بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:26 AM   #239
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الحازمي بين النقد السردي والرصد النقدي «1/2»
د. حسن بن فهد الهويمل


ليس من باب المجاملة ولا المبالغة ان نقول: بأن الاستاذ الدكتور منصور بن ابراهيم الحازمي «وُلد 1935م في مكة المكرمة» رائد النقد القصصي والروائي في المملكة بمفهومه العلمي المعياري المنهجي، وبهذه الريادة نال جائزة الملك فيصل العالمية للآداب، وإن سبقه نقاد انطباعيون وذوقيون وحكميون، لا يغمط لهم حق، ولا يجهل لهم أثر، وريادته تأسيسية تأصيلية منهجية ولّما يكن رائداً في الزمان، وهو إذ يملك هذا تَخَصُّصياً وتطبيقياً، فإنه لم يفرغ له كما ينبغي بل أذعن لسلطانين:
سلطان الشعر: وله فيه دراسات تطبيقية وتنظيرية.
وسلطان المقال الصحفي: وله عدد من المقالات التي جمعها فيما بعد في كتب مطبوعة.
مع ما شغله من عمل اكاديمي وعمل في العديد من اللجان، وحضور عدد من المؤتمرات، وإسهامات أخرى على شكل استشارات، كل ذلك أبعده كثيراً عن مجال تخصصه، ولما يمكنه من التأصيل لحركة نقدية علمية مثلما فعل غيره من الدارسين المتخصصين في النقد الروائي في الوطن العربي من أمثال: «الهواري» و«النساح» و«الياقطين» و«طه وادي» و«عبدالمحسن بدر» وغيرهم.
وقد جاء في سياق تفويت الفرص احجامه عن ترجمة رسالته العلمية للدكتوراه التي أعدها باللغة الإنجليزية عام 1966م في جامعة لندن «الرواية التاريخية الحديثة في العالم العربي» وهي العمل الأجود، والألصق بالنقد السردي، الذي لم يكن حاضر المشهد الأدبي في مواقع كثيرة من العالم العربي، ولأن رسالته تلك تجيء في شح الدراسات الاكاديمية للإبداعات السردية، فقد أثنى عليها الدكتور محمد يوسف نجم وتمنى لو ترجمت واستفاد منها الدارسون، ولو أنه فعل ما نصحه به «نجم» لكان قد وثق سبقه في دراسة الروايات التاريخية، قبل ان يحفل المشهد النقدي بأعمال نقدية للرواية التاريخية من مثل: «الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث» للدكتور أحمد الهواري وآخرين، و«الرواية التاريخية» لجورج لوكاش وكتب ودراسات أخرى لا أستحضرها. وفي كتابه عن محمد فريد ابو حديد اشارت للأعمال الروائية ذات الموضوع التاريخي، وبخاصة اعمال جرجي زيدان، ولأن رسالته لم تترجم بعد فيما أعلم، فقد جاء كتابه «محمد فريد ابو حديد، دراسة في أدبه الروائي» العمل الاكاديمي الوحيد، وما سوى ذلك دراسات ومحاضرات ومقالات أنجزها في فترات متباعدة وبمستويات من الجد والأناة والتخفف والتعجل، ثم جمعها وأصدرها في كتب متنوعة مثل «في البحث عن الواقع» و«مواقف نقدية» و«سالف الزمان»، ولما تكن هذه الكتب ذات موضوع واحد ولا منهج واحد، باستثناء كتابه «فن القصة في الأدب السعودي الحديث» الذي طبعه قبل عشرين عاماً، ثم أعاد طباعته قبل عامين او ثلاثة وجعله في ثلاثة فصول، جاء الفصل الأول مدخلاً عاماً، وخص الفصل الثاني بالنقد الروائي التطبيقي، والفصل الثالث بالنقد القصصي، وقدم في الملحق نماذج من القصص القصيرة لمجموعة من المبدعين القصصيين السعوديين معتبراً «احمد رضا حوحو» قاصاً سعودياً، وما هو بسعودي، وقد فعل من قبله او من بعده الدكتور «محمد الشامخ» و«حوحو» في اقامته وعمله ومشاطرته للأدب والأدباء السعوديين من قبل، مثله مثل «محمد صالح الشنطي» في الوقت الحاضر.
وعمل آخر أحسبه مشروعاً تبنته جامعة الملك سعود، ولكنه لم يستمر، وهو «معجم المصادر الصحفية» وقد أنجز فيه جزءاً من صحيفة «أم القرى» يمتد قرابة عشرين عاماً، من استعادة مكة المكرمة على يد الملك عبدالعزيز عام 1343ه الى عام 1365ه ولما يشتمل على ما قبل التاريخ، ولم يمتد الى ما بعده، وهو بهذا التوقف لم يعد مجدياً للباحثين الذين يودون التقصي، ولست اعرف ما اذا كان غيره قد انيط به امر معجمه المدد الباقية. وما ادري هل انجزت ولما تطبع، او ان المشروع قد توقف، وهذا المشروع مفيد لو تلقفته مؤسسات قوية، وقد انجزت فهارس بالنسبة للشخصيات الفكرية والأدبية في مصر والشام والعراق.
والحازمي الذي تخصص في الدراسة المنهجية للسرد الروائي والقصصي كانت له إلمامات نقدية بكل فنون القول، وهو في دراساته الاكاديمية يخلط بين المناهج والآليات دون الأخذ بالتكاملية في مناهج النقد، كما انه الأكثر احتفاء بالمنهج التاريخي او المدرسي او التكويني كما يسميه المحدثون، ولما لم يقم بترجمة رسالته للدكتوراه التي افاض بالثناء عليها الدكتور محمد يوسف نجم فإننا لا نستطيع القطع باستكناه منهجه وآلياته.
وكتابه الذي درس فيه الأدب الروائي عند «محمد فريد ابو حديد» مؤشر على دقته المنهجية وتقصيه المرجعي، ولكنه كتاب صغير، ربما أنه أعد للترقية فكان تقيده بما يرضي المحكمين واضحاً كل الوضوح، والحازمي درس في «مصر» وأتم دراسته في «لندن» والدولتان من الحواضن الأدبية المتميزة، ثم انه باشر التدريس الاكاديمي فاستكمل ما ينقصه وطبق ما كان قد درسه.
وأقوى إصداراته غير الاكاديمية كتابه «الوهم ومحاور الرؤيا» وهو الأعمق، فيما جاء آخرها «سالف الاوان» دون ذلك، وكتاب «الوهم» كما اشرت دراسات في الأدب العربي الحديث في المملكة العربية السعودية، يشتمل على ثمانية بحوث تحدث في احدها عن «اللمحات الفنية في الأدب السعودي المعاصر». وهو بحث جاء على هامش الحفل الثاني لجائزة الدولة التقديرية عام 1404ه ويعد استكمالا لما جاء في بحث سابق عليه في الاعداد متأخر عنه في الترتيب. وفي حديثه عن المعارك النقدية استهل بحثه بالحديث عمن كتب حول الأدب السعودي، حيث عد أدب الرحلات للمستشرقين وكتابات الوافدين السياسيين المقيمين والعابرين من ذلك النوع الذي اشار الى الأدب، ولم يتعمد الحديث عنه. واشار بشيء من الاهتمام الى شخصيتين بارزتين:
الزركلي.
والريحاني.
وهما الأهم عنده، ثم افاض بالحديث الى «المازني» و«ارسلان» و«عزام» و«بنت الشاطئ» ويأتي بعد أدب الرحلات المقالات والدراسات التي تناولت الأدب السعودي. وفي مقدمة اولئك «طه حسين» في كتابه «ألوان» ومقدمة «هيكل» ل«وحي الصحراء»، وله كتاب في هذا المجال بالاشتراك عن الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب، جاء على شاكلة ندوة موسعة، ولي مع اثنين من زملائي كتاب مطبوع على شكل فهرسة موسعة للكتب والدراسات عن الأدب السعودي. ولما كان كتابه «الوهم..» تجميعا لإسهامات متفرقة، فقد افاض بالحديث عن بدايات الشعر في الحجاز، وعن بداية الأدب الحديث، ولم يغفل الحديث عن القضايا والأغراض والمعاني. وامتد حديثه الى «النثر» وعلاقته بالصحافة وأبرز فنونه، وبخاصة القصة والرواية عند الرواد ك«السباعي» و«الدمنهوري» و«الناصر». والدراسة تاريخية موجزة لا تتجاوز الإشارات السريعة التي لا تسد خلة، ولكنها تضيء الطريق للباحثين المبتدئين بما تذكره من شخصيات وأعمال.
أما المبحث الثاني: فهو عن «حركات التجديد في الأدب السعودي الحديث» وهو كسابقه محاضرة القيت «بلندن» عام 1993م. استهل الحديث فيها بما يكتنفه من صعوبة تمتد في الزمان والمكان. وهو إذ ينطلق من عملين رائدين «للصبان» و«العواد» لا يلمح الى الفرق بينهما. ف«الصبان» ألف في التراجم، أما «العواد» فكتب في النقد والتنظير، وليست هناك اوجه شبه بين العملين، ولو أنه عرض لكتاب آخر للصبان هو «المعرض» لكان بالإمكان الجمع بينهما. والصحوة الأدبية التي يجعل منطلقها كتابا «الصبان» و«العواد» لا تسلم له، إذ هناك عوامل أخرى كنت اود لو تقصاها، وهو يقطع بأن البداية الحقيقية للأدب السعودي تأتي بعد استعادة الحجاز على يد الملك عبدالعزيز، وأحسبها بداية تسمية، وليست بداية فعل، فالأدب قائم في العهدين العثماني والهاشمي، وهو في العهد الهاشمي أكثر حماساً وقوميةً، بسبب الثورة التي استقطب لها «الحسين بن علي» ألمع الأدباء والكتاب، ممن فروا الى الحجاز من الشام.
والدارس يربط الحركات التجديدية بما صدر من كتب نقدية مثيرة من مثل «خواطر مصرحة» و«المرصاد» على انه لم يشر الى الفوارق الجذرية بين هذه الأعمال. «فالمرصاد» ل«الفلالي» عمل تطبيقي انطباعي مبتدئ، لا ينطوي على أي استشراف او تمرد، كما هما في كتاب العواد «خواطر مصرحة». وان اشار الى ما ينقص «الفلالي» من أدوات أساسية للنقد، وهو قد حدد الابعاد الفنية عند الناقد القائمة على الاحكام المعنوي والفني والعاطفة والتجربة والوضوح، والدارس يراها مقاييس ضيقة، بحيث كانت سبباً في النيل من «العواد» و«القنديل».
لقد حصر حركات التجديد في اربع مراحل او تيارات. سمى الأولى ب«الصحوة» ولا يقصد بها الصحوة الإسلامية. واتخذ سبيله لإبرازها في الكتب التي صدرت ان في التاريخ للأدب والأدباء او في التنظير او في التطبيق. ويمثل الصحوة ثلاث شخصيات أدبية:
محمد سرور الصبان.
محمد حسن عواد.
إبراهيم الفلالي.
وينتقل من الحركة الأولى التي استغلت نصف المحاضرة الى الحركة الثانية «الأيديولوجية» ويجعل رائدها الناقد «عبدالله عبدالجبار»، ويصفها «بالايديولوجيا» أي علم الأفكار، وهو يعول على تناولات «عبدالله عبدالجبار» للاتجاه الواقعي في الشعر السعودي المعاصر. ولا أحسب هذا التقسيم يسلم له، فالأدب السعودي لم يقع في تلك المرحلة بما يسمى ب«الأيديولوجيا» وان استعذب عبدالجبار مصطلح «الواقعية».
وهو حين يقسو في نقد «الفلالي» فإنه يمارس ذات القسوة مع «عبدالله عبدالجبار» حين يعرض لكتابه «التيارات» الأمر الذي حفز الناقد «عابد خزندار» الى وصفه بالأوهام، فيرد عليه الحازمي، ليعود الخزندار الى رد غير موضوعي عبر الصحافة المحلية. وأياً ما كان الأمر فإن الحديث عن كتب النقد لا يكفي فيه الاستعراض التاريخي الوصفي، إذ لا بد من الدخول في عمق الأعمال وربطها في سياقاتها المتعددة. وقد اتخذ «الحداثة» حركة ثالثة تلي الاتجاه الايديولوجي.. واتجه بالحديث الى ثلاثة نقاد يراهم الممثلين للحداثة المحلية هم:
عبدالله الغذامي.
سعيد السريحي.
سعد البازعي.
واستعرض كتبهم الثلاثة:
الخطيئة والتكفير.
الكتابة خارج الأقواس.
ثقافة الصحراء.
مع ذكر كتب أخرى ليست فى مستوى تلك الكتب الثلاثة.
والدارس لم يشأ الدقة في الحديث عن «الحداثة» ومرجعياتها وسماتها، ولم يشأ التفريق بين حداثة الفكر، وحداثة الفن، والمقبول والممنوع في شقي الحداثة.
وهو في الوقت ذاته تحدث عن النقاد، ولم يتحدث عن المبدعين، كما اشار الى طائفة من خصوم الحداثة مشيراً الى «عبدالله بن ادريس» و«أحمد فرح عقيلان».
وهو اذ يجعل الحركة الثالثة حداثية، فقد جعل الحركة الرابعة والخاتمة «إسلامية»، وقد استعرض جوانب من مقتضياتها وتحفظات النقاد عليها. وحديثه وصفي سريع، اذ هو اميل الى الانطباعية، ولو أنه وظف امكاناته وأعطى الجهد المناسب لكان حديثه عن الحركات الأربع أدق وأعمق واشمل، ولو خص الحداثة بالوصف الايديولوجي جاعلاً المرحلة الثانية واقعية اجتماعية في إزاء الواقعية الاشتراكية لكان أقرب الى الدقة في التحديد.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:27 AM   #240
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الحازمي بين النقد السردي والرصد النقدي 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


أما حديثه عن «المعارك الأدبية» في المملكة فيأتي ثالث البحوث، ولا يختلف عن محاضرته الأولى «لمحات من أدبنا السعودي المعاصر» يستهل مقاله الذي نشره في مجلة المنهل عام 1996م بالحديث عن معركة «العواد» و«الأنصاري» حول الإبداع القصصي، وقد آخذَ العواد على سخريته وتهكمه وخلطه بين متطلبات القصة والرواية، وبين الواقعية والرمزية والفلسفية في العمل القصصي. واستطرد الى معارك «العطار» و«السباعي» ووصف هذه الحملات بالتطرف والإسعاف. وأبدى ارتياحه عند الحديث عن «المرصاد» للفلالي. وان قرر عدم اختلافه عن النمط السائد للمعارك النقدية السابقة، واصفاً دراساته بعجزها عن الرقي الى مستوى الدراسات الجادة المتأنية، إذ هي في نظره تعليقات سريعة وانطباعات عابرة تعتمد على الذوق الشخصي الممزوج بحدة الانفعال والسخرية.
والدارس تناول كتاب «الفلالي» «المرصاد» حين تحدث عن «حركات التجديد في الأدب السعودي الحديث». وتذبذب حديثه بين المؤاخذة والتأييد وهو قد بسط القول عن «المرصاد» في الموضعين، ولما يكن في ذلك ناقداً بقدر اهتمامه بالوصف والرصد، وإن أوما في سياقاته الى بعض ملاحظاته كقوله مثلاً «تنقصه الأدوات الأساسية للنقد» وجعل منها وفرة النصوص المدروسة، ولما يشر الى ما هو أهم، وهو آليات النقد ومنهجيته، وان مرت مقطعة الأوصال في اشارات عابرة في المقالين «حركات..» و«معاركنا النثرية». ولا تثريب في ذلك، فالدارس يتحدث عن كل موضوع في معزل عن الآخر، وهو في النهاية مؤرخ للحركة الأدبية والنقدية في المملكة، ولربما تأخذه طبيعة الأستاذ في القاعة وهمه في التوصيل والترسيخ. وقد ألمح الناقد «عابد خزندار» لذلك من تلك الزاوية، ولكننا لا نتفق مع «خزندار» في وصف عمله بالوهم، ولا نذهب معه في مطالبته للناقد بالتقاعد عن الكتابة مثلما تقاعد عن التعليم، فمثل هذا التجني وان كان ديدن «الخزندار» يحط من قدر المشهد النقدي، ويشوه صورة الحركة النقدية في البلاد، وبامكان «الخزندار» غير المتخصص ان يحدد نقاط الضعف والاخفاق عند «الحازمي» تاركا الحكم للقارئ الذي يستعرض الوثائق، ويقرر النتائج، والنقد لا يكون بالضرورة «نصوصياً» و«ابداعياً» كما يود «الخزندار» وإنما الحاجة تحدد المنهج. والدارس يود من دراسته تلك إعطاء تصور عن الحركة الأدبية والنقدية في المملكة، وهو في هذه الرغبة يحتاج الى «المنهج المدرسي» او ما يسمى ب«النقد التكويني». ومجمل الأعمال الدراسية التي اشتمل عليها كتابه «الوهم...» من هذا النوع التاريخي الوصفي المعلوماتي. والدارس حين يكون مستعرضا عارضا في هذا الكتاب يكون ناقدا في كتب أخرى. فالكتاب يمثل زاوية من مؤلفه، ولا يحتويه، وتأطير الحازمي في واحد من كتبه او في واحدة من محاضراته جناية متعمدة.
ويمتد رصده للمعارك بين البسط والإيجاز والإشارة والاستدعاء، ويختم حديثه عن المعارك الأدبية بالحديث عن «عبدالفتاح أبي مدين» وكتابه «أمواج وأثباج». وقد ساق أطرافاً من أحكام أبي مدين الجائرة على طائفة من الشعراء الذين أرخ لهم «عبدالسلام الساسي» في موسوعته وفي كتابه «شعراء الحجاز..» ولكنه استدرك قائلاً: إن آراء أبي مدين في «أمواج وأثباج» خلال الخمسينيات لا تمثله في فترة لاحقة، ولا سيما بعد تبلور الكثير من الحركات والتيارات الأدبية، وبعد اتصاله الوثيق بممثلي النقد الجديد.
أما بحثه الرابع «مكة المكرمة في قصص أبنائها المبدعين» فمحاضرة ألقيت في نادي مكة الثقافي عام 1996م. ونشرت في ملحق الرياض الأدبي. وفيها تناول بعض الأعمال الإبداعية الروائية، وما هي عليه الحياة في مكة من حيث البيئة والموقع والمكان بوصف مكة مهاداً طبيعياً للفكر والأدب، وهو قد كتب أو حاضر عن شيء من ذلك. حين أنجز دراسته «البيئة المحلية في قصص أحمد السباعي». والدارس لا يود أن يفرق بين مصطلحي «القصة» و«الرواية» فهو يعنون «بالقصص» ويتناول الروايات، ثم هو يؤاخي بين المناهج بحيث يوازن تارة، ويحاول استبانة الحديث عن مكة تارة أخرى. وقد اختار خمس روايات من بين ستين رواية أشار إليها «الشنطي» في دراسته للرواية العربية: هذه الروايات هي:
«أبو زامل » للسباعي 1374ه.
«ثمن التضحية» للدمنهوري 1378ه.
«لا ظل تحت الجبل» للعنقاوي 1399ه.
«لا تقل وداعاً» لعاشور 1400ه.
«سقيفة الصفا» لبوقري 1404ه.
وقد ركز في دراسته على «النماذج البشرية» وقد يكون استوحى هذا العنوان من كتاب «محمد مندور» عن النماذج البشرية في الروايات العالمية، وهو من أهم الكتب وأجدرها بالقراءة، مع أنه كتاب لا يعرفه إلا الأقلون.
والمحاضرة التي أعدها عن مكة في قصص أبنائها مختصرة إلى حد الاعتصار، واشاراته لا تفي بالغرض، والموضوع عميق ودقيق، ويحتاج الى جهد ووقت لم يتوفر عليها الدارس، ودراسته البعد البيئي والشخصي في روايات خمس لا يمكن أن يؤتى عليه بصفحات قليلة وجهد متخفف. ولا سيما ان الدارس متخصص في النقد الروائي. وهو بهذه الصفة يتوقع منه العمق والتركيز والغوص في البُنى التحتية للأعمال واكتشاف الأهم في هذا البعد الذي اختاره لأهميته، وهو محور العمل الإبداعي، والحديث فيه من متطلبات النقد الحديث، ويرتبط به موضوعان «أضواء على تصور القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» و«البيئة المحلية في قصة أحمد السباعي»، وقد أعد لطرحهما في ملتقى القصة القصيرة في الكويت وفي المهرجان الوطني. والبحثان يتسمان بالعمق ومباشرة النقد النصوصي الذي تجاهله «الخزندار» في مؤاخذته للناقد، وان كان دون ما نؤمله من مثله، إذ يبدو تخففه في كثير من أعماله، وهو الأقدر لو أراد ذلك.
وقد عول في بحثه عن تطور القصة القصيرة على مجموعة من الدراسات التاريخية والنقدية، وكان اتكاؤه الأقوى على أطروحة «سحمي الهاجري» عن القصة القصيرة في المملكة، والدراسة التاريخية للدكتور «محمد الشامخ»، والدراسة التاريخية الوصفية للدكتور «محمد بن صالح الشنطي»، وما كتبه كل من : «البازعي» و«سعيد السريحي» و«شاكر النابلسي».
وفي حديثه عن القاص «حسين علي حسين» عول على دراسة للدكتورة «فاطمة موسى» عبر مقالين: «تطورات جديدة في القصة القصيرة العربية» و«الرحيل بين الأنموذج والواقع». وفي البحث اعتمد على المرحلية الزمنية، فهناك رواد ك«أحمد رضا حوحو» بوصفه مارس الإبداع والترجمة والنقد في المملكة، وإن كان جزائرياً بارح الديار المقدسة، واستشهد في حرب التحرير الجزائرية، ومن بعده «حمزة بوقري» و«إبراهيم الناصر» و«محمود المشهدي» ولم يسلم أحد منهم من التأثر المباشر عن طريق القراءة أو المعايشة. ف«البوقري» أقام في مصر. و«الناصر» أقام في العراق، وكل واحد منهم استفاد من إقامته التي لم تطل، واتخذ إمامه من مشاهير المبدعين القصصيين في مصر والعراق، ويبدو لي أن الإشكالية تكمن في «الموهبة» و«الموقف» و«الثقافة». والنظر الى ابداعات الآخرين لا يشكل أهمية قصوى.
والثلاثة الذين اختارهم الدارس من السعوديين بالأصالة او بالإقامة وعدهم من رواد القصة القصيرة يأتي الى جانبهم آخرون ليسوا بأقل منهم، ولكن المرجعيات التي عول عليها ركزت على أولئك، فلم يكن بد من التعويل عليهم. حتى لقد أطال الحديث عن «حسين علي حسين» بشكل ملفت للنظر لا لشيء أكثر من أن المادة توفرت للدارس من النقد التطبيقي لأعماله لدى الدكتورة «فاطمة موسى». وهو في تناوله لتطور القصة قسم المراحل الى ثلاث: «الرواد» و«الشباب» و«الحداثيين» أو المتأثرين بالحداثة، ولشح المرجعيات فقد شار الى «المشري» و«محمد علوان» ولم يشر الى مبدعين قصصين لا يقلون عمن تحدث عنهم، ويبدو لي ان المرجعيات التي عول عليها لم تشر الى احد منهم من مثل: «باخشوين» و«الشقحاء» و«عبده خال» وغيرهم، وليس بضائر فيما أرى العدول عن الاستقصاء إلى الانتقاء، متى استطاع المنتقي إغناء البحث عمن صرف النظر عنه.
وفي حديثه عن «السباعي» وتجلي البيئة المحلية في قصصه حاول ان يلملم نثاره من مواقع كثيرة، ولما ينج من الاستهلال التاريخي والاستطراد على حساب القضية الرئيسية، بحيث تقصى أشياء كثيرة عن السباعي، ليست في خدمة الموضوع الرئيس، وحديثه عن البيئة حمله على افتراض البعد التاريخي في الإبداع القصصي، مما حفزه على استدعاء «جرجي زيدان» و«أبي حديد» و«محفوظ» و«باكثير» للموازنة بين فنيات الاستخدام التاريخي، وكل ذلك استطراد أثقل البحث، والسباعي يقصر باعه عن أولئك في أمرين:
الأمر الأول: حجم البعد التاريخي في قصصه.
الأمر الثاني: حجم البعد الفني إزاء من ضرب بهم الأمثال.
وما أظن هذا الاستدعاء إلا نتيجة التشجيع والاستحضار، فالدارس ملم بالرواية التاريخية، وله فيها أطروحة علمية ودراسات أخرى، وتوارد هذه الشخصيات لم تثره مقتضيات الدراسة، وإنما أثارته معارفه الوفيرة في هذا المجال، وما كان له أن يخل بمنهج البحث، وهو الأقدر على استبعاد ما يتداعى من معلومات لا يقتضيها المقام. وهو حين يطلق على بعض مراحل حياة السباعي «المرحلة الفلسفية العاطفية» يكون أكثر تزايداً، فالعاطفية الرومانسية عنده لا ترقى الى التصور الفلسفي، وكيف يستوحي السباعي بطلته كما يشير الدارس من قراءاته الرومانسية، ثم لا يكون في أدائه فيلسوفاً، وبودي لو أن الدارس فرق بين الاستغراق التخيلي، والاستغراق التأملي، فالفلسفة العاطفية ربما تكون نتيجة الاستغراق التأملي، ولا تكون نتيجة مستغرق في الخيال، والسباعي في روايته «فكرة» مستغرق في الخيال الى حد الخرافة، ولكي يؤكد رؤيته في ذلك فقد تعمد الربط بين «السباعي» و«جبران» وشتان بين الرجلين، والربط التعسفي لا يسوِّغ التصور الفلسفي عنده، ووصفه لحديث «فكرة» بطلة الرواية بأنه حديث العالم الفيلسوف الشاعر المتصوف فيه شيء كثير من المبالغة.
و«السباعي» الذي خلق شخوصه، ولم يلتقطها من المجتمع، أراد أن يحقق من وراء هذا الخلق الممعن في التخيل أقصى حد من النقد لبعض الأوضاع السائدة، مما له علاقة بالمرأة في سائر وجوه الحياة عنده، وفي مجال التعليم بالذات، وهو بهذا الإغراق يمارس القناع بطريقة مغايرة لتقنع المبدع، وإنما هو تقنع القضية، والتماس البيئة المحلية في رواية مغرقة في الخيال مثل «فكرة» يلجئ الى التمحل، وقد اشار اليه الكاتب الذي لم يُكرهه أحد على تناول رواية خيالية رومانسية بآليات مغايرة.
ويأتي الموضوعان الأخيران:
«أدبنا السعودي في عيون الآخرين» الذي تحول فيما بعد الى كتاب.
و«واقع الثقافة العربية بين الإيجابيات والسلبيات».
وهما محاضرتان ألقيتا في المهرجان الوطني للثقافة والفنون عامي 1412ه و1418ه. استعرض في البحث الأول رؤية السائحين لهذا الأدب ورؤية الباحثين ورؤية المتعاطفين المجاملين، وحديثه عبر كل الرؤى استعراضي انطباعي وقليل من الجدل المخنوق بحجم البحث. وحديثه عن واقع الثقافة لا يتجاوز التمهيد أو المدخل. لقد أعطى إشارات رقمية، ولما يعط تصوراً شاملاً، فالحديث عن قضية كتلك يتطلب فضاءً واسعاً وإمكانيات استثنائية لا تنقص الحازمي، ولكنه لم يشأ استخدامها لمحدودية الوقت المتاح لمثله في لقاء عام.
وكتابه «سالف الأوان» يتساوق مع كتب أخرى وهو مجموعة مقالات قصيرة جمع شتيتها وصنفها موضوعياً وفنياً، وجاءت في خمسة حقول «في الأدب السردي» و«من أدب السيرة الذاتية» و«شخصيات» و«نفحات من الشرق الأقصى» و«أصداء وتأملات» وأدرج تحت كل عنوان ما يناسبه من المقالات المقتضبة، ولم تكن تناولاته قصراً على الأدباء السعوديين، ولم تكن مقالاته عازمة بل جاءت على شكل خطرات وخواطر، ويبدو في مقالاته تلك متابعاً للمشهد الأدبي، حفياً بإبداعات الشباب، ولم يشأ إضافة أي دراسة منهجية جادة كما هو في كتابه «الوهم ومحاور الرؤيا».
لقد صرفت النظر عن سائر كتبه التي تضمنت مقالاته الأدبية لأنها تناولت إبداعات شعرية ولَّما يكن الحازمي فيها معلوماتياً وإنما كان انطباعياً، وإلماحاته المعرفية فصل القول عنها في محاضراته الموسعة والممنهجة، ولم أشأ الحديث عن الحازمي الشاعر لخروج ذلك عن مجال بحثي، ويبقى الحازمي علماً من أعلام الأدب السعودي في انتظار أقلام شابة تنقب في عالمه وتوفيه حقه الممطول، وما كنا لنفي بحق أعلامنا حتى يتواروا في التراب.
* تنويه: ملخص الورقة التي القيت في ندوة «الأدب السعودي خلال عقدين» وستطبع الورقة بكاملها مع كامل الأعمال..
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:28 AM   #241
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
النقد الثقافي: البديل أو الرديف (13)
د. حسن بن فهد الهويمل


ولو أننا تعمدنا تقصي مفهوم المصطلح ومشموله ومشروعيته وعلاقاته بأنواع النقد: حاجة أو من باب الفضول فإننا قد لا نجد جوابا شافيا كافيا وبخاصة حين لايكون بين أيدينا الا ذلك القول المقتضب في الفصل الثاني من كتاب المشروع أو الحديث عن (لعب التسلية) وظاهرة (الاستراحات) التي يقضي فيها الفارغون فائض وقتهم في أطراف المدن أو الحديث الافتراضي عن المرأة واللغة. ومشروع يحكي صاحبه مراحل تشكله من المحيط إلى الخليج لا يكون بهذا الاقتضاب ولا بتلك النماذج التطبيقية. أما عن المشروعية فلا خلاف حولها متى استقام المشتغلون على الطريقة وتفادوا التخندق مع الضِّد. والقول بالنقد الثقافي أخذ بالعموم دون الخصوص، وهو قائم في كل التناولات إذ الثقافة أعم مما سواها، وعلى ضوء ذلك فإن تناولات أي ناقد ثقافي يمكن توجيهها إلى معارفها المتعارف عليها من قبل. فالحديث عن المهمشات ك (لعبة البلوت) و(الاستراحات) أقرب إلى (علم الاجتماع) منه إلى الثقافة والاشتغال في اللغة من حيث فحولتها وأنوثتها اقرب إلى علم الصرف أو إلى فقه اللغة منه إلى الثقافة والاشتغال في الأخلاقيات من خلال الحديث عن (الشحاذة) و (المدح) أقرب إلى علم الأخلاق ومقاربة الأخلاقيات المهمشة من قبل عند البنيويين حفز البعض على التوقع بأن مثل هذا الفعل محسوب (للنقد الإسلامي) وماهو منه لا في قبيل ولا دبير، فالمقاصد والأهداف تفرق بين مشتغلين في قضية واحدة ومن ثم فإن تنبؤات البعض، والقول بالمؤاخاة بين (النقد الإسلامي) و (النقد الثقافي) غير مسدد إذ ان ضرب الانساق المختلقة أو المتصورة في الوهم لا تحيل إلى الاصلاح، ولا يكون المشتغل بها أو من خلالها وفق هذه الغايات مصلحاً ولا متناجياً بالمعروف واقتياد الثقافة العربية من فضاءاتها الواسعة ومرجعياتها المتعددة وتحولاتها المعرفية وتقلباتها الدلالية وتشعباتها المذهبية وتفاعلاتها الواعية واستجاباتها المختلفة المستويات، وحشرها ظلماً وعدواناً في نفق ضيق ومصدر واحد، بل في سمة سيئة واحدة من سمات المصدر الواحد، قول لا يتفوه به إلا جاهل يجب تعليمه، أو ماكر تتحتم مواجهته، والقول بالجهل لايعني أمية الشخص، وإنما هو جهل للقضية، وهو قائم عند العلماء والعامة. والثقافة المحال إليها تتسع لأكثر مما عول عليه صاحب المشروع، وقد أشار تمام حسان إلى أنها تشتمل على مفهومين:
طريقة الحياة.
نتاج الفكر.
والقول في التشعرن قول في (طريقة الحياة) ليس غير، وقد يحال على التفكير بوصف الأمة العربية أمة انفعالية، وهو اتهام أطلقه الماكرون، وصدقه المغفلون أو المواطئون.
وما نقوله ليس تصدياً لمن يحلو لهم المصير الطوعي إلى مصطلح (النقد الثقافي) لا على المستوى المحلي، ولا على المستوى العربي، ولا على المستوى الفرنسي، وليس هو رفضاً لمن ركن إلى هذا اللون من النقد، فالناس أحرار في ذوائقهم وما يشتهون، وليس لأحد حق في إكراه الناس على ما يريد، كما أنهم أحق من غيرهم في ترتيب أولوياتهم، إذا احترمت الثوابت، وليس فيما يلمون به من مناهج وآليات اجتراح للحمى، غير ان التطبيق والغايات تبرئ أو تدين، وقد يلفت تحفظنا المتكرر نظر المتابع، ولكن تعمد لوي أعناق النصوص وتحميلنا ما لا نحتمل بوصفه أسلوباً هروبياً اضطرنا إلى مواصلة التحفظ، وتصدينا إطفاء لشرة الادعاء، وقمع للتطاول على (النقد الأدبي)، المشكل ظلاً للإبداع وإيضاح لمقاصد هذا المشروع عند أساطين الحداثة وسدنة الظلامية، ممن يتنفسون بفوضوية وحرية في الأجواء (العلمانية) خارج محيطنا الإقليمي المأطور على الحق، وهي مقاصد مشبوهة: فهم مع اختصار ثقافتنا في الأدب الخرافي الأسطوري العامي المتمثل ب (ألف ليلة وليلة) وهم مع إشاعة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومع تدنيس المقدس، وأنسنة الإله في الإبداع الشعري والسردي: قصة ورواية. وهم مع تقديمنا بوصفنا قبيلة بدائية متوحشة مستعبدة لزعيم القبيلة في السير الذاتية، وهم مع حرية الكفر لا حرية الفكر في الطرح الفكري والنقدي، وهم مع حرية الوصول إلى المرأة لا حرية المرأة في الطرح الاجتماعي، والمشاهد المليئة بوثائق الاثبات خير شاهد، و (النقد الثقافي) جماع الإبداع والنقد الفكري والاجتماعي، ونحن لا نرضى لابنائنا ان يكونوا مغفلين أو مبهورين، وان كنا لا نتهمهم بشيء من ذلك غير أنا لا نعفيهم حين يحومون حول الحمى، أو حين يضعون أيديهم بأيدي أولئك الأساطين أو المنحرفين.
وما نود قوله انه بالإمكان استشراف المستقبل، وحوار الآخر، والاستفادة منه، دون ضجيج إعلامي أجوف، ودون استخفاف بالأدباء والنقاد والمفكرين الذين لايرون مايراه التبعيون، ودون مساس بما هو قائم، إذا كان من مفردات حضارتنا، وليس معوقاً لانطلاقنا ومن الممكن اتمام التفاعل مع المستجد دون قتل للأبرياء. والذين فرغوا على مدى عمرهم الكتابي الطويل للأخذ المباشر وغير المهجن أو المدجن من الآخر، وانقطعوا لتبنِّي الجاهزيات بدعوى التجديد، ثم لم يعرفوا أنهم عيال على المتداول في المشاهد العربية التي مارست مسخ ذاتها لا بالمداهنة ولكن بالانسلاخ هؤلاء يخلطون من حيث يدرون أو لايدرون بين مفاهيم التجديد والتقليد ولمّا نزل نؤكد على ان تقمص شواخص الغير لايعدو تجديداً، ولاسيما حين يكون التقمص لسيىء القول ومنحرف الفكر وما نشاهده الآن من تبنٍّ للتجريب الغربي، لم يكن بدعاً من الأمر، فطائفة من قراء الأمة العربية لم تفق بعد من حالة الصدمة الحضارية منذ (حملة نابليون).
وإذا كنا نعجب مما يحكيه (الجبرتي) في تاريخه عن مفاجآت الحملة الفرنسية وتصورها عند العامة، فإن فينا من يعيش الدهشة نفسها، ولما يستفد من كل هذه السنوات العجاف. ولو كان المبهورون على ثقة بأنفسهم وبحضارتهم وبتراثهم لما تهافتوا على المصطلحات الغربية، ظناً منهم انها مغانم، وماهي في حقيقة الأمر إلا مغارم، والتحولات المرتجلة المستجيبة لتأثيرات الاجواء البعيدة لا تعد تحولات راشدة ولا محمودة، التحول السديد من يستجيب لتطلعات الأمة ويلبي حاجاتها القائمة أو المستجدة، والمشاهد الأدبية والاجتماعية والتربوية والفكرية تفيض بالقائلين ما قال الغرب وكأنه (حذام) التي يقول فيها الشاعر:




إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام


ولعل الناقد (جابر عصفور) شاهد من الأهل، حين يقول عن (الإيقاع اللاهث من التغير) وهو يتحدث عن تحولات النقد: (هذه المتغيرات الحاسمة تفرض نفسها علينا لأننا نعيش في هذا الكون معيشة المستهلك الذي يستجيب إلى متغيرات لا يسهم في صنعها ويستقبل تحولاتها ليس له دور حاسم في توجيهها) (آفاق العصر ص104) ذلك قوله عمن أخذ مباشرة من الغرب، فما قولنا عمن أخذ من الآخذين:



فلو كان عبدالله مولى هجوته
ولكن عبدالله مولى مواليا


وأصحاب المشاريع لا يكونون مستهلكين، والمستهلكون لا يسهمون في صنع الأشياء، والقول في (الحداثة) و(البنيوية) و(التحويلية) و(النقد الثقافي) استهلاك، والقائل بشيء من ذلك مستهلك، وادعاؤه بأنه صاحب مشروع ادعاء عريض، والقبول به مؤشر بدائية، وتلك (الزئبقية) كما يسميها الدكتور (عبدالرحمن السماعيل) بحق صاحب المشروع، تحولت عند البعض إلى ميزة لم تتحقق إلا لذوي القدرات الخارقة على التحول الدائم، كما هو عند (رولان بارت) (كتاب الرياض) (9798) والمحمود من الزئبقية لا يكون على إطلاقه، فصاحبه في اضطرابه كالمرآة في كف الأشل، لايحقق متابعها إلا دواراً في الرأس وغثياناً في المعدة، ومايقوله (جابر عصفور) ليس وقفاً على النقاد، ومن ثم لم يكن الأدباء وحدهم من يمارس الأخذ عن يد وصغار. فطائفة من علماء النفس والاجتماع والتربية واللغة والاقتصاد والسياسة، يأخذون بغير حساب، محققين التبعية المخلة بالوجود الكريم. وما أحد من أولئك حاول (الأسلمة) أو (العوربة) وصُنع المصطلح، واتخاذ المنهج والآلة الملائمين لحضارته المغايرة وذلك أضعف الايمان. على ان من حاول مثل ذلك وصف بالرجعية والسكونية والماضوية، وهي كلمات مجّتها الأسماع، وملّتها المشاهد واهترأت من كثرة التداول، ولما تزل ملاذ الهاربين من ملاحقة الناصحين وصراع التجديد والتقليد مضلة أوهام ومزلة أقدام ولما يفرق البعض بين الراحل بالتراث والراحل إليه والمستبطن له والمنغمس فيه ولا بين المستوعب لحضارة الآخر والمقتطع منها الجالب دون استيعاب أو هضم. ومُدَّعو التجديد لايقدرون علي التمثيل الغذائي الذي تتحقق معه مقولة: (الأسد مجموعة خراف مهضومة) ولايرضون بالمؤاخاة بين ماهو قائم وماهو قادم، ولا يقنعون بالترادف والتعايش وإنما يصرون على البدائل وفي ذلك انسحاب مرحلي لحضارة سطعت شمسها على الغرب، إنهم بهذا النفي وذلك الا ستخفاف يقترفون خطايا جلب النكرات وطرد المعارف ولهذا اتخذ البعض منهم سبيل (النقد الجنائزي) ففي كل يوم نسمع بموت ظاهرة وحياة أخرى ولن نحصي كم أميت في مشاهدنا الفكرية والأدبية والعلمية من نظريات ومعارف لتخلية الجو لمجلوب غريب يطير به البسطاء، ويتصورونه فتحاً مبيناً، ثم لايكتفون بالذهول، بل ينكصون على أعقابهم للنيل من كفاءاتهم الوطنية وتراثهم العميق، وكأني بالتاريخ يسائل أولئك: أتؤذون رجلا يرفض موت النقد وهلاك النحو، ويقبل بالجديد المفيد والمبتكر الجديد، لماذا التشنج والانفعال والإيغال في تسفيه الأحلام؟ وإشكالية المشاكل اختلاف المفاهيم حول القضايا المصيرية، وحول أسلوب التعامل معها، والتقارب العالمي والخلطة المستحكمة فرضت التخطي من الصدام إلى الوئام، ومن التدابر إلى الحوار، غير ان مفهوم الحوار تحول إلى إشكالية أخرى.
فالوضعيون، والماديون، واللغويون، والتربويون، والنفسيون، والاجتماعيون، والاقتصاديون، والأدباء، والنقاد، والمؤرخون اختلفوا فيما بينهم حول طريقة (الحوار الحضاري)، وحول مشروعية المصير إلى الآخر أو أسلمة ماعنده، ومن ثم اقتتلوا حول افتراض القديم والجديد، والمقلد والمجدد، والرجعي والتقدمي، ولم يشتغلوا في التمثل السليم والاستيعاب المقتدر. والقول عن القديم بهذا النفس العدواني إدانة له، واستنهاض لنفيه. على ان البعض سعى لقطع دابر القديم بإشاعة الموت لظواهر تراثية قائمة ما أقام (عسيب) واحتدام مشاعرنا ليس خوفاً علي (النقد الأدبي) أو (النحو العربي) حين أميتا بجرة قلم، ليخلو الجو لناقد فرنسي أوعالم لغة أمريكي، وإنما هو خوف على أنفسنا وسمعتنا إذ كيف تنطلق هذه الدعاوى من أرض الجزيرة التي حوت أعظماً يعز عليها ان تلين قناة اللغة والأدب. ومُدَّعو التجديد تفانوا في الأخذ بعصم المذاهب الغربية، ولم تكن لهم مبادرات تتحسس حاجة الأمة، وتستجيب لمطالبها، والأقل من عرف كيف يحاور، فمنهم من أضاف ما أخذ إلى ما عنده محاولاً إذابة الطريف بالتليد محتفظا بملامح ذاته، والأكثرون الأخسرون استخفوا بما عند قومهم وما أحد منهم أحسن صنع شيء ثابت مفيد، والقليل القليل من طوى كشحه، وانكمش على نفسه، ولما يعرف انه الأدرى بأمور دنياه ومن ثم فوّت على نفسه فرص الحياة الكريمة، وموقفنا من الرافضين لكل جديد كموقفنا من المنسلخين من كل قديم المتهالكين على كل وافد، ولو أن المتهالكين وهم النقيض أخذوا ماهم بحاجة إليه، وأضافوه إلى ماعندهم، واتخذوا مذاهبهم وآلياتهم من حضارتهم، لكانوا أعزة عند قومهم، وعند خصومهم، وكان فعلهم مشروعاً، فالاقتراض دأب الحضارات، غير أن أولئك اسقطوا تجارب الآخرين بالشكل والصورة والمسمى مما اضطرهم إلى اغتيال الأشباه والنظائر في حضارتهم.
وملاحقة الغرب في تجاربه وتحولاته المستجيبة لحاجته تفويت للفرص وحرمان للأمة من قدرات أبنائها المستنزفة في سبيل الملاحقة لكل عارض غير ممطر والمتابع للمشاهد الأدبية في الوطن العربي يدرك انها في ضجة من أجل الغير والمناكفات والعداوات كلها حول مستجد الآخر، وليس هي حول مبادرات الذات، وعلى الذين يتشابه البقر عليهم ان يصيخوا لهذا اللغط، ليعرفوا حجم النزيف المجاني حول مصطلحات لم تستقر مفاهيمها، ولم تتقن اجراءاتها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:29 AM   #242
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تحولات النقد الأدبي 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل


1/1 كلمة «نقد» مصطلح مشاكس، ذو أبعاد متعددة: تاريخية، وفنية ووظيفية، ومنهجية، وآلية، ومجالية. لا يستقر شيء منها على قرار، و«الثبات» و«التحول» حين يفهمان على غير ما يجب أن يكونا عليه، تختفي القضايا، وتتضخم الإشكاليات. ولما كان التحول المطلق المعول على الانقطاع المعرفي والتفجير المتواصل لكل ماهو متداول هما الشغل الشاغل عند رموز الحداثة الفكرية المنحرفة، أصبح من الضروري معرفة المرجعية لتحديد المرجعية والمتعلق، ذلك أن الحضارة الإسلامية ذات مرجعية ربانية ملزمة، لها ثوابتها ومتغيراتها.
وكل حضارة لا يعرف مفكروها ثوابتها، ولا يحترمون خصوصيتها حضارة مستباحة. والنقد مع الأزمنة والأمكنة واللغات والحضارات ذو خصوصيات مختلفة، وأحكام وضوابط لمبدأ التحول، لما يضع لها مستهلكو فيوض الحضارات المهيمنة الاعتبار المناسب. والنقد الذي نتوقع منه حسم الخلاف حول النص والقدرة على التوسط بين المبدع والمتلقي لم يحسم الخلاف حول ذاته، وارتداده إلى الداخل عطَّل فعاليته. وإذ يكون الفعل النقدي مراوحاً بين:
التنظير.
والتطبيق.
فإنه بارتداده يقع في احتباس ذاتي، يفوِّت على المشهد مباشرة الفعل الوظيفي، والذين يحصرونه في ضيق الرؤى الذاتية، ممارسين نفي الرؤى الأخرى يضيقون على أنفسهم وعلى الآخرين، وذلك مؤشر ضعف في الملكة التصورية للظواهر والقضايا والمذاهب النقدية. وضيق العطن والاستقطاب حول الذات تولدت منهما دعوى «الوفيات» للظواهر والقضايا، وظهر ما يعرف ب «النقد الجنائزي».
والمتابع الحصيف للتحولات يتعامل بحذر شديد، ولا يتعمد إيقاف التدفق ليكون ك «المصور» الذي يحبس بالتقاط الصورة جزءاً من اللحظة، ثم يتوقف عندها. والمشاهد النقدية يمر بها فئام من القراء، متصورين القدرة على التحبيس كما المصور، يقع في مثل هذا المحذور المتعصبون والمتسطحون، فالموت لا يكون إلا للجانب المادي المحسوس، أما سائر الظواهر فتقع تحت طائلة التمدد والانكماش والغياب والحضور. وحين نرى مشروعية المذهبية، نقف بها دون التعصب، لنتيح الفرصة لقبول التحول المستمر، وإمكانية تبادل المواقع.
وكلمة «نقد» في الجاهلية والإسلام مفهوم عام، ومعهود ذهني، ولم تكن مصطلحاً معرفياً، نقل عن «الشعبي» في القرن الأول قوله: «ما شهدت مثلهم أشد تناقداً»، وفي القرن الثاني أخذت الكلمة بعداً أقرب إلى المصطلحية يقول «المفضل الضبي»: «ولا يتميز الصحيح منها أي الأشعار إلا عند عالم ناقد».
واتخذت الكلمة أوفى مدلولها المصطلحي، عند «قدامة بن جعفر» حين اتخذها عنواناً لكتابين: «نقد الشعر» و«نقد النثر». ذلك فيما يتعلق ببروز الكلمة وتطورها الدلالي، وتحولها المصطلحي، أما من حيث التطبيق والنقد، فهو قائم منذ الجاهلية الأولى، ومقاصده: إما توصيلية، أو تفسيرية، أو تقويمية. وفي العصر الحديث تحول النقد إلى معادل إبداعي، وعُرِّف بأنه: فكرة على فكرة، أو أنه: ضمير الضمير، وعند بارت «قول على قول»، والراصدون لتحولاته تعقبوه: مفهوماً ووظيفةً ومجالاً.
2/1 في صدر الإسلام تحول النقد إلى القيم الأخلاقية، وكان ابن الخطاب أكثر الخلفاء اهتماماً بالشعر، وسعياً وراء استقامة الشعراء. وفي العصر الأموي تجاذب النقادَ والشعراءَ همُّ «الأسواق» و«القصور» و«المنتديات»، فغلَّب نقاد القصور ومجالس الخلفاء والأمراء شعرَ المديح. فيما جنح نقاد الأسواق الأدبية إلى الفخر والحماسة والهجاء المقذع. واستقر ذوو المجالس والمنتديات الخاصة على الغزل والنسيب. وفي هذين العصرين تبدى «التحول» من خلال محورين رئيسين تمثلا في «المفاضلات» و«السرقات» وقد استدعيا التقصي اللغوي والمعنوي والقولَ في الطبع والصنعة والبواعث، ومهاد النقد الأهم إضافة إلى المجالس والمنتديات أسواق العرب ك «سوق عكاظ» في الجاهلية والإسلام، و«المربد» في أواخر القرن الأول، وهي كثيرة استوفاها «الأعشى» في «صبحه»، وخصت فيما بعد بكتاب.
ولما جاء الإسلام أخذ «المسجد» دوره في مطارحة الشعر نقده، حتى لقد وضع «لحسان بن ثابت» منبر للإنشاد. وعند الأمويين جاءت «القصور» رافداً أقوى وأشمل، وفيها برز النقاد اللغويون والنحويون وبدت الخصومة بين الشعراء والنحاة، وطرحت قضايا جديدة كالمبالغات والضرورات والوحشيات والمفضليات، ومن مجالس القصور نسلت المجالس والمنتديات، كمجلس «ابن عتيق» و«سكينة بنت الحسين» و«عائشة بنت طلحة». والراصد لتلك المجالس يتقرى تحولات كثيرة، لم تكن معهودة من قبل، وهي تحولات استدعتها المتغيرات السياسية والاجتماعية والدينية.
والرصد المعرفي الحيادي للنقد يرى أنه في بدايته اتسم بالأحكام العامة والجزئية، واعتمد على الذائقة والانطباع، وركز على القيم الدلالية، وفي صدر الإسلام تجلت المواقف من الفن عامة، وهي مواقف تتراوح بين الحل والحرمة والإباحة المنضبطة. كانت البدايات الأولى على يد «أبي عمرو بن العلاء ت 154» الذي قال فيه الفرزدق:
«ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها.. حتى أتيت أبا عمرو بن عمار».
وجاءت أكثر وعياً عند «الأصمعي» و«ابن عتيق»، ولما يبدأ التأصيل النقدي إلا عند «الجمحي» و«بشر بن المعتمر» و«الجاحظ» و«ابن قتيبة» و«ابن المعتز»، ومن التأصيل إلى المنهجية عند «الآمدي» و«الجرجاني»، وفيما بين هؤلاء وأولئك مئات النقاد والعلماء والرواة والموسوعيين والمؤرخين والمترجمين، وآلاف الكتب المشتملة على الدراسة والنقد والشرح والمختارات والرواية والتراجم، وهي في مجملها مرجعيات نقدية ومصادر لدراسة الأدب، والمتعقبون للحركة النقدية تناولوها من خلال ظواهر النقد الإجرائية، تناولوها: قضايا، وشخصيات، وكتب، وتحولات تاريخية. والمثيرون منهم من قعروا رؤيتهم في تأثير «النقد اليوناني»، وفي مباحث الإعجاز البياني للنص القرآني وانعكاسه على الحركة النقدية وفي الموقف من شعر المحدثين.
3/1 لقد كانت حواضر النقد في بداياته الأولى ثلاثاً: الحجاز، والعراق، والشام. وأزمنته الأولى ثلاثة: الجاهلي، والإسلامي، والأموي.
ولاشك أن لكل مكان وزمان تحولاته الساذجة أو الواعية، تجلت فعالية النقد الواعي في محورين رئيسين:
الموازنة بين الشعراء.
والسرقات الشعرية.
ولكل محور مقاييسه العلمية، ففي «الموازنة» نظر النقد إلى مرونة الموهبة واقتدارها المتكافئ في الأغراض، وفي النسيج الشعري المتناسق، وفي مغالبة الأنموذج الشعري، كما نظر إلى مقياس السيرورة وعمق المعاني، ولما يطلق النقاد الموازنة، بل قيدوها بعدد من الوحدات: الزمانية والموضوعية والنوعية، وأقام النقد موازينه على الابتكار والصدق والأخلاق والتلازم، ولعبت الثنائيات دوراً هاماً: ك«الغموض والوضوح»، و«الصدق والكذب» و«القصر والطول».
وألمح النقد إلى قضايا فنية تتعلق بالوزن والقافية والصورة، وقضايا نحوية ولغوية، ولما تكن نظرة النقد إلى قضية «السرقات» بأقل من نظرته إلى «الموازنات». جاء بعض هذا في القرن الأول ومستهل القرن الثاني. ومستجدات قضايا الموازنات والسرقات تعد تحولات عربية خالصة العروبة، إذ لم يكن الإسلام قد انتشر، ولما يتمكن الأدباء والنقاد من استيعاب ما عند الحضارات التي امتدت إليها الفتوحات الإسلامية، وهي تحولات تنبئ عن استعداد ذاتي للإنتاج والتفاعل والاستيعاب والندية، ولا يستبين الراصد مدى القدرة المتميزة عند الناقد العربي إلا إذا نظر إلى أبعاد النقد في الجاهلية ومنجزاته في القرن الأول ومستهل القرن الثاني، وهي تحولات واعية، أخذت بأطراف الفن ومكوناته، وكل فترة زمنية كرست متطلباتها الذوقية والموضوعية، ولم تسبق الطاقة الاستيعابية، ولا القدرة الإبداعية، ولم تكن عند النقاد خلاف ما هي عليه عند الشعراء، فالشعر الحقيقي هو المستجيب لحاجة الأمة.
4/1 استهل القرن الثالث بصحيفة «بشر بن المعتمر ت 210» التي تحدث فيها عن تصوره للأدب واستعداد الأديب وأحوال المخاطبة والأصول التي تجب مراعاتها، والصحيفة أميل إلى البلاغة منها إلى النقد. يليه «الأصمعي ت 216» الذي جنح إلى النقد اللغوي، وإذا كان الأصمعي قد طرح مصطلح «الفحولة» فإن ابن سلام طرح مصطلح «الطبقات» فيما طرح «الجاحظ 255» مصطلح «اللفظ والمعنى» ويأتي «ابن قتيبة ت 276» رافضاً المقياس الزمني المسيطر، ملخصاً رؤى النقاد من قبله، مرتبطاً بالنص من حيث حدوثه، لا من حيث انتماؤه: زماناً أو مكاناً أو ذاتاً، ومنشأ الخلاف ما استجد من شعر المحدثين ك«أبي نواس» و«بشار»، وفي هذا القرن بدأ الطرح المصطلحي الذي واكب القرون اللاحقة.
5/1 وفي القرن الرابع بدت التحولات الواعية في كتاب «الزينة» للرازي، و«التشبيهات» لابن أبي عون و«البرهان» لابن وهب و«الموازنة» للآمدي و«المصون» لأبي أحمد العسكري و«الصناعتين» لأبي هلال العسكري و«الوساطة» للجرجاني و«نقد الشعر» لقدامة، فيما اكتشف أن «نقد النثر» مستل من «البرهان» لابن وهب و«عيار الشعر» لابن طباطبا و«الموشح» للمرزباني و«الأشباه والنظائر» للخالديين. إضافة إلى كتب الإعجاز البياني للقرآن عند الأشاعرة والمعتزلة، وترجمات كتاب الشعر لأرسطو، والموسوعات كالأغاني، وكتب اللغة والفلسفة، وبخاصة إخوان الصفاء، وكتب النحو والصرف، وشراح الدواوين على اختلاف اهتماماتهم، وكتب السرقات والمثالب. وهذه الدراسات والموسوعات أسست لحركة نقدية واعية، ف«الجرجاني» في وساطته تقمص شخصية القاضي لفض المنازعات الفنية والدلالية، و«الخالديان» جليا نظرية التناص تطبيقاً، و«قدامة» مثل الرؤية المقارنة والتأثر الواعي، وهي مرتبطة بتحولات الإبداع الشعري، كما هو عند «أبي تمام» الذي نشأت في ظل تحولاته مذاهب نقدية، حتى لقد فجر شعره مواهب النقاد، ولا يقل «البحتري» عنه في استثارتهم.
6/1 أما في القرن الخامس فقد أسهمت تحولات الشعر وتحيزات النقاد في تفجير أزمات حادة في النقد، تولى كبر ذلك شعر «المتنبي» ولربما كان للفجوة بين تحولات الذائقة الشعبية وثبات المعيارية النقدية سبب أكبر في تأزيم حركة النقد، والشعراء الذين وعوا التحولات العامة، واستجابوا لرغباتها، حفزوا الحركة النقدية على ممارسة العنف النقدي، فظهرت كتب السرقات والمساوئ والرسائل الموضحة، ولقد وجد النقاد أنفسهم بين تحولات الذوائق وثبات المعايير، الأمر الذي حدا بالأكثرين منهم إلى سرعة التغيير، واحتدمت المعارك النقدية حول «القديم والجديد» وكان «المتنبي» محور التنازع، والمعارك بلا شك امتداد لما دار من جدل حول «أبي تمام» و«البحتري» ومن قبلهما «أبي نواس» و«بشار بن برد» ولكنها جاءت مع المتنبي بشكل لم يعهد له نظير، لا في الماضي ولا في الحاضر، ولمَّا يزل المتنبي مجالاً خصباً للتحولات النقدية.
وجاء شعره أكثر شيء جدلاً، إذ لم يكن المتجادلون توصيليين وحسب بقدر ما كانوا مؤصلين لتحولات المتنبي اللفظية والمعنوية. والتمحور حول شعر المتنبي أفرز ثلاث فئات من النقاد: أنصاراً وخصوماً وموازنين بينهما، وظهرت قضية نقدية، تمثلت في الموقف الإسلامي من التجاوزات الدلالية، وتحرر في أثنائها مصطلح «النقد الأخلاقي».
فالقاضي الجرجاني يرى «أن الديانة ليست عياراً على الشعراء» فيما يرى «الثعالبي» أن «للإسلام حقه» ولم يتقيد بهذا المفهوم في الاختيار «لليتيمة»، وفيما مضى تداول النقاد مقولة: «الشعر بمعزل عن الدين»، وقد تأزمت بسبب فهم المقولة على غير مراد القائل.
وظاهرة أخرى تناولها النقاد، وهي «البداوة» و«التحضر» في الأداء والشرح، وعند أصحاب المختارات، وأحسبها وليدة التخوف من شعر المحدثين.
و«شعر المتنبي» و«قضية الإعجاز» من أهم مضامير اللزز النقدي، لقد وضع شعر المتنبي، ومن قبله أبو تمام والبحتري حداً فاصلاً لمفهوم التحول، ولكن كل صيد النقد وعته الخصومة حول شعر المتنبي، والمتعقبون لها لما يتأملوا الرؤى والتصورات، ولم يربطوا ما وصلوا إليه بما هو قائم من قضايا النقد، ولما يزل المتنبي يتمتع بفيوض من القضايا والظواهر التي لو أخذت من أطرافها بوعي لأعادت المعركة جذعة، وربطت النقد بالجذور النقدية العربية التي استدبرها النقاد المعاصرون، تحت وطأة الطوارئ غير العربية. ولن يفوتنا ونحن بصدد تحولات النقد في القرن الخامس اكتمال نظرية «عمود الشعر» على يد المرزوقي، ولا شك أنه محصلة واعية لمنجزات من سبقه من النقاد، كابن قتيبة، وابن طباطبا، وقدامة، والجرجاني والآمدي، وابن فارس، ودقة منهجه مكنته من الاستفادة الحذرة، حيث حصر عمودية الشعر «بالشرف، والجزالة، والإصابة، والمقاربة، والالتحام، والمناسبة، والمشاكلة» وفوق ذلك أشار إلى معايير العمودية. ولن نغفل تحولات أخرى لعل من أهمها «فلسفة النقد» على يد «ابن سيناء». ففي مقدمة «فن الشعر» وفي «الشفاء» تنظير نقدي أقرب إلى المنطق.
فمن تحرير الفن «بعمودية الشعر» عند المرزوقي إلى «فلسفة النقد» عند ابن سينا، ومنهما إلى الذروة عند «الجرجاني» ونظرية «النظم» ثم إلى خلط الأوراق عند «القرطاجني» بدرت تحولات جذرية، غيرت مفاهيم النقد، وإذا كان «البنائيون» اهتموا بالعلامة والعلاقة فإن الجرجاني سبق أولئك، حين نفى أن يكون «للفظة» في ذاتها وانفرادها من تفاضل، والحكم عليها حين تدخل في السياق. ومع أنني أعي كم هو الفرق بين «البنيوية» و«نظرية النظم» إلا أن رؤية «الجرجاني» تحول في الحركة النقدية، لم يُلتفت إليها بالقدر المناسب لها، كمبادرة عبقرية، أقامت وزناً للعلاقات والأنساق، وهي التي تداولها النصوصيون والبنيويون والألسنيون، ومع التوافق
الإجرائي فإن هناك تفاوتاً في الجذور والمآلات، فالبنيوية عبر رحلتها من حقلها الفلسفي بوصفه الأصل إلى الحقل اللغوي، ثم إلى سائر الحقول النقدية والاجتماعية منيت بتحولات في المفهومية والمقتضى، ليس لنظرية النظم شيء منها. ولا شك أن القرن الخامس من أخصب القرون وأحفلها بالتحولات: اللغوية، والدلالية، والفنية، والشكلية، والنفسية.
والناقد الحداثي «جابر عصفور» تناول التحولات في النقد التراثي من خلال ثلاثة أعلام «ابن طباطبا» و«قدامة بن جعفر» و«حازم القرطاجني» حيث تشكل المفهوم الشعري عند ابن طباطبا، وتحدد علم الشعر عند قدامة، وتكامل المفهوم عند القرطاجني، وتمثل هذه المواقف تحولات واعية وجذرية، وقراءة عصفور للتراث عبر ثلاثة كتب قراءة واعية وعميقة، وليست بأوعى من قراءة «محمد مندور».
وعصفور في مجمل استعراضه للتحولات النقدية التراثية يرى الترابط الوثيق بين مجمل النصوص النقدية «فالتراث النقدي عنده لا يمكن أن نقرأه في عزلة عن غيره من النصوص» لأن التراث «وحدة سياقية واحدة» داخل وحدة سياقية أوسع هي التراث. وفيما حررت قراءة «مندور» منهجية النقد العربي، اتجهت قراءة «عصفور» صوب الوعي النقدي التراثي لخصوصية الفن، وقد تناولت من قبل «ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة» في مجال اللغة وفي مصطلح، «الشكل»، وفي مجال «الصورة الشعرية»، وفي مجال «التفسير النفسي» ووقفت على مبادرات تراثية، لا يستهان بها، وإن عدلت فيما بعد عن بعض ما قررت من نتائج.
7/1 وبعد القرن الخامس دخلت أقاليم جديدة في حركة التحولات النقدية تمثلت في «القيروان» و«الأندلس» بعد أن كانت متألقة «في الشام» و«العراق» و«مصر» وليس من شك أن الحركة النقدية في الأقاليم امتداد للحركة النقدية الأم، وإن كانت هناك تحولات عند «ابن خفاجة ت 533» في مقدمة ديوانه، وعند «ابن بسام ت 542» في الذخيرة، وعند «الكلاعي»، وإذا كان «ابن سينا» و«الفارابي» قد توليا طرفاً من التحول الفلسفي للنقد في المشرق العربي، فإن «ابن رشد ت 595» قد عرف الأندلسيين بكتاب «الشعر» لأرسطو، وأعطى النقد بعداً فلسفياً لا أحسبه يماثل ما توصل إليه المشارقة، وقد لوحظ عليه سوء الفهم للمصطلحات الواردة في الكتاب، ولكنه استطاع أن يسهم في تحولات كثيرة.
وفيما بين القرن السابع وعصر النهضة لم تكن هناك تحولات، وإنما هي مراوحة بين الثبات والارتداد والإغراق في المعيارية البلاغية، ويجب أن نلمح إلى أن النقد سار جنباً إلى جنب مع البلاغة، ولما يستحضر العلماء والنقاد أن النحو والصرف والبلاغة وعلم اللغة آليات نقدية، وليست غاية في نفسها ، ولو أتيح الدمج بين الآلية والمنهج لكان للحركة النقدية شأن خطير. هذه إلماحات لا تحرض على الارتداد للماضي، ولكنها تود استصحابه وتلقي فيوض المستجدات لإثراء الحركة النقدية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:30 AM   #243
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تحولات النقد الأدبي 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


1/2 ذلكم حديث مقتضب عن تحولات النقد القديم، وهي تحولات فرضتها المتغيرات العلمية والاجتماعية المحلية، وانتجتها الإرادة المستقلة، وأضفت عليها جهود المفسرين اللغويين وشرّاح الدواوين المهتمين بالفن واللفظ ما اكتشفته محاولاتهم المذهبية المتعصبة، أو تخصصاتهم النحوية والصرفية والبلاغية المعمقة، اضافة إلى تعالق البعض بما أفاء الله به على المسلمين من فيوض الحضارات، وبخاصة ما يتعلق بالنقد عند اليونان. وإذا كانت هناك ردة فعل غير عنيفة ازاء تحولات النقد على ضوء ما جاء في «كتاب الشعر» و«الخطابة» لأرسطو، فإن هنا ما يماثلها في مستهل العصر الحديث. فعندما بدت بوادر «حملة نابليون» علمياً وأدبياً ومسرحياً، أحست طائفة من الأدباء بالتحدي، فنهضوا لاستعادة التراث، وتكريس معارفه. تمثّل ذلك في مجال النقد بكتاب «الوسيلة الأدبية» للمرصفي، وفي مجال الشعر عند «البارودي» في ابداعه ومختاراته.
وإذا كان «حسين المرصفي 1890م» و«حمزة فتح الله ت 1918م» يمثلان بدايات الاحيائيين في مجال النقد، فإن «المويلحي 1930» و«سيد علي المرصفي ت 1931م» يشكلان استمرارية الهم الاحيائي، ولكنه هم لم ينج من دخن النقد الأوربي والأمريكي الذي استوى على سوقه عند «مدرسة الديوان» و«جماعة أبوللو»، وكان تواصل كل الأطراف مع «المهجرين» مؤذناً بتحولات جذرية في الحركة النقدية، يضاف إلى جهود المدرستين جهود فردية ليست بأقل أثراً، ف«طه حسين» لم يكن منتميا لاحدى المدرستين، ومثلة «أحمد ضيف» و«محمد مندور» و«روحي الخالدي»، والثلاثة الأُول يمثلون «اللانسونية» في نزوعها التاريخي القائم على الأخذ بالروح العلمية والمزج بين الذوق والمعرفة، وإن جنح «مندور» إلى الواقعية الاشتراكية، واضعاً أسس النقد الماركسي، فيما جنح «الخالدي» إلى المنهج المقارن.
والذين تلقفوا تحولات النقد الماركسي زامنهم آخرون تلقفوا فيوض النقد الانجليزي، الذي عبر إلى المشرق العربي من خلال استيعاب النقاد المعاصرين لأطروحات «صمويل كولردج ت 1834» و«زورث ت 1850» و«هازلت ت 1830» و«بيرسي شيلي ت 1822» وعند هؤلاء تغير مفهوم الشعر ووظيفته وعناصره ولغته وخياله وشكل القصيدة. وكل هذه الرؤى تشكِّل بدايات للتحولات الجذرية المقبولة إلى حدّ «ما» لأنها تؤسس للنقد الحديث.
2/2 ورواد النقد المعاصر ومؤسسوه يختلفون عن جيل الانطلاق، إذ يتفاوتون في استبطانهم للتراث وتمكنهم من المستجد، فالمؤسسون استقبلوا فيوض الطوارئ، وهم متضلعون من التراث، فيما لم تستخف الرواد، بوارق التجديد، ولكنها أضافت إلى معارفهم معارف، فكانوا الأقدر على وعي الطوارئ، وفهم مناحيه، والأمكن في التأسيس لحركة نقدية متفاعلة. أما الذين استخفهم المستجد، واستزلتهم مغرياته فهم الذين استقبلوا فيوضه، وهم فارغون من التراث، وأولئك لم يقدروا على فهمه، ولا على استثماره.
وأمام فيوض المستجدات ظهرت ثلاث فئات:
المشايعون.
والهاربون.
والمتفاعلون.
ولكل موقف دركاته ودرجاته، فمن «المشايعين» من هو على شيء من التراث، وعلى شيء من الاقتدار، غير أن هذه الطائفة فضّلت المشايعة على التفاعل، وتجنت على الموروث. ومنهم من هو خالي الوفاض من التراث، وليس بقادر على استيعاب المستجد، وهذه الفئة تصدق عليها مقولة الناقد الفرنسي «تيبوديه» «النقد الحركي» المعتمد على الجدل العنيف الذي يقوده شباب ينطوون على رؤى غير أصيلة، فيها فجاجة وافتعال. وآخرون تلقوا فيوض المذاهب الغربية بلغاتها، وبعض هؤلاء أغرقوا في الاستغراب والتجني على التراث، وليس من شك أن طائفة منهم قدمت رؤية سليمة عما أخذت به من المذاهب الجديدة، ووفرت مناهج وآليات مفيدة، ولفتت الأنظار إلى قضايا مهمة، ولكنها أمعنت في الاغتراب. وبعض تحولات «المشايعين» استغرابية، لا تستجيب للذوائق، ولا تنهض بالحوائج، وغالب منجزها غربي جاء بلسان عربي ذي عوج وغير مبين، حتى لقد نفى بعض المستشرقين اهتمامه بالأدب العربي الحديث، لكونه أشبه بالبضاعة التي رُدت لأصحابها، لأن ما تكتبه هذه النوعية نقل مترجم. ويبلغ الاستغراب حده بالمشايعين الذين يعتمدون على المترجمات، ممن لا يحسنون اللغات، ولا يقرؤون النظريات بلغاتها الأصلية، وهم نقاد الصحافة.
أما «الهاربون» إلى التراث، المحتمون به، المنقبون في بطونه عن البدائل، فهم الراحلون إليه في أزمنته، وليسوا الراحلين به إلى أزمنتهم، وهؤلاء يصادمون سنة الحياة القائمة على التحول المستمر، وهم بهروبهم الوجل لا يحسنون خدمة التراث، ولا يجيدون التفاعل مع المستجد، و«المشايعون» و«الهاربون» يسيئون ولا يحسنون، ولأن معطيات العصر مؤثرة ونافذة فإن رفضها سيجعل من المتأبي منتمياً إلى عالم قديم، واقعاً تحت تأثير عالم حديث، وفي هذا الوضع تستشري ظاهرة التمزق، وتلك سمة تمنع الافادة والاستفادة. وأما «المتفاعلون» فكالغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، وقد بدت بوادرهم في الأربعينيات والخمسينيات عند من وقفوا على مستجد الغرب، واستوعبوه، من أمثال «زكي مبارك» و«محمد غنيمي هلال»، بوصفهم مؤسسين للتطبيق والتنظير، وعلى أثرهم جاء «عز الدين اسماعيل» و«محمد عبدالمطلب» وآخرون ممن وفروا شيئاً من التوازن، وإن جنح بعضهم إلى الاغراق في الاستغراب، ولكنه اغراق المقتدر. وكل هذه المستويات لها وعليها، وتحولاتها ليست خالصة الاستجابة، ولكنها متفاوتة في الأهمية والمشروعية.
ومع حضور هذه الفئات الثلاث وإلحاحها في تكريس الوجود، فإننا وفي ظل واقعنا أحوج ما نكون إلى الاستشراف والتلقي، وليس من حقنا التخلي عما نمتلك من تراث عريق وعميق وصالح للاسترجاع والتفعيل. كما أنه ليس من مصلحتنا أن نزور عما تفيض به الحضارات من حولنا. والراصدون بوعي يدركون أن هناك فرقاً شاسعاً بين التفاعل الواعي مع المستجد والاستسلام الطوعي المستخذي له، والذين يخلطون بين المفاهيم، إما أن يكونوا أغبياء أو متغابين. واشكالية المفهوم كنافق اليرابيع لكل من أعوزته الحجة وألجمه الدليل، ومع أن اختلاف المفاهيم قضية أزلية، إلا أن التعويل عليها لشرعنة التناقض مخل بالأهلية.
3/2 وإذا كنا نؤمن بمبدأ اختلاف المفاهيم، فإننا في الوقت نفسه لا نذهب مع الذين لا يضعون حداً لهذا الاختلاف. فمصطلح «الحداثة» مثلاً يراه البعض تجديداً فنياً، فيما يراه آخرون حيدة فكرية، هذا اختلاف حول فهم المقتضى يتسع له المصطلح من خلال مدلوله الوضعي، غير أن هناك مدلولاً اصطلاحياً تجاوز المدلول الوضعي، وأعطى مفهوماً تواضعياً. والحداثة بهذا التواضع مرفوضة، فيما هي مقبولة في تصورها من خلال الدلالة الوضعية، ولو أن المختلفين فضوا النزاع المفهوم، بحيث يباشر كل واحد تحديد مفهوم المصطلح عنده، لما وقعوا في الاختلاف، ولما امتد اختلافهم إلى التشكيك في الفكر والانتماء. على أن مجرد القول بالتجديد وحده لا يكفي، متى كانت الوثائق منسجمة مع حداثة الفكر.
وقولنا عن مصطلح «الحداثة» مجرد مثل نظر به، للتدليل على الخلاف الممكن تلافيه. واستعراض التحولات النقدية في القرون الأولى يمكن استيعابها، إذ هي تحولات بطيئة واستجابية، فالمشهد يتفاعل من داخله وبأيدي نقاده الذين تحركهم الحاجة، وتوجههم البراعة الذاتية، أما مشاهد النقد الحديث فمختلفة جداً، لأنها في الغالب مسيرة لا مخيرة، ومحكومة لا مستقلة، وسريعة لا متأنية، ونقادها متلقون لا منتجون. كما أن المشهد النقدي عربياً واقليمياً لا يتوفر على ثقة بالنفس، والمتابع لحاضره يدرك أن واقعه غير مستقر، وغير عربي، فأجسام ذويه في المشرق، وأدمغتهم في المغرب، وجمهور الدارسين في الغرب يعودون برسائله إلينا، ولا يبلغون رسائلنا إليه، فهم عون له على الأمة لا عون لها عليه، على الرغم من قدرة الموروث، وتوفره على آليات ومذاهب قابلة للاستيعاب والتحول الطوعي، ولن يكون ما يحققه دون ما أنجزته التبعية المستحكمة المرتبطة بتحولات قسرية ليست من عند أنفسنا. ولن نحقق فاعلية متميزة حتى نسترجع ما للتراث من حقوق مهدورة، إذ لم يكن عقيماً ولا سكونياً ولا منغلقاً، ولو أحسنا الدمج بين الآليات والمناهج لكنا متوفرين على حركة نقدية لغوية وفنية لا تنازع، وإذ يملك التراث النقدي القدرة على التفاعل والاستيعاب فإن من الجنايات الاستغناء عنه. وما نتطلع إليه لا يحول دون استقبال المستجد، والتفاعل معه، وصبغه بالصبغة العربية التي تحد من الهيمنة. ولو عدنا إلى قراءة تراثنا لاستطعنا اكتشاف كوامنه، ولكن طائفة من المنفعلين لا الفاعلين ولت الأدبار مستقبلة فيوض الآخر. ولو أنهم حين استقبلوا المناهج اللغوية الغربية حانت منهم التفاتة إلى «نظرية اللغة في النقد العربي»، واستعادوا فيوض القول عن «نظرية النظم» لكان بالإمكان تأسيس نظرية نقدية لغوية لا تنازع.
إن نقدنا الحديث غربي بلا ذات، كوصف «ريكور» الدارس «لشتراوس» بأنه «كانتيٌّ بلات ذات» والاشكالية التي لم يدرك خطورتها الأكثرون تعالقاً مع المستجد جهلهم أو تجاهلهم ارتباط المنهج بفكر الحضارة المنتجة، ودعوى تفريغ المناهج من محتواها تعذير وتبرير مردود. ومما يزيد الاشكالية تعقيداً «تسييس» الأدب و«أدلجته» و«التزامه الفكري»، وهذه الصيرورة مع ما تنطوي عليه من مزالق تقلل من فنية الفن. والمنهج النقدي الحديث مواكب لمهمات الأدب ورسالته في الحياة، ولأن الفلسفة الطاغية مادية بحتة، وهي جذر لكل المذاهب والمناهج فإن ذلك مؤذن بارتباط التحولات النقدية بالجذوز الفلسفية، والمشايعون «للبنيوية» على سبيل المثال لا يعرفون جذورها الفلسفية، وتخطيها من الفلسفة إلى اللغة، ومن اللغة إلى علم الاجتماع، ومنه إلى النقد، وشيوعها في كل العلوم لا يُخلصها من دخن الفلسفة المادية التي أنشئت لتكريس مقاصدها، وبعض مدعيها أخفقوا في الفهم وخذلهم الاجراء.
4/2 وعلى ضوء ذلك يظل المنهج النقدي مرتبطاً بطبيعة الفكر المنتج، ولكل منهج نظرية، وتحولات «نظرية الأدب» لا يمكن أن تكون في العصر الحديث كما هي في القرون الأولى، ذلك أنها في عصور الازدهار عربية إسلامية خالصة، وهي في العصر الحديث غربية النظرية والمنهج، ولما يكن التحول طبيعياً في ظل الاستعارة غير الواعية والجلب غير الحصيف. والمخل بأهلية التحولات النقدية ارتباطها بالخطاب السياسي الإعلامي، فالمد الماركسي إعلامي، ولما تتجذر مبادئه الفلسفية في الذهنية العامة، والمد الشيوعي الذي احتنك ذرية النقد الأدبي طرح الحتمية التاريخية. والمنهج التاريخي المتداول ذو انتماءات متباينة.
لقد استهل النقد الحديث مشروعه في الدرس التاريخي، وتصور التاريخية لا يبعد النجعة، فالتراث يلم بالتاريخية التي قد لا تتسع للتكوينية ولا للحتمية، والاشتغال بمنتج النص يشكِّل تحولاً نسبياً، فالتراث حفل بشيء من ذلك، وجاءت على النقيض «نظرية المنهج الشكلي». الذي مرَّ بتحولات وتنقلات «قارية» و«لغوية» و«فكرية»، يستحيل تقصيها، ولكنها مرّت بحالات من الوضوح والاستقرار النسبي، استطاع معها المتابعون أن يتعرفوا على ظواهرها.
والمشهد النقدي الحديث تتردد فيه مصطلحات وشخصيات وكتب، تشكِّل مذاهب ونظريات ومناهج وآليات، وتمثل أقصى حد لحمَّى التحول، نسمع ب«سوسير» و«لوي هلمسيلف» و«جاكبسون» و«نعوم تشومسكي» و«لاكان» و«بروب» و«تودوروف» و«دريدا» و«رولان بارت» و«سارتر» و«بيير مورو» و«جاستون باشلار» و«سانت بيف» و«بروست»، و«ماثيو آرنولد» و«ريتشاردز» و«أليوت» و«أدموند ولسون» و«أوستن» و«ويليك». ونسمع بنظريات وتحولات وبعديات وما ورائيات ومترادفات مصطلحية «بنيوية» «حداثة» «ما بعد الحداثة» «ما بعد البنيوية» «السنية» «نصوصية» «تكوينية» «تحويلية» «تفكيكية» «تشريحية» «تقويضية» «شكلانية» «أسلوبية» «شعرية» «نسقية» «سياقية» و«سيمولوجية»، ولعل كتباً كثيرة كانت الأكثر حضوراً وتداولاً، مثل كتب «سارتر» وبخاصة «ما الأدب» و«درجة الصفر في الكتابة» ل«بارت» و« ما هو الفن» ل«تولستوي» و«مبادئ النقد الأدبي» لريتشاردز و«قلعة آكسل» لأدموند ولسون. ولعل «جاكوبسون» الأقدر على بلورة مفهوم «الشعرية» و«الأدبية» فهو القائل:« إن موضوع علم الأدب ليس الآداب، وإنما هو أدبيته» ويعني العناصر التي تجعل من عمل «ما» عملاً أدبياً. وبهذا بدأت التحولات اللسانية بوصفها علماً يهتم بالشعرية.
وعن تحولات النقد الغربي خلال القرن العشرين جاء «جان إيف تادييه» ليجملها في كتابه «النقد الأدبي في القرن العشرين» حيث تناول:
الشكلانية الروسية.
النقد الألماني.
نقد «الوعي» و«الخيال».
النقد التحليلي النفسي.
سوسيولوجية الأدب.
اللسانيات
السيمبائية «علم العلامات».
الشعرية.
النقد التكويني.
وتحت كل عنوان تحولات كثيرة، لا مجال للاشارة إليها، لأنها تشبه البحر اللجي، ولو أشرنا فقط إلى غنوصية «التفكيكية» لطالت علينا الشقة.
والتحول إلى «التفكيكية» كما هي عند «دريدا» ركون إلى الاعتقاد بوجود مدلول متعال، خارج حدود اللغة، وذلك اغراق في العدمية، وقد اتهمت «التفكيكية» بالتدمير والاستفزاز، حتى لقد قال «ملر»: «إن العدمية لقب للتفكيك» فيما يرى غيره أنها قراءة حميمية للنصوص، وتلك حلقة في سلسلة أنماط «قراءة النص» التي يلهث وراءها من حمل المعرفة ومن لم يحملها.
5/2 والتحولات التي طالت المشهد النقدي، قد لا يكون لها أدنى أثر في العملية الابداعية، ومن سلبيات الحركة النقدية تفاوت سرعتها مع الحركة الابداعية، فالتحول النقدي سريع الايقاع، أما التحول الابداعي فبطيء الايقاع، وكما تنفصل المثالية المتعالية عن الواقعية المتدنية، ثم لا يكون أدنى حد من التفاعل، تنفصل تحولات النقد السريعة عن استجابات الابداع، ثم لا يكون تفاعل ولا استفادة. والمتابع الحصيف يستبين الفجوة بين التنظير والتطبيق النقديين، ومحاولة تجسير الفجوة يوقع بعض النقاد في التمحل والادعاء، بحيث يحمِّلون النصوص ما لا تحتمل. والأسوأ من ذلك تطبق آليات النقد الحديث ومناهجه على الشعر العربي القديم، بحيث يكره النقاد النصوص الجاهلية أو العباسية على أن تتسع لدلالات أو تتجلى ببناء أو بشكل يحقق مفاهيم مصطلحية جديدة، وذلك إكراه يكشف عن تمحل لا مكان له، كما فعل «كمال أبو ديب» مع الشعر الجاهلي، وكما قرأ غيره نصوصاً ابداعية قديمة بأنماط قرائية حديثة، تبدت فيها العجائب وفات المندفعين ان شرط القراءة قابلية النص.
وفي اطار التحولات الأيديولوجية التعسفية نظر نقاد «المنهج التاريخي» وفق الرؤية «الماركسية» الرؤية «اللانسونية» إلى «الحتمية التاريخية» في العملية الابداعية، ومن ثم امتدت رؤيتهم إلى الحركة النقدية، فالحياة البشرية عندهم مراحل متوالية مرتبطة بالمادة، وهذا اقصاء للمثاليات والغيبيات والفكر الديني في تشكل الابداع، والجبرية التاريخية فرضت تحولات، وطرحت رهانات وأقرت نتائج مسبقة، والنقاد الماركسيون العرب ك«العالم» و«مروه» مارسوا التحولات وفق الرؤية الماركسية، فهم يرون حتمية التطور التاريخي نحو الماركسية.
لقد واكب المنهج التاريخي الماركسي منهج آخر تمثّل «بالوجودية» هذه النظرية تربط الابداع بالواقع، وتنظر إلى تحولاته، وقد ركز الوجوديون على محورين: «الحرية» و«المسؤولية». ومن هذين المحورين نفذ الفساد في أرض الأدب: إبداعاً ونقداً، وبدت التحولات غير المسؤولة، فمحور «المسؤولية» لا يعني «المسؤولية» الغيرية، بل يعني المسؤولية «الذاتية» فأنت بوصفك الفردي مسؤول عن نفسك، إذاً أنت المشرع لها، لا سلطة سابقة ولا قائمة و«الحرية» و«المسؤولية» أمدتا الفكر الحداثي بفساد كبير، لما تزل الأمة المسلمة تتجرع نتائجه، ولا تكاد تسيغها، وهذه الترديات الأخلاقية والفكرية والفنية تتوسل ب«الحرية» و«المسؤولية» وفق الرؤية «الوجودية» التي تقمصها الحداثيون، فأوغلوا في الرذيلة والانقطاع. وبتجاوز اشكالية «الأدلجة» وهيمنة فكر المنتج لا المضيف تقوم اشكالية أخرى، وهي ميل البعض إلى «انسانية الفكر» المفضي إلى اللامنتمي، بحيث كان الطريق القاصد إلى «نوبل».
6/2 والنظرية التاريخية بكل مستوياتها أرهص لها ناقدان كبيران هما:
د / طه حسين.
د/ محمد مندور.
ارتبط الأول ب«تين» فيما ارتبط الثاني ب«لانسون» ولكل واحد منهما رؤيته، ولكن نقاداً تابعين انحرفوا بالتاريخية عن مسارها، وأوغلوا في الماركسية والوجودية، بحيث أخذوا من الأولى إلحادها، ومن الثانية غثائيتها وعبثيتها، وجاءت أعمال ابداعية: شعرية وسردية مشتملة على رؤى تلفيقية متعددة، تكشَّف عوارها فيما بعد عند أساطين الحداثة، وتلك تحولات دركية أخلت بالقيم والثوابت، وانفصلت عن المجتمع المنتمي لحضارة مغايرة ومرجعية مغايرة. وفيما بين هذا وذاك أوغل النقاد في «المعرفة النقدية» تحامياً عن الذوقية والانطباعية، ووقعوا في تخشب المعايير، وعلمية النتائج، مما عطّل لغة الفن.
والقول بعلمية النقد والإيغال في المعيارية والكم الاحصائي عرّض المشهد النقدي لمآزق كثيرة:
مأزق الحيدة بالفن عن فنيته.
ومأزق المعرفية التي قد لا تتوفر للناقد.
ومأزق تداخل المنظومات المعرفية الثبوتية بالمنظومات الأدبية والتاريخية التحولية. وهي مآزق تعرض لها النقد العربي ظلماً وعدواناً، فالنقد العربي القديم بفنياته وآلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية يمتلك تميّزه عن غيره من العلوم.
لقد كنا نعايش تحولات داخل النظرية النقدية، ولكننا بفعل التبعية والمسخ وقعنا في استبدالات وتحولات داخل الظاهرة النقدية، وقد بسطت الحديث عن هذه الظاهرة في سلسلة مقالات عن «النقد الثقافي: البديل أو الرديف» والذي نشرت منه حتى الآن ثلاث عشرة حقلة، ولسنا بحاجة إلى استعادة «التقليعات» المخلة بالأهلية.
واشكالية المشاهد تستحكم بتدافع الشباب، وتزاحمهم على المستجدات، والتفاني في نشر الأفكار والرؤى الفجة المفتعلة، ثم افتعال المعارك والجدل العنيف العقيم في آن حول قضايا لم تؤصل، ولم تستقر، وملاذ الثائرين على السوائد: اما علم اللغة الحديث أو علم النفس أو الفلسفة أو علم الاجتماع. ولما تزل المشاهد النقدية تتلقى وابلاً من التحولات المذهبية والفنية، فبعد ان خبت ضجة المناهج التاريخية والاجتماعية والفنية، والماركسية والنفسية والواقعية، تلتها «البنيوية» التي أفضت إلى «بعدياتها»، وتحولاتها: كالأسلوبية، والسيميولوجية، والتفكيكية، والشكلية العضوية، والنقد الأسطوري، والنقد الجمالي، ثم جاءت تحولات في التلقي والقراءة والتأويل. وها نحن اليوم أمام «علم النص» و«النقد الثقافي» و«الكتابة» و«الجنائزيات»، وسنظل وراء البروق الخلَّب، وسرابيات الأدعياء، ولن ينقذ الحركة النقدية إلا التأصيل المعرفي والتأسيس لحركة نقدية عربية متفاعلة مع المستجد، وليست مستهلكة له.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:30 AM   #244
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الموقف من الإنسان والأشياء في العمليات الأمنية..!
د. حسن بن فهد الهويمل


المجتمع المدني المتحضر يتطلب رجل أمن تتكافأ إمكانياته المعرفية والأخلاقية والإجرائية مع إمكانيات الشرائح المجتمعية التي يتعامل معها، ومع المثمنات المادية المتنوعة والمتعددة والمعقدة في كثير من الأحيان، والأكثر خطورة إزاء العوارض حتى يتعامل معها في هدم أو حريق، ومتى سوِّيت الفجوة بين المرتكزات الثلاث:
* الإنسان.
* الأشياء.
* الموقف.
نجحت العملية الأمنية، وتفادى المسؤول أيَّ سلبية محتملة الوقوع، ومتى اتسعت الفجوة بين رجل الأمن وشرائح المجتمع ومثمناته، تفاقمت عملية الاتصال، وأدت الممارسات الى تصعيد لمشاكل، تتنامى مع الزمن، لتضع الجهاز الأمني في حرج، وبدل أن يقضي على جيوب المشاكل، يعمق بفعله بؤر التوتر والحساسيات، ويشكك بالثقة، ومتى فقدت الثقة تعطلت كل الفعاليات، ولهذا لابد من خلق أجواء ملائمة، تمكن رجل الأمن من زرع الثقة في الأنفس: ثقة في الإمكانيات، وثقة في الأخلاقيات، وثقة في سلامة الإجراء، وثقة في الكفاءة الذاتية، وروافد الثقة الثلاثية:
* الإمكانيات.
* الأخلاقيات
* والإجراءات.
ليس من السهل التوفر عليها بالقدر الكافي، ذلك أن إعداد الكوادر البشرية المؤهلة للاضطلاع بالمهمة الأمنية لا يمكن أن تتأتى بسهولة، إذ هناك عوائق غير مقدور على تذليلها، قد تتعلق بالإمكانيات المادية، او بعدم التكافؤ بين رقعة الخدمات وتعدد مستوياتها من جهة ورجل الأمن الميداني المباشر، وقد تتعلق بالإمكانيات الآلية كمّاً وكيفاً، إذ إن مباشرة الحدث لا يكون بالضرورة من رجل أمن مؤهل بالمعرفة والخبرة، وعمليات التوظيف ليست انتقائية، وليس هناك فترات تدريب كافية بحيث يمكن تلافي أوجه النص.
ولهذا فإن تصور الموقف ميسور، ولكن التوفر على الإمكانيات التي تجسده في الواقع على أحسن صورة قد تكون عسيرة المنال، وعصية التحقيق، وحين لا تتأتى الإمكانيات، فإن واجب المسؤول المضي في المحاولة وعدم اليأس، فالذي لايدرك كله لا يترك كله، وبعض الشيء أفضل من لاشيء، وواقع الفعل الأمني في بلادنا مشرف، إذا قوم من خلال سياقاته العربية، وكفى المرء نبلا ان تعد معايبه.
والمؤسسة الأمنية حين تمنى بأي إخفاق يجب ألا يحصر في سبب واحد فقط، ولا ان يحال على سوء النية او يحال على الموقف غير الحضاري، او على الإجراء غير السليم، او على الامكانات غير المتكافئة، فقد لايكون منها البتة، ذلك ان الاطراف الثانوية غير المتمثلة في مسرح الحدث تؤثر على الموقف، دون ان يتصورها الرأي العام، فهو دائما يحيل الى الاقرب للموقف، وهو رجل الأمن، وحين يكون رجل الأمن امام حدث ومحدث وظرف لهما فإنه بحاجة الى إعطاء كل طرف ما يتطلبه، وهو لكي يتمكن من السيطرة على الحدث والعودة بالاوضاع الى وضعها الطبيعي، لابد ان يفهم الأجواء، ويرسم الخطط، ومع هذا يجب ان يضع في تصوره النسبة المحتملة للإخفاق، إذ هو امام مقترف ربما يكون محترفا، يضع في اعتباره كل الاحتمالات.
وإذ لا يتمكن المسؤول من التوفر على التوازن بين رجل الأمن والمستفيد منه، فإن الواجب مواجهة القدر بشجاعة، بحيث يعرف أطرافُ الاشكالية الممكن والمستحيل، بالتالي يقوم التعاذر بدل التلاوم، والرضا بالميسور بدل السخط على الواقع، والمكاشفة والشفافية تتطلبان شجاعة وثقة، شجاعة في مواجهة العارض، وثقة بإمكان التخطي الى الافضل، فالتقصير خطأ، والخطأ ابتداء ناتج عمل، ولكن الإصرار عليه، او التكتم عليه، او المغالطة والمكابرة في مواجهته، يحول الخطأ الى خطيئة، والتسامي فوق المساءلة والنقد يشرعن للنقص والخطأ، ومن بوادر الثقة مواجهة الاخطاء والنقد بروح رياضية، وعلينا استشعار مستويات الثقة: ثقة بالذات، وثقة بالغير، وثقة متبادلة، وقيام الثقة بكل مستوياتها يحول دون الصدام والاتهام، ويحصر الخلاف في اطار التساؤل والتشاور والتناصح، وكم هو الفرق بين المراجعة الودية والصدام العنيف وتبادل الاتهامات.
وحين لا تكون الثقة بين طرفي العملية الامنية تتحول الاشكالية من معالجة الاحداث الى التناجي بالإثم والعدوان، وحديثنا عن «الموقف» يستدعي التحفظ على المثاليات المتعالية عن الواقع، فالذين يقرؤون «الموقف» قد لا يقرؤونه بواقعيته، وانما تعدو اعينهم اليه بوصفه مشروع فعل، وليس فعلاً، وهناك فرق كبير بين مشروع الفعل والفعل، فالمشروع دائما يستمد مشروعيته من اقصى حدود المثالية، فيما يأتي الفعل متدنياً ومجسداً لمجموع الامكانيات المتاحة، والاشتغال في عيوب الآخرين دون النظر في عيوب الذات مخل بالأهلية، وذلك بعض معوقات التفاعل الايجابي في المرجعيات.
ورجل الأمن بوصفه المطبق الفعلي للعملية الامنية قد تنقصه اشياء كثيرة: ذاتية، وغيرية، وشبكة الاشكالية معقدة، إذ ربما يكون كفاءة متميزة في خلقه وذكائه وأهليته ومناسبته للمكان، ولكن الطرف المستفيد دون ذلك، وقد يكون طرفا العملية في مستوى الكفاءة، ولكن الإمكانيات الآلية دون ذلك، ولأن هناك كوادر بشرية وكيانات إدارية تأتي في أعقاب ممارسات رجل الأمن أو معه ك«القضاء» و«الصحة» فإن بوادر السلبيات التي تنتجها الاطراف الثانوية تضاف الى الطرف الرئيس بوصفه ماثلاً في الصورة، ومثل هذه الرؤية المقعرة تحول دون الانطلاق الآمن الواثق. والمواقف الأمنية بوصفها ممارسة سلطوية شرَّع لها النظام واقتضتها متطلبات الاجتماع فإن النفس البشرية مجبولة على عدم استساغة الخضوع المشروع للسلطة، مهما بلغت شرعيتها، وهذه الحالة النفسية قد لا يضع لها الموقف لحظة الإجراء أي اعتبار، ومن ثم تشكّل عقبة في طريق الأداء الوظيفي، وعلم الاجتماع الجنائي، وعلم النفس الجنائي، والقانون الجنائي تفيض بالضوابط والأساليب الإجرائية المناسبة والمجسدة للإشكاليات.
والأحداث، والحوادث، والجرائم في سباق مستعر مع المواجهة، وكلما طرح مسؤول الأمن اسلوباً ذكياً لتعقب الجرائم والمجرمين، اتخذت الجريمة اسلوباً أدق للنفاذ من مسام الشبكة، وهكذا، وبالتالي فإن التوفر على الإمكانيات يتطلب ترقي المعادل، ورجل الأمن قد لايتمكن من استعمال كل إمكانياته تمشياً مع إمكانيات المستفيد، ومأزق الموقف في فورية التقدير والتوقيت، وتسارع البدائل الإجرائية، وتغيير الخطط في مسرح الجريمة، وبالتالي فإن هرمية المسؤولية لا مجال لها، وممارسة الصلاحيات المؤقتة امتحان لقدرة رجل الامن الميداني الذي قد لا يتوفر على امكانية التواصل مع غرفة العمليات، بحيث تتحمل معه قسطاً من الإخفاقات، وهو حين ينهي العملية بنجاح يشاركه غيره، وحين لا يحالفه الحظ، يتحمل المسؤولية وحده، وهذا قدره المحتوم والمجحف في آن.
وحين نتحدث عن «الموقف» تتجسد امامنا صورته الحضارية ومرجعيته الاسلامية، بحيث لانقطع بتوفر المستوى المطلوب، لا من حيث الصورة، ولا من حيث مقتضى المرجعية، وليس مستساغاً إحالة هنات الموقف الى الجهل او سوء النية، فالخطأ او التقصير حين يعالجان بهذا المفهوم تتعمق هوة الخلاف، والبعض تتشكل رؤيتهم من خلال البحث في السلبيات واستصحاب التجهيل وسوء النية، وتلك مواقف تحمل الاطراف على التحول من الحوار الايجابي الى الصدام المخل بمتطلبات العلاقة الايجابية، وباستدعاء الموقف تتجه الانظار صوب من يتحقق على يده نجاحه أو إخفاقه، وهو رجل الأمن الميداني، وليس القابع وراء مكتبه المخملي، وهنا تتجسد صورته في المخيلة كفارس أحلام، ليس في شكله ووسامته، ولكن بممارسته الحضارية، فما هي الصفات التي يتطلع اليها المواطن المرتبط أمنه واستقراره وسلامته بتصرفات رجل الأمن؟ ذلك أنه حين يضطلع بأخطر مسؤولية، وأهم مسؤولية، تكون صفاته وأخلاقياته استثنائية، قد لا تتوفر بالقدر المطلوب، وهو بتحمله تلك المسؤولية، ينتقل بمواصفاته العامة التي يشترك فيها مع سائر الناس الى متطلبات المهمة الامنية المتمثلة: بالعزم، والحزم، والشجاعة، والتضحية، والعدل، والحيادية، والفراسة، والصدق، والأمانة، والنزاهة، والسيطرة على الأهواء الشخصية، وضبط الأعصاب، والتكيف مع المستجدات والعوارض، ذلك أن مهمته جماع الفضائل، ودعك من القيم السلوكية خارج إطار المسؤولية، ودعك من التوفر على المعرفة الشرعية التي تحدد اسلوب المواجهة ومرحليته، فالموقف لا يكون مشروعاً بالقوة، وإنما القوة للقانون الملزم، والقوة المادية كالوازع، وكما في الأثر: إن الله لينزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن. وحين لا يكون رجل الأمن رجلاً عادياً فإن سلوكياته تتضخم إلى حد الاستحالة، وتكون صفحة السمعة عنده فاقعة اللون، تجسد أي خدش، وتضخم أي مخالفة، وتصورنا للمواصفات النفسية والسلوكية والمعرفية يحملنا على تفادي الثنائيات، فالشجاعة يجب ألا تصل إلى حد التهور، واللين يجب ألا يصل إلى حد الضعف، والحيادية يجب ألا تصل إلى حد السلبية، ولابد والحالة تلك أن تدخل الصفات الخلقية في مفهوم التوازن، والموقف يزداد حساسية في ظل المستجدات العالمية والإسلامية والعربية، بوصف الدولة فاعلاً رئيساً ومؤثراً ومسؤولاً، والإعلام المعادي بمعرفته لحجم المملكة يتلقط السقطات ليحولها الى عقبات معوقة في طريق الأداء السليم.
وإذا كانت مهمات رجل الأمن ذات مواقف متعددة وفورية ومباغتة ومتغيرة وفق أجواء الأحداث وغير مقدرة فإن الإمكانيات الشخصية يجب أن تكون بمستوى مواصفات المواقف ومراوغتها، ولكل موقف متطلباته، وقد تكون من أولويات مهمات رجل الأمن: الوقاية لمنع الجريمة من الوقوع، وتعقب اطرافها بعد الوقوع، وتنفيذ حكم السلطة القضائية بعد مواجهة المجرمين بمقترفاتهم، وصدق الإثبات والإنصاف في الإدانة، وهو بهذا يكون مع الجنح منذ بدايتها حتى نهايتها، وهو معها في كل محطاتها، وتتواصل المعية لتأخذ بآثارها وانعكاساتها على ذات الجانحين، وعلى المقربين منهم، وعلى المجتمع، ومن ثم تكون معلوماته المصدر الرئيس للقضاة وللإصلاحيين الذين يرسمون المناهج ويقترحون أساليب العلاج.
ولأن الجريمة تختلف باختلاف الدوافع، والنتائج، وحجم الضرر، وتجاوزه وشموليته فإن المواقف يجب ان تكون مرنة في تحولاتها الفورية. فجريمة المخدرات ترتبط بالمهرب والمروج والمستعمل، وهناك مستويات متفاوتة للمهربين والمروجين والمستعملين، لا من حيث السبب، او التنظيم، او المقاومة المسلحة، وإنما هي من هذه وغيرها.
وجريمة المخدرات تختلف كثيرا عن جنح الأحداث التي تسهم في صناعتها الاسرة والمدرسة والوضع الاقتصادي والفراغ والإعلام، ومستويات السرقة بين السطو والاختلاس، وبين الاحداث والعصابات، وحتى الجريمة تختلف من حيث التنظيم والفردية، كل هذه الامور تشكل امتحاناً عسيراً وفورياً لرجل الأمن، والمواقف تتطلب اتخاذ القرار الفوري وغير المؤجل، واتخاذ القرار يؤثر على خطوات الحل، فقد يكون الإبطاء في اتخاذه سبيلاً لضياع الخيوط، وقد يؤدي التردد ولو لدقائق الى فوات الفرص النادرة، وملفات الحوادث حين تقرأ، تبدو الثغرات المفوتة لأهم الفرص وأندرها، ولهذا فإن الموقف حساس وهام، وليس من الممكن تبرير أي تصرف يسهم في انفلات الاطراف او تعقيد الحل، وكم هو الفرق بين منع الجريمة، ومكافحتها، وملاحقة المجرمين، والكشف عن غموضها، فالمجرم المحترف يختلف كثيراً عن المجرم المبتدئ، ومذكرات رجال الامن تنطوي على مفاجآت غريبة، وقد يفقد رجل الامن حياته بسبب تصرف فوري، لم يحسب له الحساب المناسب، وكم نسمع بين الحين والآخر عن شهداء الواجب الذين فقدوا حياتهم، وقد تضيع بضياعها معالم الجريمة. وبقدر المفاجآت الموجعة هناك مفاجآت سعيدة، فقد تكتشف جرائم غامضة بالصدفة، وبدون اي تخطيط، والحملات التي تنفذ بين الحين والآخر تكون لها محصلات متعددة، ليست واردة في حسابات الحملة.
ولأن الوقاية من الجريمة من أولويات مهمة الأمن فإن من الأفضل ألاّ تتم وفق منهج ثابت تتوارثه الاجيال، وواجب المسؤول ان يكون قادراً على ملاحقة المستجدات، فهناك وسائل وقائية تقليدية، فيها الثابت والمتحول، كالعقوبات، والرقابة، والتوعية، ووسائل المعالجة، والكشف، وبعض هذه تدابير وقائية، ولكن لابد من التخطيط والبرمجة، والفهم الدقيق «للاستراتيجية»، «والتكتيك»، وفصل اجهزة المواجهة عن اجهزة الوقاية خطوة نحو التطوير، ولتنمية قدراتنا الوقائية لابد من اتاحة الفرصة للباحثين العلميين للاطلاع على كافة الاحوال والمواقف، لكي يفاعلوا بين معرفتهم وخبرة الآخرين، فالقطاعات المسؤولة من اولويات مهماتها الارتفاع بكفاءة رجل الأمن وقدراته، وذلك بعقد الدورات وبرامج التدريب المستمر، وربط ذلك بالترقية والعلاوة والمكافآت التشجيعية، سواء كانت مادية او معنوية، كالشهادات والأوسمة.
ولن تتطور فعاليات الوقاية والمواجهة إلا بتنمية الطاقات البشرية، وتوفير الإمكانات المادية، والتحول بالتوعية من الوعظية الى العلمية المقننة، وتمكين المستفيد من الوقوف على آخر ما توصل اليه علم الجريمة من نتائج. والعمل على اصلاح المنحرفين والمجرمين وإعادتهم الى المجتمع قد لا يكون مسؤولية رئيسة لرجل الأمن، ولكن من مصلحته ان يسهم في هذا القطاع، موظفاً كل خبراته وتجاربه، إذ ان أسلوب الوقاية يطال ثلاثة محاور:
* رجل الأمن.
* المجرمين.
* المجتمع.
وإذ يكون التشريع الاسلامي في قضايا الجريمة ذا شقين: الوقاية والعقاب، فإن على المسؤول تنمية الجانب الوقائي، وتحديثه، وتطوير الاجهزة في شقيها: الأمني والقضائي، وما يتتبع ذلك من رقابة وتحقيق وادعاء وعلاقات.
ولأن الجرائم ذات صلة وثيقة بسائر الاوضاع الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية فان الاسلوب الوقائي الناجح هو الاسلوب الشمولي الذي ينظر الى الجريمة بوصفها منتج فعاليات متعددة، وليست محصورة بذات المقترف. فالمجتمع قد يصنع المجرم، والوسائل الإعلامية قد تهيء الأرض الخصبة لتنامي الجريمة، فالجريمة لا تنزل من السماء، إنها مُنتج مجتمعي، والسؤال هل تنشأ الجريمة ثم تبحث عن المجرم؟ أم ينشأ المجرم ليبحث عن الجريمة؟ وهذا التساؤل يدخل بنا في سفسطة «البيضة والدجاجة» أيهما الأول، ولكن تصور العلاقة بين المجرم والجريمة والمجتمع تهيئ الاجواء الملائمة للحل.
ومحاولة إصلاح الذات غير مجدية، ما لم يمتد الإصلاح الى الأوضاع الموثرة على الذات، إن عودة المجرم الى المجتمع السليم قد يساعد على سلامته، وإذا عولج المجرم داخل السجن بوصفة مؤسسة إصلاحية، لا زنزانة عقابية، ثم خلي سبيله ليختلط في مجتمع ينتج الجريمة، كان مهيئاً للعودة إليها مرة ثانية.
إن الوقاية أهم خطوات رجل الأمن، والوقاية بحد ذاتها تعد إشكالية معقدة، وإذ يتطلب الموقف فهم الفئات المنحرفة ودوافعها النفسية والأخلاقية والاجتماعية والعاطفية ومستوياتها، كالقتل، والسطو، والاختلاس، والسرقة، والاغتصاب، والاحتراف، والصدفة، فالمعرفة، والفهم تنتقلان الى التحليل واتخاذ الموقف، والتنبؤ بما سيحدث، ومن ثم فإن سبق الحدث أفضل من تعقبه.
وإذا كان الموقف يتجاوز الإنسان الى الأشياء، فإن رجل الأمن بمثلما هو مؤتمن على الأنفس فهو مؤتمن على الأموال، وحفظ الأموال يمتد الى التصرف الحكيم إزاء مواجهة الكوارث كالحرائق والسيول والزلازل، وكم تضاعفت الخسائر بسبب التصرف غير المنظم من رجل الأمن، ولهذا فإن الموقف من الإنسان في العملية الأمنية لا يقل أهمية عن الموقف من الأشياء، والحديث عن الموقف يستدعي الحديث عن الوسائل، فرجل الأمن كالمقاتل، كلما كانت آلياته حديثة ودقيقة ومتطورة، تمكن من السيطرة الفورية، وحين يعتريها أي نقص ينعكس على أدائه، وحين لا تكون في مستوى الحدث فإنها تؤدي الى مضاعفات، يتحمل أعباءها الوطن.
إن الحديث عن الموقف يستدعي ظواهر تسهم بتعقده وتنامي إشكالياته، وهي ظواهر ليست من اختصاص مسؤول الأمن، ولكن حلها يهبط بمعدل الجريمة، ف«البطالة» مثلاً ليست مرتبطة بقطاع الأمن، ولكنها مقلقة له، وكم يود ذلك القطاع أن تكون صورته في المجتمع مشرفة، إن معدلات الجريمة تحال لرجل الأمن، وهي إحالة جائرة، والمسهمون في معدلات الجريمة ليسوا في الصورة بينما يستدعى رجل الأمن عند كل مخالفة، إن الإشكالية في تنامٍ مستمر، ونحن أحوج ما نكون إلى وضع الأمور في مواضعها الطبيعية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:31 AM   #245
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تفكيك الخطابات المتلاحقة في المشهد السياسي
د. حسن بن فهد الهويمل


ليس مصطلح«الخطاب» مرتبطاً بالقول المنبري وحسب، إنه اندلاق وامتداد، بحيث يشمل أي مشروع: سياسي أو اقتصادي أو فكري أو أدبي.
والخطاب بهذا المفهوم يمر بعمليتين «ديناميكيتين»:
بناء الخطاب.
تفكيك الخطاب.
وعملية البناء تتشكل من خلال سياقات وأنساق عارضة أو ثابتة، أو منهما معا، فخطاب ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، يختلف كثيرا عما قبله، والعالم كله يتسابق في طرح خطابات مغايرة عما سلف، ليسبق إلى المقاعد الأمامية، والأمة العربية بوصفها غنيمة ليست باردة على الإطلاق فإنها تقع تحت طائلة الخطابات الحساسة، وكان عليها أن تعي متطلبات المرحلة ومقاصد الخطابات المتوازية والمتقاطعة والمتصادمة، ليكون خطابها أكثر انسجاما مع المتغيرات، ويكون تفكيكها لخطابات الآخر أكثر واقعية مما سبق، إذ ليس البناء بأقل خطرا من التفكيك، وخطأ البناء أو التفكيك مربكان.
والتفكيك هو الآخر يتشكل من سياقات وأنساق، وليس شرطا أن تكون كما سياقات وأنساق البناء. وتلك إشكالية المرسل والمتلقي، والعالم يمر بحالة من التحولات السريعة والخطابات الأسرع، فكل خطاب يحمل معه شفراته، قد لا تصلح الاستعانة بشفرات قديمة لتفكيكه، فالمتغيرات السريعة تحول دون الثبات ونمطية المواجهة، والمتابع يمكن أن يصف أي حدث مثير بالخطاب، لأنه رسالة من نوع آخر، وإشكالية العالم العربي أنه لم يرق بخطابه إلى مستوى الأحداث المصيرية«أحداث الحادي عشر من سبتمبر» و«حروب الألفية الثالثة» و«محور الشر» و«انتفاضة الأقصى»و«العولمة» و«الاجتياح الإسرائيلي». ولو ضربنا الأمثال بعدد من مفردات الخطابات المتناسلة من الخطابات الرئيسة لتراءت لنا عن قرب:
زيارة كولن باول: بوصفها آخر حدث، إنها بنية سياسية، كل محترف يفككها وفق رؤيته، والمتابعون مختلفون حول الأهداف والنتائج. لماذا جاء؟ وبماذا جاء؟ ولمن جاء؟ هل جاء بخطة؟ أم جاء لصناعة خطة؟
مبادرة الأمير عبدالله تعد بنية سياسية، وخطاباً جريئاً لم يتفق المشهد السياسي عليها، وإن ظفرت بما لم يظفر به أي خطاب في ظروف عصيبة كهذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية، لقد تحولت من تصور واقتراح إلى مبادرة عربية، وأصبحت محوراً لأكثر من خطاب، والرافضون لها تحت أي مسمى ينضم إليهم«آرئيل شارون» حين أعلن مؤخراً رفضه لها، وكان قد رحب بها من قبل، وهذا تفكيك يؤكِّد الارتباط بالسياقات والأنساق والظروف الطريفة أو التليدة.
زيارة الأمير عبدالله لأمريكا ومقابلة بوش في أحلك الظروف. ماذا تعني؟ وما النتائج المتوقعة؟ وهل هي امتداد لتحرك دبلوماسي أفرزه تفاقم الأمور، وحرض عليه تمادي إسرائيل في التوغل والحصار والقتل والاعتقال؟ يضاف إليها ما أثير في طريقها من عوائق لتعطيل فعاليتها مثل: عرض لأفلام عن«القاعدة»، وما أثير حول قصيدة السفير«القصيبي»، ورفض شارون للمبادرة، وتصنيف جمع التبرعات على أنه دعم للإرهاب.
ولك أن تقول مثل ذلك أو فوق ذلك عن:
تعاقب الحروب على أفغانستان.
ظاهرة الإرهاب وتعدد المفاهيم.
محور الشر كما تتصوره أمريكا وحلفاؤها.
التلويح بقطع النفط العراقي والليبي والإيراني عن أمريكا.
قمع المظاهرات أو منعها.
ثني أمريكا عن ضرب العراق.
دعم أمريكا لعمليات الاجتياح كرد فعل للموقف العربي من ضرب العراق.
أشياء كثيرة تقرأ على عدة وجوه، والمتابع الشريك يختلف عن المتابع المتأثر الذي ليس له يد في البناء، وليس بقادر على التفكيك السليم، ولكنه يتجرع نتائج الخطاب السياسي في هذه الظروف الأكثر حساسية وخطورة، وليس هناك ما يمنع من محاولة تفكيك أي خطاب، وإن تباينت الآراء وتعددت التصورات.
وكم من مشتغل بالسياسة فكك«انتفاضة الأقصى» بوصفها خطاباً سياسياً استرتيجياً أو تكتيكياً، ومع تباين الآراء عند استقرائها، فإنها مرت بتحولات كثيرة، وأبلغت رسالة واضحة للعالم، واخترقت فضاءات عالمية، وغيَّرت مفاهيم كثيرة، وحولت مواقف، وحدت بالمتوحش الإسرائيلي لارتكاب أبشع الجرائم لتركيع المحاصر الفلسطيني وإذلاله. وكان من تداعياتها الرحلات المكوكية بين دول العالم، لإيجاد مخارج من هذه المآزق، ومن بين هذه التحركات مجيء«كولن باول» الذي عاد بخيبة أمل، وهو ما عبَّر عنه الرئيس بوش بقوله:«إما السلام وإما الإرهاب».
والقراءة المنصفة أن يقول:«إما السلام وإما الحرب».
هذه الانتفاضة الميمونة، كشفت من جانب آخر عن ضعف المواقف العربية، بوصفها مواقف متخاذلة. على أن تفكيك«الضعف» و«التخاذل» بوصفهما سمة الخطاب العربي، يختلف من قارئ لآخر، فالبعض يحيل إلى التآمر العربي على القضية، ويرى أن«الضعف» و«التخاذل» مصطنعان، وأنه بالإمكان اتخاذ مواقف أكثر فعالية، فيما يرى آخرون أن ذلك الموقف طبيعي، وأن الوضع العربي لا يستطيع أن يقدم أكثر مما قدم، ويحيل لسلسلة من الأحداث والقضايا والاتفاقات التي كبلت الخطاب العربي. فمعاهدة«كامب ديفيد»، وحرب الخليج الأولى والثانية، وحرب لبنان، وحرب التحرير الأفغاني، والحروب الأهلية في السودان واليمن والصومال، والخلافات الحدودية، وتعارض المصالح والأحلاف، وتسجيل المواقف، والعنتريات الفارغة، وتباين الأيديولوجيات، والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي، كل ذلك أسهم في صناعة أجواء ملائمة لمثل هذه الممارسات الصهيونية والمواجهات العربية المتخاذلة.
والعودة إلى سلسلة الأحداث التي فتَّت في عضد الأمة ضروري ومهم، فقراءة الموقف العربي لا يمكن أن يكون مجدياً، مالم نربط ذلك بكل الأحداث التي اجتاحت الأمة العربية، وأنهكتها مادياً ومعنوياً، وزرعت الشك والارتياب والخوف، والحلقة المفقودة أن بعض المفككين للأوضاع حين لا يقبلون بالرأي الآخر، يحيلون إلى الخيانة والتآمر والعمالة، ولو أنهم قرئوا بذات الآليات والحيثيات/ لكانوا الأكثر تآمراً وخيانة وعمالة، غير أن الأمر مختلف جداً، إن هناك سراً لا يبلغه المفككون، فالسياسة فن الممكن، وهي تتسع لكل الاحتمالات، وسيظل المعنى في بطن صانع اللعبة دون اللاعب، ومتى خفيت بعض الحلقات، تحولت قراءة الخطاب إلى رجم بالغيب.
وأي قراءة معمقة لأي حدث أو خطاب لا ترتبط بسلسلة الأحداث إنما هي قراءة مسطحة، وقراءة«الأبيض»و«الأسود» قراءة تعسفية. والإشكالية ليست وقفاً على الواقع، وتفكيك أحداثه، الإشكالية في ذاكرة الإنسان العربي، لأنها ذاكرة معطوبة، تنسى الماضي بكل مآسيه، وتستفتح كل يوم بخطاب جديد، لا يحيل إلى المآسي السابقة، ولا يستعيد صناعها بكل بشاعتهم، وهذا النسيان أو التناسي يصب في مصلحة العدو، لأنه يكسر العظم، ويحرق الأرض، ثم يغسل العار بالتقادم، ويستر الخطيئات بالصفح والعفو عما سلف، والمسيء حين تفضل بإيقاف الإساءة، لا يتعثر بماضيه المجحف بحق القضايا العربية.
لقد لعب الاستعمار دوراً دنيئاً منذ«وعد بلفور» ويوم كانت بريطانيا سيدة الموقف، كانت الأكثر ميلاً مع الصهيونية، والأكثر دعماً لها. وقراءة الأحداث حين تجتث من فوق الأرض، ولا ترتبط بجذورها، تغري أي دولة قوية على ممارسة الرض والكسر والإحراق والإزهاق، ثم غسل آثارها بمرور الأيام، لتعود إلى المشهد طاهرة مطهرة، وعلى ضوء ذلك يجب أن نفكك زيارة«كولن باول» باستحضار الخطايا لا بنسيانها، فزيارته محاولة لسل شعرة أمريكا من عجينة المشاكل، وممارسة التطهير، للدخول من باب الأصدقاء الأوفياء، الذين لهم النصيب الأوفى في المغانم، وعلينا الكفل الأكبر من المغارم.
والزيارة رغم دعمها والحاجة إليها لم تنجح، فهي في نظر البعض«فاشلة»، وفي نظر الفلسطينيين«كارثة»، وفي نظر أمريكا«حققت بعض التقدم»، وهذه مستويات ثلاثة من التفكيك للزيارة، بوصفها مفردة من مفردات الخطاب الأمريكي.«بول» جاء لإرغام ياسر عرفات على الاعتراف بأن ممارسات المقاوم الفلسطيني إرهاب، وأن ممارسة إسرائيل دفاع عن النفس، والرئيس الأمريكي من ورائه يطالب بدعم عربي لمكافحة الإرهاب، بوصف العمل الفلسطيني إرهاباً، فيما يرى العالم العربي أن الفعل الإسرائيلي هو عين الإرهاب، وبتناقض هذه المفاهيم ستتحول العلاقات العربية الأمريكية من سيىء إلى أسوأ، ومن ثم فإن من الطبعي أن يفشل بول في«مرثونه» بينما يحمِّي «تينت» لمباشرة «مرثون» محكوم عليه بالفشل، والاثنان يركضان في مسارين متوازيين:
المسار السياسي.
والمسار الأمني. بوصف أحدهما على قمة السياسة، والآخر على قمة الأمن.
والأمير عبدالله الذي يحزم أمتعته لمواجهة الرئيس بوش في أحلك الظروف مع ما نشر في طريقه من أشواك أومأت إليها لن يخرج بخطابه عن الصف العربي والأمل الفلسطيني، ومن ثم فلست متفائلاً من الموقف الأمريكي، ولكن يجب ألا نمل من المحاولات.
وإذا كان«بول» قد جاء وفي تصوره رؤية الصقور والحمائم الأمريكان، الذين سيفككون مضامين رحلته ويقومونها، فإن الأمير عبدالله سيواجه مهمته وفي باله أكثر من صقور وحمائم عربية.
دعاؤنا الصادق أن يكلل الله أعماله بالتوفيق والنجاح، لإيقاف هذا التدهور، وإذا كان المناوئون للمبادرة والزيارة قد نثروا عوائقهم بذكاء فإن الاختراق الجديد من وزير الخارجية السعودي بزيارته«لموسكو» محاولة تمهيدية للضغط على أمريكا، وقد تكون ظهيراً لزيارة الأمير عبدالله، ولست أعرف كيف يقرأ هذا الخطاب؟ وهل سيكون هناك مزايدات كما ألفنا؟
قد تقرأ زيارة الأمير عبدالله لأمريكا، بأنها مواجهة صريحة، وعتاب عنيف للأصدقاء الذين خذلونا في ساعة العسرة. وبول الذي عاد بخفي حنين ماذا سيكون خطابه القادم، وكيف يتم تفكيكه من قبل الأطراف المتلقية، وهو قد ترك الباب مفتوحاً،ولم يؤمن بالطريق المسدود الذي حشر نفسه فيه.
جميل جداً أن نجد متسعاً للقراءات المتعددة، والأسوأ أن نسيء الظن بمن يخالفنا الرأي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:32 AM   #246
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تفكيك الفعل الأمريكي ..!
د.حسن بن فهد الهويمل


1 - لم نصف دور أمريكا بالموقف، وإنما تجاوزنا به إلى الفعل، والدولة الشريكة في الأحداث لها: موقف، وفعل. وأمريكا ضالعة في صناعة الفعل، أو في الرعاية له، أو في الموقف منه، أو في ممارسة الفعل: منفردة أو شريكة.
والمطابخ السياسية العريقة تقد القمص على قدر الأبدان، فلا مجال للارتجال ولا للمجازفة ولا للقرارات الفردية ولا للتصرفات الانفعالية، وليس فيما نقول تزكية، ولكنه تحريض على المواجهة بالمثل، وأمريكا صاحبة القدح المعلّى في تعدد المكاييل والموازين والتناقض الصارخ. والتخطي بالتفكيك من الموقف إلى الفعل له دلالته، إذ ربما يكون الموقف مؤيداً لطائفة على أخرى، أو محايداً، ثم لا يكون لحالتيه التأثير الذي نعيشه مع الفعل الأمريكي، ولو نظرنا إلى مواقف الدول الأوروبية على سبيل المثال، لوجدناها كما نومة الذئب الذي:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى الأعادي فهو يقظان نائمُ
فالأوروبيون ينظرون بعين حذرة وجلة إلى الحق، وبالأخرى إلى المصالح المشتركة مع الخصم، إذ ليس هناك فعل أو موقف إلا بثمن، والأقل الأقل من يأخذ بالحق الإنساني، وبالعدالة المطلقة، وحق الشعوب في تقرير المصير.
ومثلما أن لأمريكا مصالح في أوروبا، فإن للأوروبيين مصالح دون تلك في أمريكا وفي الوطن العربي، ولهم قضاياهم ومشاكلهم التي تتطلب حبلاً من الله أو حبلاً من أمريكا، لإنجازها أو تذليل عقباتها، وأمريكا بما تملكه من أذرعة طويلة قادرة على إجهاض المواقف وتقويض الأفعال، يحسب لها القاصي والداني كل الحساب، وليس من المصلحة لأي طرف نسف قنوات الاتصال معها، ما أمكن ذلك.
2- وموضعة الفعل الأمريكي وتفكيكه، يتطلبان إمكانيات استثنائية، إذ ليس من السّهل على المتخصص في السياسة والمشتغل فيها وصانع أحداثها أن يراهن على تمكنه من قراءة السياسة الأمريكية قراءة سليمة، فكيف بالذين لم يتخصصوا، ولم يشتغلوا، وكل ما لديهم لايتجاوز المتابعة الإعلامية، والقليل من القراءة الاستعراضية للدراسات والمذكرات والمقالات المتسطحة والمتناقضة إلى حد الفوضى وبما أن المسموع والمرئي والمقروء عبر الوسائل الإعلامية قد يكون جزءاً من اللعبة السياسية إذ لا يفيض إلا بما يخدمها، وقد يتعمد التضليل، ورد الفعل لا يتجاوز التدفق العاطفي الفارغ من المعلومات والحقائق، بحيث لا يتجاوز الهجاء المقذع أو التبرير الواهي. ولقد كدت أذهل حين قرأت عملين للكاتب السياسي الشهير «محمد حسنين هيكل» يتحدثان عن مرحلة سياسية واحدة شرق أوسطية: أحدهما يعتمد على الخبرة السياسية، فيما يعتمد الآخر على الوثائق السرية المفرج عنها بعد أمة، مع أن الإفراج لا يمتد إلى الوثائق التي تضر بالمصالح القومية، وقد تكون الوثائق مزورة أو مسلوكة في اللعب الذكية، وأحسب أنه لو ألف كتاباً ثالثاً لناقض ما سالف.
والحديث في السياسة عن السياسة يقترب من قراءة الكف والتنجيم والضرب بالودع، تنبؤات ورهانات تقترب من الصواب، ولكنها لا تكون عينه، ولو أن الكتاب السياسيين أعادوا قراءة ما كتبوا بعد انكشاف اللعب، لتمنوا أنهم لم يقولوا ما قالوا، ومع هذا فإن القول في السياسة يوفر للكاتب فضاءات واسعة، ذلك أنها في النهاية «فن الممكن». والكتبة لا يلتفتون إلى الوراء ليعرفوا كم حققوا من الصواب، وكم هي مسافة الإيغال في الخطأ، ولم أنهم فعلوا ذلك لخجلوا من أنفسهم.
وصناع القرار، والمنفذون له، والمتداولون للقضايا السياسية عبر المؤتمرات واللقاءات يخرجون إلى الناس بوجوه باسمة، وأعصاب باردة، فيما يعيش الأبعدون عن صنع القرار وعن المؤتمرين في أقصى حالات التوتر والانفعال والاستياء، وقد تصل بهم الحال إلى الاشتباك بالأيدي، وتبادل الشتائم والاتهام بالعمالة، ذلك أن المشتغلين والمؤتمرين يعرفون بعض الحقيقة، فيما يعرف سواهم نقيضها، مع الجهل التام بمجريات الأحداث التي تمسهم في الصميم، ومن هنا نشأت المعارضة والخطاب التشنجي.
ولأن القول في السياسة لا يحيل إلى مرجعية وثوقية، ولأن بوادر الأحداث لا تعبر بالضرورة عن طبيعتها فإنه من الصعوبة بمكان كشف المتقولين كل الأقاويل على السياسة والمتهمين في تشكيل الوعي الزائف والمحرضين للرأي العام على المواجهة. ومع هذا فالسياسة مغرية على الحديث وعلى السماع، بل تكاد تكون فاكهة المجالس، والمؤكد أن الشعب المسيَّس لا يقل خطورة عن الشعب المعسكر، ولما كانت أجواء السياسة مشحونة بالأحداث الجسام، كان على حملة الكلمة دقة التحري، وتلافي التهييج، وتحامي تصعيد الاحتقان.
3 - والحديث عن الفعل الأمريكي كما التواصل السياسي معها محفوف بالمخاطر التي تمس المصلحة والسمعة معاً، ذلك أنها متوغلة في الخصوصيات، ضالعة في صنع اللعب الموجعة، منحازة لألدِّ الأعداء، والناس بقدر ما هم متوغلون معها فإنهم معادون لها، وتلك معادلة صعبة، قل أن يحسب لها أدنى حساب، وخطابهم إزاءها خطاب عاطفي متأجج، لا تحكمه دراية ولا روية، ومع كل ذلك فإن الجميع يمرون بها في غدوهم ورواحهم، شاؤوا أم أبوا، والحتمية تفرض التفكير الجاد لعبور هذا المنعطف الإلزامي. وكأن أبا الطيب المتنبي يعيش بيننا، يتجرع مرارة الذل الذي نتجرعه، ويعاني المهانة التي نتعرض لها، ويتلوى من التوجع الذي نغالبه، وليس من شك أنه بكبريائه وإبائه وقلة حيلته وهوانه على الناس، مر بما نمر به، وعانى ما نعانيه، وأسقط في يده مثلما أسقط في أيدينا، وذلك حين قال:




ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يَرَى
عدواً له ما من صداقته بدُّ


وأمريكا التي نزعت قناعها، وكشرت عن أنيابها، وكشفت عن ساقيها، وتقاسمت مع «شارون» آلة الحرب المزدوجة:
حرب الأسلحة الذكية.
وحرب السياسة القوية.
أعطته أحدث المعدات، وتولت كبر الحرب السياسية في كل المحافل مع حفظ ساقته «بالفيتو» و«التجويع» و«تسييس الإعانات والقروض» و«تحريك الملفات» التي لا يود المستضعفون تحريكها، وهي رائدة لمقدمته بكل ما تملك.
وتظل بكل هذا الانحياز الدولة الوحيدة التي بيدها مقاليد الأمور، ومفاتيح الأعمال، وحل الإشكال، فهي راعية السلام، واللاعب الأهم في كل الأحداث، وصوبها تتجه المناشدات والمظاهرات والنداءات، طائفة تطالب بالمقاطعة لها، وأخرى تطالب بالضغط عليها، وثالثة تصيب الأقربين، وتتهمهم بالعمالة والمواطأة، ورابعة تحدو قومها لاتخاذ أي موقف، يحفزها لكي تحق الحق، وتقمع الظلم، وتوفر الحقوق الإنسانية التي قالت في سبيلها الكثير، وكل الزعماء المثقلون بهموم أمتهم، يعولون عليها، ويتمنون أن يكون فعلها في سبيل الحق، ولو بكلمة واحدة، تحاج لها أمام الناقمين عليها من أصدقاء صدقوا معها، ومتعاملين شرفاء، وفوا بالعهود والمواثيق، ومنحوها دعمهم وتأييدهم في مواقف كثيرة، وصدقوها وهي كذوب.
4 - وأمريكا التي تهتف الجماهير بسقوطها، تظل الأكثر تأثيراً في الأحداث المصيرية، والأكثر حضوراً بأشيائها مع ألد خصومها. ومتى امتلك المعنيون سبيلاً إليها فإن من واجبهم سلوكه، فالحرب العسكرية غير ممكنة في ظل الظروف والإمكانيات القائمة، ولم يبق إلا الحرب «الدبلوماسية» على سبيل «التكتيك» لا على سبيل «الاستراتيجية»، إذ الجهاد فريضة إسلامية، وإذا كان «الأمير عبد الله» يخوضها عبر جولتين: «المبادرة» و«الزيارة» فإن من واجب الأمة كافة أن تشد أزره، وأن تدعو لمساعيه بالسداد والتوفيق، إذ ليس بالإمكان إلا ما كان، ومن يملك خطاباً آخر، أهدى وأجدى فليأت به، فالوضع العربي كافة والفلسطيني خاصة في حالة لا تتطلب المزيد، والمؤتمرون يلتقون في خيمة بين الصفين على أشلاء القتلى لحقن الدماء وفك الاشتباك. والمتجهون إليها، لا يقرون مواقفها، ولا يباركون خطواتها، ولا يمنحون انحيازها مشروعية، ولكنهم يبذلون أقصى حد من العمل لإيقاف هذا الفعل الذي لا يليق بدولة بوزنها، تفرط بسمعتها وبأصدقائها في سبيل شرذمة قليلة، لا ترقب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة.
ودولة بحجم أمريكا وباقتدارها وبإحكامها اللعب السياسية وصناعة الكذب تستطيع أن تكون «سلفية» و«شارونية» في آن، وهي قد فعلت حين أحكمت قبضتها على الإتحاد السوفييتي في أفغانستان، لقد وطأت أكنافها لكل الإسلاميين، تمدهم بالسلاح والمال والمعلومات، وتحجب عنهم المواقف المناوئة، حتى إذا سقط الاتحاد، نسلت من اللعبة موجهة فوهات البنادق إلى الذين التقت معهم في مصالحها. وحين انجلى الغبار وبان الفرس من الحمار، لم يتحمل المجاهدون فداحة اللعب، فكانت كارثة الحادي عشر من سبتمبر بداية لاستهداف مصالحها، وهنا تحول الغول من «السلفية» إلى «الشارونية»، وظهرت مصطلحات «الإرهاب» و«محور الشر»، وكلتا السمتين «السلفية» و«الشارونية» لا تخرجان عن اللعب السياسية، فنحن نستفظع «التَّشَوْرن» بمثل ما استفظع الاتحاد السوفييتي «التَّسَوْلف».
وركوب الموجة حين تكون باتجاه الهدف غنيمة باردة إذ ليس من بأس على راكبها. وعلينا تحت هذه الظروف أن نعمل على توازي الخطوط لا على تقاطعها، فنحن بوضعنا القائم غير قادرين على طرح خطابات مستقلة.
وتبقى أمريكا هي أمريكا تتلمظ، وتخلل أسنانها لفريسة أخرى، وفعلها كالأيام التي يداولها اللّه بين الناس فيوم لك ويوم عليك، والذكي من امتلك مرونة التحرك حتى يستقل برأيه وقراره:
فإما سلام الشجعان.
وإما حرب الأقوياء.
«وليسوا بغير صليل السيوف
يجيبون صوتاً لنا أوصدى»
لقد جاوزوا المدى
ولو كنا قادرين:
لحقَّ الجهاد
وحق الفداء.
ولكن ليس بأيدينا إلا حرب الدبلوماسية، فلنتفق على أسلوبها، بانتظار ما لا يأتي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:32 AM   #247
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
صناعة الإرهاب .. بين المناهج الدراسية واللعب السياسية (1/2)
د.حسن بن فهد الهويمل


بعد سقوط المعادل الشيوعي، نجمت معضلة (القطب الواحد)،بكل ما يحمله من تسلط واستبداد وبكل ما يرافقه من انعدام لمبدأ التدافع الحافظ للتوازن والتداول. ولما جاءت (دراما) السقوط مفاجئة، وغير متوقعة، ربكت المعادل الذي لم يهيئ نفسه لمهمات (القطب الواحد) وارتبك تبعاً لذلك العالم الثالث بوصفه الغنيمة المتنازع عليها، والمجال الرحب للعب السياسية، والحرب الباردة، والحقل المناسب لتجارب الإمكانيات والمكتشفات وتسويق الصناعات واستغلال الخيرات. هذا العالم المغلوب على أمره، كان يجد في صراع الأقطاب متنفسا للحرية، واستغلالاً للحظات التنازع على الغنيمة، ولما يكن التكتل الأوروبي قد فرغ من رسم سياسته، فحساباته مرتبطة باستمرار القطبين.
الانهيار المفاجئ وغير المتوقع للاتحاد السوفييتي، حرض الولايات المتحدة الأمريكية على سد الفراغ السلطوي والنهوض بمتطلباته، ولم تكن أمريكا من الغباء بحيث تفوت الفرصة، وإنما التفت على الإرث بأسلوب ذكي وسريع، وقطعت قول كل خطيب بتصدرها العالم بوصفها الأقدر على قيادته: تقنيا وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، ولما لم تجد في طريقها من يحول بينها وبين ما تشتهي بعد خلو الجو من المنغصات الشيوعية، فقد بدت هواجسها تدور حول الخصم القادم، وتحرك عقلها الباطن باتجاه التراكم التاريخي.
لقد قفزت نظراتها إلى نجاحات الإسلام في تجربته العالمية، وفتوحاته المظفرة، وسرعة الاستجابة له، ودخول الناس فيه أفواجاً، واستحضرت ويلات الحروب الصليبية وتكسر أمواج الغزو الصليبي أمام صمود المسلمين وقوة إيمانهم، واستذكرت تجربة الصراع المرير عبر أحقاب التاريخ، ولم تفكر في الوحدة الأوروبية، فهي معها في خندق واحد، وإن اختلفت المصالح، لقد نظر الأمريكان إلى العالم الإسلامي نظرة ارتياب، ووجدوا فيه المعادل المنتظر، مما حفزهم على تصعيد الصراع معه على كل المستويات: الإعلامية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، حتى لقد تجاوز الصراع إمكانية الاحتمال، حيث دخل في حرب مدمرة، وغير معلنة، تمثلت بالتدخل السافر، والوقيعة المكشوفة، وإثارة النعرات الطائفية والإقليمية، وتزويد الضعيف حتى يقوى ثم الانقلاب إلى خصمه، مما أدى إلى زرع الخوف، واستنزاف الطاقات، وشغل العالم عن التفكير في صناعة نفسه. ولاشك ان استخدام المكر تارة والقوة تارة أخرى، وتصفية الطرف الآخر الذي لايملك سلاحا متكافئاً هو ذروة الإرهاب وسنامه.
والغرب يبرر المواجهة مع العالم الثالث بما يمارسه من إرهاب، ولايفرق بينه وبين المقاومة المشروعة لاستعادة الحق السليب من أرض مغتصبة واقتصاد منهوب وحرية غائبة. فهو حين يمتد بسلاحه إلى آفاق المعمورة يصف فعله التسلطي بمواجهة الإرهاب، وبحرصه على إقرار السلام، وحفظ التوازن، وإعادة الحقوق الإنسانية. فيما يرى العالم الثالث ان ممارسة القمع، والتسلط، والإذلال، ومصادرة حقوق الإنسان، والمنع من التوفر على قوة الردع هو الإرهاب، ذلك ان الإرهاب ليس قصرا على ازهاق الأرواح كما يفسره الغرب.
ولأن أمريكا تتصور أنها قادرة على قطع شأفة القوة المنافسة، فإنها بحاجة إلى تدمير القيم المعنوية والمقومات الحضارية لطمس المعالم ومسخ الذات. ولتحقيق هذا الحلم فتحت جبهة جديدة على (المناهج الدراسية) بوصفها المنتج لقيم الحضارة والمشكلة لوعي الأمة، والمحددة لمسارها ولموقفها من الأشياء، معتبرة إياها بهذه المهمات محرضة على الإرهاب، وصانعة للإرهابيين، فكان ان وجهت إعلامها ضد (المملكة العربية السعودية)، بوصفها قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، والمحكمة للشريعة والمظهرة للدين، ومتى خضدت الشوكة سهل عليها القضاء على ماسواها، وساعدها على ترويج هذه الشائعة انتماء بعض المتهمين بحوادث الإرهاب إلى المملكة بالجنسية أو بالدراسة، مع ان كل مايشاع كذب لا يحتمل الصدق، وليس صدقا لايحتمل الكذب. والضالعون في تدمير المنشآت والمصالح الأمريكية من مختلف الجنسيات والأعراق كانوا معها في مواجهة الشيوعية، فهي التي صنعتهم، وشكلت وعيهم، وحين تخلت عنهم، وسعت لتصفيتهم، لم يقبلوا بالموت المجاني، وإنما أخذوا ثمن حياتهم بالمواجهة وفق الإمكانيات. والقول بأن المناهج تصنع الإرهاب قول مغالط، والصهيونية المسيطرة على المال والإعلام في أمريكا هي التي تصنع تلك المفاهيم، وفات اللوبي الصهيوني الناشط في ترويج هذه الشائعات ان الإرهاب الحقيقي إنما ينسل من اللعب السياسية التي تصنع في الغرب، وتنفذ في بقاع كثيرة من العالم الثالث. وصناعة اللعب يضطر الصانع إلى الممارسة (التكتيكية) بحيث يتقلب في اعطاف المبادئ، تتناقض خطاباته، وتتعدد أحلافه، وتختلف مصالحه، وقد أشارت (تاتشر) ذات مرة إلى ان الصداقات لاتدوم، لأنها محكومة بالمصالح، والمصلحيون يتلونون كما (الحرباء) حتى لاينكشف أمرهم ولايبطل كيدهم.
واللعبة السياسية لايدق خفاؤها حتى ترتبط شكلا وأسلوبا بالمنفذ، وصانعها يحاول قدر المستطاع إخفاء وجوده والحيلولة دون ظهور أي مؤشرات على تورطه. وبراعته تتجلى في بعده عن مسرح اللعبة، وهذا الفعل يضطره إلى القبول بأيديولوجية مناقضة لأيديولوجيته، وتجهيز خطاب إعلامي مغاير لخطابه المعلن، ولربما يكون ناتج هذه المغايرة مخلا بتوازن القوى، الأمر الذي يضطر صانع اللعبة إلى تخلية الموقع من مخلفاتها، وقد تكون عملية التخلية بحاجة إلى لعبة أخرى لإبطال مفعولها، وقد يكون منفذ اللعبة ذكيا، بحيث يستغل الظروف، لكي يصنع آلية اكبر من طاقة صانع اللعبة، وليس شرطاً ان يكون اللاعب واحدا إذ ربما تتداخل اللعب، بحيث لايستطيع المتابع التفريق بين ماهو فعل اضطراري نابع من الحاجة، وماهو لعبة صنعها الأقوياء ونفذها الضعفاء، لحفظ توازن، أو لتأديب متمرد، أو لهبوط بمستوى اقتصادي، أو تفكيك لوحدة قوية، واللعب تكون كونية، وتكون اقليمية، تكون طويلة الأجل أو قصيرته، وقد تكون متبادلة بين طرفين كما الجاسوس المزدوج، وقد يكون حتف الصانع فيها.
ولعلنا نستعرض قضايانا العربية، فيما بين العرب، وفيما بينهم وبين غيرهم، وفيما بينهم وبين اسرائيل بالذات، فالمستويات الثلاثة تشكل سلسلة من اللعب بكل أنواعها، ومقاصد اللاعبين في ان تبقى الأمة العربية في مستوى عسكري واقتصادي لايخل بتوازن القوى في المنطقة، ولايجعل اسرائيل في وضع لاتملك معه قمع أي محاولة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية تمس أمنها أو تهدد وجودها، وأحداث المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية مليئة بالعبر، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكل حدث تستطيع ان تقرأه على عدد من المستويات.
وحين يضطر صانع اللعبة إلى إعادة الأمور إلى مجاريها، يحس المنفذ لها بالغبن والقهر، ذلك انه أضاع جهده ووقته وماله، تحت تأثير الكذب والخداع، ثم لم يجن من دوره الذي قام به إلا خيبة الأمل، وهنا يفقد صوابه، ويحس أنه بحاجة إلى استعادة كرامته، وإذ لايقدر على المنابذة على سواء، يتخذ الإرهاب سبيلا للنيل ممن غرر به، واستغل سذاجته.
واللعب القاصمة تصنع ابتداء في أوكار لاترعى في اللاعب إلاًّ ولا ذمَّة ويكون اختيار المنفذ وفق الموقع الجغرافي المناسب والأعماق السكانية والاقتصادية والحضارية المناسبة، وقد يكون الحدث قائماً وصالحا لكي يحول إلى لعبة، والمتابعون الأذكياء يعرفون اللعب بسيماها، ويعرفون اللحظة التي يدخل فيها الحدث مجال اللعبة، ويعرفون اللاعب الذكي واللاعب الغبي. وحين تشارف اللعبة على النهاية، تقترب شفراتها من الانكشاف، بحيث لايجد صانعها بداً من الانسحاب تاركا اللاعب الغبي يجمع أشلاءه ويراجع حساباته، ولحظة التنوير هي التي تصنع الإرهاب، لأن اللاعب الذي أضاع مقدراته وجد نفسه على المسرح وحده، فيما هرب الصانع بالغنيمة، وهنا يتحول اللاعب المخدوع إلى كتلة من الحقد، يحفزه للأخذ بالثأر، ولأنه لايقدر على إعلان الحرب لفقده الندية فإنه يلجأ إلى العنف والإرهاب ومطاردة الهارب الذي تركه في منتصف الطريق في عقر داره. ذلك وجه من وجوه صناعة الإرهاب، ولو ان المناهج لها دور في صناعة الإرهاب لتحولت الأمة كلها إلى عصابات، والجريمة المنظمة منتج غربي، وليست من الإسلام في شيء، والمناهج مطالبة بالتأصيل، وتحرير المسائل، وتشكيل الأمة على هدي من نصها المقدس.
أما الوجه الآخر من وجوه صناعة الإرهاب، فهو تسلط الأقوياء على الضعفاء: شعوباً أو دولاً أو جماعات أو أفراداً، فالمقهور حين يتجاوز القهر معه حد الاحتمال، ينفجر في وجه من قهره، ذلك ان الحياة قيم وفلسفة ومعنى، وحين تفقد قيمها ومعانيها يكون الانتحار الفردي أو الثورة الجماعية، فالصبر له حدود والاحتمال له نهاية، والتدخل السافر في أمور الدول الضعيفة وقضاياها وفرض الحلول المناسبة للمتسلط تؤدي في النهاية إلى مواجهة دامية تجسد مقولة:
(عليَّ وعلى أعدائي). والعالم الثالث مسرح القهر والتسلط، ومع ذلك لم تمتد يده إلى مصالح الأقوياء، ولا إلى أراضيهم ولكنه كبت وغلت يده، وحيل بينه وبين حقوقه المشروعة. ان هناك وجودا تسلطياً من الغرب، ودعماً لحكام متسلطين، وهناك نزاعات إقليمية وطائفية، يحركها الغرب، ويمولها، ويسهم في إشعالها، فيما لم يحاول العالم الثالث التدخل في شؤون الكبار، وهو غير قادر على ذلك، ان الظلم، والقهر، والكبت، وسلب الحريات، ودعم الحكام المتسلطين، واستنزاف الخيرات، وإحداث العداوات بين الأشقاء، ونصر جانب على آخر مدعاة إلى الكره والحقد الذي يترجمه المقهور بالتفجير والمظاهرات وضرب المصالح.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:33 AM   #248
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية..!(2/2)
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كان العالم الثالث يواجه حرب تجويع وتطويع، فإن العالم الإسلامي يواجه حروباً مزدوجة: شيئية وحضارية، ولن يستقيم أمر العالم كلِّه مع الظلم والتسلط، وكبت الحريات، والإخراج من الديار، وتدمير الحضارات. والدولة الظاملة: مسلمة أوكافرة عرضة لأخذ الله وقصمه وإهلاكه {وّكّذّلٌكّ أّخًذٍ رّبٌَكّ إذّا أّخّذّ پًقٍرّى" وّهٌيّ ظّالٌمّةِ (102)} [هود: 102] و {وّكّمً قّصّمًنّا مٌن قّرًيّةُ كّانّتً ظّالٌمّةْ (ر11)} [الأنبياء: 11] و{وّمّا كّانّ رّبٍَكّ لٌيٍهًلٌكّ پًقٍرّى" بٌظٍلًمُ وّأّهًلٍهّا مٍصًلٌحٍونّ (117)} [هود: 117]، والدولة العادلة: مسلمة أو كافرة أضمن بقاءً واستقراراً. وأمريكا بالظلم أو بالمواطأة عليه، تفقد الأنصار والاستقرار والاستمرار، وتنمي العداوات والخصومات. وعمليات الحادي عشر من سبتمبر ألحقت أضراراً بهيبتها واقتصادها، وأعطت المناوئين لها أملاً في محاولات جديدة تصيبها في الصميم. وإحالة المواجهات إلى (صراع الحضارات) دعوة باطلة، فالإسلام دين متسامح، مصالح، مسالم، ينابذ على سواء، يُسْمع المستجير كلام الله ويبلغه مأمنه، ويدفع بالتي هي أحسن، ولا يكره على دين {أّفّأّنتّ تٍكًرٌهٍ پنَّاسّ حّتَّى" يّكٍونٍوا مٍؤًمٌنٌينّ (99)} [يونس: 99] و {لا إكًرّاهّ فٌي پدٌَينٌ(256)} [البقرة: 256] و{أّنٍلًزٌمٍكٍمٍوهّا وّأّنتٍمً لّهّا كّارٌهٍونّ (28)} [هود: 28] لا يمنع من علم، ولا يكبت غريزة، دين الفطرة والعدل والإحسان والحرية. ومع ذلك شرع الجهاد والحدود، وعقوبة المحارب والمرتد، ونظم علاقاته مع دار الحرب والسلام وأهل الذمة، وصدق الله {مَّا فّرَّطًنّا فٌي پًكٌتّابٌ مٌن شّيًءُ (38)} [الأنعام: 38] فالمواجهات أخْلاط من صراعات تؤزها المصالح والاستراتيجيات والأحلاف، والإرهاب في ظل هذه الأطماع، لا يمكن أن يحال إلى حضارة، ولا إلى فكر، ولا إلى مناهج، وقول دول الاستكبار:« إنه صراع حضارات»، مشرعن للاعتداء ومهيج لمشاعر المواطن الغربي لدعم تسلطه. ولو أراد الغرب القضاء على الإرهاب لتوقف عن صناعة اللعب السياسية، وتعامل مع شعوب العالم على قدم المساواة، وكفَّ عن التدخل في النزاعات (الإقليمية) و(الإثنية) و(الطائفية) و(وحد المكاييل) وحفظ (توازن القوى) ومكّن الجميع من (قوة الردع).وكيف تقر عينه وهو يغذي بؤر التوتر، لقد كان فاعلاً رئيساً في أحداث فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان والصحراء والسودان وأرتيريا والصومال وأنغولا وموزمبيق والتشاد وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وسائر النزاعات والحروب لإحكام سيطرته، حتى إذا شارفت اللعب المدمرة على النهاية، دبَّر اغتيال اللاعبين الضالعين، وعاد بثوب المصلح لذات البين.
والغرب المتماكر المتوغل في صناعة الإرهاب يخادع قومه بالتأكيد على أن الدين الإسلامي مصدر الإرهاب ومأوى التخلف، وما كبرت في عيوننا تلك الاتهامات التي تخرج من أفواه إعلامه، فهي لا تبعث على الاستغراب، ولا تحمل على الانفعال، فالإسلام يتلقى عبر مسيرته إفْكاً وأذى كثيراً. والإعلام الغربي المتصهين حين يوغل بقوله: - إن المناهج التعليمية في المملكة خاصة تصنع الإرهابيين، فإن ذلك قول متوقع من مثله على مثل المملكة، وجميل أن يظهر المتصهينون ما بأنفسهم، وجميل أن يجاهروا بما يتناجون به من الإثم والعدوان وعلينا أن نستقبل اتهاماتهم بالحلم والأناة ورباطة الجأش، كي نتمكن من إبلاغ مقاصد ديننا وإنسانيته ورأفته وإكرامه للإنسان، دون نظر إلى دين أو لون، فنحن أصحاب رسالة ومهمة في الحياة. وهم يحوكون المكائد لإثارتنا، وفقد صوابنا، كي نعجز عن السيطرة على مشاعر الثورة والغضب فينا، ومن ثم يحققون رغباتهم الشريرة، وبهذا نكون قد ساعدناهم على أنفسنا، وحققنا مرادهم، إن من واجبنا أن نسمع، ومن حقنا أن نرد، وليس من اللائق أن نثور ونمور. والعقلاء المنصفون يعرفون أن الإرهاب قائم منذ (هابيل) و(قابيل) و(الغراب) الذي يري الظالم كيف يواري سوأة أخيه. والإرهاب مفهوم نسبي أزلي استأثر بالأهمية بعد أن رمى الله برجي أمريكا فهدمهما، وحين لا نؤيد الفعل، لا نقبل الإحالة على الإسلام.
ولو نظرنا إلى التمرحل الزمني لمصطلحات ((الإرهاب)) و((العنف)) و((التطرف)) و((اللاعنف)) و((المقاومة السلمية أو المسلحة)) لوجدناها مع الأيام في تقلبها، وتداولها، ولوجدنا الفاعلين والقائلين عنها أوزاعاً مختلفين، فهم بين الإفراط والتفريط، والتطبيق والتنظير، فـ«الصليبيون» و«النازيون» و«الفاشستيون» و«الثوريون» منتج غربي، ونجد على رأس المطبقين «للمقاومة السلمية» ((غاندي ت 1948م)) وله فلسفته التي عرفها كل المشتغلين في مقاومة الاستعمار، وعلى رأس المنظرين المفكر الجزائري «مالك بن نبي ت 1973م» الذي عاش أحداث حرب التحرير الجزائري، وتجرع أحزان المليون شهيد، وجاء من بعده «جودة سعيد» ليحيد بالمبدأ عن جادة الصواب، متطرفاً في «اللاعنف»، وآزره على ذلك الدكتور «خالص جلبي». وهذا الإغراق في «الحمائمية» لم ينظر إلى عنف «الصقور»، وخطاب «جودة سعيد» تعطيل للجهاد الإسلامي، وإجهاض للمقاومة المشروعة، دون إدانة للطرف الآخر الذي يمثل أقصى حد في التسلط وسباق التسلح.
والمؤكد أن التطرف والإرهاب والعنف لا يرتبط شيء منها بزمان ولا بمكان ولا بدين ولا بقومية، إنها عمل إجرائي، تفرضه الظروف، ويفرزه أسلوب التعامل بين أطراف متعددة، ويحدو إليه الظالمون، فالكبت في الديار أو الإخراج منها، يحدث الانفجار، والظلم هو المنتج الطبيعي للإرهاب، والدول المتسلطة، والحكام الجائرون، حين يكتمون الأنفاس، ويسلبون الحريات، يحملون على الإرهاب، وما حيلة المضطر إلا ركوبه. ولما كانت الحياة فلسفة وموقفاً، أصبح من المتعذر القبول بها على غير مفهومها، وعمليات الانتحار الفردي أو الجماعي تعبير عن رفض الحياة المناقضة للموقف وللفلسفة، غير أن الانتحار موت مجاني أثيم، لا يقره الإسلام، فيما تكون العمليات الانتحارية موتاً بثمن، والحياة في نظر البعض مجموعة من القيم، وليست مجرد الأكل والشرب والمشي في الأسواق. وعندما يفقد الإنسان القيم الحياتية يصبح في نظر نفسه ميتاً، وإن عاش كما الحيوان. والتسلط استلاب للقيم، ودخول في العدمية، وحمل على العنف والانفجار، إذ ليس هناك أهم من الحرية والأمن بكل مفرداته، وعند فقد الحرية والأمن يتحول الإنسان إلى حيوان غير أليف، ينتزع طعامه ويوفر حريته وأمنه بالناب والمخلب. وحين يكون المضطهد واعياً لإنسانيته، تفقد الحياة بفقد الانسانية قيمتها، ويصبح الموت هو الحل الطبيعي، وإذ لا يكون من مصلحة المضطهد أن يموت بلا ثمن فإنه يقدم على انتزاع قيمة حياته المهدرة بمبادرة الموت عن طريق تدمير العدو وأشيائه، ومن هنا يكون الإرهاب الاضطراري الذي دفع إليه الظالم، ولم تبادر إليه الضحية. وليس بعيداً أن يكون الإرهاب جزءاً من اللعبة، أو ناتج غلوٍّ أو تغرير، أو تحرفاً لقتال، إذ لكل ظاهرة شفراتها، والإطلاقات والتعميمات لا تحرر الظواهر والقضايا.
ومقاومة الظلم يسميه الظلمة إرهاباً، ولكنه في حقيقة الأمر مقاومة مشروعة، والقتيل في هذه الحالة شهيد، وقد سماه الدين الإسلامي شهيداً، فالقتال دون الدين أو النفس أو العرض أو المال أو الأرض قتال مشروع، والحرب خدعة، الذكي الحاذق هو الذي يختار أسلوب المواجهة. والخلاف بين الفقهاء حول مشروعية العمليات الانتحارية المتمثلة بتفجير الذات خلاف معتبر، ولكل عالم حيثياته وشواهده واستنباطاته، ولا يجور للمختلفين تبادل التهم، وإنما المشروع تبادل الأدلة والحجج، وبسط الآراء أمام الرأي العام، لتحرير المسائل وإبراء الذمم.
ثم إن الإرهاب من حيث الحكم إرهابان:
- مشروع .. ومحظور.
وهو من حيث النوع إرهابان:
- إرهاب مسلح .. وإرهاب فكر.
ومنه التعصب الأعمى للمعتقد، الموصِّل لتأليه الهوى، وظاهرة الفرق الغالية في الحضارة الإسلامية كما تحدث عنها «السامرائي» في كتابه، قائمة في كل الديانات، وعنها نجمت ظاهرة «التكفير»، وتلك إشكالية، وقعت فيها بعض الطوائف الإسلامية: القديمة والمعاصرة، وقراءة كتاب «الغلو في الدين» للدكتور «عبدالرحمن اللويحق» تقف بالقارئ على جذور التطرف، من معتقدات ونحل، استخفت بأمر التكفير وبالدماء المعصومة. وقد تقصى ظاهرة «الصحوة» و«التكفير» طوائف من العلماء والمفكرين المعاصرين، من مثل «عبدالفتاح شاهين» و«نعمان السامرائي» و«سالم البهنساوي» و«عبدالله القرني» و«مقداد يالجن» و«القرضاوي» و«حسن العواجي»، و«حامد سليمان» في كتب مستقلة، فيما وقع آخرون في الأرجاء من مثل «خالد العنبري» و«علي الحلبي». والإسلام ينهى عن التنازع، وعن حسم الخلاف بالقتال بين المسلمين، وفي الحديث:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، وعلى خلافه القتال لقمع الفتنة، وقتال الخارجين على وحدة الكلمة أو وحدة الصف.لقد نجم في العصر الحديث طوائف إسلامية مسيَّسة، اعتمدت على المواجهات الدموية والتكفير، وتبنت الخطاب الثوري، وتعقب هذه الظاهرة علماء ومفكرون، كتبوا عنها بأساليب متفاوتة، ودوافع مختلفة، وفي المقابل تناول كتّاب ومفكرون علمانيون وعقلانيون وليبراليون هذه الظواهر بالدراسة أو بالمواجهة، ومن أهم الكتب «الإرهاب: إسلام أم تأسلم»، وسلسلة «كتاب النقد» عن العنف الأصولي، وبحوث المنتديات و«الأصولية» كتابان مترجمان لـ«دليب هيرو» و«ريتشارد هرير دكمجيان».
والحديث عن العنف أو التطرف أو الإرهاب يستدعي حركات إسلامية وصفت بـ«الأصولية» و«الوصولية»، وتصدى للإسلام من خلالها مفكرون يتخذون من الماركسية والعلمانية وسائر المذاهب الغربية ملاذاً ونصيراً، ووجدها الغرب فرصة سانحة للوقيعة بين المنشقين على أنفسهم. فالماركسيون والحداثيون والعلمانيون والإسلاميون، ينتمون إلى لغة واحدة، وحضارة واحدة، وتحتضنهم جغرافيا واحدة، والجدير بهم التلاقي على كلمة سواء، وهذه الفرصة النادرة، مكنت الحضارة المعادية من الوقيعة، وسك المصطلحات، وإشباعها بالمفاهيم السيئة، وإلصاقها بالمنظمات الإسلامية، تمهيداً لاختراق تنظيماتها، وزرع بذور الفتنة بين أفرادها، ولقد تولى التنويريون التصدي الإعلامي لكل التنظيمات الإسلامية، وبدل أن تتجه فعاليات التنظيم للدعوة والحوار الهادي، استنزفت طاقاتها في الدفاع تارة، والهجوم تارة أخرى، ولم تكن «الأصولية» وقفاً على الإسلام، فقد تقصتها «كارين آرمستونج» في كتابها «معارك في سبيل الإله»، وكنت قد نشرت في جريدة «البلاد» قبل سنوات عشر حلقات عن «الأصولية والوصولية» ووعدت بالعودة، ولما أعد.. والإرهاب يكون فردياً وجماعياً ودولياً، وكل من تخطى أرضه، وخاض الحروب والدسائس للإخضاع أو للاستغلال فهو إرهابي، عرف ذلك واعترف، أم جهل وأنكر. والصهيونية الغاصبة، الحاقدة المتعطشة للدماء والدمار، حين تُعميها الضغائن، وتضلها الأحقاد، تصعِّد بهمجيتها الموت المجاني، تكون إرهابية تفرض المقاومة المشروعة، وتسميها إرهاباً، وحين يرى الإنسان الفلسطيني المحاصر أنه يموت بلا ثمن، يحفزه ذلك على قبض الثمن الربيح بالعمل الفدائي. فالمقاوم الفلسطيني يبرر فعله بقوله تعالى {وّمّا لّنّا أّلاَّ نٍقّاتٌلّ فٌي سّبٌيلٌ پلَّهٌ وّقّدً أٍخًرٌجًنّا مٌن دٌيّارٌنّا (246)} [البقرة: 246] ، وكل الدول الغربية خاضت معارك التحرير، وسمت فعلها بطولة وفداء، فلماذا شرعنت لفعلها، وجرَّمت الفعل الفلسطيني.
إن التعدي السافر، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، يحرض على المواجهة والرد الأعنف. والقوة النظامية المدججة بأحدث الأسلحة، والموجهة من غرف العمليات، والمحروسة من كل الجهات، والمزودة بأدق وسائل الحماية وأرقى آليات السبر والتحري والاستشراف، حين تمارس - وبأسلوب متغطرس - التدمير والتجويع والتركيع، ينهض الأباة لرفض الركوع والاستسلام، فتعديها ظلم، ودفاعه حق. وسيظل العمل الفدائي قائماً، حتى تعي إسرائيل ومن وراءها أن الإنسان العربي يستكين، ولكن الكرامة لن تموت بداخله، وإذا طلب العاجزون الانسحاب، وإيقاف الاعتداء، فإن النفوس المجروحة لن ترضى فقط بإيقاف العمليات دون حساب وعقاب، وإن سكنت لتمرير الاتفاقات، فالدم لا يغسله الماء، ولا تواريه الأحبار.
والمناهج الدراسية: مادة وأهدافاً ومقتضيات تركيب متوازن من القيم والتصورات والمعارف والمهارات، روعي في إعدادها حاجة الأمة المتجددة ومتطلبات حضارتها. ولأن لكل أمة حضارتها المشتملة على عقيدتها وشرعتها ومنهاجها فإن من أبسط حقوقها أن تشكل وعي أفرادها على ما يحقق هويتها، فالتفقه في الدين مطلب أولي. والقرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة بوصفهما المصدرين الرئيسين للتشريع، لا ينطويان على عنف، ولا على إرهاب، ولا على تسلط. {أٍذٌنّ لٌلَّذٌينّ يٍقّاتّلٍونّ بٌأّنَّهٍمً ظٍلٌمٍوا (39)} [الحج: 39] ، {فّلا عٍدًوّانّ إلاَّ عّلّى پظَّالٌمٌينّ (193)} [البقرة: 193] ، {وّلا تّعًتّدٍوا إنَّ پلَّهّ لا يٍحٌبٍَ پًمٍعًتّدٌينّ (190)} [البقرة: 190]، {فّمّنٌ \عًتّدّى" عّلّيًكٍمً فّاعًتّدٍوا عّلّيًهٌ بٌمٌثًلٌ مّا \عًتّدّى" عّلّيًكٍمً (194)} [البقرة: 194] ، {لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ وّلّمً يٍخًرٌجٍوكٍم مٌَن دٌيّارٌكٍمً أّن تّبّرٍَوهٍمً وّتٍقًسٌطٍوا إلّيًهٌمً(8)} [الممتحنة: 8] ، كما أنهما يحثان على الجدل بالحسنى، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجنوح إلى السلام، والله قد كرم بني آدم ورزقهم من الطيبات، ونهاهم عن القتل إلا بالحق. وإذا وقعت بعض الطوائف الإسلامية في خطأ التأويل فإن هذا لا يحال إلى الإسلام. وإذا احتربت العرقيات أو الطائفيات كما في «الجزائر» و «أفغانستان»، وشرعنت فعلها بالإسلام، كذب ذلك «النص» و «التاريخ»، فالرسول صلى الله عليه وسلم عايش المنافقين، ولم يشهر السلاح في وجوههم، مع فضح القرآن لهم.
إن على الغرب لكي يعيش آمناً مطمئناً أن يتحرر من اللوبي الصهيوني، وألا يمنحه (الفيتو) و(السلاح) وأن يتخلى عن غطرسة القوة، وعن الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وأن يوحد مكاييله، وإن لم يفعل فليستعد للفتن العمياء والإرهاب العنيف، مما لا تصنعه المناهج، ولا يحبذه الإسلام: (ومن عاشر بالمكر كوفئ بالغدر).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:34 AM   #249
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
أيها الخليجيون خذوا حذركم من العمالة..!
د. حسن بن فهد الهويمل


كل أسواق الجذب في العالم تمر بمخاضات موجعة، وهي إذ تكون مضطرة أو ملزمة باستيعاب العبوات الناسفة من العمالة المتفاوتة، يكون من واجبها أن تتحسس مواقع أقدامها، وأن يكون لديها الاستعداد التام لرفع درجة الحذر والحيطة، وتوجيه كل طاقاتها لرصد رياح التغييرالناتجة من تقاطر الوافدين الذين لا ينظرون إلا بعين الكسب: مشروعاً كان أو غير مشروع، وما يتركونه من آثار سيئة على كل المستويات.
وحين ينعم الله على الأمة بالمال الوفير، والأمن الوارف، والخطط التنموية الطموحة، يتهافت عليها العاملون والمستثمرون، وتمارس معها الضغوط لتسهم في فك اختناقات البطالة عند الآخر، وقد تستدرج بالإغراء تارة، وبالترغيب أو الترهيب تارات أخرى، وتكون عشق الملايين من الناس ومهوى أفئدتهم. وإذا كان المعسرون يعانون الأمرين في سبيل الحصول على لقمة العيش، فإن الموسرين يعانون مثل ذلك في سبيل ترشيد المسار، وتحامي الانزلاق في مهاوي الترف واللامبالاة. وضريبة الغنى كضريبة الفقر، والمسألة في النهاية معادلة صعبة أو تعادلية متوازنة، فلكل وضع مشاكله، وأسلوب مواجهته، ومن ظن أن الموسرين على شيء من الراحة والاسترخاء، فقد وهم، فالحياة كلها كبد ومغالبة، وللأغنياء مثلما للفقراء همومهم وتطلعاتهم.
وقدر (الخليج العربي) أنه منطقة جذب، يتهافت عليه أفواج من الناس المختلفين في لغاتهم وأعراقهم ودياناتهم وعاداتهم وأخلاقياتهم، يستنزفون الخيرات، ويضيقون فرص العمل على أبناء الوطن، ويتركون آثاراً سيئة لا يعرف مداها إلا المكتوون بها، ومع أن تلك الظاهرة عبوة موقوتة فإن الناس ألفوها، وعايشوها، ولم يأخذوا حذرهم منها، والراصدون لآثارها من رجال الأمن والتربية والاقتصاد يكتمون بعض ما يعرفون خوفاً من إزعاج الناس، ولو أنهم أظهروا ما عرفوا من إشكاليات العمالة، ثم وضعوه بين أيدي الكافة بكل بشاعته، لأخذ الناس حذرهم، واكتفوا بالأقل من العاملين، والدليل على ذلك أن المكتوين بويلات البعض منهم صرفوا أنظارهم عن الاستقدام أو الاستعانة فضلاً عن التوسع.
لقد كانت لي إلمامات خليجية، تقف بي على متجر هنا، أو فندق هناك، أو منتزه هنالك، وفي كل موقع أشعر أني غريب الوجه واليد واللسان، حتى لكأني في ملاعب الجنة التي قال عنها (المتنبي):- (لو سار فيها سليمان لسار بترجمان). مع أن الله علمه منطق الطير، وهذه الغربة لا شك أنها موغلة الأثر في الأسر الخليجية، ولا سيما الأطفال، والتلقين في الصغر كالنقش على الحجر، فما يتلقفه الصغار من لغة أو عادة يتأصل في وجدانهم، وكأنهم ورثوه من الآباء والأجداد. وإذا تركت العمالة أيسر ما عندها من سلبيات، ورحلت، تحولت ظواهرنا الاجتماعية إلى خليط عجيب، لا تعرف له أصلاً ولا فصلاً، وتلك رزية لا قبل لنا باحتمالها، ولو كانت تلك المؤثرات عربية لما كان في الأمر من بأس، ولكنها أخلاط متناقضة، وعجمة مستحكمة، ومما يؤسف له أن العمالة ربما تجمع بين العجمة واختلاف الدين والتخلف بكل وجوهه، والطفل المولود على الفطرة يجد المربية والسائق والخادمة الذين قد لا يهودون ولا ينصرون، ولكنهم ينسون الأطفال ما تعودوه من آبائهم وأمهاتهم، وإن لم يتهودوا ويتنصروا فإنهم بلا شك سيتأثرون بمن لا يذكرون الله ولا قليلاً، ومن ثم تتحول البيئة إلى بيئة موبوءة، وهذابحد ذاته كاف لإطفاء المشاعر وتبليد الحواس، وكيف تتأتى لنا التربية السليمة والآباء والأمهات لا يلمون بأطفالهم إلا قليلاً، وما أجمل مقولة شوقي عن غفلة الآباء وانشغال الأمهات:-
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همِّ الحياة وخلفاه ذليلاً




إن اليتيم هو الذي تلقى له
أماً تخلَّت أو أباً مشغولاً


ولو أن هذه الإشكاليات جلبتها المؤسسات الحكومية لسمعنا تشنجاً وعويلاً، أما وقد كان المواطن هو الفاعل مع سبق الإصرار فإننا لا نسمع عنها إلا همساً، والأسرة الخليجية مهددة من «الخادمة» و«السائق» و«عامل النظافة» و«المسوِّق» وهذا الحصار المحكم الذي صنعناه بأيدينا لا يمكن أن يمر بسلام، ولو أن جهات الأمن كشفت عما تضبطه من سوءات وإساءات تمس كل جوانب الحياة لعاش الإنسان الخليجي في خوف لا قبل له باحتماله، وكيف تطمئن نفوس واعية والبلاد يسرح فيها ويمرح أكثر من ستة ملايين وافد، تختلف مستوياتهم ولغاتهم وعقائدهم وعاداتهم، منهم المرضى، ومنهم المجرمون، ومنهم المشعوذون، ومنهم الناصحون الساعون في فجاج الأرض لطلب الرزق الحلال، فيما يقابلهم من المواطنين العاميون، والمعسرون، والمستغلون، والمتحايلون، والمهملون والمغفلون والقابلون للاستغلال، هذه التركيبة العجيبة لا يمكن أن تأتي معطياتها سليمة كما يتوقعها المتفائلون. ومما يضاعف الإشكالية المتسللون من الحدود والمتخلفون من الحج والعمرة والهاربون من كفلائهم والمتسترون على كل هذه المخالفات من المواطنين الذين يواطئون على الخطيئة.
والعدد المخيف يتزايد يوماً بعد يوم، والإشكالية أن الجهات الأمنية والمواطنين على الخطيئة في سباق (مرثوني) فكلما أحكمت الجهات الأمنية ضوابطها، خرق المتحايلون على النظام خرقاً يتسع على الراقع، حتى إذا بدا عواره تداركه واضع النظام. ومع تزايد العمالة، وتشعب إشكالياتها فإن المملكة تعد من أعلى دول العالم في نسبة المواليد، ومن أعلاها نسبة في فئة الشباب المحتاجين للعمل أو المقبلين عليه، وظاهرة البطالة بادية للعيان بنوعيها: البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة. ومما يؤزم البطالة انعدام عنصر المنافسة، فالوافد يجد نفسه ميسور الحال بأقل الأجور، فيما لايكفي ما يتقاضاه لسد قيمة المحروقات أو أجور المكالمات للشاب السعودي، وهذا الفارق يحفز صاحب العمل على التمسك بالعمالة بقوة النظام أو بالتحايل.
ومما يضاعف الإشكالية أن العمالة الوافدة يستدعيها من لا يحسن إدارتها، أو من لا يستطيع الوفاء بحقوقها، حتى إذا وقعت الواقعة بسبب الجهل أو العجز تسربت العمالة من بين أيدي الكفلاء بالتواطؤ أو بالحيلة، وحين لا تجد الكسب المشروع، التمسته في الكسب غير المشروع، فتكون السرقات والاختلاسات والسحر والشعوذة والتطيب الشعبي وصناعة الخمور والقمار والدعارة، ويكفي ما نواجه به من أخبار مفزعة عن تصاعد نسبة الهروب، وبخاصة عند فئة الخادمات، وما نسمع به من عثور عن طريق الرصد أو بالصدفة على أوكار الخطيئة المتعددة. وقد تضيق السبل بالعمالة، أو يقسوا الكفلاء على المكفولين، فيكون الغدر القاسي الذي قد يقع على الأطفال الأبرياء. وكل هذه الظواهر لو عرفها الناس لما فُزِّع عن قلوبهم، ولكن الجهات الأمنية تتكتم خوف الإزعاج، وما كان من مصلحة المواطن أن ترأف الدولة بمشاعره، حتى يقع في الكارثة من حيث لا يدري ، إن على أجهزة الأمن أن تكشف عن كل هنات العمالة، وأن تضع المواطن في الصورة، ليأخذ حذره، ويقلل من فرص الاحتيال على النظام ، وتسريب المكفولين للعمل غير المشروع.
وإذا كانت المملكة بسبب عمقها الجغرافي، وكثافتها السكانية، قد احتملت شيئاً من هذه السلبيات، واستوعبت الكثير منها، فإن بقية دول الخليج نالها من هذه التركيبة الغريبة ما لا يمكن احتماله، وهي مقبلة على مؤثرات لغوية وسلوكية، قد تطمس الهوية، وتقلب التركيبة السكانية رأساً على عقب.
وتلك الظواهر لم تكن وقفاً على الخليج فلقد مرت بها دول كثيرة واتخذت من الاحتياط ما خفف الآثار السيئة، وعلينا أن نستفيد من تجارب الآخرين ، نجد ذلك في أمريكا الشمالية والجنوبية قبل قرن من الزمن، حيث كانت مواطن جذب واغراء فيما كان المشرق العربي إذ ذاك موطن طرد، فكان أن نشأت ظاهرة (المهجرين العرب ) حيث كان لتكتلهم وتعلقهم بلغتهم وآدابهم نتائج إيجابية، بحيث نشأ ما عرف ب (الأدب المهجري)، وذلك على مستوى المهاجرين من الشام. أما في (نجد) التي يقول أهلها عنها: إنها تلد ولا تغذي، فقد عرفت ظاهرة (العقيلات) وهم رجال عصاميون من حواضر نجد، خرجوا للتجارة والعمل، وعاد من عاد بعد الاستقرار والرخاء ، وبقي منهم خلق كثير، وقد شكلوا فيما بعد تاريخاً استهوى طائفة من المؤرخين، وسيقت عن بعضهم حكايات بطولية، ووسع الشعر العامي طائفة من حكاياتهم، وانتهت ظواهر (المهجرين) و(العقيلات) لتحل محلها ظواهر أدهى وأمر، هي ظاهرة (هجرة الأدمغة) و(الكفاءات العلمية) لتوفر المناخات العلمية والتقدير المادي.
إضافة إلى ظاهرة اللاجئين الذين لم يحتملوا جور الحكام، ولم يطيقوا شظف العيش، لقد فاضت الملاجئ بالحزبيين والخارجين والمناوئين والهاربين، وكل ذلك ناتج قلق سياسي واضطرابات أمنية وضلوع في اللعب السياسية، وكل هذه الظواهر جعلت الكافة من الخليجيين يعولون على غير العرب في سد حاجتهم في الأيدي العاملة، الأمر الذي أخل في تركيبتهم السكانية، وأفسد عليهم لغتهم، وستظل العمالة مصدر إزعاج وبؤرة عادات سيئة وعاميات غير مستقرة وبطالة مؤثرة على القيم المادية والمعنوية، وواجب الخليجيين تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
والأمة أحوج ما تكون إلى (عوربة) العمالة بعد تسويات سهلة، فالأقربون أولى بالمعروف.
وأحوج ما تكون إلى الفصل بين العمالة والعلاقات السياسية ورياح التغيير.
وأحوج ما تكون إلى مراعاة الحاجة، بحيث لا تنظر إلى تخفيف حدة البطالة عند الآخر، والأجدى لها أن يكون بحث شؤون العمالة اقتصادياً صرفاً، يدار وفق الحاجة، من حيث الكم، ومن حيث النوع، ومن حيث نسبة العمالة إلى نسبة السكان، وعبر مؤسسات متخصصة بشؤون القوى البشرية، لا مؤسسات مهتمة بالأمور السياسية.
ونحن في المملكة أحوج ما نكون إلى تجميع شتيت المسؤولية، إذ أن وزارة الداخلية، ووزارة العمل، ووزارة الخدمة المدنية، تقتسم المسؤولية، وقد لا تتبادل الخبرات والمعلومات، وحين توحد جهة الاختصاص، وتسلخ الإدارات من تلك الجهات لتجتمع في دائرة واحدة، تكون الأقدر على التقدير والتقويم والتدبير والتطوير والرصد الدقيق.كما أننا أحوج ما نكون إلى حماية السواعد الشابة التي زوحمت في عقر دارها، ومورس معها الإغراق بأرخص الأسعار، وتتم الحماية بمضاعفة الضرائب مع استثناء المؤسسات الإنتاجية كالزراعة، وبتمويل مراكز التدريب من تلك الضرائب التصاعدية، والإغراء على التدريب، وذلك بصرف مكافآت مغرية للمتدربين على المهن التي تتطلب مهارات، وتمكين المتدربين بعد استكمال تعلمهم من فرص العمل، وذلك بمنح قروض ميسرة، بدعم من البنوك، وفي سبيل تحسين الأوضاع لابد من تجميع الوحدات الصغيرة من الورش بمجمعات مشتركة تستفيد من التأمين والخدمات الصحية والقروض وغيرها. أما عن العمالة المنزلية فيحسن إنشاء شركات نقل لخدمة الأسر التي تحتاج إلى خدمات النقل، وتحويل كفالة الخادمات إلى شركات بدل كفالة العوائل، على أن يكون عملهن باليوم أو بالشهر أو بالسنة، وفق ساعات العمل المطلوبة بحيث يسهل الاستبدال عند سوء الفهم، وفوق كل ذلك لابد من متابعة وإحصاء ودراسة وتقويم مستمر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:34 AM   #250
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الفكر والبيئة بين النقاء والتلوث 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل


أذكر أنني قرأت أمشاجاً من كتاب «التلوث مشكلة العصر»، وتجرعت مع غيري مرارات التلوث، في أعقاب تفجير حقول النفط الكويتي، وفي زمن الطفرة الزراعية. وكتبت عن خطورة ذلك، وضل عني الكتاب والمقال، ولما تزل تجتال المشاهد أنواع أخرى، تلوثت منها الآفاق، والتاثت فيها الألسن، وارتابت معها الأفكار. وإذا كانت الأوبئة تنسل من المستنقعات وعوادم المعدات، فإن الفتن العمياء توقظها لوثة الأفكار وعنت السياسة. ومتى فسد الفكر، وتلوثت البيئة، شقي الناس، ومع كل أنواع التلوث، يظل حقلان هما الأخطر: تلوث البيئة، وتلوث الفكر. ولقد استذكرت النوعين ساعة كنت في مطار الملك خالد الدولي في طريقي الى القاهرة، لحضورمؤتمر «العولمة وحوار الحضارات» المنفذ «بجامعة عين شمس» في مستهل شهر صفر 1423هـ، إذ لقيت في أبهائه لفيفاً من المتخصصين السعوديين بصحة البيئة، وهم في طريقهم الى القاهرة لحضور مؤتمر آخر، يتعلق بتلوث البيئة، فيما كنت مع أربعة من المفكرين والاجتماعيين والأدباء والاعلاميين نحزم أمتعتنا لحضور مؤتمر يتعلق بتلوث الفكر. وكانت بعض المؤسسات في المملكة قد تبنت من قبل مثل هذه الندوات «فمكتبة الملك عبدالعزيز» و«رابطة العالم الاسلامي» قد فرغتا للتو من تنفيذ ندوات مماثلة، وقلت في نفسي: إن وراء هذا الاحساس أكثر من تساؤل، فتعاقب المهرجانات والمؤتمرات والندوات، وتتابع الكتب، مؤشر اهتمام وخوف، يسبق المخاضات التي لها ما بعدها، وفوق ذلك فقد تحرفت دول عربية واسلامية لانشاء مراكز لدراسة الحضارات المعاصرة، إذ أنشىء مركز في «طهران» وآخر في «جامعة عين شمس»، وعلمت ان مؤسسات علمية في المملكة بصدد انشاء مركز مماثل، تتعقب من خلاله كل المؤتمرات والندوات والكتب والمحاضرات التي تجعل من «العولمة» أو «حوار الحضارات» أو «النظام العالمي الجديد» مجالا لفعلها، وفي ذلك خير كثير. وقادة الفكر عندنا خير معوان لحماية البلاد من دخن الأفكار المنحرفة، ولا خوف من فلول الحداثة وذيول الماركسية وسدنة التغريب، وسائر التبعيين الذين يحلو لهم وضع العصي في العجلات وتعكير صفو الوحدة الفكرية التي تنعم فيها البلاد، ويحس بدفئها العباد، ومع ما هم عليه من شغب مفتعل فإن عودتهم مأمولة، فهم أبناء فطرة لا يبعدون النجعة.
لقد كان هذا التحرك الاستثنائي المثير عبر كل المشاهد العربية سببا مباشرا في استدعاء تلك القضية الأهم، وهي «تلوث الفكر» وأهمية حمايته، و«تلوث البيئة» وأهمية تنقيتها، ولاسيما في زمن الانفتاح والصناعة. الانفتاح المعرفي والاعلامي والمعلوماتي، والتسابق القنواتي، والمتاجرة بالامكانيات. وليس «التلوث البيئي» بأحسن حال من «التلوث الفكري»، والحديث عنهما مطلب رئيس في ظل التحولات الصناعية والزراعية والكثافة السكانية في عواصم الجذب، واستشراء قنوات الفضاء، وتسابقها في الجذب والاغراء والتغرير، وسهولة الدخول على المواقع عبر الشبكات العنكبوتية، وامكانية الوقوف على كل ما انتجه الفكر الفلسفي المادي.
والخبراء الغربيون ورجال الأعمال منهم، ممن يمرون بالمنشآت الزراعية في المملكة زمن الطفرة لتقوية العلاقات مع الشركات الزراعية والأفراد، يفزعهم الاستعمال غير المرشد لسائر المركبات الكيماوية، سواء منها ما يتعلق بالتقوية أو بالمكافحة، فلقد ملئت المحلات بالمبيدات والكيماويات المركزة التركيب، وتهافت المزارعون عليها، بدون وعي لأضرارها، وبدون معرفة لاستعمالها، ولقد كنا نحس بظاهرة التلوث، حين تنطلق بنا السيارات باتجاه الشمال، إذ نشم روائح ملوثة، تزكم الأنوف، وتسيل الدموع. وأصحاب المشاريع الحيوية يمنون بأوبئة، تجتاح مشاريعهم، ثم لا تبقي، ولا تذر، وبخاصة مشاريع الدواجن. فأين منها حفظة التوازن، وجهات الاختصاص، الذين يحمون الأجواء والتربة من فساد كبير؟ وأين منا المرشدون الذين يعلِّمون المزارع، ويوعّونه، ويحذّرونه؟ لقد خلت الأجواء للاعلان التجاري، وضل عن الجميع ما هم بحاجة اليه.
ومشكلة التلوث البيئي من أكبر المشاكل التي يواجهها العصر، ومن أكثرها خطراً على مستقبل الحياة في الأرض، ولعلنا على علم بالمؤتمرات المتلاحقة حول «الثقب» الذي أحدثته نفايات الأرض في طبقة الأوزون، وما يمكن ان يتركه من آثار سيئة، تطال كل جوانب الحياة، وإذ لا أكون مع المبالغين في التهويل والهلع، أجد في الأمر شيئا، لا يصل حد التهويل الذي نسمع به. وعلينا ان نفرق بين «التخويف» و«التحذير» و«المكائد»، فالتسليم لكل ناعق مضيعة للمثمنات، وتعطيل للامكانيات. وسائر المشاهد لا تخلو من لاعبين أذكياء يخوفون أولياءهم، ويصدونهم عن الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي، وعلينا ان نعيد النظر في كل ما يطرحه الغرب، فلربما يكون طرحه من باب المكيدة الحاذقة، وبخاصة ما نسمعه عن «حرب المياه»، وتعمده ارباك المشاريع الزراعية، حتى لقد خوت المزارع على عروشها، ونجمت مشكلة تصدير فائض المعدات الزراعية، وبيعها بثمن بخس، واجهاض تجربة مثيرة، وفقنا بها على مشارف الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي.
ومشكلة التلوث فتحت شهية عصر القطب الواحد وغطرسة القوة وحمى الأمركة وصبغة الغرب، ومن لم يستجب سيم سوء العذاب، حتى لقد فرضت ضريبة تعسفية على دول النفط لمكافحة التلوث، فيما لم تفكر الدول الصناعية في التعويل على دراسات متخصصة لتطوير أجهزة العوادم. و«النفطويون» لا يملكون أكثر من ترويج البترول الخام، وعلى الذين يتولون التكرير التحرف لمزيد من التقنية. وحسم التلوث لا يتم إلا بالتعاون الصادق بين الأطراف، لتكون «التقنية» و«التنقية» صنوان، وكم نتمنى لوان دول العالم كافة استدبروا المكائد والابتزاز، وفكروا جيدا في عمل مشترك للتخفيف من حدة التلوث الذي خلف أوبئة وأمراضاً مستعصية.
ومع الاشفاق الكاذب، ودموع التماسيح، اكتشف العالم فضيحة الدول الغنية التي تستأجر شواطىء الدول الفقيرة المتخلفة، لطمر النفايات النووية. والدول التي تلوح بورقة الدفاع عن حقوق الانسان والمرأة والاسكان، لتخيف الناشزين عن عصمتها والمتلملمين تحت وطأتها، هي الساعية مع سبق الاصرار لحرمان هذا الانسان من أبسط حقوقه، وهي الصانعة للارهاب والمصدرة للتلوث، وهذا التناقض الصارخ، لا يمكن تبريره على أي شكل من الأشكال، والتقدم الصناعي الذي حقق مزيدا من الرفاهية للانسان، ومكنه من التواصل، يعد من أكبر أسباب التلوث الطبيعي، فالمصانع والمعدات ووسائل النقل البري والبحري والجوي تنفث غازات ضارة، تلوث البر والبحر والجو، اضافة الى مخلفات المصانع وسائر الكيماويات الزراعية وأدوية المكافحة. والتلوث حين يمتد الى البحار، يميت أحياءها، ويلوث ماءها وشواطئها، وأهمية البحار الاقليمية زادت بعد مشاريع التحلية والسياحة.
والدول التي لم تستكمل البنية التحتية، وبخاصة ما يتعلق بالصرف الصحي، تتعرض لأضرار مادية وصحية، وتدمير لما نفذ من بنية تحتية، لأن طفح المياه في المنخفضات وفيض المياه من البيارات وتسرب المياه من الشبكات الضعيفة يقضي على سائر التمديدات والخطوط والطرق، مع ما يتركه من تلوث بيئي ونزف للثروة الماية، وقد شوهدت آثار ذلك في بعض مناطق المملكة، وبدأت التحركات الجادة لمواجهة الأضرار في وقت مبكر، ولكننا لم نستكمل ذلك، لا على مستوى تصريف المياه المستعملة، ولا على مستوى مياه الأمطار، ولم نستكمل مشاريع المعالجة الصحية، وتدفق مياه المجاري في المنخفضات تصرف بدائي، واستخدامه زراعيا دون تنقية مضر بصحة الانسان والحيوان، والتلوث مؤذن باختلال التوازن بين عناصر البيئة المختلفة.
والتوازن بين عناصر البيئة أصبح يشكل قضية جديدة، لم يلتفت اليها العالم، إلا بعد استفحال التلوث، وتعدد مصادره ومجالاته، كتلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون، وتلوثه بالشوائب، وتلوث الماء، والتلوث النووي، المتمثل بالتجارب النووية أو بالتوسع في استعمال محطات الطاقة النووية وتسربها، وبالنفايات النووية، وما يترتب على الاستخدام النووي السلمي من حوادث ونفايات وتلوث حراري. ومن عجائب العصر ما عرف بالأمطار الحمضية، وأثرها على النبات والانسان والحيوان. وتلوث آخر منشؤه الكثافة السكانية. والذين يعيشون في الحواضر المكتظة بالسكان، ويقيمون في العمائر الشاهقة، يعانون من أمراض «الربو» و«الحساسية» و« الأمراض الجلدية»، ومع ما يعانيه سكان العواصم والمدن الصناعية فإن الانفاق على مكافحة التلوث لا يكاد يذكر، وفوق ذلك نجد عدم الالتزام بالاتفاقات العالمية لمكافحة التلوث، كما ان أساليب التوعية بدائية وثانوية، وليس هناك مؤسسات مستقلة للرصد والدراسة والتوعية والمكافحة. ومن ظواهر التلوث عرفت الهجرة واللجوء، إذ هناك اثنان وعشرون مليون لاجىء بسبب التلوث. ومع ان العواصم العربية تعرضت لاشكاليات الكثافة السكانية بسبب تكديس المنشآت والمصانع ومجالات العمل والدراسة المغرية على الهجرة، فإننا لم نستفد من ذلك، ومدينة «الرياض» مقبلة على كثافة سكانية مهيأة لتلوث بيئي، وكان بالامكان تلافي ذلك، لو اتعظنا بغيرنا، ولم نجعل «الرياض» مثابة لكل شيء.
ومع ضعف المقاومة والتوعية تتعدد مصادر التلوث وأسبابه، ولم تعد الصناعة وحدها مصدرا من مصادره، فهناك النفايات التقليدية والنووية، والحروب الجرثومية، ومياه الصرف الصحي، والمستنقعات، والطفح، والسيول، والأوبئة، والضوضاء، والكثافة السكانية، والأخطر من كل ذلك معامل وزارات الدفاع الغربية الساعية لتطوير أسلحة الدمار الجرثومية، حتى لقد اتهمت البنتاجون بتسرب فيروس «الايدز»، والعالم الثالث لم يتخلص بعد من مصادر التلوث التقليدي كالمستنقعات. والبلاد مرت بحالات من عقابيل التلوث التقليدي، ظهرت في «جازان» وفي «سواحل الخليج» وبخاصة بعد الحربين الخليجيتين، وفي مدن الجذب ك«الرياض» و«جدة». ومكافحة التلوث لا تتم إلا بتضافر الجهود واخلاص النوايا، وأحسب ان العالم بعد لم يخلص النية، ولم يصدق عزمه على تجنيب كوكبنا الأرضي من نكبة مدمرة، بسبب التلوث الناتج عن الاهمال أو التعمد. وإذا كنا نؤازر العالم في الحد من التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل فإن عليه تعميم المتابعة والعدل بين الظماء، وذلك بالحد من التسلح عند الجميع، أما ان تمارس الضغوط والعقوبات الذكية والغبية على طائفة دون أخرى، فذلك الظلم الذي لا يطاق، والجور الذي لا يحتمل، والظلم هو الحاضن المخصب للعنف والارهاب، وإذ لا نجد بداً من القبول بالحد من التسلح، نود ان يمتد الى العصابات الصهيونية، التي تعيث في الأرض فساداً، وتتلقى الدعم السخي من حماة العدل والحقوق والديمقراطية، وعلى عالمنا الموصوف بالتخلف والانفجار السكاني والفقر ان يكل أمر مكافحة التلوث لمؤسسات قوية، تستشرف المستقبل، وتخطط له، وتواجه الواقع المرير، وتحسن اشكالياته.
إن العالم النامي والنائم يتعرض لحملة بشعة تضعه تحت طائلة الأوبئة والتضليل، فلا هو قادر على الرؤية السليمة بسبب التضليل، ولا هو قادر على ايقاف التدهور البيئي بسبب الاستغلال البشع، وسيبقى ضحية التضليل والاستغلال حتى يأذن الله بيقظة قادته ووعي نخبه واستجابة كافته وعدل الأقوياء في الأرض.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:35 AM   #251
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الفكر والبيئة.. النقاء والتلوث 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومع الخوف والهلع اللذين يصيبان الانسان من تلوث البيئة، يقوم الى جانبه تلوث آخر، لايقل عنه خطورة، ذلكم هو «تلوث الفكر» وهذا النوع من التلوث يستشري بين العلماء والمفكرين والأدباء ممتداً الى الكافة، بحيث يؤدي الى خلل في وحدة الفكر ووحدة الصف، ومن خلل الوحدتين تنسل الفتن، والأعداء لا يخوضون الحرب المسلحة حتى يوهنوا الخصم بإشاعة الخلاف والفرقة، وتحويل الأمة الى شيع وقبائل، يضرب بعضها رقاب بعض.
وما دون ذلك من التلوث يتمثل في الخلاف حول المرجعيات والمفاهيم، والخلط بين الوسائل والغايات، والمتناكفون حولها لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، ولا بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وما طريقة التفقه، ولا بين ماهو مجال للاجتهاد وما لا يحتمل الا التسليم، وليس من شك ان مثل هذه الظواهر ناتج عن تلوث فكري، لم يحل بالأمة دفعة واحدة، وإنما تسرب عبر الثنيات المهملة كالخدر، على حين غفلة من حراس الثغور، او اشتغال بما دون المهم ويستفحل دخن التلوث حين يؤدي الاختلاف الى العداوة والبغضاء والتنابز بالألقاب، إذ ليس من التلوث الاختلاف ابتداء، وليس منه الجدل في سبيل تحرير المسائل وإحقاق الحق، وليس منه البحث الجاد عن الصواب، وما أجمل مقولة الشافعي: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» ولقد قال زكي مبارك لخصمه اللدود طه حسين «الويل لنا إن لم نختلف» والاختلاف المقبول هو ذلك الاختلاف حول «النص وصحته» «النص ودلالته» و«الدلالة ومقاصد الشريعة» و«تعدد الدلالات وفق الواقع»، أما الاختلاف حول شرعنة الباطل، وتأهيل المنكر، فاختلاف مذموم، ولقد عشت الاختلاف في كل لقاء أحضره، وفي ثنايا كل كتاب أقرؤه، وعبر كل حديث أسمعه، ولما يكن بعضه من الاختلاف المعتبر المتوقع الذي يتعاذر فيه المختلفون.
واستفحال التنازع في المؤتمرات التي أريد منها تقريب وجهات النظر، وتنقية المشاهد من شوائب التلوث الفكري ظاهرة مألوفة، لقد رأيت وسمعت في مؤتمر «العولمة وحوار الحضارات» في القاهرة، وفي ندوة «مشروع النهضة العربية..» في دمشق اللذين حضرتهما مشاركاً مؤشرات التلوث الفكري، فبعض المشاركين لاتحكمهم مرجعية يرضون بالرد إليها، ولا تستوعبهم أيديولوجية يركنون إليها، فكل واحد تعدو عينه الى مرجعية مغايرة، وإلى أيديولوجية مناقضة، فهناك قومي مغرق في القومية، وعلماني متطرف في العلمانية، وإسلامي كما الأعراب الذين قالوا: آمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وإسلامي موغل في الإسلام بدون رفق، ولعل من بين ما سمعت اختلافا مخيفا في وجهات النظر، وآراء متضاربة، لا توحدها مرجعية، ولا يشغلها هم مشترك.
والذين جاؤوا من آفاق العالم العربي للحديث عما يجب اتخاذه من احتياطات، عمقوا الخلاف فيما بينهم، ولما يكن اختلافهم حول مفهوم الظاهرة، وإنما امتد الى المرجعية، وفوق ذلك فقد القى بعض المؤتمرين ملخصات بحوثهم ب«اللغة الانجليزية»، في حين ان المستمعين لا يجيدون إلا العربية، وفي ذلك تهافت مخل بالأهلية على لغة حضارة مغايرة، من أهم أهدافها عولمة العالم: لغة وحضارة، واللغة وعاء الفكر، وعنوان الحضارة، والتخلي عنها في لحظات البحث في مشروعيتها مؤذن بفساد كبير.
وكل الذين يدافعون عن الفكر الأصيل، ويؤكدون على الخصوصية العربية، وما لها من موروث عريق، يحاولون صد هذا الطوفان، ومع ما لهؤلاء من دور فعال فإن الخطورة تكمن في طوائف تقمصت هم الاستشراق.. والاستشراق قضية عويصة في ذاتها، فضلاً عن مقاصدها.
وتلوث الفكر المتعمد والمبيت والقصدي لايقل خطورة عن تلوث البيئة الاضطراري واللاقصدي، فهذا يفسد المادة، وذلك يفسد الروح، والحياة الدنيا طريق للحياة الأبدية، وتلوث الفكر نتيجة تفكير ومكيدة مدبرة يؤزه حقد دفين، والمتماكرون أذكياء، ومتفانون في خدمة مصالحهم العاجلة، ولكل تنظيم وسائله وسبله المتعددة، ولا يمكن تحديد مصادره، ثم هو باقٍ ما بقيت تشكلاته.
ولكيلا نديم الإحالة على المكروالتآمر، ولكيلا نمعن في جلد الذات وعمليات الإسقاط نجد ان طائفة من المفكرين تحيد بهم أفكارهم وتصوراتهم ابتداء عن جادة الصواب، ويبلغ بهم الإعجاب بالرأي حداً يفوق عبادة الهوى، والإسلام ذم من اتخذ إلاهه هواه، ومرد ذلك سوء الفهم، او التعويل المطلق على العقل، واستدبار النص، وما نسلت النحل والملل إلا من لعبة «النص والعقل» أيهما الحاكم والمحكوم، وما حدود كل منهما، ولسنا بصدد تحرير الموقف من «النص والعقل» فذلك له مجاله الذي نود تقصيه في موقف آخر، وعلينا أن نتلمس مصادر تلوث الفكر المتعددة والمتنوعة، ولا شك أن «الكلمة» حجر الزاوية في النقاء والتلوث، والفائزون من يهدون إلى الطيب من القول.
والكلمة هي الوسيلة الأهم، لأنها تسهل في تشكل الفكر وصياغة الذهن، وحين تصاغ الذهنية العامة على عين الجهلة وأنصاف المتعلمين والحاقدين الماكرين يصعب تصحيح ما فسد، وقنوات التواصل تعددت وتنوعت، ومن أخطرها القنوات الفضائية، والشبكة العنكبوتية، ومراكز المعلومات، وفيوض المطبوعات، وسرعة الاتصالات، وسهولتها، والخلطة المستحكمة، ورقة الدين، و«الرأي العام» أصبح فريسة للإعلام الموجه وللمتفلتين من جماعة المسلمين، وحين يتشكل وعي «الرأي العام» على عين الأعداء يصعب اختراقه واستمالته وإقناعه في سبيل تشكيل جبهة داخلية متماسكة، تحمي الساقة، وتمكن القيادات الفكرية من النظر إلى الأمام.
والأمة الإسلامية واجهت حروباً شرسة من أخطرها «حرب الكلمة»، فالمبشرون والمستشرقون والمستغربون والمتعالمون المتصدرون للفتوى المتزاحمون على القيادات المعرفية كل أولئك يمارسون مكيدتهم أو جهلهم أو تعالمهم تحت نوايا ورغبات مختلفة، ولكن النتيجة واحدة، والإعلام المتوغل ناقل سريع لهذه الأدواء، ولم يكن الإعلام وحده في المعركة، فالأدب المؤدلج جنح الى الالتزام الفكري، والممعنون في الأدلجة غير مؤصلين، والروائيون الماجنون المنحرفون المتمردون على شرط الفن وضوابط اللغة وأطُر الاخلاق، يفسدون الذوق واللسان والسلوك، والنقاد الصامتون أو المؤازرون يواطئون على الرذيلة باسم حرية الفن، والجميع لا يعرفون حدود ما أنزل الله ومن ثم يلوثون الفكر ويدمرون الأخلاقيات، وما فتئ أعداء الإسلام يتحرفون للوقيعة، ويمارسون مختلف الأعمال لتزييف الوعي، وتشكيل الذهن الإسلامي على مرادهم، ليكون منفلتاً، يشرعن لكل شيء، ويلتمس العذر لكل منحرف، أو يكون متشدداً يحرم كل شيء، ويكفر كل مخالف، وهذا التلويث المتعمد، زرع الشقاق، وأشاع الخلاف، وعدد الولاءات والانتماءات، وأذهب ريح الأمة، وجعل أهلها شيعاً تتناحر حول القضايا المصيرية، مثلما تتجادل حول أتفه الأمور، ولتلويث الفكر مجالاته المتعددة، ويأتي في مقدمتها التعصب للرأي والإعجاب به، والانتصار للذات، والتأكيد على المذهبية والحزبية، وخلق مناخات للصراع، وتكريس الرغبة في التشرذم والتجزيئية، وتصنيم الحدود الإقليمية، وتقديس العادات والتقاليد، وتأصيلها، والتأكيد على أهمية المحافظة عليها، واعتبارها جزءاً من حياة الأمة، وإثارة الشكوك حول الرموز الدينية، والدخول في مأزق المفاضلة في الأفعال الإجرائية لا في الأهداف والمقاصد، وطرح عدد من المصطلحات الغربية بمفاهيمها ومقتضياتها، أو بمفاهيم مستحدثة، بدعوى إفراغها من محتوياتها، والخلط بين مفهوم التجديد والحداثة الفكرية، والالتفاف الغبي على المفاهيم، وتسجيل مواقف الارتياب على حساب الفكر الاسلامي المستنير، واجترار الاخطاء الاجرائية بوصفها أخطاء مبادئ، وليست اخطاء منتمين للمبادئ، وإثارة الجدل حول ظواهر وقضايا بينة العوار ك«العلمانية» او «الحداثة» او «العولمة» او «الحاكمية» وغيرها، ومحاولة زرع الخلاف حولها بتعدد مقتضياتها، فالعلمانية مثلاً تطرح على أنها «عزل الدين عن الدولة» أو «عزل الحياة عن الدين» وقد يقال إنها «الدولة المدنية» في إزاء «الدولة الدينية» وضرب المثل مع الفارق، فالغرب متقدم بالعلمنة في إزاء دين محرف، والشرق متخلف في إزاء دين غير محكَّم، وهكذا يختلف الناس حول دينهم، ثم يختلفون حول مجلوبهم، وإذا اختلفوا حول الثوابت فسدت الحياة الدنيا، وهذا الجانب من أخطر جوانب التلوث، وتأتي قضايا كثيرة يختلف الناس حولها، ولا يردون خلافهم إلى مرجعية متفق عليها، تفض النزاع، وتحق الحق، والمشاهد الفكرية تعج بعشرات القضايا «كالمرأة» و«الحرية» و«الاقتصاد» و«المناهج» وسائر الأنظمة، وما من أحد يرد إلى الله والرسول.
وإذا كانت الدول المتحضرة تخسر المليارات في سبيل حماية البيئة من التلوث الحسي فإن واجب الدول الإسلامية التأكيد على أهمية الفكر وحمايته من التلوث العقدي، وأهمية المجتمع وحمايته من الفساد الأخلاقي، وأهمية ذلك مرتبطة بما يترتب عليه من نتائج، لقد كان الخلاف سابقاً بين فئات من الناس لا تملك التغيير، أو قل خلافات العلماء والنخب داخل دوائرهم العلمية البعيدة عن الرأي العام، أما الآن فإن الخلاف يمتد إلى مؤسسات لها سلطة التغيير، وإلى شرائح من المجتمع لا تعي ما يقال، ولا تعي خطورة ما يقال، وهي قادرة على سماع ما يقال، والأخذ به دون فهم دقيق، ودون قدرة على استبانة المرجعية، وهذا الخلاف في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر قد يدفع الى مواجهة مخلة بالأمن، واختلال الوحدة الفكرية لا يقل خطورة عن خلل الوحدة الإقليمية، والتناوش الفكري والطائفي من أخطر القضايا، وأي دولة لا تضمن صفاء جبهتها الداخلية، لا تستطيع الفعل الإيجابي.
إن على الدول الإسلامية أن تحسب للتلوث الفكري حسابه، وألا تحيل الصراعات القائمة على أشدها إلى حرية الرأي وحرية التعبير، دون ضوابط، ودون فهم لمقتضيات الحرية لأن مردود هذا الخلل لا يقف عند حد الانحراف الشخصي، بل يتعداه إلى إحداث فوضى فكرية تمزق وحدة الأمة وتلاحمها، وتزرع بذور البغضاء، وتتيح فرصة للمفسدين ليندسوا بين المختلفين الناصحين المتعاذرين، وينفثوا سمومهم، والذين يعولون في لغطهم على «الحرية» ثم لا يفهمونها يبلغون حدَّ الفوضوية، والحرية هي النظام والانضباط، وتفويض حمايتها الى سلطة قوية تقمع الظلوم الجهول، وتأطر السغية، ومن أخطر حالات التلوث الفكري أن نفهم الأشياء على غير وجهها الشرعي، وإشكالية الاختلاف في المفاهيم مصدر مزعج من مصادر التلوث الفكري، وقد يعتمد المستفيدون من خلاف الأطراف الإيغال في مسائل الخلاف وتضخيمها، والخلط بين الوسائل والغايات، وتشجيع تعدد المرجعيات، وضرب المؤسسات الدينية، والتشكيك في علماء الأمة، والنيل الصريح من كفاءتهم وأمانتهم واستمرار النيل منهم، وليس ببعيد ان يكون تلوث الفكر نتيجة مكيدة حاذقة على خلاف تلوث البيئة، وقد يكون لرموز الفكر يد في ذلك، وأساطين الفكر الحديث لهم مشاريعهم الفكرية المخالفة لمقتضيات الإسلام، ومذاهبهم لاتندرج تحت مفهوم الخلاف المعتبر، ولا يشرعن لها حق الاجتهاد، إذ هي مذاهب غربية، ليست من الحضارة العربية والإسلامية في شيء، وتلوث الفكر يتلون كالحرباء، وتتعدد مواقعه، والمتابعون ببصر وبصيرة، يدركون مواطن الريبة، ويعرفون مرضى القلوب من لحن القول.
والسعيد من وظف قلمه ولسانه لخدمة العقيدة الناصعة والمحجة البيضاء، ولزم الجماعة حتى وإن بدا له ان القاصية من الغنم على الأفضل، وهو على الفاضل.
والأمة التي تعيش تحت مظلة وحدةٍ فكرية متناغمة، تسمو بنفسها فوق النزهات والنزاعات، ومتى اختلت الوحدة الفكرية في الأمة، دب الخلاف، واستفحل الشقاق، وتمزقت الأمة، ومن أوجب الواجبات على قادة الفكر في أي مجتمع أن يجنبوا «الرأي العام» مثل هذا الاختلاف في وحدة الفكر، وأن يحاولوا التسامي فوق الخلافات الجزئية لدرء الفتن «والفتنة أشد من القتل»، وقادة الفكر ليسوا بأقل خطراً من قادة الجيش، ولهذا فإن اختلافهم مؤذن بفساد كبير، والمؤسف أن العامة تستعذب الاختلاف، وتدفع إليه، وتعلي من شأن المتنازعين، وتتهافت على المثيرين، وعشاق الأضواء كالممثلين يتلمسون الرغبات ولا ينشدون الحق.
ومن أخطر ظواهر التلوث ان تختلط الأمور بحيث لانفرق بين الاختلاف المشروع والخلاف المحظور، إن هناك من يطالب بالفوضوية باسم حرية الرأي وحرية التعبير، بحيث لا تكون حدود ولا قيود، ولا أطر على الحق، وكل من حرَّم فهو عندهم ضد الحرية، وكل من أباح فهو العالم النحرير، ولهذا ارتفعت أسهم التمشيخ القنواتي، وفات البعض ان الدين مجموعة من الأوامر والنواهي والعزائم، وأن الصبر على الأقدار كالصبر عن الشهوات المحرمة، والصبر على الأوامر العازمة، لقد عايشنا خطابات لا ترى الحظر ولا الأمر، فكل ما حلَّ باليد حلال، وكل فعل ممكن مباح، وتلك حياة بهيمية، لا يستقيم أمر الأمة معها.
ومن ظواهر التلوث تقحم البعض منابر الخطابة، ومجالات الافتاء، ومواقع «الإنترنت»، والسعي الدؤوب في سبيل البحث عن آراء شاذة أو مخالفة للسائد، والقول بها، بدعوى «نحن رجال وهم رجال»، ولم يفكر أولئك أن من مقاصد الإسلام لزوم الجماعة، وإن كانت مع المفضول، ذلك أن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، ومن الخير الأخذ بالمفضول، حفاظاً على وحدة الكلمة، وتجنيباً للأمة عن مزالق الهوى والأثرة، وإن كان ثمة صيرورة إلى الأفضل فليكن عن طريق مؤسسات علمية ومجمعات فقهية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 08-12-2006, 11:29 PM   #252
فيتامين
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Sep 2003
المشاركات: 1,670
فكرة رائعة وجهد مشكور أقل مانقدمه لهؤلاء الكبار ..
__________________



" لايستطيع أحد أن يذكر قائدا عربيا واحدا كان له في ميدان النصر تاريخ إلا وهو متدين إلى أبعد الحدود , ولقد أحصيت عدد القادة الفاتحين فكانوا 256قائدا عربيا مسلما منهم 216من الصحابة و40 من التابعين عليهم رضوان الله تعالى أجمعين ."
(محمود خطاب)
فيتامين غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 09:43 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)