|
|
|
30-11-2006, 06:50 PM | #211 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
من أرهق الأمة صعوداً: الثوريون أم المصلحون..؟ 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل وليست الخطورة في الاطلاقات الطائشة، ولا في الاجترار الأبله للقيل والقال وكثرة السؤال، وإنما هي في تقبل الشارع العربي للمغالطات، وتأثره بالشائعات، وخنوعه وخضوعه للعابثين بذاكرته. وقد تكون الخطورة في لزومه للصمت مغلباً جانب السلامة بالجنوح إلى اللامبالاة باسم الحياد الإيجابي، وكأن الأمر لايعنيه. وسكوته نوع من أنواع السكوت عن الحق، وفي الحديث: - (الساكت عن الحق شيطان أخرس). والأمَرُّ والأنكى أن تلتزم المؤسسات العربية الرسمية الحياد السلبي أمام المقترفات القولية والفعلية، أو أن يكون موقفها متخاذلاً مقموعاً. والعبث بسمعة الأمة ومقدراتها طوال الخمسين سنة الماضية، ووضعها بين الحين والآخر في مواقف حرجة أمام الرأي العام العالمي، كل ذلك يطال سيئه المستهمين على سفينة الحياة، ولا يقتصر أذاه على طرف واحد، وذلك شأن الفتن فيمن تصيب، واستعداء الدول الباغية أو مواطأتها يعيد قصة المثل: - (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). والأمة في ظل هذه الترديات ملزمة بمواجهة قدرها، مجتمعة لا متفرقة، مكاشفة نفسها، متعظة لا شامتة، متخلية عن الحلول التسكينية، متحامية القفزات البهلوانية. فما تراكم عبر عشرات السنين لا يمكن حسمه بجرة قلم، وفي ظل هذه الظروف لابد من عقلنة التصرف ومرحلة الحلول، والنظر إلى الفساد المتعدد: السياسي والإداري والاقتصادي. إن المسكنات الإرجائية لا تقيل عثرة، ولا تصحح مساراً، ولا تنهي تدهوراً، وعلى الدول العربية المسؤولة أمام الرأي العام العربي، والتي تملك أعماقاً متعددة أن تكاشف الشارع العربي، فالوضع لايتطلب مزيداً من المجاملات، وإن كان من الخير نسيان الماضي، واستئناف حياة جديدة، ولكن بعد أن يعرف المقترفون ما اقترفوا. الواقع العربي يتطلب هزة عنيفة، تهمش الضعفاء، وتعرفهم قدرهم، وتوقظ النائمين، وتذهب الغشاوة عن العيون، وتزيل الوقر عن الآذان. وألم ساعة يحسم الشر خير من تخدير عام يبقي عليه. ومواجهة الخطاب الإعلامي المسف، سواء صدر من مأجورين أو مناوئين أو موتورين بمثل تعدياته مجاراة في الخلق الدنيء. وإذا كان الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فإنه حرض على العفو والصفح، ومن ثم فإن التحرف لمواجهة حضارية أفضل من المهاترات والتنابز بالألقاب. والراصدون لمغامرات القنوات يدركون أنها تخلط عملاً صالحاً وآخر سيئا، وأن تنقية الأجواء وعودة الأمور إلى مجاريها في ظل هذه الظروف رقم على اليمّ، ولم يبق إلا اتخاذ موقف حضاري، ينتشل الخطاب الإعلامي من دركات الاسفاف إلى درجات القول الكريم. ولقد تذكرت وأنا أتعقب تلك المقولات المسفَّة ما جاء في صحيح البخاري قال: -(قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه «الحر بن قيس» وكان من النفر الذين يدنيهم «عمر»، وكان القراء أصحاب مجالس «عمر» ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن (الحر) (لعيينة) فأذن له (عمر) فلما دخل عليه، قال: هَيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب «عمر» حتى هم أن يوقع به، فقال له «الحر»: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) } وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها «عمر» حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)- أ،هـ بنصه-، ولست أشك، بأن كل من تعقب أحداث الأمة وما يشاع عنها وما يفترى على قادتها ومفكريها وعلمائها ومصلحيها يرى نفسه أمام عشرات لايختلفون عن (عيينة بن حصن)، وان بعض المواقف تضطر المتأذي تمثل أمر الله لرسوله: { (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) } غير أن اتهامات البعض بلغت أفئدة خالية، وآذاناً صاغية، وتلقفها شرار الخلق من صهاينة ومتصهينين، في زمن التصعيد الحاد للحرب الباردة ضد قيم الأمة، وواجبنا حين يبدهنا الاتهام الجائر أن نمر باللغو مر الكرام في طريقنا إلى المتلقي، وعلى المتأذي ظلما وبهتاناً أن يسبق الأفاكين إلى الرأي العام، ليحمله على استيفاء شروط التلقي من تثبت وإثبات وبرهان، وليس أقل من ذلك. ومما يؤذي صاحب الحق المغموط أنه قد يتكلم بحضرة شر الدواب، وشرها عند الله الصم البكم الذين لايعقلون. ومغامرات المناوئين الكلامية ليست بأغرب من مغامراتهم العملية التي أرهقت الأمة وأذلتها، وشواهد المجازفات ماثلة للعيان، وعلى المتردد أن يتابع المكاشفات والحوارات والاعترافات والمواجهات القنواتية مع الضالعين في الشأن العربي، ممن زلت بهم الأقدام. على أن واقع الأمة خير شاهد: مجاعات ومطاردات وهوان واختلافات وضعف وتخلف واحتلال واستيطان. ولن نستعيد المغامرات العسكرية والتدخلات السافرة في الخصوصيات، وما آلت إليه، وما ألحقته بالإنسان العربي من أضرار فادحة، أسقطت هيبة الأمة، وشوهت سمعة العربي. وما يطلقه البعض من مفتريات وفرضيات تذكرنا بفرضيات الكاتب الفرنسي (تيري ميان) صاحب كتاب (الخديعة الكبرى) الذي حقق من وراء فرضياته مكاسب مادية لاتقدر، حيث اتهم أمريكا بعملية الحادي عشر من سبتمبر، وجعل (ابن لادن) عميلاً أمريكياً، ومع أن السياسة تعني: فن الممكن، واللعب السياسية تستوعب ما هو أكبر وأغرب، إلا أن الفرضيات تحتاج إلى أدنى حد من المعقولية، ولو قال بأن (ابن لادن) عميل غرد خارج السرب، لكان قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة. والإعلام العربي الذي يدفع بؤسه بإذكاء الضغائن ونبش الدفائن، لم يمتعض مرة واحدة من المسرعين ابتغاء الفتنة، وذلك لعمري مكمن الارتياب. واتهام الموقعين عن رب العالمين بصناعة الإرهاب وتصديره امتداد لما أثر عن خصوم الدعوة من نفعيين وطائفيين. والاختلاف مع (الحركة الإصلاحية) مشروع، والتوقف أو التحفظ ممكن، متى توخى المختصمون الحق، وتخلصوا من الافتراءات والاطلاقات العامة. والخلاف المعمم والتحامل الجائر قديمان قدم الدعوات، وما لقبه المصلحون كافة بعض ما لقيه الأنبياء والرسل، والدعوة الإصلاحية ووجهت من الإمارات الإقليمية والزعامات القبلية ومن علماء الطوائف المخالفة لمنهج السلف ومن العلماء المستنفعين من الأوضاع المتردية: ديناً ودنيا. وشطر من هذا التحامل رعاه صراع المصالح و(الاستراتيجيات) الدولية. وبالجملة فهو خلاف متعدد الأسباب، تذكيه المصالح الاستعمارية والخلافات المذهبية والتناحر الطائفي، هذا الركام التقطه البعض ليجعل منه خلافاً عقدياً، تخالف فيه الدعوة منهج السلف، وكان من المفترض ان يتحول إلى مرحلة تاريخية، يستحضر للموعظة والذكرى، ولقد اعتورت الدعوة والداعية أقلام المفكرين والطائفيين والمستشرقين، أنصفها من أنصفها، وتحامل عليها من تحامل، ولما تزل مجالاً للأخذ والرد، وأهلها أحق بالدفاع عنها وحجتهم الدامغة أن تراث الداعية لاينفرد بحكم في الفروع أو الأصول. وأذكر ذات مرة -وعلى سبيل المثال- أنني كنت في زيارة لصديق في بلد شقيق، وكنت قاب قوسين أو أدنى من لقاء مفتوح مع طلبة إحدى الجامعات العربية، فقال لي: -إياك إياك أن تذكر كلمة (وهابية) فهي الأبشع على مسامع البعض، وبخاصة الطائفيين منهم، قلت: -لقد جئت لتصحيح المفاهيم، ولم آت لتكرير المعلومات وتملق الجماهير. قال: خذها نصيحة من خبير. وشكرته، ومضيت. وما أن صعدت المنبر حتى قلت: -جئت إليكم من أرض المقدسات، ومهوى الأفئدة، من (أم القرى) مهبط الوحي، ومن (طيبة الطيبة) مرقد الجسد الطاهر، ومن سهول (نجد) مدرج الشعراء الجاهليين والإسلاميين، ومصدر الفصاحة، وعرين العروبة، ومسرح حملة الرسالة المحمدية البيضاء، الإقليم الذي شهد الفتن العمياء، والحروب الشرسة، والجفاف والتصحر والقبلية، حتى أنقذه الله (بالمحمدين) محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب، حيث جددا أمر الدين، ووحدا شتات السياسة، وأردفت: أعرف أن بعضكم متحفظ على كلمة (وهابية) وهي كلمة أطلقها المناوئون، وصدقها الطيبون، فما سمى المصلح نفسه وهابياً، وما سماه أنصاره، وما حمل هم المذهبية، ولم يحدث في الدين ما لم يأذن به الله، وكل الذي فعله التصدي للمحدثات، وبخاصة ما يمس جناب التوحيد، فهو (حنبلي) في الفروع (سلفي) في الأصول، وسطي في التعامل، والبعض منكم يرى (الوهابية) مذهباً خامساً، فسقت عن أمر ربها، ولكن دعوتي أفاتحكم بدعوة الرسل: {تّعّالّوًا إلّى" كّلٌمّةُ سّوّاءُ} وبأمر الله {فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى اللّهٌ وّالرَّسٍولٌ} رجل تعلم في نجد، وتربى فيها، ورحل في طلب العلم، وتزود من علماء الآفاق، وجادلهم، ووقف على جهل قومه، وفرقتهم، واستفحال الخرافة فيهم، فكان أن جاء إلى أوزاع من القبائل، وأشتات من الأقاليم، يغمرهم الجهل، وتضلهم الخرافات، وتحصدهم الفتن، وتقتلهم الأمراض، يأخذ القوي منهم الضعيف، لايجدون فرصة للعمل، ولا ساعة للتعلم، يعميهم التعصب، ويضلهم الهوى، يقتتلون على المراعي والموارد، ولا يتردد أحدهم من قتل صاحبه من أجل تمرة أو ثوب أو دابة، يدعون الأولياء، ويتوسلون بالرمم، يتطيرون بمن لقوا، وطائرهم معهم، ويعلقون التمائم، ويؤمنون بالخرافات، جاء إليهم بالكتاب وصحيح السنة، يحترم سلف الأمة، ويدين لعلمائها بالولاء والمحبة، يأخذ بمخرجات الاجتهاد والقياس والاجماع، ويقدم النص، ويستعين بقواعد الفقهاء، ويشيد بجهود علماء المذاهب في الفروع، يترحم على المحسنين، ويدعو للمسيئين، ولا يشهد لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار، ولا يكفر أحداً منهم، ويكف عما بدر من الصحابة، يحبهم، ويترضى عنهم، والكفر عنده دركات، والإيمان درجات، والنفاق أنواع، وآيات الوعيد لها أحكامها، ومن ثم يمرها كما جاءت، والدعاء عنده مخ العبادة، استقى رؤيته الاصلاحية مما سلف من العلم والعلماء، وربط بين الدين والسياسة، بحيث لايرى الزعامات القبلية أو الإقليمية أو الطائفية، وقدوته (ابن تيمية) الذي لم يقطع بتكفير الثلاث والسبعين فرقة. وما ان فُتح بابُ الحوار، قال أحد الحضور: وماذا تقول بكلام العلماء والمفكرين عن الوهابي؟ قلت: -المصلح قدم إلى ما قدم، ولا نزكيه على الله، وليس بين أيدينا إلا ما ترك من كتب، وما خلفه من علماء، وما دون عنه من تاريخ، ومرد الخلاف إلى مصدري الدين: الكتاب والسنة، فهات ما قال، لا ما قيل عنه، واعرضه على الكتاب وصحيح السنة، فما وافقهما لزمك اتباعه، وما خالفهما لزمنا اطراحه، ومن أخطأ من علماء الدعوة أو العامة في التطبيق، فذلك لايضاف إلى المبدأ، وهو رد على صاحبه، وخوض الحروب ما كان إلا للدفاع عن النفس أو المبدأ، والمصلح لم يشهر سلاحه إلا للدفاع عن النفس، والواجب أن تؤخذ الحركة في سياقاتها، قال: -وهل ندع قول علمائنا، ونأخذ بما تقول؟ قلت: - خذ بما أمرت بالأخذ به، فما جئت لأدين أحداً، وإنما جئت لأنقذ مظلوماً، وأنت محاسب على ما تفعل، وتذكر: {يّوًمّ تّأًتٌي كٍلٍَ نّفًسُ تٍجّادٌلٍ عّن نَّفًسٌهّا} وقد ألزمت الحجة، وبلغتك الرسالة، فهل أنت مع الحق أم مع الرجال، قال: -أنا مع الحق. قلت: -وهل الحق مع الرجال أم الرجال مع الحق. قال: -الرجال مع الحق، وأردف يقول: - وهل معك شيء من كتب الوهابي. قلت: -الحكم على الشيء فرع من تصوره، فإما أن تتصوره، وإما أن تكف عنه، حتى يتبين لك الحق. قال: -وقول علمائي الذين أثق بهم، قلت: -وهموا كما وهمت، وأضلهم الخلط بين الديني والسياسي، ومضوا دون ان يتثبتوا، أو يبصرهم أحد، والله سيحاسبهم على نياتهم، وعلى مبلغهم من العلم، وإن كان من واجبهم التثبت، وصحة التصور، وسؤال أهل الذكر، ورحمة الله وسعت كل شيء، أما أنت فقد قامت عليك الحجة، قبل ان أسمعك الحق أنت معذور، أما وقد وضح الصواب فإن عليك ان تقبل الحق. إن الدعوة الاصلاحية التي قام بها، الشيخ المصلح (محمد بن عبدالوهاب) دعوة سلفية ترد إلى الله والرسول. وما نسب إليها من حروب أهلية ينظر إليها من خلال سياقاتها التاريخية وظروفها الوقتية، لقد طرد من مسقط رأسه، ولُوحق في مسارح دعوته، وتدفقت الجيوش من البر والبحر لإجهاض دعوته، هدمت الدرعية واقتيد قادتها إلى السجون والقتل والإقامة الجبرية، وما أحد نظر إلى عذاباتهم، وما نقموا منه إلا أنه يسعى لتنقية العقيدة ووحدة الكلمة، وقوة السلطان، والقضاء على الإقليميات والقبليات والطائفيات والخرافات. والدولة القائمة لا تنفرد بعبادة، ولا تختص بنظام، دولة إسلامية تحترم القوانين والحقوق والأنظمة وتجنح للسلم، وتتقبل معطيات الحضارة والمدنية، لاتعتدي، ولا تغدر، ولا تنقض عهداً، ولا تقتل مستأمنا ولا ذمياً، ولا تفجر طائرة ولا مبنى، ولا تخفر ذمة، عقدت مع الدول الكبرى عقوداً ومواثيق وصفقات تجارية، فكانت الأوفى، وما تعيشه الأمة من إرهاب إن هو إلا من فلول اللعب الكونية، وهي كغيرها مسرح للعمليات وليست وكراً للتفريخ.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:51 PM | #212 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
من يعتذر للإنسان العربي..!!
د. حسن بن فهد الهويمل عندما أنقم من الوسائل الاعلامية كافة، او من طائفة من المفكرين، او من احد من الادباء او النقاد الحداثويين او الحداثيين على سنن المفرقين بين صيغتي حداثي وحداثوي فإن محل النقمة لايمتد الى الامكانيات الذاتية ولا الى الايجابيات المخلوطة بالعمل السيىء، ولا تستدعي النقمة الاستغناء عن مستجدات العصر: الحضارية والمدنية، ولا تقتضي العودة بالأمة الى الخيمة والجمل والسيف والرمح، وليس شيء من الاعتراضات مؤشر ماضوية، كما يحلو للبعض ترويجه، ولا احسب عاقلاً رشيداً يقطع بمحض الخير او الشر، بحيث يعمم النقد، ويستبعد الفائدة، ويستغني عن المستجدات، والقائلون بمثل ذلك متحاملون يفقدون العدل والمصداقية، وما اكثرهم في مشاهدنا الثقافية والفكرية والادبية، ومع تجاوز السلب والايجاب فإن بعض تلك المحدثات اثمها اكبر من نفعها، مبئسةً: ولاية ونصيراً، وكل هذه الاشتات جزء مما نعايشه مع «قنوات الفضاء» و«مراكز المعلومات» و«وسائل الاعلام» ومن رابه الأمر فلينظر الى تداعي الترديات على كل المستويات. و«القنوات الفضائية» بوصفها ظاهرة توعوية سريعة التأثير، قوية الاثارة، ضالعة في التشكيك والتفريق والتلبيس والتدليس فإنها مع كل الامكانيات والدعم السخي وتهافت المنتفعين والموتورين والاضوائيين تمر بفراغات موضوعية تضطرها الى الافتعال والانفعال والتنقيب في الخبايا والزوايا بحثاً عن قضية وهمية يتلهَّى بها الشارع المتعطش لكل مثير، والرأي العام حين تتوتر اعصابه، وتحتقن مشاعره، وتشتد وطأة المشاكل والاحباطات عليه، يحتاج الى صمامات امان تقيه احتمالات الانفجار، ولقد ضحكنا قليلاً من مسرحيات ساخرة هادفة، وابهجنا تصورنا الساذج انها مبادرات بريئة لحرية الرأي، وبكينا كثيراً حين تبين لنا فيما بعد انها جرعات مهدئة، يعمد اليها الممسكون بأزمة الأمور، كي تخدر الألم، ولا تحسم الداء، وفوق هذا فإن الطرح الاعلامي لا يتهافت عليه المشاهدون الجوف إلا حين يوغل في النيل من أهل الحل والعقد، على حد: «إنَّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمن ولي السلطة هذا إن عدل» ولقد أطلَّت علينا بعض القنوات بأسلوب التباكي على وضع الانسان «العراقي» وكأنه المعذب الوحيد في المشهد السياسي العربي، وجاءت الدعاية للموضوع على طريقة التساؤل المنتفخ الاوداج: من يعتذر للشعب العراقي: العرب الذين سكتوا، أو واطؤوا النظام الصدَّامي، او تعتذر المعارضة التي جسَّرت الفجوات لقوات التحالف؟ وعلى كل التصورات فإن الشعب العراقي مع أنه ظالم ومظلوم في آن، لا ينقصه الاعتذار، وحاجته الملحة في الانقاذ مما ألم به جراء الاحتلال والفراغ الدستوري واليقظة البشعة للفتن النائمة، وما قتل الشعوب العربية إلا فيوض البلاغة والتعويل على الكلمة ونقيضها، فإذا أدين العرب، أو أدينت المعارضة، وحملوا أو حمل احدهما على الاعتذار المشهود، أيكون في ذلك إنهاء للمعاناة؟ أحسب اننا بمثل هذا نعيش مرحلة الظاهرة الصوتية. و«القنوات الفضائية» التي لاتجد ما تحمل الناس عليه من قول فصل تمارس الزعيق الأجوف، لا تزيد الأمة إلا ارتكاساً في وهدة الشقاء، فالجعجعة الكلامية التي تجيد صنعها، يقابلها حز الى العظم، ينتاب مفاصل الأمة العربية، فالصهاينة يحرقون الأرض، ويكسرون العظم، ويهتكون العرض، ويزهقون الأنفس البريئة، ويجتاحون المدن، ويغلون الأيدي، والأمة العربية تعايش الهرولة والتطبيع، وتختلط عندها مشاعر الحزن والغضب، وحراس الحرية والحقوق الانسانية كما يزعمون يواطئون المعتدي، بحيث يعدُّون المقاومة إرهاباً والإرهاب دفاعاً عن النفس، واللاعبون الضالعون في الخطيئات ينفضون أيديهم من لعبة، ويباشرون أخرى، وكل لعبة يظهر معها الفساد في البر والبحر، وتتجرع الشعوب العربية مراراتها، ومعاناة الأمة العربية لاتنتهي بانتهاء ويلات الشعب العراقي، الذي تبدت عذاباته يوم اقامة حكومته الجائرة، ويوم ضعنها، وماتبع ذلك من حلّ لجيشها، وإلغاءٍ لإعلامها، وتفرُّقِ الممسكين بأزمة الأمور بين قتيل وسجين وخائف يترقب في مخبئه، والنابشون للعفن السياسي يتهافتون على المعذرين من فلول النظام سعياً وراء التلميع والتمييع، وإذا لم يكن هناك موقف محدد من الأحداث والمحدثين تساقطت القيم كما ورق الخريف، وذلك ما نعايشه. إن معاناة «الشعب العراقي» قائمة ما اقامت دول التحالف التي تتصرف في الشأن العربي كله، وتسري في جسم الأمة كما الخدر: إما بالقوة حين تبدو للعيان، وهي تجوب الشوارع، وتمخر عباب البحر، وتخترق الأجواء، أو حين تلوِّح بها، أو حين تهدد بفرض العقوبات التي تقضي على الكرامة والحيوية، او حين تفرض على الحكومات المستضعفة ما لا قبل لها باحتماله، او حين تدفع بها الى المواجهة الاعلامية او العسكرية، وعلى كل الاحوال تضع عليها الاصر والاغلال، ولا تضعها عنها، وتحدد لكل شعب آليته العسكرية التي لاتخل بالتوازن، ولغته الاعلامية التي لاتكشف السوآت، ومداولاته الاقتصادية التي لاتؤثر على المكتسبات، وهي لاتقنع حتى يكون الشعب رجلها التي تمشي بها، ويداها التي تبطش بها، وإذا امرته اطاع، واذا سألته اجاب، وهو اذا نقل شكايته الى المؤسسات العالمية ومنظمات حقوق الانسان ماسمع في أروقتها الا «الفيتو» او الامتناع عن التصويت، او الوعيد والتهديد بقطع المعونات، وإذا لفظته المنظمات خارج اسوارها خاسئاً وهو حسير لم تسمع منه إلا الحمد والشكر والثناء والصبر والاحتساب، وكأنها «عزة» التي يدعو لها المتعذب: «هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ لعزة من أعراضنا ما استحلت» وإذا بدرت من ذلك المسكين «التيمي» هنةٌ كاللمم قامت الدنيا ولم تقعد واصبح كما عدو «ابن محمد»: الخائف في اليقظة والمنام، يخوف بالمقاطعة، ويرهب بالمطاردة، ويقتاد الى محكمة العدل الدولية ليحاسب على القطمير، ومجرمو الحرب انتقائيون، ذلك ان مفهوم الاجرام يتم وفق مواصفات خاصة، بحيث يكون «احمد ياسين» مجرماً يؤخذ بالنواصي والاقدام، فيما يكون «شارون» مسالماً يؤخذ بالاحضان، وفوق ذلك فإن من مجرمي الحرب من منح «جائزة نوبل للسلام»، والأمة العربية المقهورة تسمع، ولا تجد بداً من ان تصدق، وإن لم تفعل عرضت نفسها لويلات لا قبل لها باحتمالها، يزامن تلك الويلات استخفاف اعلامي مطاع، فالاعلام العربي عبر قنواته الفضائية وأنهر صحفه اليومية ومن خلال مواقعه المعلوماتية لا يفتأ يتهم أهله، ويطلب من أمته المغلوبة على امرها الاعتذار، وكأنها الاقدر على منع الاحتلال والحيلولة دون حل حكومة العراق، متناسياً اختلاف الزعامات العربية حول الاسلوب الأمثل لإخراج «العراق» من «الكويت»، غافلاً او متغافلاً عن سوءات الحضارة الغربية التي ينظر اليها وكأنها قطب الجلال والجمال والطهر والنقاء، ولو ان الاعلام العربي استبد ولو مرة واحدة وقال كلمة الحق، ولو ان الأمة في زمن المحنة هبت وقاطعت الحكومة العراقية، لما قضي الأمر بأيدٍ أجنبية، استمرأت فيما بعد ممارسة الوصاية والتدخل في أدق الخصوصيات. وإذا كانت تلك القنوات تُفيض على الانسان العربي بهدير كالرغاء وصهيل كالحمحمة، وتمارس جلد الذات المهترئة، وتستمرئ كشف العورات المؤذية، فأين هي من منظمات تسائله عن قتل امرئ في غابة، ولا تسأل غيره عن قتل شعب آمن، ومنظمات «حقوق الانسان» و«مجلس الأمن» و«هيئة الأمم» و«محكمة العدل» وسائر المؤسسات التي افرزتها ويلات الحرب العالمية الثانية، ما اريد بها وجه الحق، اذ نراها تطارد الانسان الثالثي عند كل صغيرة وكبيرة، واذا طرق ابوابها لتنصفه من اكلة لحوم البشر، كلَّ متنه عند ابوابها الموصدة، واذا نكص على عقبيه، لحقت به لتقضي امره، وتتصرف في شأنه، مشرعنة للأقواء تصريف شؤونه، غير عابئة بكرامته، ولا معتبرة لحريته، هذه المنظمات تريد للعالم الثالث ان يعيش متذيلاً لغيره، لا يُعدُّ قوة ترهب، ولا يخطط لزراعة ولا لصناعة تغنيان، وكل اهتمامها منصب على السلخ والمسخ والتمييع والتلميع والإلغاء، فهي تطالب بإلغاء التعددية «الأيديولوجية» والحضارية والعمل على التجنيس بالتبعية لا بالاختيار، وكيف تتحقق حرية الاديان وارادة الشعوب، ويعم الامان دونما ايمان صادق، يجسده الإقرار والقول والعمل و: «إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا» والإسلام حضارة، والمسلم له حقوق، وعليه واجبات، ومن حقه امتثال مقتضيات عقيدته، وعلى الاقوياء احترام التعددية «الايديولوجية»، غير ان المنظمات الموجهة ب«الريموت» تسلبه الحقوق، وترهقه بالالتزامات، ولا تتركه وشأنه، والإعلام العربي كما «براقش» مهمته ان يجني على أهله، والدين أي دين، والحزب أي حزب، والمذهب أي مذهب التزام بالمبادئ والمناهج، واحترام للثوابت، وما لا يقوم الاسلام إلا به فهو عراه التي لا يجوز نقضها، ومن حق الشعوب ان تُلزم نفسها بما تفرضه «الأيديولوجية» المختارة، ومن واجب المنظمات ودول الاستكبار احترام مشاعر الشعوب واعرافها، فهل تحملت تلك الحضارة الغربية مسؤولياتها الانسانية وعدلت بين الظماء، واتقت الارهاب بمنع اسبابه؟ وما اسبابه إلا الكبت واللعب الكونية. إن هناك صراعاً أزلياً بين الشرق والغرب، صراعاً «أيديولوجياً» وصراعاً «حضارياً» وصراعاً «استراتيجياً»، ومراوحة بين الحرب الباردة والساخنة، ومع انه بالامكان اعتزال هذه الفتن، واغلاق النوافذ لصد الاعاصير الا ان عالمنا يهرع اليها سواء دعي او لم يدع، وسواء كان من مصلحته ان يخوضها او لم يكن، ولأن هذا العالم الغريب يوظف كل امكانياته للحروب الكلامية والعسكرية بالأصالة او بالإنابة فان المتصارعين يتخذون من انسانه دروعاً بشرية ومن أرضه ساحة قتال ومن مقترفاته مشروعية تدخل، والقارئ للتاريخ الحديث يقف على محطات لاينفع فيها التمويه ولا التبرير، وفي ظل هذه الترديات لاتحسم الاشكاليات العصية بالاعتذار للإنسان العراقي، وإن كان لابد من اعتذار فإنه حق للإنسان العربي، فمن يعتذر له؟: الغرب بكبريائه وغطرسته وتحريشه وايقاظه للفتن او صياغتها. او الشرق برعونته ومغامراته وتخاذله. او حكام العالم العربي بجورهم وظلمهم او المفكرون العرب بكذبهم وتضليلهم بل اكاد اقول: أيعتذر الانسان العربي من ذاته لذاته، فهو الذي ظلم نفسه، وظلم ذوي قرباه، فمن نفذ مظالم الحاكم العراقي، ومن الذي سام العراقيين سوء العذاب، اليسوا من ابناء جلدتهم، والتاريخ السياسي الحديث يؤكد ان المتأذي من المجازفات والمغامرات انما هو الانسان العربي بما فيه الانسان العراقي، إذ لم يكن الانسان العراقي وحده من مسه الضر، وغفل عنه من تجمعه بهم العقيدة واللغة والتاريخ والأرض، والمواطن العراقي يحتمل ما يحتمله الانسان العربي، فهو الذي صنع الصنم، وهو الذي خاض معه كل الحروب، وهو الذي هب معه لاجتياح «الكويت»، وهو الذي سام ابن جلدته سوء العذاب، وهو الذي اقام الحجة على نفسه، وإن كانت حجة واهية، اتخذها القطب الواحد ذريعة للاحتلال العسكري، ودول التحالف الذين اعلنوا الاحتلال، ليستغلوا مقتضياته، لم يستأذنوا المعارضة العراقية، ولم يستفتوا الانسان العربي، ولم يكتسبوا الشرعية من المنظمات، لقد كذبوا على شعوبهم، واضلوهم بدعوى القضاء على سلاح الدمار، وتحرير الشعوب، وإقامة العدل والحرية، وهم حين اقترفوا ماهم مقترفون احسوا بخطأ التصرف، ولكنهم وصلوا بسياستهم الى مرحلة اللاعودة. لقد جاء الإيذاء من كل جانب، لفحات تؤزها الأحقاد والضغائن، ويطال لهبها القاصي والداني والبريء والمذنب، فكان الايذاء حروباً أهلية وحدودية، وكان إفكا يشكك بالعقائد والأفكار والنوايا، وكان احلافا تضر بالمصالح، وتعرض الأمن والاستقرار العربي للاضطراب، وكان تنفيذاً للعب: إقليمية وكونية، وكان كبتا للحريات، ومصادرة للحقوق، ومغامرات طائشة، جلبت الفقر والفاقة، وعوقت الخطط، وأضاعت المقدرات، وتشتت الكفاءات البشرية ومقدرات الأمة في آفاق المعمورة، وكان غلوا في الدين ووقاحة في العلمانية، تؤزها أيد خفية، وكان جهادا حين كان في السرب وارهاباً حين غرد خارجه، وكان من قبل ومن بعد اعلاماً مضللاً يفرق ولا يجمع، ويستعدي ولا يصد، ويشيع قالة السوء ولا يعف، ومع كل ما هو قائم فإن في الكأس بقية، وباب الأمل مفتوح، فهل يعقب الاعتذار تحرف راشد، يستبينه أهل الحل والعقد قبل ضحى الغد؟ ارجو ذلك.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:51 PM | #213 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
قراءة الأحداث وترتيب الحلول عليها
د.حسن بن فهد الهويمل المفكر الفرنسي (تيري ميسان) في كتابه (الخدعة الكبرى) قال: إن أمريكا هي التي صنعت اللعبة الكبرى، وهدّمت برجيها، وضربت (بنتاجونها)، هذا لون من القراءات والتصورات للأحداث الجسام، والمشتغلون بتفكيك الوقوعات السياسية لايستغربون مثل هذه القراءة غير المبررة، وصناع القرارات المصيرية قد يرون ما يراه مثل أولئك القراء المغربون، فيكون الفعل الشاذ شذوذ الهوج القرائي وبالقراءة والفعل الشاذين تقع الكوارث. ولا مراء في أن أي ممارسة لا تستند إلى مشروعية ولا إلى معقولية تكون تربة خصبة لتناسل الآراء والتصورات الشاذة. والحروب التأديبية أو الوقائية أو الاستباقية والتدخلات القسرية في شؤون الغير محفزات لممارسة القول الخرافي، وتجليات القطب الواحد تتسع للقول ونقيضه، لأنه تلون حرباوي تحكمه المصالح، ولا تصرفه المبادئ. والضربات المفصلية مظنة الفرضيات الغريبة، والحديث المتناقض عن الأحداث الكبرى يظل في نماء وتشعب، حتى يخرج من الواقعية إلى الخرافة ومنها إلى الأسطورة، ويكون الفعل المترتب عليه اسطورياً. وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر بدأت تتجه صوب المستحيل وغير الممكن، ومثل هذه القراءات التخرصية عن تلك الأحداث قالها غربيون، ولو قالها غيرهم لم نشر إليها، ومن حقنا أن تكون لنا قراءتنا مثلما لغيرنا قراءته. والإشكالية ليست في تعدد القراءات، وإنما هي في ترتيب الحلول على تناقضاتها، وليس من قال: إن أمريكا هي التي هدمت أبراجها بأغرب ممن قال: إن المناهج الدراسية والحركات الإصلاحية في المملكة هي صانعة الإرهاب، ولو أذعنت المملكة لمثل هذه القراءات وغيرت مناهجها وأدانت دعوتها الإصلاحية لكانت الطامة الكبرى. وضرب أمريكا في الصميم مظنة التخرصات، ولاسيما أن الفاعل الحقيقي لما يزل في ظهر الغيب، وحين لايكون ماثلا للعيان يكون من حقنا ان نفكر، وأن نقدر وفق إرادتنا، ولو على سبيل الرياضة الفكرية، وقد نخطئ من حيث التفكير والتقدير، وإذ تكون السياسة عصية الانقياد فإن كل شيء فيها قابل للقراءة عبر كل المستويات، وكل مخرجاتها قابلة للتأويل، والقواصم في تحفيز القراءة الغرائبية للفعل المصيري، والعواصم في السبر والجس والاستواء على أرضية الحقائق. وكل إنسان مغرم بالتفكير والتساؤل، ومن ثم قيل: - (فكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله). وإذا ارتاب الناس بالمغيبات، وأباحوا لأنفسهم الخوض في كل شيء، فهم مع عالم الشهادة أشد ارتياباً وتساؤلاً. وقد تستدرج الرغبة المستخفين لقومهم فتتجاوز بهم المجال الممكن إلى غير الممكن، ومن ثم تكون الهواجس إشاعات، وتتحول الإشاعات إلى رواسب فكرية، ينعكس أثرها على تصرفات الآخرين، و(حرية التفكير) تختلف عن (حرية التعبير)، فالإسلام منح الإنسان حرية التفكير المطلقة، ولكنه نصحه بعدم القفو لما ليس له به علم، ولما لا طائل تحته من فضول الأشياء، فيما قيده في مجال التعبير {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ} {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ} {وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {لا يٍحٌبٍَ اللّهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ القّوًلٌ} {وّهٍدٍوا إلّى الطّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ}. والمتابع لفيوض القنوات، ومستقر المعلومات، وما خط في الصحف والمجلات يصاب بالذهول والارتباك والارتياب، إذ يسمع أو يقرأ أو يقف على تصورات في غاية الشذوذ، وبالتالي تربكه أفعال في غاية الغرابة، والذين يأتون بالإفك، والذين يتقبلونه بقبول حسن، والذين يرتبون أفعالهم على ضوئه، يقترفون الأخطاء الفادحة، ويحملون الأبرياء جرائر لا قبل لهم باحتمالها، وما العمليات الانتحارية والإرهاب المنظم إلا ناتج قراءة خاطئة أضلت من أضلت، حتى جاد المنتحر بأغلى ما يملك، لتفقد أمته أغلى ما تملك، وهو الأمن والاستقرار. وحين تكون الآراء والتصورات وقراءة الأحداث شاذة أو متناقضة، يصبح المتابع فريسة للأوهام والتخرصات، وحين لايستقر الإنسان على رأي حصيف ممحص يكون المجال مهيأ للمفسدين والانتهازيين وأصحاب الأهواء، بحيث يستزلون المترددين، فلا يجدون بدا من طاعتهم والوقوع في حبائلهم. وأخطر المشاكل مشكلة المفاهيم واختلافاتهم والتأويلات وتعددها، وما احترب الناس إلا حين اختلفت مفاهيمهم، وما نسلت الملل والنحل إلا من عباءة التلقي، والمفكرون يتصدون للأفكار ومصادرها، ويستخفون بآلية التلقي والتأويل، وإشكالية الحضارات في تعدد (نظريات المعرفة) و(نظريات التلقي) و(آليات التأويل). والحياة تتناسل فيها المشاكل بمثل ما تتناسل المقومات، والصراع أكسير الحياة، والوفاق حلم الطيباويين، والإشكالية ليست في الاختلافات المتنامية، إذ قيامها حتم، ولكنها في أسلوب المواجهة وطرق الحل. والذين يريدون الحياة ملائكية خالية من أي منغص يضربون في فجاج التيه. والدول الكبرى ذات الأيدي الطويلة والقوة الرادعة حين تتخطى القول إلى الفعل، ثم تمنى بإخفاق ذريع لا يحال ذلك إلى ضعف قوتها، وإنما يحال إلى خطأ قراءتها للأحداث وترتيب المواجهة على ضوء مستخلصات القراءة، وأمريكا لم تهزم عسكرياتً في (كوريا) ولا في (فيتنام) ولا في (الصومال) وإنما أخطأت التقدير والتوقيت، بسبب خطأ القراءة، وأحسبها وقعت في الخطأ ذاته في (أفغانستان) و(العراق) وفي تصدرها لرعاية السلام بين العرب واسرائيل، وفي فهمها الخاطئ لمصادر الإرهاب، والمنطقة مقبلة على شر مستطير ما لم يعد الجميع قراءة الأحداث والمصائر بعقولهم لا بعواطفهم. إن الحصافة ان تضع الدول والجماعات والأفراد في حساباتهم تكاثر المشاكل وتناميها، وتعدد القراءات وتناقضها، لكيلا يكون المستضعفون دولة بين الأقوياء، فكل من توقع شيئاً هيأ نفسه لمواجهته، وحين يكون الاستعداد وتعدد خيارات المواجهة، تكون مؤشرات النجاة أكثر، واحتمالات التغلب أقوى، والذين لايمتلكون بوابات توقف العابرين وتساؤلهم عن الرؤى والتصورات تفيض أوعيتهم بالخداع والتضليل. لقد سمعنا من المؤسسات الغربية تباكياً على (حقوق الإنسان)، ومجت أسماعنا ما يتداولونه من لغط حول انتهاكات الحقوق من المؤسسات السياسية، وحسناً ما يفعلون. فكم من حكومات ظالمة تحتاج إلى من يعينها على نفسها، وكم من فئات مضطهدة لايرفع عنها الظلم إلا التصدي للسلطات الظالمة وكشف سوءاتها، وجميل موقف الدول الكبرى لو أنها لم تكن انتقائية ولا مصلحية، ولو أنهم قرؤوا الواقع بعيون ثاقبة ونوايا حسنة ومقاصد سليمة. غير أنهم حين يريدون استغلال أي نظام يدعون تحرقهم على (دستوريته) و(برلمانيته) وتداولية السلطة فيه، وحين يكون قوياً عادلاً أو دستورياً برلمانياً، ثم لايكون في ركابهم، لايمانعون من افتراء الكذب، والعمل على اسقاطه بأي حجة، ولا يترددون في المبادرة إلى طرح ملفات نائمة: ملفات (حقوق الإنسان)، و(الأقليات) العرقية والدينية، وملفات (الحدود)، و(المعارضة)، و(قضايا المرأة) والسكان والأرض والاقتصاد والتلوث وسقف الانتاج والسعر، وسائر متطلبات العولمة المتأمركة. وحين لايجدون ملفات حقيقة بالفتح يخلقون من الحبة قبة، أو يفتعلون قضايا لم تكن معروفة من قبل. والشارع العربي المحتقن يصيخ لكل قول، ويصدق كل ادعاء، فهو من السماعين للاتهامات والناقلين للإشاعات، وحكومات العالم الثالث مظنة أي اتهام، فهي كالأجسام القابلة للجراثيم و(الفيروسات). وإذ لا ننكر المظالم ولا (الدكتاتوريات) ولا المقابر الجماعية ولا السجون والتشريد وكبت الحريات فإننا نود أن يكون الغرب صادقاً في إثارتها، موثقاً للتجاوزات، منصفاً في المواجهة. بحيث لا يتستر على مظالم، فيما يشيع أخرى لمجرد التخويف أو التركيع، وبحيث لايدس أنفه في قضايا شعب آمن متصالح مع حكومته. وكيف يستقيم أمر العالم والمتكبرون والمتجبرون يصنعون (الأيديولوجيات) كما يصنعون السيارات؟ ويريدون أن يكون تصدير الفكر والآلة بمستوى واحد وقبول واحد. لقد شهد العالم فظائع (إسرائيل) ولم نر ولم نسمع إلا (الفيتو) عند إثارة المظالم وإلا التسليح والمساعدات والتأييد عند اتخاذ القرارات التي تحق الباطل وتبطل الحق. وفي ظل التطاول والتعدي فكرت بعض دول المنطقة في التزود من قوة الردع غير التقليدية، فما كان من الغرب المحكم قبضته إلا أن عرقل مشروعها، بدعوى حفظ التوازن، ومع أننا ضد التسليح النووي إلا أن الغرب يغض الطرف عمن يريد تسلحه، ويضيق الحصار على من لايريد، وقد مارس ضرب المفاعلات النووية، حتى وان كانت للأغراض السلمية. والنخب العربية مع وضوح الانحياز وتجلي التجني يختلفون فيما بينهم، والاختلاف حول المعلوم من السياسة بالضرورة مؤشر تخلف أو مواطأة، ولو ضربنا المثل بظواهر في منتهى الحساسية لتبدت لنا ثغرات في الفكر النخبوي الذي لايحسن القراءة، ولا يتصرف حين يُهدى إلى الحق. فالإرهاب العشوائي الدموي يمارس من قبل الصهيونية على أرض فلسطين، ويمارس في مواقع عدة من العالم، وقراءة الممارستين تختلفان حدة ومواجهة، وما من قارئ رشيد يربط بينهما، بحيث تكون ردود الفعل متجانسة، وما كانت (إسرائيل) في وضع من العلاقات الحميمة مثلما هي عليه الآن، فالاعتراف والتطبيع والتبادل التجاري العربي الإسرائيلي يتقدم خطوات إلى الأمام، فيما تتعقد القضية الفلسطينية، فهل هذا ناتج قراءة مضللة أم أنه مواطأة متعمدة؟. ومع الانتهاكات البشعة فإننا لا نسمع أي كلمة منصفة بل نجد من يبرر فعل اليهود بالمواطنين الفلسطينيين العزل، ويحيل الإرهاب الإسرائيلي إلى الدفاع عن النفس، ويحيل المقاومة الفلسطينية إلى الإرهاب، والناس في حيرة من أمرهم. فأمريكا حين تتزعم العالم ثم تكيل بعدة مكاييل تفقد مصداقيتها واحترامها والتعاون معها، ومع كرهنا لكل عمل غير إنساني نود من دولة قوية كأمريكا ان تكون عادلة منصفة، يذعن لها الجميع رغبة لا رهبة. والرغبة لا تتحق إلا بالعدل والانصاف والمساواة، والرهبة تفرضها قوة السلاح، ولكن ثمن الإرهاب باهظ التكاليف، وزمنه قصير. فالظلم ظلمات، والله أقسم على نصر المظلوم ولو بعد حين، والدولة الظالمة مصيرها للدمار، مسلمة كانت أو كافرة، لأن الظالم مؤسف لله، والله حين يأسف ينتقم، قال تعالى: {فّلّمَّا آسّفٍونّا \نتّقّمًنّا مٌنًهٍمً} والتخطي بالحلول من (الدبلوماسية) الفاضلة إلى القوة القهرية المفضولة بوادر ظلم، تعرض الظالم لعقاب ممن حرم الظلم على نفسه. وليس ببعيد أن تكون المبادرة العسكرية ناتج قراءة خاطئة أو مخادعة. ودول التحالف حين وقعت في المستنقع، بدأ الضالعون في القراءات الخاطئة يحيلون إلى ما بلغهم من الاستخبارات من تقارير حرفت فيها الحقائق، فوقع القارئ في فخاخها، وما انتحار (كيلي) واستدعاء الأطراف الضالعين للإدلاء بشهاداتهم إلا مؤشر تقدير وتوقيت خاطئين، وكل حدث يرد إلى قراءته. والحل العسكري الذي بادر إليه الأقوياء ما كان له أن يسبق الحلول السلمية، فهو حين لايحقق النتائج المطلوبة يبدأ العد التنازلي لمستخدمه، وأمريكا اختارت الحل العسكري على سائر الحلول، وهي إذ تركن إلى قوتها العسكرية، وتفرض القرارات بقوة السلاح يتحول العالم إلى عدو متربص، قد يذعن لهدير المدافع وقصف الراجمات، ولكنه سينسل من تحت غبار الهدميات، كما نسل (اليابانيون) من تحت الإشعاع النووي، واختاروا الحرب الاقتصادية فهزم الغرب كله. واهتياج أمريكا وإقدامها على مغامرات محفوفة بالمخاطر قد تكون مدفوعة بالقراءة الخاطئة أو بالكتابة المحرفة، وكم من زعامات تشظت بسبب الخطأ في قراءة الأحداث أو القراءة عنها. والنكسات الموجعة التي يتعرض لها العالم العربي والإسلامي سيكون لها أثرها الايجابي، متى أحسن المتضررون تغيير ما في أنفسهم، ولا أستبعد صحوة تجعل الإنسان العربي يفكر في مصيره وموقعه. وحين تمل أمريكا من حرق الأرض وكسر الظهر، تعود لتقويم النتائج والتفكير في الحلول السلمية، وساعتها يكون الإنسان العربي قد جرب القتل العشوائي، وقدم الضحايا المجانيين، وتحول من مسالم إلى مقاتل، ومن مصالح إلى منابذ، وأدرك أنه بحاجة إلى ان يبدأ التفكير الجاد لإقامة أنظمة دستورية ومجالس تشريعية وعمل جاد لمواجهة الحياة بكل ما تغص به من مشاكل. إن الأزمات تخلق الحلول، وما من أزمة خانقة إلا وتؤدي إلى فضاءات رحبة. المهم ان يعي الإنسان العربي أنه رهين عمله وتفكيره فليكن جاداً وحاداً، جاداً في العمل حاداً في التفكير. ومتى علم الله منه حسن النوايا وسلامة المقاصد والأوبة النصوح سهل له طريق الرشاد. {وّتٌلًكّ الأّيَّامٍ نٍدّاوٌلٍهّا بّيًنّ النّاسٌ}. وقانون التداول والتدافع نافذ، ولا عمارة للكون إلا بالصراع فهو أكسير الحياة، ومتى أمن الإنسان وشبع استرخى، وإذا خاف وجاع فكر في طريق الأمن وطريق الشبع، والحاجة أم الاختراع.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:53 PM | #214 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
بغداد يا قلعة الصمود..!
د. حسن بن فهد الهويمل يبدو لي أنه لم يعد بمقدور المتبلدين إحساساً احتمال ما يرونه من مناظر مفجعة، وما يستمعون إليه من أخبار مزعجة، تجتاح مشاعرهم في الغدو والآصال عن عذابات (بغداد الرشيد)، بكل ما تنطوي عليه من طارف وتليد. ولا أحسب رجلاً فيه ذرة من إنسانية لا يتمعر وجهه مما يعانيه الإنسان العربي المسلم في بلاد الرافدين، مرقد الحضارات الشرقية والإسلامية، إلا إذا كان ك(المتنبي) في تساؤله المتألم: (أصخرة أنا ما لي لا تحركني تلك المدام ولا هذي الأغاريد؟) وليس على أرض العروبة إلا العلقم والفحيح والويل والثبور، وما أكثر الذين لا تحركهم تأوهات المتعذبين، ولا يعتصر قلوبهم أنين المدنفين، ولقد أطلقها (حكيم المعرة): (غير مجدٍ في ملَّتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي) وبئست حضارة لا ترحم ولا تلين، ولا تقتضي نصوصها العدل والإنصاف والرأفة والحرية، وبئست أمة تقول آمنَّا، وهي لم تُسْلِم فضلاً عن الإيمان، والدين المعاملة والحب المتبادل والاهتمام بأمر المسلمين. ومن ذا الذي لا يمضه الألم، ولا تذهب نفسه حسرات على ما يعانيه شعب عربي، مسه الضر، وأضنته المصائب، وتجرع مرارات الذل وعذابات الفقر ومنغصات الخوف، على امتداد الحكومات الثورية، وعلى يد قوات الاحتلال الأجنبي، الذي أحدث فراغاً دستورياً، تململت من تحته الخلايا النائمة، وتمكنت كل الفئات والطوائف والأعراق المكبوتة من أن تتنفس من تحت الماء، ممارسة أعنف المواجهات الدموية لتصفية الثارات واقتسام الغنائم، حتى لقد أصبح الإنسان العراقي شَويَّةً على سفُّود حكم جائر طاوله عشرات السنين، وفراغ دستوري مفزع، ومحتل يحسب كل صيحة عليه. والقارعة أن هذه الأوضاع تشكل خطورة محلية وإقليمية، وتهدد أنظمة وكيانات جُرَّت بالسلاسل إلى أتون الفتنة. فالحكم الثوري المتسلط انتزع الحرية، والمحتل المعتدي انتزع الأمن، فكان هناك أمن الخوف، ثم أعقبه خوف الفوضى. والشعب العراقي الذي فقد إمكانياته المادية وطاقاته البشرية ومقوماته الحضارية طاولته محن الحروب الشرسة عشرات السنين العجاف التي أكلت البقرات السمان والسنبلات الخضر، حتى لقد ذهبت معها الأنفس والأموال والثمرات، واستفحل الجوع والخوف والمرض، وانتهكت الأعراض، وديست الكرامات، ولمَّا تلح للمتفائلين ولا للمتشائمين بوارق أمل، فكل شيء ينحدر إلى الهاوية، والناس من حوله في ذهول وارتباك وعجز. فالثورات في العراق دموية عنيفة، تعمدت التصفية الجسدية، واستمرأت الحروب الحدودية والطائفية، واختارت القبضة القبلية والحزبية الإكراهية، وتعمدت نسف جسور التواصل مع الأقارب والأباعد. تحت هذه الظروف الضاغطة حاولتُ الهروب من الواقع المرير إلى الماضي المجيد، أملاً في بلسمة الجراح، فكان أن عدت إلى (مكتبتي)، وعنَّ لي أن أقرأ (بغداد) الحضارة والتاريخ، (بغداد) الأمجاد، (بغداد) الخلفاء والقادة والعلماء والشعراء والمفكرين، (بغداد) الحضارة الإسلامية والإنسانية. (بغداد) التراث والآثار، (بغداد) المكتبات والمتاحف، (بغداد الرشيد) الذي نظر إلى سحابة لم تمطر، فقال لها: (أمطري أنَّا شئت فإن خراجك عائد إلي)، وأربط بين بغداد الأمس المبهجة وبغداد اليوم المفجعة، وأسأل عمن اقترف هذه الجرائم المتنامية، وأعاد شبح الضياع. لقد تبدت لي في أعماق النفس جراحات (الفردوس المفقود). وما (قرطبة) و(طليطلة) و(غرناطة) من (بغداد) ببعيدة. وما حضارة (الأندلس) بأقل من (حضارة الرافدين) وما الظروف التي عاشتها (دول الطوائف) من تفكك وتنازع وانهزام فكري واستعداء للأعداء وضعف عسكري وديني واقتصادي وعصبية وإقليمية وطائفية وتفلت على الشرعية ببعيدة عما تعيشه دول المنطقة في راهنها الأليم. ولما كانت نقطة الضعف القاصمة في المثقف العربي أنه لا يقرأ الحضارة العربية إلا من خلال التاريخ السياسي، أو من خلال التجريح الاستشراقي، كان لا بد أن ننبه إلى ما أهمله القارئ العربي، ولم يهمله التاريخ، ذلكم هو (التاريخ الإسلامي) ولا سيما في ظل الظروف القائمة، التي تحمِّلُ الإسلام مقترفات المسلمين، وتُوجِّه بالحلول العلمانية، وكم هو الفرق بين تاريخ بغداد السياسي وتاريخه الإسلامي، وإن كنَّا لا نجهل «قرن الشيطان» ومطابخ الفتن وجدل (المغيرة) مع (عمر) و(الحجاج) و(البرامكة) والمحن والإحن والتاريخ الدموي. ومع كل ذلك كنت أقول: إن هناك تاريخاً للإسلام وتاريخاً للمسلمين، وأن هناك فجوة بين التاريخين، وحضور تاريخ المسلمين يكاد ينفي حضور التاريخ الإسلامي. فالذين يقرؤون التاريخ السياسي وما أفرزه من ممارسات مناقضة لمقتضيات الفكر السياسي الإسلامي ومن صراع على السلطة، وظلم وجور واستبداد واستباق إلى الفتنة يصابون بالإحباط والشك والارتياب، وقد تبلغ بهم الحماقة ذروتها فيحمِّلون الفكر السياسي الإسلامي كل الجرائر، ولا يجدون ملجأ إلا أن يسايروا المعولين على تجارب الغرب العلمانية الشمولية، بحيث لا يفرقون بين محاسبة المبادئ ومراجعة الإجراءات، ذلك أن الفكر السياسي الإسلامي يستوعب محاسن السياسات السابقة منها واللاحقة، ولو أخذ به الساسة المسلمون كما أراده المشرع لكان القدوة لكل نظام سياسي، وقد أنكر الله على من استشرف لحكم الجاهلية {أّفّحٍكًمّالجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ}. والذين يتجاوزون أوضار السياسة، ويصلون حبالهم بالتاريخ الحضاري الإسلامي، يشعرون بمرارة الضياع. وقد تنبه البعض لهذه الحلقة المفقودة، وحاول أن يكتب فيها بعض ما يجب، نجد ذلك عند المؤرخ للعقلية العربية (أحمد أمين) في سلسلته الحضارية (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) وهي دراسة حضارية لها وعليها، وميزتها أنها ارتبطت بالإجراء، ولم ترتبط بالنظرية، وانطلقت من التاريخ، ولم تنطلق من المساءلة والنقد، كما فعل (الجابري) في مشروعه الأكثر حضوراً وإثارة عن (نقد العقل العربي). ودراسة (أمين) حاولت أن تعيد قراءة التاريخ الحضاري بعيون العقلية الاعتزالية. وأكاد أجزم بأن أهم مرجعية لتأريخ الإسلام إنما هو: (تاريخ بغداد) و(تاريخ دمشق) و(سير أعلام النبلاء) وسائر كتب الطبقات والمناقب، ذلك أنها ترصد تاريخ صناع الحضارة والعلم، فيما يرصد التاريخ السياسي الحوادث المؤلمة والحروب الطاحنة والصراع على السلطة، وبين التاريخين يأتي (تاريخ التمدن الإسلامي) الذي أراد له المغرضون الحاقدون أن ينطلق من القصور وما فيها من الغلمان والجواري، ومن الحانات وما فيها من القاذورات، فعل ذلك (جرجي زيدان). وإذ غفل التاريخ السياسي عن المعطيات الحضارية، فقد غفل المؤرخون للتمدن الإسلامي عن المدنيات وزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وهكذا ضاعت الأمجاد بين الرغبات والشهوات. وكنت كلما عشت حالة من الكآبة واليأس والإحباط عدت إلى تاريخ الرجال، أجيل النظر فيما تركوه من حضارة فرطنا فيها، وتمثلها سراق الحضارات، وما فرطوا في شيء مما هو مناسب لمادياتهم، بحيث نقلوها مادة تتمثل بملايين المخطوطات وقطع التراث، وكتابة تقوم بتحقيق المخطوطات وترجمة المعارف، وامتثالاً يتجسد بالممارسات الدستورية والتشريعية والشورية، ولهذا قال بعض المفكرين:- رأيت في الغرب إسلاماً، ولم أر مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين ولم أر إسلاماً. وهي مقولة لها دلالتها، فالعدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وإعداد القوة العلمية والاقتصادية والعسكرية من المقاصد الإسلامية التي تمثلها الغرب، وأهملها المسلمون، منشغلين بالتنازع على السلطة أو مُستَغلِّين بالغزو والتآمر. و(تاريخ بغداد) الذي ركضت إليه برجلي بحثاً عن مغتسل بارد وشراب وثَّق حضارة العالم الإسلامي، وترجم للخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأشراف من علية الناس وسائر طبقات حملة العلم من النحاة والصرفيين والبيانيين واللغويين والقراء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين من سائر النحل والملل والمنطقيين والأصوليين والمجتهدين والفقهاء والقضاة والفرضيين من سائر المذاهب والزهاد والنساك والمتصوفة والقصاص والوعاظ والرياضيين الحسَّاب والمهندسين والفلكيين والمنجمين والموسيقيين والأطباء والصيادلة والجراحين والكتّاب والخطاطين والمتأدبين والإخباريين والنسابين والمؤرخين والعروضيين والشعراء والمغنيين والرماة والفرسان وحذاق الصناع. كل هؤلاء يذكرهم، ويذكر مؤلفاتهم، وكل هؤلاء عاشوا في بغداد أو مروا بها، وها هي اليوم تخوض مستنقعات الفتن، ويكثر فيها الهرج والمرج، ويهددها التقسيم الطائفي والعرقي، ولا من ولي ولا نصير يواسي أو يأسو أو يتوجع. و(البغدادي) الذي أتى على كل هذه المعارف عاش في القرن الخامس الهجري، فكم من العلماء والمفكرين ممن جاؤوا من بعده، وجسدوا بعلمهم وثقافتهم وحذقهم جانباً من التاريخ الإسلامي. هذه الفيوض وسعتها أرض الرافدين، ولما يزل العلماء والمفكرون والشعراء والأبطال يداس رفاتهم، وكأن المعري أدرك هذا ليقول:- (خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد)، وها هم علماء العراق وخبراؤه يتخطفون من حوله، كما تنتهب معالم الحضارة ونوادر الآثار، وكأن المحتل موكل بطمس الذاكرة والتاريخ معاً. والخطيب البغدادي كما في (الوفيات 92/1، وتهذيب ابن عساكر 398/1، وطبقات السبكي 12/3، والمنتظم 265/8، والمعجم 13/4، وتذكرة الحفاظ 1135، والعبر 253/3، والشذرات 311/3) من الحفاظ المتقنين المتبحرين، وله إلى جانب التاريخ مائة مصنف، برع في الفقه والحديث والتاريخ، ولد سنة 392 وتوفي سنة 463هـ. لقد رصد جانباً من حضارة العالم الإسلامي الذي يعده المستكبرون من الشعوب المتخلفة، وما حل به وحال بينه وبين مواقعه الطبيعية إلا الاعتداء والمواطأة، اعتداء الدول الكبرى التي نظرت إليه كمارد في قمقم، ومواطأة الشعوب الإسلامية ممثلة بقادتها ونخبها وقابليتها للخنوع والخضوع والاستسلام. هذا التاريخ الحضاري حفظ للمنبهرين بمدنية الغرب من أبناء الإسلام ما تنطوي عليه بغداد الجريحة. والمؤلم أن هذا التاريخ الحضاري المشرق نبذه الأبناء العققة، وتلقفه الرجل الأبيض، ليشرق كما الشمس في ظلمات التخلف. والمستشرقون الشرفاء الباحثون عن الحق، ينصفون الحضارة الإسلامية، ويذكرون أفضالها على كل ما لحق من حضارات، والحاقدون الناقمون يكتمون الحق، وهم يعلمون، والتبعيون من أبناء المسلمين يسايرون أولئك، ويتصورون أنهم عالة بالفطرة على الغير، مؤكدين بفعلهم أنه لا فلاح لهم إلا بالمروق من الدين والدخول في الحضارة المادية. ولقد أصِّل الردة الحضارية في نفوسهم ما مروا به من تجارب وحدوية وقومية وحزبية فاشلة، وما عايشوه من حكومات عسكرية سامتهم سوء العذاب، وفي كل تجربة يرذلون، لأنهم يعودون لما نهوا عنه، ولا يستجيبون لما أمروا به. والهروب إلى التاريخ الحضاري يبلسم الجراح، ويشفي الصدور، ويفتح أبواب الأمل، فالأمة التي تمتلك مقومات الحياة الكريمة قادرة على التحرف السليم، وإذا هبط النسر من قمته إلى السفح لأي سبب، فإن نسوراً أخرى قادرة على أن تعود إلى قممها، والنسر مهما ضعف لن يكون من بغاث الطير. والأمة العربية التي تزحف في السفوح باستخذاء أبنائها ومكر أعدائها فيما يخفق بغاث الطير في الذرى بحاجة إلى من يعيد إليها ثقتها، ويبصرها بأمرها وبرسالتها في الحياة، لتبدأ رحلة العودة. وإذا كان (ديجول) و(تشرشل) قد أقالا عثرة (الفرنسيين) و(البريطانيين) في أحلك الظروف فإن (صلاح الدين) من قبل و(عبدالعزيز بن سعود) من بعد فلا مثل ذلك، فحرر (صلاح الدين) بيت المقدس ولملم «عبدالعزيز» أطراف الجزيرة، ولم تزل الأمة قادرة على إنجاب القادة المنقذين الذين يزنون الأمور، ويعالجون مناطق الضعف، ويعرفون الثنيات المهملة ومكائد الأعداء، ويفقهون الواقع، ويلبسون لكل موقف لبوسة، فلا يموؤون في وقت الصهيل، ولا يزأرون في وقت الضعف والهوان وقلة الحيلة. لقد زرت العراق أكثر من مرة، يوم أن كانت المنطقة تعيش خدر اللعبة الكونية، وكانت النخب كما شاعر غزية في معيته الغاوية لا في إبانته الراشدة، والتقيت يومها بعمالقة الفكر والثقافة والأدب، وهم يعيشون حالة من الشلل الفكري، وتزودت من إبداعات المبدعين ومعارف المثقفين، ودخلت مكتباتها العريقة وتزودت منها بنوادر المطبوعات، واليوم لا نراها إلا مهيضة الجناح، لا تشم في أجوائها إلا رائحة البارود، ولا ترى على أديمها إلا الرماد والرميم. عراق الحضارة تعرض لحملتين شرستين:- (التتار) و(التحالف) مهدت لهما أوضاع شاذة، خارجة على كل الأعراف والدساتير، والأعداد المتربصون كما الأوبئة تخمل عندما تقوى أجهزة المقاومة، وتستشري عندما يضعف الجسم، وتقل المناعة. وما أتى العالم الإسلامي إلا من قبل نفسه، فهو بأوضاعه وممارساته يشكل قابلية للاستعمار. والعراق العريق تتقاذفه أمواج عاتية من جور أبنائه إلى حقد أعدائه، ومن سوء أفعاله إلى خوف جيرانه، ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه، وعلى كل المضطهدين أن يفكروا ويقدروا، وألا يمكنوا العدو من أن يقتلهم من حيث يكون التفكير والتقدير.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:54 PM | #215 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ
} د. حسن بن فهد الهويمل في ظهورهم، وفي العراق كل يوم تقطع أصابعهم أما إذا دخلوا إيران فستكون حياتهم فيها ليلاً ليس له آخر! قام من فراشه قبيل الظهر، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، متناسياً أنه سبعيني مكانه في الصف الأول بين المصلين، ولما تقم شمطاؤه نؤومة الضحى، ولا أولاده الذين تقطعت بهم الأسباب، وتسربوا من الدراسة، بعدما أترفهم بما يغدقه عليهم من مطعم ومشرب لم يطبهما. ولم يكن من حوله في اليقظة، ولا في النوم إلا طائفة من العمالة الذين لا يدُلُّهم على استيقاظه من نومه إلا سعاله وتمخطه وصراخه البذيء وسبه لمن حوله. وما أن أطل عليهم بجسمه المترهل، حتى هبوا خائفين لاستقباله وخدمته وإصلاح ما أفسده الدهر من شعره وتجاعيد وجهه، فهو في كل صباح يحتاج إلى ساعة أو بعض الساعة لمغالبة عوادي الدهر واستكمال متطلبات الخروج إلى الناس بوجه مرمم. لم يطل الوقت، كانت المسافة الزمنية بين زعيقه وشتائمه وارتمائه على أقرب كرسي في الصالة لا يتجاوز عشر دقائق على الأكثر، وكان القائمون على خدمته وترميمه لحظتها يتجمدون خلفه، حتى يرتد إليه طرفه الشاخص، وحتى يلتقط أنفاسه اللاهثة، فعند كل استيقاظ لابد أن يلتف من حوله منظم الشعر وصابغه، ومقلم الأظفار، وكواء الملابس، وحامل الطيب والمدلك، كانوا أربعة من جنسيات مختلفة وديانات مختلفة ولغات مختلفة، وكان التفاهم بينهم بالإشارات، تسهلها عليهم رتابة العمل ونمطية الممارسة، فكل واحد موكل بمهمة يمارسها كل صباح. ولما أخذ الشيخ «مسعود» زخرفه وازين، نهض متحاملاً على عصاه، وقد أمسك بعضده سائقه، ودخل صالة الطعام، ليأكل ما لا قبل له باحتماله، وما ليس بحاجة إليه من السكريات والدهنيات والنشويات والبروتينات، ولم يكن أحد من أفراد العائلة في طريقه ولا في صحبته، وما اعتاد أن يلتقي بأحد منهم، ولا أن يقضي إجازته الأسبوعية أو السنوية مع أحد منهم، لا يلتقون به إلا حيث يتعرض أحدهم لمشكلة أو يحتاج إلى مال، وويل لهم من وابل السب والشتم، خرج يجر جسما أقعدته الشحوم، وأثقلته السنون، وبهظته الطعوم، وهدته الهموم، وبين البيت والحديقة لقيه ابن عمه «سعيد» فسلم عليه، وقبل رأسه، وهم بالحديث، ولكنه أحس بأن الأجواء مكفهرة، وما كان من عادة «مسعود» أن يهش أو يبش بأحد، إلا حيث تكون الدثور، ولكن الحاجة تحمل المحتاج على إراقة ماء الوجه، لقد أحس الحارس بالحرج، فهو الذي سمح ل «سعيد» باختراق أجواء البيت، وماذا يفعل أمام ابن عمه. التف «سعيد» ليمشي خلفه، وتوقع أن يسأله عن حاله وأهله وأقاربه، ولكن السكون القاتل لا تقطعه إلا سعلات حادة أو مكالمات متحشرجة في «الجوال» يتلقاها تباعا من موظفيه الذين يسردون له مجمل العمليات التجارية، وما تلقاه من سائر الفروع من مضاربات مع الشركات، وكان لا يزيد في الرد على كلمة: «ثم ماذا...» و«ماذا بعد» و«كيف تصرفتم؟» ووصل الثلاثة إلى السيارة الفارهة، فتح السائق الباب، وساعد الشيخ على الركوب، برفع رجله اليمنى، ورد الباب برفق، ثم أسرع إلى المقود، وتحركت السيارة، فيما بقي «سعيد» شاخص البصر، متجمدا في مكانه. ولما يفق من ذهول الصدمة إلا بوقع أقدام الحارس الذي طلب منه مغادرة القصر. خرج متثاقلاً، لا يؤرقه إلا ما تعانيه أسرته، وما يترقبه من ضروريات، لام نفسه: لماذا لم أفاتحه بحاجتي؟ سلمت عليه، وتمكنت من المشي خلفه، وهو صامت، كان من واجبي أن أفصح عما أريد، إنني رجل خجول مفرَّط، وهذا جزائي. لا بأس، هناك أكثر من فرصة، بإمكاني أن أعود إليه يوم غد، وسوف أباشره بالمفاتحة. إنه رجل ثري، وأنا أقرب الناس إليه، أليس هو ابن عمي، ويعرف جيداً أنني فقير، وأن أبي كفله يوم أن مات أبوه، وهو صغير، حقاً إنني رجل خجول، ما كان لي أن أتردد في عرض حاجتي عليه، ولكن أليس من واجبه أن يسأل عما أنا عليه، وعما أتعرض له من ضوائق، أبداً هو يعرف أنني قضيت حياتي سائقاً في إحدى الإدارات، وأنني تقاعدت، وأن تقاعدي لا يسد حاجتي فضلاً عن حاجة أسرتي، وبيتي يمتلئ بالأبناء والبنات والأحفاد والأسباط، لا أرد قادما، ولا أمنع سائلاً، إنه يعرف جيدا ما أعانيه من الفقر والفاقة، ويعرف أنني أقل منه مالا وولداً، وأن الله جعل له مالاً ممدوداً، غير أنه لم يعرف أن كل ذلك لا يغني عنه شيئاً إذا تردى، ولكن لماذا لا ألحق به في مكتبه، وأنجز مهمتي، فما عاد وضعي يحتمل التأخير، ولقد علمت ما يدفعه من تبرعات، وما ينفقه في المناسبات، وما يبذره في الرحلات، وما يغدقه على أولاده العاطلين العققة، مع أنه يحب المال حباً جما، ولا يبالي من أي الطرق أخذه، ولا كيف أكله، وسواء عنده أكله، بالإثم أو بالظلم أو بالباطل، كل هذه الهواجس خطرت على بال «سعيد»، كان يفكر فيها بصوت مرتفع، ومما يزيد ألمه أن سيارته قد لا تصل به إلى ابن عمه «مسعود» ثم تعود به إلى بيته، فالوقود على وشك النفاد. حسنا ستصل بي إليه، ولن يخيب أملي. وانطلق صوب المكتب، وترجل من سيارته، التي لم يسمح لها بالدخول في ساحة المبنى، ودخل على مدير المكتب الذي يعرفه جيداً، ويعرف أفضال أبيه على سيده. طلب منه مقابلة ابن عمه، رحب مدير المكتب، وأسرع إلى سيده، ليعلمه بأن ابن عمه «سعيد» يود مقابلته، وكان يشعر بأنه يقدم إليه بشارة، كانت لحظة عصيبة، لقد اكفهر وجه «مسعود»، وقطب جبينه، وتفلت لسانه بكلمات تفيض بالوقاحة، حملت مدير المكتب على التراجع إلى الخلف، ثم النفاذ بجلده، وانتابته الحيرة، ماذا سيقول للقابع في مكتبه بانتظار الإذن له بالدخول؟ توقف برهة في المكان الفاصل بين المكتبين، ليفكر ويقدر، إذ لم يستطع مصارحة ابن العم بما تم، وتحامل على نفسه، وأقبل على صاحبه يجر رداءه، وقال بصوت متقطع: «العم» في حالة نفسية سيئة، فهناك صفقة خاسرة، لما يزل في اتصالات مستمرة، لتخفيف حدتها على نفسه، ولم أشأ مفاتحته بوجودك، لعلك تختار وقتا آخر أكثر مناسبة، أو تجعل زيارتك له في قصره، فهو ملتقى العوائل، أو تعود إليه غدا أو بعد غد. وهنا كانت الطامة، السيارة في الرمق الأخير، فوقودها لن يبلغه مأمنه، وليس بمقدوره أن يكاشف مدير المكتب بشيء، ولأن الأمر لا يحتمل إلا حلاً واحداً، فقد أسر له بأن الوقود قد ينفد، ولم يكن معه مال ولا بطاقة صرف، وما كان يتوقع نفاد الوقود، ولم يتردد مدير المكتب، بل ناوله مبلغاً من المال على شكل قرض، وانفضَّ سامر القوم. وبعد يوم أو يومين سأل «مسعود» مدير مكتبه عما فعل مع ابن عمه، فأخبره بما تم، فاستحسن ذلك، وأوصاه بأن يصرفه كلما جاء بمبلغ مماثل. جاء الخبر كالصاعقة على مدير المكتب الذي لم يكن يعرف ما آلت إليه ظروف «سعيد» الممتلئ حياء وبشاشة وكرما، لقد تبين لمدير المكتب أن «سعيداً» يمر بحالة حرجة، وأنه جاء يستمد العون من ابن عمه، أزعجه الموقف غير الإنساني من رجل ثري تربى تحت كفالة عمه والد «سعيد»، ولم يف ببعض حقه لولده الذي اضطر الى استرفاده. ومرت الأيام سراعاً، وعاد ابن العم إلى ابن عمه، فنهض مدير المكتب لاستقباله، وأخذه بالأحضان، وأجلسه حيث يريد، وأقبل عليه متهللاً، فما كان من «سعيد» إلا أن أعاد القرض شاكراً، ولما أن طال الانتظار فاتح المدير: أليس ابن عمي في مكتبه؟ بلى. بودي لو أقابله على انفراد. كان بودي. ولكن ما الذي يردك. رغبة ابن عمك في أن أصرفك كلما جئت بمبلغ من المال تسد به رمقك. أو فعلها وأخبرك عما أريد. ما كنت أود معرفة ما بينكما، ولكنه الشح ونكران المعروف. وهل أخبرك بأفضال والدي عليه. كان يحدثنا عن كفاحه، وتبذير والدك، ولما أن تلطفت له بالقول، وألنت له الحديث، وحاولت ترقيق قلبه صاح بي قائلاً. لقد كنت إلى جانب عمي، وهو يحتضر، بعد ما أغرقته الديون، فلمته على تبذيره وترك أولاده فقراء يكتففون الناس، أتدري ماذا قال لي عمي وهو يحتضر. لقد تركت في رقبة كل إنسان معروفا، وسوف لا يحتاج أبنائي. والمقيدون بإحساني يملؤون الأسواق، وها أنت أيها المدير الغبي تراه يتردد علي، ويستلف منك، إنها خرافة: «كل النداء إذا ناديت يخذلني... إلا نداء إذا ناديت يا مالي» نعم كفلني وأنفق عليّ، وفتح أمامي آفاقاً واسعة، ولكنني لن أكون مثله مبذرا يتهافت عليه المستغلون، فيسلبون ماله، أيريد مني أن أذعن لخرافة الكرم، لتفعل في مالي ما تشاء، لقد مات فقيرا، وكان بإمكانه أن يكون مثلي يخدمه المال، وهو مكدس في خزائنه، إن للمال طاقة حرارية تنبعث من أعماق الكنوز، فتحرك الجميع لخدمة صاحبه، ألا تراني في اوساط العامة، وكأنني علم في رأسه نار، كلما رأتني الجموع تصدعت كما تصدع البحر لموسى، وما أحد منهم نال منها ولن ينال، إن للمال جاذبية، وإن له لسحراً، فلا تبذره بل تمترس خلفه. ودع «سعيداً» يبحث عن أفضال والده، فالفقر لا يصنعه إلا الفقراء. ومر عام أو بعض عام و«سعيد» يعيش الصدمة، كيف لا يسأل عنه ابن عمه؟ ولا يقيل عثرته التي أقالها الأباعد حين علموا ما يعانيه، ولم تكن اقالتهم في الاعطيات، بل كانت بالمشاركات والتسهيلات، حتى لقد استقام أمره، وأقبلت عليه الدنيا، وهي صاغرة، وبعد عام آخر علم «سعيد» أن السمنة والشيخوخة حالت دون مباشرة «مسعود» لتجارته وسائر أعماله، وأن تصريف الامور تولاها أبناؤه الجهلة المترفون، لقد كان يغدق عليهم الأموال، ولا يمكنهم من معرفة ما هو عليه، ولم يحسن تربيتهم وهم كما هو لحم نبت على السحت، لقد حرمهم من أيسر الحقوق، وما أن بلغوا مبلغ الرجال استاؤوا مما يمارسه والدهم من التكتم على أحواله، والاعتماد على الأباعد، مع الحرص والشح والجشع، فكان أن أقبلوا على المتع والتبذير، ولأنهم يجهلون السوق وفن التجارة وحذق المضاربات فقد تعرضوا للخسائر المتلاحقة، وما كان الأب يعرف شيئاً عما حل بمؤسسته وفروعها وأعمالها والخلاف المستشري بين أبنائه وكبار موظفيه وجاء «سعيد» ليزور ابن عمه، وهو على فراش المرض، فرآه في حالة سيئة، ومنظر بشع، شعر أشعث ووجه أغبر، وتجاعيد تحكي مرارة الألم، قبَّل رأسه ودعا له بالشفاء والأجر، ولم يشأ إشعاره بما لقيه منه، ولما هم بالانصراف حاول «مسعود» استبقاءه، فالوحشة والوحدة وآلام الشيخوخة تقتله، وما من صديق ولا رفيق وما من زوجة ولا ولد، يزحف لحاجته، وقد تمده الخادمة بما يحتاج إليه، وما أن استجاب «سعيد» وجلس، حتى انطلق في سب أولاده وأصدقائه وأقاربه الذين لا يمرون به، ولا يسألون عنه، ولم يجد «سعيد» بداً من القول، ولكنه لم يشأ إنكاء الجراح، ولم يزد على قوله: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه في ساعة العسرة، لقد كانت تلك الكلمة رصاصة ضربت سويداء القلب، وسبقت الدموع اللسان، واكفهر الجو، فانسل «سعيد» على نشيج ابن عمه، هذا الموقف الضاغط أعقبه شلل نصفي أصاب «مسعود» فعطل الجسم عن الحركة، ولم يكن بد من إلقائه في المستشفى بين عشرات الفقراء والغرباء، وكان ان انقطع عنه الزوار، وقست عليه الظروف، ولم يكن بحاجة إلا إلى مزيد من الرعاية، ولما لم يكن أولاده على شيء من المال أو البر، فقد ترك حيث هو، حتى تقرح جسمه وساءت حالته، وقررت إدارة المستشفى نقله إلى دار رعاية المسنين الخيرية، ودخلها ليحمل رقما في رقبته، وعاد «سعيد» يسأل عنه فلم يحر جوابا، وراح الى قصره الذي لقي فيه أحرج المواقف، ليستجلي الأخبار السيئة، فلقيه ساكن جديد، وسأل عن مصير أولاده، فعرف أنهم تفرقوا أيدي سبأ، يبحثون عن عمل يوفر لهم أدنى حد من الكفاف، فأخذته الحمية وانتابه الدوار، ليسقط على الأرض مغشياً عليه، ولم يصح إلا بين الأيدي الناعمة في المستشفى، ومن حوله أبناؤه وبناته وأحفاده وأسباطه وزملاؤه وأصدقاؤه، يحفون به، ويؤنسون وحشته، فحمد الله، وتمنى لو أن ابن عمه «مسعود» شهد هذه التظاهرة العائلية التي فقدها حين لم يحسن تصريف المال، وأحسب أن «مسعوداً» لن يسمع بعد هذه إلا قوله تعالى: {خٍذٍوهٍ فّغٍلٍَوهٍ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ، إنَّهٍ كّانّ لا يٍؤًمٌنٍ بٌاللَّهٌ پًعّظٌيمٌ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فلّيًسّ لّهٍ پًيّوًمّ هّاهٍنّا حّمٌيمِ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)} .
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:55 PM | #216 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لقد لقينا في سفرنا هذا هلكة ولكن الله سلَّم..!
د. حسن بن فهد الهويمل تصور نفسك على متن طائرة تشبه القرية المسوَّرة، فيها ما لا يتوقع من الأناسي والأشياء، وهي تسبح فوق هام السحب، والناس فيها يريحون ويسرحون، وفجأة لجَّ صوت الإنذار، مختلطاً بأصوات آلية، وضجيج بشري، وحركة غير عادية. ثم غمر ممراتها ومقاعدها دخان كثيف، كادت تحتجب معه الرؤية، وتبع ذلك اضطراب الناس، كلٌّ يحملق في شرود، والكلُّ يسأل في ذهول، ولا أحد مخول بالإجابة، ففوق كل ذي علم عليم، ولا مفر ولا وزر، فالجميع مرتهنون داخل صفائح من حديد، وسابحون على ارتفاع شاهق، والركاب فيهم الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والصابر المحتسب والهلوع الجزوع، والمتفائل والمتشائم، والسليم والسقيم. ثم انظر كيف تكون وسط هذه الضوائق والضواغط، إنها ستكون حالة حرجة، تتبدل فيها الأوضاع غير الأوضاع والمشاعر، تبرز فيها الخيفة، ويختل التوازن، وتنشل الحركة، ويقف كل محشور في هذه الزنزانة الطائرة أمام الموت وجهاً لوجه. ذلكم الموقف العصيب تتبدى فيه فرصة الشيطان المَرِيد، الذي يقعد لبني آدم كل مرصد، ويحتنكهم بالوسوسة والتسويل والتخويف والتخذيل والنزغ والاستدراج، مستدعياً صغار الأبناء وعظائم الذنوب، ليعقد الألسن عن ذكر الله، ولا يتيح إلا فرصة النظرات الذاهلة، وهو قد هدهد الغافلين عن معالي الأمور، وقال لكل منهم بطاعة: (نم عليك ليل طويل). إنها لحظات حرجة يقف فيها الزمن، ويضيق فيها المرء بكل شيء. وكل راكب تختنق أنفاسه، ويصبح ثوبه الفضفاض زنزانة تختلف داخله أضلاعه، ويحاول عبثاً أن يقدَّه من قُبُلٍ أو من دُبر، ليخرج النفس المحتبس في الأعماق، وكأني بكل راكب مغموساً في بحر لجي من الخوف والهلع، وهو ينظر إلى من حوله، ممن كان يأنس بهم، ويأنسون به، فيكونون من حوله كما الخشب المسندة. وهؤلاء الناس الذين يملؤون الطائرة حركة وحيوية يتحولون إلى أكداس من اللحوم المجمدة. منهم من يتلفت بذهول، ومن ينظر نظر المغشي عليه، ومن يلزم رأسه بيديه، وكأنه إناء زجاجي يتصدع، ومنهم المرأة التي تضم ولدها إلى صدرها، وكأن أحداً يغالبها على انتهابه. في هذا الجو المشحون بالتوتر، تعيش غربة قاتلة، كأنك وحدك في مهب الريح، والأناسي الذين كنت من قبل لحظات تخوض معهم وتلعب، وتتحدث بكل ما يعن لك من الكلام، وتسمع منهم أحسن القصص، ما لبثوا أن غارت عيونهم، وتخشبت ألسنتهم، وتجمدت حركاتهم. إنها ساعة راجفة، يذهل فيها كل مخلوق عن كل ما حوله. هكذا كنا، ونحن على متن طائرة (الإيرباص) المتجهة من (الرياض) إلى (الخرطوم) فجر يوم الأحد، الثالث والعشرين من شعبان. كنتُ لحظتها أغط في نوم عميق بعد الإفطار، واستعراض صحف الصباح. ولقد سمعت وأنا في سنة النوم أصوات إنذار وأصواتاً مدوية، غير أني لم أعرها أي اهتمام، لأنني بين اليقظة والمنام. وما أن عمَّ الدخان أرجاء الطائرة، أحسست بضيق في التنفس، ففتحت عيني، فإذا به يغطي مقاعد الدرجة السياحية والأولى، ولم أزد على كلمة:- - ماذا حدث، ما هذا الدخان الكثيف؟ ولم أسمع جواباً، وكأن المخولين بالإجابة أو المالكين لها نذروا للرحمن صوماً، فلن يكلموا اليوم إنسيّاً. ولو أنهم كذبوا للتطمين، كمن يكذب لإصلاح ذات البين، وقالوا: تسرب زيت خفيف على صفيح ساخن، نفذ مع التكييف، لما أصاب الركاب ما أصابهم. التفت إلي الدكتور (عبدالرحمن العشماوي) القابع خلفي، وهو يطل من النافذة في خوف وترقب. - قلت له: ما الذي حصل؟ - قال: المحرك الأيمن احترق وتوقف. ولما لم يكن أحد منا يعرف درجة الخطورة في مثل هذه الحالة، ولمَّا لم يكن أحد يعرف ما حصل بالضبط، ولما لم يتطوع أحد لتهدئة الأنفس الوجلة، فقد ذهبت بنا الظنون أسوأ المذاهب، التهبت مشاعرنا، و اضطربت نظراتنا، وتوقعنا امتداد الحريق إلى الوقود، وامتداد التوقف إلى المحرك الثاني، لتكون الراجفة. ولمَّا أصبح الأمل معلقاً بالمحرك الثاني، فقد حدقنا به الأنظار، وتسمرنا حوله، وكأنه وحيد أمه المسجى على سرير المرض، وهو يغالب سكرات الموت، كان هو الأمل بعد الله. في تلك الأثناء لم أفكر في شيء تفكيراً واعياً إلا بمساءلة نفسي: هل قرأت أورادي المعتادة؟ وتأكدت أنني تلوتها، بل كررتها بعد صلاة الفجر في (مطار الرياض). وقلت في نفسي: هنا أرقب وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وبدأت النفس تهدأ، ولكنها تعود إلى الاضطراب، فهي بين الرجاء والخوف، ولاسيما أن الدخان نذير شؤم، ولا يمكن أن ينبعث من لا شيء، والطيار ومن معه في صمت مريب، ومن حقنا والحالة تلك أن نتوقع تدهور الأوضاع، وألا نستبعد التشظي في الفضاء. كنت من قبل، يوم أن كنت حرَّاً على الأرض، أسأل نفسي عن مشاعر السجين المحكوم عليه بالإعدام، وهو يرقب تنفيذه كلما صَرَّ باب السجن، أو المريض الذي نفض الأطباء أيديهم منه، وتركوه بانتظار قدره، كيف تكون حالهم؟ وكيف يفكرون؟و كيف يرون الأشياء من حولهم؟ وهل يحسون بآلام الترقب، أم أنهم في حالة من الانفصام الشخصي؟ وما أكذب المتنبي حين قال لممدوحه: (تركتني أصحب الدنيا بلا أمل). فحين لا يكون أمل، يكون الإنسان خارج الحياة ودون الموت، فلا هو حي فيرجى، ولا هو ميت فينعى، وما من حي إلا ولديه بصيص من الأمل، وفي المثل: (دون سَلَّتِ السيفِ فرج). وما أن تفرقت بنا الظنون، وتعددت الاحتمالات، تفاقمت التوقعات السيئة، وحاولت عبثاً أن أستعيد غفوتي، لأنسى ذلك الزمن المنيخ بكلكله المتجمد في لحظته الحرجة، فلم أستطع، لقد دخلت في يقظة لم أكن أتصورها من قبل، زُويت لي كل الأشياء، وتمثل لي الأبناء والبنات، والأهل والأحباب، والأحياء والأموات، وتغولت الغيلان في داخلي، ولم يبادر أحدٌ بالأذان، فالناطق الرسمي على الأرض، ولا بد لكل تصريح أن يغبَّ وأن يصاغ بطريقة تملصية. أحسست أنني أحاول الهروب إلى المجهول، أغمضت عيني، وجعلت أصابعي في أذني، واستغشيت وسادة، وغرست رأسي في أخرى، لقد كانتا من قبل رقيقتين ناعمتين، أما الآن فقد صارتا كما كيس من حسك السعدان، عدت إلى وضعي الطبيعي كما يطلب التسجيل، ربطت الحزام، وبدأت أتوسل إلى الله بما أعرف من صالح الأعمال، وتذكرت أصحاب الصخرة، وصاحب الحوت، ويعقوب وأيوب، وما جأروا به من الدعاء، وبدأت أردد: (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وتساءلت كما المضطهدين: (متى نصر الله) فسمعت هاتفاً من الغيب: (ألا إن نصر الله قريب) نظرت إلى من حولي، فوجدتهم يغالبون الأحزان، وينظرون في وجوه بعضهم. الشيء الذي خفف بعض المعاناة أن المضيفين والمضيفات يركضون هنا وهناك، يبللون المناشف لوضعها على أنوف الركاب وأفواههم، يصطنعون التجلُّد، ويفتعلون رباطة الجأش، كي نرى أن ريب الدهر لا يزعزعهم، ولكن المنية إذا أنشبت أظفارها: (ألفيت كل تميمة لا تنفع)، وتداعيات الموقف جعلتهم لا يكلمون الناس إلا همساً، لقد خصيت الشفاه، فكلما انطلقت التساؤلات قيل لنا:- لا شيء، وكيف لا يكون شيء، والدخان يملأ الرحب، والمحرك متوقف. لم يكن بدٌّ من التسليم اليائس، أخذ كل منا مكانه، وساد الهدوء، وسلم الجميع لقضاء الله وقدره. وكلما دخل الانسان في مرحلة ألفها، وسلَّم لها، لقد أيقنَّا أننا قاب قوسين أو أدنى من الموت. قلت في نفسي كيف تكون السعادة والفرحة حين تحط بنا الطائرة المنكوبة سالمين، واقتربنا من الأرض، وتراءت لنا معالم (الخرطوم)، ونظرنا الى النهرين وملتقاهما، هبطت الطائرة محفوفة بسيارات الاطفاء، واستقبلنا مندوب (وزارة الثقافة) وأعضاء الرابطة بالتهاني، وكأننا ولدنا في ساعة اللقاء، كانوا يحدثوننا عما يسمعون، وكنا نسألهم عما حدث، وكانوا يسألوننا، ولا يجد أحد من الطرفين جواباً شافياً، وكأنه محرم علينا أن نعرف ما يخصنا. ولما كنت في السماء والمنايا مواثل، والطياران البشري والآلي يزجيان كل الإمكانيات على مقعد القيادة، كنت أقول: لو نجوت لما حزنت ما بقي من حياتي، وما هي إلا فرحة اللحظة، أعقبهما حمد وشكر، ثم أخذنا الأمل والنسيان، كما أخذنا الخوف والفزع من قبل، ولم يكن الحدث إلا ذكرى أليمة، نحدث بها من سأل ومن لم يسأل. وما أن بارحنا المطار حتى عادت الأمور الى مجاريها، أمل عريض، وتفكير منظم، وتطلع واسع، وغضب ورضى، ورجاء وخوف، وسبحان من قدر الأقدارا، ويسر كل مخلوق لما خلق له، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فالكون لا يعمره إلا حجب الحقائق، وإلا فحياة محفوفة بالآفات، مختومة بالوفاة، معاشة بالمنغصات، لا تساوي عند بارئها جناح بعوضة. ومع الإغراق في المشاغل والاستعداد للمحاضرات والندوات واللقاءات الاذاعية والتلفازية والصحفية والجلسات الإخوانية وجدول الأعمال المليء بالفعاليات في (أسبوع الأدب الإسلامي) الذي تستضيفه (وزارة الثقافة السودانية)، فقد أصبح الحدث كما النوبات القلبية، يفجؤك بين الحين والآخر، فيشدك الى ساعة العسرة وتقطع الأسباب، ثم لا تلبث أن تفيق، وقد تفصدت عرقاً، لتتحسس نفسك، أأنت على الأرض أم على متن الريح؟ ولولا فضل الله علينا ورحمته ما نجا منا أحد، وما كنا نتوقع الحدث يمر بسلام، دون ارتطام بالأرض يخلطنا بأشيائنا، أو هزة عنيفة تترك السليم معاقاً، وكان بالإمكان تخطي المحنة لو أن أحداً من المسؤولين طمأن الركاب، وإذا لم يفعل، فقد تصورنا الأمر من الخطورة، بحيث لا يُغني فيه الصدق ولا الكذب. بقي ان نتساءل عاتبين مستغربين: - لماذا لم نسمع كلمة تُطمئن أو اعتذاراً يرضي. من المعقول ان يصمت الجميع أثناء مغالبة الحدث، ومن المعقول أن يكذب المسؤول ليخفي بعض ما حصل، إن كان ثمة خطورة، أما أن نروَّعَ، ثم لا يتلقانا الطاقم ولو بوجه طلق، فإن في ذلك إخلالاً في العلاقات العامة، وإذ سلَّم الله، فإن من حق الراكب أن يعرف الأسباب والمسببات دون تفصيل، ودون تنصل من المسؤولية. لقد فتحت الأبواب، وعَدوْنا كقطيع من الغنم، ونفد كل بجلده، وكأن شيئا لم يكن، كنت أتوقع أن يتحدث قائد الطائرة أو مساعده أو كبير المضيفين عما تعرضت له الطائرة، وما بذله الطيار، وما نسبة الخطر. الحدث خطير، وآثاره واضحة، كتل من الدخان الخانق وأصوات إنذار مفزع، ولا شيء بعد ذلك. إن لزوم الصمت في حدث كهذا يعني اللامبالاة، فالراكب بكل ما ينطوي عليه من مشاعر يتحول عند إخواننا في الخطوط الى شيء من الأشياء، شأنه شأن متاعه الذي عُهد به الى هذه الآلة، ليكون حمله وفصاله في ساعة أو ساعتين. لقد لقينا في سفرنا هذا هلكة ونصباً، وكان أقل ما يجب أن يقول المعنيون - (نأسف لما حصل، وهو خارج عن إرادة الجميع، ومتوقع في كل رحلة، ومن فضل الله أن تغلبنا عليه، ولم يضار أحد). لقد ترك الحادث آلاماً نفسية، وأصبحنا نتخوف، وحق لنا أن نتخوف، فما من رحلة إلا ولها مشكلة، فما أن عدت في العاشرة صباحاً من يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان الى (جدة) وكنت على موعد مع أحد الأقارب لترتيب جلسة بحرية، وأكلة بحرية، ولقاء حميم نقضيه في منتجعات (جدة) الجميلة، استعداداً للمواصلة الى (القصيم) بعد سبع ساعات، إلا وكان الحدث الآخر، وتكون (الخطوط السعودية) السبب الرئيس في إفشال كل شيء، كان الداعي على متن الطائرة المتوقع عودتها من (اسطنبول) وشاء الله أن يحبسهم خرابها، لتفوت الفرصة، وأقضي الساعات السبع متسكعاً وحدي في ممرات المطار، وإمعاناً في الإيذاء، تعلن الخطوط عن تأخير رحلة (القصيم) مساء ذلك اليوم ساعة أو بعض ساعة، وكل ذلك يحصل دون أن يتمعر وجه، أو يخاف مسؤول، فما من منافس يحملهم على تلافي التقصير، ولا من مُسائل يحاسبهم على الخطأ أو التأخير، وكأن الخطوط المدللة ترقب (ستة مليارات) أخرى متخطية كل الأولويات الإنفاقية لشراء أسطول آخر، كي تفك به الاختناق المزعوم، وتتطلع الى تعيين أرتال من الموظفين، ليضربوا الرقم القياسي في البطالة المقنعة، التي شكلت العقبة الأولى في سبيل الخصخصة. أحسب أنه من الضروري ايقاف المسؤول للمحاسبة والمساءلة، أو قطع ألسنة المواطنين الذين ما فتئوا يتحدثون بتندر وسخرية عن الأعطال والتعطيل، مع غزارة في الامكانات وسوء في التوزيع، طائرات جاثمة لا تباع ولا تستعمل، وآلاف من الموظفين الكتبة يأكلون ما كان، ويضيقون في المكان، وقلة في المهندسين الذين يسلقون الصيانة سلق البيض، وشح في الطيارين. ومع هذه الغضبة المضرية لا ننكر الفضل لذويه، ولو شئنا الثناء على الخطوط لوجدنا ايجابيات كثيرة، ونكون قد صدقنا في الثناء، ولم نكذب في الذم، وعلى معالي المدير العام بما عهد فيه، وما عهد إليه، وما عرف عنه، ألاَّ تلهيه القصائد التغلبية، فكم تحت السواهي من دواهي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:56 PM | #217 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مسوغات الأدب الإسلامي..!
د. حسن بن فهد الهويمل ما من مصطلح جديد إلا ويواجه بالتساؤلات والتحفظات، ويطلب من ذويه البرهنة عن مشروعيته ومرجعيته وتخطيه من الفرضية إلى النظرية، ومراد الأفكار أهم من مراد المعدات والشهوات، ذلك أن الأفكار تشكل المواقف والتصورات، وتنقب في السوائد والمسلمات، وتنشئ الملل والنحل، وتوقظ الفتن، وتدفع إلى الحروب، ومن ثم أصبحت قضايا الفكر هي القضايا الأهم. لأنها تجمع الأشتات، أو تفرق الجماعات، ولأن الأدب عامة و«الأدب الإسلامي» خاصة بعد موجة «الأدلجة» والتسييس قضية من أهم القضايا الفكرية والأدبية التي تتداولها المشاهد الفكرية، فقد كان لزاماً على المصدقين بمشروعيته إبداء الأسباب والمؤيدات، سعياً وراء الإقناع والاستمالة، أو الدفع بالتي هي أحسن، ولن يتأتى الإقناع إلا بتقصي حيثيات المشروعية ومسوغات الطرح، والتناوش من مكان قريب، وعقلنة التداول، والمصطلح المثير ثنائي التركيب ثنائي المقاصد، فالأدبية لها شرطها، والإسلامية لها مقتضاها، ولابد و- الحالة تلك- من النظر في كل وجوه المصطلح المركب ومقتضياته ومشروعية قيامه، وبخاصة بعد الخلطة المستحكمة بين الفن والفكر، ومثل ذلك يتطلب تلقي التساؤلات والتحفظات بصدر رحب، ومجادلة بالتي هي أحسن، في سبيل تبرير مشروعيته، وسط أطياف المذاهب والتيارات والقضايا والمبادئ التي تملأ الرحب، ومشروعيته تتحقق بحشد المسوغات والتماس المبررات، ولاسيما أن هذا المصطلح لم يقم إلا بعد قرون من قيام «الأدب العربي» الذي تحمل مهام الإمتاع والإقناع، ولأن الفن عامة والفن القولي خاصة سابق على التشريع، ومختلف بلغته وغاياته عن سائر المعارف، فإن النظر إليه بعد التشريع يختلف عما كانت عليه النظرات من قبل. و«الأدب الإسلامي» يواجه تحديات متعددة، فخصوم الإسلام خصوم الداء، والمتفلتون على القيم الأخلاقية، ممن لم يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش خصوم متفاوتون بين متحفظ ومتخوف، أو متردد بجهله أو بوقوعه تحت تأثير المفاهيم الخاطئة، ممن يرى أن الفن القولي بمعزل عن الدين، ثم لا يعرف قدر الاعتزال وأمداء التداخل، وأمام تلك المواجهات لابد من أن يقدم المعنيون بالمشروع مسوغات مشروعهم، وأحسبها إن لم تكن معهوداً معرفياً فإنها معهود ذهني، إذ ما من متلق واع إلا ويعرف لماذا طرح المشروع، وما هي دواعيه ومقاصده، ولعل من أهم المسوغات:- - هيمنة الإسلام، وشموليته وحاكميته وحقه الإلهي في أن يكون كل شيء على مراد الله، ومن جعل الفن خارج أمر الله أعوزه الدليل، وحق الفن في التشريع كحق سائر الممارسات القولية والفعلية، ودراية الأمة بأمور دنياها مرتبطة بوعي المقاصد الإسلامية. - مشروعية تكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق، فالقبول ب «أدب حداثي» أو «وجودي »أو «ماركسي» يلزم بقبول «أدب إسلامي » وبخاصة بعد أن وسع «الأدب العربي» كل هذه الاتجاهات وأصبح نهباً لها. - تصحيح العلاقة بين «الادب» و «العقيدة» ولما كان واجب الأدب- أي أدب- أن يكون في خدمة عقيدة الأمة التي ينتمي إليها الأدب، كان لابد من تصحيح العلاقة بينهما، لتتم الخدمة على أقوم طريق، فالأدب وثيق الصلة بالحياة، ولن تتحقق العقيدة منفصلة عن الحياة، ولن يكون الأدب بمعزل عن تواشج الحياة بالعقيدة. فالأدب تعبير عن موقف، وإبداع المنتمي مصطبغ بالانتماء، فالأدب إذاً بطبيعته تعبير غير مباشر عن العقيدة، ولكي يكون التعبير سليما مطابقاً لمراد المشرع، كان لابد من وعي المقتضى، وما لا تقوم العقيدة إلا به فهو عقيدة أو جزء منها، ولأن العقيدة هدف أسمى، كان لابد أن يكون قول المعتقد في خدمة هذا الهدف، ولعلنا نلمح للدلالة اللغوية لجذر «عقد» إذ يوحي بعقد مبرم بين طرفين يلزم بالوفاء، فهي من تعقيد الأيمان، وعقدها غير اللغو فيها، ومن لم يلتزم بمقتضيات العقيدة فهو يلغو فيها، والخصائص الايمانية لا تتحقق إلا بالتمثل قولاً وعملاً واعتقاداً، فمن قال ولم يعمل كبر مقت الله له، ومن اعتقد بقلبه وناقض الاعتقاد بالقول أو بالفعل أخل بالمقتضى الايماني، ولهذا جاء «الادب الإسلامي» ليصحح العلاقة بين ثلاثي التحمل: الاعتقاد، والقول، والعمل، ولا يمكن أن يكون الأدب بمعزل عن العقيدة، كما لا يمكن أن تكون الحياة بمعزل عنها، وفي الوقت نفسه لا يكون الأدب خالصاً لها، ولكنه يكون مخلصا لها، والفرق دقيق بين الخالص والمخلص، هذه القطعيات الطردية تؤدي إلى حتمية ارتباط الادب بالعقيدة ارتباطاً يعي الفرق بين «الأدب» و«علم الكلام»، إذ ما من أدب أمة إلا ويكون مصبوغاً بعقيدتها، و«تولستوي» يربط عظمة الفن بقدر ما يعكسه من إدراك ديني، ولعل شهرة «الإلياذة» مرتبطة بما تعكسه من وثنية معتبرة في لحظة الإبداع، ويقال مثل ذلك عن «الكوميديا الإلهية» «لدانتي» حيث تجسد العقيدة «الكاثوليكية»، وكذلك «الفردوس المفقود» «لملتون» إذ فيها تصوير لموقف االمسيح من الله والعالم. وحتى الآداب ذات البعد العاطفي لا يمكن أن تثير الكوامن النفسية إلا من خلال العواطف الدينية، فالعقيدة سدى الفن ولحمته ومدده، وبدونها لا يكون الأدب أدباً خالداً، والقول ب «اللامنتمي» يعني الانتماء لعدم الانتماء، فما من قول إلا وله مضمون وهدف وانتماء، وإذا تبدت عقائد النصارى واليهود والبوذيين في آدابهم فإن العقيدة الإسلامية أولى في الظهور والتمثل، ومع هذا يجب أن نفرق بين «الأدب الديني» و«الأدب الإسلامي»، فالأول يشتغل بالموضوع الديني، والآخر يشتغل وفق المقتضى الإسلامي. - وإذا تجاوزنا المقتضى العقدي بوصفه الركيزة الأساسية تبدى لنا مسوغ آخر، يتعلق بالسلوكيات، وحفظ القيم الأخلاقية مطلب إنساني، قبل أن يكون مطلباً إسلامياً أو مطلباً أدبياً يهتم بقيم الإسلام، والجذر اللغوي لكلمة «أدب» في كل دلالاته وثيق الصلة بالقيم الأخلاقية ف «الأدب» - بسكون الدال- هو الدعوة للزاد، وهو عين الكرم، والكرم مفردة أخلاقية، والتأديب تهيئة نفسية وسلوكية لتمثل المكارم الأخلاقية، وإطلاق كلمة «أدب» مسمى لتدارس الشعر والنثر إطلاق مولد، نظر فيه إلى التأديب والدعوة، ولقد قيل للمعلم مؤدب، لأنه يحمل طلابه على مكارم الأخلاق، فالأدب دعوة وتطويع، ومن ثم تصبح كلمة «أدب» مرتبطة بالقيم الأخلاقية على كل دلالاتها، والتمرد على الآداب السلوكية خروج على مقتضى الدلالة، والشاذ يفقد مسوغه، وأدب الرذيلة لا يعد أدباً بالمفهوم الأخلاقي، وإن كان أدباً بالمفهوم الفني، والدول التي تعتمد الحرية الدينية والسلوكية، يروعها الانحراف الخلقي، ومن ثم تحاول محاصرة الأخلاقيات المسفة، وإن حماها قانون الحريات الشخصية، وحين أصبح دور الأدب المتهتك في الانحرافات السلوكية دوراً فاعلاً، تحرف المسؤولون عن الأخلاقيات لترشيده والحد من تهتكه. ولقد ارتفعت نبرة الجدل حول أولوية الجمال أو الجلال، وإذ يسلم الجميع بأن الجمال الحسي مرتبط بالغرائز، فإنهم يسلمون بأن الجلال المعنوي مرتبط بالقيم المعنوية، والإنسان في النهاية مجموعة قيم، وليس مجموعة غرائز وحسب، ذلك أنه بالقيم يمتاز عن سائر الأمم، فالغرائز قاسم مشترك بين الإنسان والحيوان، بينما القيم الأخلاقية خاصة بالإنسان. وتبعاً لذلك يكون الجلال المعنوي شرط الجمال الحسي وأسُّه، وجمال القيم والأخلاق أهم من الجمال الحسي، وشرف اللفظ والمعنى أزكى من شرف اللفظ وحده، وقد نبه المشرع حين حذر من «خضراء الدمن» وأكد على مكارم الأخلاق في أكثر من آية وحديث، والأخلاقيات المطلوبة في الأداء الإبداعي امتداد لاهتمام الإسلام بالأخلاق، وحرصه على عدم الجهر بالمعاصي، وحديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» يؤكد أهمية التستر، وعدم إبداء الصفحة، فمن بدت صفحة خطيئته لزم ردعه وأطره، وإشاعة الرذيلة عبر الكلمة الجميلة عين التهتك، وعين المجاهرة وبدو الصفحة، والعملية الإبداعية طاقة موجهة، فلابد أن تكون بناءة. - ومن مسوغات «الأدب الإسلامي » ما عليه الآداب العالمية والعربية من سقوط وانحراف وهبوط في المستويات الفنية واللغوية، ف «الأدب الإسلامي» هدفه إقالة عثرة الأدب العربي، والنهوض به من كبواته المتعددة، والمتابعون لفيوض الإبداعات والدراسات والكتابات: التنظيرية والتطبيقية، يدركون الانحرافات الواضحة عن جادة الصواب، انحراف فكري، وسقوط أخلاقي، وتمرد على الشرط الفني، وإلغاء لخصوصيات الأنواع الإبداعية، وتفلت على ضوابط اللغة، وترد في مهاوي العامية، ونسف لقنوات التواصل، بافتعال التغامض، وخلق الأسطورة، وتعمد التغنص. «والأدب الإسلامي» يسعى لتلافي ذلك كله، ويتعمد إشاعة القيم الفنية واللغوية والأخلاقية على حد سواء، ويحرص على حمل الناس عليها طواعية لا إكراهاً، وهدفه أن يقدم مشروعه بالتي هي أحسن، لا يكره الناس على أن يكونوا أدباء إسلاميين، إنه دعوة سلمية، تحاول إغراء المتعطشين إلى الكلمة الطيبة والقول السديد بالنهوض بهذه المهمة قولاً وتلقياً، ولما كانت طائفة من دعاة «الأدب الحديث» تعيش عالة على كل القيم الفنية والدلالية الغربية، ولما كان مشاهير الأدباء المعاصرين في لهاث وراء سرابيات المذاهب والتيارات الوافدة، كان لابد من التماس قيم عربية وأخلاقيات إسلامية تميز الأدب العربي عن غيره من الآداب، والمتابع للمشاهد الأدبية لا يسمع إلا بمذهب غربي، ولا يعايش إلا ظاهرة غربية، والأدباء العرب يصطرعون حول قضايا ومذاهب لا تمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة. لهذا كان لابد من استشعار الواقع المتردي للأدب العربي، والعمل على تلافي نقاط الضعف سعياً وراء إقالة العثرة. و«الأدب العربي» جزء من مفردات الحضارة الإسلامية، منها ينطلق وإليها يعود، وارتماؤه في أحضان الحضارات الوافدة مسخ له وإذابة لخصوصيته، ولاشك أن طائفة من عمالقته تولت كبر الارتماء في أحضان الغير، ونافحت عمن تعجل إلى الحضارات، دون تضلع من التراث، يمكن من التمثل، ووسط هذا التهافت على المستجد دون وعي ودون حاجة اقتدار وتمثل، كان لابد أن يكون لنا أدبنا المتميز الذي يستصحب التراث، ويتفاعل مع المستجد، لا ينسلخ من قيمه الفنية والأخلاقية، ولا يعتزل المعاصرة، فالناس أبناء حاضرهم، وليسوا أبناء تاريخهم، والتفاعل الإيجابي مطلب حضاري، ومؤشر قوة واقتدار، وكم هو الفرق بين أن يحتويك الطارئ أو تحتويه، والنزعة التقليدية هي احتواء التراث للمبدع والناقد، وليس تقليد الغرب بأحسن حال من تقليد التراث، والمحافظة غير التقليد، ومحاكاة الغرب ليست تجديداً، ان مهمة «الأدب الإسلامي» أن يحتوي التراث والمعاصرة معاً، ويستن لنفسه طريقاً قاصداً، يستجيب فيه لحاجة الأمة، ويشبع رغباتها المشروعة، ولن يتحقق التميز إلا إذا انطلق أدباؤنا من التصور الإسلامي لله والكون والحياة والإنسان، والتصور الإسلامي لا يناقض أدبية النص ولا شعريته ومن قال بذلك حمل « الأدب الاسلامي » ما لا يحتمل ، وإذا تحققت أدبية النص في الإبداع الوجودي والماركسي فإن تحققها في «الأدب الإسلامي» أولى، وما القرآن إلا معجزة بيانية في الدرجة الأولى، مع أنه وعاء التشريع والتوحيد والقيم الأخلاقية. - ولما لم يكن الأدب في سالف عهوده مؤدلجاً ولا مسيساً لم تقم الحاجة إلى أسلمته، إذ هو إسلامي لتوفر الحاكمية والتزام الناس بالمقتضى الإسلامي وقوة الوازع الديني، وما مرت به عصور الأدب من نزوع صوفي أو شعوبي أو طائفي أو سياسي يعد مبادرات شخصية، وليست مذاهب مقصودة، نجد في أدبنا العربي القديم شعر «الخوارج» و«الهاشميين» وشعر «الشعوبيين» و«المتصوفة» و«الشكوكيين» و«الماجنين»، ولكنها عوارض مقموعة بالغلبة، وليس لها ثبات المذهبية. أما في العصر الحديث فقد تجلى الالتزام، وقامت المذهبية، ودخل الأدب في ضوائق السياسة و«الأيديولوجيات» وحين تعي المذاهب الفكرية أهمية الأدب ومهمته، وتسعى لتوظيفه في خدمة المبادئ والمذاهب يكون من حق المفكرين الإسلاميين استنهاض الأدباء للقيام بواجبهم الإسلامي. ومقاصد «الأدب الإسلامي» لا تقف حيث يكون شعر المواعظ والزهد والتصوف والشعر الديني والابتهالات والأناشيد الإسلامية، إنها مقاصد تستوعب الطارف والتليد، وترمي إلى غايات أبعد مما يتصوره المتحفظون. إن أمامنا أدباً ماركسياً، وأدباً حداثياً، وأدباً وجودياً، تشيع المبادئ والأفكار والقيم بطرائق لا تكون فيها مباشرة الدعوة، إنها تمثل للمبادئ والأفكار، وتحرك وفق مقتضياتها، وذلك ما تسعى إليه نظرية «الأدب الإسلامي»، ولو كان هناك توظيف واع وقاصد للأدب العربي لما كان هناك تفكير في الأسلمة، ذلك أن الأدب إسلامي بطبيعته، وذلك ما يجنح إليه البعض ممن يتحفظون على التسمية، ولا يعترضون على الممارسة، ولكن «الأدلجة» حين حادت بالأدب العربي عن طرائق العفوية، أصبح من الضروري طرح مشروع «الأدب الإسلامي». - وفوق هذا وذاك فإن الأدب «كلمة» وللكلمة رسالة تواكب رسالة المسلم في الحياة، فما رسالة المسلم في الحياة، قبل أن يكون مبدعاً، وبعد أن كان؟ إن «الكلمة» مسؤولية {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ } { وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {وّهٍدٍوا إلّى الطَّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ } {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ } {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ } وإذا كان الإنسان محاسباً على ما يقول، وإن تصور أنه في قوله يخوض ويلعب، فإن من واجبه ألا يقول إلا حسنا، أحسب أن الواقع المعاش يستدعي مثل هذا المشروع، فالواقع العالمي وواقع الأدب العربي يقتضيان التحرف السليم لصناعة الكلم الطيب والقول السديد، مع الاحتفاظ بحرية الأديب وأدبية النص، فالأدب غير الفقه وغير التفسير وغير التاريخ، ولكنه يستمد منهما ما يحقق انتماءه لحضارته، وما حضارته إلا الإسلام، وما الإسلام إلا أمر ونهي وحرام وحلال وأطر على الحق، يقع على القول مثلما يقع على الفعل، والحرية لا تكون إلا بضوابطها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:57 PM | #218 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
أرى خلل الرماد وميض نار..!
د. حسن بن فهد الهويمل بعد تواصل المطاردات واكتشاف الخلايا النائمة والمتململة والناشطة في أطراف البلاد وفي حدقات العيون وسويداء القلوب أرض القداسات، ووقع التفجيرات المحكمة التخطيط والرهيبة التنفيذ، عاج المفجوعون والذاهلون من هول الصدمة إلى الاستنكار والشجب والتجريم، وعجت أسأل عن الفواعل والمفاعيل، وعن المواجهات والمعالجات، وعن مستوى أفراد الأمن وآلياتهم، وعن دور المواطن التوعوي والتعقبي الغائب أو المتخاذل أو المتردد أو الفاعل على استحياء، عجت أسأل عن: المفعول به، وفيه، ولأجله، وعن الفاعل، ونائبه: الظاهر والمضمر. وعن مدى العلاقة الطردية أو العكسية بين الفاعل والمفعول فيه: (المجرم) و (الوطن)، ومن وراء الفعل: تمويلاً وتسهيلاً وتمويهاً؟ وهل الفعل مقاومة وطنية، كما يتصور السذج والحاقدون؟ أو هو استعجال للإصلاح، كما يشيع المغفلون؟ أو هو لعبة خطيرة اتخذت لنفسها أشكالاً وألواناً: من حروب أهلية، إلى مناوشات حدودية، إلى صدام طائفي، إلى احتلال سافر، وإلى تفجير مدمر، أو هو لعبة ارتدادية ضد اللاعب الأكبر خارج أرضه، أو أن ذلك رسالة ثقيلة المضمون ضد صمود البلاد وأهلها، لتركيعها، أو إزاحتها عن طريق الحلول الاستسلامية، وكأن خارطة العالم الجديدة ليس فيها متسع لأناس يقولون: ربنا الله، ويصرون على حقوق عالمهم المنتهك من كل جانب. وكل هذه التخمينات لمجرد أن التفجير العشوائي يحصل في بلد ليست لديه قابلية للإرهاب، وليس أهله من شرار الخلق، فهم لا يعرفون القتل الهمجي، ولا المقابر الجماعية، ولم يألفوا توارث السلطة عن طريق الثورات الدموية والتصفيات الجسدية والانقلابات البيضاء المدفوعة الثمن للساكت والداعم. ومع كل هذا فقد ملئت أرضهم بالسلاح الفتاك، وشاعت في أوساطهم الأفكار المنحرفة والانتماءات المتعددة والرؤى والتصورات المتناحرة، ومما زاد الحال سوءاً تسابق القنواتيين على تداول شؤونهم الخاصة في الغياب والحضور، وكأنهم من (بني تيم)، وتهافت الوُصوليين لتمويل هذا الفضول الممقوت. وأحسب أن الأمر بعد أن تداعى الفارغون والماكرون والحاقدون على الإثارة والتحريض والفعل التدميري لا يكفي فيه مجرد الاستنكار، ولا المواجهة الهجائية، وديننا وجهنا لذلك. وفي الحديث: )لا تلعنوا الشيطان فإنه يزهو). وطلب منا الكف عن النيل من مقدسات الآخر: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم). والأمة في السلم والحرب والرخاء والشدة مأمورة بإعداد القوة: قوة التقدير والتدبير، والقول السديد، والفعل الرشيد. ونحن في ظل هذه الظروف العصيبة بحاجة إلى خطة محكمة تطاول الزمن، يقل فيها الكلام المتشنج، ويكثر فيها العمل المحكم، وتشدد فيها وطأة المحاسبة لكل من امتدت يده الآثمة إلى مثمنات الأمة، أو انطلق لسانه في تغذية الفتنة، ودعم عناصرها، ولو عن طريق التلميح، خطة لا تقتصر على المطاردة والمداهمة والتناوش بالألسنة والسلاح. وإذ يكون الإرهاب ظاهرة تتسم بالثبات والديمومة، فإن مواجهته تختلف عن العرض الزائل، ومكمن الإشكالية يتراوح بين الممارسة الإرهابية والمواجهة غير المتكافئة. وتجاوز الحدث بكل مراراته وويلاته، يمكِّن من التبصر والتروي للمواجهة: الرسمية والشعبية، بعد قراءة الأحداث على كل المستويات، وبعد إحكام الخطط، وفهم الدوافع والأسباب والمصادر. فالذين يحصرون دوافع الإرهاب في الأوضاع المحلية القائمة يصيبون الوطن بما هو أسوء من الإرهاب، والذين يحيلونها على المناهج الدراسية يضربون في فجاج التيه، والذين يحصرونها بالصحوة الإسلامية يقعون في حبائل المتماكرين. وفوق كل ذلك فالذين يوقظون رجال الأمن للمواجهة: ثم يغطون في نوم عميق، تواكلاً لا اتكالاً، لا يختلفون عمن يحرفون الأسباب عن مواضعها. رجل الأمن وحده في ظروف عصيبة كهذه الظروف التي تعيشها البلاد لا يحقق أدنى حد من المواجهة، نحن في زمن عصيب ومخاضات لا تنتج إلا الأشأم، زمن تحولت فيه لغة الكلام إلى لغة السلام، والشخوص الماثلين إلى أشباح لا تكاد تستبان، إنه زمن مشكل، يتطلب عملاً جماعياً، يستنفر له كل قادر، وتستدعى له كل الخبرات والتجارب في كل بقاع العالم، ويستعان من أجله بكل الممكن، فما بعد الوطن وأمنه من مكرم، ولما نزل ننعم بالأمن، ولا نخشي إلا الله والذئب على الغنم، والخوف من تفاقم الأحداث. ولتفويت الفرصة على المتربصين لابد من حالة طوارئ، توضع فيها خطة أممية لا أمنية، ينفر فيها كل الناس، وتوجه لها كل الجهود، تشكل لجان، وتنشأ مديرية خاصة بالمكافحة، وتقام أسابيع توعوية، في كل الحقول، ومن كل الحقول المعرفية والفكرية والثقافية والتربوية والتعليمية، ويزج في أتون المواجهة كل مقتدر، فهناك تشبع فكري منحرف، وتشبع إرهابي عنيف وسلاح فتاك، ولا تواجه هذه الظروف إلا بالنفور الجماعي: - الأستاذ في فصله. - والدكتور في قاعته. - والإمام في محرابه. - والخطيب على منبره. - والعالم بين كتبه. - والمرأة في بيتها. - والأب بين أولاده. - والإعلامي في صحيفته أو إذاعته أو قناته. - والتاجر في متجره. - والمزارع في مزرعته. - والبدوي في صحرائه. - وكل عاقل رشيد يملك القدرة على القول أو الفعل. فما عاد الوقت وقت رسميات، ولا تسلسل سلطات، ولا فروض كفايات، المسألة مسألة حياة أو موت، فالأمة مستهدفة في عقيدتها ومقدراتها ومكتسباتها وإنسانها وأمنها، ومن أحال إلى المعارضة أو إلى التنازع على السلطة فقد وهم. وكيف نتواكل والبلاد التي تنفست فيها الفتنة، وفحت فيها الأفاعي، ليست بلدا متخلفا فقيرا منهكا، يعيش أهله تحت الشجر ويشربون الماء الكدر، ولا يجدون ما يقيم الأود ولا ما يستر العورة، إنه بلد حضاري، توغل في المدنية، حتى فاق أهلها، وتواصل مع العالم حتى زويت له الأرض، له قلاعه الصناعية، ومحافله العلمية، ومؤسساته الدستورية والتشريعية والشورية، وبنيته التحتية، وإمكانياته الاقتصادية التي تتحلب عليها أفواه الجشعين الحاقدين، بلاد ركضت في فجاج الحضارة والمدنية لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. وإذا كنا نفزع إلى المساجد للصلاة والقنوت، ونصعد على المنابر للشجب والاستنكار والدعاء بالويل والثبور كلما خر مسلم صريعاً في (الشيشان) أو في (أفغانستان) أو في (كشمير) أو في (الفلبين) فإننا أحوج ما نكون إلى اللجوء إلى الله والإلحاح بالدعاء والتركيز على التوعية مما نحن فيه، فالنوازل تحدو بالأمة إلى القنوت، وكم قنتنا من أجل نازلة ألمت بالمشرق أو المغرب الإسلامي، وهل بعد ازهاق الأرواح المعصومة أو الآمنة من كارثة تستحق أن ننادي لها ب:- (الصلاة جامعة)، وهل بعد الوطن المطعون في الخاصرة من فتنة. ومن واجب كل مواطن يعي واقعه وأبعاد واقعه: دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا أن يلح بالتساؤل، وأن يتجاوز الأنماط والسوائد، فالوقاعات غير المتوقعة لا يكفي فيها التعامل (الروتيني). والبحث عن تفاصيل الحدث، يسبقه البحث عن معقولية الحدث، بمعنى: هل من المتوقع وفق أوضاعنا القائمة أن يحصل في أرضنا مثلما هو حاصل؟. كلنا مقصرون، وكلنا خطاؤون، ونحن أحوج إلى الإصلاح والتغيير والاستخارة والاستشارة في كل صغيرة وكبيرة، وما من شيء من ذلك يبرر أن يصدح صوت أو تعلو يد، فضلاً عن أن تراق قطرة دم. البلاد ليست مهيأة لما حصل، وأهلها لم يألفوا هذه الظواهر، فلقد عشنا الأمن والاستقرار والرخاء، وإذا بدرت خطيئة حسمت بين عشية وضحاها، وحين لا تكون الأسباب مرتبطة بالمسبب، يتجاوز التساؤل الحدث إلى امكانية وقوعه. لقد وقعت التفجيرات، وهلك من هلك دون بينة، ولم يعد بالإمكان أن نقول للمتوفين والمصابين: (أيديكم أوكت وأفواهكم نفخت)، ذلك أنهم لم يكونوا أبرياء وحسب، وإنما هم في بلد آمن مستقر - وسيظل إن شاء الله- يوفر الكرامة والحرية لكل قادم، بل أكاد أقول: إننا نحن الضيوف والوافد رب المنزل. وحين لا يخطر على بال أحد أن يتعرض لمثل ما تعرض له، يتجاوز التساؤل الحدث من حيث وقوعه إلى الحدث من حيث أسبابه ودواعيه، فلم يعد البحث عمن فجر، وإنما البحث عن الأسباب والكيفيات ولحساب من. وفوق كل ذلك: - كيف استطاع المجرم أن يتوفر على الأجواء الملائمة للفعل النكرة؟ وكيف وصلت هذه الأرتال من الأسلحة؟. إن هناك خللاً، ومن أوجب الواجبات أن نتجاوز الإدعاء والاتكالية، وأن نعترف بتقصيرنا مواطنين ومسؤولين، وعلينا أن نملك الشجاعة في الاعتراف، فكل مريض ينكر مرضه لا يمكن أن يشفى، وكل جاهل ينكر جهله لا يمكن أن يتعلم، وكل عاجز ينكر عجزه لا يمكن أن يحقق شيئاً. ليس عيباً أن نخطئ، وإنما العيب أن ننكر الخطأ، أو أن نصر عليه، البلاد مزروعة بالإرهابيين، ومليئة بأسلحة الدمار، فكيف غزيت الأرض والأدمغة؟ هل واطأ المواطن أو غفل المسؤول؟ لقد وحد الملك عبدالعزيز البلاد، وليست له وزارة دفاع، وزرع الأمن وليست له وزارة داخلية، كان المواطن جنديه ورجل أمنه، وهل من المعقول أن يفرط عاقل رشيد بهذه المنجزات؟ دعونا نقول بكل تجرد: إشكالية البلاد من أبنائها المقتدرين الذين غفلوا. نعم أوضاع العالم اليوم غيرها بالأمس، والفتن من حولنا تعصف بالحيوات والمثمنات، ولابد - والحالة تلك- أن نصاب بدخنها، ولكن الدخن بدأ يتحول إلى ضرام، والأحداث المتلاطمة من حولنا كشفت عن ثغرات، ومن الخير لنا أن نستبق إليها، لسدها قبل أن يتهافت من خلالها المفسدون في الأرض، البلد بلد الجميع، والأمن أمن الجميع، ومن وكل أمره المصيري إلى غيره فوت على نفسه أهم الفرص، لقد حان الوقت للنفور كافة بالأقلام والألسنة والأفكار والخبرات. وعلى الذين أنشأوا الصناديق والجمعيات والمؤسسات للأعمال الخيرية في الداخل والخارج أن ينشئوا مثلها لمكافحة الإرهاب، وتخليص البلاد من وباء قادم، قد يحولنا إلى متلقين لإعانات الغير، ومحتاجين إلى المؤسسات الإنسانية، وما لم يضع المواطن يده مع السلطة في المواجهة تنامت الفتن، وما تحت أديم السماء من قوي يراهن على السلامة. إن ما نشهده من أحداث توجب على كل مقتدر أن يوظف كل طاقاته، وألا ينتظر حتى يطلب منه الإسهام، فالوضع يتطلب أن يكون كل مقتدر رجل أمن يتقدم إلى المسؤولين بالرؤى والتصورات والأساليب والمعلومات. وأوجب الواجبات أخذ الحذر في كل سوق وبيت ومكتب ومسجد ومدرسة. وعلى كل الخطباء وكل العلماء وكل المعلمين أن يواجهوا الأحداث بلسان عربي مبين، لا تورية فيه ولا كناية ولا تلميحا. انتهت فترات التردد، وانتهت فسح التأويل والتبرير والتعذير، وجاءت لحظة ( إن لم تكن معي فأنت ضدي).هذا لسان الوطن، فلمن نكل أمره، إلى عدو يتربص به، أو إلى جشع يتلصص على خيراته، إن لدينا قبلة الموحدين ومعبود الجشعين الأسودين: الكعبة والبترول. وإذا فقد الأمن فُقد كل شيء، بل ساء كل شيء، إنه قضية المخدرة في بيتها، والطالب في مدرسته، والمواطن في سوقه، والطفل في حضن أمه، والوافد في عمله، والظاعن في صحرائه، الأمن حق مشروع كالماء والهواء، فإذا بادرنا إلى تصفية الماء من الكدر، وتنقية الهواء من التلوث، وجب أن نحفظ الأمن من نواقضه، وإذا اختل الأمن مس الضر كل من أقلته أرض الوطن وأظلته سماؤه. والأمن ليس قضية تخص وزارة الداخلية ومكافحي الشغب وقوة الطوارئ والمباحث الذين أبلوا بلاءً حسناً، الأمن حق لكل مواطن ومسؤولية كل مواطن، وحين يختل ترخص بعده الأموال والأنفس والثمرات، وكيف لا ترخص وفي (باب الفتن)، أن الرجل يمر بالقبر ويتمنى أن يكون مكان صاحبه، لما يراه ويعيشه من أهوال. وعلى العقلاء أن يلتفوا حول المسؤولين للنهوض بالمسؤولية المشتركة، فالمسألة لم تعد بحيث ننام ملء جفوننا لمجرد أن رجل الأمن يسهر على راحتنا وأمننا. الأحداث تحولت من دخان إلى ضرام، ولما يزل المواطن في مأمن، ولكنه أمن الخائف، وعلى المسؤولين لإحكام المواجهة وترشيدها تجنيد كل مقتدر من طلاب الجامعات وخريجيها للمتابعة والمكافحة والتحري والتوعية، ورصد التحركات المشبوهة وتزويد مراكز المعلومات الأمنية بما يصلون إليه من معلومات، لا لمحاصرة المفسدين في الأرض، ولكن لاجتثاثهم. السؤال الأكثر إلحاحاً واستحالةً وتعقيداً: من يكون هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ ومن هم خصومهم؟ وإلى أي شرعة أو منهاج يرجعون؟ وإلى أي قانون يحتكمون؟ لو رأيناهم أو سمعناهم أو عرفناهم، ولو من وراء حجاب، لكان أن حسمنا أمرنا معهم، ولكننا لما نزل مع أشباحهم في أمر مريج.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:58 PM | #219 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
علاقة الأدب الإسلامي بالأدب العربي..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما استفحل الخلاف بين طوائف الفكر والأدب، نظرت إلى اختلاف المفاهيم، فوجدتها «جوف الفراء» كما يقول المثل: «كل الصيد في جوف الفراء». ذلك أن «نظريات التلقي» تحول دون استكناه الأشياء واستنطاق المصطلحات، وفق مراد منشئيها. ولما كان شرط المصطلح ان يكون جامعاً مانعاً يجمع اطراف القضية، ويمنع دخول ما سواها، كان على المتلقي استنطاق المصطلح، لا النطق عنه. وحين ينهض المصطلح بمهمته ومقتضياته، ثم لا يكون المتلقي واعياً للمقاصد والحدود ومناطق الاشتراك بين المترادفات، يلجأ إلى الافتراضات والتخرصات، ويرتب موقفه على ذلك، ثم يكون التنازع بديلاً عن الوفاق. وحين لا نقرأ الأشياء من خلال نصوصها قراءة تقترب من البراءة ولا تكونها، تجتالنا «نظريات المعرفة» التي توجه التأويل، ليكون نقيض المقاصد، وكل قراءة لا تمتلك قسطاً أوفى من البراءة والحيادية تحمل النص ما لا يحتمل، وتكرهه على أن يقول ما يريده المتلقي، لا ما يريده المرسل. ومن تحت عباءة النظريات: القرائية والمعرفية والتأويلية نسلت الملل والنحل، وانشغل رواد النهضة وقادة الفكر وزعماء الإصلاح بتصحيح المفاهيم التي يقصدونها، لا بتقديم المعارف التي يودون توصيلها. ولو أن المشاهد الفكرية والأدبية تلقت المصطلحات والظواهر والقضايا على ما هي عليه لحوصر الخلاف في أضيق نطاق، ولو أن المتجادلين لم يتخذوا أهواءهم آلهة لما بعدت الشقة على طلاب الحقائق. إن هناك معلومة، وهناك سبيلاً للحصول عليها أوالوصول إليها، وبمعنى أوضح، أن هناك إرسالاً وتلقياً ومتى استقامت وسائط ذلك توفرت المعلومة كما هي عند المرسل، وما من مفكر أو أديب إلا ويود أن تصل رؤيته إلى الآخرين كما يعتقد. وما وجدنا أكثر ذوي المبادئ إلا مستهلكين في تحرير مسائلهم، وتوضيح وجهات نظرهم، وتصحيح أخطاء التلقي والتأويل، وما أتيت المذاهب والأفكار إلا من سوء الفهم، أو من شطح التأويل، أو من التعصب المقيت أو من زيف المواقف، وكم من كتَّاب كنا نعدهم من أصحاب المواقف والمبادئ استزلتهم أهواؤهم ورغباتهم الذاتية ومصالحهم، والمصالح لا تتحكم إلا في المشاهد السياسية، أما المبادئ فتحتاج إلى مواقف تبحث عن الحق ولا تنشد الكسب غير المشروع. وما «الأدب الإسلامي» من كل ذلك ببعيد، وإشكالياته وعقباته ناشئة من آليات التلقي، لا من مقتضياته ومقاصده، إذ ما من رجل رشيد يعترض على الكلم الطيب والقول السديد. والأدب حين يلتزم الفضيلة يظل أدباً ، وحين يقع في الرذيلة يظل أدباً، وحين يحارب القيم السلوكية والأخلاقية يظل أدباً، فالأدبية والشعرية مقتضيان فنيان لا يرتبطان بالدلالة على كل أحوالها التألقية أو الانطفائية، وتحقق أدبية الأدب أو شعريته رهينة الشرط الفني ليس غير. و« علم الدلالة» أصبح من القضايا المهمة في مشاهد النقد الأدبي، وهو محور الجدل عند المشتغلين ب«الأدب العربي» و«الأدب الإسلامي» وإن كانت نظريات «علم الدلالة» توغل في قضايا ليست واقعة ضمن اهتمام «الأدب الإسلامي». ولأن «الأدب الإسلامي» مصطلح حديث، فقد تصوره المتلقي حديث المقتضى والمحتوى والشرط، بحيث ربط بين التاريخية والممارسة ربطاً عضوياً، ولو أن المتلقي نظر إلى الممارسة منذ أن نزلت «آيات الشعراء»، ومنذ أن وجه الرسول صلى الله عليه وسلم . الشعراء من أصحابه إلى المنافحة عن حوزة الدين، ومنذ أن دعا لحسان بن ثابت، لكان أن عرف أن «الأدب الإسلامي» كائن منذ أن كانت الرسالة. وتصور الدارسين والنقاد بأن «الأدب الإسلامي» يشكل مع «الأدب العربي» اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع استدعى القول في العلاقة بينهما. ولو أنهم فكروا في ثنائية التنوع أو العموم والخصوص لما احتاج الأمر إلى مزيد من القول. ولما كان «الأدب العربي» في صدر الإسلام وعاء الفضيلة ومنطلق القيم الإسلامية لا يزاحمها ولا ينازعها إلا ما جن ذليل أو شعوبي حقير، فإنه لم يكن أحد يفكر بهذا المصطلح، ولا يفكر باعتزال الأدب الذي وسع كل مناحي القول. ولو أن الذين يسكون المصطلحات لم ينسبوا الأدب إلى لغته ، ولا إلى زمانه أو مكانه أو حكامه أو مضامينه لما كان لأحد منا أن يفكر بنسبة الأدب إلى الإسلام، أووصفه به، ولو أن الأدب لم «يودلج» ولم يسيس، ولو أنه ترك للامتاع والتسلية لما أدلى الإسلاميون بدلوهم، أما وقد حمل الأدب العربي ما لم يكن يحتمله من قبل، وأبيح له ما لم يبح له من قبل، فقد لزم اقتطاع جزء من مساحته الواسعة، كما تقتطع الأرض، لتكون مكاناً للعبادة، والأرض اقلت المساجد والملاهي والحدائق والمزابل والصحاري القاحلة والرياض الغناء. وهكذا الأدب يتسع لكل فنون القول وأغراضه، وكل فن وغرض يحمل سمته واسمه ولا مشاحة في ذلك. ومعايشة المشاهد للأدب موصوفاً بأولويات مقاصده يستدعي إلف ما يجد من مصطلحات، وعدم التحفظ عليها فضلاً عن الرفض، لقد وصف مصطلح «الأدب» بما لا حد له من المصطلحات أو الكلمات التي تحولت فيما بعد إلى مفاهيم مصطلحية، لقصد التخصيص والتميز وتكثيف الأداء فقيل: الأدب العربي أو الفرنسي أو الانجليزي أو الألماني. وقيل: الأدب الصوفي أو الحداثي أو الماركسي. وقيل: الأدب العباسي أو الأموي أوالسعودي. وقيل الأدب الحجازي أو المصري أو السوري. وما اعترض أحد على شيء من تلك التسميات، وما تساءل أحد عن مشروعيتها، وحين قيل «الأدب الإسلامي» ثارت الثائرات، وأثيرت التساؤلات، وسيقت التحفظات، وقيل بالتجزيئية والتصنيفية والأدلجة والتقييد ومصادرة الحرية الفنية، وافترضت الثنائية المتضادة زوراً وبهتاناً، بحيث لا يكون في ازاء الأدب الإسلامي إلا الأدب الكافر. ولسنا بصدد التزكية أو الإدانة أو سوء الظن، ولكننا نود أن نلتمس الوشائج والمساحات المشتركة بين «الأدب العربي» و« الأدب الإسلامي» سعياً وراء تصحيح المفاهيم، وتقريب وجهات النظر، وكشف الدعاوي الواهمة، وتطمين النفوس القلقة، فأدب الأمة يتوفر على المرجعية لكل ما نسل منه من مصطلحات جديدة. وإذ يكون «الأدب الإسلامي» مصطلحاً مركباً من كلمتين اصطلاحيتين: مصطلح «الأدب» ومصطلح «الإسلام». يكون «الأدب العربي» هو الآخر مركباً من مصطلحين، أولهما مشترك بين العروبة والإسلام، وهو كلمة «الأدب» وأما الآخر، وهي كلمة «العربي» فهو مصطلح يحدد لغة النص،ليس غير، ومن ثم يلحق به الأدب الإسلامي إذا أبدع بلسان عربي، وعلى هذا فإن هناك التقاء وافتراقاً، أو قل التقاء مطلق وآخر مقيد. والتقاء في الأدبية ومقتضياتها، والشعرية ومطلباتها، واللغوية وجمالياتها، وافتراق في مشروعية المضامين وتنوعاتها لا في تضادها. وافتراق الصفة المخصصة لا يشترط فيها تناقض المضامين، بحيث لا يكون «الأدب العربي » إلا أدب عهر وكفر، وعلى نقيضه «الأدب الإسلامي»، ولكن يظل «الأدب العربي» متسعاً لكل المضامين، بما فيها المضمون الإسلامي، فيما يقتصر «الأدب الإسلامي» على ما يقتضيه الإسلام من قيم وأفكار وتصورات، ومن ثم تكون العلاقة بين الأدبين علاقة عموم وخصوص، وليست علاقة تضاد، ف «الأدب العربي» منسوب إلى لغته وإلى ما وسعته اللغة من مضامين، وبهذا يكون أدباً عربياً، وإن تعددت مقاصده وتصوراته ومضامينه، واللغة العربية وسعت كتاب الله لفظاً وغاية. و«الأدب الإسلامي» منسوب إلى مضمونه، فما وسعه الإسلام من المضامين فهو مادة «الأدب إسلامي» وما وسعته اللغة فهو أدب عربي، ولأن اللغة العربية وعاء الفكر والدين فإن أدبها يكون الأوسع والأشمل. وكلمة «أدب» ترحل بمقتضياتها الفنية وتصطحبها مع كل اضافة، فهي كما هي في الأدب الحداثي او الوجودي أو الماركسي أو العربي أو الإسلامي. مثلما أن الإسلام كما هو عند الهندي والفارسي والعربي لا يتغير بتغير اللغات، ولا بتعاقب الأزمنة، ولا بتعدد الأمكنة. فالمقصد الرئيس، وهو أدبية الأدب قائمة في الأدب العربي والإسلامي. واللغة العربية وعاء الإسلام، وما من عربي إلا هو ربيب الإسلام، لأن علاقة اللغة بالفكر كعلاقة الجسد بالروح، ولهذا لا تجد تميزاً حاداً في أدب نصارى العرب، لا في القديم ، ولا في الحديث، يتجسد ذلك عند الأخطل التغلبي في العصر الأموي، وعند الأخطل الخوري في العصر الحديث. وعلاقة «الأدب الإسلامي» ب «الأدب العربي» كعلاقة العلوم الإنسانية بالفلسفة، ف «علم النفس» و«علم الجمال» نسلت من عباءة الفلسفة. ولهذا فإن هناك عموماً وخصوصاً بين الأدبين، ف«الأدب العربي» وسع كل الآداب الإسلامية والحداثية والسريالية والدادية والماركسية والوجودية التي أبدعت باللغة العربية، ذلك أن شرطه أدبي لغوي ليس غير، ومن ثم فإنه ليس معنياً بالدلالة، وليس له شرط دلالي، بدليل أن ما أبدع في اللغة العربية فهو أدب عربي، وليس كذلك الأدب الإسلامي، فالأدب العربي يقتصر اهتمامه على الأدبية بوصفه أدباً وعلى فصاحة اللغة بوصفه عربياً. ولأن لكل أدب موصوف أولوية وشرط تفرضها الصفة، فقد اتخذ كل أدب موصوف سمته التي تكرس صفته وشرطه. فالأدب العربي يتسع لكل مناحي الفكر والأخلاق، ولا تكون لغته إلا عربية، فيما يضيق «الأدب الإسلامي» موضوعياً، بحيث لا يتسع إلا لما يقتضيه الإسلام من قول أو فعل أو معتقد، ويتسع لغوياً بحيث يكون عربياً وغير عربي. وتميز «الأدب الإسلامي» يرتبط بالدلالة وحسب، بحيث لا يختلف عن «الأدب العربي» في ثوابت الأدب ومقتضياته اللغوية والفنية والشكلية والعاطفية، وإن كانت له مواقفه من الغموض والأسطرة وبعض الجوانب الفنية والشكلية، غير أنها مواقف ترتبط بأدبية النص لا باسلامية الدلالة. «الأدب الإسلامي» له رسالة وهدف وغاية ومقتضى، قد لا يحفل بها الأدب العربي، ولكنه لا ينفيها، ولا يضيق بها، فقد يلتقيان في الدلالة فيكون «الأدب الإسلامي» قد عاد إلى مصدره، وقد يفترقان فيكون «الأدب العربي» أدباً بفنيته ولغته فيما يكون «الأدب الإسلامي» أدباً بمضمونه دون الاخلال بأدبية النص وشعريته وفصاحة لغته وانزياحها. وكم من أديب عربي لا يعرف مصطلح «الأدب الإسلامي» اتى بما لم يأت به الأدباء المعنيون بهذا المصطلح مجتمعين، وكم من ناقد أو سارد أتيا بما لم يستطعه المنتمون لهذا المصطلح. والتفاوت في الشرط الدلالي لا يفرق بين الأدبين من حيث الثوابت. وتعدد المصطلحات لا يقتضي التعدد الفئوي، كما لا يقتضي الضدية، ذلك أن الشيء يوصف بما يغلب عليه، ولا تقتضي الصفة نفيها عن غيره، فوصف «عمر بن الخطاب» بالعادل لا يعني أن ما سواه جائر، وكذلك القول ب «الأدب الإسلامي» لا يجعل ما سواه أدباً كافراً. وحرية التعبير التي يطيل المتحدثون الوقوف عندها مكفولة في «الأدب الإسلامي» بشرطها، إذ ما من حرية إلا ولها شرط وضابط وانضباط، وإلا أصبحت فوضى، وليست الفوضى من الحرية في شيء. وعندما تختلف المفاهيم حول الحرية يحمل «الأدب الإسلامي» شطراً من أوزار المفاهيم الخاطئة، وكأنه يريد من المبدعين أن يتركوا الإبداع، ومن تخوف من القيود والحدود، وأشفق على الفن من ضوابط «الأدب الإسلامي» فقد عميت عليه المقاصد والضوابط والنظائر، ذلك أن الماركسي والحداثي، متأدلجان» ملزمان مشترطان، ومع ذلك جاء إبداع المنتمين الى تلك «الأيديولوجيات» في غاية الجودة والتألق، فالمسألة مسألة اقتناع وتمثل وصدق واقتدار وموقف. وعلى ضوء ذلك فإن المسألة محكومة بالالتزام لا بالالزام، وبالاقتناع الطوعي لا بالاقناع القسري، وبالرغبة لا بالرهبة، فمن خاف من شرط الأسلمة تسلطاً تعثر في ابداعه، ومن دخل في الدين كافة، وأشرب في قلبه الايمان لم يستطع أن يقول إلا الحق وهو غاية كل أديب اسلامي. ومعتصر المختصر: أن الأدب ذو رسالة امتاعية اقناعية استمالية، وهو رهين الانساق الثقافية والاجتماعية السائدة، ومتى فسق عن أنساقه وسياقاته المعتبرة شرعاً وعقلاً دونما وعي بمسؤوليته، أصبح وبالاً على أمته، ولأن الانساق تتشكل لحمتها وسداها من حضارة عريقة عميقة شاملة تمس حياة الإنسان الخاصة والعامة، بل الأخص منها والأعم. فإن مسؤولية الأدب بوصفه مفردة منها تتضاعف، ولما لم يكن «الأدب العربي» مضطلعاً بمتطلبات المرحلة وفق المنظور الاسلامي مع ما يعتريه من عجز أوتمرد، فقد اقتضت مصلحة الأمة مساءلته عن العجز أو الشطح في سيبل ترشيد مساره، وتوظيفه لخدمة العقيدة والحياة وفق المقتضيات الشرعية تمشياً مع الأوضاع القائمة، وعلى ضوء ذلك فإن «الأدب العربي» يشكل الدائرة الأوسع التي تمتلك فيها الآداب المؤدلجة أوالمسيسة حيازاتها لتصبح العلاقة في النهاية علاقة عموم وخصوص. ومن قصر «الأدب الإسلامي» على أدب الدعوة أو الزهد أوالتصوف أوالرقائق فقد تجنى، ذلك أنه يتسع لكل ذلك ويتجاوزه، إنه الابداع القولي المت.وفر على كل متطلبات الإبداع المرتبط بالرؤية الإسلامية للكون والحياة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 06:59 PM | #220 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الثوابت والمتغيرات في مواجهة التفجيرات..؟ 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل تمر الأمم في محطاتها التاريخية بلحظات حاسمة: توصف تارة بالمبادرات الانسيابية، وتارة أخرى توصف بالمخاضات الابتسارية، وهناك فروق دقيقة بين الحالتين، لا يفهمها إلا الراسخون في علم السياسة. وقد تفاجىء الناس حالات ولادة متعسرة، تأتيهم بياتاً أو هم قائلون، وكل ظرف عصيب يواجه: إما بالمستطاع من التقدير والتدبير والحلم والأناة واختيار الأيسر، وإمّا بالصلف والعنف والتطرف، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وحين تصاب الأمة بنازلة مذهلة، تتفرق بجماعاتها الطرق، فتبلى بالمراء الظاهر والباطن أو بالتنازع والتفرق، {وّإذّا أّرّادّ اللهٍ بٌقّوًمُ سٍوءْا فّلا مّرّدَّ لّهٍ} وفي مثل هذه الظروف المذهلة يجب أن تتفادى الأمة التخبيص والرجم بالغيب، والناجون من مثل هذه الأوضاع من يبادر عقلاؤهم إلى الالتفاف حول بعضهم، والتبصر في أمورهم، والحيلولة دون الارتباك، ولا تتحقق النجاة حتى تلتزم عامتهم ما تخرج به المطابخ السياسية والدينية فالعصر عصر مؤسسات وليس عصر أفراد، والنوازل قد تخلط الأوراق، وتعرض ثوابت الأمة إلى التصدع، ولاسيما أننا أمة مسلمة، علمها دينها كيف تواجه المصائب، وكيف تتفقه في الدين، وألزمها التفريق بين الأركان والواجبات والسنن والمباحات، فكان أن بني الإسلام على ثوابت، لا يجوز المساس بها، ولا الاجتهاد معها، وقد قيل :« لا اجتهاد مع النص» ويعنى به قطعي الدلالة وفي المقابل أحيطت تلك الثوابت القطعية بمتغيرات، يحكم بها ذوو العلم والحجا، تجلت في مساءلة الرسول صلى الله عليه وسلم لرسوله «معاذ» رضي الله عنه، بم يحكم، وباستفتاء القلب، وما يحوك به من إثم، وما يطمئن إليه من بر، وبدراية الأمة بأمور دنياها، والأمة الإسلامية لها ثوابتها التي لا تحيد عنها ولو وضعت الشمس في يمينها والقمر في شمالها، وحين يدير ذوو الشأن والاختصاص كؤوس المعرفة والرأي حول القضايا المصيرية، ويضطرون إلى نقض البنية وإعادة تأسيسها، يجب عليهم أن يفكروا بالقدرة الذاتية على فهم الشيء ونقيضه: الذات والآخر، ماذا نريد؟. وماذا يراد منا؟ فلم نعد أهل قرية مسوَّرة، لا نحتاج إلى سوانا، ولا يحتاج سوانا إلينا، وحين نتقحم متاهات الفكر، ومضلات السياسة، وأعماق الدين، ونوغل فيها بعنف، دون أن نؤسس لأنفسنا معرفياً، يستخفنا المتربصون فنطيعهم، ثم نفقد مع الأشياء الذوات، بوصفها منتمية إلى شيء لا مزايدة عليه. وما من شيء إلا وله ثوابته، فللسياسة ثوابتها، وللدين ثوابته، وللتربية ثوابتها، وللاقتصاد ثوابته، وليس من مصلحة الأمة أن يتهافت غير أولى المعرفة والتجربة والاختصاص على القول في القضايا المصيرية، وليس من مصلحتها أيضا أن يلوذ المقتدرون بالصمت، بحجة الأجواء الملوثة والانفلات الفكري، فكل مقتدر راع، وكل راع مسؤول عما استرعاه الله عليه، والقول في الدين مسؤولية كفائية، وهو قائم على التفصيل وعدم التفريط، والأزمات تقود إلى النجاة أو إلى الهلكة، فإذا تلقَّى الراية أهل الحل والعقد، تفادت الأمة الهلكة، أما إذا بادرها سواهم تحت شعارات الغوغائية التي ألحقت الضرر بالأمة فإن الطريق سيؤدي إلى الهاوية. ولأننا نتحدث في ظروف عصيبة، وحول قضايا مهمة، ولأن الإسلام بحسب للأولويات حسابها، فإن أولويات الثوابت في هذه الظروف:- - «الدين» و«السلطة» و«المرجعية»، ف«لا دنيا لمن لم يحي دينا»، وليس هناك أمن بدون سلطة قوية عادلة مطاعة، تأطر على الحق، وتمتلك العزمات، وليس هناك اجتماع كلمة دون مرجعية علمية شرعية محترمة حاسمة للخلاف، يصار إليها، ويذعن لها، تلك هي أهم الثوابت في قضايا التنازع السياسي والفكري والديني، وهي مجتمعة أو متفرقة لا تؤدي رسالتها، ولا تحقق مقتضياتها على الوجه الأكمل إلا إذا تفادينا «الغلو» في الدين، وتحامينا «التصنيم» للسلطة، واتقينا دعوى «العصمة» للعلماء، وإلا إذا أوغلنا في كل ذلك برفق فالإفراط والتفريط نقيضان مهلكان، والوسطية هي السمة الإسلامية المنجية، فالله لم يجعل علينا في الدين من حرج، ولم يكلف نفساً إلا وسعها، ولم يعصم إلا رسوله: {وّاللَّهٍ يّعًصٌمٍكّ مٌنّ النّاسٌ} ولم يجعل أحداً فوق المساءلة {وّقٌفٍوهٍمً إنَّهٍم مَّسًئٍولٍونّ}، والسلطة بشرية لها وعليها مسؤولية وغير معصومة، وهي أحوج إلى الاستشارة والاستخارة والمناصحة والمعاضدة والرد عن الظلم والتسليم لشروط البيعة الإسلامية أو الدستور المتفق عليه، فمن اختار «الديموقراطية» وحاكمها بالفكر السياسي الإسلامي، وقع في المتناقضات، ومن اختار السياسة الإسلامية وحاكمها بالفكر العلماني أو «الديموقراطي» فقد وقع في الفتنة، والممارون في القنوات الفضائية يتقحمون «استديوهاتها» دونما تحديد للمرجعية، ودونما تأصيل للقضايا، ودونما تحرير للمسائل، ودونما أهلية لتبادل الآراء، ولهذا يقع المتلقي في دوامة من الشك لا تزيده إلا إمعاناً في الضياع. والعلماء الربانيون مطالبون بالاجتهاد أمام النصوص الاحتمالية الدلالة والثبوت وبين يدي النوازل، بعد استكمال مسوغات الاجتهاد كما ساقها الآصوليون، والخطأ في الاجتهاد متوقع، وإذا توفرت آليته وإمكانياته وشروطه ودواعيه، ثم مارس العلماء حقهم فيه وأخطؤوا، كان لهم أجر الاجتهاد، وإذا أصابوا جمعوا بين أجري: الاجتهاد والصواب، وهذا الوعد الرباني للمجتهد الذي لم يحالفه الصواب ترغيب في الاجتهاد، وحث عليه، ودفع للتحرج والتردد، ومن تجمد في مذهبية، أو سلَّم لطائفية، أو أذعن لحزبية فقد أوقف حركة التاريخ، والغى حقه ووجوده الطبعي، ومن تقحم مضائقه بدون أهلية جنى على المقتدين به والمفتي المخالف للإجماع مجتهد، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد صدَّع تلاحم الأمة واستزل الرِّجال الجُوف، وحين يكون المتبني للقضايا الفكرية أو الدينية أو السياسية من العامة، فليسعه ما وسع الخاصة، وليس من حقه حمل الناس على ما هو عليه، وليس من حقه القطع بخطأ الآخر والعمل على توهينه، فالمقلد لا مزيد على تقليده، وليس له إلا الامتثال، لأنه غير متفقه، وإنما هو متلقٍّ، ينذره الذي نفر للتفقه في الدين، ومن تقحم مضامير الاجتهاد والدعوة والإفتاء، فليعدَّ لها عدَّتها الباهظة التكاليف، ومن لم يعرف أسلوب المراجعة والنقد والمساءلة مع العلماء أو مع السلطة أخل في أدبيات الحوار، وصار ضرره أكبر من نفعه، ومن نظر في سلامة «الغاية» فعليه أن يتقن مشروعية «الوسيلة»، بوصفها آلة توصيل ومسؤولية، فالإسلام لا يرى مقولة: «الغاية تبرر الوسيلة»، ولهذا فإن قائل الحق أمام «دال» و«مدلول» وسلامة أحدهما لا تبرر الآخر، فالكلمة اللغوية بوصفها وسيلة/ دالٌّ، لها ضابطها: النحوي والصرفي، والإملائي والتركيبي، والمضمون «مدلول» له حكمه في المشروعية والحظر، ومن ثم لابد من مشروعية «الدالِّ» و«المدلول»، ولا تتحقق الثوابت المشار إليها إلا ب «الالتزام» و«الهيبة» و«الاحترام» التزام الدين كما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «تركتكم على المحجة البيضاء..» وهيبة السلطان، المجمع على شرعيته، واحترام العلماء المشهود لهم بالعلم والاستقامة، ومتى مُيِّع الإسلام، وأصبح كل شيء مباحاً باسم حرية التفكير والتعبير، وتمرد العامة على السلطة باسم حق التعبير عن الرأي، وأصر كل ذي رأي على رأيه بحجة «نحن رجال وهم رجال»، حلَّت الفوضى، وفقد الأمن، فالتسامح وحرية التفكير والتعبير وحق الاجتهاد مشروعة بضوابطها ومؤهلاتها وحقها، والأحداث التي تعصف بالأمن والاستقرار، امتحان لوعي الأمة، وجس لتماسكها، واكتشاف لقدرتها على احتمال البلوى، وتصرفها في ساعة العسرة {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ}، وما الأحداث إلا تحديات تؤثر على كل المقدرات والمكتسبات، والعامة يواجهونها على كل مستوياتهم وحقهم في التصدي بمواقف مختلفة، وقد يستزل الهوى والشيطان من لم يحسب للعواقب حسابها، فلا يذعنون لشرعية، ولا يرجعون لمصدرية، ولا يسألون أهل الذكر، ومن ثم يواجهون النص القطعي الدلالة والثبوت الذي لا اجتهاد معه بحداثة سن وضحالة معرفة. والتلاسن الكلامي حول الثوابت والقطعيات يفضي بالأمة إلى خلل ذريع، يفوق بأثره السيئ أثر الحدث، فالحدث غالباً ما يكون مادياً ينتهي بلحظته، ولكن الاختلاف الفكري والديني والسياسي غير المنضبط يمتد أثره، ويتجذر، ويشكل طوائف وأحزابا، ويدخل بالأمة في دوامة الصراع الفكري والديني، وتغييب دور الثوابت ووظائفها يسهم في تطوير الخلاف وتأليه الهوى، ليشكل طائفية مقيتة، وحين تتشرذم الأمة تصبح البلاد مليئة بالعبوات الناسفة، لتكون ورقات ضغط بيد اللاعبين الكبار، وكم من دولة تفرق شعبها بين قبليات متوترة، وطائفيات قلقة، وحزبيات متحفزة، وإقليميات متدابرة، بحيث شكلت هذه التكتلات ثغرات نفذ منها الأعداء، مما اضطر الدولة المصابة بهذا الداء العضال إلى تحييد اللاعبين الكبار بتنازلات مصيرية تمس الثوابت والحريات وحق تقرير المصير، وما يعانيه العالم من إرهاب عنيف منظم ليس شرطاً أن يكون ناتجاً محلياً، ذلك أن أساليب الضغط والمساومة والتسلط تمارس كل شيء في سبيل تحقيق المآرب. والذين يحيلون إلى «الدين» أو إلى «المناهج» أو إلى «حركات الإصلاح» أو إلى «اختلاف السلطة مع الأمة» أو يلمحون إلى «جامعة» بعينها، يواطئون الناقمين على الإسلام المصرّين على إجهاض مشروعه، وإن لم يستشعروا هذه المعية، والمتابع لفيوض القول يدرك أن اللعبة محكمة، فالإسلام أصبح المتهم الأول، ولم يتنبه ذووه إلى المكيدة الحاذقة، بل ظلوا يرددون ببلاهة ما تردده الوسائل الغربية المناوئة، وإذا حصل اعتداء وحشي دموي همجي، لا يعرف بالتحديد فاعله، ولا تعرف دوافعه، ولمّا تحدد قضيته، فإن واجب العامة ألا تخوض فيه، وألا تتعجل معرفة الفواعل والدوافع والنتائج، لأنها إن فعلت ذلك ثبطت عزمات أهل الحل والعقد، ومهما تفاوتت الآراء فإن:- - الإخلال بالأمن القائم والمعاش جريمة. - وقتل الأبرياء: مسلمين أو مستأمنين جريمة. - وتصفية الاختلاف في وجهات النظر بالسلاح جريمة. - والطعن في أمانة العلماء وكفاءتهم جريمة. - ومنازعة السلطة المجمع على شرعيتها جريمة. - والتسليم لحكم إسلامي ثم محاكمته على ضوء أنظمة وضعية جريمة. - واستفزاز الرأي العام بالتطرف الديني أو العلماني جريمة. وهذه الجرائم دركات، فحرمة المسلم تفوق كل حرمة، واختلال الأمن رأس كل خطيئة، والفراغ الدستوري ذروة كل بلية، وللحديث بقية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 07:00 PM | #221 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الثوابت والمتغيرات في مواجهة التفجيرات «2/2»
د. حسن بن فهد الهويمل وإذا اتفقنا على ما سبق من ثوابت ومتغيرات ومفاهيم، ونحن ملزمون بالاتفاق أو بالتعاذر أو بالتعايش على الأقل، لأن ترك الأشياء معلقة تعويق لمسيرة الحياة، إذا اتفقنا لزم أن نفرق بين «الاختلاف المعتبر» و«التنازع المحظور». كما يجب أن نفرق بين «المعارضة» المشروعة و«التمرد على السلطة»، وأن نفرق بين «مراجعة العالم» الشرعي و«الطعن في كفاءته وأمانته ونزاهته». وفي الوقت نفسه يجب أن نفرق بين «السكوت» عن الحق و«المجادلة» عمن يختانون أنفسهم. ولن يستقيم لنا شأن حتى نسمي الأشياء بأسمائها، ثم نتفق على وسيلة مقبولة لتداول القضايا الخلافية، ونهيئ قنوات مأمونة للتواصل بين ذوي الرأي والسلطتين: السياسية والدينية وإذا نسلم بمساءلة الذات، فإننا مضطرون لحوار الآخر، للإسماع والاستماع عن مراد كل طرف، أو لتصحيح المفاهيم المتبادلة. ولا يتم ذلك على وجهه إلا بالتحرير الدقيق للمسائل المختلف حولها، وتحديد الموقف منها، ومعرفة الثوابت التي لا مجال للبحث فيها، والمتغيرات التي يمكن النظر فيها. ولا بد أن نعرف من نكون. فمن جادل وهو يجهل ذاته أرداه خصمه. وما من دابة عاقلة إلا ولها انتماؤها، وكل انتماء لا يتحقق إلا بالإصرار والاعتزاز والتمثل. وبهذه الضوابط يتحقق التحرف الحصيف لمواجهة متكافئة: مادياً ومعنوياً وبشرياً ومعرفياً. فإذا قيل لنا: بأن «الإرهاب» منتج إسلامي، بحجة صدوره من أفراد ينتمون إلى الإسلام، وإذا زيد في النيل، وقيل: إنه منتج إسلامي محلي، لأن من أطرافه من ينتمون إلى هذه البلاد، لزمنا التفريق بين المبدأ والتطبيق، وبين الطرف الموالي والمعارض والمنشق على السلطة. فنحن وأبناء الإسلام، كما أراده الله، وكما تركنا عليه رسوله، ونحن حماته وحملته إلى العالمين، لا نسوغ لأنفسنا قتل «هرة» فضلاً عن قتل إنسان معصوم، وفي ديننا: «أن امرأة دخلت النار بهرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» وفيه المنع من اتخاذ الحيوان غرضاً للرماية، وفيه «كل نفس رطبة فيها أجر»، وفيه «ان امرأة مومساً سقت كلباً فدخلت الجنة»، وفيه التحذير من إشهار السلاح، وفيه الحث على الحلم والأناة والرفق والسكينة والتيسير. وحتى في الحرب نهينا عن قتل المرأة والطفل والشيخ الكبير والأجير والمستجير. فكيف نساير الأعداء في تداول الإسلام بوصفه مصدر التفجير والتدمير؟ ثم نقبل إحالته على البلاد وأهلها. وكيف يكون منا أو من ديننا ما يخل بالأمن القائم، أو يسعى لإحداث فتنة أو فراغ دستوري، وهو الذي يحذر من الخروج على الشرعية، لأنه طريق الفتنة، كما أنه لا يقبل قتل المعصومين بالدين أو بالذمة لأنه عدوان، والسلطة الشرعية عنده شرط الحياة السوية، و«من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية». وإذا تزيّا أحد من القتلة بزي الدين، وابتسر الآيات والأحاديث والفتاوى من سياقاتها، ومارس المزايدة على الدين ، فإنما ذلك من باب الكذب والافتراء والتضليل. ولقد علمنا ما كان يفعله المناديب والجواسيس والمبشرون والمستشرقون من تودد وتلطف وإسلام مزور. ومن الحصافة ألا ننخدع بالدعاوى الكاذبة، وألا نساير الغلو الديني والعلماني والحزبي، وألا يستدرجنا الخطاب الغربي من حيث لا نعلم، فهؤلاء وأولئك يخلطون بين الإرهاب والمقاومة والجهاد، ويجعلون الإسلام مصدر العنف والإرهاب. ومسؤوليتنا التصدي لمفتري الكذب على الإسلام وأهله، وتصحيح المفاهيم عن الدين أولاً وعن الذات ثانياً. وإشكالية العالم الإسلامي أنه خافت الصوت، لا يُسمع اعتراضه، ولا يبلغ رسالته، وفوق ذلك فهو مشتت الانتماء: - طائفياً وحزبياً وسياسياً، والقوة الإعلامية لا تقل عن القوة العسكرية، والحرب النفسية ليست بأقل شأنا من الحرب الميدانية، ولا قوة مع التفرق.وفي ظل السعار الإعلامي يجب أن يكون خطابنا قائماً على ركيزتين: - تحديد عربي إسلامي لمفهوم الإرهاب والمقاومة والجهاد. - عدم تداول الإسلام بوصفه طرفاً في قضايا الإرهاب، ولو قال الإرهابيون بأنهم إسلاميون، فالذين يمارسون الإرهاب الحقيقي الذي نراه رأي العين في بلادنا ليسوا إسلاميين، وليست قضيتهم قضية إسلامية، وليست مطالبهم مطالب وطنية. فالحق والباطل واضحان، والأمور المشتبهة لا يجليها إلا ذوو العلم والحجى والتجربة وفقه الواقع، والعامة مطالبة بسؤال أهل الذكر. وإذ نكون مضطرين لمجادلة المتقول علينا أو على ديننا فلا بد أن يكون خطابنا مسالماً لا عداونية فيه، صحيحاً لا مغالطة فيه، ناجزاً لا مماطلة فيه، متحدا لا تفرق فيه، عازما لا تردد فيه. فكم من إنسان أو أمة سقطت حين نطقت. ولأن لكل حدث حديثاً فإن المقدمين على تفجير أنفسهم وقتل من لا يعرفون ومن لا يقصدون بأسمائهم وبأعيانهم ما هم من الإسلام في شيء، والنص قطعي في تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والانتحار، وما أولئك إلا عصابة يستخدمها أعداء الدين والحرية والحقوق الإنسانية واستقرار الشعوب، ليهدموا المعنويات والمثمنات. وإذا كان المستخفون لهم بالفتيا أو بالتأييد يدعون أنهم مجاهدون في سبيل الله، وأنهم يواجهون الكفر، وجب أن يسبق ذلك مسوغات الجهاد الإسلامي، ومنها: - الخلافة الإسلامية. ودخول الكافة في الإسلام: قولاً وعملاً وحاكمية. ومباشرة الدعوة. ومتى استنفدت الأمة: القوية المسلمة المتحدة في كل أقطار العالم كل الوسائل السلمية الممكنة، وجب إعداد القوة الرادعة، واستلهام آية: {الآنّ خّفَّفّ اللهٍ عّنكٍمً وّعّلٌمّ أّنَّ فٌيكٍمً ضّعًفْا }، والاستغناء التام عن العدو المحارب، ليس فقط بالمقاطعة، ولكن بالمنافسة والمماثلة والاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن دعمه، وعما عنده من عدة السلم وعتاد الحرب، مع تكافؤ الامكانيات، وبعد ذلك كله النظر في مصالح المسلمين كافة: هل هي بالصلح والدفع بالتي هي أحسن أم هي بإعلان الجهاد؟ وهل هي في نبذ العهود أو باتمامها إلى أجلها؟ وحينئذ لا بد من النبذ إليهم على سواء. فالقتل ليس هدفاً بذاته، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو ذروة سنام الإسلام، ولا جدال حول مشروعيته، وهو من ثوابت الدين، وشتان بين الجهاد الإسلامي وما يقترفه الغادرون. لقد أقره النص القطعي، ولم يختلف العلماء حول مشروعيته، وإنما اختلفوا حول أمور تتعلق بالخيارات المتاحة، كالاستئناف أو الإرجاء، وحول من يعلنه، ومتى يعلنه. والأجدى أن نقف حيث انتهى علماؤنا من ثوابته، ونمضي في الاجتهاد حول متغيراته وظروف المرحلة، مستصحبين خطورة إعلان الحرب المرتبط بالترسانة النووية، غير أن الدفاع مطلوب مهما كانت الظروف، ولأن للأمة خيارين: - الدعوة أو الجهاد. ولأن الدعوة ممكنة، وبخاصة في ظل الانفجار المعرفي، وثورة الاتصالات، فإن على الأمة أن تتحرف لها عبر كل قنوات الاتصال. ويظل «الجهاد» الذي يحيل عليه خوارج العصر، ويعولون عليه كالصلاة والزكاة والحج والصوم، له شروطه، وموجباته، وموانعه، وخياراته، وأهليته، فليس كتاباً موقوتاً كالصلاة، وليس من حق أحد أن يعلنه بدعوى غياب الخلافة، ولا بدعوى أنه ضد دولة كافرة، فالكافر يكون حربياً، ويكون مستجيراً، ويكون معاهداً، ويكون مستأمناً، ويكون ذمياً، ويكون قوياً متسلطاً، لا يدفع بالمواجهة، ولكن بالمصالحة أو بالاتقاء، ولكل طائفة أو طرف أسلوب التعامل معه، وبلاد الكفر فيها أقليات مسلمة، تمارس شعائرها، والدول الإسلامية المعنية بالدعوة ورعاية مصالح المسلمين أتيح لها ممارسة الدعوة والدعم، كما أتاحت تلك الدول للدعوة والدعاة ما لم تتجه بعض الدول المنتمية للإسلام، والعالم في الظروف العادية يحتكم إلى مؤسسات عالمية، يشرعن من خلالها ما يريد. ومع كل التحفظات فليس لأحد أن يعطل شعيرة الجهاد، ولا أن ينال منه، ولا أن يعلنه في ظل ظروف غير مواتية، ولا أن يتوانى في إعداد القوة. وكيف نتوانى ونخلط بين «اللاعنف» و«الضعف» والغرب وركائزه في أرض المسلمين يتسابقون في التسلح، ويستأثرون بحق إنتاج السلاح النووي، وكأنهم يريدون الاستسلام باسم السلام، وما من دولة تمارس سباق التسلح إلا وهي على موعد مع الحرب. وعند معالجة ظواهر الإرهاب والعنف والمقاومة والجهاد، فإنه لا يجوز ابتسار النصوص، ولا استلال فتاوى العلماء خارج سياقها، فالذين يستحضرون «ابن تيمية» أو «ابن عبدالوهاب» أو غيرهما، ثم لا يستحضرون معهم سياقاتهم وظروفهم يفترون عليهم الكذب. وإذا كنا نرفض الإرهاب، فإننا لا نرفض المقاومة، وإذا كنا نرفض الاعتداء والغدر ونكث العهود، فإننا لا نرضى بأن يكون الإسلام طرفاً مداناً منزوع السلاح، وإذا كنا نسعى للوفاق، ونجنح للسلام فإننا لا نرضى أن يكون ذلك من طرف واحد. ثم إن كل حدث يؤخذ بسياقه، فإذا وقع التفجير في «إسرائيل» أو في «العراق» أو في «أفغانستان» قلنا بأن المواقع ساحات حرب، تتسع لمشروعية المقاومة، فهم بين «طغاة» أو «غزاة»، وكل أهل بلد أدرى بمصالحهم، وأحق في تقدير ظروفهم، واختيار الطريقة التي يواجهون بها المحتل، فلسنا عليهم بوكلاء، ولكن من يصنع القنابل في «مكة» ويحولها إلى ترسانة أسلحة، مستغلاً غفلة المؤمنين، لا يكون مجاهداً ولا مقاوماً، ولا يحق لأحد أن يعالج الموضوع على أن الفاعل مسلم متطرف. التطرف الإسلامي غير الإرهاب الدموي، قد يكون التطرف حدة في الأقوال أو شدة في المواقف، أو غلطة في الأفعال بحيث يأخذ البعض بالخيار الأصعب في مواجهة الخصم. والصحابة رضوان الله عليهم اختلفت مواقفهم في مواجهة الأحداث، بين متشدد ومتسامح، نجد ذلك في قضية «الأسرى» في «بدر» وفي قضية «الردة» زمن أبي بكر، وفي الخلاف الذي بدر بين الصحابة، وذهب ضحيته «عثمان» و«علي» رضي الله عنهما، وفي الأحداث التي حصلت في حياة الرسول، فكان من الصحابة من يبادر في الاستئذان لقتل المخالف، فيما لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما يفعله السفاحون في البلاد الآمنة المطمئنة المسلمة لا يعد تطرفاً إسلامياً، فضلاً على أن يكون جهاداً، إنه العنف والإرهاب الذي لا يمت إلى الإسلام بصلة. قد يكون اللاعبون الكبار مارسوا غسيل الأدمغة، وقد فعلوها من قبل، ولما تزل ذيولها قائمة، ومن ثم أوحوا إلى المنتحرين بما يوهمهم بأن عملهم هذا جهاد، كيف لا؟، وقد كان الجهاد قضية «أمريكا» يوم أن حارب المسلمون بالإنابة عن العالم كله لإسقاط القطب المعادل. والمتصدون للإرهاب من المسلمين يجب ألا يسلموا لغيرهم بكل المفاهيم، بحيث يواجهون معهم الإسلام والمسلمين بوصفهم مصدر الإرهاب، وألا يتصوروا أن الصحوة الإسلامية والدعوة إلى الله والفرار إليه تؤدي في النهاية إلى التطرف. وكم نجد من يتحفظ على المناهج، والأسلمة، والإصلاح، والدعوة، وإظهار الدين، وتحكيم الشرع، والتضامن الإسلامي، ودعم الجمعيات الخيرية، ظنا منهم أن ذلك كله يغذي الإرهاب. وتداول الإسلام والتجمعات الإسلامية كطرف في اللعب الخطيرة جناية على الإسلام والمسلمين، وإن صدرت من بعض الكتاب المنتمين إلى الإسلام بالهوية. إن على قادة السياسة والفكر في العالم الإسلامي أن يمضوا في سبيل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعم الأقليات الإسلامية لممارسة شعائرها بحرية، وإنشاء الجمعيات الخيرية، والروابط الإسلامية، والسعي الدؤوب لأسلمة المناهج، وتحكيم الشريعة، وإقامة شعائر الدين في كافة الأقطار الإسلامية، وعدم الالتفات إلى الدعاوى الكاذبة والدسائس المغرضة من العلمانيين المتطرفين، والصليبيين الحاقدين، والصهاينة الماكرين، والعمل على قمع التطرف في شقيه: - العلماني والإسلامي، وتحامي الصدام مع أي طرف ما أمكن ذلك، والتأكيد على الوسطية، واحترام مشاعر العامة المتدينة، فالإسلام دين الرأفة والرحمة والعدل والإنصاف والحرية. ومن أراد أن يعالج ظاهرة الإرهاب، فعليه أن يعرف ثوابت الدين، لكيلا يعرض نفسه لخطيئة تمس مشاعر المسلمين، وعلى الكافة أن يستدعوا كل محتل ومغتصب بوصفه رأس الإرهاب، وأن يقللوا من الربط بين الإسلام والإرهاب، لكيلا يتعرضوا للردة في القول عن ثوابت الإسلام بغير علم. فالغرب الذي يضخ لنا مبادئه ومفاهيمه وعلمانيته وعولمته بقوة السلاح يهمه أن يصيد عصفورين بحجر: نزع الأمن والإيمان معاً من بلاد المسلمين وقلوبهم. ومسايرة الخطاب الغربي ينقض الإسلام عروة عروة، ويحول دون التمييز بين الثوابت والمتغيرات. فالإسلام دين حضاري، والجهاد ذروة سنام الدين، والإرهاب لا جنس له ولا دين، وهو مرفوض في كل الشرائع، والجهاد غير الإرهاب، و«آية» إرهاب العدو كقوة الردع. وأخشى ما أخشاه في ظل هذه الفتن، أن نعطي الدنية في ديننا، وأن يخفت صوت المحقين، ويعلو صوت المبطلين، لقد جنحنا إلى السلم، وبقي الآخر متمترساً خلف ترسانته. والتنازلات من طرف واحد مكمن الكارثة، فالمسلم في ظل الإسلام لا يكون عزيزاً إلا بإعداد القوة اختراعاً وإنتاجاً وعلماً واقتصاداً وصناعة، وهو في ظل الهيمنة الغربية تابع ممتهن، يرزقه العدو ويسلحه بثمن باهظ والعالم الغربي بامكانه تحقيق التعايش السلمي متى كف أذاه، وأعطى للحضارات الأخرى حقها في الوجود، وبقدر تعديه تتسع هوّة الخلاف، وتستشري المقاومة، وحين لا يقدر المضطهد على التعبير عن رأيه والحصول على حقه بالطرق السلمية أو بالحرب المعلنة يلتمس ذلك من أي طريق، ولو أن يتحالف مع الشيطان، فالسياسات الرعناء تهيئ الاحتقان والتوتر، كما أن التطرف العلماني يسهم في إيغار الصدور، وشد الأعصاب، ومصلحتنا لن تتحقق حين نغمض في الحلول، أو حين تملى علينا، أو حين لا نبتدر خطابنا، وما أحوجنا إلى وعي ظرفنا الخطير، وصياغة خطاب سديد لينقذنا من التضليل، فليس كل طلقة إرهاباً، وليس كل طلقة من عند العالم الإسلامي، وليست الحضارة الغربية العادلة هي المنقذة. والعمليات التي تنفذ في أنحاء العالم منها ما يحال إلى المقاومة المشروعة، ومنها ما يعد إرهاباً، لا تبرره ديانات ولا حضارات. وليس من الحصافة إطلاق الأحكام على عواهنها، ولا تعميم المواقف، ففي «فلسطين» وفي «العراق» وفي «أفغانستان» وفي كل بؤر التوتر تمارس المقاومة والإرهاب معاً، وتختلط اللعب الكونية بالعمل المشروع، ويحال ذلك كله إلى المقاومة المشروعة، أو إلى الإرهاب المحظور، وعلى القائلين والمتقولين ألا تستزلهم الفتن، وكم من عملية إجرامية هزت الضمير العالمي اختلفت الآراء حولها، بحيث لم يتفق على حظرها أو مشروعيتها أو مصدرها اثنان. وأمام الفتن العمياء يجب التثبت، فمن أطلق كلمة كمن أطلق رصاصة، وكم من كلمة أثارت فتنة، وكم من رصاصة أزهقت الأمن والاستقرار، وجرّت الويل والثبور، ومع ذلك فالفتنة أشد من القتل، وما الفتنة إلا في اختلاف الأمة في قراءة الأحداث، وذلك ما يكيد به الأعداء المتربصون، وإذا سلمنا بمحاربة الإرهاب، ونحن مسلمون لا شك، فهل يسلّم غيرنا بأن يمارس في «فلسطين» من الصهاينة ذروة الإرهاب؟ وإذا سلمنا بأن المتطرفين الإسلاميين إرهابيون، فهل يسلّم غيرنا بأن قتل الشعب الآمن في عقر داره إرهاب؟ إن علينا ألا نعطي الموافقة والتسليم من جانب واحد، ونقتل معنوياتنا، وندمر امكانياتنا، فيما يمارس غيرنا رفع معنوياته وبناء امكانياته، إن تهافتنا على تداول ما يطلقه الغرب وما يطلبه، وأخذه بقوة، مؤشر ضعف وتبعية، فهل ننصف ديننا وأمتنا وقادتنا وعلماءنا؟
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 07:01 PM | #222 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
التخليات لا تحقق التجليات والمعارضة غير المفارقة..! «1/2»
د.حسن بن فهد الهويمل الراصد لأحوال الأمة العربية في عصرها الراهن لا يعايش إلا افتعال المواقف وانفعال الردود، والخلط بين المفاهيم، والإسراف في الإقبال، والتولي الجامح في الإدبار. نجد ذلك عند حملة الأقلام، وحملة الأعلام، وسائر النخب الفكرية والسياسية، وطائفة من الموغلين في الدين بغير رفق. فالطرف المطاع يصل به المريدون إلى حد التصنيم والعصمة والإحساس بأنه لا يُسأل عما يفعل، فيما يكون الطرف المخالف أو المناوئ شيطاناً أكبر، لا يصدر منه إلا منكر القول والتآمر والعمالة، وليس له ها هنا إلا ما للخاطئين من مسكن ومطعم، وما من وسطية لا تخرج البشر من بشريته، ولا تُحمِّل النفس فوق طاقتها، بل هناك توتر وانفعال وشك وارتياب وشقاق ونفاق وتأليه للهوى. وتذبذب الرأي العام بين المصنمين والمشيطنين جعله رهين المحبسين، لا يفرق بين الموالاة والمعاهدات، ولا بين الاتقاءات والمداهنات، ولا بين المحارب والمعاهد، ولا بين المعارضة والمنازعة. وهذا الخلط أدى إلى استحالة القبول باختلاف التنوع، وألجأ المستهمين على بطن السفينة وظهرها إلى إحلال الصدام محل الحوار، والتلاوم بدل التعاذر، وسوء النوايا بدل حسنها، والقطع بدل الاحتمال، ولغة السلاح بدل لغة الكلام. وهكذا أصبح الإنسان العربي شؤيَّة التناقض، وهذه المرحلة المتوترة أتاحت للمرتكسين في الفتنة أكثر من فرصة، فكل مواجهة ضدهم يتربصون بها الارتداد السريع والتراجع الذي لايلوي على شيء، فكل مهتاج أعزل من الإمكانيات المعرفية والمادية مصيره إلى التولي دون أي مسبقات. وعندما يختار البعض الطريق الأصعب والأشد، يقع في عزلة شديدة الوطأة، تضطره إلى التسربل بالدروع، والتمترس خلف الأكمات، والفرار إلى الكهوف والمغارات، وما أن تأخذه وحشة المسيء لنفسه، ويجد الطريق أمامه مسدوداً يضطر إلى التخلي عما بدر منه من قول أو فعل أو إقرار، وحين يتخلى عن آرائه يتصور البعض أن كل من قال كلمة الحق على موعد مع الرجوع عنها. والأسوأ من هذا إضفاء التجليات على المندفعين بغير علم، وبدون أهلية، وبدون أي مسوغ لتصدر الفتيا، مما يعني ان هذه المواقف هي عين الحق على كل الصعد: العلمانية والدينية والفكرية والأدبية، حتى إذا سادت وأصبحت قضية قطعية لا مجال للبحث في مشروعيتها تبدلت الآراء غير الآراء والفتاوى، وعول المتخلون عن فتاواهم على مبدأ (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). أملاً في أن يكتسب المتخلي عن سالف أقواله (تجليات) جديدة، تعطيه فوق ما أعطته اندفاعاته، ويكون بهذا ملء السمع والبصر في الإقبال على الآراء المتطرفة، وملأهما في الإدبار. وكأني بهذه المكتسبات تغري المترددين باختصار الطريق إلى البطولة الزائفة. فمن جازف بالآراء، ثم ضُيِّق عليه، وأطر على الحق، لم يجد بداً من الانقلاب على نفسه، كان في نظر البعض بطلاً في الأولى ومتألقاً في الثانية، وهو في حقيقة الأمر متسرع في الأولى، ومنهزم لا يلوي على شيء في الثانية. وكان يجب والحالة تلك أن نفرق بين الرجوع إلى الحق وفشل المشروع والتخلي الاضطراري لتفادي الخسارة الشاملة، وإذا قبل غيري إضفاء البطولة على مثل هذه الممارسات، فإنني أجد أن من حقي التغريد خارج السرب، ف(ذلك فزدي). والحكماء المجربون يحذرون القول الذي يضطرهم إلى الاعتذار أو الانكسار، والعاقل الحصيف من يعرف المخارج قبل المداخل، ولقد رأينا طائفة من المجازفين وعايشناهم، وكان بإمكاننا أن نفعل فوق ما فعلوا، وخطؤنا التردد في الإنكار عليهم، وتفضيل الموقف الحيادي، حتى صرنا إلى ما صرنا إليه، ثم كان أن تخلوا عن كل ما قالوه، وحسناً فعلوا، وقبيحاً أن نسمي الأشياء بغير أسمائها. ولما لم يكن اندفاع الرأي العام وغوغائيته وقفاً على حدث بعينه محلياً أو عربياً، لزم استدعاء كثير من الظواهر والأشخاص الذين ملؤوا المشاهد السياسية والفكرية والدينية والأدبية، منذ بدء الثورات العربية، التي أذلت الإنسان العربي، ولعبت بعواطفه من علمانية متطرفة، إلى قومية متشنجة، إلى طائفية متسلطة، إلى غلو ديني مدمر، إلى استغراب ماسخ، أو تبعية مُذلَّة. فماذا كان الموقف من الحرب (الأفغانية) و(العراقية الإيرانية) إبان اشتعالها، وما الموقف من ذيولها وآثارها ونتائجها، بعد ان تعرت اللعب، ووضعت الدعاية أوزارها، وكم ألقي على كراسي القيادة العربية من أحزاب ومبادئ وأنظمة، ولكنها لم تنب، كما ناب سليمان عليه السلام. وعلى مستوى العلماء والدعاة والساسة نضرب المثل بالمواقف: (الذاتية) و(الغيرية). فهذا (سيد قطب) رحمه الله، اندفع الرأي العام المناوئ للاشتراكية والعلمانية إليه، واقبلوا على كتبه وآرائه يطبعونها ويوزعونها بالمجان، ظناً منهم أنها صالحة لكل زمان ومكان، وما علموا أن مشروعه الإسلامي صيغ ليكون في وجه الاشتراكية الشرقية والعلمانية الغربية. ولما أن تبين المراهنون على مشروعه أنهم قدروه فوق قدره، واستعملوه في غير محله، كانت ردة الفعل، إذ نبذوه، ونالوا منه، وحمَّلوه مسؤولية التطرف، على شاكلة الاسقاطيين الذين يبحثون عن المشاجب، ليتخففوا من تأنيب الضمائر، وما كان من حقهم من قبل أن يأخذوه بقوة، وما كان من حقهم فيما بعد ان ينبذوه بعنف، ويذموا صاحبه على الإطلاق. (سيد قطب) عالم ومفكر ومفسر ومجاهد، عرفته يوم أن كان صدى لفكر العقاد، ويوم أن تخطاه إلى الفكر الإسلامي، ويوم أن تجَلَّت حركيته واقتيد للمشنقة، فكان أن استفدت من معارفه وتجلياته، ولم أتبن عزماته. وحقه علينا الدعاء والترحم، وما تركه من كُتب تعد إضافة للفكر الإسلامي، وليس شرطاً أن تكون مشروعاً عملياً، نأخذ بها جملة وتفصيلا. مع أن مشروعه ومقاصده إذ ذاك تحيل إلى ماهو قائم في البلاد من إظهار للدين، وتحكيم للشريعة، ومن ثم فإن مشروعه السياسي دواء لوضع غير وضعنا، وحين ضربه المتسرعون، أحدث عندهم مغصاً ودواراً، فقطعوا بفساده، وما كان الفساد إلا في تصرفهم، ومن ذا الذي يجرؤ على النيل من (الظلال) وأشياء من (العدالة..) و(أمريكا من الداخل)، ولو فعل الناس مع كل من يختلفون معه فعلهم معه لما بقي على ظهرها من محسن، وها نحن نجد من ينال من مشروع (ابن تيمية) رحمه الله ومشروع (محمد بن عبدالوهاب) رحمه الله، وما كان الخطأ إلا في ابتسار النصوص أو تبني الأفكار مع تغير الأحوال، فمشروع (ابن تيمية) الجهادي في زمن (التتار) ومشروع (ابن عبدالوهاب) لحفظ جناب التوحيد، في زمن الجهل والخرافات والتمزق والقبليات والإقليميات، وفاتنا أن لكل زمان دولة ورجالاً. ولا أن يحرم من حقوقه بوصفه مواطناً، كل الذي نريده وضع الأمور في مواضعها، وإنقاذ الرأي العام من قلب الحقائق، فالمعارض يختلف عن المنشق، والراجع إلى الحق يختلف عن الفاشل المغلوب على أمره، إذا عرفنا ذلك، وأيقنا به، فليس لنا من بعده أن نطالب بصيغة معينة من التعامل، بل نطالب بالعفو والصفح ليعود المنشق الفاشل أو المتخلي إلى الصف كما خرج منه، ومتى تصورنا الأمور على غير ذلك، رمَّت جروحنا على فساد، وأتحنا الفرص لمغامرين آخرين. إن على مثل هؤلاء أن يعودوا متجردين من التمشيخ، ويقصدوا مقاعد الطلب بتواضع وندم، ليعرفوا حكم الله في المخالف، لقد خطؤوا أنفسهم فيما قالوا بمحض إرادتهم، وبدون أن يتنزل عليهم وحي من السماء، وما ارتكبوه من أخطاء أدت إلى مصائب فادحة، إن كان المفجرون قد أخذوا بآرائهم. لقد كانت لهم آراء في مقترفات ومقترفين، وفجأة برؤوهم دون تحفظ أو تحديد أو تخفيف ومن المخالفين من لا تبرأ الذمة بتزكية قوله، فالمخالف المقترف فعلاً أو قولاً يظن أنه على صواب، ومن ثم انطلق يهنئ مخالفه على التوبة، ولما يزل على خطيئته أو لممه. إن هذه الدوامة من الفعل ورد الفعل خلطت الأوراق، وفتحت أكثر من ثغرة، فلا المعتدل يعرف أنه معتدل، ولا المخطئ يعرف أنه مخطئ، وتلك كارثة تصيب الأمة في الصميم، إن من حقنا الحيلولة دون ان يتنفس الحاقدون، ليقولوا هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم أهله، يحرِّمون بلا دليل، ويحلِّلون بلا تفصيل، فحين نقبل المتخلي عن قول أو فعل، فإنما يجب قبوله للعفو عما سلف، لا أن يعود رمزاً يبحث عن تجليات جديدة، ليغرق في التطرف المضاد، ثم نكون مع قضايانا المصيرية العربية بين الافتعال والانفعال. لقد كانت لعلماء الأمة بحق وحقيق مواقف من علماء ومفكرين وأدباء لم يصلوا بها إلى حد التكفير، ولم يشرعنوا لأنفهسم المواجهة المسلحة أو استعداء السلطة عليهم، وإنما أعلنوا مخالفتهم، وحددوا وجوه الخلاف، وألزموا خصومهم كلمة الحق، ومازالوا على آرائهم يختلفون مع غيرهم، ولكنهم لا يكفرون، ويعترضون، ولكنهم لا يفجرون، ويصدعون بالحق، ولكنهم لايخلون بالأمن، لايصادرون حقاً، ولا يستعدون سلطة. وهؤلاء الذين غلوا في الدين بغير رفق، وكانت مواجهتهم عنيفة، ثم فجأة ألقوا السلام، وشرعنوا لمخالفيهم ما كانوا كفروهم عليه، خرجوا من النقيض إلى النقيض، وكلا طرفيهما ذميم. هذا الاضطراب مدعاة إلى الشك والارتياب وتضليل الرأي العام. وفقهاء السلطان المتزلفون المرتزقون كما يسميهم أولئك مازالوا عند رأيهم الذي تجاوزه الناكصون في الذهاب والإياب، حتى لكأني أراهم ألعوبة بين الإفراط والتفريط. لقد مللنا من تزييف المواقف وقلب الحقائق، وإذا كان علماء السلف يختلفون فيما بينهم ثم يلتقون حول ما طلب منهم الرد إليه، يرجعون إلى ما تطمئن إليه نفوسهم، ومن تعقب كتب الفقه المقارن: ك(المغني) وكتب الخلاف ك(الإنصاف) تجلت له عظمة العلماء، وعرف متى يكون الرجوع إلى الحق فضيلة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 07:02 PM | #223 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
التخليات لا تحقق التجليات والمعارضة غير المفارقة!! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل والذين يخرجون على الشرعية بقول أو بفعل، ثم لا يفرقون بين المعارضة ونقض الميثاق، يزجون بالأمة في أتون الفتن، ويفقدون الاعتصام الهادي إلى صراط مستقيم، فكل نظام سياسي لا يكون فاعلاً حتى يجد سبيله إلى التمثيل، والنظام السياسي الإسلامي يقوم بالبيعة، وهي لا تقوم إلا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ولا يسوغ نقضها إلا عندما يحدث الخليفة كفراً بواحاً عند العلماء فيه من الله بيان قطعي الدلالة والثبوت، والمعارضة غير النقض، لأنها اختلاف معتبر، فيما يكون النقض فسخاً للبيعة، وإذ لا تكون المعارضة محظورة يكون من واجب ولي الأمر الإصاخة لذوي الرأي، ومن حقه عند اختلاف التنوع العزم والحسم، وهو ما توحي به آية الشورى: {فّإذّا عّزّمًتّ فّتّوّكَّلً عّلّى اللهٌ} فالعزم هو البت في القضايا المختلف حولها عند الملأ المفتين وأهل الرأي والمشورة، ولو لم يكن لولي الأمر عزم يبت فيه مسائل الاختلاف لكان أن وقعت الأمة في المراء العقيم، وضاعت مصالح العامة، وتحول الناس من جد العمل إلى فضول السفسطة والمناكفات، والسفسطة: ظاهرة فلسفية إجرائية مؤداها الجدل من أجل الجدل، و«العزم» المنقذ في لحظات الارتباك لا يعني مخالفة كل الأطراف، ولا يعني الاستبداد بالرأي، ولا يعني حكم الفرد وإلغاء الرأي العام، كما لا يتسع لمفهوم أن الشورى ملزمة أو غير ملزمة، وتداول مثل هذه المفاهيم يعني التقليل من أهمية الشورى الإسلامية، والقدح في الفكر السياسي الإسلامي، وكل ما أفهمه أن «العزم» يعني الميل إلى ما تطمئن إليه النفس عند تضارب الآراء واختلاف وجهات النظر وعدم الوصول إلى رأي موحد، وحين يحصل الخروج على الشرعية باسم المعارضة المشروعة يرتبك الرأي العام، بحيث لا يفرق بين المعترض على الفعل والخارج على الفاعل، وفي ظل هذه الأطياف فإن على المتقَحِّمين لمشاهد السياسة أن يتقنوا المفاهيم، بحيث يفرقون بين المواقف، فالمعترض يجادل بالقول، والمفارق يواجه بالسلاح، والمعارض يراجع في المسائل، والمنشق ينازع على الشرعية، وبين الاثنين مثلما بين لغة الكلام ولغة السلاح. فالاختلاف والمراجعة والنقد والمساءلة والمناصحة وإبداء الرأي حق مشروع بضوابطه وعبر قنوات التوصيل المعتبرة والمأمونة العواقب، وقد قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها»، ثم إن الاستماع للرأي المعارض لا يعني القبول به على إطلاقه، وليس من تمام المعارضة أن تنصاع السلطة إليها، ولا أن يُجمع الناس على أنها الأجدى والأهدى. المعارضة حق، وسماعها واجب، والقبول بها مرتبط بمصلحة الأمة وبقدرة قادرها على التنفيذ، فقد يكون رأي المعارض فاضلاً، وما عليه ولي الأمر مفضولاً، ولكن الظروف والإمكانيات تحول دون التحول من المفضول إلى الفاضل، المهم أن يسمع ولي الأمر، وأن يوفر قنوات مأمونة للتواصل، تمكنه من استجلاء الآراء والأخذ بأحسنها، وأن يجد المعارض حرية القول المنضبط، ولس من مقتضيات المعارضة عدم الولاء والمحبة، ولهذا جاء في الحديث: «أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً» ولما أشكلت إعانة الظالم على الصحابة، وضحها المشرع بأن الإعانة تعني رده عن الظلم، وإذ يكون من مقتضيات الولاء السمع والطاعة لا يكون من مقتضياتها القبول المطلق، وإنما هي المشروطة، والقول عن الخطأ غير المقصود أو التصرف غير السديد من النصح والولاء والاخلاص والمحبة، وليس من مقتضيات المعارضة التحزب ولا التكتل، ولا تعمد تفتيت الأمة، ولا تشكيل الزعامات المعارضة، وليس من مقتضياتها التباهي بها والادلال، وليس من مقتضياتها تشكيل جماعات الضغط، وتهييج الرأي العام، واستغلال العقل الجمعي، وليس من مقتضياتها أن يكون المعارض أزكى من الموافق أو الصامت، فالخطاب الثوري يفترض العداوة مع السلطة وتخوين الموالين لها دونما تفصيل، ومن الخير أن يقول المعارض كلمته ويمضي، وعلى ولي الأمر أن يلقي السمع وهو شهيد. والذين يكيدون لولي الأمر يكيدون للبلاد، والذين يصدقونه ولا يصدقون معه يكيدون له، والمقتدرون الصامتون عن الحق إيثاراً للسلامة وصفوا بأنهم شياطين خرس، وكم هو الفرق بين صامت يتأمل ويستبين وصامت لا يبالي بأي واد هلكت الأمة، والذين يطوقهم ولي الأمر شطراً من مسؤوليته ثم لا ينصحون لله ولرسوله وللمؤمنين، يخونون أماناتهم، وعلى كل الأحوال فنحن أحوج ما نكون إلى فهم الأشياء على أصولها، وإذ نكون مع «المعارضة» بضوابطها فإننا ضد الانشقاق، فالمفارقة والمقاومة تؤديان إلى الفتنة، وقد تمتدان إلى الفراغ الدستوري، والمسايرة الخاطئة أو تبرير الأخطاء تؤديان إلى الفساد الكبير، وخيانة الأمانة تعوق مسيرة البناء، وما نسمعه ونشاهده عبر المواقع والقنوات من نيل مباشر وافتراء كاذب ومبالغات زائفة دليل على أن المسألة ليست معارضة مشروعة، وإنما هي نقض للميثاق، وتنازع على السلطة، وخلط للأوراق، تفوت الفرص على الناصحين، واختلاف وجهات النظر لما تزل قائمة عند العقلاء والمجربين، والصحابة رضوان الله عليهم راجعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما هو من أمور الدنيا وقال لهم: أنتم أدرى بأمور دنياكم، فعلوا ذلك، وهم يعلمون أن من ثوابت العقيدة أن يكون الرسول أحب إلى المؤمن من نفسه وماله وولده، ومتى تعرضت الأمة لعدم التفريق بين المعارضة والنقض، واختلطت عندها المفاهيم، تحركت الأيدي الآثمة المتربصة لتخلق التناقضات والتناحرات، ثم تمد هؤلاء وأولئك بالسلاح، تبديه تارة، وتخفيه أخرى، حتى إذا شارفت أي فئة على حسم الموقف، اتجه التأييد إلى خصومها، وهكذا تعيش الأمة المصابة بهذه الأدواء بين جزر ومد، لتفقد في النهاية أمنها واستقرارها وثروتها بل تفقد وجودها الكريم، وحتى لا يعرف المقتول لماذا قُتل، ولا يعرف القاتل لماذا قَتل، وإذا كانت السلطة غنيمة تتنازع عليها القبليات والطائفيات، وتحسم أمرها الثكنات العسكرية تصبح العامة كقطيع الماشية، أما إذا كانت المصلحة العليا هي الهدف فأي مواطن تلقى الراية فهو أحق بها، وواجب الخاصة المقتدرة أن تحمي الساقة وترود للمقدمة، وتحويل السلطة إلى هدف أسمى يعرض البلاد إلى الويلات، و ما الثورات المتلاحقة إلا ناتج صراع على السلطة، وكل الذين ينتزعونها بقوة السلاح، لا يحافظون عليها إلا بقوة السلاح، ومن أراد أن يعرف خطورة الفراغ الدستوري فلينظر إلى من حوله من دول كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ثم عصفت بها الفتن، ودخل أهلها في حروب أهلية أو طائفية أو حزبية أو حدودية، أذهبت الحرث والنسل، إنها بلاد ذاقت حلاوة الأمن، وتمتعت بالاستقرار، ونعمت بالرخاء، ثم اختارت التنازع على التعاون، والتفرق على الاعتصام، ومنازعة الشرعية على مناصحتها، ونقض الميثاق على الوفاء بالعهود، فأصبحت ناراً تلظى، وفقد أهلها كل مقومات الحياة الكريمة، والنكسات المؤلمة ربيبة من لا يفرق بين التآمر والتقصير الذاتي، ولا بين الوصولي والأصولي، ولا بين المقاومة والإرهاب، ولا بين المعارضة المشروعة والانشقاق المحظور، وعجبي من أناس يعيشون حالة من العقد النفسية، بحيث يجعلون كل خطيئة ناتج تآمر، وأعجب من ذلك مثقفو سماع جوف ينفون التآمر جملة وتفصيلاً متخذين الحضارة الغربية قدوة وعضداً، ومصائب الأمة من كتبة منشئين على عين الأعداء، يقولون ما قالوا، ويزعمون استيعاب الحضارات، ومن ناشئة لا تعرف الفتن، لقد فتح شبابنا عيونهم على الأمن والرخاء والاستقرار، وظنوا أنه باق فيهم، وأنهم أهله وخاصته وأحق به، ولقد أشار «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه إلى أن نكبة الإسلام والمسلمين ممن لا يعرفون الجاهلية، إن على قادة الفكر والإصلاح والدعوة أن يبصّروا الشباب بخطورة الوضع واختلال الزمن النفسي والفكري، فما عدنا نتحمل مزيداً من الترديات، ودعاة السوء يتخطفونهم من كل جانب، ويدفعون بهم إلى مهاوي الهلكة، والكتبة المبتدئون والمتهافتون على القنوات والمواقع دون وعي، يتعمدون الإثارة بمقاربة المناطق الحساسة، وقد يتبنون أفكاراً منحرفة، لا يعرفون حكم الله فيها، ولا يعرفون مجالات الاختلاف المعتبر، وما لا مجال فيه للاجتهاد، ولم يحرروا أركان الإيمان ولا نواقضه، من ثم يتسلقون إلى محاريب الضوء، ليكونوا على كل لسان، ويحسبون ذلك من المغانم، وما هو إلا عين المغارم، وليست مصائب الأمة في «عالم» متمكن يختلف مع بعض السوائد والمسلمات في خطبه أو مواعظه أو فتاواه، وإنما هي في «متعالم» فج الآراء متسرع في الأحكام، يختط لنفسه مشروعاً سياسياً قائماً على العنف وتصفية الطرف الآخر، ويتفانى في إسقاط السلطة، وهو لا يملك مشروعاً ولا كوادر ولا قاعدة عريضة، وكل حساباته تقوم على الحلم الطوباوي الذي يحسب أنه يتحقق بإسقاط النظام، ثم لا تكون له حسابات فيما بعد، ولقد قدمت أمريكا أوضح الأمثلة، حين أسقطت النظام في العراق، ولم يكن في حسابها أن إعداد البديل أخطر من إسقاط القائم، فكان أن انغمست وانغمس معها شعب بريء في حمأة الفتن، وحتى الذين يطالبون بخروج المحتل في ظل هذه الظروف يدفعون بالشعب العراقي إلى حمامات الدم، الاحتلال خطأ فادح، وإسقاط النظام دون بديل خطأ فادح، وخروج المحتل واللحم على الوضم نكبة موجعة، والشعوب دائماً تكون ضحية «المتعالمين» و«الطوباويين و«المجازفين»، إننا نخلط بين العالم والمتعالم والمعارض والناقض ومن يريد إسقاط الشرعية ومن يريد إصلاحها، ومثلما تتضرر الأمة في اختلاط المفاهيم بين المعارضة والانشقاق، تتضرر كذلك في الخلط بين «عالم» يملك مشروعية الاجتهاد، ويتوفر على أهلية الطرح، ويقول رأيه في القضايا، وهو على علم بالظروف والأحوال والممكن والمستحيل وفقه الواقع ومتطلبات المرحلة، و«مبتدئ» مهتاج أعزل لا يقدِّر ولا يدبر، يتبنى شق عصا الطاعة، ويجمع من حوله المريدين، ويناصب الآخر العداوة والبغضاء، يتبنى الحدية والواحدية، ويشكك في الأهلية والأحقية والأمانة، ويحرض على المقاومة والتمرد، ولن تستقيم أحوال الأمة حتى توضع الأمور في مواضعها، فلا يقال للمخفق إنه متراجع، ولا للمتراجع إلى الحق إنه انتهازي.. وعلى الرأي العام ألا يندفع وراء سراب القيعان، ولكيلا أُقرأ على غير ما أريد، أقول: إنني أرحب بعودة الهاربين بأبدانهم أو المخالفين بأفكارهم، وأحمد الله على لمّ الشمل وتوحيد الكلمة، وليس بعد هذا من مزيد، وأتمنى من كل قلبي أن يعود الهاربون بأبدانهم وأفكارهم خارج البلاد والمنشقون المختفون في الكهوف والمغارات إلى أهلهم وذويهم، وأن يمارسوا حقهم في المراجعة والمناصحة تحت ضوء الشمس، فما عادت الأمور تتطلب مزيداً من المشاكل، والبلاد وأهلها وقادتها بأمس الحاجة إلى الكفاءات الوطنية التي أخطأت الطريق أن تعود إلى سربها، إن البلاد تنعم بالأمن، وما عليه قادتها ومسؤولوها وعلماؤها ومفكروها من تقصير يمكن علاجه بالتي هي أحسن، وكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، وما عصم إلا الأنبياء، ومن ثاب إلى رشده من قبل أن تقدر عليه السلطة استحق اللطف في المساءلة والرأفة في العقاب، فليبادر أبناؤنا وفلذات أكباد البلاد إلى حضنه الدافئ وعطائه الثر، وعلى رجال الفكر أن يتلقوا راية النصح والتوعية والتهدئة بروح متفائلة وموعظة حسنة ودفع بالتي هي أحسن فالزمن غير مواتٍ، والعبوات الناسفة تملأ الرحب، والعالم العربي والإسلامي يعيش حالة من الضعف والتفكك والهوان، وليس بمقدور أحد من حملة همه أن يضع التصور النهائي للمستقبل، ولكن عليه أن يعي نفسه وواقعه، وأن يمد رجله على قدر لحافه، والزمن زمن الهدوء والسكينة والارتداد إلى الداخل والتعاذر والتعاون على البر والتقوى.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
30-11-2006, 07:05 PM | #224 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لكل حدث قراءته والموقف منه..!
د. حسن بن فهد الهويمل الحوادث الأليمة المتلاحقة في الساحات العربية والإسلامية والعالمية طوت صفحات، ونشرت أخرى، جاعلة التاريخ السياسي الحديث ذا مرحلتين: مرحلة ما قبل تهديم «البرجين» وضرب «البنتاجون»، ومرحلة ما بعدهما. على غرار التاريخ السياسي العربي قبل «النكسة» وبعدها، وقبل احتلال «الكويت» وبعده، وقبل «سقوط بغداد» وبعده. إذ كل يوم تطلع فيه الشمس يكون للأمة العربية بداية تاريخ أليم. وبعد كل لعبة موجعة تنقلب الخطابات، وتختل الموازين، ويصاب أصحاب المواقف المبدئية بإحباطات مؤلمة. فعندما رفعت أقلام المؤرخين، وجفت صحف التاريخ الحديث بجزئه الأول، طويت معه «أجندة» السياسة المهيمنة، ونزلت إلى المشهد «أجندة» جديدة. والبسطاء من الناس من لا يمتلكون إلا آلية واحدة للقراءة، ولا ينظرون إلا إلى زاوية واحدة من زوايا الحدث، تحكمهم الثبوتية والنمطية، وتتحكم فيهم واحدية الرؤية. وقراء الأحداث المعمَّاة كقراء الكف، يفترضون مصائر قد لا تكون، وهم مع هذه الأدواء القرائية لا يتخلصون من امكاناتهم المعرفية وأنساقهم الثقافية وسياقاتهم الآنية: فالسلفي والعقلاني والقومي والعلماني و«الراديكالي» والذرائعي، والمادي والطائفي، ومن رجله في الماء البارد، ومن رجله في النار الملتهبة، لكل واحد منهم آليته ومستخلصات قراءته ورؤيته المستقبلية. وقل أن تجد قارئاً بريئاً لا تحكمه أنساقه، وقلَّ أن تجد توافقاً في القراءة، وقلَّ أن تجد قارئاً متنوع القراءات، ينتاب الحدث من عدة زوايا، ويكتنفه بكل هذه الأنساق، وبكل مستويات القراءة وآلياتها، ويخرج بنتائج معقولة وموضوعية. ولما كانت الأزمنة والأحداث والأناسي ليسوا سواء وجب أن يكون لكل مرحلة «خطابها» و«مستواها القرائي»، ولكل قارئ رؤيته وتصوره. إذ كل نخبوي أسائله عن حدث بعينه تكون له رؤية مخالفة أو مناقضة لمن سبقه أو زامنه أو لحق به، حتى لقد كدت أذهل مما أسمع. و«أمريكا» بوصفها الأكثر حضوراً وتقحماً على خلوات القراء، تشكل المقروء الأصعب، كما أنها القارئة الأخطر، لأنها الأقوى، والأشد اندفاعاً، والأكثر تدخلاً في خصوصيات الآخرين، وبخاصة بعدما تجرعت مرارات الذل في لحظات التعملق والفرادة. ومن حق كل ممسوس بالضر من هذه القسوة المتغطرسة، أو خائف منها أن يختط لنفسه منهجاً قرائياً ونهجاً تعاملياً مواكباً لهذه الحالة الاستثنائية المتوترة. وعلينا نحن نواجه تحديات متعددة أن نقرأها قراءة واعية. ف«أمريكا» المدنية، وأمريكا العلم، وأمريكا الاقتصاد، وأمريكا الشعب، غير أمريكا «البيت الأبيض» و«البنتاجون» و«المخابرات» و«الإعلام» و«جماعات الضغط الصهيوني». وقراءة الثالوث: السياسي والإعلامي والمخابراتي تختلف عن قراءة الوجه الآخر، وجه المدنية والحضارة والعلم و«التكنولوجيا» التي نلتقي مع الكثير منها، ونختلف مع الأكثر، ولكنه اختلاف يمكن تلافي سلبياته. وقراءة «أمريكا» المحمومة المتوترة غير قراءتها في وضعها السوي. وحين نرتب موقفنا منها على ضوء قراءة مبتورة أو لحظية نخسر الرهان السليم، وقد نتجرع مرارة ضربة استباقية، أو محاصرة إرهاقية، أو نضطر إلى تراجع مذل واستسلام مهين، مثلما فعلت بعض الزعامات المتعثرة على خواء وجبن. أمريكا دولة قوية في كل شيء، ضالعة في كل شيء، ولديها أكثر من ورقة تلعب بها ضد من يعكر صفوها أو يتعرض لمصالحها، والناس: اللاعنون لها والمربتون على أكتافها يودون احتواءها وتصفية الخلافات معها. وكم من لاعن لها على رؤوس الأشهاد يسبح بحمدها ويقدس لها من وراء الكواليس. ومع كل ما هي عليه، وما بدر منها فإن من مصلحة الشعوب النامية أن تقترب منها، وأن تتحامى منازعتها، لأنها دولة لا تنظر إلا من خلال كوة المصالح، وسياستها «ميكافيلية»، كما أنه ليس من مصلحة الصغار أن يضعوا أيديهم في يدها لمواجهة خصومها، فهي حين تكون معك، تغطي كل عيوبك، وحين تقضي منك وطرها تحمِّلك عيوب غيرك، والأجدى ألا نناصبها العداء، وألا نعادي من أجلها، وتلك معادلة صعبة، ولكنها ممكنة. وإذا كانت أمريكا في راهنها المضطرب لا تملك خطة واضحة ولا طريقاً قاصداً في مواجهة الأحداث، ولما تزل في ارتباك منذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي، ومنذ أن ضُربت في الصميم، فكيف يتأتى لمن سواها الاتزان، وأنى للدول المسكونة بالقلاقل ترتيب طرائق المواجهة أو الموافقة. لقد كان أمامها بعد الضربات المذلة مسؤوليات: الأول: رد الاعتبار، وإثبات أنها لم تتأثر بعد غزوها في عقر دارها، وأنها قادرة على الوصول إلى خصومها في مخابئهم، وقد فعلت ذلك، فغزت «أفغانستان» و«العراق» ولوحت ل«سوريا» و«إيران» وطوعت «ليبيا» و«السودان» ولكنها لم تحسم الموقف لصالحها. الثاني: إعادة التركيبة العالمية: - ثقافيا. - واقتصاديا. - وسكانيا. - وأيديولوجيا. وقد باشرت ذلك الفعل الخطير، وبدأت تتدخل في المناهج والثقافات وأنظمة الحكم، ممتطية صهوة «العولمة»، وهي إذ نقضت غزل بعض الأنظمة وجعلته أنكاثاً لم تحقق ما وعدت به من أمن وحرية و«ديموقراطية» لتحفظ أصدقائها وتمنع أعدائها. الثالث: إعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق: - بالأصدقاء. - وبالمصالح. - وبالقواعد العسكرية. وقد فعلت الكثير في هذا السبيل مختصرة ذلك كله بمقولة: «إن لم تكن معي فأنت ضدي» بحيث قست في لومها، وجارت في مطالبها، وتعسفت في إجراءاتها. الرابع: إحكام قبضتها على العالم، وتحقيق مفهوم القطب الواحد. وها هي توالي حملاتها على دول المنطقة الملتهبة فارضة أقسى الحلول. وأمام هذه الأولويات المؤذية لا بد من تحرف رشيد لصيغة الخطاب وآلية القراءة ليحدا من الفوضى، ويقربا بين وجهات النظر، مع التحسب لقراءتها الخاطئة، وكل مقدمة خاطئة تؤدي إلى نتيجة خاطئة. ومما يضاعف تعقيد الإشكالية أن حساباتها لمواجهة مسؤولياتها لم تحقق نسبة النجاح المطلوب، وإذا حققتها فبأثمان باهظة، تطال الأنفس والأموال والعتاد والعدد: أمريكياً وعربياً وعالمياً. والإخفاقات تطال الممارسات والتحركات «المكوكية». فزيارة «بوش» لحليفه وشريكه في الاحتلال تجلت فيها متغيرات في الشارع الأوروبي عامة وفي اضطرابات الخطاب البريطاني على وجه الخصوص، وفي النتائج. ولعلنا نذكر الاستفتاء الأوروبي الذي قلب الطاولة على الصهيونية، وزيارة «شارون» ل«إيطاليا» التي أعادته دون المؤمل. والارتباك الواضح يتجلى للمتابعين لخطابات «بوش» و«بلير» وكل ذلك يحال إلى خطأ القراءة. لقد كانت مهمتهما الأولى مواجهة الإرهاب واجتثاثه، وقبل الناس ذلك، وبدأت أمريكا المواجهة في «أفغانستان»، ولما تزل الأوضاع سجالاً، فلا «قرضاي» انتصر، ولا «الملا عمر» قتل أو أسر أو انتحر. و«أمريكا» وحدها التي تدفع الثمن الباهظ من رجالها وعتادها وسمعتها. ودافع الضرائب الأمريكي يصيخ إلى النتائج، ويتحكم بكل شيء، بحيث يحسب له الحزب الحاكم كل الحساب، فهو الذي يدخل زعيمه البيت الأبيض عزيزاً أو يخرجه منه ذليلاً، وذلك هو المأزق لكل رئيس، وبخاصة حين لا يكون هناك بوادر انفراج يلمع بها الرئيس وجهه، ولو في فترة الانتخابات الحرجة. ولم يكن المواطن الأمريكي وحده الراصد والمتابع، بل وقف الناس كلهم أجمعون: الموالون والمناوئون والحياديون، ينظرون جميعاً إلى الفعل وإلى النتائج. فكان أن جاء الفعل مرتجلاً والنتائج عكسية، فما وسع الموالين إلا التبرير، وما وجد المناوئون إلا الشماتة، أما الحياديون فانشقوا على أنفسهم، وتقاسمتهم فئتا: المعية والمناوءة. وكل الفئات لم تتمكن من الوقوف على حقائق دامغة، فالمسألة رهانات على طائر في السماء أو على سمك في الماء، ولو قرنت الأحداث والمحدثين وفق متطلبات المرحلة، لكان أن خفت وطأة الفتن، وأمكن تلافي الشتات والشقاق. ويظل الراصد والمتابع والمستشرف في حيرة من أمرهم، فالرهانات المتداولة في الشارع العربي ليست متقاربة. فرهان حول تفكك أمريكا على شاكلة الاتحاد السوفييتي، ورهان على سقوط الحكومات العربية والإسلامية وقيام أنظمة «ديمقراطية»، ورهان على الاستسلام غير المشروط لمن بقي من الدول الهشة والتوقيع على بياض، ورهانات أخرى ليست من المعقولية على شيء، وفي النهاية تجري الرياح أو تسكن رغم أنف الربَّان. وأمريكا التي تورطت في أكثر من عملية، وخرجت منها بخسارة فادحة وخطيئة غير مغتفرة تعيد «السيناريوهات» نفسها في مواقع جديدة مكرهة لا بطلة. ولم يضطرب الخطاب الأمريكي بوصفه ناتج قراءة خاطئة اضطرابه في الشأن «العراقي»، لقد جيء بسلاح الدمار الشامل كمبرر للحرب، وضرب العراق الضربة الموجعة له، وللعالم العربي من حوله، وللمؤسسات العالمية، وللشرعية الدولية. وجاءت الغلطة القاصمة لظهر أمريكا بإعلان الاحتلال، وبحل وزارة الدفاع والداخلية، ونهوض الجيش المحتل بحماية الأنفس والمدن والثغور، وفات «أمريكا» أن مجرد الفراغ الدستوري كاف لشغلها. ذلك أنه يؤدي إلى فتن عمياء، نشاهد أطرافاً منها، والمستقبل ينطوي على ما هو أسوأ. وتتكشف أوهام القراءة وتخبط الخطابات، وتتعرى اللعب عند عدم العثور على سلاح الدمار الشامل، وتظهر خطيئة الكذب على الشعب، وممارسة الكذب من أخطر المقترفات في الدول «الديمقراطية»، ومع ذلك انتظر الناس كثيراً، ولما تهتد أمريكا ولا بريطانيا إلى شيء من مسوغات الحرب، حتى بعض القبض على «صدام». وبدأت نغمة محاكمة القادة لكذبهم على شعوبهم، فكان أن تحول الخطاب إلى جعل مهمة الغزو الأمريكي إحلال «الديمقراطية» وتحرير الشعوب المضطهدة. نقول هذا لنؤكد أن خطأ القراءة ليس وقفاً على طائفة دون أخرى، فقراءة أمريكا للأوضاع العربية قادتها إلى أنفاق مظلمة ومستنقعات موحلة. إن قراءة الرجل العادي ورجل الدولة لمجمل الأحداث والوقوعات يجعلهما يعيشان في حالة من الذهول والارتباك، وقراءة الراهن مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهل نغامر بالقراءة أم نطوي الصحف إلى حين، وندع الأحداث تنبئ عن نفسها؟ إنها معضلة، فالإقدام والإحجام لكل منهما آثاره ومحاذيره. ولما تزل تحولات الخطاب الأمريكي واضطرابات القراءة قائمة، وفي كل تحول تفقد أمريكا أشياء كثيرة، تفقد الأصدقاء، والمصداقية، والموالين، والمعجبين، والمحبين، ويتنفس أعداؤها المنبوذون والمطاردون والمحاصرون والمتربصون، فيستفحل الإرهاب، وتنشط المقاومة، وتتعرض مصالحها للتفجير مما يحرج أصدقاءها، ولما تزل في غباء أو تغابي، بحيث لا تريد القراءة البريئة ولا الخطاب الثبوتي، فهي إذ تسهم في صنع الإرهاب أو في تكوين حواضنه من خلال ممارساتها، تصر على إحالته إلى منهج أو دين أو أمة، ويظل معها الخليون يقولون ما تقول، وتظل في الساحات الملتهبة كما نرى، تمنى بنكسات موجعة، وتظل في الساحات العالمية كما نشاهد، تواجه تحديات ومظاهرات وتساؤلات، وقد لا تريد قراءة الأحداث كما هي، بل كما تريد، وهي إذ تظل مع إحالة الإرهاب لدول وحضارات ومناهج وحركات يظل المتسرعون معها في المنشط والمكره ينوبون عنها في ترويج الافتراء. وأمام هذا الاضطراب، وهذا الاهتياج العملي والقولي يجب على النخب الإعلامية والعلمية والثقافية وقادة الفكر أن تدق نظرتهم في قراءة الأحداث، وأن يعوا مسؤوليتهم، وأن يتخذوا أحكم الطرق وأسلمها لتجاوز هذه المرحلة المضطربة. فالذين يتخذون في قراءتهم موقفاً «استراتيجياً» ولا يضعون في اعتبارهم «التكتيك» المرحلي، قد ينالهم ما لا تحمد عقباه. فالمرحلة تستدعي التصرف الحكيم، وفي القرآن {إلاَّ أّن تّتَّقٍوا مٌنًهٍمً تٍقّاةْ} مع مراعاة الاستدراك {وّيٍحّذٌَرٍكٍمٍ اللّهٍ نّفًسّهٍ}، بمعنى يجب أن تنتبهوا، ولا تجعلوا التقية المؤقتة ارتماء في الأحضان وامتثالاً للأوامر وموالاة مطلقة. فقد يقول الإنسان كلمة الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد يقولها وهو شاك مضطرب، وقد يقولها وهو مؤمن بها. فاللفظة هي اللفظة، ولكن النِّية تحيل إلى الاضطرار المعذور أو إلى الإلحاد المحبط. والذين يقولون ما تقوله أمريكا في شأن الإرهاب والتصحيح والتعديل يواطئون على الخطايا. وعلى قادة العالم العربي والإسلامي أن يقدروا هذه المرحلة، وألا ينجرفوا في تيارها، لأنها مرحلة عارضة، وليس من مصلحة أي دولة أن ترتب أوراقها النهائية على معطياتها. فالصبر والمصابرة والمرابطة هي سلاح الناصح الأمين، ذلك أن أخطر ما تواجهه الأمة إطلاقات الغرب وتصديق المتسرعين لها، وإدارة خطاباتهم على ضوئها. إن التعامل مع أمريكا يحتاج إلى أكثر من مستوى قرائي، وإلى خطاب حضاري قادر على الجمع بين المداراة والاتقاء وتجاوز المنعطف الخطير بأقل الخسائر، والصهيونية التي زجت ب«أمريكا»، عرفت الطريق إلى استدراجها، وهو ما يفقده العالم الإسلامي والعربي: المال والإعلام والقراءة الواعية لكل حدث وموقف، وتجاوز المؤسسات إلى الشعب الأمريكي، هي مفاتيح الأمة الأمريكية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
الإشارات المرجعية |
|
|