللائقة بانسانية الانسان. وما تتعرض له الأمة اليوم من تدخل سافر، وقتل متوحش، وهدم متعمد لكل الامكانيات وخضد للشوكة، وإذلال للكبرياء، وحرق للأرض، وكسر للعظم، إنما هو ناتج طبعي لهذه الترديات. ولو أخذ المتألمون قضايا أمتهم من خلال سياقاتها، لما استنكروا تلك المآلات الموجعة. فالوضع العربي لا يمكن ان يتمخض إلا عما هو قائم من قهر واضطهاد. والقوي المتغطرس المتمرد على الشرعية الدولية يبحث عن الغنائم الباردة، وعن الشعوب المتخلية عن ثغورها، العاجزة عن افراز أنظمة ملائمة لمتطلبات عصرها. وبامكان الأمة لو صدقت مع نفسها أن تقلب المعادلة، بحيث ترتد الى الداخل لتصنع الانسان، وتستغل الخيرات، وتصون المقدرات، وتفعل المؤسسات، وتحترم عمقها التاريخي والفكري، وكيف لها أن تفعل هذا والثورات المتلاحقة تتعمد طمس التاريخ الحديث، واستئناف تاريخ جديد يبدأ بعيد الثورة، ويعتمد على الخطابات الاقليمية القائمة على التخوين للسلف، في سبيل تزكية الخلف. والناس في ترقب خائف من احتقان يهدد بالانفجار عن ثوري، يمسح الذاكرة، ويمحو التاريخ، ليثبت ذاته بوصفه الأول والآخر، معيداًنغمة الادعاء، والاشكالية ان الناس ينطلقون في مواقفهم ثباتاً لا مجتمعين، يختلفون حول الحقائق التي لا تحتاج الى دليل، ويحتربون حول أتفه الأسباب، وكلما تطابقت المصالح تبودلت أنخاب الثناء وعبارات التزكية، ومتى اختلفت تفجرت النقائض، دون مقدمات أو مبررات، والذاكرة العربية «سبورة» مدرسية، لا تنفك من المحي والاثبات، ولا أحد يخجل مما قاله بالأمس، وذلك مؤشر امتهان للانسان العربي من ذويه، والشارع العربي خير مثال على غياب الوعي، تراه يهتاج ضد الشيء ونقيضه، عبر حركة غوغائية غير محكومة، مما يتيح للعابثين بمقدرات الأمة فرصة ذهبية، تمكنهم من ضرب بعضهم ببعض. ولو صدق المؤتمرون في القمم، وفيما دونها، مع أنفسهم، ومع من يلون أمرهم، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم، وقالوا للمسيء أسأت، وللمحسن أحسنت، لعرف كل متصرف انه سينظر الى نفسه في مرايا الآخرين، ومتى عرف ذلك، أخذ حذره، واستعمل نفسه في سبيل الحق. وذهاب ريح الأمة يكمن في المداراة، والمجاملات، والتردد في المواجهات، والاشتغال في الأوهام. فكل زعيم فرضت زعامته شرعيةُ حكمه ومشروعية فعله، ومتزعمٍ انتزع الزعامة بالحديد والنار، يلتقيان على قدم المساواة، في اللقاءات، والمؤتمرات، وعلى ضوء «البروتوكولات» وقد يكون المتسلط أقوى صوتاً وأكثر هيبة واحتراما. وسنظل في خبال متى جاملنا أعداء الأمة من أبنائها، وحملنا العقلاء جرائر السفهاء، وأتحنا لمقترفي الجرائر مخادعتنا، يخطئون فنبرر، ويجرحون فنضمد، ويهدمون فنبني، ويكذبون فنصدق. ولن أطوف في مزبلة التاريخ الحديث، لآتي بالبراهين، فالواقع كالشمس في ضحاها، لا يحتاج الى دليل، وعلى المرتاب أن ينظر الى الحروب الاقليمية المجانية، التي أتت على الحرث والنسل، وامتدت لسنوات طوال، مخلفة ملايين القتلى وملايين المعوقين، ومدمرة البنية التحتية،ومعطلة مشاريع التنمية، ولو أن الآثار السلبية وقفت حيث المقترف لهان الأمر، ولكن الأمة العربية كالمستهمين على السفينة الواحدة، متى خرقها السفهاء، ثم لم يؤخذ على أيديهم غرقوا جميعاً. والشارع العربي مسكون بالوهم والغفلة، ولهذا تراه يتدفق كالطوفان ضد القرارات الجماعية، مجسداً الشيء ونقيضه، واقعاً في أتون الفتن، ولينظر المترددون الى قادة يسومون شعوبهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم، ويشردون كفاءاتهم، في سبيل لعب كونية خاضوها بكل مقدرات أمتهم، خلفت الذل والهوان، ولينظروا الى الاقتصاد وانهياراته، والى العملات وسقوطها، والى السكان ومصائرهم، بين المقابر والمشافي والسجون والمنافي، والى الأدمغة وهجرتها، والى الأموال وتهجيرها، ثم لينظروا الى التناحر الطائفي والقبلي، والى الخيفة التي يستنبطها كل من عنده أدنى احساس، واهتياج الشارع العربي يشرعن للتخلف والوهم. وكارثة الكوارث تكمن في نخب ثقافية وفكرية واعلامية تسبق العامة في الشرعنة للتخلف، وتمضي مع الأوهام، وتتاجر بمقدراتها في سوق النخاسة، تتخلل بألسنتها كما البقر، تزكي الخونة، وتساند الظلمة، وتزيف الوعي، وتشق عصا الطاعة، وتفرق وحدة الكلمة، وتفكك الجبهات الداخلية، وتستبق الأضواء، وتنتهز الفرص. والمتابع الحصيف يستبين ذلك، دونما عناء.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:37 PM | #184 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تفكيك الوهم ووهم التفكيك: الخطاب الثوري أنموذجاً..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومما نتفق عليه ما ينتاب الأمة من الضعف، والوهن، والهوان، والإغراق في الوهم والتوهيم، وتفرق الكلمة، وتنوع الانتماء، وتعارض المصالح، وتعدد الأحلاف، واستفحال التخاذل. وحالة موجعة كتلك، تتطلب منا ألا نيأس، وألا نقنط من رحمة الله، وألا نمارس الإحباط، وجلد الذات، ولن يتحقق الإيمان الصحيح الصريح إلا بالخوف والرجاء، والأخذ بالأسباب، وعدم الركون إليها، فالتوكل المشروع يتطلب استكمال متطلبات المواجهة. ومصدر الوهن والهوان التباس (التوكل) ب(الاتكال)، فالاتكاليون يميتون إسلامهم، بانتظار الملائكة المردفين، والمتوكلون حقاً يُعِدون ما استطاعوا من قوة، ثم يستمدون النصر والتثبيت من الله (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى). وما أكثر الناس ولو حرصت بقادرين على التخلص من النقائض والتكتم عليها. والشفافية وتشخيص الأدواء حين يروضان على الاستكانة، واستمراء الضعف، والاكتفاء بالإسقاط والتلاوم، ثم لا يحملان على إعادة النظر في المناهج والآليات المستخدمة في قراءة الواقع وتفكيكه، والوصول إلى أدق تفاصيله، يكون التكتم خيراً منهما، فالأصل فيهما تحفيز المعنيين على جس النبض، وسبر الأغوار، والوقوف على مكامن الداء، دونما محاباة أو مجاراة. فالداء العضال لا يحسمه كتمانه:- (واحتمال الأذى ورؤية جانيه... غذاء تضوى به الأجسام). وسوف أضرب صفحاً عن تقصي الشواهد، لأنها مطروحة في الطريق، يتعثر بها الناس، ويتجرعون مرارتها، دونما استساغة:- (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدواً له ما من صداقته بد). وليس هناك ما يمنع من استدعاء بعض الظواهر المفشلة كلعبة المفاضلة) بين مشروع ومشروع و(مأزق التصدير) لتلك المشاريع، والرهان على الأشخاص على حساب القضايا، مما هو ديدن الإعلام المضلل، و(المفاضلة) و(التصدير) و(التصنيم) من لوازم العالم الثالث، المصاب بداء الشرعنة لكل فعل، قصرت أخادعه من العملقة الحضارية. وقد أومأ أحد المسكونين بوباء الانهزام عن (شرعنة الفوات الحضاري). وكل مشروع سياسي أو ثقافي أو فكري يقدمه الإعلام المزيف للوعي، ثم لا يكون الرأي العام حفياً به، يرد بالمثمنات موارد الهلكة، وبئس الورد المورود، وقد يتعثر المشروع بظروفه المحيطة، بحيث لا يكون سيئاً بذاته، إذ ربما يكون مثالياً، ولكنه فوق الطاقة، بحيث يفقد صواب التوقيت والتقدير. وقد يطلقه الماكرون، ويتلقفه المغفلون. وكم تمر بنا مشاريع سلفية ناصعة، أو قومية جادة، أو وطنية صادقة، ويكون من ورائها صهاينة بالأصالة، أو متصهينون بالمواطأة، لا يريدون من الدعم والتمويل إلا الإيضاع في الفتنة، واجتثاث ما تجذر من المشاريع، واستمرأها الناس، ولقد فعلها المنافقون من قبل، حين بنوا مسجد الضرار، ليزاحموا به أول مسجد أسس على التقوى. والذين يتقحمون المشاهد برؤية فاضلة أو مفضولة، ثم لا يتحقق شيء مما يريدون إلا بتفرق الكلمة، والتخلي عما عليه الجماعة، في زمن الغثائية وتداعي الأكلة، إنما هو جزء من الفتن، وكيف لا، والرسول قد استعدى الأمة على من يأتيها وأمرها جميع، وهو قد أخذ بالمفضول في إعادة قواعد البيت، احتراماً للرأي العام. والمتابع للغط المتعالمين وفيوض الإعلام يفزعه الطرح المحتدم والمثير والمبتسر في آن، مما ينذر بشر مستطير، وكم من مبادئ لا يتسرب إليها الشك، تتعثر بعامل المفارقة بين المثالية والواقع. ومثلما تسبق المبادئ زمنها، يسبق النوادر من الرجال زمنهم، بحيث يولدون في غير وقتهم، والمعذبون في الأرض أمام هذه المتناقضات هم العقلاء الذين يشقون في النعيم. والإشكالية التي أدت إلى ارتكاس عالمنا في الفتنة، ولم يفكر أولو الأمر في التخلص منها تعدد المشاريع، ومراكز القوى، ونزع الثقة من المرجعية الدينية، وفهم الحرية والحقوق على غير وجهها، والجدل العقيم حول مشروعية كل رأي وأهليته، والإيغال في تمجيد ذويها أو تجريمهم، حتى لكأنهم ملائكة أطهار أو مردة أشرار. والتحبس في ثنائية: الشيطنة أو الملائكية، والضلوع المدان في عملية التصدير للمبادئ والأحزاب عبر ترسانة البلاغة، أو ترسانة السلاح، فوت على الأمة فرصاً كثيرة، واستنزف كل طاقاتها. ولما نزل في مُنْخَنق الانفعال والافتعال، حبيسة اللحظة المعاشة، بحيث لا تستعيد الماضي، ولا تستشرف المستقبل. وما الحرب الحدودية والأهلية: ساخنة أو باردة إلا ترجمة فعلية لهلوسة المفاضلة والتصنيم والتصدير. وكم تكرر في القاموس السياسي الحديث مصطلح (تصدير الثورة)، الأمر الذي زج بالدول العربية في حروب طاحنة، وزرع الريبة في الصدور، وأغرى الأعداء باختراق الأجواء، والدخول بين الأخ وأخيه. ولكي تكون الأجواء ملائمة لخطيئة التصدير، كان لابد من التورط في جدلية المفاضلة. وهكذا تدخل النخب: مخدوعة أو مأجورة في هذه اللعبة الأكثر عقماً والأقل عمقاً. وتتخطى ذلك العقم والتسطح إلى التصنيم للقائد الملهم، لتقترب به من الطهر الملائكي، والعصمة النبوية، ليفعل ما يشاء، وكأنه من (البدريين)، مع توهيمه بإمكانية تصدير النظرية، عبر آلية الترغيب أو الترهيب، مما يحمله من تبذير مقدرات الأمة، وإشعال الفتن، وإلجاء الضعفاء المكتوين بنار التعدي إلى ارتكاب المحاذير، وذلك بجر الأساطيل التي تمخر العباب، وتجوب السحاب، وتثير النقع، معيدة الوجه الكالح للاستعمار البغيض، وإذ يقترف البعض خطيئة التعدي المدان بكل المقاييس، يبادر البعض الآخر منفرداً باتخاذ قرار قومي مصيري، يفاجئ به الأمة، ويثير به الرأي العام، ويصدع الوفاق العربي والإسلامي والاقليمي، ثم يجد من يسانده: عربياً وإسلامياً وعالمياً، فيما يحمل البقية على الإذعان المكره، أو الرفض الأعزل، متيحاً الفرصة للأعداء المتربصين، ليجتالوه، ويقاضوا خصومهم من خلاله. وما أكثر اللاعبين الأغبياء لحساب غيرهم. وأياً ما كان الأمر، فإن القاموس السياسي يفيض بهذه المفاجآت التي تربك الصف العربي. واتخاذ قرار الحرب، أو التسوية مع العدو، أو استقدام القوى الأجنبية أو الخروج على الشرعية، إن هي إلا قرارات مصيرية، لا يجوز اتخاذها دون إجماع عربي، ولا سيما إذا تم الاستقدام من دولة صغيرة، ليست لها قضية، وليست بحاجة إلى مال أو حليف، وليس لها حدود ساخنة. ذلك أن أثر الوجود الأجنبي سيطال المقيم والظاعن. ولأن الأمة واقعة تحت طائلة المغامرات فإنها أحوج ما تكون إلى الناصحين، الذين يجنبونها الفتن، ويواجهونها بالحقائق، ويصدقونها القول. والأمة العربية منذ ثورة حسني الزعيم عام 1949م، وهي في نكث للعهود، وطعن في الدين، وتثاقل في الأرض، إلا من رحم ربك، وفي هذا العراك لا تسمع إلا دوي الكلمات الجوفاء، وهمس المجاملات، وسك المشاريع التي يقوم بعضها على أنقاض بعض: حرية، اشتراكية، قومية، علمانية، حداثة، ديموقراطية، وحْدوِيَّة، شَعْبَويَّة. ومن ورائها (ثورة) و(زعيم)، يحفهما إعلام يكيل التهم لحفنة توارت بالحجاب، من الخارجين الخونة، الذين باعوا وطنهم، وكانوا من قبل ملء السمع والبصر، ويبشر بطلائع قادمة من المنقذين، الذين استردوا وطنهم ممن باعوه بثمن بخس، فكأنهم {فٌتًيّةِ آمّنٍوا بٌرّبٌَهٌمً}، وما هم في الحقيقة إلا لصوص سرقوا شعباً بكامله، فقفَّصوه، وسرحوا في فضاءات أرضه. ولما تزل الأمة منغمسة في أتون الفتن إلى الأذقان، مغلوبة على أمرها، مغيبة في المغانم، شاهدة في المغارم. وإذا لم تُدِنْ الأمة نفسها، وتواجه أخطاءها، وتقبل مرارة الحقيقة، ستظل كما هي لا عزٌّ ولا ظفر، والوضع القائم لا يقبل المزيد من النكبات، ولا يمكن احتماله، الأمر الذي يحتم مواجهة الحقيقة العلقمية بشجاعة وثقة، للخروج من وهدة الاحتقار، والخلوص من استخفاف الأقوياء، وتفكيرهم بالوصاية علينا، حتى لا يجدوا حرجاً في أنفسهم من التدخل العسكري، بدعوى تَخليص الأمة من ظلم أبنائها، وانتزاع المسؤولية من أيد لا تحسن النهوض بها، واقتسام الغنائم، وأصحاب الشأن صامتون أو مواطئون. وإذا كان الشرقيون والغربيون يتفانون في تصدير نظرياتهم، وحضاراتهم، وقومياتهم، وتعميم ثقافاتهم، ولغاتهم، ومدنياتهم، والعمل على هيمنتها، فإنهم جميعاً يدعمون مشاريعهم الديموقراطية، والعدل، والإحسان، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وتداول السلطة، واحترام الدساتير، والقوانين، والأنظمة، وتفعيل المجالس التشريعية، وتمكين شعوبهم من ممارسة حقهم، والتوفر على ما يكفل لهم الحياة الكريمة: صناعياً، وزراعياً، وسياسياً، وفكرياً، وعسكرياً. ثم إن مشاريعهم تأتي انبثاقية صنعوها بأيديهم، واتخذوها بطوعهم واختيارهم، وفصَّلوها على قدر أجسامهم، ووفق حاجتهم، وفي إطار إمكانياتهم. ولم يكن شيء منها مصادم لما استقر في أذهانهم. ومشاريع العالم النامي المتورط في لعبة المفاضلة والتصدير والتصنيم طارئة مجلوبة، لا تمت إلى واقع الأمة بصلة، ولا تستجيب لحاجاتها، ولا تلائم ما جبلوا عليه من عقائد وعادات وتقاليد. للعامة دينهم، وللقادة دينهم، وكل القضايا المصيرية تقضي بليل، وما يقال عبر قنوات الإعلام حبر على ورق، وكم هو الفرق بين مبدأ تمهد له النخبة، وتؤمن به الكافة، وينهض بأعبائه المسؤول، ومبدأ تكفر به العامة، وتتملق به النخبة، وتفرضه السلطة بالقوة. والذاكرة المعطوبة تنسي الأمة ما سلف من ويلات، وتحملها على ملاحقة الكذبة الجديدة، والخنوع للمفترين الذين يخدرونها بالشعارات الزائفة، والدعاوى الكاذبة. ومتى انكشف أمرهم، ألهبوا الحدود، وافتعلوا الخلاف مع الجار، ليتمكنوا من إخراس الألسنة، وإطلاق صوت المدافع وأزيز الرصاص، سعياً وراء شغل الرأي العام، وإخضاع البلاد لحالة الطوارئ، بحيث لا يتكلم إلا رجل السلطة. وإذا أراد الله بقوم سوءاً، أمَّر عليهم أراذلهم، ووضع مصائرهم بأيد آثمة، خائفة مخيفة، ليس لها عمق تاريخي، ولا رصيد وطني، وتلك مؤشرات فتن عمياء، تجعل كل شيء أتت عليه كالرميم، وتشرعن للأقوياء المتغطرسين التدخل في الشؤون الخاصة، وتقديم الحل العسكري على المواجهة (الدبلوماسية) مما لا يطال الضالعين في الخطيئة وحدهم، وإنما يمتد إلى من عرفوا قدر أنفسهم، وقدروا الأمور، وتحاموا الفتن. وعلينا أن ننظر إلى الحمم التي تمطر أرض الرافدين، إنها تهدم البيوت، وتمزق الأشلاء، وتسلب الحرية، وتحقق التخلف، وعصابة الحزب الحاكم في أعماق الأرض مختبئون، لا تراهم إلا حيث تكون شتيمة أو غنيمة، وهم قد خرجوا بجلودهم من حربين عنيفتين مجانيتين، أهلكتا الأمة، ولم تحققا أي مكتسب، لا على المستوى الاقليمي ولا العربي ولا الإسلامي، ولم يكن لها أي مبرر، ولما تزل عصابات الشر من أبناء الجلدة في انتظار ما يأتي من ويلات، والشارع العربي تتدفق هتافاته لحساب اللحظة الضاغطة، مستدبراً قضايا مهمة في الوطن العربي، ومغمضاً عمن قتل الكرامة، وأشعل الفتن، وجلب الويلات، وفرق الكلمة، وجر الأساطيل إلى المنطقة، وشرعن التدخل العسكري. والمؤلم ان المستقبل امتداد للحاضر، وليست هناك بوارق أمل، للخروج من ضوائق المرحلة الحرجة، فالأمة تعيش حالة من الانفعال والوهم والاحتقان. وإذ يعيش الخليج أزمات الحروب الثلاثة التي أتت على كل المقدرات، ومهدت الطريق لوجود عسكري خارجي بغيض، لم تشهد له مثيل من قبل، شرعنت له نزوات مجنونة، والجأ إليه الخوف من مغامرة عسكرية غير محسوبة، فإننا لم نسمع كلمة صادقة حاسمة، تحدد المسؤولية، وتحاسب الضالعين في الخطيئات، وترسم طريق الخلاص، وتمكن الأمة من مواجهة الأحداث، وتحمل المسؤولية، وامتلاك شرعية التدخل في اللحظات الحرجة، وتفعيل المؤسسات العربية لممارسة حقها، والحيلولة دون وصاية الأجنبي. ومع وضوح الحقائق فإن الناس منشقون على أنفسهم. إننا لكي نخرج من دوامة اليأس والإحباط والوهم، يجب علينا استحضار السياقات، وربط الأسباب بالمسببات، وتقصي ما سلف من الخطيئات، ومعرفة من تآمر على الأمة، ومن زرع الأحقاد، وإن لم نفعل، أنجينا الذين ظلموا، وأخذنا الأبرياء بعذاب بئيس. والمؤلم أننا كلما صنعنا عذاباتنا بأيدينا، رفعناها إلى السماء ملطخة بوحل الخطايا لنقول:- يا رب يا رب، نسب الذين كفروا، ليمعنوا في النكاية، وسب الله عدواً بغير علم. وكيف يستجاب لنا، ونحن متلبسون بالمخالفات في مشاربنا ومطاعمنا وسائر تصرفاتنا. لقد بلغ السيل الزبى، وتداعت الأمة على مثمنات الأمة، وسيق الأبرياء والضعفاء إلى بؤر الفتن، وما من رجل رشيد يبين للأمة وجه الصواب، ويأخذ بيدها، ويقيل عثرتها، ولن تقال عثرة الأمة بالتنافي، ولا بتعدد (الأيديولوجيات) الأمة أمة (عربية مسلمة)، وإذا لم تلتف حولها عروبتها وإسلامها، تفرقت شيعاً وأحزاباً، كما تفرقت قطعاً متجاورة متناحرة، وليس أضر على الأمة من التقاء المسلميْن بسيفيهما، ولن يلتقيا حتى يستفحل التقاؤهما بلسانيهما. وإذا لم تتوفر الأمة على (العروبة والإسلام)، فلا أقل من أن تتعاذر، ويرتد كل إقليم إلى الداخل، لإصلاح نفسه، وتفعيل مؤسساته، والخضوع لقوانينه ودساتيره وأنظمته التي تلقاها من السماء، أو خطها بيمينه. لقد أجهش المسلمون بالبكاء متضرعين إلى ربهم، مستعدينه على الأعداء الظاهرين، ولكن أحداً منهم لم يتجه إلى الأمة، ليحملها على تغيير ما في نفسها، ويضعها أمام مقترفاتها، ويدعوها إلى العودة إلى بارئها، وتحكيم شرعه، وتنفيذ أمره بالعدل والإحسان وإعداد القوة، ويواجهها بمفاهيمها التي صيرتها لقمة سائغة لأعدائها المتربصين بها الدوائر، ويحملها على أن (تعقل وتتكل)، لقد مرت بنا مقترفات نراها رأي العين، ونعرف المقترفين بأسمائهم، والتغاضي عنها مهد لما هو حاصل. ومع ذلك نظل أبناء لحظتنا، لا نفكر بالطابور الخامس الذي صيرنا إلى ما نحن فيه، من جهل وضعف وخوف. فأين نحن من مكائد الاستعمار، وبطش الجبارين، ومواطأة الأقربين. وفي ظل الظروف العصيبة لابد من تفكيك التاريخ الحديث، لنصل إلى مفاصل المشاكل، ونحسمها أولاً بأول، نصفي الحسابات، ونميت القضايا، بعد إدراك أدق تفاصيلها، لنعرف أن محاور الشر الحقيقي ليست وحدها دول لتحالف .
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:39 PM | #185 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ: فهل من متعظ؟ «1/2»
د/ حسن بن فهد الهويمل جئت إلى القاعة متأخراً، ولم أجد الوقت الكافي لانتظار المصاعد، فمشيتها خطوات عجلى، قفزت بها الدرج مسرعاً، وما أخذت مكاني على المنصة، حتى أحسست بتفصد العرق، وانتابني لهاث متلاحق، فطفقت أخصف ورق المناشف، لأجفف الأصداغ والحواجب، وتلمضت بلساني لأرطب الشفاه التي جمدت على الكمد، وكنت يومها حديث عهد بقراءة أعمال المؤتمر الدولي الأول للحضارات المعاصرة «العولمة وحوار الحضارات: صياغة عالم جديد» المنعقد في القاهرة، الذي كانت لي فرصة المشاركة في فعالياته، وطبع بحثي ضمن أعماله. ومثل هذه المؤتمرات تفتح بصيص الأمل لحوار هادئ، يجنب العالم ويلات الحروب الشرسة. والطلبة الاستشرافيون يعودون من مراكز المعلومات، وفيوض القنوات، متخمين بالقول ونقيضه، في مختلف المعارف والقضايا، ثم لا يجدون بداً من ان ينكوا الجراح، ويحزوا اللحم إلى العظم، لأنهم في زمن التشكك الذهني، وقدرهم انهم جاؤوا في الوقت الذي تتناسل فيه الفتن كقطع الليل المظلم، ولهذا تراهم كلما ادلهمت الأمور، واستحكمت الشدائد، أمطروا أستاذهم بوابل من التساؤلات، وكأن الخوض فيها يسكن الأوجاع، ويخفف الصداع، وفي ظل ما أعانيه من انهاك نفسي وجسمي كنت أطمع في أسئلة في المنهج، أو أسئلة عما قرأت وسمعت في ذلك المؤتمر الذي جاء على قدر، ليجمع الأشتات عبر القواسم المشتركة، ولكن أصداءه العذاب تلاشت تحت أزيز الطائرات ودوي المدافع، لقد اجهضت تطلعاته مغامرات دامية، صدمت المتفائلين بحوار حضاري، وعولمة متزنة متوازنة، ليس فيها تعسف ولا إكراه، ولم يكن في حسابي ان تكون الأسئلة حول المصائب الجسام التي تصب جام غضبها على عالمنا العربي المرتكس في الفتنة إلى الأذقان، يتقلب في أمواجها منذ فجر التاريخ الحديث، دون ان تلتقمه الحيتان ليريح ويستريح، أو تنبذه في العراء سقيماً أو صحيحاً، لينظر العقلاء في أمره. لقد أوجست خيفة من قصف الأسئلة التي تعتورني عبر عشرات القصاصات، لتصل تباعاً متنقلة من طالب لآخر، وكلها تستجلي الوضع المتردي، متناسية «نظرية الضرورة» واحتمال الأذى عند العجز عن رده، ولما ان تكدست بين يدي، لم أجد بداً من فرزها إلى مجاميع، ولما ان استعرضتها على عجل ووجل، وجدتها تدور حول ثلاثة محاور: 1 ما المبرر لحروب خليجية ثلاث؟ 2 هل من موقف عربي موحد إزاء القضايا المصيرية؟ 3 وهل يضع الغرب وزناً للموقف العربي، عندما يقضي أمراً يعنيهم؟ لقد حوصرت بمرارة الحقيقة، وخطورة المصداقية، وتمنيت لو أوتيت حنجرة «أحمد سعيد» وتمثيل «سعيد الصحاف» وقلة حياء الساسة، لأهرف بما أعرف، وأمام هذا الحصار لم يكن بد من خيارات ثلاثة: فإما ان أتعمد اللغة «الدبلوماسية» المراوغة، وأحفظ ماء الوجه، إن كان ثمة بقية من حياء عند من يتعاطى السياسة، وإما ان أصدقهم القول، وأكشف عن الواقع المرير، وإما ان اعتذر عن الإجابة، ونصف العلم «لا أدري» ومن قالها فقد أفتى. والإجابة الصحيحة الدقيقة آتية لا ريب فيها، على حد: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود». ولم يطل ترددي، ومن ثم أطلقتها كحشرجة المحتضر: «لا مبرر» و«لا موقف» و«لا وزن». وهي «لا ءات» ثلاث، أطلقها من قبل المؤتمرون في السودان، بعد النكسة الموجعة، ولكنها صارت هباء، وصارت سدى، بمغامرة «الكامب ديفيد» التي جرَّت أقداماً كثيرة، وأعطت تنازلات أكثر، وتمخضت عن أوضاع ومصطلحات سياسية، ما كان اليهود يحلمون بأيسرها، وما أكثر المغامرات والمغامرين والمقامرين بمقدرات الشعوب. وما أن لملمت أشلائي المبعثرة، وروضت مشاعري الدامية، وحاولت إبداء تجلدي للشامتين، لأريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع، حتى بدهني شقي آخر، انبعث صوته من مؤخرة القاعة: وهل من تحرف صادق لإيقاف التدهور، ومعالجة الانكسارات؟ وبخاصة بعد السقوط «الدرامي» الذي جاء متأخراً، لكي يتمكن التحالف من تدمير ما لم تدمره عصابة الشر، وجاء الجواب كسوابقه، وعاج الشقي يسألني: إلى متى؟ ولماذا؟ وكيف؟.. إننا بحاجة أن نعرف: هل من الممكن ان يبدأ العرب الخطوة الأولى في طريق العودة إلى جادة الصواب، كي يعيدوا ثقتهم بأنفسهم، وتفعيل جامعتهم، وتوحيد كلمتهم. وساعتها لم يكن بد من الدخول في التفاصيل، فليس من مصلحة الناشئة العربية ان يتركوا في جهلهم يعمهون، والسؤال الملح عن الحروب الخليجية المتواصلة من أشعلها؟ ولمصلحة من أشعلت؟ وما خسائر الأمة: المادية والبشرية والمعنوية؟ ومن الخاسر فيها؟ ومن الرابح؟ أسئلة مشروعة، وواجبة الإجابة. ولو اننا وقفنا عند كل حدث، وساءلنا كل قضية، وحاسبنا كل مقترف، واعترفنا أمام الناشئة بالحقائق العلقمية، لما آلت مصائر الأمة إلى الدرك الأسفل من الضعة، ولما حفزناهم على البحث عن مجيب، يشكل وعيهم على عينه، ليجعل منهم عدوا وحزنا. إنهم يعيشون حالة من اليأس والإحباط والفراغ والاحتقان، وقابلية الانفجار، وهذا التوتر يغري شياطين الإنس باجتياهم واحتناكهم، ولن يتوقع أحد سلامة الذهنيات في زمن العجائب والغرائب والمفاجآت. حروب الخليج التي دمرت كل شيء أتت عليه، وألهت المخلصين عن كل فعل إيجابي. إما: أن تكون بالإنابة، بحيث يكون المحارب لاعباً غبياً لتأديب خصم لدود، وضع يده على ترسانة عسكرية، تهدد المنطقة. وإما: أن تكون نزوة مجنونة من نزوات الثوريين الدمويين، وفق حسابات وتقديرات خاطئة، شرعنت للأقوياء المهتبلين لأي فرصة سانحة، لينهضوا بمهمة التأديب بثمن باهظ وإما ان تكون تطلعاً إلى صياغة جديدة للعالم من خلال إعادة تشكيله، واحتوائه، والسيطرة على مؤسساته ومقدراته، بحيث يكون التابع الذي ينتج قدر الطاقة، ويأخذ دون الحاجة. وهذه الحروب الذكية بقدر ذكاء القذائف خططت لها مؤسسات لا تخاف الله، ولا ترحم عباده، وليس لها من هدف إلا الانتهاك والإذلال، وكلها مصائب تصب حممها على الأبرياء. ولا شك ان ما تتعرض له بلاد المسلمين: يكون ابتلاءً، أو يكون عقوبة. فالابتلاء يتطلب الصبر والمرابطة والتقوى. وأما العقوبة، فلا تكون إلا بسبب المخالفة لأمر الله، وهي تتطلب مراجعة النفس، والفرار إلى الله، وإعادة النظر فيما اقترفته الأمة من مظالم، فلقد يُسرت المصائب، بحيث يراها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولم يبق إلا أن نكون مدكرين، ولكن هل من مدكر؟ والعقوبة والابتلاء متوقعان، فالمصائب مما كسبت أيدي الناس، والابتلاء تحقيقاً لقوله تعالى: {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ} و{وّحّسٌبٍوا أّلاَّ تّكٍونّ فٌتًنّةِ}. والعقلاء المتمرسون لا يزكون أنفسهم، وإنما يعترفون بتقصيرهم، ويدينون أنفسهم قبل أن يدانوا، وحين منيت الجيوش الإسلامية بنكسات غير موجعة، عرف قادتهم ان ما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم، ولهذا بادروا إلى التوبة النصوح. وما الحروب الخليجية المتعاقبة إلا ابتلاء أو عقوبة، وكان متوقعاً أن تكون آيات ونذر مغنية لمن يعقل. وثالثة الأثافي كسلفها من حروب، أديت بالأصالة أو بالإنابة، وإن تعددت الأسباب وتنوعت الدوافع، وأمريكا التي تولت كبرها، وكانت وراء كل اللعب الكونية، لم تجد بداً هذه المرة من ممارسة التصفية بنفسها، وبسلاحها الفتاك، وعلى مسمع ومرأى من العالم، ضاربة بالشرعية عرض الحائط، متحدية أصدقاءها وشركاءها. ولما كانت شرذمة الحكم العراقي ضالعة في اللعب المميتة، متقنة لكل الأدوار القذرة، كان الدعم والتأييد ينهال عليها من كل جانب، وحين أنهت أدوارها، كان لابد من خلع أنيابها، وقمع انتفاخها، وحين تأبت، لم تتردد أمريكا في شطبها من الوجود، لتنهي دور اللاعبين الذين استهلكوا كل أقنعتهم. ولقد صدق مندوب النظام، وهو كذوب، حين قال «انتهت اللعبة». ولن تتخلص الأمة العربية من المكائد إلا بقراءة الأحداث كما هي، ووضع كل مقترف أمام مسؤوليته، ومعرفة العدو من الصديق، والتعامل مع الآخر وفق الإمكانيات، وعلى ضوء خيارات متعددة، ليس من أولوياتها الصدام، ولن يتأتى ذلك إلا حين تحترم الدول المصداقية، وتتحامى تعريض نفسها للذل والضياع، وبخاصة في زمن الاستكبار والغطرسة، وضرب الشرعية العالمية، والتدخل السافر من دولة يتوقع منها حماية العدل والحرية يشي بأن العالم مقبل على انهيارات تطال الشرعية والأخلاقية والمصداقية. واستياء الناس من أمريكا، ليس لأنها فعلت فعلتها النكراء لقتل شعب آمن، ولكن لأنها الحامي الذي تحول إلى مغامر يلعب بالنار، ويستن سنة سيئة لم يسبق إليها. ومع الاستياء العالمي لتخطيات أمريكا، نجد من يتحدث عن الوجه المشرق لها، ونقرأ لمن يتفاءل بدخولها الحرب التطوعية أو التأديبية مردداً: «رب ضارة نافعة» مستدعياً {وّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا..}، ومع ان من حق كل إنسان ان يعبر عن وجهة نظره، إلا ان هناك قطعيات ثبوتية ودلالية، تشكل خطوطاً حمراء، لا يستساغ تجاوزها. فالبعض يأخذه التفاؤل، كما تأخذ المسترخي المتعب سنةُ النوم، ثم يغرق في الأحلام. والمتفائلون يحيلون إلى الآثار الإيجابية التي أعقبت دخول أمريكا حروباً طاحنة ضد بعض الدول مثل «اليابان» و«كوريا» و«ألمانيا» وطرحها بعد الانتصار مشاريع اقتصادية وصناعية وتجارية، واعطائها قروضا مخفضة، وفات هؤلاء وأولئك انه لا تجود المقارنة مع الفارق، فأمريكا لها تجاوزات لا يمكن احتمالها. الأولى: الوجود الصهيوني المتوحش المدعوم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من أمريكا. والثانية: الموقف المعلن من الحضارة الإسلامية، بوصفها المعادل الأقوى لحضارة الغرب. والثالثة: إلصاق الإرهاب بالإسلام، ومواجهته وفق مفهومه الغربي بكل قسوة وعنف. ويأتي على أعقاب المتفائلين والملتمسين لإشراقات الوجه الأمريكي من أخذتهم الخيفة من دعوى «حقوق الإنسان»، الأمر الذي حفزهم على التفكير الجاد للمسايرة بتعديل الأنظمة، أو التخفيف من القوة في الحق، وحسبوا أن يساءلوا عن سجين لم يبادروا في محاكمته، أو عند معتد أثيم لم تتح له فرصة المغالطة والبحث عن قوة الحجاج، لينجوا من العدالة متحرفاً لاعتداء آخر. ومع التباكي فوجئ العالم بأن هذه الدعوى لا تبلغ تراقي الدعاة. وكيف يصدقون، وهم يلقون حممهم على المنكوبين من حكامهم، فيما يختبئ الحكام في سراديبهم، ويتهيئون للفرار للعيش المترف بالأموال التي سرقوها، تاركين أمتهم رهن الضياع والخوف والفقر. وكيف ينهض الظلمة بالمطالبة بالحقوق، وهم قد انتزعوها بالقوة من أفواه الجياع وجيوب المعسرين، والفجوة السحيقة بين الدعوى والممارسة،
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:40 PM | #186 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
إن إلى ربك الرجعى..!
د. حسن بن فهد الهويمل لست أدري لماذا أصبح الموت في نظري سفراً قاصداً. يقال لي: مات فلان. ويقال: سافر فلان. فكأن وقع القولين واحد لا يثير. الموت آت كالساعة لا ريب فيها، ومن فرَّ منه، لاقاه، ولم يلحق به، وكل نفس ذائقة الموت، والذوق أمكن من الرؤية أو اللمس، والطامة أن تزهق الأرواح، وهي غارقة في الخطيئات. والسعيد السعيد من مات موحداً لله، مطيعاً لرسوله، ساعياً في حاجات عياله، مخالقاً الناس بخلق حسن. وعندما نسمع بالسفر الأبدي، نتألم ساعة من نهار، ثم يأتي «الأمل» و«النسيان»، ليعيدا المفجوعين الى الحياة الطبيعية. ينسيان الأم وحيدها، والابن البار والديه، والحبيب حبيبه. ولهذا قيل: أحبب وأبغض هوناً ما، فإنك مفارق. وعند فراق الأحبة، يحزن القلب، وتدمع العين، ولا يقول المؤمن الصابر المحتسب إلا ما يرضي الله. وتلك نعمة يمن الله بها على الصالحين من عباده، ومثلما نستقبل الولادات بالتهاني، نودع الوفيات بالتعازي. وهكذا الدنيا نزول وارتحال. وحين قضى الأمير «ماجد بن عبدالعزيز» نحبه، ولم ينتظر، مس الجميع ألم الفراق، وتجلت محبتهم له عبر مظاهر العزاء والتأبين والتفجع، ومن خلال شهادة الخاصة والعامة بما علموه عنه ومنه، ومن دماثة خلق، وسماحة نفس، ورحابة صدر، وسعي في حاجات الناس، وتبسط معهم، وتودد اليهم. وما تناقله الكتبة والمتحدثون، وأفاضوا به، يجعل المتابع أمام شخصية استثنائية واجماع الناس على حبه مؤشر زكاء وذكاء. وقدري أنني لم أكن قريباً منه، مقتدياً أو منتفعاً، ولا مخالطاً له، بل كانت صلتي به عرضية، يكون راعياً لحفل، ثم يكون لي شرف الحضور، ويتدافع المحتفون به للسلام عليه، فأكون واحداً منهم. ويتحدث الى المحتفلين أو المؤتمرين، فأستمع اليه، وهو يتحدث، وأستمع الى الذين يتحدثون عنه، ممن لهم أكثر من مدخل عليه، فيكون حديثه حديث البشوش المتودد، الساعي في حاجة الأرملة والمسكين، ويكون حديث الناس عنه حديث المحب المعجب المرتهن لاحسانه، ومن وجد الاحسان قيداً تقيدا. وعرفت فيما بعد نجله الأمير عبدالعزيز بن ماجد حين شرفت القصيم به نائباً لأميرها المتألق. وحين خبرت الرجل، تبين لي أنه سليل بيت كريم، لما يتمتع به من خصال حميدة، كسبته القصيم، ليكون عضداً لأميرها الممتلىء بالمسؤوليات الجسام. وكلما لقيته تذكرت مقولة لشاعر: «ومن يشابه أبه فما ظلم» ومنذ أن عرفت الابن، عرفت الأب، ولم يخب توقعي، فلقد جاءت كلمات التأبين التي فاضت بها الصحف مليئة بالثناء والدعاء، ولم يقتصر الثناء ولا الدعاء على الذين احتكوا بالفقيد بوصفه وزيراً أو بوصفه أميراً لأقدس بقعة في الأرض، بل تجاوز ذلك الى كل الذين كانت لهم حاجات في مواقع مسؤوليته، وكل الذين خالطوا خلطاءه، كانت النفوس مفعمة بالحب والتقدير، وما إن ترجل من المسؤوليات، وفرغ للاستجمام والعبادة، ثم بارح الفانية بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، نضحت الأواني بما فيها. ولقد صدق من قال:«موعدكم يوم الجنائز» و«الناس شهود الله في أرضه» لقد أوجب الله ثناء خلقه، وقبل دعاءهم، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عند الثناء والذم: وجبت. والذين تدافعوا للثناء والدعاء لا يرجون العاجلة، وليس لأحد سلطان عليهم، لقد قالوا ما قالوا بمحض إرادتهم، والله أكرم من خلقه، فإذا هب الناس بالثناء والدعاء، وذلك كرم منهم، فإن الله أكرم منهم في المغفرة. لقد لقيت شقيقه الأمير سطام وولديه مشعلاً وعبدالعزيز في ساعة العسرة، والأمير المحبوب يغالب سكرات الموت، فكانوا مثال الصبر والاحتساب، يسترجعون، ويحتسبون، ولا يقولون إلا ما يرضي الله.ثم لقيتهم، ومعهم الأمير فيصل بن بندر الوفي دائما معزياً ومواسياً، فكانوا أمتن صبراً وأكثر احتساباً. والله الذي وعد الصابرين بالصلوات والرحمات والهداية أوفى بوعده، ومن أوفى بعهده من الله، وعليهم أن يستبشروا بصبرهم واحتسابهم الذي بايعوا به الله. تعازينا الحارة للانسان السعودي: ملكاً وأميراً وشقيقاً ونجلاً، ودعاؤنا الصادق للراحل الكريم الى الرب الكريم بالمغفرة والرضوان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:42 PM | #187 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ فهل من متعظ..؟ 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ولو أن أحدنا استعاد الرضخة «الحزيرانية»، وما تمخضت عنه من ذلة وهوان وخوف، لعرف أن ما تعايشه الأمة اليوم، لا يختلف عما سلف، ولكن لكل حدث أسلوبه وطرائق أدائه. والهزائم الموجعة محسوبة على الأنظمة الثورية المجازفة، وليست على إمكانيات الأمة، ومثلما منيت الخطة العسكرية الأمريكية ببوادر الفشل، دون أن تهزم القوة، فقد منيت الأنظمة العربية بسلسلة من الهزائم، ولما تتح للأمة ممارسة امكانياتها. ولو أن المنظومة العربية: قادة وشعوباً وعت الدروس، وفكرت في أمرها، وقدرت واقعها، لما آلت أمورها إلى ما هي عليه الآن. وبدهيَّا أنه ليس من صالح القوى المستبدة، ولا الأنظمة المتسلطة أن تعي الأمة ما هي عليه، لأنها لو وعت، لوضعت المصالح والأنظمة أمام مسؤولياتها. والواقع العربي بلغ الدرك الأسفل من الضعة، ومن ذا الذي يجيل نظره في القنوات، ثم لا يتميز من الغيظ على من فعل مثل هذه الفعلة النكراء بالإنسان والحضارة والمدنية. وهل أحد يستطيع الصبر واحتمال الأذى الذي يستبطن إخواننا في «العراق» منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، وفي «فلسطين» منذ سبعين عاماً أو تزيد، وفي «الجزائر» و«السودان» و«الصومال» مما تتناقله وسائل الإعلام، ولما تزل سوح القتال تلتهب بالسلاح الغربي المتطور في كل الحروب التي مرت بها المنطقة. ففي «نكسة حزيران» ظاهرت أمريكا إسرائيل، وأمدتها بالعتاد والعدد والخطط والتأييد في المحافل الدولية، وجلست غير بعيد ترقب الأحداث. وكانت «مصر» قد خرجت منهكة من «اليمن»، فيما كان العالم العربي مقطع الأوصال، تسكنه الريبة، وينتابه الخوف من الأقربين، وكان على دول المواجهة أن تختار الوقت المناسب للحرب، فلا تفرض عليهم، ولا يقادون إليها، وهم لم يعدوا للحرب عدتها، ولما لم يكن العالم العربي مهيئاً لأي مواجهة فضلاً عن المواجهة العسكرية، فقد لعب الأذكياء الماكرون الدور التحريضي، واستدرجوا الثوريين العُزَّل إلى حافة الهاوية، وساند ذلك إعلام فضائحي مخادع، شحن النفوس، وهيج العواطف، وألهب الأحاسيس، وأعمى الناس عن الواقع المرير. وفي ظل هذا التوتر، وقعت الواقعة، وجاءت الطامة، وتلقى العرب من المحيط إلى الخليج ضربة قاضية، عاش في عذاباتها الواعون حالة من اليأس والإحباط والذهول. وكان يجب أن تكون «النكسة» بداية جديدة لحياة حافلة بالتلاحم أو التعاذر، وإعداد القوة بكل متطلباتها، والبعد عن المجازفات والخطابات الغوغائية، وتجنب الدخول في الحرب الباردة غير أنهم لم يدركوا، بحيث عاد الثوريون إلى ما كانوا عليه من قبل، حرب كلامية تقوم على الوعيد والتهديد والتخوين والاتهام بالعمالة، والتحريض على هدم العروش، وتصدير المبادئ والأحزاب، مع تسخين للحدود، وتكريس للطائفيات والقوميات والعرقيات المتعددة، وتمكين لمحاور الشر لاختراق الثغور، وكسب الدثور، مما حوَّل مقدرات الأمة إلى وقود لصراع القوى العالمية، ولما تكن كنور الله الذي يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، بل كانت أشتاتاً تمارس الحرب الباردة بالإنابة عن الشرق أو الغرب، وكل زعيم يدعي أنه الناهض بما ينفع الناس. ومرت الأيام، ونسي العالم العربي نكسة لا يمكن تصورها، ولا يمكن احتمالها، وعادت الأمور إلى مجاريها، وبدأت مخاضات حروب أدهى وأمر. كانت حرب الخليج الأولى مدعومة بخطاب قومي، ثم جاء احتلال «الكويت» ضربة للخطاب القومي، انهارت معه القومية العربية. وحين دحر المعتدي، ظل مع المتواطئين معه في المشهد السياسي دون أقنعة، وظل الشارع العربي يتخبط في دياجي التناقضات، ولما نزل حتى الآن في فوضى مستحكمة من الرؤى والتصورات، ويكفي تدافع المجاهدين، وعودة الناجين منهم يتلاومون. ومثلما أخفق العرب في «حزيران» حين دخولها دون استعداد، ودون تخطيط، دخلوا تالياتها مرة ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل حرب يخرجون مثخني الجراح، مثقلي الكواهل بالديون والعداوات والشكوك والالتزامات التي تضع مصادر ثروتهم بأيدي غيرهم. والحرب لا تبقي ولا تذر، والكاسب فيها خاسر، ومن استخف بها أذاقته سوء العذاب. وأمريكا التي تملك مقاليد الدنيا، انجلقت في أتونها أكثر من مرة، وخرجت منها خاسرة، تضمد جراحها، وتعالج ذيولها. وها هي قد انجرفت في ضوائقها، دون رصيد معنوي، ولا دعم شرعي على كل الصعد، ودون أن يكون لها موقف مشرف من القضية الأم «قضية فلسطين». وحين تحركت أساطيلها، لم يسبقها استرضاء ولا تهدئة للأوضاع، ولا طمأنة للمتضررين، بل راح كبار المسؤولين فيها، ممن يطلق عليهم «الصقور»، يهددون، ويتوعدون، ويبعثون برسائل ملغومة، مما يشي بأن العراق يعد الخطوة الأولى في رحلة التأديب والاحتواء. وجاءت التصريحات المتلاحقة محيلة إلى أصولية دينية، جندت أمريكا نفسها للقضاء عليها، وذلك من المقت الكبير، فهي تحارب الأصوليات، ثم تنطلق منها. وأمريكا التي أخفقت في السمعة، أخفقت في تقديرها لتداعيات الحرب، كما أخفقت من قبل في تقديرها للوضع القائم في العراق، بحيث بنت معلوماتها على توقعات المعارضة العراقية. وأحسب أن الحمم التي تلقيها على رؤوس الآمنين العزل الأبرياء، تنال من سمعتها ومكانتها أضعاف ما تناله من مقدرات العراق وأناسيه. لقد كرهها العالم، ونزع ثقته منها، ولم يعد يثق بمواقفها، وكم ستلاقي من «اللاءات» التي لم تسمعها من قبل، وليست تداعيات ما بعد الحرب بأحسن حال مما قبلها ولا مما في أثنائها، والوجود العسكري مؤذن بخلق حالة من الإرهاب الشرس، الذي لا يمكن السيطرة عليه. وكيف تتأتى السيطرة، وهي قد جاءت بخطة عسكرية لم تراع فيها كره الشعب العربي للاستعمار، فضلاً عن الاحتلال، ثم هي قد تبنت خطاباً إعلامياً لم تراع فيه ردود الفعل العربي والإسلامي والعالمي، وهي قد ركنت إلى القوة العسكرية مجهضة القوة القانونية. والحرب التي يتابعها العالم خطوة خطوة خارجة على الشرعية، ومهمشة للشركاء الأقوياء، ومثيرة لكوامن النفوس، التي ستؤثر الموت على الحياة، ومثل هذه التداعيات تحتاج إلى مدكر يقرؤها بإمعان، وهو ما لم تفعله أمريكا، ولم يفعله العرب. وبدء العمليات كشف عن إخفاقات ذريعة، هزت هيبة أمريكا، وأفقدتها المصداقية، ولم يعد الأمر بيدها. والمضي في الحرب غير المتكافئة له ثمن باهظ، والتراجع من منتصف الطريق له ثمن باهظ، على حد قول الشاعر المحب: وقع السهام ونزعهن أليم ومثلما أخفقت أمريكا في بعض تقديراتها، أخفقت حكومة العراق البائدة في كل تقديرها وممارساتها، وماضيها لا ينطوي على إية إيجابية. والذين يكرهون الحكم في العراق، وينقمون على تصرفاته القمعية، ويودون زواله، يكرهون أن تكون نهايته على يد قوى خارجية، تستمرئ التدخل السافر في شؤون الآخرين. فقد يرضى المعذبون بالبقاء تحت طائلة العذاب المستطير، لعلمهم أن إنقاذهم بهذه الطريقة، سيقودهم إلى ما هو أسوأ، وبوادر الفتنة تبشر بعذاب أليم. وحكومة العراق التي كانت قاب قوسين أو أدنى من كسب الرأي العام العالمي، لم تحسن التصرف، فلقد ساءت مظهراً ومخبراً، ومما يزيد الطين بلة أن الخطاب العراقي في المؤتمرات المعقودة لإنقاذ الموقف المتأزم، وفي اللقاءات الحرجة خطاب بذيء متعالٍ، لا يحيل إلى أخطائه الفادحة، وإنما يمارس الإسقاط بكل وقاحة، ثم إنه لا يواجه الطرف اللصيق بالتي هي أحسن. وعلينا أن نذكر بموقفين سيئين، صدما الإنسان العربي الناصح المتحفز لمناصرة الشعب العراقي، والساعي لتخليصه من ويلات الحروب التي تعاقبت عليه، وأتت على الماديات والمعنويات على يد حكومة ظالمة، عرضته لفتن عمياء، وخاضت به ثلاث حروب مدمرة، شردت كفاءات، وقضت على مثمنات. الموقف الأول: مهاجمة وفد الكويت في مؤتمر وزراء الخارجية، ومبادرة الإمارات الإنسانية بأسخف الكلمات، وأحط العبارات، الأمر الذي هيأ الشعب الكويتي لاستقبال الأساطيل الغربية استقبال الفاتحين، أملاً في أن يقطع دابر الفتنة، ويقطع الألسنة البذيئة. والموقف الثاني: النيل من وزير خارجية المملكة الأمير «سعود الفيصل» ومن سفيرها الأمير «بندر بن سلطان». جاءت هذه البذاءات الصبيانية، والحرب على أشدها، والعراق أحوج ما يكون إلى جمع الكلمة، ولم الشمل، وإتاحة الفرصة للمساعي السلمية، التي يقودها وزراء الخارجية العرب. وها قد سقطت الحكومية، وتفرق شملها، وعاشت البلاد فراغاً دستورياً، أشاع الفوضى، وهيأ فرص السلب والنهب والقتل، ولو أطيع لقصير أمر لحقنت الدماء، وسلمت المقدرات، وأسقط في يد دولة جاءت بكل قواتها، محددة مطالبها، ولو أن عصابة الشر في العراق عندما استحكمت الأمور، فوضت الأمر «للجامعة العربية»، لكان بالإمكان تلافي حرب مدمرة. وإذ يكون الصمت العربي مؤلماً، يكون القول في صالح القضية محفوفاً بالمخاطر، وتلك حالة ليست استثنائية، فالأمة العربية تعيش حالة من التوتر والمجازفات وتبادل الاتهامات. والذهنية العربية يشكلها خطاب هائج مائج، لن يؤدي إلى صالحها ويتنازعها إعلام متناقض، إلى حد لا يمكن معه الاستقرار على رأي محدد مقبول. والسياقات التي رصدها المتابعون هي الأخرى تزيد الأمور تعقيداً. ومع كل ذلك: هل من مدكر؟ الشيء الذي لا يمكن أن يطاق تعرض الخليج العربي لحروب ثلاث طاحنة، لم يكن شيء منها لصالحه، وهي وإن أخلت في توازن القوى، فإنها تركت هوة سحيقة من الشك والارتياد والتفرق الذي لا يمكن تلافيه من خلال الامكانيات المتاحة. والذين يودون تقصي الأمور، والتدرج معها، عليهم أن يسبقوا أحداث الحروب الخليجية إلى الأيام الأخيرة ل«الشاه» وسقوطه، والسنوات الأولى للثورة الإيرانية، واحتدام مشاعرها، وخطابها المتعالي القائم على المفاضلة والتصدير، والدور الأمريكي في كثير من أحداث الشرق الأوسط، وشرق آسيا وإفريقيا، واقترابها جميعاً من الفشل. والمكسب الوحيد الذي حققته اللعب الكونية سقوط «الاتحاد السوفيتي»، وهو في نظري سقوط سبق وقته، وأربك أمريكا نفسها، ولم يمكنها من النهوض بواجبها بوصفها تمثل القطب الواحد. لقد انعكس أثره السيئ على العالم العربي والإسلامي، بوصفه النائب الغبي، لتصفية حسابات عالمية، أثناء ما يسمى ب«الجهاد الأفغاني»، كما انعكس الأثر ذاته على أمريكا، فهي التي تقنعت وراء الجهاد الإسلامي، وهي التي دعمته، وهي التي كمنت في داخله، متصورة أنها الكاسب الوحيد، ولكن الرياح هبت باتجاه معاكس فكانت أحداث «الحادي عشر من سبتمبر» نتيجة طبيعية لهذه المكائد. وحين هبت أمريكا لملاحقة من تصورتهم الجناة، لقيت في مواجهتها أفدح الخسائر المادية والمعنوية، ولا أحسبها قادرة في الزمن القريب على استرجاع صحتها الاقتصادية وسمعتها وهيبتها. وذهول الصدمة: صدمة سقوط الاتحاد السوفيتي، وصدمة «الحادي عشر من سبتمبر» حولها إلى دولة نامية سيئة السمعة، تلاحق الإعلاميين، وتداهم الآمنين، وتتعدى على الحريات المكفولة بالدستور الأمريكي. وسقوط الدول يبدأ من أول طلقة طائشة غير محسوبة، ولأن العالم العربي والإسلامي غير قادرين على سد الفراغ الذي تركه المعادل فإن سقوط القوى لن يكون في صالح الأمتين العربية والإسلامية، وأمنياتنا ليست في تفكك أمريكا وسقوطها وإنما هي في وعيها للحق والعدل، وفي استفادة الأمة العربية من النكسات. وتصور أمريكا أنها لكي تحكم قبضتها لا بد أن يكون لها وجود عسكري في كل موقع مؤذن بانهيارات عالمية، ستحول العالم إلى بؤر من الفتن، فالناس اليوم غيرهم بالأمس، والإعلام الذي يلاحق الحدث بالصوت والصورة في كل مكان، أعطى الإنسان المغيب من قبل فرصة للتأمل وتصور الموقف الإنساني، هذا التفكير العسكري أجهضة التفكير الدبلوماسي، وبدل أن تكتفي أمريكا بتبادل الكلمات الهادئفة مع حلفائها وأصدقائها أصبحت بحاجة إلى تبادل القذائف مع الشعوب التي لن تقبل بوجودها، وفشل الممارسة السياسية تدفع الفاشل إلى ممارسة الحل العسكري، وعندها يبدأ العد التنازلي. وليس أدل على ذلك من انهيار السمعة والاقتصاد، وامتلاك القدرة على مواجهة أمريكا عبر المظاهرات والمقالات، وهو ما لم يكن مألوفاً من قبل. هذه المآلات الموجعة آيات ونذر، أحسبها كافية لجمع الكلمة العربية، والقبول بالتنازلات، والاشتغال في المساحات المشتركة، وإعادة النظر في كل الظواهر، لتوفير التجانس، وتهيئة الأجواء، لتفاعل إيجابي، يحل الثقة محل الشك، والأمن محل الخوف. ولن تجتمع كلمة الأمة إلا بالرجوع إلى مصدر العز والتمكين «الكتاب» و«السنة».
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:43 PM | #188 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق...!
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2 هل وضعت الحرب أوزارها؟ بعد الصفقة أو الخيانة التي فاجأت العالم باختفاء الحكومة والجيش العراقيين معاً، وروضت جماح بغداد وأسقطت رهانات الإعلام المزيف للوعي، والواعد بأن العاصمة العراقية ستكون مقبرة للعلوج، أم أن هناك حرباً من نوع آخر، تكون أشد ضراوة وأفدح خسائر وأطول استنزافاً، تخوضها الكرامة العربية المجروحة، والكبرياء الأمريكية المهزوزة، حرباً لا يحسمها التفوق العسكري، وإنما تحتاج إلى سلاح الفكر وترسانة السلاح معاً متوقية لحمام المواجهات الموجعة التي ترقب الطرفين. فالعرب بحاجة إلى موقف مصالحة بينية: بين الحكومات والشعوب، وبين الحكومات ونظائرها، وبين طوائف الشعب الواحد، يسمو بوحدة الشعب فوق العرقية والطائفية والإقليمية، جاعلاً مصلحة الأمة المفجوعة فوق كل المصالح. وأمريكا بحاجة إلى موقف يطمئن كل الأطراف، ويزيل شبح الاحتلال ولغة الغزو. وهو ما لم يفعله الطرفان. لقد انحسرت الجيوش، واختفت المؤسسات، وغاض ماء الأمن، وطمست الحضارة والتاريخ والذاكرة، واقتيد العلماء إلى مخافر الاعتقال والتحقيق، وخضدت الشوكة، ونهبت غير ذات الشوكة، والتفت كل طائفة حول نفسها داخل إقليمها، تراقب الوضع على حذر، فيما فاضت المواجهات، واغتيلت المشاعر، وقامت المظاهرات المناوئة للمحتل، ودخل الناس جميعاً في صفوف الرافضين للوجود العسكري، واتخذ المناوئون خططاً، لا يمكن السيطرة عليها، لأنها تستمد وقودها من موقف الرفض المطلق لأي تدخل أجنبي، ولأي وجود عسكري، متخذة آلياتها من الفداء والمقاومة والمظاهرات. ولا أشك أن جيوش التحالف سيتعرض أفرادها لقنص أو تفجير أو انتحار، فيما يتعرض الشعب العربي لقتل جماعي، وحرب نفسية، واختلال في الأمن وتجويع مفتعل، ولن تلوح بوادر الانفراج في المنظور القريب، وعمليات التصدي والتحدي والصمود تؤزها كرامات مجروحة، لا يبلسمها لا العمل الاستشهادي، من فتية يرجون من الله ما لا يرجوه طالب العرض الزائل، وهو ما لا نريده، وما لا نود اللجوء إليه، وإن كان آتيا لا محالة، متى استمرت المكائد بهذا الحجم، وبهذا العنف، والمفادون والفدائيون في مواجهاتهم الموجعة والمخلة بكل الموازين، لا يقتصون للحكم البائد، وإنما يدافعون عن كبرياء مأزومة. والشعوب العربية قد تخضع لحكومات مستبدة، ولكنها لن تسلم مقاليدها إلى مستعمر أجنبي. وليس ببعيد أن تمارس دول التحالف تجييش النعرات، وأن تستزل الطائفيات، وأن تصنع الزعامات، ليعود العراق إلى حمامات الدم من جديد، إذ ما زال في اللعب بقايا، والعراق كهشيم المحتظر، سماؤه كالمهل، وجباله كالعهن، وأهله في ذهول، حتى لا يسأل حميم حميما.ومن الخير للطرفين البحث عن مخارج أخرى تجنح للرفق، وتحفظ ماء الوجه، وتبقي على شوارد الأمن والأنفس والأموال والثمرات التي أفناها كرّ التآمر. وعلى أمريكا ومن معها - والحالة تلك- أن يسارعوا بالعودة إلى بلادهم، وليأخذوا توصيات المؤتمرين في الرياض مأخذ الجد، فأهل مكة أدرى بشعابها، وتوصياتهم معقولة، بحيث لا تتجاوز التأكيد على: وحدة العراق، وأمنه، وتسليمه لأهله، وتمثيل كل طوائفه، وتبرئة سوريا مما وجه إليها من اتهام، يرمي إلى تهيئتها لمواجهة لاحقة، أو يشغل الرأي العام عما يُفعل في العراق. وليس هناك ما يمنع- وقد سقط صدام حسين- من أن ينزع سلاح الدمار الشامل، إن كان ثمة ترسانات في جوف الأرض، وعندها تنتهي مبررات الغزو وحيثياته، وجيوش التحالف حققت كل الذي جاءت من أجله، وليس لها بعد هذا إلا الرحيل. وإن كانت ثمة أطماع أخرى، فإنها لن تتحقق بالثكنات العسكرية، ولا بالحاكم العسكري اليهودي، ولا بالإرغام على الاعترف والتطبيع مع العدو الصهيوني. والحسابات بهذا المستوى دخول متعمد في دهاليز المقاومة العنيفة، وصناعة متعمدة للإرهاب الشرس، مع سبق الإصرار. لقد خرج العراق من مأزق مظلم بسقوط حكومته، حكومة الحزب الواحد والرجل الواحد، وارتكس في مأزق أشد حلكة بالوجود العسكري على أرضه. وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تمارس واجباتها القومية والدينية في انتشال جثته من مستنقع الفتن، وعلى أمريكا أن تعرف أنها دخلت في نفق مظلم، لا تضيء عتمته الترسانة العسكرية، إن كانت بوجودها تريد أن تظل لإعادة صياغة الشرق على عينها، فإن هذه المغامرة ستحول المنطقة إلى بورة فتن، تدمر نفسها ومن حولها، وعليها أن تنظر إلى ما فعله «شارون»الذي تصور أن الترسانة العسكرية قادرة على تركيع الشعب الفلسطيني. ومما لا مراء فيه أن سقوط النظام شر أزيح عن كواهل العراقيين والكويتيين معاً، ولكن الفراغ الدستوري والوجود الأجنبي شر مستطير، وكم من متسائل يردد:- أشر أريد بمن في العراق أم أريد بهم رشد؟ هناك اختلاف غريب وعجيب في وجهات النظر، وفي قراءة الأحداث، هذا الاختلاف المتنامي يجتال الخطابات العربية: الرسمي منها والشعبي، وهناك إلى جانب الصخب صمت الخائف وترقب المرتاب وهناك تناقض في الرؤى والتصورات لا يحتمل، فمن محيل إلى السننن الكونية، ومن معول على الخوارق، ومن مراهن على جواد القوة، ومن حالف على جواد الإرادة، ومن مؤمن تقي، لا يفقه الواقع، ومن مادي شقي لا يقدر الأقدار ولا نقمة الملك الجبار، ومن متحدث عن الوجه المشرق لأمريكا، ومن متفائل بهذا الغزو. وليست هناك وسطية يتفيأ ظلالها المتعبون من تداخل الأطياف. وبوادر هذا التناقض والاختلاف. لا يبشر بخير، ذلك أن أصحاب القرارات المؤثرة لن يستدبروا هذا اللغط المتناقض إلى حد التناحر فقد يجدون فيه ملاذاً ومغارات، وليس من شك أنهم الأقدر على تعميقه واستثماره، والإعلام سلطة مؤثرة، لعب دوراً خطيراً في الحرب الخليجية الثالثة، مما اضطر أمريكا لضرب بعض مواقعه، واحتلت «الحرب النفسية» الصدارة. والحرب الباردة معادل قوي للحرب الساخنة، ومن استخف بالكلمة، أضاع فرص المواجهة المحكمة. والذهنيات الفارغة حين تشكلها الدعاية الرسمية أو المتطوعة تصنع العجائب. والحكومات الخائفة من الداخل والخارج لن تجد الظروف المناسبة لاتخاذ القرارات المصيرية، وستظل في حيرة من أمرها على حد:- «أمي وصلاتي» والأجواء العربية المكفهرة، غير مهيأة لاتخاذ قرارات مؤثرة، فلكل دولة شأن يغنيها، والاختراقات الصهيونية والغربية أجهضت كل المساعي الخيرة، والإعلام الموجه ليس بقادر على الاستبداد، والذهنية المشتتة ليست بقادرة على الفرز، ولسنا ببعيدين عن التعبئة الذهنية أيام «الجهاد الأفغاني» الذي استجاب لرغبة أمريكا، وأسقط بالنيابة عنها «الاتحاد السوفيتي» ولم تستطع أمريكا بعد أن لعب دوره من تفكيكه، حيث اتجه إليها بوصفها دولة معادية للحضارة الإسلامية. والفراغ الذي تشكل في أعقاب السقوط المفاجئ للحكم في العراق، واحتدام الجدل بين المعارضة العراقية في الداخل والخارج، واحتقان الطائفيات والعرقيات واضطراب الرأي العام، كل ذلك ومثله معه، يشكل مآزق بعضها فوق بعض كما الظلمات وهذه الحرب التي باركها قوم، واستبشعها آخرون، اعتزلتها «الشيعة» وآزرها «الأكراد» وبقيت دول الجوار تفكر، وتقدر، وتعد وتتوعد، وكل واحد من هؤلاء وأولئك يقول في داخله:- اللهم سلم سلم.هذه الحرب غير الشرعية، ستخلق إشكاليات مستعصية، ولكل لعبة ذيولها الأكبر منها، وما «صدام حسين» إلا لعبة اختل تركيبها، فنمت نمواً عشوائياً، كما الأورام السرطانية. إن باستطاعة أمريكا، وقد تمكنت من تفكيك ذيول اللعب أن ترضى من الغنيمة بالإياب، وتترك ولو مفحص قطاة للمؤسسات العربية والعالمية، لكي تسهم معها في صناعة الحكومة المعتدلة المتزنة الموالية، ولن تتخطى المأزق الحرج بالأثرة، ولكنها مع هذا لم تفعل، ولا أحسبها تفكر، لأنها لا تستطيع إشراك من لم يشاركها على المكاره، كما أنها لن تستطيع البقاء في العراق على مسمع ومرأى من الناس. فالعراقيون لن يقبلوا بالوجود الأمريكي، ولا بالحكومة «القرضاوية» المفروضة عليهم. ولن تجد أمريكا حاكما دموياً مسعوراً ك «صدام حسين» يسوم العراق سوء العذاب. وأحسب أن حكومة يختارها العراقيون بمحض إرادتهم لن تكون مراعية لمصالح أمريكا في الشرق بالقدر الذي تطمح إليه، ويحقق حلم الصهيونية العالمية، والحكومة التي تشكلها أمريكا لن تكون مقبولة لا من العراقيين ولا من العرب، وأمريكا في تجربتها العادلة مع دول عربية ما يبعث على الأطمئنان، لو أنها اتخذت سبيلها إلى مصالحها بالتي هي أحسن متخلية عن مغامرات اليمين المتطرف. والشائع مظهراً ومخبراً أن العرب بمجملهم غربيون وحتى في زمن المد الشيوعي الذي ظاهره إعلام متفوق، وكثافة بشرية، لم يكن أحد من العرب متشرباً للماركسية، وإنما كانوا متصنعين وإعلاميين، والذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، تحولت سوحهم إلى حمامات دم، وقامت بين فصائلهم حروب أهلية عنيفة، ساقتهم جميعاً إلى مزبلة التاريخ. ومن المسلمات أن: - الاقتصاد العربي غربي رأسمالي. - والمدنية العربية غربية. - والهوى العربي غربي. وواجب أمريكا ألا تفرط بهذا المكتسب، الذي وضع بذرته «نابليون» وتعهدته البعثات والترجمات والمبشرون والمستشرقون والمستغربون. وعلى أمريكا ألا تميل إلى الأثرة، وألا تصيخ للأصولية والصهيونية، فالزمن لا يحفل بالعنف والعنف المضاد، وشركاؤها الأوربيون، لن يسلموا لها بالغنائم، ويعودوا بالمغارم، والموتورون منها، والخائفون من مخططاتها، سيدعمون أي مقاومة، والجيش المتفوق يرتبك أمام فوضى المواجهات، وأمريكا من قبل التدخل العسكري مستأثرة بالكثير من المصالح، وأصدقاؤها التقليديون أوفى منها، وأي تحول من طرفها، سيعكر صفو العلاقات، ومزيد المكاسب الذي تطمح إليه ستنفقه على حماية مصالحها التي لمَّا تزل مستهدفة. لقد دخلت أمريكا في مآزقها منذ أن جُرحت كبرياؤها في الحادي عشر من سبتمبر، ولما تفق بعد من هول الصدمة، وما من أحد قدَّر وقع الصدمة عليها، ولهذا استغرب الجميع تدخلاتها العسكرية، التي لم يجارها فيها أصدقاؤها الأوربيون. وأوربا بوحدتها الإقليمية تنازع أمريكا الزعامة، وتقاسمها المصالح، لقد اختطت لنفسها موقفاً متزنا، قد يكون في صالحها. ثم إنها تحقق نجاحات إقليمية واقتصادية مذهلة، في تقاربها وتعاونها واتحادها، مما يشكل معادلاً قوياً، وشريكاً مؤثراً في الأحداث العالمية، ودول شرق آسيا تسابق الزمن في التحدي الصناعي الاقتصادي. وما لم تتدارك أمريكا الأمر، وتعتمد على قوة العقل والعدل، وتعد تحسين صورتها، وتطهير سمعتها، وما لم تفق من هول الصدمة فإن الفرصة الذهبية متاحة لأوروبا، وبخاصة بعد الحرب غير الشرعية التي خاضتها منفردة، وبدون غطاء قانوني، ولا أحسب العرب قادرين على مزيد من الصمت، ولا على مزيد من التهميش، وبخاصة حين يتفاقم غليان الشارع العربي، وحين تتعرض مصادر الثروة عندهم للخطر، أو حين تمتد اللعب إلى إنتاجهم القومي ومصدر أمنهم الغذائي، ولا أحسب أمريكا قادرة على احتمال المتاعب التي تعرضت لها في سوح القتال، وفي المشاهد السياسية. وإذ يكون العراق مغدوراً يتشحط بدمائه، ويغالب سكرات الموت، فليس من المعقول أن يظل العرب بكل مؤسساتهم وبكل أرصدتهم القومية التي أتخمونا بها خارج الحدث، وتلك لا شك مآزق محرجة لكل الأطراف. فأمريكا تضع يدها على الزناد، وليس لديها فرصة لتداول الرأي مع الآخر، والعرب مصابون بوهن الفرقة وفشل التنازع، والوضع القائم لا يمكن احتماله. فمن الذي يملك المبادرة، لإقالة العثرات، وفك الاختناقات، وتجاوز المآزق المتنامية؟ هذا الخيار بحد ذاته يعد مأزق المآزق.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:43 PM | #189 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق..!
د.حسن بن فهد الهويمل 2/2 وأطراف الإشكالية: الغرب، والعرب، والعراق، ومن ورائهم أطراف أخرى، تتمثل بما بقي من العوالم: الإسلامية والغربية والشرقية، ودول الجوار، كل أولئك يعيشون حالة من التوتر والترقب الحذر. وليس أحد منهم بقادر على فك الشفرة، فكل شيء بعيد قريب، والمحير سقوط الحكومة، واختفاء رموزها، ثم تساقطهم الواحد تلو الآخر، وإلحاح بعضهم على الاعتقال، لحقن دمه، وعدم الرغبة الملحة في العثور على سلاح الدمار الشامل ورأس الفتنة. وإذ يغيب الطرفان المشرعنان للحرب: رأس النظام والسلاح، أو يغيبان، تظل المأزقية قائمة، ويظل معها الناس في أمر مريج، ولن يجرؤ أحد على إثبات ما لم ترد الرؤوس المدبرة إثباته، وإذا كانت أمريكا تعيش سكرة الانتصار العسكري، وذهول الصدمة «السبتمبرية» فإن الوقت ساعات حبالى يتمخضن عن مفاجآت معضلات، وستكون يوماً ما أحوج ما تكون إلى من ينتشلها من مستنقع الفتنة، ويخفف عنها أعباء المسؤولية الجسيمة. فملء الفراغ الدستوري الذي خلفه غياب السلطة في العراق بالشكل المقبول عزيز المنال، وإعادة القدر الكافي من البنية التحتية التي دمرتها ثلاث حروب شرسة، وديون العراق التي نيفت على مائة مليار دولار، لاتحتمل المزيد من الالتزامات. ولن تنفرد أمريكا بملء الفراغ، وإعادة البناء، وحل إشكالية الديون، وأصدقاؤها الذين لم تُطع لهم أمراً في الشأن العسكري، لن يكونوا معها كما تريد في شأن الإعمار وفك الأسر على الأقل. وفوق هذا وذاك فإن العالم بأسره يتجرع مرارة حربين شرستين، أدتا إلى إسقاط عقيدتين: فاحتلال العراق للكويت، أسقط رهان (القومية العربية) وحرب أمريكا الخارجة على الشريعة، أسقطت رهان الحرية والعدل و(الديمقراطية) الغربية. - العرب فقدوا مصداقية: القومية. - والعالم فقد مصداقية: العدل والحرية و(الديموقراطية). وبقي ركام الكلام الذي قاله المفكرون القوميون عن حتمية العقيدة القومية، وركام الكلام الذي أطلقه المستغربون عن إنسانية الحضارة الغربية وعدالتها، دونما قيمة. وأدرك المتهافتون على سرابيات الحضارة الغربية أنه أسقط في أيديهم، وانقلبوا خاسرين، والطرفان: الغرب والشرق ستكون أمامهما خيارات، كل واحدة منها أعقد من الآخر، ولابد لهما من لغة إعلامية مطمئنة، لا لغو فيها، ولا تأثيم، وتحرف سلطوي دستوري متوازن، يعيد المشاهد كافة إلى سواء السبيل، ويحقق أدنى حد من المعقولية والمصداقية. وكل من استعاد لغة الأمس، متصوراً أنها ستفعل فعلها السالف، سيمنى تحرفه بالفشل، ذلك أن العذاب المستطير الذي تجرعته الشعوب العربية، كشف لها زيف اللغة الإعلامية، ومحاولة تشفير الذهنيات، لتقبل الواقع المرير، لم يعد أمراً هينا، لقد سقطت كل الأقنعة، وتعرت كل الزيوف، ولم تعد الأذن العربية مهيأة لقبول كل مايقال. وإذ تكون تلك الحرب الخارجة على الشرعية بتدبير ومكيدة ومباركة من اليهود الذين ينتابهم الذعر، ويحسبون كل صيحة عليهم، وبتنفيذ متسرع وغير مسؤول من دول كبرى، وقعت تحت تأثير الأصولية اليمينية المتحزبة على الأمة، فإنها تذكرنا ب (غزوة الأحزاب) التي تنادى إليها كفار الجزيرة العربية من الشمال والجنوب والشرق والغرب (قريش) و(بنو سليم) وقبائل (غطفان) و(بنو مرة) و(بنو أشجع) و(بنو فزارة) و(بنو أسد)، وإذا كانت الآيات هي الآيات، فإن الرجال غير الرجال، ومثل هذا التكالب المتعجرف المتغطرس قد أعاد التاريخ، فإنه سيترك ظلاله القاتمة المأزومة على الذهنية العربية المشلولة، مشكلاً عقبة في طريق الحلول المجحفة التي يتأبطها صناع القرار، ودافعاً إلى مزيد من العناد والمغامرات والانفجارات، مشكلاً مزيداً من الأزمات الطاحنة. والأمة العربية التي أخرجت الاستعمار (البريطاني) و(الفرنسي) و(الايطالي) بملايين الشهداء، لن تقبل به آتياً تحت أي مظلة، وسوف تكون مستعدة بدفع الثمن مضاعفاً، وسيطفو على السطح في ظل هذه الممانعات لاعبون تحركهم الثارات، وليس هناك مايمنع المقهور من أن يتحالف مع الشيطان، ولا أحسب المؤسسات السياسية بقادرة على التحكم بالرأي العام، ذلك ان الامتعاض الذي فاض معينة، لن يكون من السهل ترويضه، ولن يكون للاستعمار موطىء قدم مرئي، ما لم يمكن له طرفا القضية: السلطة والأمة. وكل منهما وجل من الآخر، وحتى لو خدمت الظروف العائد الجديد، فإن الثمن سيكون باهظاً على الطرفين. والأهم من كل هذا وذاك وعي النخب الذين غنوا للقومية العربية وللحضارة الغربية معاً، ثم فوجئوا بغدرهما، هل سيتحرفون لتجاوز عقابيل الإخفاقات. ومما لاشك فيه -ومن خلال المنظور القريب - أن الذين خاضوا الحروب، وخسروا الرجال والأموال والسمعة، لن يرضوا بالحلول الوسطية، التي تحق الحق، وتبطل الباطل. وكيف لعربي أن يحلم بالإنصاف، وهو غارق إلى أذنيه في وحل المكائد الصهيونية، والأطماع الغربية، التي استغلت الضعف والتخلف والتفرق، وقوت من جانب الطابور الخامس. والحكم البائد في العراق الذي شرعن بتصرفاته المناقضة لأبسط الأعراف لكل مكيدة، راح ضحية صلفة وجهلة بأبجديات السياسة. والمأزق الأصعب في إمكانية عودة البقية من كل الأطراف المحتقنة بكل قابليات الانفجار من: معارضين وطائفيين وعرقيين إلى الصف العربي، لبدء رحلة شاقة، تضمد الجراح، وترأب الصدع، وتجمع الشتات، وتمكن العراق من أخذ مكانه الطبيعي، محتفظاً بوحدته الإقليمية وتجمعه البشري. ومن تصور أن سقوط النظام العراقي يعد نهاية المشكلة فقد وهم وأوهم. الخطوة الأولى في الطريق إلى الهاوية اختفاء العصابة الظالمة، التي أذاقت الشعب مر العذاب، ثم جاءت الصاخة، على يد قوة أجنبية أمطرت الشعب العراقي بوابل من الحمم، أحرقت الأرض، وشوت الوجوه، وتعمدت طمس الذاكرة والتاريخ والحضارة. وقدر الأمة الأتعس وقوعها تحت قيادات تحرض على نفسها، وتثير اشمئزاز الآخرين، وتحملهم على قمع كبريائهم الفازعة المصطنعة، وحين يجد الجد، تتخذ تلك القيادات من الشعب الأعزل دروعاً بشرية، تختفي وراءه، هذه الظواهر غير السوية تؤزم الأزمات، وتضع الأطراف في مآزق حرجة. وفي لجة المشاكل وعتوها فإن هناك تصورات للأحداث متباينة، وقراءات متعددة لتداعيات الحروب الأهلية والحدودية والتحريرية، لو صدق أكثرها تفاؤلاً، لكانت كارثة تواجه الأمة العربية. ومهما حاولنا محاصرة التشاؤم والقلق، فإننا لا نستطيع الإغماض على أهداف مخيفة، يلوح بها المعنيون والمراقبون، وتزحف بها فلول الأحزاب البائدة. وتحت وابل الضربات المتلاحقة، وتتابع المكائد العظيمة، واللعب المكشوفة، فإن الأمة العربية لما تزل في حالة من الذهول والارتباك، ولم تتخذ أي موقف جاد، يخفف من المعاناة، ولما تلح في الأفق بوادر وفاق، يضع كل المشاكل تحت الأقدام، ليمكن الأمة من مواجهة قدرها المأزوم بروح جماعية متفائلة، وأسلوب موحد، ذلك ان ذيول الحرب الشرسة ستنسحب على كل مصالح الأمة، ولاسيما أنها تعيش على حافة الانهيارات الاقتصادية والأمنية. فالأزمات مستفحلة، والجبهات الداخلية مأزومة، والعنف على أشده، والخطابات متناحرة، حتى لاتكاد تجد رجلين على قلب رجل واحد، والغرب القادم على مطايا القوة، له أطماعه ونواياه المخيفة، التي لا تواجه بمبادرات فردية، ولا بقرارات فورية. فالحرب التي تولت كبرها أمريكا، لايمكن ان تكون تطوعية، ولا إنسانية، وليست وقفا على تحرير العراق، وتدمير السلاح. والمليارات التي استنزفتها تلك الحرب، لن تتحملها الخزينة الأمريكية وحدها. والتحدي السافر للشرعية الدولية، وتقديم القوة العسكرية على القوة القانونية، لايمكن ان تحرض عليها أسلحة الدمار الشامل، ولا دكتاتوروية (صدام)، فكم في العالم من أسلحة مدمرة، وكم فيها من حكام ظلمة، ولاشك ان وراء الأكمة ما وراءها. وإذ نكون سعداء بسقوط النظام العراقي، لما يشكله من أعباء على المنطقة الخليجية، وعلى الأمة العربية، فإننا لا نرى ممارسة الوصاية، ولا أن تتولى دولة كبرى عملية إسقاط الحكم، وحين لا نختلف حول النوايا والمطامع، فإن الأمر يتطلب من المعنيين تصرفاً حكيماً، بعيداً عن المثاليات والعنتريات والغوغائيات، وهو ما لم تهيئ الأمة العربية نفسها له، ولا قيمة للمزايدات التي نسمعها بين الحين والآخر، على مستوى الزعماء السياسيين أو الحزبيين أو الدينيين، فلقد سمعنا الكثير الكثير، ودخلنا في رهانات خسرناها، قبل أن يجف المداد، وكم زايد على المثاليات من لاينطوون على مثمنات، ومن يمتلكون أكثر من نافقاء، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، نفذوا بجلودهم، تاركين الأبرياء يتجرعون مرارة المجازفات والمغامرات المجنونة، وذلك ما يفعله الجهلة المتهورون، والأضوائيون المفوهون، وأدعياء المواقف، ممن لايحسنون صنع القرارات، ولاتنفيذ المخططات، ولا فقه الواقع، ولا احترام المصداقية. لقد كان بإمكان العراق في الحرب الثانية أن يخرج من الكويت، مفوتاً على العالم بأسرة الضربة القاضية، ولما لم يحسن التصرف، وهو كذلك منذ أن خلقه الله، فقد دمرت ترسانته، وأحرقت أرضه، واقتيد كما السائمة إلى خيمة في (صفوان) ليوقع على بياض، ملتزماً بما لايقدر عليه من غرامات، قابلاً التجرد من كل سلاح مرهب أو رادع، وهو قد فعل أسوأ من ذلك في الحرب القاضية، وقد يفعلها غيره. والأمة العربية وسط هذه النكبات والنكسات، تعيش حالة من الغياب، أو التغييب، فالدول الكبرى تتداول وضع العراق، فيما بعد الحرب، وكل دولة أوروبية تتقدم برؤيتها أو تحفظها أو اعتراضها. وكأن العراق غنيمة أو فيء يقتسمه المجاهدون في سبيل الحضارة الإنسانية والحرية، والدول العربية ليس لها أي دور في عراق ما قبل الحرب، ولا فيما بعده، وجامعتها تصارع ذاتها، وتعيش حالة من التوتر، وخلافها مع بعض الدول الأعضاء، حفزهم على الامتناع عن دفع حصتهم، وهي مع هذا الوضع الطارئ في أحلك الظروف، لا تستطيع أن تكون شريكاً في تقرير المصير العراقي، وكيف لها أن تفكر، وهي بعد لم تقرر مصير نفسها. وغياب الأمة ومؤسساتها، واكتفاء كل دولة بتصريح استهلاكي، لايسمن، ولايغني من جوع، يشكل مأزقاً حرجاً، والمأزق يشتد ضيقا حين لا تلوح في الأفق بوادر وفاق عربي مؤقت، يدفع بكلمة واحدة، تحمل الحلفاء على التفكير بحل يقترب من الإنصاف، ولايكونه. ومع الويلات المتلاحقة، فإن الحلفاء الذين دمروا الآلة العسكرية والبنية الاقتصادية في العراق، أشعلوا فتناً عمياء، سيكون لها مابعدها، فمن سيحكم العراق؟ وبماذا سيحكم؟ - وذلك موضوع قادم-. وفي بؤرة التوتر، وعلى حافة الهاوية، يجب على أمريكا ان تفعّل دور العرب، وأن تكرههم على أن يؤدوا أيسر الأدوار، لتهدئة الشارع العربي، وليس هناك ما يمنع من أن تتقنع بهم، لتجتاز بالمنطقة ويلات (اللاسلم) و(اللاحرب)، وعلى العرب ان استؤمروا، أن يمارسوا الوسطية، وأن يجنحوا للسلم كافة، وان يعطوا أمريكا شيئاً من الثقة والاطمئنان، فالواقع المرير لايحتمل المزايدات الكلامية، ومنطقة الخليج لا تحتمل حرباً رابعة، وحين نستبعدها، فإن أمريكا لن تجد بداً من ممارسة الضغوط الاقتصادية، وتحريك العبوات الناسفة من مشاكل: طائفية وحدودية، وحزبية، وبخاصة ان الأوضاع القاتمة في المنطقة العربية قابلة للاشتعال، والإشكالية، بل أم المشاكل على سنن (أم المعارك) و(أم القنابل)، تكمن في تحديد المآزق، ووضع الحلول المرحلية المناسبة، وتنكب المزايدات، وتوعية الشارع العربي، والكف عن تملقه وتخديره أو تهييجه، والتحرك وفق السنن الكونية، لا وفق الخوارق، فالله جعل النار برداً وسلاماً على (ابراهيم)، وفلق البحر (لموسى)، وأخرج (يونس) من بطن الحوت، و(يوسف) من غيابة الجب، وسخر الريح (لسليمان) وأمد (محمداً) بالملائكة المردفين، ونصره بالرعب، وهو القادر والقاهر فوق عباده، وليس الجبروت الأمريكي بمعجز في الأرض، والله وعد بالدفاع عن الذين آمنوا، ولكن أحداً من المغلوبين لم يفرّ إلى الله، ولم يدخل في الدين كافة، ليتعرض لنفحات الله، وإذا أصاب الأمة قرح، فقد أصاب عدوهم قرح مثله، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس، فهل نحن فيما نحن عليه مؤهلون لمدد الله؟ وهل استكملنا العدد والعدة، إن علينا التفكير بخطاب يعلم، ولايزيف، ويؤلف ولايفرق، ويطمئن ولا يهيج، ويعطف الخصوم ولاينفرهم. الأمة العربية تنطوي على إمكانيات مهدرة أو مهملة، وأمريكا تمتلك قدرات متعددة، وهي إذا قالت فعلت، ومن واجبنا أن نقدر ونوقت، وأن نكف عن خطاب المزايدات والمواقف الزائفة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:44 PM | #190 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
البابطين في ضيافة الصالح..
د. حسن بن فهد الهويمل عهدي برجل الأعمال عبدالعزيز البابطين يوم كنا محظيين عنده نحضر تظاهراته الثقافية في دمشق والقاهرة والكويت، وبعد أمة سكنت الرياح وما عدنا نسمع الا اخبار مبادراته الايجابية التي نحمده عليها ونغبطه على ايْسرها ونود لو ان رجال الاعمال في بلادي اتخذوه قدوة وبعضهم يفعل فوق ما يفعل ولكننا نطلب المزيد. والبابطين الذي يكرمه الاستاذ الكبير والمربي القدير الشيخ عثمان الصالح كأنه علم في رأسه نار، يعرفه المسكونون بهم الثقافة والادب لاسهاماته الايجابية في خدمة الفكر والثقافة، ومع اننا نود ان يكون اكثر انفتاحاً واوسع استيعاباً لمختلف الخطابات ونحرص ان يعدل في الظماء فاننا نثمن جهوده ونقدر عطاءاته، ونعد هذا مؤشر تحضر ووعي والذين يعنيهم الشأن الثقافي ليسوا بحاجة الى من يذكر طرفاً من انجازاته على كل المستويات الثقافية والفكرية والادبية، غير اننا ومن باب شد ازره نبدئ ونعيد اطرافاً من اسهاماته التطوعية، وكم نود لو كان فيما يعمل قدوة للمترددين من اصحاب الدثور. لقد هاتفني الاخ الكريم الاستاذ بندر بن عثمان الصالح لتأكيد الدعوة التي بعثها متفضلاً ومناشداً ان اشارك في الحديث عن الضيف ومنجزاته المتميزة لعلمه انه يهمني الشأن الثقافي، ولما لم اكن قادراً على حضور هذه الاحتفالية فقد حرصت على الا تفوتني المناسبة ولو بكلمة من بعيد. والاديب الاريب عبدالعزيز بن سعد البابطين له علينا حقوق كثيرة فهو الشاعر الرفيق، الذي اصدر ديوانه الاول «بوح البوادي» واسهم في خدمة الشعر العربي الحديث بموسوعته التي تشكل مرجعية للباحث العربي، ولما نزل نرقب مزيداً من الموسوعات، ومزيد من الشمولية في خدمة الادب العربي، فلقد قيل لي بأن مؤسسته تهتم بجانب منه ولما يتحقق لي ذلك، ورجل كريم مثله يجب ان يكون مشرع الابواب متعدد الاهتمامات حفياً بكل كلمة شعرية او ادبية تخدم ادب الامة. الشيء الذي اسعدني كثيراً اهتمام المشاهد الادبية والفكرية والاكاديمية به ومنحه الشهادات والاوسمة وتنظيم الحفلات التكريمية تقديراً لجهوده، ويأتي تكريم الصالح له حلقة في سلسلة التكريم الذي يلقاه من مؤسساتنا الثقافية والتعليمية. ما اود الاشارة اليه وقد طالت افضال الرجل مواقع كثيرة ان يهتم بأشياء من اهمها: اولاً: الترجمة فالعالم العربي يفتقر الى مؤسسات اهلية او حكومية للترجمة وما هي الا جهود فردية مبتسرة. ثانياً: «المصطلح» العالم العربي يعيش حالة فوضوية في تلقي المصطلحات وترجمتها وقد يكون للمصطلح اكثر من تعريب او ترجمة او نقل. ولو وضع للمصطلح مجمع او مركز معلومات وطلب من ذوي الشأن والمهتمين بشأنه الوفود اليه والانطلاق منه، ولقد كان المصطلح ولايزال اشكالية المشاهد الفكرية. ثالثاً: التشرذم الفكري والسياسي والادبي والثقافي والدخول في مآزق الصراع والتنازع، والمشاهد المضطربة بحاجة الى جهود جماعية توسع ارضية القواسم المشتركة وتسهم في التقليل من حدة التنازع. ولقد فعلها الامير الشهم خالد الفيصل بمبادرته الانسانية «مؤسسة الفكر العربي». والامل معقود على لداته وامثاله ليهتبلوا مبادرات مماثلة تسهم في لم الشمل وجمع الكلمة ورأب الصدع والعودة الى مرجعيات الحضارة الاسلامية والانطلاق منها فهي وحدها القادرة على معالجة المشاكل القائمة.. ولقد طاف المفكرون العرب في كل آفاق المعرفة، وجربوا كل المبادئ فكانت القوميات والعلمانيات والحزبيات ولم يبق الا ان ينسوا جراحات الماضي ويفتحوا صفحة جديدة تسهم في تضميد الجراح وجمع الكلمة ولا احسبهم جميعاًً الا صفوة الصفوة ولن تجتمع كلمتهم الا على مصادر الثقافة والحضارة الاسلامية فهي وحدها القادرة على تلافي ما فات. تحية حب وتقدير للضيف العزيز وشكر وثناء لمن ناب عن الجميع في تكريم كفاءات الوطن العربي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:45 PM | #191 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
قل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة..!!(2/1)
د. حسن بن فهد الهويمل الحالة الراهنة في الوطن العربي حالة استثنائية قلقة، لا تحتمل أنفاساً كريهة، ولا تنقيباً عن نوَّم الفتن، وإنما تقتضي تحامي مناطق التماس، وتوقي مكامن الإثارة، وتحتم استدعاء القواسم المشتركة، والعمل على تقوية الروابط من خلالها، والعفو والصفح، وتجافي المحظور والمسكوت عنه، والكف عن النيل من أقوام بأعيانهم، تغليباً للمصلحة المرحلية، ولماً للشمل. ومثل هذه الظروف الضاغطة مجال خصب للانتهازيين، الذين يبيّتون مالا يرضى من القول. وحين يجازف الفارغون من فقه الواقع، والمفتقرون إلى أدنى حد من الثقافة الشرعية في اقتحام الحمى، والخلط بين مواجهة المبادىء والإجراءات والوقوعات، ينتفض الرأي العام، المحتقن من ضغوط الواقع، وينتقض غزله، ويتفكك ترابطه، متصورا أن مثل هذه المفرقعات الفارغة قادرة على تحويل المسار، وما هي في حقيقة الأمر إلا تجشؤات من فراغ، لا تقدم، ولا تؤخر ولكن كيف يتأتى لك إقناع الرأي العام، وتبشيره بطول السلامة كما «مربع»؟ وفي ظل التداعيات المزعجة، يحس المقتدر أن التوتر وردود الفعل الانفعالية قد بلغت حداً لا يحسن معه السكوت، ومن ثم وجبت الموعظة: إما للهداية، أو للمعذرة، على حد {مّعًذٌرّةْ إلّى" رّبٌَكٍمً وّلّعّلَّهٍمً يّتَّقٍونّ} ومع هذه الزوابع الكلامية، التي تكاد تحجب الرؤية، ترددت كثيرا في مقاربتها، لأنها زوابع متربية، اختلط فيها الجد بالهزل، والحق بالباطل، واللغو بالسَّبِّ، ومما صعد الشعور بالتردد أن تجربتي مع ذات الكتبة البائسين بؤس مراميهم تجربة سيئة، لا تشجع على مزيد من المقاربات، غير أن ترك الثنيات يتسلل منها الخائضون في سمعة الأبرياء والمتحرشون بالمبادئ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إغراء بمزيد من التجاوزات، وكم كان بودي توفر الأجواء المناسبة للحوار المهذب، لنصل بقضايانا إلى بر الأمان. ومما حفز على القول تنادي الأشباه والنظائر، واتخاذ بعضهم بعضا ظهرياً لمنع المدافعين عن أنفسهم، على الرغم من لغطهم بحرية الرأي، وتكافؤ الفرص، وذلك عين المقت. ومع كل المحاذير والتحفظات، يظل رد المسيئين لغيرهم من الأناسي والقضايا على أعقابهم واجباً عينياً لا كفائياً، وبخاصة حين تمتد الأذية للمبادىء. وإذا قوي المرتاب بارتيابه، فإن على صاحب اليقين ألا يضعف بيقينه. ومتى بادر المهتاج الأعزل إلى النيل من قناعات المقتنع مبتدئاً تعديه، ولم يتهيب من جرح المشاعر، وكان المتأذي قادراً على دفعه، تعين ذلك، ولكن بالتي هي أحسن، دون الإحالة إلى ما يسيء إليه، ودون النفي المتعمد له، أو مصادرة حقه في البرهنة عن وجهة نظره، إذ إن مطارحة الأفكار حق مشروع، ولا يتحصحص الحق إلا بالحوار المتوفر على برهانه وآدابه ودواعيه المشروعة. مع استشعار أن الخطأ ابتداء، لا يحمل على الإدانة. وأن الإصرار عليه بعد ما يتبين وجه الصواب، يقتضي ممارسة الحق السلطوي، فالناس لا يستقيم أمرهم مع الفوضى. ومن تصور أن حرية الرأي تبيح الخوض في كل شيء، والإيغال في أعراض الآخرين، وجب تعليمه بالطريقة التي يفهم من خلالها. فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم ومن مات، وليس في رقبته بيعة، مات ميتة جاهلية، وتحمل البيعة تحمل لتبعاتها، ولهذا سميت الولايات بالسلطات، والإيمان بالعقيدة وهي عقد. والواقع في الخطيئة: جهلاً وتأولاً وتعمداً وإصراراً، للمجادلة معه ثلاث حالات: فإما أن يكون طالب حق، لم يهتد إليه، ومن واجب المجادل أن تهديه سواء السبيل. أو يكون طالب باطل مصراً عليه، مدركا خطورته أو غير مدرك، ومسؤولية أهل الذكر والحل والعقد أن يبينوا له خطورة مطلبه، فإن امتثل وإلا وجب على السلطة رده إلى الجادة. أو يكون عاشق أضواء، يريد ان يكون حاضر المشاهد، وحديث المجالس، متقناً انتهاز الفرص المواتية، مستغلاً الظروف العارضة، وواجب الناصحين أن يخاطبوا الدهماء الذين يخلقون بالتفافهم حوله بطلاً زائفاً لا قيمة له، لينفضوا من حوله. وأيا ما كان الأمر، فإن طائفة من الكتبة يتقنون لعبة الإثارة والقفز إلى بؤر الأضواء، وليس يعنيهم ما يقال بحقهم، ومثل هؤلاء لا يتورعون من الرتوع في الأعراض المصونة، ولا يعفون عن العناد والتعدي والإيذاء، لفقدهم المثمنات واستسهالهم الهوان، والمتعقب لما تتداوله صحف الإثارة من اندفاعات فجة في الدين والسياسة والفكر والأدب والثقافة ينتابه الخوف. فالمشاهد حفية بكل متقول لا يهاب يوم الحساب. ومشاهد الفكر والسياسة والدين لا تصلح فوضى لا ضابط لها، وتقحم الجهل والمبتدئين ، وأنصاف المتعلمين، ومثقفي السماع إرباك لمسيرة الحياة الفكرية، والواقعون تحت طائلة الأمية التخصصية، يهرفون بما لا يعرفون، ويعولون على نخبوية خاوية، وفهم سقيم للحرية. والمشاهد الإعلامية لا تخلو أبدا من أناس يستعذبون إثارة الرأي العام، وشد انتباهه، وإرباكه، وذلك بالخوض في مسلماته، دون مصلحة مرجوة، كما لا تخلو من دعاة على أبواب جهنم حذر منهم رسول الهداية. والموغلون في المواقع الحساسة، يعرفون حجم الإساءة، ولكنهم ك «الساديين »الذين يلذ لهم التعذّب والتعذيب، والخطورة أنهم كالمستهمين على السفينة، إن تركوا يخرقون في نصيبهم غرق الجميع. والمهتم بالمثمنات والقيم، يسوؤه أن يخوض فيها من لا يقدرها قدرها، ومن لا يقتدي برسول الهداية واللين والرفق، المراعي للرأي العام، المتجنب لإثارته، والمبقي على المفضول إيثاراً لتهدئة الأمور، وقد فعلها بأبي هو وأمي، حين دخل مكة. والذي لا يعرف خطورة الإثارة، ولا يخشى عواقبها، يظل ناقماً ومنقوما عليه، ولما يزل تتخطفه صحافة الإثارة وقنوات الضرار، معولة على حرية التعبير، وحرية التعبير تتحقق فيما دون القطعيات والثوابت، وفيما دون المعلوم من الدين بالضرورة، وبئست حياة يكرهها شهود الله في أرضه، ويكرهون انبعاثها، وكفى بالمرء عيباً ألا يعرف حدود حضارته، التي هي في النهاية حدود الله، ولا يمكن تصور حضارة أو سلطة بدون خطوط حمراء، ومن تصور الحضارة والحرية بدون حدود فقد ضل سواء السبيل. والتعدي على الحرمات تحت مظلة الحرية، تحفز المهتمين بأمر الجماعة إلى ركوب المكاره، وليس ما أكتبه قصراً على من قال في شأن «الدعوة والدعاة» بغير علم، ولكنه تصد لظاهرة تزداد يوماً بعد يوم، باسم حرية التعبير وحقوق الإنسان، كما تراها الحضارة المادية والمفوضون إلى العقل. وما أكثر الكتبة الذين يخوضون في قضايا الدين، ويتجرؤون على الفتيا، وينصبون من أنفسهم قادة فكر وأهل ذكر، ولما يعرفوا النص واحتمالاته: الدلالية والثبوتية، أو قطعيتها، ولا قواعد الفقهاء وآلياتهم الاستنباطية، وليس لهم من شفيع إلا أنهم حملوا الشهادات العالية، أو تذبذبوا بين الإيغال في الدين والسياسة بدون رفق، ثم نكصوا على أعقابهم، وبهذا الاضطراب أو الجهل فرضوا أسماءهم كتابا مسموعين، وهم أجهل الناس فيما عدا رسيس تخصصاتهم، وأقلهم وعياً بنواقض الإيمان، ومقتضيات الحضارة التي ينتمون إليها، وأضعفهم فقهاً للواقع. ولهذا تراهم يثورون، ويثيرون، وحين تناصحهم، وتبين لهم إن الذي قالوه محض افتراء، وفرضيات مؤذية، وتعد على الثوابت، يتحرفون لمقولات جاهزة، كالتجهيل والوصاية والمزايدة، ويتحيزون لمشايعيهم كشاعر غزية، معولين على رغبتهم في الإصلاح، وما هم بمصلحين، فالمصلح الناصح يتثبت من الأنباء، ويتبين دقائق الحقائق، ويتحامى إثارة الرأي العام. ولقد شهد أحدهم بمحض إرادته، معترفاً بمئات الاتصالات، وعشرات الكتابات الناقمة عليه، فهل كل هؤلاء البرمين من التعدي والتجني جهلة، وهو وحده العالم النحرير، والناصح الأمين؟ ولقد سبق لي أن أشرت من قبل، وأنا بصدد الرد على ذات الكاتب إلى من لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يعرفوا ثوابت حضارتهم ومتغيراتها، ومن يغطون افتقارهم متظاهرين بالتشبع بالعلم الشرعي عبر سياقهم لقاعدة فقهية في غير محلها، أو حكماً شرعياً على غير وجهه، أو حادثة عارضة أو دليلاً لا يصح. والأسوأ من هذا وذاك: اختلاف المفاهيم حول حدود الحرية، ومجالات الاختلاف، وحق الاجتهاد. ومن فاته الركب تعجل في اللحاق به عن طريق الحديث عن المسكوت عنه، معللاً تسلقه محاريب العلم الشرعي بحرية التعبير وحق الاجتهاد. والعلماء الناصحون يعرفون حقهم في القول، وحق حضارتهم التي ينتمون إليها، وتأبى كرامتهم أن ينالوا منها، تحت تأثير الحضارات المهيمنة، وأخص خصائص الحضارة «الحكومة المدنية المسلمة» و«الدعوة إلى الله» {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ} ، ومن قال بالاستغناء عن الدعوة، تعويلاً على إسلاميته أو فطرته، فهو إما جاهل أو مكابر، وكيف يتأتى له ما يريد، والقرآن الكريم استنفر من كل فرقة طائفة، للتفقه في الدين، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، وجعل الذكرى تنفع المؤمنين. والمستبرئون لعرضهم ولدينهم هم الذين إذا قاربوا قضايا الدين، حرروا مسائلهم، وحددوا مواقفهم، وأحكموا آراءهم، وفصلوا مقاصدهم. والمخفون من المعارف يعتمدون على الإطلاق والتعميم، لكي تكون أقوالهم حمالة أوجه، وما هي إلا حمالة الحطب. وإذ يكون الاجتهاد مطلبا إسلاميا، وحقاً متاحاً، يكون من أوجب الواجبات، أن يعرف المقارب له، أنه ممارسة علمية، وأن من ضوابطه: أن يملك المجتهد شرط الاجتهاد، وآلياته، ومتطلباته المعرفية. وعلماءالأصول ذكروا ذلك، وحدودا مجالاته وآلياته وشروطه، ومواصفات المجتهد، ومن أطلق مقولة: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد». ثم أتاح الاجتهاد لكل أعزل من معرفة، وخال من ورع، فقد ضل ضلالاً بعيدا. وفوق ذلك، إن الاحتهاد لا يكون إلا في النصوص الحمَّالة. والزمن المأزوم زمن مؤسسات ومجمعات فقهية، تنظر في النوازل، لا زمن مبادرات فردية، وذهاب كل متقول بما اختلق، فذلك مؤذن بالتنازع، وفقد للاعتصام بحبل الله. والاجتهاد: مطلق ومقيد، من حيث الإجراء والممارسة. ولهذا يقول الأصوليون: «لا اجتهاد مع النص». والذين يتداولون مصطلح (النص) ثم لايعرفون تعدد دلالاته بتعدد الحقول المعرفية والفترات الزمانية والمذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية وبالذات مفهومه عند السلف، يتصورون أن السلف يمنعون الاجتهاد مع وجود أي نص، حتى لقد ظهرت مصطلحات «العقلانية» و«أهل الرأي» و«الظاهريين» و«النصوصيين» مع أن كل هذه الطوائف تستخدم العقل والفكر، ولكن بطرق متفاوتة، وفات المتقولين على السلف. أن «النص» الذي ليس معه اجتهاد، يعني القول الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة، مثل «لا إله إلا الله» فهذا نص لا يحتمل إلا دلالة الوحدانية المتفردة، ومن اجتهد في تحميل النص دلالة «تعدد الآلهة»، فقد خالف القاعدة «لا اجتهاد مع النص». ويقال مثل ذلك في أمر «الدعوة إلى الله» و«الحكومة الإسلامية»، والله يقول: {أّفّحٍكًمّ الجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ} و{وّأّنٌ احًكٍم بّيًنّهٍم بٌمّا أّنزّلّ اللهٍ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قٍلً هّذٌهٌ سّبٌيلٌي أّدًعٍو إلّى اللهٌ عّلّى" بّصٌيرّةُ أّنّا وّمّنٌ اتَّبّعّنٌي}. ويقول: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ} و{وّذّكٌَرً فّإنَّ الذٌَكًرّى" تّنفّعٍ المٍؤًمٌنٌينّ} و{وّادًعٍ إلّى" رّبٌَكّ} و {فّلٌذّلٌكّ فّادًعٍ وّاسًتّقٌمً} و{وّلًتّكٍن مٌَنكٍمً أٍمَّةِ يّدًعٍونّ إلّى الخّيًرٌ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ قّوًلاْ مٌَمَّن دّعّا إلّى اللّهٌ}. }. ومع أن الدعوة سبيل المؤمنين، وأحسن القول، ولا مجال للجدل حول مشروعيتها، فإننا نسمع، ونرى مجازفين، يغثونك بتقولات غير مسؤولة، وتعميمات غير محددة، لا يحكمون، ولا يفصلون، بحيث يزيلون اللبس، ويمنعون عن أنفسهم قالة السوء، ويحولون دون البلبلة، وتصعيد العداوات. ولهذا تراهم يخلطون متعمدين أو جاهلين بين المبدأ والتطبيق. فالدعوة مبدأ، وهو أحسن القول بشهادة الله، والتطبيق ممارسة بشرية لها وعليها، ولكن لحن القول، وتوجيهه يطال المبدأ، كقول أحدهم: «وتساعد المناهج نفسها هؤلاء على أن يكونوا دعاة» إضافة إلى خروج الكاتب من التعليم إلى برامج وزارة الشؤون الإسلامية ومعارضها ومهرجاناتها، وإلى شركة الكهرباء وإسهاماتها. ولو أنه وقف حيث يكون خطأ التطبيق لحمد الناس له ذلك، وأذعنوا له، ولاسيما أننا نعاني تجاوزات مشهودة، ومعاشة في التطبيق الدعوي. والوزارة المعنية لما تزل تتعقب كل مخالف لمناصحته أو منعه. وإذ لا يخلو أي مجتمع من نوعيات تتقن لعبة الإثارة، فإنك لا ترى هذه النوعيات إلا حيث تكون الريبة، متكئة على آراء في غاية الفجاجة والاستفزاز والتسرع، منقبة عن المسلمات، موغلة في المتشابه، غير متحرجة من موضعة كل شيء، متقحمة أي محظور متناغمة مع الحرب المشبوهة على مناهج التعليم في المملكة، معطية للمتربصين بنا فرصة ذهبية، مقدمة شبهة يلتمسها أعداء الأمة. وهل بعد القول: «فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية، فلا تدرس مادة اللغة الانجليزية مثلا لذاتها بل لتكون وسيلة للدعوة الى الله» من تجن مؤذ.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:45 PM | #192 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
فداحة الحدث.. ومتاهة التأويل..!!
د. حسن بن فهد الهويمل لقد وقعت الواقعة، واستطاع الخارجون على الشرعية والمشرعنون للفوضوية والوجود الأجنبي أن يفجروا ما بقي بأيديهم، وأن يستغلوا ما بقي لهم من وقت. فكان أن هدمت بيوت، وأزهقت أرواح، وأحرقت ممتلكات، واختل أمن، وذعر الناس مما وقع، ومما هو آتٍ. وما علينا عند الصدمة الأولى إلا الصبر والاسترجاع، لنكسب الوعد الصادق بالصلوات والرحمات والهداية. وكالعادة أعقب ذلك الدوي دوي إعلامي موازن، انطلقت به الحناجر، وسالت به أنهر الصحف، تروي ما حصل، وتشهد بما سمعت، لا بما رأت، وأقبل المحللون والمعللون والمعلقون والمتنبئون يخبطون خبط العشواء، ويقرؤون الحدث قراءة متسرعة أو غير بريئة، فكل يحيل إلى أهدافه وغاياته وتصوراته، ويسترفد خلفياته المعرفية، ويوظف الحدث لتكريس رؤيته، محملاً الوطن ومؤسساته مسؤولية ذلك ووقف أهل الشأن في ذهول، عينٌ على الحاضر، وأخرى تستشرف المستقبل، ويد على الصدر، وأخرى تلزم الرأس المصاب بالدوار. فالحدث جلل، والنار من مستصغر الشرر، ومن استخف بما حدث، هيأ نفسه لما هو أدهى وأمر، وإن كانت البلاد وأهلها يحتمون بعز الله الذي لا يضام وبعينه التي لا تنام. وحدث كهذا لا يُحسم بثورة كلامية، تلامس أطراف القضية، مكتفية بالتجريم والتخوين والتخمين، وإنما يواجه في الحفر العميق، والتفكيك الدقيق، وتقصي خلفيات اللعب وفلولها، والمؤامرات وذيولها، والتخطي إلى الحواضن الحقيقية التي نسل منها المنتحرون، من شباب غسلت أدمغتهم، وذرعوا فجاج الأرض الواسعة في عمليات قتالية باسم الجهاد: تارة في أفغانستان وأخرى في البلقان، وثالثة في الشيشان، ورابعة في العراق، فكان أن تحولوا من آدميين إلى دمويين. والحدث العصي على التصور والاحتمال لا يتخلص من ذيوله بالإحالة على مؤسسات البلاد ورجالاته، وإنما يصار إلى معرفة النشأة الأولى، ومن وراءها من دول وساسة و(لوبيات) و(ميكافيليات) حولت العالم الثالث إلى مقاتل أجير. إننا بحاجة إلى أن نجوس خلال (أفغانستان) و(باكستان) و(البوسنة والهرسك) و(الشيشان)، وأن نتعرف على الجماعات والتنظيمات القائمة والمنحلة، هنا وهناك، وأن نخبر القيادات الدينية والحركية، التي تقاطرت من كل فجاج الأرض إلى بؤر الصراع العالمي، موظفة إمكاناتها لمن يدفع أكثر، ومن ثم هيئت لها الأجواء للتدريس والتأليف والتنظيم والقيادة، وفتحت لها الخزائن، وجمعت لها التبرعات، والتطمست أفكارها على مسمع ومرأى من كل الدول الكبرى، بوصفها اللاعب الرئيس، وبهذا الاستشراف لا يكون الحدث الرهيب وليد اللحظة، وليس صناعة محلية، إنه حلقة في سلسلة أحداث مماثلة، وقعت في بقاع كثيرة من العالم، وعلى فترات متباعدة، وليس من الحصافة أن ندين أنفسنا ومناهجنا وقادة الفكر في بلادنا، لنتعرض لتفجير داخل التفجير، ونمزق أنفسنا بقدر ما مزقت العبوات شواهق العمارات. والفضوليون الفارغون لا يتورعون من التأويل الجائر، ولا يتهيبون من إحداث تصدع الجبهة الداخلية، ومن ثم يلقون الكلام على عواهنه، ولا يظنون بذويهم خيراً. والعمليات الانتحارية المنظمة لا تحركها تربية أمة، ولا تصنعها مناهج دولة، وإذا أحلنا عليها ما نلاقيه، أو أحاله المتنفسون من تحت الماء، فلمن نحيل تفجير (فندق ممباسا) و(منتجع بالي بإندونيسيا) و(سفارات أمريكا في كينيا وتنزانيا) و(مركزالتجارة العالمية في نيويورك) و(سفينة كول في عدن) و(عمليات الدار البيضاء) قبل ثلاثة أيام وعشرات العمليات المجهضة قبل التفجير، وفوق هذه كلها (أحداث الحادي عشر من سبتمبر) لماذا نساير الأعداء في توجيه الاتهام إلى مراكزنا ومؤسساتنا، ومن رام الإصلاح وهو حتم فليضع التصور، ولا يكتفي بالاتهام الجائر، ومن أحال إلى مناهج التعليم في البلاد، فقد غفل عن رؤوس الفتنة القابعين في الأدغال والكهوف. ولغط المتحاملين يزيد في العنف بسطة، ومن واجب المترفين ألا يظاهروا أعداء الأمة باتهام التعليم. إن هناك حلقة مفقودة، لما نزل بحاجة ماسة إلى العثور عليها، وما لم نواجه الحدث برمته، بوصفه ظاهرة عالمية، لا مفردة زمانية ومكانية، فإننا سنظل نفتح ملفاً ونرفع آخر، ونزيد في حجم الكيانات المناوئة وتعددها. ولست ممن يتوقع حسم الشر، ولا ممن يصر على تزكية الذات، ولكنني ممن يسعى لتحديد مصادر الشر ومحاصرته، والعودة به إلى حجمه المعقول، فالجريمة في سباق مستحر مع المكافحة. وتعرض البلاد لمثل هذه الممارسات المتباعدة زمناً، والمتشابهة حدثاً، تتطلب رد العجز على الصدر، وقراءة الأحداث منذ النشأة الأولى، واستجلاء كل الآراء، واستدعاء كل القراءات، واسخدام المجسات والمسابير في كل الأحداث المماثلة في الشرق والغرب، واستبعاد واحدية المصدر، فالذين يحيلون على الداخل، ويجعلون الحدث منتجاً محلياً له أسبابه ودواعيه المحلية، ويغفلون عن اللعب والثارات، وتعارض المصالح، ومحاولة إرباك الخصوم، والحيلولة دون نفاذ التسويات السلمية، يفوتون على أنفسهم مؤشرات مهمة، والذين يستبعدون أحداث فلسطين، وأفغانستان، ولبنان، والسودان، والصومال، وإيران والكويت، والعراق، والجزائر، وسقوط الاتحاد، وسباق التسلح، وصراع الحضارات، والتنظيمات المفككة، والحركات المطاردة، وفلول اللعب ترم جروحهم على فساد، واعدة بانفجار جديد. لقد طالت المواجهات الإرهابية أقوى دول العالم عدة وعتاداً، وأقدرها تحرياً ورصداً، وأمضاها هيمنة وسلاحاً، فهدمت أبراجها الاقتصادية، وقوضت معاقلها العسكرية، ولما يزل الحدث الجلل أخفى من دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في ظلمة الليل. ومهما حاول الإعلام العربي والمتنخوبون بكل ما هم فيه من ريبة تحديد الفاعل ومقاصده، فإن المسألة تظل حمالة أوجه، وستظل أكثر انغلاقا على الأفهام من قتل الرئيس الأمريكي (جون كندي). لقد طاف الباحثون بالعمليات الانتحارية على كل الطوائف والتنظيمات والديانات والعرقيات، وكل قوم ينفون علاقتهم بها، ويقدمون الشواهد، وينضمون إلى فريق التصدي، وقد يقدمون بين يدي إثباتهم ضربة وقائية، ليبرهنوا عن صدق مواجهتهم للإرهاب بمفهومه الغربي. ولم تتريث أمريكا المجروحة حسا ومعنى، حتى يتحصحص الحق، بل بادرت إلى فرضيات متسرعة، وضربت ارضا محروقة وشعباً منهكاً، وصدَّق الناس مقولتها، ومضى كلُّ إلى غايته، وبقيت الضارة كما هي، تنام حتى يأمن الناس، فإذا غفوا أخذتهم بغتة، وهم لا يشعرون، والمتوقع أن يتسع انتشارها، لأنها مارد انطلق من قمقمه، وعلى المستهدفين أن يقعدوا له كل مرصد. ولهذا وتلافياً لما هو حاصل بالفعل فإن المواجهة الانفعالية، وتبادل الاتهامات، وانتهاز الفرص، لإعادة الخطابات الفئوية، وتصفية الثارات، لا تحسم الإشكالية، بل تزيد في استفحالها. إن الحدث خطير، ومدان بكل المقاييس، ولن يلتمس له عاقل أي عذر أو مبرر، وقد قالها (الأمير عبدالله) ليلجم أفواه كل الأضوائيين والانتهازيين، فالأنفس المسلمة معصومة بإسلامها. والأنفس الأخرى معصومة بذمة ولي الأمر التي أعطاها، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، فما بالك بأعلاهم، ومن قتل ذمياً لم يرح رائحة الجنة، ومن آذى ذمياً فقد آذى رسول الله، والذين يؤكدون بأفواههم من مواجهة أمريكا، هم الذين شرعنوا لها الوجود، والذين يواجهونها اليوم، هم الذين خدموها بالأمس. وإذ يكون الحدث ماثلاً للعيان بالأشلاء والأطلال فإن الأدمغة المدبرة والأصابع المنفذة لما تزل غائبة، والأجهزة الزمنية تركض وراء الخيوط، التي قد تلتاث في منتصف الطريق. ومما لاشك فيه أن هناك أسباباً، وحواضن، وأطرافاً تحلم في أن تجني من الشوك العنب. ومن الحصافة أن يسعى المعنيون إلى تقصي الإشكالية، ووضع الحلول، لتوقي ما بقي من شرورها، والمؤلم أن العالم الإسلامي لما يزل مجالاً لتنفيذ اللعب الكونية، عليه غرمها، ولغيره غنمها. والسؤال الأكثر إلحاحاً: من جمَّع هؤلاء؟ ومن صاغ أذهانهم، ودرب أجسامهم؟ ومن خطط لهم، وأعطاهم المال والسلاح؟ ، وعبر أي المنافذ دخلوا بما معهم؟ وأين رأس الحية المدبر؟ ولماذا لم تصل إليه اليد الأقوى مضاء، يد أمريكا المستهدفة مصالحها؟ لقد وضعت في أولويات مهماتها في (أفغانستان) و(العراق) الوصول إلى الرؤوس المدبرة أحياءً أو أمواتاً، ولكنهم جميعا لما يزالوا مجهولي المصير. ويمضي لهاث الأسئلة الحائرة: لماذا تطالنا الأذية من أيد آثمة، من بينها أيد سعودية، خرجت من ديارها، نظيفة الفكر، سليمة العقيدة، تحت مظلة الجهاد الذي باركته أمريكا، لتعود إليها بعد أن تضلعت من الشر، ممارسة أبشع الأعمال وأجرمها؟ وهل هذا العمل الإرهابي بتدبير خارجي، ومن أجل أهداف سياسية عالمية، أم هو بتدبير داخلي، ولأهداف محلية؟ وهل العمليات لمواجهة السياسة المحلية، أم أننا مجرد ساحة لمواجهة الآخر؟ بلادنا أبعد الدول عن المواجهات الأهلية والحروب الداخلية، وما يحصل من عمليات إرهابية، لا تعدو أن تكون تصفية حسابات، وعلينا ترتيب مواقفنا على ضوء ذلك، ومن أحال إلى غير ذلك فقد أسهم في تعميق سذاجتنا. والتفجير البشع الذي رمَّل ويتم، وقتل الوحيد والحبيب، استهدف مواقع معينة، والمؤشرات تؤكد أن التدبير خارجي، وأن الأهداف سياسية عالمية. والمخططون المنفذون ليسوا ناتج مناهج، ولا سلالة حلقات ولاجماعات، إنه عنف دولي منظم، لا يقدر عليه أفراد بمفردهم، وإذ وقع الفأس على الرأس، فإن علينا مواجهة التداعيات. لا الوقوف عند الوقوعات، وعلينا استثمار الحدث وتداعياته، وتجويد مواجهته، إذ إن كل حدث له آلياته المناسبة له، وليس من المصلحة الاهتياجات والانفعالات، وتبادل الاتهامات. وفي ظل متاهات التأويل: هل نبادر من باب الوقاية إلى تحصين حدودنا، بحيث لا تتسرب الأسلحة، ولا يتسلل المنفذون، أم نحصن أبناءنا، بحيث لا تشكل ذهنياتهم على غير مراد الله؟ وهل من خيارات أولية أو ثانوية تسبق هذين الخيارين؟ وهل المواجهة وقف على (وزارة الداخلية)، أم أن هناك جهات أخرى، يجب أن تشارك في المواجهة أو في الوقاية؟. إن هناك سطواً حسياً على الأرض، وسطواً معنويا على الأفكار، ولابد من تحرف سديد لصد السطوين، ومن ثم لابد من التأسيس لحوار شمولي، تلتقي حوله كل الأطراف، ويعرف المتحاورون مشروعية الرؤى، وحدود الحريات، ومقتضيات الانتماء، ومجالات الاجتهاد وأهليته، وليس من الحصافة أن نربط الإصلاحات الشاملة والضرورية بما نلاقيه من أحداث، فالإصلاحات السديدة لا تحركها الاهتياجات العاطفية، وقد ألمح إلى شيء من ذلك خادم الحرمين الشريفين في خطابه التاريخي يوم السبت، مؤكداً على حتمية المراجعة الذاتية، مستبعداً أن تكون محاولات الإصلاح استجابة لضغوط خارجية، مؤكدا على الخطاب الوسطي المعتدل، مناشداً علماء الشريعة النهوض بمهمتهم الجسيمة. إن ما بعد الحدث أشد وأعتى من ذات الحدث، وأشلاء المعنويات أخطر من أشلاء الحسيات (والفتنة أشد من القتل) وتعميق الاضطراب في قراءة الحدث أشد بلاء من عقابيله الحسية، فلكم لقيت من يسأل عن الأسباب والدوافع، وعمن يواجهون أمريكا لذاتها، ثم لا يجدون إلا أرضنا مجالاً لمواجهتها، أهم ضد وجودها في أرضنا؟ أم ضد نفوذها في مشرقنا العربي؟ وإذا كان وجودها في مشرقنا مؤذياً، فإن وجودها على أرضنا لم يكن طارئاً، بحيث يستفز أحداً من الناس. لقد عاشوا في أرضنا أكثر من سبعين سنة، ينقبون في الصحاري الشاسعة، لا يرافقهم إلا أدلاء من الأعراب العزل، يستنبطون كنوز الأرض، يأخذون، ويعطون على قدم المساواة، وما سيء لأحد منهم، فضلاً عن أن يُغتال، ولقد عايشناهم في أحلك الظروف، ظروف المد الثوري الاشتراكي، وظروف الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وما شكلوا عبئاً على خطابنا السياسي، ولا على مركزنا الإسلامي. وعلينا ألا نسلم للخطابات المجتثة من فوق الأرض، خطابات الإحالة على الإسلام بوصفه مصدر الإرهاب أو الإحالة على المواقف السياسية بدعوى استسلاميتها، أو الإحالة على المناهج تناغماً مع اللوبي الصهيوني. العنف والإرهاب حسب مفهومه الإسلامي لا جنسية له، ولا وطن، ولا عقيدة، ولا زمان، وما اغتيالُ (عمر) و(عثمان) و(علي) إلا ذروة الإرهاب. والصهاينة في فلسطين يمارسون أبشع العمليات الإرهابية. إننا أحوج ما نكون إلى تحديد المفاهيم، وتجويد التأويل، وحفظ التوازن، والأخذ بالوسطية، وعدم الانتقال من لغة التفجير إلى لغة التفريق. والانتهازيون الذين يحددون طائفة أو عقيدة أو قبيلة أو بلداً أو منهجاً أو فئة بعينها، يزيدون في ارتكاس الأمة في الفتنة، المسألة شائكة ومعقدة، ومن اليسير تكثيف المطاردة والوصول إلى طائفة من الفعلة، وتنفيذ الحكم الشرعي بحقهم، ولكن من الصعب جداً حسم المشكلة، متى استمرأنا تعميق الاختلاف حول قراءة الحدث. إننا بحاجة الى نظرة شمولية، ودراسة مؤسساتية متقصية، ومواجهة صريحة، ومعالجة حاسمة، وتستشرف الواقع العالمي وتحولاته السريعة، وتتوقى بؤر التوتر في العالم، والمسألة في النهاية بقايا لعب، كما الألغام التي يمر بها الغافلون. ولأن أمريكا ضالعة في أمور كثيرة، فإنها مستهدفة عالمياً، وهي تعلم ذلك علم اليقين، وهي تعلم أن الذين يتربصون بها هم بقايا صنائعها، واستهدافها لا يقتصر على أن لها وجوداً غير شرعي في المملكة، ولا لأنها تهيمن على مصادر الثروة البترولية في البلاد، فوجودها وفق معاهدات دولية، يملك الطرفان حق التصرف فيها، وقد فعلتها المملكة بإنهاء الوجود العسكري بانتهاء دواعيه، والثروة البترولية بيد أصحابها، وقد فعلتها المملكة حين اشترت أسهم الشركة الأمريكية وسعودتها، والثروة خاضعة للعرض والطلب، ونحن أحوج إلى الأسواق من الأسواق إلى خامنا. والدولة مسلمة سلفية، وأمريكا رأسمالية علمانية، وليس هناك تأثير على الثوابت، بحيث يأنف الإسلاميون الذين يحال إليهم كل فعل. ووجود امريكا في البلاد حسياً أو معنوياً ليس له تأثير على القرار الداخلي، أما هيمنتها على العالم في قراراته الخارجية وخروجها على الشرعية فأمر لا يخص المملكة وحدها. وحين يتأفف البعض من وجودها الحسي فإنها متوغلة في كل بلاد الدنيا: مدنياً وحضارياً وصناعياً واقتصادياً. وحين لا أبرىء أحدا بعينه من الحماقات، فإنني لا أريد التخلي عن الإسلام والأسلمة، لمجرد أن طائفة من المسلمين ضلت الطريق، والخوارج في صدر الإسلام وبخاصة (الأزارقة) منهم كان لهم عنفهم وصلفهم وغلوهم ودمويتهم، ولم يفكر معاصروهم بإعادة النظر في إسلامهم، على أن الواقع المعاش مختلف جداً، إن علينا أن نفكر باللعب وبالثارات، وصدام المصالح ليس غير. والمواجهات الإرهابية مواجهة مع أمريكا، يتخذ خصومها مواقع عدة في العالم، والمملكة قد تكون واحدة من تلك المواقع. وعندئذ لا يكون التفجير حدثاً مرتبطاً بالسياسة المحلية، وليس منتج تربية وتعليم، وليس منتجاً محلياً، إنه وافد على أرضنا. وإذا شارك بعض أبنائنا في العمليات الانتحارية في المملكة أو خارجها، فليس معنى هذا أن نكون مصدر إرهاب، فهم قد خرجوا من ديارهم سلفيين وعادوا إليها، وهم إرهابيون. ولو سايرنا الجهلة والمتسطحين لقطعنا بإرهاب أربعة ملايين مواطن، وهم مجموع طلابنا، إن علينا مواجهة الحدث بأسلوب لا يقف عند تبادل الاتهامات، متناسياً أبعاده العالمية ودوافعه المتعددة. أمريكا ضالعة في كل اللعب، منتشرة في كل الآفاق، مؤثرة على كل المصالح، وليس بغريب أن تضرب مصالحها، وأمريكا تعرف أن مواجهتها ليست مواجهة بين (الكفر) و(الإسلام). ومثلما دعمت الجهاد لإسقاط الاتحاد، فإن هناك من يدعم جماعات التكفير والأصوليين لرد الصاع صاعين، وعليها وعلى المتساذجين المغثين بهمزهم ولمزهم أن يقرؤوا الخطاب العالمي بعيون ثاقبة، وأن يعرفوا اللعب واللاعبين. والبأس كله أن تتجاهل أمريكا هذا الواقع المؤلم، والأشد بأساً أن يقع النخبويون في مأزق التضليل ومتاهات التأويل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:46 PM | #193 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
قل : هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة «2 /2»
د. حسن بن فهد الهويمل وإذا كان الكاتب ينقم على طائفة من المدرسين - وذلك حق، يتطلب البينة- فلماذا يربط بين (الدعوة) و(الضعف)؟ ويقحم أطرافاً أخرى، ويمتعض من امتثال أمر الله {وّلا تّقٍولّنَّ لٌشّيًءُ إنٌَي فّاعٌلِ ذّلٌكّ غّدْا، إلاَّ أّن يّشّاءّ اللهٍ}. ويتجاهل قول الله عن عيسى عليه السلام: ترديده (بإذن الله) في النفخ والإحياء والإبراء؟ وعيسى يعلم ويؤمن أن الله خالق كل شيء، وليس عنده نقص في الفقه. إن لحن القول كله، يحيل إلى مواجهة الدعوة، لا مواجهة أخطاء الدعاة، ومواجهة أسلمة المناهج، لا العمل على تفعيلها. وفي ذلك مسايرة لحملات التشويه. وعليه أن يعيد قراءة ما كتب من قبل. وبصرف النظر عن ركاكة التعبير، وضحالة التفكير، وسوء التوقيت والتقدير في التعاطي مع أخطر القضايا، وأهم المسائل، فإن تخبيصات الكاتب، وخلطه بين أمور في غاية الأهمية، وأخرى في منتهى التفاهة دليل ارتباك وتوتر واضطراب. وكاتب يقارب أخطر قضيتين في حياة الأمة: (التعليم) و(الدعوة) ثم لا يزن الأمور، ولا يستبرئ لعرضه ودينه، يعرض نفسه للاتهام والتجهيل والمساءلة (ومن لا يتق الشتم يشتم)، ومن حق المتأذين أن يبادلوه سوءاً بسوء، فلقد وصفهم بالهلوسة ونقص الفقه، وقطع بتدهور التعليم. وما يتعرض له من ردود فعل، يراها هو، ومن شايعه مزايدة على القضايا، وتنقصاً من الحريات، وما هي كذلك، إنها استكمال للحرية التي يراها، ويتحرج منها حقيقة. وإذ لا نرى التسامي بأحد من الخلق فوق النقد والمساءلة، ولا نزكي أي مؤسسة تعليمية أو دعوية تحت أي مبرر، فإننا نفرق بين نصيحة المهتم بأمر الدعوة والتربية، وفضيحة الساخط عليهما، الناقم على ذويهما. وليس غريباً على ذات الكاتب ما نراه منه من اندفاعات، تضعه تحت طائلة المساءلة، ولا تقل ارتباكاً (مالي أرى أقواماً يفعلون كذا) فذلك هدي المصطفى. أما الرشق العشوائي، والمجازفة في الاتهام، فشأن المقوين من المقومات. وقادة الفكر والاصلاحيون يمنعهم الحياء من سوء الأدب مع الكافة، فضلاً عن صفوة المجتمع. وهل بعد المعلمين والدعاة من مكرم؟ وإذا لم يكن المعلم والمعلمة داعيين إلى الله على بصيرة، فمن يكون؟ وإذا لم نحصن أبناءنا وبناتنا من احتناك شياطين الإنس والجن واجتيالهم، عبر القنوات، والمواقع، وسائر الوسائل الإعلامية، فمن ذا الذي يحصنهم؟ وإذا لم تكن المملكة التي شرفها الله بخدمة مقدساته، ونشر كتابه، وتحكيم شرعه، وإقامة دينه، مهيئة الطلبة والمدرسين معاً للدعوة إلى الله، وحفظ جناب التوحيد، وحفظ التوازن بين مطالب الحياتين، فمن ينهض بمثل ذلك؟ إنه لا يضيق بالدعوة إلا مشبوه، أو مدخول في فكره، وإذا كان الكاتب مع الدعوة، كما يدعي، وكما نرجو أن يكون، وله ملاحظاته الوجيهة، فإن عليه أن يتخذ سبيل الدقة والتخصيص والتركيز. وهو قد حاول لملمة أطراف القضية، بعد أن ضيق عليه الرأي العام الخناق، ومع أن الحق قد يعتريه سوء التعبير، إلا أن المقال المثير مواجهة لا مناورة، وإدانة لا اتهام، وتقرير لا تساؤل. ومع الاحتفاظ بثوابت الدين من وعظ وأمر ونهي فإن من صرف الوقت لغير ما هو له، فقد أخطأ الطريق، وفرط بالواجب، كائناً من كان، ولكن تذكير المخطئين لا يكون بهذا الأسلوب التعميمي القطعي. أما قضية ربط المواد بالدين، فالدولة تلح على أسلمة المناهج، وليس هناك ما يمنع من استحضار عظمة الخالق، حين التعرض لقانون علمي، يتعلق بالآفاق أو بالأنفس، وليس من مصلحة الأمة ان تمارس التربية بمعزل عن الدين. وكيف لا نؤسلم المناهج والمواد، ونربط الظواهر العلمية والفلكية بالإيمان؟ ما الذي يمنع من أن يكون استاذ الرياضيات واللغات داعيين إلى الله، مذكرين بعظمته وجلال قدره، ألم يقل بعض الصحابة لبعض: (تعالى نؤمن ساعة)، أو لم يقل الله عن الصالحين من عباده {الذٌينّ يّذًكٍرٍونّ اللّهّ قٌيّامْا وّقٍعٍودْا وّعّلّّى" جٍنٍوبٌهٌمً وّيّتّفّكَّرٍونّ فٌي خّلًقٌ السَّمّوّاتٌ وّالأّرًضٌ} ويقول: {وّاعًبٍدً رّبَّكّ حّتَّى" يّأًتٌيّكّ اليّقٌينٍ}. أحسب ان اتهام المناهج والمدرسين والمدرسات بالتفريط، وإضاعة التعليم، اتهام ليس في محله، ولا يمارسه إلا إنسان لا يحترم المصداقية، ولا يحسب للظروف حسابها، ولا يعرف حدود ما يجب، وواجب المقتدرين إرشاده، وواجبه قبول الحق، وعدم التبرم ممن يشاطره السفينة، مستحضراً قوله تعالى: - {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ}. والمدرسون الذين على جانب من التقى والورع، لا يمكن أن يفرطوا بحق الطلبة، ولا برسالة التعليم، وهم حين يجدون أنفسهم بحاجة إلى التوعية ينشئون الجمعيات، ويتطوعون بجهدهم ووقتهم، دون المساس بوقت المناهج. واتهام التعليم بهذا الحجم، وإحالة الضعف إلى الدعوة والدعاة، تشويه لرسالة المسلم في الحياة. وإذا وقع مدرس أو مدرسة فيما لا يصح من القول، فإن هذا لا يسوِّغ التعميم. الخطأ في القول حاصل، والتقصير في العمل حاصل، والتجاوز في الفعل حاصل، ولكن لا تزر وازرة وزر أخرى. ولو صدق بعض ما يقوله المرجفون المتواطئون على الخطيئة لكنا بحاجة إلى مواجهة أربعة ملايين طالب وطالبة ومئات الآلاف من المعلمين والمعلمات وأساتذة الجامعات، وهو ما لم يكن، ولن يكون إن شاء الله. وكيف يتأتى الامتعاض من تفشي الدعوة والإرشاد في أمة تنص المادة (الثالثة والعشرون) من نظامها الأساسي للحكم على قيامها بواجب الدعوة إلى الله؟. والدولة ومن ورائها أهل الحل والعقد من العلماء ورجال التربية والتعليم يعيشون حالة استثنائية، ويتأذون من اتهامات ظالمة، يؤزها اللوبي الصهيوني ضد التعليم في المملكة، ويتحرفون لكشف النوايا السيئة، التي ينطوي عليها أعداء الإسلام، والخائفون من (الصحوة الإسلامية) يحاولون إثبات أن المناهج تصنع الإرهاب، وأن الإرهاب بمفهومه الغربي منتج إسلامي، وفي هذه الظروف الحرجة ، يأتي من يقول كلمة في صالح الأعداء، لا يلقي لها بالاً، وواجب المسلم في الأزمات أن يكون على شاكلة من قال الله فيهم {الذٌينّ قّالّ لّهٍمٍ النَّاسٍ إنَّ النَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً فّاخًشّوًهٍمً فّزّادّهٍمً إيمّانْا وّقّالٍوا حّسًبٍنّا اللّهٍ وّنٌعًمّ الوّكٌيلٍ}. إن هناك مرتابين، يخافون من مطاردة أعداء الله لعباده، ويصدَّقون كل صيحة، ومن ثم يعطون تنازلات في ثوابتهم، ويسايرون إشاعات العدو، ويسلمون له، وتلك بوادر انهزام داخلي، وتحقيق لما حذر منه المفكر الإسلامي (مالك بن نبي) من قابلية الاستعمار، وفقد شروط النهضة. ومما لا مراء فيه، أن هناك تطرفاً دينياً ودعاة غلاة وآخرين جهلة، تتأكد معالجة أوضاعهم، والحيلولة دون تمكينهم من تشكيل ذهنيات الناشئة، بطريقة تتأذى منها المؤسسات الأمنية والدعوية، ولكن ذلك شأن ولي الأمر وعلماء الأمة، وهم جادون في معالجة كل ظاهرة بالطريقة التي نسأل الله لهم فيها التوفيق والسداد. ومن أراد أن يدلي بدلوه في تصحيح مسار (التعليم) أو (الدعوة)، وهما بلا شك في أمس الحاجة إلى المتابعة والتصحيح، فعليه ألا يقع في فرضية واهمة، تجعل من الدعوة والدعاة سبباً رئيساً في تدهور التعليم، مجازفاً في إطلاق التهم، دون تحديد، ودون إثبات، مستفزاً الخيرين، جاعلاً منهم خصوماً، متعمداً معاداتهم. وماذا عليه لو دخل مع رجال التربية والتعليم والدعوة في حديث ودي، شاطرهم فيه همهم الدعوي والتربوي، ونبه إلى بعض التجاوزات التي نراها رأي العين، ونثق أننا أحوج ما نكون إلى من ينبه عليها، ولكن بغير هذه الطرق الفجة. وهل لا يستقيم أمر الكاتب إلا بالإثارة والعداوة، وتحميل الأمور ما لا تحتمل؟ ومن ذا الذي يتعمد الإساءة لمن بذلوا وقتهم ومالهم وجهدهم للدعوة والإرشاد؟. والتعليم بوصفه القضية الأهم والأخطر، لا يمكن تناوله بهذه المجازفات المرتجلة. التعليم في المملكة قائم على خطط ومناهج، لها وعليها. وجامعات المملكة تستوعب كل التخصصات العلمية البحتة، وأبناء البلاد يبتعثون إلى سائر دول العالم المتقدم علمياً بالآلاف، ويعودون بأرفع الشهادات، والمملكة مليئة بالمتخصصين الذين تلقوا تعليمهم في مدارس المملكة، فهل يستطيع التعليم المنهار بإمداد ثماني جامعات بمختلف التخصصات، بل يفيض عن حاجتها. ومع هذا فلسنا من الصفاقة ولا الحماقة، بحيث نزكي أنفسنا أو مؤسساتنا، إن هناك ضعفاً ينتاب كل مرافق الدولة، وهناك مقصرين أو مهملين أو متلاعبين، يبلغ حد الفساد الإداري، نعرف ذلك حق المعرفة، وليس من حقنا أن نزكي، ولا أن ندافع، ولا أن نمنع من الإصلاح، وبودنا لو تصدى لكل هذه الهنات من يزن الأمور، ويفرض احترامه على المخطئين والمقصرين. والمتفق عليه أن التعليم في جميع أنحاء العالم ينتابه الضعف، والتربويون يتعقبون مناهجه ومواده بالإصلاح والتعديل والإضافة والحذف، وما أحد منهم سخر، أو استهجن أو افترض عامل ضعف ثم عممه. وكان على الكاتب لو كان غيوراً ناصحاً ان يضع أصابعه على مكامن الداء، لا أن يطلق المفرقعات، مسقطاً التعليم، والمعلمين، ووزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي، والتعليم الفني، ووزارة الشؤون الإسلامية، والدعاة، والدعوة. متهماً الجميع بإضاعة الطلبة. إذ نجد لفيفاً من الكتاب الواقعين في الحمى باسم حرية التعبير فإن على المسؤولين عن هذه الحمى أن يخرجوا عن صمتهم ليكشفوا عوار هذا التحامل، وأن يضعوا أي كاتب متعد مستفز في حجمه الطبيعي، لكيلا يسنوا سنة سيئة، تبيح الإطلاقات غير المسؤولة، وفي الوقت نفسه يجب ألا يأخذ المسؤولين العجب، بحيث يَسْمون بأنفهسم فوق النقد والمساءلة، ويغفلون عن أي تقصير. والحرية في التفكير والتعبير حين تكون مكفولة، أو حين يجب أن تكون مكفولة، فإن علينا قبل هذا وذاك أن نعرف حدودها ومجالاتها. فليس لكل مجازف في القول ان يحيل إلى الحرية. الإنسان بطبعه اجتماعي، وهو ملزم بمقتضيات «العقد الاجتماعي» المستمدة ضوابطه من حضارة الانتماء، و(العقد) يعني الحرية المنضبطة. وإشكالية المشاهد العربية كافة أن الأكثرين من نخبها لا يحتفون بحدود الحرية، ولا يعرفون مقتضيات حضارتهم، ومن ثم يوغلون في (العهر) و(الكفر)، ويعدون مثل هذا الإيغال محصناً بحرية التفكير وحق التعبير. ومثل هذه المفاهيم المريضة تضع الفوضى موضع الانضباط، وتجعل كل شيء تحت المساءلة والنقد، وقد تطال المساءلة فعل الله، وتُحقُّ الخيرة في قضائه، والله لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد الخيرة إذا قضا الله ورسوله أمراً. والتطرف في الآراء بنشئ تطرفاً مضاداً، مما يعرض الأمة لفوضوية مخلة بالحرية المطلوبة من الطرفين. ومن المعلوم من الدين بالضرورة ان الأمة أمة دعوة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وما لعن الكفرة من بني اسرائيل إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، ومن اقترف خطيئة من الدعاة أو الآمرين، فيجب ان يؤخذ بخطئه، دون ان يمتد ذلك إلى المبدأ أو المهمة أو الغير. ومثل هذه الإثارات توغر الصدور، وتثير الشكوك، وتخلق كيانات متناحرة. والمملكة: حكومة وشعباً، لن تقوم لهما قائمة إلا بتقارب وجهات النظر، والانطلاق من سياسة الدولة الدعوية التي نصت عليها أنظمتها، وأنشئت لذلك (وزارة) و(رئاسة) و(مجلس أعلى) يرأسه الرجل الثالث في الدولة. وإذ لا نمانع من نقد التعليم ورجاله، والدعاة وأساليبهم، والهيئات وتجاوزاتهم، وما ينتاب بعضهم من جهل أو غلو أو تطرف، فإننا نرفض التعميم والمواطأة لأعداء الأمة، والتذمر من إظهار الدين، ونرفض الإطلاقات التي تحتمل أسوأ التأويل، وأقبح الاتهام، ونرفض الخوض بآيات الله دون علم شرعي مخول، ونرفض الركون إلى الذين ظلموا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:47 PM | #194 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تعارض مصالح لا صدام حضارات..!! 1/2
د. حسن فهد الهويمل ما من أحد يصاب بصداع الرأس، وفقد الذاكرة، واضطراب النفس والفكر، إلا وله النصيب الأوفى من قراءة الخطاب السياسي والثقافي في كافة المشاهد العربية، وعليه كفل من تلقي طوفان الآراء المتناحرة، وركبان الثقافات المستكبرة المهيمنة، والمشاهد العربية تنوس بها بطائن سوء، تضرب ثوابت الأمة في الصميم، تحت مسميات جذابة، كالحرية، و«الديموقراطية»، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة. ولا تنفك عن التناحي بالإثم والعدون حول ما يسمونه بالثالوث المحرم: «الدين» و«الجنس» و«السياسة»، ولا تأخذ حذرها مما يعانيه العالم المغلوب من أزمات طاحنة، تقوض أمنه واستقراره، وتفرق شمله، وتستدرجه من حيث لا يعلم إلى المهاوي السحيقة. والعالم اليوم يعيش حالة من الاضطراب والتوتر، وتنتابه نوبات من اللعب الكونية، والمؤامرات الدنيئة، والفساد، والتخذيل، والعلل الباطنة. وليس ببعيد أن تتزامن الانهيارات: الحضارية، والاقتصادية، والأمنية، والدستورية، وتتغير كل الخرائط الجغرافية، والتركيبات: السكانية والإثنية والطائفية، ويبدأ العالم في التشكل من جديد، كما بدء الحياة أول مرة يعود، وكأن شيئاً لم يكن من قبل، فالأيام دول، والثواني حبالى، يلدن كل عجيب، والناس لا يستقرون على حال، وكم من حضارات سادت، ثم بادت، والبقاء على الحال محال، «ومن سره زمن ساءته أزمان» ومن لم يتوقع الزوال بعد التمام، ولم يحسب الحساب الدقيق لما هو آت، يفجؤه الطوفان، كمن ينام في بطون الأودية في الأيام المطيرة، والشاعر الحكيم يقول: «توقع زوالاً إذا قيل تم». وفي الحديث: «عهدٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، حين سُبقت «ناقته»، وتألم الصحابة من تغلب أعرابي ب «قعوده» عليه، على حد: «ما طار طير وارتفع.. إلا كما طار وقع». والحضارة الغربية بلغت حداً لا مزيد عليه، لا من حيث الإمكانيات، ولا من حيث التعديات، وأقرب الحضارات إلى الزوال من تجمع بين «التمام» و«الظلم» وكيف لا و«العدل أساس الملك». والقول في «صدام الحضارات»، و«تعارض المصالح»، مضلة أفهام، ومزلة أقدام، وكل رهان حولهما، يجد ما يطمئن أصحابه، فالمسألة من الاحتمال بحيث: «لا يعرف الغادون فيها دربهم.. فكأنهم بمسيرهم غرباء». وكل خائض في الحديث حول «الصدام» أو «التعارض» غريب يتقرى الأشياء بأنامله، إذ لا يتمكن عند استحكام الحلكة من قراءة الأشياء بعيونه، ولو عدنا نستقرىء واقع أمتنا بلمس، لوجدنا المسألة مرتبطة بتعارض المصالح، لا بصدام الحضارات. ولقد قرأت كتاب «صامويل هنتنجتون» «صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي» للمرة الثانية، ووجدت أنه صوت من الأصوات، وقد لا يكون أفضلها، وقد لا يدوم حضوره شاهدا على العصر، ولو ذهبنا نضرب الأمثال بما هو قائم، لإثبات أن المواجهات ليست وقفاً على الاختلاف في الدين وإن رآها «جيل كيبل» ماثلة للعيان في النصف الثاني من القرن العشرين، متجلية في الصراع بين «العلمانيين» و«المحافظين» بحيث يرى أن هذه المرحلة تمثل يقظة أو صحوة دينية كونية، أطلق عليها «ثأر الله» بحيث يميل إلى الرغبة في «أنجلة» أوربا، أي عودتها إلى «الإنجيل»، وها هو اليمين في «البيت الابيض» يستمد وقوده من أصولية مسيحية متصهينة، وقد يأتي من يقول ب «القرأنة» أي عودة العالم الإسلامي المتعلمن إلى القرآن، ولست أعني طائفة «القرآنيين». أقول: لو التمسنا الأمثال الحية المؤكدة لصراع المصالح، لتبدت لنا الأدلة كفلق الصبح، مطروحة في الطريق. والمعوِّلون على «صراع الحضارات» وحسب، يتعمدون تهميش صراعات أخرى لا تقل عنها، ويتجاهلون العلاقات المصلحية والنزاعات الطارئة حول لعاعات الحياة الدنيا، ولقد كادت تفعل فعلها في المجتمعات الخيرة، وذلك عندما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفيء» بعد الفتح في «غزوة حنين» على المؤلفة قلوبهم، ووكل المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم، وهي مقاصد بعيدة المنال، لم يدركها بعض الصحابة و«سورة الأنفال» نزلت لتحسم التنازع حول الفيء في «غزوة بدر»، وهل أحد مثل صفوة الصفوة. فالمصالح عنصر مهم في عمليات الوفاق والنزاع الدوليين، وتجاهل المصالح أو الخلط بينها وبين الصدام الحضاري تفويت لثغرات مهمة. وإذ تختلف معالجة «تعارض المصالح» عن معالجة «صدام الحضارات» فإنه يلزم استحضار الحالين، لأن لكل حالة لبوسها. وعلى سبيل المثال فإن المعهود ذهنياً وواقعياً أن «المملكة العربية السعودية» حليف تاريخي، وصديق عريق «للولايات المتحدة الامريكية»، ليس في ذلك مواربة، ولا مداراة، نقول ذلك بلسان الحال والمقال، وكانت علاقات البلدين تزداد قوة ومتانة، يوم أن كانت المصالح مشتركة، ووجها النظر متطابقة، ويوم أن كانت أمريكا حمالة التوفيق بين الأطراف، ملتزمة بمنع التعدي على الحقوق والحريات، ويومها كان الإنسان السعودي أثيراً عند الإنسان الأمريكي، وكانت له معاملة خاصة، يلقاها في أي مكان من الولايات الأمريكية، حتى لكأنه واحد منهم، وخلال العقود السبعة التي مرت بها العلاقات السعودية الأمريكية، منذ اللقاء التاريخي بين الملك «عبدالعزيز» رحمه الله، والرئيس الأمريكي «روزفلت»، لم تتحول المملكة عن سلفيتها، ولا عن تمسكها بثوابتها الدينية، ولا عن مناهجها الدينية، فيما لم تتحول الولايات المتحدة الأمريكية عن رسماليتها وعلمانيتها، ولم يحصل في يوم من الأيام أي تماس بين الفكر السياسي الإسلامي السلفي للمملكة والفكر السياسي الديموقراطي العلماني لأمريكا. كان ذلك يوم أن كان الصراع على أشده بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولماَّ تزل المملكة ملتزمة بما عاهدت عليه، قائمة على أشدها في الدعوة إلى الله، متبنية لفكرة «التضامن الإسلامي»، ودعم الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في قلب أمريكا، وكانت أمريكا تعيش غفلة الواثق، حتى إذا قصم ظهرها بالتفجيرات، وتبنى ذلك الإسلاميون، أخذت حذرها من الإسلام ودعاته، وفي مقدمتها المملكة، وباشرت المواجهة العسكرية. وحين تحولت من الحياد الإيجابي التوفيقي إلى الانحياز السلبي لقطبيتها وللصهاينة، وحين تعارضت تبعا لذلك المصالح، دب الخلاف بين صديقين تقليديين، وإن كان كل منهما يحيل إلى الإعلام المغرض، ويزكي المواقف الرسمية، إلا أن في الأنفس شيئاً، لماَّ يزل الطرفان يتكتمان عليه، ويحاولان إقصاءه، تهدئة للأوضاع، ومحاولة حكيمة لاجتياز المنعطف الخطير، حتى لا يراق الزيت على اللهب، ويتحول وميض النار إلى ضرام، وتلك الظاهرة العملية المعاشة تؤكد أن الخلاف مع الغرب، لا يحال كله إلى «صراع الحضارات»، ولا إلى اختلاف الديانات، وإنما يحال جلُّه إلى الظروف الطارئة والمصالح المتعارضة. المملكة يسوؤها الكيل بمكيالين، وتمتعض من تناقض المواقف، ففي القضية الفلسطينية، لأمريكا موقف منحاز لمصلحة اسرائيل، وفي الشأن العراقي لأمريكا موقف منحاز لمصالحها الذاتية، فالظلم والاضطهاد والفوضى واقعة على الشعبين الفلسطيني والعراقي، دون النظر في الشرعيات، وسيادة القانون، واستقلال كل بلد بشأنه. والاتقاء والمداراة والدفع بالتي هي أحسن شأن العقلاء، ولكن الأمر بلغ حداً لا يطاق، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني لا يمكن احتماله، كما أن الموقف من الإسلام بعد الأحداث لا يمكن قبوله. والمؤسسات الإعلامية حين تركز على الصراع الحضاري، وتستدير تعارض المصالح والظروف الطارئة، فإنما تبحث عن وقود للرأي العام من أجل كسبه. وكل زعيم تزداد حاجته للجبهة الداخلية، كلما تعقدت الأزمات، ومن ثم يلجأ إلى الصراع الحضاري ليذكي فيه كوامن الإيمان، فالإنسان متدين بفطرته، وإن تعلمن، وعلينا ألا ننظر إلى وحدة المشاكل من خلال منظور إقليمي آني ضيق، إن هناك رؤى وتصورات ودوافع بعيدة المدى، جاء على طرف منها صاحب كتاب «صدام الحضارات» وصاحب كتاب «نشوء وسقوط القوى العظمى» وكتاب «الإعداد للقرن الحادي والعشرين» ل «بول كيندي». ومما لاشك فيه أن سقوط الاتحاد السوفيتي بهذه السرعة، وبهذه المفاجأة، وبهذا الشكل الدرامي، وعلى يد الجهاد الإسلامي، الذي باركته أمريكا، ولم تمانع من شحن الأنفس بواجب الجهاد، وحب الاستشهاد، له أثره في تأزيم الأزمات، ومما زاد الأمور استحكاماً تعجل أمريكا بعد غياب الاتحاد لسد الفراغ، واستيعاب المعسكر الشرقي بكل خلفياته التاريخية والثقافية، وبكل مشاكله الاقتصادية والإثنية والطائفية، وبكل رواسبه النفسية. وهذا الموقف المتسرع المرتبك، حداها لاستئناف سياسة مغايرة، لما كانت عليه من قبل، وحملها على إعادة ترتيب الأولويات والأصدقاء، والبحث عن معادل آخر، تثير به كوامن الشارع الأمريكي، هذا السقوط ربك أمريكا، وخفف من اهتمامها بمعسكرها الغربي، سعياً وراء استرضاء المعسكر الآخر، وسرعة احتوائه، ليتأقلم مع الأوضاع الجديدة. ولأن صراع المعسكرين عريق، وله أعماقه المتجذرة في آفاق المعمورة، وله ثاراته وذيوله العصية الانقياد، ولأن الجهاد الاسلامي لعب الدور الرئيس في المواجهة مع الاتحاد المتداعي على يده، فقد أصبح من الصعوبة بمكان حسم إشكالياته بالطرق الدبلوماسية. وكان أن التف الماركسيون حول أنفسهم يراهنون على أن الإخفاق الماركسي إخفاق تطبيق لا إخفاق مبادىء، فيما أسرع الإسلاميون للمطالبة بحقهم من «الأنفال» التي لم تكن لله ولا للرسول، ولكنها كانت لأمريكا التي استأثرت بكل الغنائم، ولأنها جربت نتائج الجهاد الاسلامي، وحصدت ثماره، فقد أوجست خيفة من لفظة «الجهاد» الذي حقق لها ما لم تكن تحلم به، نعم دعمته بالمال والعتاد والعدة والتأييد، وحمت ساقته ومقدمته، ولكنها لم تكن حاضرة الساحات ولا المغارات، وإذ نجحت في بنائه، فإنها لم تنجح في تفكيكه، ومن ثم لم تجد بداً من طرح مصطلح «الإرهاب» وانتزاع الموافقة العالمية على ملاحقته، وأخذ المقيم بالظاعن، ولقد ساعدها على ذلك وجود عصابات تمارس الإرهاب، وتحيل عملها إلى الإسلام، وما هو من الإسلام. وإذ يكون الإرهاب الدموي الهمجي المتوحش قائماً ومستفحلاً وخارجاً على كل الأعراف فإن الإشكالية في اختلاف المفاهيم والمواقف، ودخوله بوصفه آلية من آليات الصراع المصلحي لا الديني، وحين نختلف حول مرجعيته، نختلف حول مشروعية مواجهته على الإطلاق، ذلك أن هناك مقاومة مشروعة يعدها البعض إرهاباً، وفي تلك الأجواء، تنفست الفتن النائمة، واختلط الجهاد والفداء والاستشهاد والمقاومة بالعنف والإرهاب، وطورد المحقون والمبطلون، واختلط المجاهدون بالعملاء والمأجورين. ووجدت أمريكا نفسها بين أصوات متداخلة، وحسبت أن كل خطاب ينازعها القطبية، ويقاسمها المكاسب، ومن ثم فوضت أمرها إلى الترسانة العسكرية، بدل أن تعالج أمورها من خلال المؤسسات السياسية، ولمثل هذا عواقبه الوخيمة، ونتائجه الباهظة التكاليف، وها هو العالم الثالث يتحول إلى ساحات دموية، تستهدف المصالح الأمريكية، وها هي ساحات الفكر والإعلام تحيل إلى مناهج الدراسة، وإلى الدعوة الإسلامية المباركة، والى ثوابت الدين، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وفي مقابل إحالة المرجفين، يأتي خطاب الإرهاب نفسه محيلاً إلى الإسلام، بحيث أصبح الإسلام مناط القول ونقيضه، ومن الخطورة بمكان الاختلاف حول البواعث. وهذه العمليات المدمرة، قد لا يكون للعالم الثالث فيها ناقة ولا جمل، ولكنه ناقلٌ لرسائل باهظة التكاليف.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:47 PM | #195 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تعارض مصالح، لا صدام حضارات..! «2/2»
د.حسن بن فهد الهويمل وبصرف النظر عن أسلوب المواجهة فإن هذا الصراع أو الصدام أو التعارض نوقش على عدة مستويات، ومن عدة حقول معرفية، وكل طرف يرى أن قوله الفصل، وأنه لا معقب لحكمه، والقضية كالمذهبية، فيها تابع متعصب، يسعى لاحتواء الناس، ومتمسك غير متعصب، لا يستبدل ما يراه الأدنى بالذي هو خير، ولكنه كمن يقول: لكم دينكم ولي دين، ووسطي منفتح على كل الخيارات، يبحث عن الحق، لا عن مؤيدات الرؤية. وهذه الفئات تصطرخ فوق حلبة الصراع، وبدل التعاذر، والقبول بتعدد الآراء، نشأت بين أبناء الحضارة الواحدة والوطن الواحد العداوات والتصفيات والمزايدات. والخلاف في حقل الأدب (المؤدلج) أشد ضراوة، فلقد تعقبه دارسون ونقاد، تحسسوا عن الصراع في القول والفعل، ورصدوه: واهمين أو متيقنين، أو مفتعلين. ومن النقاد المعاصرين من تعنت في إكراه النصوص الإبداعية، وبخاصة السردية منها، ليجعلها متسعة للصراع الحضاري. ولقد كانت لي إلمامات متأنية حول هذا الموضوع، في دراسة (تحكيمية) اطلعت من خلالها على مماحكات وافتراضات تعجب من صدورها من أناس نعدهم من خيار النقاد، ليس لها من الحق شيء، ولقد كانت من الكثرة والإلحاح، بحيث اغتلى فيها ارتيابي، وكدت أركن إليها شيئاً كثيراً، ولقد انقدحت فكرة (الصراع الحضاري) عند المبدعين حقاً، وعند المقتدرين قولاً وثقافة، فكتبوا، كلاماً مفيداً أو مضراً، وسموا ما كتبوه روايات، وصدّقهم من لا يحترمون المصداقية، والحق أنها كتابات فيها الجيد والرديء، ولكنها ليست من الفن الروائي في شيء. وأبدع الموهوبون مالا غبار على فنيته وجودته واستيفائه لمقومات الفن، ولكنه يفتقر إلى صدق الرؤى، وكل هؤلاء وأولئك نذروا أعمالهم للصراع الحضاري، واتخذوا من الجنس المتفحش متكأ، حتى لقد تصدر (العهر) سدة الصراع، وكانت رواية (الطيب صالح) (موسم الهجرة إلى الشمال) الكذبة السوداء، التي سلم لها الجميع. وإشكالية النقاد التعاقب، بحيث يكون المبتدئ أمير الركب، والتابع متوسعاً فيما سبق. والمبادرة قد تأتي، ولكنها لا تغلب الكثرة، على حد: - (قد قيل ما قيل). فمن النقاد الواثقين المقتدرين الذين لا تأخذهم بالحق لومة لائم من يكون مستبداً، ينهي وقوع الحافر على الحافر، مبتدئاً رحلة العودة إلى مظان الحق، رافضاً التقاطر، ولعل التعاقب على جعل التفحش الجنسي رمزاً أو قناعاً للصراع الحضاري أدق مثال، لافتعاله فيما لحق من روايات، ولقد هيئ لتلك الافتعالات من المسايرين من كرروا الكذب، وأوغلوا في الفحش، حتى كاد يكون صدقاً. ومثلما أوغل المبدعون والنقاد في فرضية الصراع الحضاري في الأعمال الروائية، وتصديق العامة لهذه الدعوى المبالغ فيها، وجدنا من العلماء والفقهاء والمفكرين والخطباء من يحيل كل خلاف مع الغرب على صراع الحضارات، مستعيناً بالخلفيات التاريخية، وعلى رأسها (الحروب الصليبية) والإحالة على هذا التصور على إطلاقه، يحمل كل الأطراف على امتشاق السلاح بوصفه القادر على حسم الإشكالية، وكان بالإمكان تفادي هذا التصور والجنوح إلى السلام والتحرف للمواجهة الإسماعية الإبلاغية، لأن في واحدية الحل تفويتاً لفرص إيجابية، ما كان لها ان تفوت، في زمن وضحت فيه الرؤى والتصورات، أو كادت. ومع الإيمان الجازم بأن العداوة في الدين قائمة، وأنها عصية الحل، وأن اليهود والنصارى لن يرضوا عن مسلم، ولا عن أمة مسلمة حتى يتبعوا ملتهم، إلا ان النصارى في ظل الحضارة المادية المهيمنة دخلوا في العلمانية الشاملة كافة، ولم تكن النصرانية همهم الأول، والدليل على ذلك أن (المملكة العربية السعودية) - على سبيل المثال - تمنع التبشير، وإقامة الكنائس، وممارسة الطقوس الدينية على أرضها، ولا يجد الغربيون غضاضة في ذلك، فيما تمارس (المملكة) نفسها في المقابل دعم الحركات الإسلامية في الغرب، وإقامة المنتديات، وعمارة المساجد، وإنشاء الجمعيات، وطبع الكتب، وتنفيذ المؤتمرات، وتوزيع المصاحف والمطبوعات، ودعم التجمعات الإسلامية، وبعث الدعاة والأئمة. ولولا ما منيت به أمريكا من ضربة قاصمة للظهر في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحميل الإسلاميين مسؤولية ذلك، لكان للحركات الإسلامية في الغرب شأن عظيم، ولكن المكائد والمؤامرات أيقظت أمريكا، لتمنع كل التحركات، وتضيق الخناق على المسلمين، وتطاردهم في عقر دارهم، وفي ذلك تفويت لفرص ذهبية. والعقيدة الإسلامية لم تمنع أمريكا من منح جنسيتها لمن تتوافر فيه الشروط، والحركات الإسلامية تجد من الحرية والحماية في أمريكا أضعاف ما تجده في عدد من الدول الإسلامية، ولولا ما ينتاب الحركات الإسلامية من تعصب مقيت، وما يجتالها من عداوات بغيضة فيما بينها، لكان لها تأثير في الرأي العام الغربي، وهذا التسامح الغربي للتعددية الدينية في إطار مواطنة شاملة يؤكد ان الخلاف مع الغرب لا يحال بجملته على الصراع الحضاري، وهذه المؤامرة الماكرة التي وضعت المشاريع الدعوية تحت المجهر، استبشر بها بعض الإسلاميين، وبخاصة ( الراديكاليون) منهم، وعدوها نصراً مبيناً لهم، وماهي في حقيقة الأمر إلا نسف متعمد للدعوة الإسلامية التي آتت ثمارها، في بلاد يتعطش أهلها إلى من ينقذهم من دوامة الشك والارتياب، ونسف لجسور المصالح المشتركة مع دولة قوية في مؤسساتها ومعارفها وترسانتها العسكرية ونفوذها الأقوى في الهيئات والمجالس التي تشرعن للمواقف العالمية. وما نقوله ونذهب إليه لايعني استبعاد ان يكون هناك صراع وعداوة في الدين، ولا يعني ان نغفل ذلك الجانب، ولايعني التزكية والتلميع لأمريكا، فنحن نعرف كم تجرع العالم من الويلات، وكم لقيت قضايا الأمة العربية العادلة من الاجهاضات، ولما كان الغرب ملة واحدة فقد لعبت من قبل (بريطانيا) ذات الدور في المشرق العربي، ولعبت (فرنسا) ماهو أنكى وأمر في الجزائر، ولعبت (إيطاليا) في ليبيا. والمشرق العربي كحلبة المصارعة، كلما خرج مصارع دخل آخر، وفي كل جولة نقول: هذه هي الضربة القاضية، ولكن المسألة مع كل هذه الجولات الشرسة ليست باللونين الأبيض والأسود، ومن ثم يجب ان نتيح فرصاً للتصورات والخيارات، وان نشتغل في القواسم المشتركة، وأن نمارس الدعوة، ونسمع الآخر كلام الله، ونبلغه مأمنه، فلكل زمان مشروعه الدعوي، ومن أراد المواجهة العسكرية فليعد لها عدتها، ولينفق على التسلح ما تنفقه أمريكا، وكيف تتأتى المواجهة المتكافئة مع دولة اخطبوطية، تنفق على تسلحها أكثر من ثلاثمائة وسبعين مليار دولار، وهو مبلغ فلكي، لم تنفقه ست دول كبرى مجتمعة على تسلحها، وعلى الذين لايرون إلا خيار المواجهة ان يمارسوا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. ومع دعوتنا للتعويل على تعارض المصالح، فإننا لم نغفل تأثير الأصولية في أمريكا، والإحياء الديني، وصعود اليمين المسيحي، ولم نتجاهل الدعم المتواصل لليهود، والعمل على عودتهم إلى فلسطين بدافع ديني، أكد عليه من قبل (ويليام بلاكستون) في كتابه (يسوع قادم) كما لا نجهل الحركة المسيحية التي استخدمت الشبكات (التلفزيونية) تحت مسمى (الكنائس المرئية). ومع التباس الأمور، وتعدد الاحتمالات، فإن هناك دقائق في أمر (الحضارة) و(الدين) لايجوز تجاهلها في سبيل تهييج الرأي العام، وكسب ولائه. ف (الحضارة) رؤية شمولية، فيما يأتي (الدين) نصاً تنظيمياً عقدياً تعبدياً، بلد الحضارة، ثم يكون روحها النابضة، والرؤية الشمولية للإسلام تتجاوز مظاهر العبادة والمعاملات والمرافعات والأحوال إلى أشياء أوسع وأشمل من ذلك، ومن سمات الدين الإسلامي شموليته وشرعيته وانفتاح نصه، بحيث يتسع للنوازل، ويستجيب لمطالب الحياة المتجددة، والتراجع حين يكون تحرفاً أو تحيزاً، لا يكون فراراً من الزحف، وحالة الضعف تستدعي التخفيف والسكينة، وذلك ما جاء به الذكر الحكيم وتحدث عنه فقهاء الأمة في قضية (الجهاد). ومع كل التحفظات فإن (الصراع الحضاري) قد يكون قائماً، ولكنه لايقف حيث يكون التدين والممارسات الدينية. ولنضرب على ذلك مثلاً بالعلمانيتين: الشاملة والتنظيمية المحدودة، واختلاف المفكرين حولهما، بحيث تكون الشاملة عزل الحياة عن الدين، وما دون الشاملة تعني عزل الدولة عن الدين، فالشاملة تمنع الاعتقاد وممارسة العبادة وتحكيم الشريعة، فيما لا تهتم العلمانية التنظيمية في أمر العبادة، والأحوال الشخصية، ولكنها تفضل (الحكومة المدنية) على (الحكومة الدينية)، و(الحكومة المدنية) قد تجعل دستورها إسلامياً وأحكامها إسلامية، ولكنها لا تضيق على نفسها كما (ولاية الفقيه) ومسألة المستويات الحكومية مسألة دقيقة وشائكة، لأنها مختلفة باختلاف المفاهيم. ولقد قيل لتحقيق ذلك الانفتاح (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) وجاء من يستبعد قيام (الدولة الدينية) دون ان يوضح الطرفان مفهومها ومقتضيات هذه المفاهيم، وهل (الحكومة الدينية) معادلة للحكومة العلمانية، أو معادلة للحكومة المدنية؟ وكل هذه الإطلاقات التعميمية الحمقى، لم تضع تصوراً محكماً ومفصلاً، يتحقق معه إظهار الدين، وتحكيم الشريعة، وتحقيق مقتضيات الإسلام التي من أهمها العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والوعظ والتناهي والتذكير، وبتحقق ذلك لايكون هناك ما يمنع من ان تكون الحكومة: ملكية أو جمهورية أو سلطانية: (فدرالية) أو (كنفودرالية) (شورية) أو (برلمانية) (اختيارية) أو (انتخابية) إذ المهم ليس في المسميات والأشكال والإجراءات، ولكنه في المصائر والمآلات والمرجعيات، ومن قال في الدولة (الدينية) أو (المدنية) أو (العلمانية) ثم لم يكن على معرفة دقيقة بالفكر السياسي الإسلامي، فقد يقع في الشبهات، وقد تكون لنا فيما نستقبل من أيام إلمامات موضوعية في السمات الثلاث للدولة، أملاً في كشف النوايا المرتابة، وتحديد الخطابات الجامحة الرعناء، التي تتفيأ ظلال المفاهيم المتعددة. وما أذهب إليه لايدعو إلى ترك الثنيات، وعلمنة الحياة، وإنما يدعو إلى وضع الأمور في مواضعها، ومعالجة الأحداث على ضوء دوافعها وظروفها وكوامنها، وعلى المؤمن أن يكون كيساً، فطناً، عدلاً، لايجرمنّه كره الآخرين على عدم المصداقية. وحين تفيض مشاهدنا بفرضيات لا أساس لها من الصحة، نغفل عن حقائق، تجد من غفلتنا فرصاً ثمينة للتجذر والتوسع، وخطأ التقدير والتوقيت يفوت على الأمة فرصاً كثيرة، وعلينا، وقد ادلهمت الأمور، وبلغ السيل الزبى ان نتحرف لخطاب يصطحب (تعارض المصالح) بدل (صراع الحضارات)، ولايضع (الأنجلة) أو (القرأنة) الخطاب الفرد، وإذا كان بالإمكان الدفع بالتي هي أحسن، فإن المصير إلى الصدام سبق مفضول، وما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والصلح خير، ولا يتأتى الرفق إلا باستبعاد التوتر وصراع التفاضل والتصدير والهيمنة. وحصر المواقف في خيار واحد مع إمكان التوفر على خيارات متعددة تعنت لا مبرر له.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
25-11-2006, 08:48 PM | #196 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
شيخ حقيق بالتكريم
د. حسن بن فهد الهويمل كلما استدعت المناسبات شيخا من شيوخ الفكر والادب عادت معه ذكريات عفا عليها الزمن، وألذ شيء في الحياة ان تنقلك المناسبات الى عهد الشباب، وما فيه من ذكريات جميلة. وتكريم الاستاذ عبد الله بن ادريس من تلك المناسبات المبهجة، فلقد عرفت ابن ادريس منذ نصف قرن، وبالتحديد عام 1375هـ يوم كنت طالبا في المعهد العلمي في بريدة، في المرحلة الابتدائية، وكان هو في عنفوان شبابه مفتشا في الرئاسة العامة للمعاهد والكليات، وكان من عادة الموجهين أن يحضروا الدرس بزيهم العربي، يقدمهم احد موظفي المعهد يحمل كرسيا ليضعه في مقدمة الفصل، ثم يأتي الموجه او المفتش كما كان يسمى، ويجلس ويمضي المدرس في درسه، وكنا اذ ذاك ننظر الى الموجه او المفتش كما ينظر القروي الى عجائب الصناعات، ولما سئل احد العامة في المسجد عن اكبر مخلوقات الله قال: «القطار» ونحن في ذلك الوقت نتصور ان المفتش اهم المسؤولين واكبرهم، وظلت النظرة عالقة في اذهاننا، فكلما نظرنا الى مقال بقلم عبد الله بن ادريس اصبح في نظرنا من اكبر المقالات نقترب منه في هيبة وجلال، وقد نتهيب قراءته. ولما يزل عالقا في أذهاننا ذلك الرجل حتى اذا أخرج للناس كتابه «شعراء نجد المعاصرون» اصبح في نظرنا فتحا مبينا وهو بحق، ومن خلال سياقه اضافة متميزة وما زالت قيمته الادبية والتاريخية قائمة. ومع السنين اقتربت كثيرا من ابن ادريس الشاعر وابن ادريس الكاتب. وكلما قويت الصلة بيني وبينه اكتشفت المصداقية والاخلاص والنزاهة والاعتزاز بالرأي، وسواء اتفقنا معه او اختلفنا حول المفاهيم والمواقف فان الرجل يمتلك آليات نقدية وموهبة شعرية، وله إسهاماته المتعددة عبر مختلف المواقع الرسمية: تربويا، وادبيا، واعلاميا ولقد تناوله الكتاب والنقاد اختلفوا معه كثيرا، واتفقوا معه اكثر، والمسألة ليست في ان نتفق او نختلف المسألة في ان يعود هذا الاتفاق والاختلاف بفائدة على المشهد الادبي. وعندما حضرت لشهادة الماجستير «اتجاهات الشعر المعاصر في نجد» كان ابن ادريس موضوعا لدراستي بوصفه شاعرا من شعراء نجد المعاصرين، وكان كتابه «شعراء نجد المعاصرون» من اهم المصادر التي رجعت اليها وعولت عليها. وحين اصدر ديوانه «في زورق الحلم الجميل» تناولته بالدراسة النقدية ونشرت الدراسة في مجلة «التوباد» وعندما احتدم الجدل بين ابن ادريس والاستاذ عزيز ضياء رحمه الله حول «التراث ونقده» تدخلت لفك الاشتباك ونشرت مقالا من حلقتين في جريدة الرياض كان ذلك عام 1406ه واحلت الاختلاف بينهما الى الاختلاف في المفاهيم لا في المواقف. وحين كرمه نادي الرياض الادبي كنت المتحدث الرئيس حول مبلغ بن ادريس من النقد، والقيت ورقتي التي اثارت اطرافا كثيرة وحظيت بمداخلات متعددة ذلك انها اعتمدت على اثارة التساؤلات لا تقرير الحقائق، ولما تزل الدراسة بانتظار النشر صحفيا او كتابيا ليفصل فيها القراء ويقولوا كلمة الحق. واليوم وبعد هذا العمر الطويل الحافل بالعطاء، جاءت الاسرة لتكرم واحدا من ابرز رجالاتها، وجاء الامير سلمان لينوب عن الجميع بتقدير ذلك الرجل الذي تجلت امكاناته ومواهبه في اكثر من موقع ولما يزل يتواصل مع قرائه ومحبيه محتفظا بامكاناته العلمية والادبية. وعلاقتي به علاقة التلميذ والصديق والزميل اختلف معه فيرحب صدره، وأتفق معه فيرحب صدري، وسيظل حاضرا بذاته، وبما تركه من اعمال ابداعية واعمال نقدية واسهامات صحفية في فترات حساسة من فترات العالم العربي. ومثل هذه المناسبات تعيد الانسان الى ايامه السعيدة ايام الشباب وطموحاته فلكل من اسهم في تكريم الكفاءات الوطنية الحب والشكر والتقدير. (*)رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الادب الإسلامي /رئيس نادي القصيم الادبي /أستاذ غير متفرغ في جامعة الامام
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
الإشارات المرجعية |
|
|