بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:36 PM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تكريم الرواد
بقلم د. حسن بن فهد الهويمل*


الأديب العالم الداعية معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، لي اليه أكثر من مدخل، وحديثي عنه تتنازعه عدة قضايا.
فلقد عرفته تربوياً يمتلك قوة الشخصية وقوة المعرفة. وعرفته إدارياً محنّكاً يمارس العمل الاداري وفق أدق الطرق وأشملها وأقدرها على الأداء السليم. وعرفته قارئاً نهماً يرشدنا الى الكتب والمجلات والدوريات؛ ويغرينا بالقراءة لكتب التراث وأمّهات الكتب.
في الثالثة عشرة من عمري، تقدمت لمعهد بريدة العلمي، وكان إذ ذاك يقبل طلبة «الرابع الابتدائي» فما فوق، وكنت في الصف الخامس الابتدائي، وحين دخلت مكتبه، أحسست بهيبته وجلاله وهو رجل مهيب وحازم وهو أميل الى القوة مع الطلبة فلا ينبس أحد عنده ببنت شفه، ومن بعد ادارة المعهد تلتقطه مواقع علمية ودعوية، وكان ان سهم في تأسيس الجامعة الاسلامية في المدينة ثم عمل وما يزال في رابطة العالم الاسلامي، وكل المسؤوليات التي واكبها منذ أكثر من نصف قرن لم تقفه عن التأليف في مختلف العلوم والمعارف، وبرز كاتبا لأدب الرحلات، حيث أتاح له عمله في الرابطة أن يكون كما وصفه «المتنبي»: «ما حطَّ من سفر إلا الى سفر» أو كما وصفه «الشنفرى»: «تَهاداهُ التنائف أطحل» لقد طاف العالم ولم يدع بقعة من بقاع الأرض إلا وحطت فيها رحاله.
وألّف عن كل دولة، أو بلد، أو مقاطعة كتاباً أو أكثر تحدث فيه عن حضارتهم، وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم وآدابهم وأديانهم وكل ما يهم القارىء، وخلّف وراء ظهره أكثر من مائة كتاب في «أدب الرحلة» وهي ثروة تاريخية جغرافية فكرية تهم كل مثقف ومسؤول.
وفي العام الماضي كرمه «نادي القصيم الأدبي ببريدة» تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم، ويومها تفضّل صاحب السمو بالأمر بتسمية أحد الشوارع ببريدة باسمه، وتسمية إحدى المدارس الثانوية باسمه وقد تم ذلك وهذا جزء مما يستحقه أمثاله فهو العالم الجليل الذي قضى شبابه وكهولته في خدمة الدين والوطن وأسهم في التأسيس لحركة علمية ودعوية.
وتكريم المنتديات والمؤسسات لأمثاله بادرة طيبة ووفاء لرجالات البلاد وأملنا في أن تحذوا كل مؤسسة أو ندوة أو جامعة حذو الذين بادروا في التكريم و«ثلاثية المشوح» التي أنشأها الأخ الكريم الشيخ محمد بن عبدالله المشوح أسهمت في تكريم عدد من الكفاءات الوطنية من رجال العلم والتربية والأدب، وهو اسهام مشكور وسلوك حضاري وبلادنا والحمد لله تعي مسؤولياتها إزاء علمائها وأدبائها وكافة العاملين من أجل خير المجموعة.
نسأل الله السداد والعون والتوفيق.


* رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي
رئيس نادي القصيم الأدبي ببريدة
أستاذ غير متفرغ للأدب بجامعة الإمام
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  


قديم(ـة) 21-12-2006, 02:37 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
النجومية بين: التألق، والانطفاء..!
د.حسن بن فهد الهويمل


ليست كل النجومية كاذبة خاطئة، وليست كلها مليئة بالإيجابيات والطهر الملائكي، والممحصون لعوارض التألق والانطفاء يربطونها بأحوال الأناسي وشهواتهم وبالظروف وتقلباتها. والأناسي منهم الصالحون والطالحون، والسابقون في الخيرات والظالمون لأنفسهم. والواقعون فيها ليسوا جميعاً بلُّوريين يشعون النور من الذات، ولايعكسونه من الآخر. ومَن تصور النجومية مليئة أو جوفاء، دون حفرية معرفية وخبرة استكناهية، فقد ظلم نفسه وقبيله، وهي مع هذا التفاوت تعد إشكالية العصر، وبخاصة بعد ثورة الاتصالات، وتدفق المعلومات، وانتشار القنوات، وتعدد وسائل الإعلام الجذابة المغرية. والنجوم الجوف كالعملات المزيفة، لايكشف زيفها إلا التداول بين أيدي الخبراء، وإذا كان الإيمان يُحكُّ بالدرهم والدينار، ليبدو صدقه من كذبه، فإن النجومية تعريها المواقف والأزمات والمواجهات، وتكشف عن أصوليتها أو وصوليتها سنة الله المتمثلة بالامتحان {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ }.
وقد فتن مؤمنون ومدَّعون، فعلم الله الصادق من الكاذب. وقد تسهم الأضواء التي صنعت النجوم في تعريتها، كما السحر ينقلب على الساحر. والمواجهة بكل صورها آلية مهمة من آليات الجس والسبر، وهي بلاشك إحدى السبل التي تكشف عن الأصالة أو الزيف.
هذه الخواطر انقدحت في ذهني، وأنا أمتري أخلاف الذاكرة، لأجيب على سؤال بدهني به أحد الزائرين الذين يودون الإجابة على كل ما يعن لهم، أو هكذا يتصورون إمكانياتي، وكأني ابن بجدة المعارف والمواقف. وما درى الزائر أن نصف العلم (لاأدري)، وأن من قالها فقد أجاب. والملائكة الكرام لا علم لهم إلا ما علمهم ربهم، وموسى عليه السلام، قال لعبد من عباد الله: {هّلً أّتَّبٌعٍكّ عّلّّى" أّن تٍعّلٌَمّنٌ مٌمَّا عٍلٌَمًتّ رٍشًدْا}. فمن نكون إلى جانب الملائكة الأبرار والرسل الأخيار؟
قال ذلك السائل: -لماذا تقترف وسائل الإعلام إحراق النجومية بمحاصرة الضيف بالأسئلة التي لايحير لها جواباً؟ ولماذا يكون جوابه متسطحاً لا يلوي على كبير فائدة؟. ولماذا ينكص النجم على عقبيه، ويقول ما لا يعتقد، أو يعتقد ما لايقول؟. وبعد أسئلته تابع القول: إننا نعيش حالة من الانبهار والإكبار لمن كنا نعدهم من الأخيار، حتى إذا سمعنا أو قرأنا لبعضهم، تساقطت الانطباعات، وتعرت الحقيقة المرة. وسؤاله هذا لملم لي أطراف النجوم في كل مجال، وأنكا جراحات دفينة.
قلت للسائل: -ليس من شرط النجومية الامتلاء المعرفي، ولا الطهر الملائكي، ولا الثبات المبدئي، النجومية قد تكون ناتج ضربة حظ، أو افتقار مشهد، أو غفلة مُشاهد. وفي الأساطير مقولة المتألّه: - (قيل: من أمرك؟ قال: من نهاني؟) ومن ثم فإن هناك فرقاً بين من يزحف في القارعة إليها (كما زحفت فوق الصعيد الأراقم)، ومن تأتيه منقادة تجر إليه أذيالها، كما الخلافة مع الممدوح، بحيث لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها. إذاً هناك (متناجمون) و(نجوم) وساعون إليها، وساعية إليهم. والأقل الأقل من المتابعين من يملك القدرة على الفرز بين نجم تهاوت النجومية تحت قدمه، وآخر استمات في سبيل التشبث بأذيالها، يدعي وصلها، وتدعي بُعْدَه و(المتناجمون) نفذوا إليها في غفلة من الرقباء، فكانوا كمن تسلق المحراب، وأتى البيوت من غير أبوابها، ومن فرغ لامتحان الظواهر تكشفت له عن تفاهات مخيبة للظن، وقديماً قيل: -(أزهد الناس بالعالم أهله) ذلك أنهم يرون منه ما لا يراه الأباعد.
والنجومية تكون في (الدين) بكل مذاهبه وتياراته واتجاهاته، وفي (الفن) بكل أنواعه: القولية والفعلية، وفي (العلم) بمختلف فروعه، وفي (السياسة) عند إقبالها وإدبارها، وفي سائر الأوضاع الاجتماعية، ودعك من نجوم (كرة القدم) وما أفاء الإعلام به عليهم من مكرمات يتطامن أمامها كل النجوم. ولكل حقل معرفي نجومه المزيفون والحقيقيون، ولكل مؤسسة دينية أو سياسية أو أدبية أو علمية أو فكرية أو اجتماعية نجومها الراغبون في النجومية والمكرهون عليها.
ومن علماء الأمة الورعين من يضيق ذرعاً بالراكضين خلف أعقابه في غدوه ورواحه، بحيث يراهم من الفتنة والافتتان، ويجتهد في صرفهم عن ملاحقته، حتى أن من الزاهدين في الأضواء من يغلق عليه بابه. والمستخف منهم من تستدرجه المظهرية، وتخدعه الشهرة، وتعميه الأبهة، فينسى رسالته في غمرة الأشياع والأتباع، وتتحول عنده المظهرية إلى خمرة مسكرة، تشله ضراوتها، ويضطره تملق الجماهير إلى استقراء رغباتهم، ولو الجأه ذلك إلى النكوص عن جادة الصواب، على سنن (هكذا يريد الجمهور).
وتألق النجم قد يأتي بالصدفة، أو يأتي نتيجة الخطأ، فبعض الإجراءات المتسرعة، وغير الحصيفة، تصنع النجم. والأذكياء من يفوتون الفرصة على المتماسين مع الثوابت، فلا يعارون اهتماماً، ولا يقام لهم وزن، والخصوم أسرع من الأنصار في صناعة النجومية، ولهذا يبرع بعض الخاملين في ضرب السوائد والمسلمات، أو تعمد الإثارة، سواء كانت عن طريق التهتك الأخلاقي، أو الانحراف العقدي، أو التمرد السياسي، أو الإغراق في الإغراب. ولكل متناجم آليات لعبته التي قد تخفى على الدهماء وغير المجربين، مثلما تلتبس خفة الحركة في الألعاب البلهوانية. وكل ذلك لمجرد الإثارة ولفت الأنظار. وحين تضج المشاهد مستنكرة السفاهات والتفاهات، تنهض الرويبضات لتقول عن (حق الحرية) في القول والفعل، ومن هذا اللغط تشع النجومية الزائفة، وأقرب مثل على ذلك ظاهرة (الروائيين) الذين تهتكوا أخلاقياً، أو انحرفوا عقدياً، أو تمردوا سياسياً، أو تحللوا فنياً، فكانوا حديث المجالس، ومادة النقد، وسبيل الجذب لمواقع المعلومات. ومثلهم (النقاد) و(المفكرون) و(العلماء) فمنهم من قضت عليه لعبته الخطيرة، ومنهم من شردته خطيئته، فتكفلت المؤسسات المشبوهة بحمايته، وتعهدت بتلميعه من جديد. وقد يكون النجم مفردة من مفردات اللعب السياسية، والذين يقرؤون بعض مذكرات الزعماء الغربيين، يمرون بإشارات ذكية، تكشف عن حذق التدبير في صناعة النجم لأغراض سياسية. فالذي يعول عليه في تمرير لعبة مصيرية، لابد أن يكون لامعاً وجذاباً وشعبياً، وليس بمقدور أي صانع للألعاب واللاعبين أن يخطف أي شخص، ويجعل منه نجماً بين عشية وضحاها، بل لابد ان تكون لدى المختار استعدادات شخصية، تمكنه من الاستجابة، واتقان التمثيل، وقد يمر بمثل ما يمر به رواد الفضاء من تدريب مكثف. وهذه الطائفة من النجوم ينتهي وجودها بانتهاء اللعبة، فإما أن يُقضى عليهم فيموتوا، ويطمروا مع لعبهم كما النفايات النووية، وإما أن ينطفئوا، ويختفوا كالأموات. والأنظمة والأعراف والمسلمات الاجتماعية تسهم في خلق النجوم، كما أن الظروف قد تخدم طائفة منهم، وتخذل أخرى، والوسائل والوسائط تصل بالنجم إلى سِدَة النجومية، ولكنها لا تحميه، ولاتوفر له مقومات البقاء.
فكم من متناجم عرف تركيبة النجومية، ولكنه لم يعرف متطلبات البقاء على عروشها، فكان كالقارئ في كتب الشعوذة والبهلوانية، يدخل بها دوائر الضوء، ومجود آلية النجومية الذي لايحمل مؤهلاتها، يتشظى كالجرم الخارج عن فلكه. والوصول المزيف يفضح صاحبه، ويسقطه إلى الأبد. ولعلنا نضرب الأمثال بنجوميات خادعة، كشفت عن زيف وجهل وعجز. نراهم يشعون بسرعة النجم إذا هوى، ثم يغيبون في كهوف النسيان. والمجتمع البدائي يبهره كل شيء، وتكون فرص النجومية فيه سهلة المرتقى، ومن ثم يعتمد عشاق الأضواء على المخالفة لكسب الذكر على حد المثل القائل: - (خالف تذكر).
ومجالات النجومية كثيرة: فالمعارضة السياسية سبيل من سبل النجومية، وهي الأسرع في صناعة النجم، يعمد إليها البعض عن قناعة وموقف ومبدأ ومشروعية، ويتخذها آخرون سلماً سهل المرتقى، دون أن تكون لهم قضايا، وتكثر المعارضة في الدول النامية، لقيام دواعيها، ولوجود الداعمين لها، وقد تقوم في الدول الديمقراطية، فهذا (تشومسكي) في أمريكا -على سبيل المثال- معارض لسياسة ديمقراطية مؤسساتية، عارض حروباً وأحلافاً وتدخلات، وكسب النجومية، ومعارضته ليست رغبة فيها، ولكنه يؤمن بمبادئ، تختلف مع (ميكافيلية) المؤسسات الأمريكية، وليس شرطاً ان تتفق رؤيته مع العدالة والحق، وليس شرطاً أن يكون نجماً في المنظور العربي أو الإسلامي، المهم أنه تألق بمعارضته، وأصبح علماً من أعلام المعارضة، ونجماً من نجوم السياسة، وعلى شاكلته كُتَّاب ومفكرون وساسة.
وفي الدول النامية آلاف المعارضين، الذين يسلكون مختلف الطرق، ويثيرون مختلف القضايا، ويتبنون مختلف الاتجاهات، ويتخذون مختلف الأساليب. منهم الصادق الناصح، ومنهم الوصولي، ومنهم المتهور المنكّبُ عن ذكر العواقب جانباً. ولو استعرضنا الثورات العربية، وخطاب كل طائفة، لتبدت لنا فداحة المصائب التي جرها الثوريون على أهلهم وعشيرتهم، وبلغت بالأمة الدرك الأسفل من الهوان، ومع ذلك تجد من يقول عنهم ما لو تحقق أيسره، لكانوا من أولي العزم من الرسل، وتاريخهم الدموي التدميري التبعي لاينكره إلا مغالط أو مدخول. ولاشك أن التَّماس مع المؤسسات السياسية طريق سريع للوصول إلى النجومية. والمعارضة قد تكون بدواع سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية أو عرقية أو إقليمية أو طائفية صادقة أو كاذبة، وحين تكون صادقة، تكون موفقة أو غيرَ موفقة، مقدِّرة للموقف ومؤقّتة له، أو غير مقدِّرة وغير مؤقتة. فليس كل نجم يحالفه الحظ، وهذا مصداق التساؤل: - {أحسب الناس...}.
والناس دائماً بحاجة إلى من يثير كوامنهم، ويشبع فضولهم، ويستجيب لمتطلباتهم، وينوب عنهم في النبش عن المسكوت عنه. ومجال الدين واختلاف علمائه من فقهاء ومتكلمين ومفسرين وشراح كمجال السياسة والمعارضة، لهذا نجد من ينقب عن شواذ الآراء في (الفقه)، ويتخذ الفتاوى الراجحة أو المرجوحة سبيلاً للتألق، فيفجرها وسط أمة خالية الذهن موحدة الفكر، غير مكترث بما تتعرض له وحدة الأمة الدينية، ثم يلحق به السرعان، حتى إذا عذُبت في فمه، وحسنت في عينه النجومية تصدر للفتيا، واستمرأ المخالفة، وربك المشاهد، وما علم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ بالمفضول دون الفاضل احتراماً للمشاعر، وحرصاً على اجتماع الكلمة. وإذا كان (الإجماع) من الظواهر النادرة، حتى لقد قال بعض العلماء: (من ادعى الإجماع فقد كذب) فإن التنقيب عن مسائل الخلاف، ومنازعة العلماء فيها إخلال بالمروءة العلمية، مع أن كل مسائل الخلاف معلومة متداولة بين العلماء، وفيها مؤلفات في متناول أيدي المتابعين، تختص باختلاف المذاهب فيما بينها، وأخرى تختص باختلاف علماء المذهب الواحد، وماترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قولنا مكروراً. ولن يستقيم أمر الأمة إلا بمرجعية دينية يذعن لها الجميع، وتطمئن إليها النفوس، ويرجع إليها الكافة عند التنازع. والعلماء الأفذاذ يحترمون الرأي متى كان على حق مفضول، وبعض العلماء أخذ برأي فقيه البلد، حين يمر بها احتراماً له ولأشياعه. ولو أن الجمهور لم يندفع وراء المتناجمين ومثيري الشغب العلمي، ولم ينخدع بالبروق الخلّب، ولو أنه تأمل في كل خطاب، وفكك كل رؤية، واهتم بالقضايا، ولم يهتم بالأشخاص، لقطع دابر النجومية المزيفة، ومكن القطا من أن ينام ملء جفونه، فالمتلقي يتحمل شطراً من المسؤولية، لأن الانبهار يُعدُّ من الحواضن المساعدة على تناسل النجوم المزيفين.
والمشاهد المتعددة حين يكون نظَّارتها عاطفيين انفعاليين تحجب الرؤية السليمة فيها، وتتاح الفرصة لكل وصولي لا يؤمن بحق الحياة الكريمة للأمة، واحسب أن للتربية دوراً مهماً في هذا، ولكنه من الفرائض الغائبة، ذلك أن التعليم يقف عند الممارسة التلقينية الحشوية، ولا يأبه ذووه بالتحليل والتقويم، وتربية الأذواق وتهذيب الأخلاق وتصفية الدين مما علق به. وشباب الأمة حين تستنزف طاقاتهم بالهتاف الأجوف، تستدرجهم الانتماءات المتصارعة، وتفوت عليهم الفرص الثمينة.
والذين يتهافتون على الأضواء، ويحرصون على أن يظلوا في الذاكرة الشعبية، تتولد عندهم الطرائق، وتتناسل القضايا، بحيث لايستقر لهم قرار، فكلما انطفأت قضية، وعجزت عن تكريس حضورهم، قفزوا كالقردة إلى قضية ثانية، فهم لايريدون أن يغفل الناس عنهم ساعة واحدة. والنجومية الزائفة مرض نفسي، يحمل صاحبه على المغامرات، والتنقل من ظاهرة لأخرى، والمقوون يخدعهم التورم، وشر الإقواء مايعرض لذوي الصدارة. وعشق النجومية يهبط بالعالم والمفكر والسياسي والممثل، ذلك أنه يجس نبض الشارع، ولا يقوِّم الفكرة، ولا يثمن الحاجة، ولا يجد بداً من التعديل والتبديل في صياغة خطابه، كي يناسب الجمهور، متناسياً ما يجب. والمتمادي في تملق الجمهور يجد نفسه في حالة استسلامية لايملك معها الاستقلالية، فالجمهور هو الذي يصوغ الخطاب، ومتى حاول النجم المتصنع مواجهة الرأي العام قعدت به مثمناته الذاتية ومكتسباته الآنية، مثلما يقعد بالمعيل عياله، وقد قيل: الأولاد (مجبنة) (مبخلة) (مجهلة)، وإذا صنع الجمهور النجومية، تدخل في صناعة الخطاب، فكان النجم ك(عجل) بني إسرائيل، جسداً له خوار.
وسؤال الزائر المثير ينصب على أولئك الذين يلحون بالحضور عبر وسائل الإعلام، ثم لايكونون مثيرين، ولا جذابين، ولا وقافين عند مبادئهم التي تعملقوا في ظلها، ولما لم أكن متابعاً لكثير من تحولات النجوم ولمَّا لم أكن قادراً على شق الصدور ومعرفة النوايا فإنني لست أعني أشخاصاً بأعيانهم، وعلى كل من حيزت له النجومية بحذافيرها أن يحاسب نفسه، فالمفتعلون للمواقف يسارعون في السيئات، ولا يسارعون في الخيرات. علماً أن تعدد المواقف يؤدي إلى التناقض وخلط الأوراق، ويقيني أن سوء الفهم ناشئ من خطأ التصور، فالعلماء والأدباء والمفكرون والساسة الحقيقيون يقولون ما يعتقدون، دون تفكير استدراجي للمتلقي. ومثلما نقطع بزيوف النجومية، نقطع بأن المجتمع ودود ولود، يدفع إلى مشاهدنا بالنجوم الحقيقيين الذين لايشك في صدقهم وإخلاصهم واقتدارهم إلا مدخول في فكره. وعلى الجميع من النجوم والأشياع أن يتذكروا ابتلاء السرائر، وتحصيل ما في الصدور، وختم الأفواه، وإنطاق الجلود، وقول المالك ليوم الدين: - (وقفوهم إنهم مسؤولون).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:39 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! (1/2)
د.حسن بن فهد الهويمل


الاختلاف والتدافع والتداول سنة ماضية، لا تتأتى عمارة الكون إلا بها، والبراعة والتوفيق يبدوان في تحويل ذلك كله إلى اختلاف إيجابي، يتسع للتعاذر، والدفع بالتي هي أحسن، ويحول دون التنافي والأثرة والعداوة والبغضاء، متى كان الاختلاف في إطار التنوع لا التضاد، وبحيث لا يؤدي التعاذر إلى الإيمان بمبدأ تعدد طرق الخلاص، كما يراه المفكر الفرنسي المتأسلم (روجيه جارودي)، ذلك ان قيم الدين ومتطلباته من تغيير المنكر بمستويات التغيير الثلاثة، والأطر على الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، وإبلاغ الآية، وإسماع كلام الله ليس وجوبها مجال اجتهاد أو اختلاف، وإنما الاختلاف معها يكون حول مؤهلات الناهض، وأسلوب النهوض، والقدر الكافي من التبليغ، ومستويات التكليف. وحديثنا عن التنازع وجذوره ومحفزاته حديث شمولي، يطال الفروع من الدين ولأصول من الفن والفكر والسياسة والاجتماع، وماهو داخل ضمن المعرفة الإنسانية. ومهما حاول الإنسان توقي محفزات الاختلاف، فهو واقع فيها، لارتباطها بالعقول المختلفة والمكتسبات المتفاوتة والتصورات المتعددة والأحوال المتباينة، وحين لا يكون بدّ من الاختلاف فإن تطلعنا ألا يرقى إلى الثوابت وأصول العقائد وألا يصل الاختلاف إلى الخلاف، ويبلغا معاً مشارف الفتنة، والإسلام قد عالج أساليب التعامل مع المخالفين، ورسم طريق النجاة حين يبلغ الصدام ذروته، ويتحول إلى فتنة يكثر فيها الهرج. وحين يصل الاختلاف حد الفرقة، ويوشك على التقاء المسلمين بسيفيهما، يكون الاعتزال هو الحل الأمثل، وقد عالج الفقهاء اتقاء الفتن، وجاءت النصوص قطعية الدلالة والثبوت، ترسم للمسلم طريق النجاة، حتى ولو لم يبق إلا أن يعض المتعرض للفتنة على أصل شجرة بانتظار أمر الله. وتنازع الأنام الذي يساورني همه في هذا المبحث لا يمتد إلى تنازع العقائد والحضارات، مما يعد (خلافاً)، وإنما هو عن (الاختلاف) داخل المنظومة الفكرية الواحدة. والفرق بين (الخلاف) و(الاختلاف) أن الأول اختلاف في الطريق والمقصود، والثاني اختلاف في الطريق دون المقصود.
وحين يكون (الاختلاف) ناتج الاجتهاد، ويكون الاجتهاد مشروعاً في ثلاثة من مستويات النص الأربعة، (الدلالة والثبوت) بين (القطعية والاحتمالية) يكون الاختلاف حتميا، ويكون العمل على توفير (الاجماع) من إضاعة الجهد والوقت والمال. والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية مر بمراحل مضيئة، استطاع علماؤه ومفكروه تلافي المواجهات التدميرية، بحيث ارتدوا إلى دواخل القضايا، واشتغلوا بها، الأمر الذي مكنهم من إنجاز المعارف، والأنظمة، والقوانين، والعقود، وصياغة الفكر السياسي، والأساليب الاقتصادية، وتحرير ضوابط الفن والفكر والسلوك. ولقد استوعبوا فيوض الحضارات القديمة، وأسَّسوا بمجموع إنجازهم للحضارة الإنسانية، وسطعت شمسهم على الغرب.
ونشوء العلوم والمعارف والمذاهب والآليات والآراء والمصطلحات ناتج حوار فكري إيجابي، يبحث عن الحق، ولا يفكر بالانتصار. فهذه مذاهب الفقهاء، واتجاهات المفسرين، وضوابط المحدثين، ونظريات المعرفة، وأصول المذاهب، وقواعد العلوم، شاهد عدل على حصافة الرأي ودقة الملاحظة وعمق المعرفة والدأب والمثابرة والرحلة في طلب العلم مع سلامة المقاصد وحسن النوايا والمنعطف السلبي الذي أشعل النعرات، وأذكى التعصب، وقدَّس الشخصيات، وأهمل القضايا، ودفع إلى التلاسن البذئ، ناتج ضعف معرفي واجترار عقيم لمنجز الأفذاذ من العلماء، وانقباض متخوّف، وعجز عن الاكتشاف والاختراق. وقد أفرزت بعض المراحل المنطفئة في التاريخ الإسلامي خطابا تنازعياً، أذهب الريح، واستفحل معه الفشل. ووجد فيه المتماكر الاستشراقي مجالاً للنيل من الحضارة الإسلامية، وإغراء للمستضعفين، لإعادة المناكفات جذعة، والفرح الحزبي ينصب دائماً على مفردات الاختلاف، ولا يتجه صوب بوادر الإضافات. ومع أن تعدد المناهج والآليات والرؤى والتصورات سبيل إثراء، وطريق تأصيل وتحرير، إلا أن التعصب المسنود بالعرقية، والإقليمية، والأثرة، والعقم، وخلل الفهم، وانعدام الورع وضعف الإدراك، والوقوع في مأزق المفاضلة، وصرامة الحدّيّة، وحب الهيمنة والتصدير والعجب بالرأي، حوَّل الإيجابيات إلى سلبيات، وعطل القدرات التي أفاء الله بها على عباده.
والتعقب الحصيف لأشلاء المثمنات، يتجاوز الأثر إلى الجذور، والناتج إلى المحفزات، فما فات من جدل عقيم مات، ونحن أبناء لحظتنا الأبدية، والمؤمل من عقلاء الأمة السعي الحثيث لتجفيف مستنقعات الخلاف، وردم بؤر التوتر فنحن في زمن لايحتمل مزيداً من المناكفات، وفي وضع رديء لايطلب مزيداً من الاخفاقات. وعلى أهل الحل والعقد تجاوز البحث عن المسيء إلى الإساءة لتلافيها، فالأخطاء ناتج تراكم من المشاكل الممتدة مع الزمن، وليس لمتصور سليم أن يُحمِّل اللحظة الزمنية الراهنة ولا إنسانها مجمل الإخفاقات والإحباطات التي نتجرع نتائجها. فنحن ضحايا ركام من المقترفات المذهبية والسياسية والعرفية وسائر المسلمات التي شارفت على التقديس والتصنيم لما هو قائم من الأشياء والأناسي.
وحين لايكون بد من الاعتراف بالتقصير والعجز، فإن علينا ألا نتخفف من المعاناة بالمشاجب التي نلقي عليها بالمعاطف الملوثة، متى كان بإمكاننا غسلُها وإعادتُها إلى طهرها ونقائها وجدتها، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بمواجهة الهزيمة بروح واثقة، وعزيمة صادقة، ومعرفة مناسبة، لكي ننهض من عثرتنا قبل إلفها واستساغتها، على شاكلة المهين الذي يسهل الهوان عليه، ومتى قبلنا الذل تحولنا إلى جرح ميت لا يحس بالألم. وفقد الإحساس موت معنوي، لا قيمة للحياة معه، والنهوض التطوعي للمتداخل مع المخالف يتطلب التوفر على (فقه الاختلاف) و(آداب الحوار) و(مسوغات الاجتهاد) ومعرفة طرائق التعامل الحضاري مع المخالفين، مع تصور الأشياء تصوراً سليماً، والتعرف على أصولها وقواعدها وضوابطها، والتمكن من آليات الحوار ومقوماته المعرفية، ورباطة الجأش. وبين أيدي المتابعين عدد كبير من الكتب التعليمية والتوعوية حول (أدب الحوار) و(فقه الاختلاف) و(شرط الأطراف) و(ضوابط الأهلية) و(أسباب الاختلاف) و(آداب الجدل والمناظرة) ومن جهل الأصول والأسباب والآداب والشروط فليس له أن يخوض معترك الجدل. وإذ نفترض أن مرد التنازع وجذوره ومحفزاته إلى نواقص عامة وخاصة: معرفية وأهلية، فإن علينا أن نلمح إليها، وأن نعمل على تلافيها، وكل من خاض مع خصومه معترك الجدل وسعى جهده للوفاق عرف ماينقص المتجادلين. ولقد وجدت من المناسب أن اتخذ مما لقيت في سفري المعرفي من أتعاب شاهداً على ما تمس الحاجة إليه، ولعل أولى الفواقر وإكسيرها فقد (المصداقية)، واختلاف (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) و(الضعف المعرفي) وما تستتبع هذه الجذور من جهل للواقع، ولطبيعة الأشياء، ومن غياب للمشروع، وانعدم للورع، وسوء في الأدب، وواجبنا ان نقف عند متطلبات الجدل الإيجابي، وأولها (المصداقية) وضوابط (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) وعلينا وقد شهدنا تدنيات في أخلاقيات الحوار أن نسعى للأطر على قول الحق، وتقريب وجهات النظر، وتربية (الأفهام) وصقلها وتدريبها وتوسيع مداركها. والمتابع للعراك في كافة المشاهد الدينية والعلمية والفكرية والأدبية يقف على خلل واضح في (المصداقية) عند كافة المختلفين، إلا من رحم ربك، وقليل ماهم.
فبعض الخصوم حين تعييهم الحجة يفترون على خصومهم الكذب، وهم يعلمون، وما على المردد إلا أن يستعرض مدونات المعارك، وبخاصة (المعارك الأدبية والفكرية) التي عشناها قولاً وعملاً ومتابعة، ومتى تقراها المتابع بحيادية وعدل وإنصاف تبين له افتقار المشاهد إلى (المصداقية) وقد يتعمد البعض تحريف الكلم عن مواضعه، وتقويل الطرف الآخر ما لم يقل، أو المصير إلى التأويل الكاذب، وبخاصة حين يسعف المناوئين الابتسارُ النصي أوالانفتاحُ الدلالي. ومتى استمرأ المتجادلون الكذب، طُمست الحقائق، وتحول المتحاورون إلى هجَّائين، لايرقبون في خصومهم إلاّ ولا ذمة. ولقد لقيت في مراجعاتي وحواراتي نصباً، وفوجئت من بعض من أتوسم فيهم المصداقية والبحث عن الحق بقول كذب، أرجو ألا يكون ديدنهم، وإن كشف بعضه غيري، ولزم الكذبة الصمت، وهذا الإلباس المتعمد، يمنع المقتدر من الدخول مع مثل أولئك، مما يوفر للأدعياء أجواء مناسبة تمكنهم من تفريخ آرائهم وتصوراتهم الكاذبة الخاطئة. وحين يستمرئ النخبويون الكذب، ولايجدون في ذلك غضاضة يُنشّأ ناشئ العلماء والمفكرين على ما كان عودهم سلفهم، وحين تشيع خليقة الكذب، وتكون ممن يتوقع منهم الصدق، تصاب المشاهد العلمية والفكرية والأدبية في الصميم، وتكون الأمة كمن غص بالماء الزلال، فالذين يتوقع منهم الإسهام في تربية الأخلاق بالتعليم وبالقدوة الحسنة، ينقلبون على أعقابهم، ويكونون قدوة سيئة. وكيف يتعمد النخبويون الكذب؟ وهم يعلمون أن المسلم يكون بخيلاً، ويكون جباناً، ولكنه لايكون كذّاباً. إننا أحوج ما نكون إلى (المصداقية) في مواجهاتنا، ومتى صدقنا مع أنفسنا، ومع قبيلنا في سرنا وفي علننا، في منشطنا وفي مكرهنا، أشعنا الفضيلة، وضيقنا الخناق على دواعي التفرق، وإذا كان الحقُّ ضالةَ المؤمن فإن الغاية لاتبرر الوسيلة، والإسلام حث على العدل والصدق، والمفترون المحرفون ظالمون ومزورون، وفقد المصداقية ليست وقفاً على زمان أو مكان، وليست سمة خاصة بالأدباء وحدهم، وليست واقعة من كل الخصوم، وسأضرب مثلاً على فقد (المصداقية) بموقفي من (الحداثة) أو من (الشعر العامي) ولو شئت ضربها من خلال مواقف أخرى عند الكافة من الأدباء والمفكرين لتبدت لنا بأبشع صورها، وحين أضرب المثل بما لقيت فإنما أريد كتابة ماحدث لا من أجل المباهاة أو الادعاء، وإنما القصد الإبانة عن الموقف والدفاع عن النفس. فبعض الذين يختلفون معي حول هذه القضايا، يعرفون من خلال ما أقول لهم في كل مواجهة: انني لا أختلف حول التجديد، ولا أعترض على قراءة الآخر، ولا أرفض (المثاقفة) ولا الاستفادة من أي فكر أو فن لايصادم الثوابت، وانني أقبل المنهج والآلية متى أمكن تفريغها وعوربتها، وانني أفرق بين التحديد في الشرط الفني والبناء اللغوي والشكل الابداعي وبين مقتضيات الحداثة الفكرية، وان موقفي من الحداثة لايتجاوز انحرافها الفكري، وسقوطها الأخلاقي، وانقطاعها المعرفي، وضربها لثوابت الحضارة الإسلامية التي لاتتحقق إسلامية المسلم إلا بها، وبهذا فأنا مجدد أكثر من المجددين، وعصري أكثر من المعاصرين. ومع هذا يقول قائلهم: إنني ضد التجديد، وانني أريد الارتداد بالأمة إلى الخيمة والجمل، وبعض من لاذوا بالفرار من وضر الحداثة التي تلبسوا بها فترة من الزمن، حاولوا الالتفاف الغبي، وعادوا يقولون: - بأن حداثتهم تتسع للتجديد وحسب، وكأنهم يريدون وضع الطرف الآخر ضمن دائرة التقليد. والوثائق والمواقف والهموم والخلطة والمولاة تكشف عن المغالطة، والإحالة إلى التجديد والتقليد تحرف ضعيف. ومع علمهم بما هم عليه يظلون يكررون هذه المفاهيم الزائفة، دون أن يثنيهم إرشاد، أو يخوفهم
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:40 PM   #4
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومصائب المشاهد المصمية ليست بمن يَلْبَسون لكل موقف لبوسه، ويقولون لنا ما يرضي حتى إذا خلوا إلى من يودون قالوا: إنا معكم. مصيبتنا في المتلقي الذي تشابهت عليه بقرات الحداثة، وخدعته الأقاويل، والتبست عليه الألاعيب، وأتاحت غفلته المعتقة لمثل أولئك التصرف البهلواني:




وما انتفاع أخ الدنيا بناظرة
إذا استوت عنده الأنوار والظلم


لقد وقفت على تصورات ورؤى، اخذتها الدهماء بوصفها قضايا مسلمة، فالأمر عندها تقليد او تجديد، وليس حداثة فكرية منحرفة وتجديدا متزنا، ثم ان المتحدث عن «الفكر الإسلامي» والمتبني «للأدب الإسلامي» في نظرهم مدعٍ للطهر الملائكي متقمصاً الفوقية والوصاية، فيما يكون غيره في نظر ذلك المفكر المظلوم ضالاً مضلاً تابعاً. وعلم الله انني ما عهدت احداً ممن يحملون هم الدعوة، ويضطلعون بقضية الأدب الإسلامي قال بذلك، وما تصور أحد منهم أن الآخر رجس من عمل الشيطان.
المفكر الإسلامي والأديب الإسلامي يشعر كلٌ منهما بواجبه حيال أمته، وحيال قضيته، وحيال عقيدته، وهو يمد غيره بما يراه حقاً وصواباً، ولا يرى فيمن حوله دونية في مكان، ولا ضعفاً في علم، ولا خللاً في فكر، ولا سوءاً في أخلاق، إلا إذا كان عنده مما هم عليه من الله برهان، والتناصح لا يشترط فيه ان يكون بين مؤمن وكافر، ولا بين ضال بيّن الضلال ومؤمن قوي الإيمان، التناصح تبادل خير بين طرفين متماثلين، ومن تصور دعاةالفكر الإسلامي سلطويين فوقيين متهمين للآخر، وعمم، ولم يخصص، فقد افترى عليهم الكذب، وفقد المصداقية التي يحب توفرها كحد ادنى للاستقامة على الحق. ومثلما احيلت الحداثة الى التجديد، ووصف مناوئوها بالماضوية والتسلطية، احيل الوقوف في وجه «العامية» ومظهرها الأهم «الشعر الشعبي» بانه منع للإبداع، وتجريم للشعراء العاميين، واستهجان بالمتذوقين له من خاصة القوم وعامتهم، وعلم الله موقفي من «الإبداع الأمي» يقف عند حد الحيلولة دون تقعيده ودراسته بآليات الفصحى والتخطي به الى محافل التعليم. ومن فعل ذلك فقد أصَّل للعامية، وشرعن للازدواج اللغوي، وأحيا النعرات اللهجية، ومكن للتزاحم بالعاميات المتعددة عند أبواب المدارس والجامعات. وحري بنا وقد انفقت الدولة الأموال الطائلة لتعليم اللغة العربية ان نساعد على حضورها في كل محفل، وان نحاصر العامية وظواهرها الإبداعية في محيطها الشفوي، وفي اوساطها العامية، بعيداً عن التدوين والدرس، وان علينا ان نتمثل ما علمنا قولاً وسلوكاً، فالعلم لا يكون حتى يتمثله المتعلم، وإذا تعلمنا لغتنا، ثم لم نستعملها في القول والكتابة كنا مبذرين مقصرين، ولغتنا ليست كاللغات، انها مرتبطة بكتابنا الذي تعبدنا الله بتلاوته وفهمه وتدبره والعمل بما فيه، ولن يتأتى ذلك مع استفحال العامية. هذا ملخص موقفي من الحداثة والعامية، غير ان الخصوم الذين لا يحترمون المصداقية يتقولون على خصومهم كل الأقاويل، وينسبون اليهم ما لم يقولوه، وعلينا ان نحمد الله على ما انعم به علينا من وحدة اللغة والعقيدة والأرض، فلسنا شيعاً يضرب بعضنا رقاب بعض، ومن واجبنا ان نتحامى الوقوع في أي فرقة: فكرية أو دينية أو عرقية او اقليمية او لهجية، وفقد المصداقية قد يتجاوز كتم العلم او تحريفه الى الافتراء والاختلاف، وذلك الدرك الأسفل من سوء الخلق وخيانة الأمانة، ولقد تعرضت طائفة من العلماء والمفكرين والأدباء الى الكذب والافتراء، ونسب اليهم ما لم يقولوا، ومع نفيهم وتكذيبهم فإن المشاهد قد لا يصل إليها قولهم بمستوى الإشاعات الكاذبة عنهم، ومن ثم يأخذ السماعون بتلك الإشاعات بوصفها حقائق ثابتة. ولو أن المتجادلين توفروا على الصدق فيما يقولونه ابتداء، وفيما يروونه عن غيرهم اتباعاً، لما بلغ بهم الجدل إلى حد التنابز بالألقاب، ولعلنا نستعيد دروس (الإفك)، وما تركه من عظات وآية (التبيُّن) وما شرعته من أسلوب في التلقي.
ومثلما يقال عن (المصداقية) بوصفها خليقة طبْعِيَّة أو تطبعيَّة يقال عن اختلاف (المفاهيم) إلا أن (المصداقية) تحال إلى القيم الأخلاقية، فيما تحال (المفاهيم) إلى التصورات والرؤى المعرفية، ودواء الأولى في التربية السليمة، ودواء الثانية في التعليم الجاد. و(مفهوم) المصطلحات والظواهر والقضايا حين لا يكون كما أراده المنشئ يوقع في اللبس، وإشكالية (المفهوم) من أعقد الإشكاليات، وهي مبعث الاختلاف، وجذرُ التنازع ومحفزُه.
والمصطلحات المتنامية عبر الترجمة أو التعريب أو النقل هي التي توقع في اللبس، فهي تتشكل عبر تصورات المترجمين أو المعربين أو الناقلين، الذين يلتمسون ما يقابلها في العربية، من كلمة تحمل ذات الدلالة، أو صيغة صرفية تستوعب بعض المقاصد، أو نقل يرادفه تعريف، قد لايطابق مراد المنشئ. وفوضى الترجمة والتعريب يواكبها متلقٍ يعطي مفهوماً زائداً أو ناقصاً أو مناقضاً، ويشتغل على ضوئه. ومكمن الخطورة في المصطلح الحمَّال للمتناقضات. فالجذر العربي (حدث) تعني دلالتُه الوضعية مجردَ التحديد أو جدَّةَ الحدوث، ولكن الدلالة الاصطلاحية كما يراها المنشئ الغربي، تعني أشياء أخرى، ليست من الجدة، ولا من التجديد في شيء، والمتبنون للمصطلح أوزاع، منهم الواعون لمقاصد الحداثة، كما يراها الغربيون، ومنهم الغافلون الذين لايتجاوزن بالمفهوم حد الجديد. والمفكرون الإسلاميون المتصدون للحداثة قد لايتثبتون، ومن ثم يصيبون الذين لاتتجاوز المعارف تراقيهم بجهالة، وتعدد المفاهيم يطال الجميع، وإذا اختلطت المفاهيم حول (مصطلح الحداثة) وتعدد مقتضياته فإن إشكالية مصطلح (الأدب الإسلامي) عددت مستويات الخصوم بين رافضين ومتحفظين ومتسائلين، ولم يختلف أحد منهم حول مصطلح (الأدب الجاهلي) ولا (الأدب الوجودي) ولا (الأدب الماركسي) وقد يجمع بعض الإسلاميين خصومه في سلة واحدة، وفي ذلك ظلم عظيم، فالمتحفظ والمتسائل يختلف عن الرافض الذي يستمد رفضه من رفض الحاكمية الإسلامية وإظهار الدين. واضطراب الرؤى حواضن مخصبة للتنازع المورث للعداوة والبغضاء. والحداثة الفكرية المنحرفة تخادع الخليين بتعدد المفاهيم، وأساطينها كما المنافقين، إذا واجههم النقاد الناصحون قالوا: - إننا مجددون، وإذا خلوا إلى أساطين الحداثة المنحرفة قالوا:- إنا معكم حداثيون. وقد يكون المدَّعون للحداثة لايتجاوزن بها حد التجديد، ومن ثم فإنه من الظلم ان نجعل المجددين كالمنحرفين، ومن حق المحكوم ان يقول: - ما لكم كيف تحكمون؟ ودافع الحكم الجائر مرده إلى اختلاف المفهوم باتساع الجذر لعدة دلالات، على أنه من الخطأ ان يعاند المجدد، ويصر على ان الحداثة لا تعني إلا التجديد، والقرآن الكريم منع أن نقول:- (راعنا) من الرعاية، لأنها قد تحمل بالتنوين مفهوم (الرعونة)، وإذا كان المفهوم المتعدد يوقع في اللبس، ويعرض الأبرياء للغيبة، فإن الضائعين في خطيئة الحداثة الفكرية يتقون بالتعددية سهام الحق.
والناقد المنصف من يتجاوز المصطلح، ومن تبناه عن مواطأة أو عن جهل، إلى الوثائق النقدية والإبداعية، وإلى المواقف من أساطين الحداثة من مبدعين ونقاد، فالوثائق والولاء والبراء لا مجال فيها للمغالطة أو الإدعاء، والالتفاف الغبي على تعدد المفاهيم لا يغني من الحق شيئا. ولو أننا تحرينا الدقة في تحرير المفاهيم، وربطنا شاهد الوثائق بغائب المفهوم، ولم نبادر بالاتهام لكنا عادلين منصفين. ومتى فُقد العدل والإنصاف مع المخالف وقعنا في التنازع الجالب للفشل وذهاب الريح. ومتى توفرت (المصداقية) وتحرر (المفهوم) تراءت لنا جذورٌ ومحفزات أشد وأعتى، نجد ذلك في تعدد (نظريات المعرفة). وإشكالية التلقي والتأويل مع النص المفتوح أو النص الحمَّال من الإشكاليات التي لا يقل أثرها السلبي عن فقد المصداقية وتعدد المفاهيم.
والحضارة الإسلامية تعرضت لهذه الإشكالية، وتولدت الملل والنحل والمذاهب من تعدد (نظريات التلقي)، ولسنا نتطلع إلى حسم هذه الإشكالية، ولكننا نود التقريب بين وجهات النظر، ومتى استوعبناها، خفت حدة التوتر، واستطعنا توقع ما سيقوله المختلفون معنا، وقد تكون الاستبانة سبيلا من سبل التقارب أو التعاذر أو الاعتزال، والمتابع للعلوم والفنون يجد ان مرد الاختلاف فيها إلى اختلاف (نظرية التلقي)، ومع مشروعية التعدد فإن بعض المذاهب بلغت بها نظرياتها المعرفية إلى حد تحريف الكلم عن مواضعه، والأشد خطورة حين يجتمع مع اختلاف (نظرية المعرفة) اختلاف (المرجعية) أو اختلاف (أصول العلم) فالمذاهب الكلامية والفقهية والفلسفية لها نظرياتها المتعددة ومرجعياتها المتنوعة وأصول معارفها المتباينة. فبعض المذاهب يركن ذووها في التلقي إلى الحدس والتذوق والكشف والرمز والإشارة، والبعض الآخر يأخذ بظاهر النص، ومن الطوائف الإسلامية من يدعي الظاهر والباطن، ويصنع تصوراً مغايراً لمعنى المعنى أو الدلالة العميقة أو الدلالة المجازية، بحيث يعطل دور اللغة، ويركن إلى دعوى العلم اللَّدنِّي، ومن المذاهب من يفوض للنص معطلاً العقل، ومنهم من يفوض للعقل معطلاً النص، ومنهم من يفوض للمصدر معطلاً العقل والنص معاً ك (للاأدرية) و(المفوضة)، وكل مذهب له آليته ومنهجه ونظرية تلقيه ومرجعيته وأصول علمه، وليست كل نظرية صادقة كل الصدق، ولا كاذبة كل الكذب، وإنما مرد الأمور إلى التغليب، وهكذا كان التشريع، وعلينا أن نستفيد من كل نظرية معرفية ونتوقى مزالقها وشطحاتها، وبخاصة حين يصاحب ذلك اختلاف المرجعية. والتنازع الناتج من تعدد نظريات التلقي، واختلاف المرجعية تنازع عقدي، قد يبلغ بالأمة حد القطيعة، وقد لا تتيح تلك النظريات فرصة الحوار المعتدل، الحوار الباحث عن الحق دون الانتصار والغلبة. والحق الخالص ضالة المؤمن، وحوار الطوائف المتناقضة قد يبرر للوسيلة المنحرفة بالغاية المدَّعى سلامتها، والإسلام لا يجعل سبيلا لتبرير الوسيلة الجائرة. وإذا تجاوزنا، (المصداقية) و(المفاهيم) و(التأويل) و(المرجعية) واجهتنا إشكالية دون ذلك، وهي تفاوت (الأفهام)، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ندب أصحابه إلى التبليغ قائلاً: (فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع) وحين شبه ما نزل عليه بالمطر، واصفاً المتلقي بالأرض وتفاوتها في تقبل الماء، فالوعي خاصية إنسانية، يهبها الله لمن شاء من خلقه مؤمناً كان أو كافراً. وقد يؤدي الفهم السقيم إلى إذكاء حدة التنازع، فالمرسل قد لا يراعي مقتضى الحال، والمتلقي قد لا يعرف قدر نفسه، ومن ثم يتقحم على المعضلات، مثلما يهتاج المرتاع، وهو أعزل، ونزع العلم الشرعي وكثرة الجهل من أشراط الساعة، والأدعياء الذين لا يستحون يصنعون ما يشاؤون، وكم نسمع كلمة:- (نحن رجال وهم رجال) يتفوه بها غلام لايهز القناة، ولا يثنيها، وارتباك المشاهد واللغط الذي لايُبين يتأتى من هذه النوعيات المتسرعة في القول وفي الحكم، ولو قام الجدل بين العلماء المجربين لكان الاختلاف مقدوراً عليه:-
(ومن البلية عذل من لا يرعوي....
عن غيه وخطاب من لا يفهم)،
ومما تفتقر الساحة الثقافية والأدبية والفكرية إليه تجويد آليات المعارف وضوابطها وأصولها ومناهجها وأسبابها وآداها، فالكم المعرفي وحده غير كافٍ للتوفر على الحوار الحضاري والجدل المتزن، ومثقفو السماع، وسائر الكتبة، ينقصهم التأصيل والتحرير والتأسيس. ومتى لم يكن هناك تأصيل معرفي، وتحرير للمسائل والمصطلحات، وتأسيس قوي فإن الحالة تزيد سوءاً. إننا لكي نُحاصر التنازع، ونضّيق الخناق على الاختلاف المؤثر على وحدة الأمة وسلامتها، يجب علينا أن نأتي المشاكل من قواعدها، نَصْدُق، ونَعْدِل، ونُحرر المفاهيم، ونؤلف بين نظريات التلقي، ونوحد المرجعية، ونعي أصول العلم ومناهجه وآلياته، ونبادر إلى معالجة الضعف والهوى والاستبداد والعقم والتقليد، نربي أذواقنا، ونَصَّفي نصنا، ونرسم مناهجنا، ونحدد مشروعنا، وأهدافنا، ومكمن اختلافنا، ونثري نقدنا، ونؤدب حوارنا، ونعرف قدر أنفسنا ومبلغنا من العلم، فذلك طريق السلامة وسبيل النجاة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:41 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الشاعر المقل الذي صمت..!
د.حسن بن فهد الهويمل


1/ لم تكن القلة أو الكثرة في الإبداع مقياس جودة، ولا مؤشر ضعف، والشعراء المكثرون في التاريخ الأدبي قد لا يحفل بهم النقد بمثل ما يحفل بغيرهم، وحين يمر بهم الدارسون قد لايجدون في شعرهم ما يثير، وليس ضعف المكثرين قاعدة طردية، ولقد عرف من المكثرين في القديم (أبو العتاهية) و(ابن الرومي)، ومن المعاصرين (محمد حسن فقي) و(بهاء الدين الأميري) وإذ تدور حول جودة المكثرين الشكوك، فإن المقلين في معزل عن ذلك. وشعراء القصيدة الواحدة أكثر حضوراً، ومع هذا فليس للمقلين أو المكثرين ارتباط لازب في الجودة أو في الرداءة، بمعنى ان النقاد لايربطون بين الجودة والكثرة أو القلة، ولكن أصحاب القصيدة الواحدة يملؤون النقاد إعجاباً، ولقد عرفت المشاهد النقدية (الشنفرى) بلاميته و(مالك بن الريب) برثاء نفسه، ولقد شغلت (اللامية) النقاد، فيما شغلت رثائية (ابن الريب) لنفسه كافة الدارسين، والشعر يكون تزيداً أو موقفياً.
وهو حين يرتبط بالمواقف يظل في انتظارها، وقد لاتأتي المواقف والتجارب بالقوة الكافية لتفجير الموهبة، ولهذا يتمنع الشاعر، أو يتمنع الشعر على الشاعر، ويروى عن بعض الشعراء الفحول قوله: - لخلع ضرس أهون عليَّ من نظم بيت. يكون ذلك في حالة التمنع. والعملية الإبداعية، أو لحظة المخاض تدخل بالراصدين لها عالم الأسطورة والخرافة. وظاهرة (شياطين الشعر) يحال إليها ما لا يمكن توقعه من روائع الإبداع، فالمتلقي حين يستمع الشعر المتميز، ينتابه شعور غريب، لايستطيع السيطرة عليه، ومن ثم يحيل إلى الشياطين وتنزلاتها، وقد فعل مشركو مكة مثل ذلك، حين سمعوا القرآن، لتصورهم ان الرسول شاعر موهوب، تتنزل عليه الشياطين. والمتذوق للشعر المتمكن من لغته وشرطه الفني ينتابه ما ينتاب العربي السليقي من إعجاب، لايعرف مصدره، ومن ثم تنطلق منه كلمة الإعجاب والإكبار ولقد سمعنا بسجدة الشعر، ومقولة أحد الخبثاء: إن للشعر مثلما للقرآن سجدة، نسب هذا القول (للفرزدق) حين أعجبه الوصف في جلاء السيول للطلول. والذوقية والانطباعية حواضن النقد، والانطباعية الجارفة تحدو إلى التفضيل الملح، حتى إذا تنازع القوم حول أفضلية شاعر على شاعر، رجعوا إلى مدركاتهم، ليلتمسوا الحجة والشاهد، ومن هنا انبثق نقد المعيار والعمود، وظهرت المناهج، وعرفت المصطلحات، ووضع للشعر نظامه وضابطه وأسباب تميزه. وكل ناقد لابد أن تكون لديه حجته حين يفضل شاعراً على شاعر، والنقاد في عناء من هذا التفضيل. فالمفضول وأنصاره يكيدون لمن فضَّل عليهم، وقد وصف (عبدالواحد لؤلؤة) وضع النقاد المحرج، فهم كالنافخين في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، ومن ثم فإن نصيب الناقد ما يتطاير من ذرات تغشى العيون، وتزكم الأنوف، وغيره المستفيد.
وكلما أريد مني أن أتحدث عن شاعر أو أديب أو ناقد أو مفكر في ساعة تكريم أو تأبين، تذكرت الرماد والجذوة، وقبلت قدري صابراً محتسباً، فأنا بين أشياع يودون مني المجاملة، ومستعلمين يودون مني المعرفة، وخصوم يودون مني التحامل والتجريح. وليس بمقدوري أن أكسب إلا فئة واحدة، ولن تعذرني الفئتان الباقيتان، وحتى الذين يرضون مني اليوم، سوف يسخطون مني غداً، وهكذا مصير الناقد يخلق العداوات في جيئته وذهابه، وقول الحق لايترك لصاحبه صديقاً، والناقد كالقاضي بين الخصوم، ولقد قيل لأحد القضاة بعد أن ترك القضاء: -كيف أصبحت؟ قال: - توليت القضاء وليس لي عدو، وتركته وليس لي صديق. غير أن الناقد المتمكن المحترم للمصداقية حين يقول كلمة الحق، ويمتلك آليات النقد، ويعرف جيد الشعر ورديئه، وتكون لديه ذائقة سليمة ودربة مستمرة، ينام قرير العين جذلانا. لأنه يقول كلمته ويمضي، ولايعنيه أن يرضي زيداً أو عمراً، فالمسألة تسجيل للرؤية والموقف. ومن ملك ناصية القول أو آلية النقد فإن عليه أن يقول مايريد لا مايريده الآخرون، ومن أصاخ لرغبات الآخرين، كان كالطبل، يرقب من يضربه، ليحدث صوتاً.
لقد كان قدري دائماً ان أُدعى للحديث عن شاعر أو مفكر أو أديب في مناسبة التكريم أو التأبين، وقد يمثل الشاعر أو المفكر أو الأديب أمامي، ثم لا يحس أحد منهم أنه انتقل من الذاتية إلى الموضوعية، وأنه حين (يتموضع) ينفصل من ذاته ومشاعره، ويكون ازدواجياً: ذاتاً يقرؤها الآخرون بوصفها موضوعاً، وأخرى تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق. ولو أن الشعراء والأدباء والمفكرين (المتموضعين) أحسوا أنهم بالتموضع لم يعودوا كالأناسي، لأراحوا واستراحوا، ووفروا على الدارسين كلمات المجاملة والثناء الزائف، وسائر القضايا لاتتحرر بالمجاملة وتبادل الأنخاب.
***
2/ (وحديثي) عن الشاعر المجدد إلى حد التمرد والانقطاع والنثرية (عبدالرحمن بن محمد المنصور) المولود في مدينة الزلفي عام 1345 والمبارح لأرضه ودياره في زمن الطفولة سعياً وراء طلب العلم في الحجاز ثم في مصر حديث يعود بلبوس آخر. فلقد درسته قبل ربع قرن في رسالة أكاديمية، تقدمت بها إلى (كلية اللغة العربية) في (جامعة الأزهر)، وكان عنوان الرسالة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، وكنت يومها صارم الحدية، لا أرى إلا الأنموذج العربي الخالص العروبة، وشاباً يتوقد حماساً وإصراراً وعناداً، ومبتدءاً ينقصه الشيء الكثير، وقلت ما قلت، ثم دفعت بالرسالة إلى المطابع على ماهي عليه من قطعيات، لا تقبل الخيارات، وخرجت إلى الناس بكل ما فيها، ووجدها المكتوون من مواقفي الأدبية فرصة للنيل من إمكانياتي والسخرية بي انتصاراً لأنفسهم، ولو أنني فعلت مع نفسي مايفعلونه معي لوقفت على ثغرات كثيرة في الرسالة لم يقفوا عليها، فالطالب المبتدئ حين يقول كلمته تظل وثيقة رصدية لمرحلة من حياته، تقف حيث هي، ولكنه لايقف، ولقد أشفقت على بؤس هؤلاء لتصورهم انني لما أزل حيث كنت قبل ثلاثين سنة، وها أنذا أعود إلى الشاعر بعد ما نلت منه ومن لداته أمثال (محمد عامر الرميح) وتأتي عودتي بعد ما تغيرت البلاد ومن عليها، وتبدلت الرؤى والتصورات، وأصبحنا غيرنا بالأمس، والذين يقرؤون رأيي فيه اليوم ورأيي فيه بالأمس سيجدون التغير والتبدل. وقد لايحسنون الظن، ولكن عليهم ان يعرفوا ان الإنسان الطلعة يعيش حيوات تتبدل ساعة بعد أخرى، ولكنه يظل على مبادئه الثابتة، ومواقفه العامة التي تحفظ قيمه وخصوصيته وهاجسه.
والشاعر (عبدالرحمن المنصور) كما قلت شع نجمه شاعراً ملء السمع والبصر، ثم خبت أنواره، وطوى كشحه، واستدبر الكلمة المبدعة الجميلة، ولم أسمع منه ولا عنه إلا الأقل. وكم كنا نود لو أنه واصل عطاءه، فلقد كان من النوابغ، وممن سبقوا زمنهم في رمزيتهم وواقعيتهم وتمردهم ويأسهم وقنوطهم وضجرهم ومللهم من الحياة:
(دربُنا مظلمٌ وشحته الأماني بثوب الرياء.
فبدى مشرقا وهو ليل دجى.
وبدا داجيا وهو شمس الضحى.
دربنا مظلم).
خرج من نجد طلباً للعلم، وقد تركت أحوالها المتردية إذ ذاك آثاراً مؤلمة جسدها في تأوهات شاكية باكية:-
(العيشُ والمحراث والفأسُ الثليم
والأرض نزرعها ويحصدها الغريم.
وكآبة خرساء.. تقضمنا على مر السنين).
وقصد الحجاز وتخرج في معاهدها ثم قصد مصر وتخرج في جامعاتها، ولم يعد إلى نجد يوم أن عاد يحمل المؤهل الجامعي، بل جذبته منابع النفط واستهوته مسارح الكسب والعمل، ولعله لم يشهد ما حفلت به (نجد) من رخاء واستقرار، وما أفاء الله به عليها من علم ومدنية وحضارة. وتوقفه عن الإبداع حال دون تسجيل التحولات التي مرت بها بلاده. وهو كما قلت شاعر مقل، ومجدد بادر إلى حالة من الانقطاع، بحيث تجاوز المرحلة التي عاشها، فكان كما (المتنبي) غريب الوجه واليد واللسان، فلم يحفل به المشهد الأدبي، ولم تصخ له الأذن التي ألفت الإنشاد، عاش في مصر شاباً يتلهف إلى المعرفة أدرك عصر العمالقة والمدارس الأدبية، ووعى زمن التحولات الفنية والدلالية وشهد المعارك الأدبية، وأصاخ بوعي لكل المستجدات، وسايرها بثقة واقتدار، وامتلك الجرأة على كسر عمودية الشعر متجاوزاً سوائد الفن واللغة والدلالة، وقد يكون تجاوزه الجريء الذي لانمضي معه فيه إلى نهايته سبباً مهماً من أسباب عزوفه. فالمشهد الأدبي حين لايحفل بالنوابغ تنطفئ في أعماقهم شعلة الإبداع، والذين تتاح لهم فرصة استعراض النماذج الشعرية والدراسات الأدبية التي واكبت انطلاقته المبكرة سيخرجون بانطباع جديد، قد يختلفون مع بعضهم، والاختلاف حول الشاعر أو المفكر من الظواهر الصحية، وحسناً ان يكون الشاعر مثار خلاف، فالمشاهد لاتحيا إلا بالجدل والمعارك الأدبية، والمبدعون لايكرسهم إلا الاختلاف حول اهليتهم.
والأمل كبير أن يحدث هذا الكتاب التوثيقي ضجة حول الشاعر وشاعريته، فنحن أحوج ما نكون إلى استعادة شعرائنا الهاربين، وأحوج مانكون إلى المراجعات المعرفية التي تبحث عن الحق، ولا تهتم بالانتصار.
لن أتحدث عن شاعرية الشاعر، ولا عن قضاياه الفنية والدلالية واللغوية فمجال ذلك متن الكتاب، والدارسون والنقاد اكتنفوه من كل جانب، وتحدثوا عن شاعريته المبكرة ومذهبه الشعري، وتأثره بشعراء مصر والشام وإضافته للتحولات الفكرية والسياسية، وتعالقه الواعي بالمستجدات، ومع اكتفائي بما يقال فإنني أود الإشارة إلى ظاهرة يمتلكها الشاعر، وهي جديرة بأن تستعاد، تلكم هي تجديده الشكلي للقصيدة، وانفتاح النص عنده، فهو قد ناهز النثرية، وأوغل في الرمزية، الأمر الذي سيجعل الناس في خلاف شديد حول مشروعية المناهزة والإيغال. وشوارد الشعراء هي التي تذكي الخلاف. قيل عنه إنه واقعي والواقعية في زمن المد الاشتراكي تحال إليه، وهي من قبل تحال إلى الواقعية الاجتماعية، وتداول الواقعية في ذلك الوقت حساس ومثير، وأحسب أن واقعيته اجتماعية، وقيل عنه أنه رمزي ورمزيته كما رمزية (محمد عامر الرميح) تتعالق مع المدرسة الرمزية الألمانية التي وجدت ملاذها في بيروت عند (البيير أديب) ومجلته (الأديب)، وقيل عنه إنه يستلهم شعر (نازك الملائكة) صاحبة المشروع العروضي الذي استبدل العمودية بالتفعيلة، مع عدم التزامه بشرطها العروضي الذي أثار حفيظة (محمد النويهي) وسيقال عنه أشياء كثيرة بعد صدور هذا الكتاب، ولكنه سيبقى شاعراً لاغبار على شاعريته. والمؤسف أنه حين عاد من بعثته أخذ بلسانه يجره إلى الصمت، مثلما أخذ موسى بلحية أخيه وبرأسه يجرهما إليه. وليته أطلق للسانه العنان، ليصدع بروائع الشعر وجميل القول.
إنه شاعر خسرته المشاهد المحلية والعربية، وخسر نفسه، حين جمد الكلمة على شفتيه وهي بعد لم تأخذ وضعها الطبيعي، وما كان له أن يقسو على موهبته، فيعطلها، ولا على المشهد الشعري فيحرمه من خير كثير، وما حصل حصل، والتاريخ وحده كفيل بأن يقول الحق، فهو الحكم العدل. بقي أن نشكر الذين ذكروه بعد ما نسيه الأقربون، واستعادوه بعد ان طواه النسيان. واستعادة الرواد على أي شكل تمكين للدارسين والنقاد، كي يجربوا آلياتهم، ويعيدوا قراءة من صمت المشاهد عنهم بعدما اقترفوا جريرة الصمت الاختياري.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:42 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..! ( 1 )
د.حسن بن فهد الهويمل


* أولاً - الحواضن:
1/1
عَهدَتْ مشاهدُ الأدب والنقد في كل العصور تناولَ الحركة الأدبية على مستوى الأشخاص أو القضايا أو الأقاليم أو الأزمنة، في سبيل الرصد التاريخي أو الفني أو الموضوعي. وممارسةُ الوصف أو التفكيك الجزئي أو المرحلي لقصد المعرفة أو التقويم تُمكّنُ من شد أواصر الأجزاء، والتوجه صوب تشكيل وحدة كلية، بعد استيعابها واحدة واحدة. وإذا كان بعض الدارسين يحبذ الشمولية، ويَحْذرُ التجزيئية، ويرى أن الأدب العربي لاتفرقه الأقاليم، ولا تشرذمه السياسة فإن البعض الآخر لايرى بأساً من الاتجاه صوب المقاطع الزمانية أو المكانية أو اللفظية أو الدلالية أو الفنية، لاستكناه جانب من جوانبه، متى كان السبرُ والجسُّ لتعميق المعرفة، والتخطي المرحلي إلى الشمولية، فدراسة المقاطع الأدبية على أي شكل، يكمل بعضها بعضا، ومن لم يستكنه الأجزاء لايتصور الكليات.
وحديثي عن مقطعِ زمني في سياق الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، ومقطعِ مكاني في سياق الأدب العربي المعاصر كافة، يُقصد منه تعميق الرؤية لجانب من جوانب الأدب العربي، ولا تُراد من وراء ذلك المفاضلةُ، ولا المفاخرةُ، ولا التجزيئيةُ، ولا التصدير. ذلك أن الأدب العربي منظومة واحدة في لغته وهمِّه وأعماقه وثقافته. وهو في المملكة حلقةٌ في سلسلة الأدب العربي المعاصر، من المحيط إلى الخليج. لا نفرق بين أحدٍ من أجزائه، وهو في المملكة لا يختلف عن أدب الأقطار العربية إلا بقدر ما تختلف مسارحه في الأوضاع السياسية والاقتصادية والدينية، وهي مختلفة ولاشك، وليس الأدب في المملكة بمعزل عن بقية الأدب العربي، وإنما هو متواصل متفاعل، ينهض بمهمته المشتركة، ويقف على ثنيته بكل اقتدار، ولا تحول بعض سماته دون الاندماج والتعالق.
وحوافز هذا اللقاء ترتبط بمناسبة وطنية، أحياها الأدباء والعلماء والمفكرون في المملكة، فلقد مرَّ من عهد خادم الحرمين الشريفين عشرون عاما، حفلت بعدد من المنجزات، على مختلف الصعد، ولم يجد النخبويون من الأدباء بداً من مواكبتها بقراءة نقدية لأدب تلك الحقبة: للتصور والتقويم ورسم الخطط المستقبلية وبَعْد الفراغ من القراءة ورصد المعطيات الأدبية، ايصال النتائج إلى الإنسان العربي، ليكون على معرفة كافية بأدب جزء من الوطن العربي. و(الحركة الأدبية) في المملكة جزء من معطيات هذه الفترة. وتجسيدُ الحركة: كماً ونوعاً، ومعرفةُ توجهاتها وتحولاتها، ومدى تفاعلها مع المستجدات، لطرح ذلك كله في المشاهد العربية للتواصل والتفاعل مطلبٌ ملح. فالمشاهد العربية هي المجال الطبيعي لمنجز الأدباء. والتقدم بأدب الأقاليم يحفزه الحرص على تشكيل وحدة أدبية تجمع الشتات، وتوحد الهم، وتجانس بين الأنواع. فالوحدة المرتقبة لاتتم إلا بعد تهيئة الأجواء، وتجنيس الوحدات، لأن ذلك بعض ماتود المؤسسات السياسية تحقيقه. وأدباء العالم العربي بحاجة ماسة إلى التواصل والتعارف، وتبادل المعارف، لأن همهم مشترك، وقضيتهم واحدة. والمخلصون منهم يلتمسون أدنى الأسباب لفتح القنوات وتجسير الفجوات. ولأن أيَّ مَشهد عربي يعد جماع المشاهد ومنطلقها وعمقها الثقافي، فقد رغبت في تصوري عن مقطع من الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية عبر عقدين من ذلك العهد، وهو حقيق بالقراءة الاستكناهية، لما توفر له من ظروف مواتية. فالأمن والاستقرار والإمكانيات الاقتصادية، والخطط التنموية، والتحولات المؤسساتية، والمبادرات الإيجابية، كل ذلك أسهم في تحقيق جانب من تطلعات الأمة في ظروف عالمية عصيبة، يمس عالمنا كلُّ دخنها. ويأتي الأدب بكل فنونه في الصدارة، فلقد استطاع الأدباء في المملكة تحقيق قفزة كميّة ونوعية.
1/2
وتناول الحركة الأدبية على مدى عشرين عاماً من 1402هـ - 1422هـ لا يتأتى إلا عبر تقص للظروف والبيئات التي توفرت لهذه الحركة، ومكنتها من الأداء المتعدد والمتنوع، وحواضن الأدب تشي بملامحه، وتقصي المكونات يُسّهل طريق التصورات السليمة عن أدب أية أُمّة.
والفترة المدروسة امتدادٌ لعهود سلفت، ولكل عهد سياقاته وأنساقه الخاصة التي فرضتها المتغيرات المحلية والعربية والعالمية. والأدب صدى للظروف المحيطة: محلياً وعربياً وعالمياً، والشعراء والروائيون والنقاد ضمير الأمة ولسانها ورائدها الذي لايكذب. ومع أنه من اليسير استبانة الحواضن فإنه من الصعوبة بمكان تلمس الملامح الخاصة في السياق المحلي، ومن الأصعب تلمُّسها في السياق العربي المعاصر. فالأدب العربي: زماناً ومكاناً ولغة وثقافة وحضارة من التجانس والتواشج والتداخل، بحيث يعسر تفكيك تماسكه، وأحسب أننا نبالغ لو قطعنا بإمكان الوقوف على الفوارق الجذرية، ولكننا مع هذا لا نعدم بعض الخصوصيات الحسية أو المعنوية، التي يتوفر عليها إقليمٌ دون إقليم، أو فترة دون فترة، أو مبدعٌ دون مبدع. فالخصوصيات لاتلغي وحدة الأدب العربي، كما أن الوحدة الشاملة لاتحول دون تداخل الألوان والأشكال المتناغمة، فالروضة المربعة الغنَّاء، تختلف فيها الأشكال والألوان والطعوم والروائح، وذلك سر جمالها، كما أن الإنسان القارئ يتغيربتغير المقروء، وأناسيُّ المنظومة الفكرية الواحدة يختلفون باختلاف مقروئهم، والظروف الخاصة لها دور الظروف العامة، والمتابع المدقق في حياة شاعر أو أديب، يجد أنه يتشكل من مراحل فيها بعض المتغيرات، وهذه المتغيرات لا تُخِلٌ بالوحدة الكلية لأدب الأمة، وليس من شك أن لكل مرحلة خطابها، فالمتغيرات السياسة، والتحولات الاجتماعية، والتنوعات المعرفية، تغير نبرة الخطاب واهتماماته وترتيب أولوياته. وليس هناك ثبات لازب في التناظر لا يريم، ولكن هناك أُطر عامة، وخصوصيات مندرجة تحت هذه الأطر. وتغير الاهتمامات، وتعدد الكيانات السياسية، وما تمر به الأقاليم من نجاحات أو إخفاقات، ينعكس أثر كلُ ذلك على آداب الأقاليم. والظروف الخاصة تفعل فعل الظروف العامة، ولكل أديب بيئات ثلاث: - عامة، وخاصة، وأخص، ولكل واحدة دورها الفاعل وقد يكون للبيئة الأممية الأعم دورها المضارع لما دونها من بيئات، والأمة تنتظمها بيئتان: عامة وأعم، وكلما دقت النظرة تبدت الخيوط الخفية، وهمُّنا مقتصر على الكشف والتوصيف والتعريف وقد يكون من نافلة القول الإيماء إلى بعض الملامح والخصوصيات.
وقدر العالم العربي أنه كيانات سياسية، لكل كيان همومه وخياراته ومشاكله وإمكانياته وتركيبته السكانية، وله تحولاته وظروفه الخاصة والعامة، والراصدون لتحولاته سيجدون مادتهم في الإبداع القولي، فهو صدى الأحداث، يعطي أدق الملامح، ويشكل جزئيات التصور. ولما لم يكن التواصل بين أدباء العالم العربي، ولا بين آداب الأقاليم العربية قائماً على المستوى المطلوب، فإننا أحوج ما نكون إلى من يجدد هذا التواصل على أي شكل، ويلتمس الأسباب الداعية له. ومناسبات التواصل ترسخ العلاقات، وتنمي المعلومات، وتصحح المفاهيم الناقصة أو الخاطئة، وتلك بعض الحوافز التي حدت بنا إلى استغلال هذه المناسبة.
1/3
والظروف السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية في المملكة هي التي رسمت مسار الأدب، وحددت مطارح الأدباء، واستقبلت فيوض الأدب العربي والعالمي، وتفاعلت معها، واستفادت منها، واصطبغت ببعض صبغتها، ولما تكن سائر الأوضاع في معزل عن رياح التغيير العالمي، وبخاصة في الفنون والآداب. والأدب العربي في المملكة مع هذا الانفتاح والاستقبال يملك القدرة الكافية للتحكم. فالضوابط العامة قادرة على الاستقبال الواعي والانتخاب المحسوب، ولا عبرة بمن جرفته تيارات التغيير، فانسلخ من حضارته، ولا بمن غَلَّ يده، وغض بصره عن استشراف الآتي، وانكفأ على نفسه، وصار ابن تاريخه لا ابن حاضره، ذلك أن لكل وضع طرفين ووسطاً، ومع هذا لم تكن الغلبة للأطراف وإنما هي للوسطية الواعية، فالضوابط الدينيةُ والسياسيةُ والاجتماعيةُ تحول دون الاندفاع غير المحسوب، ولكنها لاتعيد القاصية إلى الجماعة، ومع الضوابط فإن الإمكانيات التواصلية قادرة على تجسير الفجوات، وتوسيع القنوات، واستدعاء المستجدات على كل الصعد العربية والعالمية. فالمشهد الثقافي في المملكة يعج بمختلف التيارات، الأمر الذي عدد الخطابات، ولأن سياسة المملكة ذات عمق تاريخي، فإن نظامها السياسي يتوارثُ ضوابطه وسماته وخصائصَه منذ الدور الأول على يد (محمد بن سعود) قبل ثلاثة قرون. وأدوار الحكم السعودي، وإن واكبت متغيرات محلية وعالمية تصطحب ذات الضوابط المستمدة من الشريعة الإسلامية والقيم العربية: تحكيماً وامتثالاً وإظهاراً. والأدب العربي في المملكة في ظل هذه الظروف، نشأ نشأة عربية خالصة، إذ لم يتواصل في بدايات تشكله بالآداب العربية، ولم ينفتح على الآداب الغربية، لعدم وجود الاستعمار التقليدي، فالظروف الدينية المعززة بالمقدسات، وبضوابط الدعوة الإصلاحية، والوضع الاقتصادي الضعيف، والموانع الجغرافية المتمثلة بالتصحر والجفاف، وتقلبات الأحوال، وتموجات التركيبة السكانية القائمة على التبدَّي والقبليةَ والترحُّل، والإمارات الإقليمية والعشائرية، كل ذلك مكَّن الأدب العربي في المملكة إبَّان بداياته من التشكل العربي التقليدي الخالص. وظل عربياً خالص العروبة، وسلفياً خالص السلفية، وضعيفاً بيّن الضعف وملتفا حول نفسه، حتى جاء الدور الثالث من أدوار الحكم السعودي على يد المغفور له (الملك عبدالعزيز) الذي أخذ بأسباب الحضارة، فكان أن مكَّن للأدب من الانفتاح.
وبعد توحيد البلاد، وما تبع ذلك من استقرار سياسي، وثراء اقتصادي، وتوطين إلزامي للبادية، وتحول مؤسساتي ألغى الولاءات القبلية والإقليمية، بدأ التواصل بين الأقاليم ومع الأقطار العربية، وأسهمت الكفاءات العربية في صناعة الأدب العربي في المملكة، الأمر الذي هيأ للتلاحم الأدبي والتفاعل الايجابي في وقت مبكر. ولقد عزز الاندماج الإقليمي ومشروع التوحيد الشامل الإسراع في تعميم التعليم النظامي والتوسعُ في عمليات الابتعاث إلى مصر، واستقدام المدرسين، والعلماء والكفاءات: الإعلامية والصحفية والسياسية، وسد الحاجة من المقتدرين من أبناء مصر والشام والعراق، وفي ظل هذه الظروف أعاد الأدب تشكيل نفسه مصطحباً ضوابطه العربية والإسلامية. وفي العشرينية كانت المؤسسات العلمية والأدبية والإعلامية في أوج نضجها وأدائها واستكمال آلياتها، فكانت تلك الفترة بما هيئ لها من ظروف مواتية فترة استثنائية على كل المستويات. ولعل الأحداث الجسام التي مرت بالوطن العربي أسهمت في تنوع الأداء وأصالته، فالمواقف الحساسة الضاغطة، والأحداث المصيرية، تفجر المواهب، وتهيئ المتلقي للتفاعل الإيجابي. والأدب العربي في المملكة لم يكن في معزل عن المشاهد العربية، منذ التوحيد إلى الانطلاق، ولكن تواصله عفوي غير منتظم وغير متصل. وإذا كان عمر الأدب العربي في المملكة قصيراً إلى جانب أعمار الآداب العربية المعاصرة في حواضر العالم الإسلامي: دمشق والقاهرة وبغداد فإن إمكانياته في إقليم الحجاز وظروفه المواتية فيما بعد مكنته من اللحاق بتلك الآداب، والوقوف إلى جانبها، والنهوض بما نهضت به، من إمتاع واستمالة وإقناع وإفادة ودفاع عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، مع استكمال واع لمقومات الآداب الحية. وهذا التميز والحضور الفاعل، والتنوع، والأخذ بالمستجدات، حفز كبار الأدباء والنقاد في الوطن العربي على استدعائه والحديث عنه، في وقت مبكر، يقدم هؤلاء عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين)، ومن بعده (محمد حسين هيكل)، و(العقاد) و(مندور) وسائرُ الدارسين الأكاديميين، الذين موضعوا مفرداته وشخصياته، لتكون مادة ثرة للرسائل العلمية وبحوث الترقية. ولقد نفله الأدباء والنقاد من كافة أرجاء الوطن العربي بكتب وبحوث ومقالات، تقصَّيْتُ عناوينها ومسمياتها مع اثنين من زملائي في كتاب (الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:43 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!« 2»
د. حسن بن فهد الهويمل


1/2 ولأن حديثنا عن (الأدب العربي في المملكة) مقتصر على (العشرينية). فإنني سأضرب صفحاً عن تقصي البدايات، وعن مرحلتي الريادة والتأسيس، تمهيداً للدخول في صلب الموضوع، وسوف يكون تركيزي على (مرحلة الانطلاق)، التي بدأت بوادرها في العقدين الأول والثاني من القرن الخامس عشر، إذ هما مشمول (العشرينية)، على أن ذلك يستدعي بعض الاستطرادات والنظر في الظروف المحيطة. والناقد التكويني يتقصى مخرّجات الأدب ومشكّلاته وحواضنه، ليسهل تفهُّمُ بنيته الداخلية واستكناهُ خصوصيته، وتصورُ حجم وجوده. فالأدب تنسجُ لحمتُه وسداه المعطياتُ البيئيةُ والظروف الآنية: المؤثرة والمحركة والموجهة. و(العشرينية) استقبلت نتائج الخطط التنموية الأولى، وعاشت ذروة الطفرة الاقتصادية، التي اجتاحت المملكة بفيوضٍ من الإمكانات التي قلبت كل الموازين، وغيرت كل التوقعات. وكان أن تمخضت الطفرة عن مؤسسات علمية وأدبية وإعلامية، أسهمت في تنشيط الحركة الأدبية، وفي إحداث متغيرات جذرية في توجهاتها. ففي تلك الفترة عادت طائفة من المبتعثين إلى أوروبا وأمريكا، تحمل المؤهلات العالية في الأدب والنقد ومناهج اللغة، وكان لانتشار هؤلاء في الجامعات والمؤسسات أثره البالغ في إشاعة المذاهب والآليات النقدية والأدبية الجديدة، بحيث راوحت بين السلب والإيجاب، إضافة إلى ما أحدثته من ارتباك واضح، وهي إلى الإيجاب أقرب. وليس أدل على ذلك من تتابع التيارات والتيارات المضادة، ك (الحداثة) بكل اتجاهاتها وبعدياتها، والمناهج (الألسنية) بكل تحولاتها وتنوعاتها و(الأدب الإسلامي ونقده) و(المحافظة والتجديد)، وإثارة المعارك الأدبية، وقيام حوار متعدد الاهتمامات بين أنصار الجديد والقديم، وبين المجددين والحداثيين، وبين الآخذين بآليات النقد البنيوي المعُلِي لشأن اللغة، والآخذين بآليات ومناهج نقدية تعلي من شأن الجماليات أو الدلالات، والمستعيدين لجذور النظريات التراثية، والنافين لها، وفيما بين هؤلاء وأولئك نسلت شرذمة قليلة استخفت بالموروث وامتعضت منه. وهذه المعارك الأدبية والنقدية التي تبدت بكل وضوح في هذين العقدين تطلبت خلفية ثقافية ورصيداً معرفياً، لتحفظ التوازن، وتحققَ سنة التدافع والتداول، وتُمكن كل طائفة من حماية ما تنتمي إليه من مذاهب وأفكار. واحتدام المشاعر والمشاهد مؤشر إيجابي، أسهم في تحريك الركود، وحفز ذوي المذاهب على الارتداد إلى مذاهبهم لتطوير آلياتها، وتحرير مسائلها، وتكريس حضورها في المشهد الأدبي. والجدل الذي أحدثه الانفتاح، تجاوز بالأدب وفنونه قاعات الدرس وأروقة الجامعات إلى مشاهد الأدب وقنوات الإعلام ومنافذ التأليف والنشر والمؤسسات الثقافية، وأتاح فرص التواصل مع الأشباه والنظائر من الأناسي والظواهر والقضايا والمذاهب في كافة المشاهد العربية.
2/2 هذه المخاضات تطلبت مؤسسات إضافية لاستيعاب هذه المعارك، كان من بينها فكرة (الأندية الأدبية) التي بدت في وقت سابق، ولكنها كانت إذ ذاك محدودة ومتواضعة. وفي (العشرينية)، أخذت وضعها المتميز، ووعت رسالتها، وتوسعت اهتماماتها، وتقاطر تأسيسها في حواضر المدن، ودُعمت من الدولة بمساعدات سخية، مكنتها من طبع الكتب، وتنفيذ المحاضرات، وعقد الندوات، وتنويع الأمسيات، وإقامة معارض الكتاب، وحضور المهرجانات، واحتضان الناشئة، وتشجيع الموهوبين منهم. ولقد هيئت في كل ناد مكتبةٌ عامرةٌ بالكتب مكتظةٌ بالرواد، فيها صالات للمطالعة، إضافة إلى أن لكل ناد دورية أو أكثر، محكمة وغيرَ محكمة، منها ما يختص بالتراث، ومنها ما يهتم بترجمة الأعمال الإبداعية والنقدية العالمية، ومنها ما هو مُعتن بالأعمال النقدية الحديثة: تنظيراً وتطبيقاً. ويأتي (نادي جدة الثقافي) في مقدمة الأندية في إصدار الدوريات المتنوعة والاحتفاء بالمستجدات المصطلحية: كالنصوصية، والتناص، والبنيوية والتفكيكية وتحولات ذلك كله. وسلبياتُ هذا الاحتفاء -إن كان ثمة سلبيات - متمثلةٌ بالمندفعين دون تأصيل معرفي وبالمندسين دون فهمٍ للمقاصد والمقتضيات، وبالمستبدلين دون انتقاء، وبالمستخفين بالتراث دون تبرير أو تحديد. ولا تخلص أيُّ حركةٍ بهذه القوة والشمولية من سلبيات، والمشاهد العربية كافة لاتخلو من فئات رضيت بأن تكون صدى لما يدور في المشاهد العالمية.
3/2 وفي العشرينية تقاطرت مبادرات أهل الدثور من رجال الأعمال وكبار الشخصيات ممن لهم روابطهم بالفكر والأدب بافتتاح (الصوالين الأدبية) واستقطاب الأدباء والمفكرين والمحاضرين لإحياء الأمسيات والمحاضرات، وتكريم الرواد والمتميزين من الأدباء والمبدعين، وتداول الرأي حول الظواهر الأدبية والفكرية، ففي حواضر المملكة (أحاديات) و(اثنينيات) و(ثلوثيات) و(أربعائيات) و(خميسيات) تغطي أيام الأسبوع، وتُذكّر بصالونات (العقاد)، و(مي زيادة) في الحصر الحديث، ومجالس (سكينة بنتِ الحسين) ودواوين الأمراء والكبراءِ ومجالس العلماء و(مجالس الأدب العربي في الأندلس) ومن قبل هذا (أسواق العرب) وما أنجزته من علم وأدب. ففي هذه (الصالونات) يُكرَّمُ الأدباءُ، وتنفذُ الندوات والأمسيات والمحاضرات. وتقوم (اثنينية الخوجة) في (جدة) - على سبيل المثال - بطباعة الأعمال الأدبية والإبداعية، ورصد ما ينفذ في كل لقاء، وطباعته وتوزيعه، وقد صدر عن (الاثنينية) أعمالٌ شعرية وروائية ودراسية. وبعد وفاة العلامة (حمد الجاسر) تحولت مشاريعه العلمية وندوته (يوم الخميس) بدعم من الدولة إلى (مؤسسة ثقافية) لها مشاريعها العلمية، ومجلتها المتخصصة بجغرافية الجزيرة وتاريخها، وقد شُكل للمؤسسة مجلسٌ إداري من العلماء والأدباء، ودعمت مادياً ومعنوياً من الدولة ومن ذوي اليسار، ولما تزل تمارس عملها العلمي والأدبي. وفي ذلك إثراء للحركة الأدبية في البلاد.
وفي تلك الفترة اتجهت الجامعات الثماني في المملكة إلى تأسيس جمعيات جغرافية وأدبية ولغوية وفقهية، وشُكلت لكل جمعية مجالس إدارة، ووضعت لها لوائح تنظيمية، ومصادرُ تمويل، وباشرت عملها تأليفاً وتحقيقاً وطباعة، مع ممارسة الأنشطة المنبرية. كما منح بعض الأدباء والعلماء امتياز إصدار مجلات محكمة تختص بجغرافية المناطق وتاريخها وآدابها، ومعتمدة فيما تنشر على التخصصية والتحكيم. ولكل مؤسسة أو وزارة إصداراتها: البحثية والدعائية.
4/2 وإلى جانب (الأندية) و(الصالونات) و(الجمعيات) و(الدوريات) قامت مكتبات علمية وأدبية، تمارس أنشطة ثقافية، وتصدر مجلات أدبية محكمة. تقْدمُ ذلك (مكتبة الملك فهد الوطنية) بما هيئ لها من إمكانات، وبما أنيط فيها من مسؤوليات، وبما أنجزته من أعمال و(مكتبة الملك عبدالعزيز) التي أنشأها ولي العهد، وتعهد بتمويلها، والتي نفذت على أحدث الطرق، وزودت بأحدث الأجهزة، ومكنت من التوسع في المهمات، فكانت بحق مؤسسة ثقافية، تعج بفنون القول. وهذه المكتبة المؤسساتية تصدر (مجلة أدبية)، وتنفذ ندوات عالمية، تستضيف لها مئات الأدباء والمفكرين من أنحاء العالم، وتطبع كتباً وملفات، وتنتج برامج (تلفازية)، وتتوفر على آخر الإصدارات من الكتب، تجهز قاعات المطالعة، وتوفر الأجهزة الحديثة، إضافة إلى ماحظيت به المؤسسات القائمة من قبل من تطوير ودعم وتحديث وسائل، ف (دارة الملك عبدالعزيز) من معالم البلاد العلمية والثقافية لها مجلتها ومطبوعاتها وإسهاماتها المتعددة. و(مؤسسة الملك فيصل الخيرية) وما يتبعها من (مركز ثقافي) و(جائزة عالمية) و(مجلة محكمة) و(مكتبة حديثة) و(مركز معلومات) وما ينفذ فيها من ندوات ومحاضرات. و(المهرجان الوطني للتراث والثقافة) وهو تظاهرة ثقافية تراثية، يقام كل عام، وتنفذ على متنه وفي هوامشه ندوات رئيسة، تكون لها محاورها، وبحوثها، وأخرى ثانوية، إضافة إلى محاضرات وأماسٍ متعددة الاهتمامات، وطبع كتب، واستضافة رجالات الفكر والأدب و(جمعية الثقافة والفنون) و(مؤسسة سلطان الخيرية) وما تقوم به من مبادرات علمية وثقافية، و(المكتبات) و(دور النشر) و(المؤسسات الخيرية) لكبار الأثرياء، كل ذلك يشكل حواضن أدبية. هذه المؤسسات حظيت بدعم مادي ومعنوي من قبل الدولة، مكنتها من تنويع اهتماماتها. وفي سبيل تنشيط الحركة الأدبية اتيحت فرص (لعقد مؤتمر الأدباء) السعوديين، بعد توقف دام ربع قرن، وجاءت نتائجه لصالح الحركة الأدبية، فعلى هامشه نفذت (ندوة أدبية) متخصصة، وطبعت أعمالها من دراسات وبُحوث في (أربعة مجلدات)، كذلك أعيدت صياغة علمية (لمؤتمر رؤساء الأندية الأدبية)،بحيث يكون على هامش كل مؤتمر (ندوة أدبية)، حول قضية أدبية، تنفذ أعمالها، وتطبع فعالياتها. والاحتفالية المتعددة الاهتمامات التي جاءت (بمناسبة مرور مئة عام) على تأسيس المملكة العربية السعودية، نفذ على هامشها ندوة كبرى قدمت فيها مئات البحوث، ودعي لها آلاف الأدباء والمفكرين من أنحاء الوطن العربي والإسلامي والعالمي، وطبعت أعمالها، وقامت كافة المؤسسات العلمية والأدبية والثقافية والإعلامية بتنفيذ الندوات والأمسيات وطباعة عشرات الكتب: ابتداء أو إعادة، وكان النصيب الأوفى للدراسات الأدبية والإبداعات، وتلتها (العشرينية) التي تأتي هذه المحاضرة من مفرداتها، وفي سبيل دعم الروابط والمؤسسات وافق المقام السامي على فتح (مكتب إقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية) وخصص له إعانة سنوية، وأمر بشراء مقر مناسب له، ومن مهمات هذا المكتب تنفيذ لقاء شهري، وإصدار مجلة شهرية، وطبع الكتب الأدبية. ولما تزل إسهامات كبار الشخصيات في المملكة تنقب عن مجالات العطاء الفكري والأدبي والثقافي. ولعل آخر مشروع عالمي (مؤسسة الفكر العربي) التي شملت العالم العربي، وسوف تنهض بمهمات فكرية وأدبية، وتقدم مشروعاً عربياً متزناً، يمتلك آلية الحوار الحضاري.
وتميز عهد خادم الحرمين الشريفين بتعزيز مشروع الموسوعات العلمية والثقافية والأدبية، وقد أُنجز في عهده ثلاثة مشروعات موسوعية:
أ - الموسوعة العربية العالمية. التي صدرت عن (مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية). التي استقطب لإنجازها آلاف المفكرين، ونيفت على سبعة عشر ألف صفحة، وثلاثة وعشرين ألف عنوان، ومائة وثلاثين ألف مادة بحثية، وجاءت في (ثلاثين مجلداً).
ب - موسوعة مكارم الأخلاق التي مولها الأمير مشعل بن عبدالعزيز، وأنجزها فريق أكاديمي، وجاءت في أكثر من (ثلاثة وخمسين مجلداً) شملت مكارم الأخلاق في الشعر والتراث العربي.
ج - موسوعة الأدب السعودي في (ثمانية مجلدات) ممولة من سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
تلك بعض حواضن الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، وبعض المنجزات التجهيزية، فماذا عن ملامح الأدب العربي في المملكة؟
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:43 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
موسوعة الأدب السعودي وتداعيات الصدور..!
د. حسن بن فهد الهويمل


من إشكاليات المشهد الأدبي: محلياً وغربياً عقدة الملائكية الخالصة الخيرية، أو الشيطانية الخالصة الشرية، فيما يقوم الفراغ الهوائي بين القطبين بحيث لا ينوس فيه إنس ولا جان. والحدية الصارمة تعد إشكالية المشاكل في كل المشاهد: ا لسياسية والفكرية والأدبية، وعليها وعلى الثنائية تُحْمل دواعي الصراع والصدام، والمتحسس عن الوسطية، والمتلمس للمخارج يعيش غربة الوجه واليد واللسان. والمسدِّدون والمقاربون كالغرباء الذين يُصْلِحون ما أفسد الناس، وحاجتنا إلى أخلاقيات الحوار أشد من جاجتنا إلى مراجعة المنجزات وتسديدها.
والجدل المحتدم المتداعي إثر صدور الموسوعة ينذر بسوء، ولا يبشر بخير، وأحسب أن الأطراف تمارس تصعيد التنافي في حين أنه بالإمكان الخلوص من وهدة الاتهامات إلى صعيد المراجعات، والمؤلم أن ذروة الصعود إلى الهاوية تولى كبرها أستاذان جامعيان، ما كان لأحدهما أن يبلغ به الغضب مبلغه، ولا أن ينزلق في مهاوي الاتهام الشخصي. وإذا كان العمل الموسوعي مبادرة حضارية وحاجة ضرورية فإن حماية المشروع ونقده لا يكون سوقياً، إذ لابد من تكافؤ الفعل ورد الفعل.
والموسوعة كالمولود امتلك حتمية الوجود بمجرد ولادته الطبيعية أو المبتسرة، ولم يعد بالإمكان دسه في التراب، لقد قضي الأمر الذي فيه يتجادل المتجادلون، وسبق السيف العذل، و أصبحت الموسوعة بين أيدي القراء في الداخل والخارج رضي من رضي وسخط من سخط. وحين لا يكون بالإمكان رد الدر إلى الضرع ولا إيلاج الجمل في سم الخياط فإن من اللجاجة الاشتغال بالمحال والعزوف عن الممكن، ولم يبق إلا قراءة المشروع قراءة علمية منهجية حيادية متزنة مدعومة بالأدلة والشواهد، دون اتهام أو تخوين، فالفريق الذي أنجز العمل حريص على ألا يقول إلا الحق، ولكن الحرص لا ينجي من الأخطاء، والمسألة في النهاية تعود إلى التغليب، فإذا غلبت الإخفاقات النجاحات فشل المشروع، وإذا فاقت النجاحات الإخفاقات ملك العمل مشروعيته، ومهما اختلفنا أو تحفظنا على المنهج أو الآلية أو المادة أو المنفذين فإن النجاحات تفوق الإخفاقات. ومن حق الفريق العلمي علينا أن نسدده ونبادله النصيحة، وعليه ألا تأخذه العزة بالإثم، وألا يتمترس خلف أي سمة.
ويبقى الخلاف والحالة تلك حول هنات لا يخلو منها أي مشروع فكل قول أو فعل لغير المعصوم يؤخذ منه ويرد، ولا يمكن التسليم المطلق لأي منجز، وإذا لم يجعل الله لأحد من قبل رسوله ولا من بعده الخلد فإنه لا يكون لأحد التسامي فوق المساءلة والنقد، وليس لأحد أن يمنح نفسه أو قبيله العصمة أو العظمة، ومصائب المشاهد التسامي بالبعض إلى سدة العصمة، بحيث يكون المساس بهذا البعض مساساً بالمقدس، ولو عرف كل واحد منا قدر نفسه لما هدِّمت شوامخ ولا شمخت عوائل، وداء المشهد التشايل والتمظهر وتعالي القتام والشللية.
وتأتي الموسوعة ذِبْح المشهد، يقول فيها وعنها محق ومبطل، وناقم وعالم، ومجتهد ومصيب، ومخطئ ومتقحم لا في العير ولا في النفير، ومن ألف فقد استهدف. وعلينا توطين الأنفس، وتقبل أقدارنا بالتسليم والرضى، وكنا نتوقع أن تستقبل الموسوعة بممارسة نقدية متمكنة، هادئة مطمئنة، تحسن الظن، وتلتمس الأعذار، وتشير إلى مواطن النقص، ولا تتهم، وتقف حيث تكون القضايا، ولا تمتد إلى الأشخاص، ولا إلى النوايا، وتتعاظم المصيبة حين لا يتمخض القدح والمدح عن إيجابيات، وذلك ما أخشاه وما نعانيه، فالمشهد يعيش حالة من التوتر وتبادل الاتهامات، وحاجتنا إلى حكيم حليم يورد القضية موارد النجاة لا موارد الهلكة، والذين استقبلوا المشروع نقموا من ذويه: سريتهم وقلَّتهم ونوعيتهم وأثرتهم ومنهجيتهم وعدم تقصيهم مع ترهل الموسوعة.
والمعتورون تختلف نوازعهم ومقاصدهم ومستوياتهم المعرفية، ويتراوحون بين معمم ومخصص، ومُهْمَل له حق المساءلة ومبخوس له حق المطالبة، ومُبْتًسرٌ له حق المناشدة. وطبعي وقد امتدت الموسوعة إلى الشاهد والغائب والمقيم والظاعن والشاعر والناثر و الناقد والكاتب أن يكون لكل واحد رأيه فيما قيل عنه أو نقل منه، وجميل لو أن المشتغلين بالموسوعة استشاروا واستخاروا واستعانوا، ولم تكن استعانتهم على قضاء حوائجهم بالكتمان، وأجمل من هذا لو أنها استقبلت بنقد موضوعي معرفي لا يمس الأهلية ولا الكفاءة ولا الأمانة، فالذين أُهْملوا ولهم حق الحضور، من حقهم العتب حتى يرضوا، والذين بُخِسوا لهم حق المساءلة حتى يستوفوا حقهم، ومن ليس لهم ولا عليهم أمثالي ولكنهم يودون منهجية أحكم وآلية أسلم وفريق عمل أكثر دربة وتخصصاً يجب أن يُسمع قولهم، ويؤخذ بأحسنه، فما نريد إلا الإصلاح ولا عاصم إلا الله.
ومن المقت الكبير أن نطالب بسماع الحق ثم لا نسمعه، أو ننفي العصمة عن الغير وندعيها لأنفسنا، فما نقوله عُرضة للأخذ والرد، وما نحن إلا من غزية، وفريق العمل الذي نهض بالمهمة أهل لها ولا شك، ولكن الأهلية لا تعصم من الخطأ، ولا تعني الأفضلية، وفوق كل ذي علم عليم. والموسوعة في طبعتها الأولى بحاجة إلى خطوات إيجابية ومبادرة واثقة:
الخطوة الأولى:
إصدار ملحق تُستدرك فيه الأخطاء الواضحة، ويضم فيه من فات على الفريق من مبدعين ونقاد وكتاب.
الخطوة الثانية:
تشكيل فريق عمل جديد ممن سبق اشتراكهم ومن غيرهم تراعى فيه المؤهلات التالية:
أ. التخصصية العامة: بحيث يكون الفريق من المتخصصين في الأدب الحديث.
ب. التخصصية الخاصة: بحيث يكون الفريق من المتخصصين في الأدب العربي في المملكة العربية السعودية.
ج. الممارسة: بحيث يكون فريق العمل ممن يعيش حضوراً فاعلاً ومتميزاً في الدراسات والموسوعات.
د. التنوع: بحيث يكون الفريق متوفراً على متخصصين في النقد ومناهجه القديمة والحديثة، والتاريخ الأدبي والدراسات.
هـ. التحكيم: بحيث يكون هناك فريق محكمين لمراجعة المواد من حيث الموضوع والخطة والمنهج والآلة والشمول والتركيز.
و. الإشراف: بحيث يكون هناك فريق إشراف متخصص بالمنهج، والمادة.
ز. التصحيح: بحيث يكون هناك فريق عمل لتصحيح المادة لغوياً ونحوياً وصرفياً وأسلوبياً وشكلياً، وقبل ذلك لابد من وضع خطة عمل، فالمشروع نسل إلينا على حين غفلة.
ذلك أن العمل الموسوعي عمل معرفي توثيقي مرجعي جماعي نيابي، وليس جهداً فردياً، والمتلقي العربي يعد الموسوعة وثيقة لا معقب لها، لأن الموسوعية كالمعجمية عمل مسؤول ومؤسساتي، ومن ثم فإن احتمال الخطأ فيه نادر، وفي أضيق نطاق.
ومع كل ما سبق فإن الموسوعة مبادرة جيدة تستحق منا الاحتفاء والنقد الإيجابي وقراءة الإنجاز بمنهجية وعلمية تحمل على التسديد والمقاربة، ولا يجوز التعميم ولا التقليل من قيمتها، ومهما اختلفنا مع المنهج أو الآلية أو المادة أو أهلية أحد أفراد الفريق العلمي فإن الود باقٍ، وبإمكان المشروع في طبعته الثانية أن يستدرك الفوات، وكل الموسوعات والمعاجم مرت بمثل ما ستمر به الموسوعة، وعلينا أن نوازن بين الطبعة الأولى «لأعلام الزركلي» مثلاً وما لحق من طبعات، وأن ننظر إلى «دليل الناقد الأدبي» للأخوين «الرويلي والبازعي» في طبعته الأولى والثالثة، وأن نستدعي أي مشروع معجمي أو موسوعي في طبعته الأولى وطبعاته اللاحقة.
وأحسب أن مشروع الموسوعة عمل حضاري، يجب أن نعضده، وأن يوضع له مركز معلومات، ويؤلف له فريق عمل مساند لفريقه الأصلي، يتلقى الملاحظات والإضافات، وأن تحال أجزاؤه العشرة إلى طائفة من المتخصصين في الأدب الحديث ونقده، وفي الأدب السعودي وأنواعه، لإبداء ملاحظاتهم على كافة الجوانب تمهيداً لطبعة جديدة منقحة، وإذ بادر «نادي الرياض الأدبي» مشكوراً بالاحتفاء بالموسوعة وذويها فإن عليه أن يكون مثابة لفريق العمل وللمستدركات والإضافات، وليس من مصلحة الحركة الأدبية في المملكة أن يجهض المشروع، ولا أن تنزع الثقة منه، ولا أن يظل كما هو، وفي الإمكان تلافي التقصير، وليس من المصلحة أن يظل دُوْلةً بين ذويه الساخطين أو الراضين لا يتجاوز تراقي البلاد. يجب أن يكون رسولنا إلى آفاق الوطن العربي، فكم تجرعنا مرارة العزلة وجهل الآخرين بنا.
والموسوعة بطبعتها المنقحة المرضية لكل الأطراف خير من يصلنا بالمشاهد العربية، وعلى المتخصصين المبادرة إلى قراءة الموسوعة، وتدوين الملاحظات المتعلقة بالمنهج أو بالموضوع بأسلوب علمي بعيد عن التهوين أو الاتهام، وعلى الفريق أن يتقبل النقد برحابة صدر الواثق وثقة العالم، فذلك طريق النجاح.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:44 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!
د. حسن بن فهد الهويمل


2/2 الملامح:
1/3 أوجزنا الحديث عن «الحواضن» بوصفها مؤشرات ايجابية، على المستويين الكمي والكيفي، وعلى التحول المستمر، اما عن «الملامح» فإن شأن الأدب العربي كشأن الآداب العالمية، لا يستقر شيء منها على حال، ولا يمتلك لون من ألوان الأدب مكان الصدارة، بحيث يبقى في مركز الأهمية، ثم لا يبادله مكانه لون آخر، وتحولات الادب العربي الحديث: محلياً وعربياً كسرت كل الضوابط، وغيرت كل المعايير، ولما تكن تحولاته في العصر العباسي على يد «بشار» و«أبي نواس» و«أبي تمام» مثل تحولاته على يد «أدونيس» و«أمل دنقل» و«أنس الحاج»، ذلك أن التحولات العباسية لا يستبينها الا الخبراء المتمرسون، وتحولات الابداع السردي والرؤى النقدية، ليست بأقل من التحولات الشعرية، حتى لقد بلغ الأدب بسائر فنونه حد الانقطاع او كاد، وهو ما يدعو له نقاد الحداثة ومبدعوها، ثم ان الابداع القولي في العصر الحديث لم يكن خالصا للشعر، وانما كان مجاله: السردية والشعرية. وسرديات العصر الحديث تختلف عن سرديات ما سلف، ولما كانت الصدارة منذ القرون الأولى حتى العصر الحديث للشعر، فقد همش سلطانه كل فنون القول، وبطأ بها، وبقي على ما كان عليه من «بناء» و«شكل» و«صور» و«أغراض» منذ «امرىء القيس» ومن لحق به الى العصر الحديث، مما استطاع معه الراصدون والمنظرون ضبط ايقاعه، فكان اكتشاف بحوره ومعياره وعموديته دليلاً على الثبات والنمطية. ولما ان جاء البشير بطلائع الاستغراب، وسع العصر الحديث كل الخطابات، واتصل العالم العربي بحضارة الغرب، ينهل ويعل من رفدها المحمول على أجنحة الاستعمار ومناديبه، والمستشرقين وعضدهم، والمبشرين والمبتعثين والمترجمين. وبلغت الهيمنة والاستغواء بين المستغربين حد التدافع والاستماتة، حتى لقد نهضوا بالنيابة عن كل أولئك في «غربنة» الآداب: القولية والسلوكية وظلت بقية من خيرة القوم، تتفاعل مع المستجدات بندية، تأخذ ما يفيد، وتنفي ما لا يستجيب للحاجة، ومالا ينسجم مع الذائقة، وما لا يوائم فطرة الأمة التي فطرها الله عليها، ووقعت طائفة من ناشئة الفتيان والفتيات في النثرية والغموض والانقطاع، باسم التجديد وحرية التعبير، وبقيت طوائف اخرى على ما كان عودهم السلف: مقلدين او محافظين، واوغل فئام من المتعلمنين في بوادر المدنية الغربية والشرقية من دون رفق، ولم يمن الأدب في مرحلة الانطلاق في معزل عن دخن ذلك. وعلى كل مستويات التلقي تغيرت دولة الشعر، وقامت دولة السرد، تقرض سلطان الشعر، ونهضت الى جانب السرديات المستجدات: الشكلية والدلالية واللغوية، تبدل لحمة الشعر، حتى لكأنه غير الشعر الذي عرفه الأقدمون، والتحولات: الفنية والدلالية واللغوية، ومجيء الابداع السردي بهذه القوة، كاد ذلك كله يفصل الادب العربي عن جذوره، وبخاصة حين علا كعب السرديات، الى الحد الذي أطلقت معه مقولة: «زمن الرواية» وتحول نقاد الشعر الى النثر، فكان الزمن: زمن الناقد الروائي، والمبدع الروائي، والقارىء السردي، وفوق ذلك كله جاء «الابداع الأمي» يسد خلالا كان يسدها الشعر الفصيح، ولو كانت المنافسة للشعر قصرا على الرواية لقاسمها المواقع، وشاطرها الاهمية، ولكنها منافسات متعددة، قلبت موازين الشكل الشعري، وأحلت السرديات والعاميات محله، ونهضت وسائل الاعلام بما كان ينهض به الشعر. هذه البدائل والمتغيرات طالت الظاعن والمقيم من أدباء العالم العربي وآدابه، واعادت رسم ملامح الأدب العربي في كل بقاعه، بما فيه الأدب العربي في المملكة، وبخاصة في «مرحلة الانطلاق» التي وسعتها «العشرينية» بوصفها ناتج التجارب السابقة، ومثلما فعلت المستجدات فعلها في سائر الآداب العربية من متغيرات في: اللغة والشكل والدلالة والانواع، هبت رياحها على شعراء المملكة وروائييها ونقادها، فكانت لهم اشكالياتهم ومشاكلهم واهتماماتهم، وتحولت معاركهم من سوح القديم والجديد الى مسارح المعاصرة والحداثة. وإذا كانت الخصوصية من قبل تُلتمس في الفن والشكل واللغة والدلالة وسائر الأنواع فإنها الآن لا تكاد ترى الا في بعض الجوانب الدلالية. ذلك ان الخلطة والمرجعية الغربية وتعدد قنوات الاتصال جعلت الأدب العربي ذا لحمة متشابهة، وما نريد الحديث عنه مجرد التعريف الكمي والكيفي والنوعي غير مفصولة عن السياقات والانساق العربية، وحين نستذكر ما اشرنا اليه في شأن الحواضن تتبدى لنا الملامح والسمات التي تتشكل في ظل الخصوصيات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، وهي خصوصيات مخترقة بعامل الانفتاح.
2/3 والأدب العربي في المملكة مر بثلاث مراحل، لا احسبها قسمة رياضية لا تُخلِفُ التوقع، ولكنها فرضية بادية للعيان: «ريادة» و«تأسيس« و«انطلاق». وتأتي «العشرينية» ضمن «مرحلة الانطلاق»، وأهم التجليات تتمثل بانطلاقة السرديات: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات وب«النقد» بمذاهبه وآلياته واهتماماته وتحولاته السريعة التي كادت تقلب موازينه وبخاصة النقد اللغوي على ضوء المناهج الحديثة. وبالتحولات الفنية للشعر متمثلة في «الثنائيات» و«الرباعيات» و«مجمع البحور» وفي «شعر التفعيلة» و«قصيدة النثر» و«الصورة الحديثة» و«النص المفتوح»، وفي «الاغراض الشعرية»: «ميتافيزيقيا» و«صوفيا» و«تأمليا» و«أسطوريا» و«خرافيا» حتى لقد زهد الشعراء والنقاد على حد سواء بشعر «المناسبات» و«المديح»، والخطابية و«المباشرة»، ولما أن جاءت الحداثة المراوحة بين الفنيات والدلاليات والشكليات واللغويات، تغير كل شيء أتت عليه، وواكبت ذلك كله حركة نقدية يتنازعها: «النقاد المذهبيون» و«النقاد الاكاديميون» و«النقاد الصحفيون»، وكان الخلاف على اشده بين الفئات الثلاث، وبين افراد كل فئة، ووسعت «العشرينية» هذه التحولات وتلك الصراعات التي لم تكن على شاكلة ما سبق، ولو نظرنا الى سائر المتغيرات، والى تبادل المواقع بين السردية والشعرية في «مرحلة الانطلاق» لكدنا نتصور حالة من المتغيرات الجذرية ولو ألحقنا «الحركة النقدية» بالحركتين الابداعيتين: الشعرية والسردية لاتضحت لنا حالة الأدب في تلك الفترة الاستثنائية وهي حالة تنبىء عن تواصل مع القديم والحديث والأحداث، فالشعراء والنقاد المحافظون على أشدهم، ونظراؤهم من المجددين والمتحدثين على قدم وساق، وكل فئة تظن كل الظن انها المسيطرة على المشهد، وانها القادمة اليه على قدر، وما من شك ان «مرحلة الانطلاق» التي وسعتها «العشرينية» من اخضب المراحل، واكثرها فعلا وتفاعلا واذ تكون المملكة في دورها الثالث على يد المؤسس قد مرت بمعركتين مهمتين:
«معركة التكوين» و«معركة البناء» بحيث امتدت «معركة التكوين» قرابة الثلاثين عاماً من عام 1319هـ حتى 1351هـ ثم تلتها «معركة البناء» من لحظة الاعلان عن اسم «المملكة العربية السعودية» فإن المعركتين أرهصتا لنهضة ادبية ذات صبغة مغايرة لما سلف، فالمملكة تشكلت من اربعة اقاليم، لكل اقليم ظروفه وخصوصياته. يقدم الجميع علما وأدبا وثقافة «اقليم الحجاز»، لأنه الامكن علما وتحضراً، والأقوى تواصلاً مع أدباء مصر والشام، وبخاصة مع جيل العمالقة. وامكانية الدمج الفوري مع هذه الفوارق لا تتم بجرة قلم، بل لابد من رحلة مرحلية شاقة، توظف لها كل الامكانيات، لتكون المملكة الموحدة اقليمياً متوحدة علمياً وادبياً واجتماعياً وذلك ما أراده المؤسس، يوم ان اعلن قيام المملكة، فلقد وحد المناهج والمؤسسات: الدستورية والتشريعية والقضائية والتنفيذية واهتم بالتوطين والتحول من الرعوية الى الزراعة والصناعة والمدنية وسائر متطلبات الاندماج. وبتجاوز هذه الصعوبات ونجاح الملك عبد العزيز في اقامة وحدة شاملة اقتربت من اذابة كل الفوارق، توافر ابناؤه من بعده على اجواء ملائمة لمواصلة الانطلاقة التعليمية والادبية، وهو الذي يعنينا في هذا الحديث. واتساع الحركة الأدبية: الشعرية والسردية بشقيها: الابداعي والنقدي، زاد من الاهتمام بالنقد، وبالذات الجانب التنظيري، وكان هَمُّ التوفيقيين منصباً على تسوية النزاع بين المجددين والمحافظين، والمجددين والحداثيين، وتسوية الخلاف مع نفسه في سرعة التبادل بين مراكز الاهتمام بين: اللغويات والفنيات والدلاليات. واشتعال الصراع بين الفرقاء وسائر التحولات منحت الحركة الأدبية حيوية لم تكن لها من قبل ومع استياء المحافظين وتذمر المجددين فإن العاقبة ايجابية لأن كل طائفة عرفت المسيء من المحسن، وان التبس الامر على البعض، مع انه لا يخلو تيار من فائدة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:44 PM   #10
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!
د. حسن الهويمل


1/4 و«العشرينية» شهدت متغيرات فرضتها التحولات العالمية والعربية والمحلية
فالشعر أصبح غير الشعر
والسرديات غير السرديات
والنقد غير النقد.
وما أبدع من نظم وسرد، وما كتب حولهما من نقد، زوحم بمستجدات استأثرت بالعناية والأهمية، وكادت تربك المشهد الادبي والمتابع لفيوض المطبوعات من كتب وصحف ومجلات، والمستمع للمحاضرات والندوات والأماسي، والمتابع للقنوات والاذاعات، يدرك ان المشهد غير المشهد، وان هناك مخاضات سيكون لها ما بعدها، ولأن فترة «العشرينية» واقعة في «مرحلة الانطلاق»، فقد وسعت المبدعين حقاً والمقتدرين ثقافة ودربة والمقلدين والمحافظين والمجددين والحداثيين، وكانت الكثرة والغلبة فيها للمثقفين من الشباب ولذوي الدراسات العليا المبتعثين والمقيمين ولمن هم دون ذلك من مثقفي السماع. ولقد استطاع «النقد الصحفي» المشايع لبعض التيارات والمشيّع لابداعات بعض الناشئة المغامرة ان يغير كثيرا من الاولويات والاهتمامات، وان يحاول اكراه الناس على ان يكونوا كما يريد، فبعض من يمسكون بأزمة الاعلام المقروء، يديرون المعارك، ويختارون التوقيت والتقدير المناسبين للعمل الصحفي، وقد لا يتأتى لهم ذلك، وبخاصة حين يجد الجد، ويبدو الحيف او التحامل. ومع ما يقترفه «النقد الصحفي» من تجاوزات، فانه الأقدر على تحريك الركود وجر الأقلام، وبدون التناوش لا تكون حركة أدبية نشطة، ومع تذمر البعض من تجاوزات «النقد الصحفي» إلا أنه اسهم في تحفيز المقتدرين لحماية مقدراتهم. والمفاهيم الخاطئة تتمثل في حصر الحركة الادبية بمن يلمون بالوسائل الاعلامية وتناسي كفاءات متميزة، تقف حيث قاعات الدرس وممارسة التأليف والتحقيق. ومن الخطأ تقويم الحركة الأدبية من خلال التداول الاعلامي، وذلك بعض ما نسمع به. والحضور الاعلاميُّ وحده مؤشر لا غير، يحفز على التنقيب في الوثائق. والنقاد الذين يلاحقون المستجدات من مناهج وآليات، وبخاصة ما يتعلق بالنقد الحداثي أو البنيوي خلفوا ضجة من مشاهد الأدب في البلاد، وحملوا المناوئين والمتحفظين على استرجاع الأصول وتمحيصها، والتأسيس لنظريات نقدية ذات جذور تراثية، وهذا الاحتدام لم يكن خاصا بالمملكة، ولم يكن وقفا على الفترة المدروسة، ولكنه كان الأكثر حضورا، والأقوى جدلا وتحفيزا للأطراف، والدفع بهم الى أتون الجدل. وما اعترى هذه الفترة اعترى كافة المشاهد العربية. واحسب ان الانفتاح المتاح، والتواصل المتعدد القنوات، والامكانيات المادية جعلت المملكة طرفا فاعلا ومتفاعلا وسوقا مغرية لترويج الكتب والصحف والدوريات واستضافة المؤتمرات والندوات والمهرجانات ومعارض الكتاب العالمية.
وتلك الفعاليات حولت العملية الأدبية الى خلق آخر، أثار انتباه الراصدين والمؤرخين. ولقد كان الشعراء والروائيون والنقاد الشباب وراء هذه التحولات، يكرسونها ابداعاً: سردياً وشعرياً، ونقداً: تنظيرياً وتطبيقياً. والحركة النقدية حول الشعر تنازع صدارتها : نقاد المشهد الادبي غير المؤسساتي، وكانوا شعبتين : شعبة المثقفين المتضلعين من المستجدات، وشعبة الصحفيين المشايعين، ونقاد أكاديميون عبر الدراسات والمحاضرات. فكان نقاد المشهد أسرع الى التعديل والتبديل والهيمنة، فيما كان الأكاديميون أقرب الى العلمية والمنهجية والنمطية ومثلما تفرقت السبل بنقاد المشهد الأدبي اختلفت مواقف الأكاديمين من المتغيرات، فنجد طائفة من أعضاء هيئة التدريس في «كلية الآداب» ب«جامعة الملك سعود» و«جامعة الملك عبد العزيز» أكثر مرونة وتقبلاً للتجديد وايغالاً في المنتج الغربي الذي قد لا تقوم الحاجة الى اكثره، فيما نجد نظراءهم في كلية «اللغة العربية» «بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية» ومثلهم اعضاء هيئة التدريس ب«جامعة أم القرى» أميل الى التريث والثبات، وأحفل بالتراث، ولا تخلو الجامعات الأربع من عناصر تحالف لسمة الأمة، ولكن شواذ القاعدة تكرسها ولا تلغيها. ونستطيع القول بأن النزعة التاريخية والدرس الأدبي سمة بارزة لدى المحافظين، فيما تكون النزعة التنظيرية والتطبيق الألسني بكل تحولاته «العلائقية» و«السيميائية» و«التفكيكية» سمة بارزة لدى المجددين، واحتدام الجدل بين تلك الطوائف مؤشر ايجابي. والتباين في المشهد الأدبي، وفي أروقة الجامعات أسرع في تشكل المذاهب والتيارات، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية تبدت حركة نقدية تمخضت عن عدد من القضايا والظواهر التي حفزت كل طائفة على تكريس نفسها، واشاعة مذهبها، وفي ذلك اثراء واغراء.
2/4 وجاء من بين هؤلاء وأولئك ناشئة متسرعة استدرجها تعدد المشاهد وتنوع المذاهب وامكانية القول، واستهوتها تلك الظواهر، وغرها في فنها الترخص، بحيث تقحمت المشاهد الأدبية بامكانيات ضعيفة وتصورات مهزوزة، فكان ابداعها تصنعاً، وتجديدها تقليداً، ولم ينهض احد من النقاد لمساعدتهم على معرفة انفسهم وصقل مواهبهم، بل استطيع القول بأن البعض اوهمهم وغرر بهم. لأن «مرحلة الانطلاق» تتسم بالكثرة والتنوع والتسارع في التغيير والاستبدال فقد كثر الأدعياء والمقتدرون الذين يكتبون من خلال امكانيات ثقافية لا من خلال مواهب ومواقف، ولا يستبين الفروق الدقيقة بين كتابة المقتدر وابداع المجرب الا الناقد الخبير. هذه الظواهر السلبية عمت الأدب العربي، وكان للحركة الأدبية في المملكة منها أوفى نصيب. والمصداقية تتطلب منا وصف الواقع الأدبي كما هو، اذ لسنا بدعاً من سائر المشاهد العربية. ولو صوبنا النظر الى العمليات الكتابية والابداعية، ونظرنا اليها من خلال أبعادها: الفنية والدلالية، وأنواعها: السردية والشعرية، ومبدعيها: الشباب والمخضرمين من النساء والرجال لوقفنا على مستويات متباينة واتجاهات متعددة، ف«مرحلة الانطلاق» خضعت لمفاهيم ورؤى وتصورات، دارت حول «حرية التعبير» و«حرية التفكير» وامكانية خلط الانواع الابداعية، والتلويح بمصطلح «الكتابة» الذي يلغي ضوابط الفن وشروط الابداع، وقد مارس هذه الحرية الفنية والدلالية طائفة من الشباب الذين استلهموا فسح الحداثة المؤكدة على الانقطاع والاغتراب والاعتراف والخلوص من الضوابط والشروط والحدود والقيود. ولم تكن معطيات هذه الطائفة هي السمة البارزة في الابداع والنقد، ولكنها قائمة ومعاشة، ولا يمكن إغفالها. واختلاف المفاهيم حول سائر المصطلحات الجديدة التي لم تحرر مفاهيمها كادت تربك العمليات الابداعية والنقدية وتؤزم الصراع، ومع تدفق المستجدات فقد ظلت هناك طوائف من الشعراء والسرديين متمسكة بالأنموذج القديم، محتفية بكافة القيم، أو مجددة بمقدار، ولكن المشاهد لم تكن حفية بمثل اولئك، الامر الذي جعل البعض منهم يتخلى عما هو عليه، ليتوفر على موقع مناسب من المشاهد. وشعراء مرحلة الانطلاق خليط من شعراء المراحل الثلاث، اذ ليست هناك حدود جامعة مانعة، ولكننا سنشير الى من كان حضورهم في تلك المرحلة اكثر تميزاً واقرب الى التجديد بمفهومه الصحيح، ذلك ان كلمة «التجديد» اطلقت بتوسع حتى شملت من قلد الآداب الغربية دون وعي ودون اقتدار. فمن المجددين من الشعراء المحتفظين بالخصوصية وبمرتكزات القيم الفنية والدلالية الشاعر «محمد بن فهد العيسى». والشاعر «غازي القصيبي». والشاعر «محمد العيد الخطراوي». وعشرات آخرون تتوازعهم المذاهب وتتنازعهم التيارات، وبعض هؤلاء الشعراء مخضرمون، سبقوا بإبداعاتهم، ولكنها كانت محاولات لم تقل الشعر الا في «مرحلة الانطلاق»، وقد قصرنا الاشارة على الأمكن منهم، أما المتمكنون فبالمئات، ومثلهم الذين استوت ملكاتهم، وطبعت أعمالهم في مرحلة التأسيس ك«القرشي» و«الفيصل» و«سرحان» و«عرب» و«ابن خميس» و«العقيلي» ذلك ان حديثنا مقصور على حركة الأدب في العشرين سنة الاولى من قرننا الهجري، وليس بمقدور بحث محدود ان يأتي على الأسماء المشمولة بالفترة فضلا عن ذكر الخصائص والسمات والشواهد. والتحول من المحافظة الى التجديد، او الايغال في الحداثة الفنية عمد اليهما البعض تطبعا لا طبعا، والأقل الاقل من كان تحوله طبعا، فممن أوغل في الحداثة وتبدى اقتداره «محمد العلي» و«الثبيتي»، ولو نظر المتابع الى ما سلف وما خلف من اعمال لأحس ان النقلة عند بعض اولئك ليست طبيعية، وليست عفوية. والاشكالية فيمن لم يحسن الأداء في الحالين، وتلك الظواهر تتطلب نقداً واعياً لطبيعة التحول وامكانيات الشاعر في المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة حرجة وأحسب ان الشاعر «محمد عيد الخطراوي» خير شاهد على التحول المتمكن من التجديد الى التحديث، وهو خير من يمثل الخضرمة: زماناً وفناً. وتلاحم المخضرمين مع ناشئة تلك الفترة أذاب الفوارق، ومكن من الاندماج. ومن الذين راحوا بين التجديد المتزن، والايغال بغير رفق في حداثة الفن «عبد الله بن عبد الرحمن الزيد» «وسعد الحميدين» و«عبد الله الصيخان» ويحلو لهؤلاء ان يوصفوا بأنهم من طلائع الحداثيين، ولاشك انهم في بعض ابداعاتهم يتعمدون النثرية والغموض، مما يشي بالتطبع. ومن دونهم طائفة من الشباب الذين يتعلمون، ويكرهون انفسهم على ان يكونوا كما كان أساطين الحداثة، الأمر الذي أوقعهم في النثرية والاحالة وخلق الأسطورة، فالكلمات المنثورة على غير نظام، لا تحمل دلالة، ولا تجسد صورة، ولا تشد قارئا، ولا تؤدي مهمة.
والنقاد الحداثيون غير المؤتمنين يعدرون او يصمتون، والعارفون من النقاد قد لا يعبؤون بما يصيب المشهد من اولئك، وفي ذلك تمكين لمن لا يستحق التمكين، وقد يكون عند بعض اولئك موهبة، ولكنها تفتقر الى ثقافة ودربة وموقف وناقد يقول الحق، ويهدي الى الفن الأصيل بالصدق والمكاشفة.
أما عن المجددين والمحافظين والمقلدين في هذه المرحلة المتميزة بالكثرة والتنوع فحدث ولا حرج: كثرة وتنوعا وتفاوتا في المستويات، نجد من هؤلاء الشاعر «عبد الرحمن العشماوي» و«أحمد الصالح» و«عبد العزيز العجلان».
و«مرحلة الانطلاق» يتنازع الصدارة فيها المجددون والمحافظون، والحداثيون: المعتدلون والموغلون، ولاشك ان الغلبة والشيوع للمجددين. والتجديد والمحافظة يمتدان الى الشكل والموسيقى واللغة والاسطرة والرمز والصور والأغراض، وليست هناك مرحلة وسعت المتناقضات مثلما وسعتها «مرحلة الانطلاق» ولهذا حفل المشهد بالشيء ونقيضه، ولم تعدم اي ظاهرة شكلية او فنية او دلالية مريدا متفانيا لا يرى لغيره حق الوجود. والدارس لظواهر هذه الفترة تربكه الأشكال والألوان. وفي تلك المرحلة علا كعب «الشواعر»، حيث آتى تعليم المرأة ثماره وعرفت الساحة الأدبية مئات المبدعات في الشعر والقصة والرواية والدراسات والنقد، وهن أقل من الرجال اندفاعا وراء بوارق التجديد والأكثر حضورا في الابداع السردي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:45 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
خسره المنصب وكسب نفسه..!
د. حسن بن فهد الهويمل


أذكر جيداً النصيحة التي تلقيتها من محبِّ عالم مجرِّب، وذلك حين أسندت لي في مطلع شبابي مسؤولية ادارية، تمس حياة شريحة معوزة من المجتمع. وكنت يومها في عنفوان الشباب وميعة الصبا، مقبلا بكليَّتي على الدنيا، ولمَّا تكن لديَّ حسابات المجربين، ولا خوف الورعين، ولا تحفظ الخائفين. والطاقة العارمة حين لا تعقلها التجربة، ولا توجهها المعرفة، ولا يسددها التوقيت والتقدير، تقود الى مهاوي الهلكة.
قال لي ذلك المجرب العارف المخلص: - يا بني هذا الكرسي الذي تجلس عليه، جلس عليه سلفك، وسيعقبك عليه خلفك، وأنت بين يومين: - يوم الجلوس وهالاته وأفواج المهنئين،ويوم التحول وعتمة التهميش وتفرُّق المودعين، ومن الخير لك ان تحسب ليوم التحول حسابه، ولا تُصاب بزهو اليوم الأول، ومهما امتدَّ بك الزمن، فإنك مفارق: ميِّتاً، أو متقاعداً، أو صاعداً لما هو أرفع، فلا تكن الرابعة فتهلك، وبعد المبارحة لن يبقى لك إلا الذكر، فليكن ذكراً جميلاً «فالذكر للإنسان عمر ثان». فالشهادة أو الواسطة تصل بك الى الكرسي، ولكنها لا تضمن لك النجاح ولا النجاة.
ومرت الأيام بحلوها ومرها وإقبالها وإدبارها، وتلك الكلمات تأكل معي وتشرب، وجاء يوم التحول، وتركت الكرسي صُعداً، وخلفني عليه أكثر من واحد، وما ندمت على شيء ندمي على تقصير القادرين على التمام، لقد فعلت ما يطمئن إليه قلبي، ولكن كان بودي لو تزودت من الخير، وما من محسن بعد الفوات إلا تمنى مضاعفة الإحسان، وندم على ما فرط في جنب الله، لقد خرجت راضياً بما قسمه الله لي، شاكراً لأنعمه عليَّ، وما أردت فيما أقدمت عليه أو أحجمت عنه إلا الاصلاح. وأزلية المفارقة تحفز على استباق الخيرات، قبل الفوات، وكيف يغفل من إذا فرَّ من الموت لاقاه. ومن لم يبارح عمله بالرقي أو بالانحدار، بالاضطرار أو بالاختيار بارحه «بالتقاعد». ففي كل عام تخرج أفواج الموظفين بقوة النظام التقاعدي، تترك الأضواء، وتفرغ من السلطة، وينفض من حولها سامر القوم. وتعود الى ديارها وأهلها خالية الوفاض، إلا من الذكر الجميل، أو القبيح، وشيء من مال قليل أو كثير، طيِّب الكسب أو مشوب بالشبهات. ومن لم يطب مطعمه لن تُجاب دعوته، وكل لحم نبت على السحت فالنار أولى به. وهذه الأفواج المتدفقة خارج المسؤولية متفاوتة الأحوال والمآلات: فمنها من خسره المنصب وكسب نفسه، أو خسرها، ومنها من تخلص منه المنصب، وتخلص من أذيته الناس، إذ كان عقبة كأداء أزيلت عن طريق المارة، فكل من سمع بذهابه بادر الى القول:-«مع الذين لا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون». وفي ذلك اليوم الحاسم تجد كل نفس ما عملت محضراً، فإن كان خيراً تمنت لو أنها تزودت منه، وإن كان غير ذلك تمنت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
ولا شك ان طائفة من المبارحين خرجوا من مناصبهم، وهم يضربون كفَّاً بكف، ويتمنون لو أُرجعوا إليها ليعملوا غير الذي كانوا يعملون. ولكن أنَّى لهم ذلك، وقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وآخرون خرجوا، وهم يحمدون الله على أداء الأمانة، والنصح للأمة، وكسب ما بقي من أرذل العمر، وهؤلاء ولدوا يوم أن تركوا أعمالهم بقوة النظام.
وصديقنا الأستاذ أبوعبدالرحمن ابراهيم البليهي مدير عام الشؤون البلدية والقروية نحسبه من هذه الفئة والله حسيبه، لقد تقلب في عدة مناصب حساسة ومغرية لكسب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والسيارات الفارهة والأنعام والحرث والضياع والجاه والأصدقاء، ولكنه زهد بكل ذلك، وولاها ظهره، واتجه صوب الأمانة والنزاهة والاخلاص، فخرج ثرياً بسمعته، نقياً في ملبسه، طيباً في مطعمه، وما شهدنا إلا بما علمنا. وإذا كان قد كسب الأقل من الأصدقاء فإن القالين له سيراجعون أنفسهم ويذكرونه بخير.
لقد شغل رئاسة البلدية في أكثر من موقع، «وختم أعماله بادارة الشؤون البلدية والقروية في القصيم» وكان في كل المواقع مثال الصدق والاخلاص والنزاهة والمثالية والتفاني، وحين خسره المنصب كسب نفسه: قارئاً ومفكراً وكاتباً، تختلف معه أو تتفق، ولكنك لا تجد بداً من أن تجله وتحترمه:- لعمق ثقافته، وثبات موقفه، ونبل غاياته. وحين نؤكد على انه كسب نفسه فإنما نومىء الى انه قارىء خبير، ومفكر عميق التفكير، ومثقف واسع الثقافة، وجاد صارم الجد، لا يفرغ لنفسه، ولا لجيبه، وقد لا يفرغ لأهله ولا لأحد من أصدقائه إلا لكاتب هذا التأبين، وإذ برح مكتبه الصاخب، فإنه سيعود الى مكتبته الهادئة المليئة بآلاف الكتب، والتقاعد الذي يشكل فراغاً قاتلاً للفارغين، حتى قيل:«مُت.. قاعداً» لن يحس به، لأن سعادته تكمن بين دفتي الكتاب، فهو قرينه، ونعم القرين، يخلو به بعيداً عن الأضواء والضوضاء والمتع الزائلة «وخير جليس في الزمان كتاب»، ولقد كلَّت السنتنا وحفيت أقلامنا في سبيل مناصحة طلابنا لجعل القراءة هواية، يسدون بها فراغ التقاعد إذا امتدت بهم الحياة، وهي بلاشك مسؤولية خطيرة.
والأستاذ البليهي الذي وضعت مسؤوليته أوزارها، كان وراء كثير من النجاحات واللمسات الجمالية، وتجلي صدقه وأمانته مكَّن له من قلوب المسؤولين وأصحاب القرارات، فكانت حقائبه تغدو خماصاً وتعود بطاناً لمصلحة العمل، ومع أنه يحمل هم المسؤولية، فقد لقي في سفره المخلص نصباً، انعكس على رؤيته الفكرية، وكاد يصيبه بالإحباط، وكنت ممن يحاول تثبيت فؤاده، كلما اقتربت صمامات الأمان عنده من الانفجار، لقد خرج وفي نفسه غصص من فئات تحارب الخضرة، وتستعدي على التشجير، ولأنه باخع نفسه على آثارهم، فقد استغاث بالمؤسسات وبحملة الأقلام لإنقاذ مشروعه من القتل. ومع تلك التحديات ظل وثيق الصلة بالكتاب، يهوِّن به على نفسه مصائب العمل، فكان قارئاً وكاتبا وراصداً واعياً لكل التحولات، استطاع أن يوائم بين تبعات المسؤولية وأهمية الثقافة. ولم يحرم الادارة من ثقافته وتجاربه، وكتابه «النبع الذي لا ينضب» الذي طبعه «نادي القصيم الأدبي ببريدة» يعد من أهم مراجع قسم الادارة في بعض المراحل الجامعية، فلقد جمع فيه عشرات المقالات التي كتبها متخصصون ومجربون ومخلصون عن الأداء الوظيفي والكفاءة الادارية والعمل المخلص، ولما يزل من خلال مقالاته الصحفية من أبرز الكتاب الذين يعتصرون الأفكار ويختصرون التجارب، ويجوبون مسارح الفكر ومطارح الفلسفة، ولا يتورعون من حز اللحم الى العظم، وجلد الذات حتى الموت والعويل على الواقع المرير.
ولو لم يكتب محذراً من «الجهل» و«التخلف» لكانت سيرته الصارمة الحميدة خير مرشد ومفيد، والمجتمع بأمس الحاجة الى القدوة الصالحة والى الفعل الايجابي، فلقد مللنا التنظير والمثالية الورقية، ولأنه لا يقول إلا ما يعتقد وما يفعل فقد كانت كلماته مؤثرة ومثيرة، لأنها تنكأ الجراح. المسؤولية الرسمية إذ تودعه الى حين فإن المسؤولية الوطنية تأخذه بالأحضان بوصفه من أبرز الكتاب الذين يصدعون بما يعتقدون، وإن لم يتفق معهم أحد، فهو من الذين لا يصانعون في أمور كثيرة، وإذا كنا نودع كفاءة وطنية، فإننا نستقبل كفاءة أخرى، أخذت الراية عن تخصص وخبرة وسمعة طيبة، نستقبل المهندس القدير «أحمد الصالح السلطان» الذي كانت فرحتنا به بحجم فجيعتنا على سلفه، والخيرية قائمة، ومجتمعنا والحمد لله ودود ولود، وعلى الذين من حولهم من أعراب الوظائف ممن لم يكونوا أمثالهم أن يتشبهوا بهم. وفي كل مناسبة أقول، وأتحمل مسؤولية ما أقول: إن المسؤول الأول في المنطقة إذا كان قوياً في أدائه، أمينا في مسؤوليته حفيظاً لمثمنات الأمة، عليما بشؤونها، وكان مع المسؤولية كما وصفه المتنبي:




فكأنها نُتِجَت قياماً تحتهم
وكأنهم ولدوا على صهواتها


نامت الأمة قريرة العين، وذلك ما يبدو لنا، نحسب من نحسن الظن بهم كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، فالله حسيبهم. وفيمن قضى مسؤوليته موعظة أو قدوة لمن ينتظر، وما يُلقَّى الاتعاظ بالمقصرين والاقتداء بالمجلّين إلا ذوو الحظوظ العظيمة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:46 PM   #12
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ضربة معلم نود أن تتبعها ضربات..!
د.حسن الهويمل


الهامش الدعائي لأي مسؤول قضية ليس فيها نظر، والخطأ الأكبر ان يتسع الهامش، أو ان تتسع الإحالة إليه، بحيث تحال كل أفعال الزعماء المتميزة إلى ذلك الهامش الدعائي.
ومثلما ان الخبطات الصحفية تحرك الركود، وتشد الانتباه وتؤتي أكلها، متى كانت متقنة ومحسوبة فإن ابتكار الإجراءات وأساليب المعالجة تفعل فعل الخبطات الصحفية المسددة.
وبعض القادة النابهين يعولون على المبادرات المفاجئة غير عابئين بما تحدثه من ارتباك في تلقيها واستكناهها، وجل اهتمامهم ان تعطي عائداً أفضل وأسرع. فالمواطن حين لا يخطر على باله أي فعل استثنائي له مقاصده النبيلة وغاياته الحميدة، ثم يفاجأ به، ترتبك آلياته، وقد تأخذه الاتكالية، فلا يكلف نفسه عناء القراءة وفق قوانين الحدث، متخذاً إحالة كل جديد من الأفعال أو الإجراءات إلى الهامش الدعائي ديدنه، وبهذه الإحالة يفرغ من ملاحقة الأحداث وتقويمها. ولأننا لسنا بدعاً في مجمل سياقاتنا فإن تعدد القراءات لأي حدث مثير متوقع ومشروع، ومن واجبنا امتلاك الثقة وتوقع أي قراءة. فالمتميزون هم الذين يشغلون الرأي العام، ويربكون المشاهد، ولكن القارئ الذي يفصل الحدث عن سياقه وأنساقه يقع في الابتسار المخل بالمصداقية. والمبادرة الذكية تتطلب قراءة ذكية، ليحصل التكافؤ ولن تستدرجني قراءات المبادرات والأحداث وقوانين اللعب الكبيرة والصغيرة وضرب الأمثال، فالأمر من الوضوح بحيث لايتطلب مزيداً من التمحك. وما حداني إلى تلك المداخل إلا طغيان القراءات المتسطحة أو المشبوهة، والتهافت عليها. ومما لا شك فيه أن القادة لهم حساباتهم وتطلعاتهم ونواياهم وأهدافهم، فليس هناك عمل لا تكون وراءه أهداف خاصة أو عامة، وليس هناك لعبة إلا ولها قانونها، ومن تصور الأمور بمعزل عن مقاصدها وقوانيها فوَّت على نفسه أشياء كثيرة، والقراءات الخاطئة والإشاعات المغرضة سمة المشهد السياسي.
لقد اشتعلت في كافة الأوساط المحلية المبادرة الإنسانية للأمير (عبدالله بن عبدالعزيز)، ولما يزل الناس يدوكون ليلهم في تقويم هذا الحدث، فالأمير عبدالله اخترق وبدون سابقة معاصرة فضاءات المعوزين من فقراء وعجزة ومعوقين وأيتام، على سنن العسس الإسلامي، ولم يتسلل إليها على حين غفلة من الرقباء وإن باغت ذويها وفاجأ حاشيته، بل أعلنها على أوسع نطاق، ولم يتردد في طرحها أمام الملأ. ولقد حرصت كغيري على مشاهدة الحدث، وتمنيت لو أن الإعلام عرض الجولة بكل تفاصيلها، ولم يكتف باللمحة الإخبارية. وبعد المتابعة انتصبت أمامي عدة قراءات يحتملها تأويل الحدث، ولكن الحق لايتعدد، واستمعت إلى عدة رؤى. وأبحت لنفسي استعراضها، فمن حق كل مواطن أن يموضع قادته، وأن يقرأهم وفق سياقاتهم وسوابقهم، إذ هم في النهاية بشر، يجتهدون، وقد لايحققون ما يريدون من خير. وتساءلت في تلك الأجواء المشحونة بالتساؤلات: لماذا اختار الأمير عبدالله لجولته الوقت والمكان والشريحة؟ ولماذا أعطى لوسائل الإعلام كامل الحرية في المتابعة والتركيز على المناظر المؤلمة؟ ولماذا ذرع الأزقة جيئة وذهابا، واستمع إلى التأوهات والتذمرات، وأذن لمن حوله ان يتأمل تلك الأوضاع؟ أيريد الحسم أم المحاصرة أم تجديد الآلية أم إدانة الطرف الآخر من مسؤولين واثرياء؟ كل ذلك وارد ومحتمل.ويقيني ان الإعلام لو فعلها وحده لكان موضع تقدير الجميع، ولكن أما وقد فعلها الرجل الثاني في الدولة وبمباركة من الرجل الأول في سياق (الشفافية) و(الباب المفتوح) الذي يدعو إليهما فإن الأمر له ما بعده، وإن قضية الفقر خرجت من إطار الممارسة الروتينية إلى فعل آخر، ومن حق أي متابع ان يتساءل، وأن يلح في التساؤل. ماذا يريد من هذه الخبطة الإعلامية؟ ولماذا أراد لنفسه ان يكون شاهداً عدلاً، يسبق أصحابه في اقتحام المغارات، متلطفاً للفقراء والمقعدين والأطفال، يخرج من بيت إلى بيت، ومن حي إلى حي، إن حدثاً كهذا يمتلك من فضاءات الدلالة مايجعل لكل قارئ رؤيته، ولأنني مواطن، أحس بمسؤوليتي إزاء الإجراءات التي يبادر إليها رجل مثل عبدالله بن عبدالعزيز، فإنني سأترك لنفسي كامل الحرية في قراءة الحدث وفق رؤيتي، وليس شرطاً ان تصيب المحز، وسوف لاأتردد في سماع القراءات الأخرى حسنة النوايا أوسيئتها، إذ كل مجتهد له حظه من الإخفاق، ومتى حسنت النوايا وسمت المقاصد احتملت الأخطاء الاجتهادية، فالقادة والزعماء تجاوزوا ذواتهم وخصوصياتهم، وتحولوا إلى موضوعات قابلة لأكثر من قراءة، وأكثر من إحالة. والرجل الذي ترك القصور الشاهقة وراء ظهره، وكسر طوق الحجَّاب، وأطفأ أبهة الملك، وجاء إلى أكواخ الفقراء، يخوض المستنقعات مع الخائضين، ويركل النفايات بقدميه، ويرفع ثوبه لكيلا يتبلل بالوحل، ويتطامن أمام الأسقف التي لا تتسع لقامته الفارهة، يقبِّل الأطفال بكل ما يعلوهم من غبرة وأسمال، ويصيخ للشاكر والشاكي، ويقف عند رأس امرأة مريضة متدثرة، يعد بالخير ويبشر بالفرج. ومن ورائه كبار المسؤولين عن تلك الشريحة، الرجل الذي يفعل ذلك بمحض إرادته، لا يضيره أن يحال تصرفه إلى أي تفسير، فهو لا يريد جزاء ولا شكوراً، لقد قالها بلسان حاله ومقاله. ومن مصلحة الفقراء أن نمسك طرف الخيط، وأن نمضي معه إلى النهاية، فنجاح الجولة سيكون لها أثرها على كل المستويات، كيف لا والفقر مصدر كل شر، حتى كاد يكون كفراً.ويقيني أن مثل هذا الفعل يُعدُّ (ضربة معلم) لأنه تنقيب في أحياء الفقراء المهمشة، وتقليب لقضاياهم المؤجلة، واستثارة لكل فئات المجتمع من مسؤولين وأثرياء، ومحاولة لكشف المخبأ. فالآخرون يظنون أن كل سعودي في بيته (بئر بترول)، وأن كل سعودي يعيش حالة من الرفاهية، وأن كل سعودي ملزم بأن يكون حمالاً لهموم الأبعدين.
(ضربة المعلم).. تريد أن تقول (الأقربون أولى بالمعروف).
( ضربة المعلم).. تريد أن توثق الفقر بوصفه ظاهرة أزلية.
(ضربة المعلم).. تريد ان تستدر العطف وتؤنب الجشعين.
(ضربة المعلم).. تريد أن تقول: الناس سواسية في خيرات بلادهم.
(ضربة المعلم).. تريد أن تدع الحقائق تعبر عن نفسها.
( ضربة معلم) تريد ان تؤكد ان (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
لقد كان بإمكان سموه أن يخرج على الناس عبر كلمة أو تصريح، يدعو فيه للمساعدة، ويذكر الناس بالفقراء، يسجل فيها موقفاً عديم الجدوى، ويسقط فيها مسؤولية. غير ان الناس كسبوا مناعة ضد المواعظ. وخطاب الأمير خطاب عملي قاطع مفحم، خطاب وثائقي، لايدع مجالاً للتأويل، أو للتملص. لقد ضبط الواقع بالصوت والصورة، وقال للأثرياء وللمسؤولين وللعالم بأسره: هؤموا أشهدوا معي المأساة، وتحملوا معي كافة المسؤولية، فنحن جميعاً قادرون على تلافيها، ولكننا لم نفعل بكل ما نملك من طاقات، وكأنه يردد في أعماقه مقولة الشاعر:




(ولم أر في عيوب الناس عيباً...
كنقص القادرين على التمام)


ولم تكن هذه الضربة المسددة هي الأولى، ولا أحسبها ستكون الأخيرة، لقد عايشنا ضربات مسددة، أعقبتها مؤسسات تربوية لرعاية الموهوبين واقتصادية استقطبت الأثرياء والعلماء والتربويين، ولا شك أن استعداده الذاتي لفعل الخير مع جهود البطانة الصالحة ومن يسرون النصيحة، حفزه لمثل هذا العمل الإنساني، لقد ألقوا في روعه أشياء كثيرة، وذكروه بمشروع (العسس الإسلامي) الذي بادر إليه الإمام العادل (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، ولا شك أن الرجل يحس بثقل المسؤولية، ويحمل هموماً كثيرة، ولا شك أنه أحس بأن هذه الفئة الصابرة المحتسبة خَفَت صوتها وسط ضجيج الفئات. إن كشفه لأحوال المعدمين المتعففين تحويل طوعي للطوق الذي يلتف حول عنقه إلى أعناق الأثرياء، الذين يبذّرون أموالهم في آفاق المعمورة على ملذاتهم الزائلة ولا ينفقون إلا وهم كارهون، وإلى المسؤولين الذين يتباطؤون في محاصرة الفقر والعوز، ويتعثرون بمخلفات (البيروقراطية) أما الذين يؤثرون على أنفسهم والذين يطورون آلياتهم فهم مع قادتهم في خندق واحد. ومن التوفيق والسداد أن بدت بوادر الاستجابة الإيجابية والفورية بشكل لم يتخيله أحد، ولو لم يكن من نتائج هذه المبادرة إلا هذا التبرع السخي من أصحاب السمو الملكي الأمراء مشعل بن عبدالعزيز وسلطان بن عبدالعزيز والوليد بن طلال بن عبدالعزيز لقلنا إن هذه الجولة قد أدت كل ثمارها، فكيف بها وهذه التبرعات السخية خطوة أولى ستعقبها خطوات من ذوي الدثور.المؤكد ان الفقر لن يحسم، لأنه ظاهرة أزلية وقضاء رباني، ولكنه سيحدد وسيحاصر، وسوف لا يهبط إلى درك المجاعة، ومتى سيطرنا عليه، وقللنا من أثره، حققنا الشيء الكثير.إن مبادرة الأمير عبدالله لن تقف عند حد الإنفاق والإعالة السلبية، وإنما ستمتد إلى التأهيل والتشغيل وتحويل الأسر المعولة إلى عائلة، بحيث ترحل آلاف الأسر من حد الفقر إلى حد الكفاف. وتلك مواجهة حضارية، ومصاحبة معالي وزير العمل المتألق الاستاذ الدكتور علي النملة لسموه في هذه الجولة الموفقة مؤشر على أن المقصود منها وضع خطة مؤسساتية حضارية لمواجهة الفقر والروتين معاً، ووضع حد معقول له في بلد أنعم الله عليه بالأمن والرخاء وفجر لأهله كنوز الأرض، لقد كانت لسمو الأمير مبادرات متعددة، جرَّت أقدام الأثرياء، وأرْخت جيوبهم، وبسطت أيديهم بالعطاء السخي، وما أحوجنا إلى ضربات متلاحقة تطال (العمالة) و(البطالة) المقنعة والمكشوفة و(التسيب الوظيفي) و(الفساد الإداري) و(الديون المخيفة) و(حوادث السيارات) و(أزمات التعليم) و(البيروقراطية) المتعفنة و(الأنظمة) المهترئة و(المحسوبيات) وسائر وجوه الحياة، فالزمان غير الزمان، والأمة مقبلة على نوازل تزلزل العقول، وليس لها بعد الله إلا من مكن الله لهم في الأرض.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:47 PM   #13
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
«الإرهاب» بين: الكبيسي.. ومشعل السديري..!
د.حسن بن فهد الهويمل


الكاتب المثير الأستاذ«مشعل السديري»، يتعرض في بعض تناولاته إلى كبوات غير موجعة، وغير مفقدة للثقة به، مما يضطره في بعض الأحيان إلى الاعتذار الساخر حتى من نفسه، بحيث يزين صمته على نطقه، وتلك محمدة وشجاعة، لا مذمة ولا مجبنة. وواجب المحبين له - حين لا يتدارك الخطأ- أن يبادروا إلى تسديده، والصديق من صدق لا من صدق. وإذ يكون من الكتاب المقروئين والمؤثرين، وممن يحتلون الصدارة، يكون من حقه على قرائه أن يأخذوا على يده، متى أحسوا بحيدته، ولا يضيره التسديد حين يجتهد، بعد توفر آليات الاجتهاد وشروطه، ثم لا يصيب.. ورده إلى الطريق القاصد مع الاحتفاظ بمكانته والثقة بنواياه وبأمانته من الإرشاد المأمور به. والمستبرئ لدينه وعرضه من يتوقى إحالة الكبوات إلى سوء النوايا والمقاصد، مما هو ديدن بعض الغيورين المتسرعين في معالجة الخطأ بخطأ أسوء الكبوات إلى سوء النوايا والمقاصد، مما هو ديدن بعض الغيورين المتسرعين في معالجة الخطأ بخطأ أسوأ منه، وكأنهم قادرون على شق الصدور.
ومما أود تسديده فيه رده على المفكر الإسلامي«أحمد الكبيسي» حول مفهوم «الإرهاب» «جريدة عكاظ 21/9/1423هـ » ولست في ردي مدافعا عن ذات «الكبيسي» ولا عن مجمل رؤاه وآرائه، فكم له من الأخطاء التي يجب تعقبه فيها، وإنما أدافع عن الاختلاف حول مفهوم «الإرهاب» بينهما، وتداركي ذو ثلاث نقاط:-
الأولى: حول مفهوم «الإرهاب» ف «الكبيسي» في «عكاظ 19/9/1423ه» عوّل على آية{تٍرًهٌبٍونّ بٌهٌ عّدٍوَّ اللّهٌ وّعّدٍوَّكٍمً}، فيما عوّل«السديري» على المفهوم الشائع عند وسائل الإعلام كافة، المتمثل بالتفجير، والقتل العشوائي، والإخلال بالأمن، ونسف المصالح والاتفاقات، والخروج على السلطة الشرعية، وخفر ذمتها بالغدر بالآمنين والمستأمنين وأهل الذمة، ومن هم في حكم رسل الحكومات، وربط ذلك بوقوعات معينة كحادث«الحادي عشر من سبتمبر». وكلاهما مسدد في إحالته وتعويله، والخلاف بين الاثنين ناشىء من تعدد المفاهيم والتصورات، فالأمة الإسلامية مطالبة بإعداد القوة: قوة العلم وقوة الاقتصاد وقوة السلاح، وقوة الأمة المتمثل بتماسك الجبهة الداخلية وشرعية المؤسسات السلطوية، لكي تخيف أعداءها، وترهب المتربصين بها الدوائر، وهذا ما سعى إليه، وقال به«الكبيسي»، يقول: - «وكان على المسلمين أن يرهبوا هؤلاء الأعداء لأن الإرهاب هو أول خطوات الدفاع عن الحق باتجاه الظالم الغاصب، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يصبح الإرهاب فيها مقدساً، من حيث كونه جهداً عسكرياً مشروعاً»، وانتبه إلى قوله: - «من حيث كونه جهداً عسكرياً مشروعاً»، ولا أحسبه بهذا القول يحرض على الإرهاب المرفوض، ولا أحسبه يبرر الأحداث المستنكرة عالمياً، وقوله يتساوق مع قوله تعالى: {تٍرًهٌبٍونّ بٌهٌ عّدٍوَّ اللّهٌ وّعّدٍوَّكٍمً}.
و«السديري» الحريص على تجاوز الأمة الإسلامية محنة التحدي غير المتكافىء، حين فاته المفهوم الذي عوّل عليه«الكبيسي» انجر وراء مفهوم الإرهاب المرفوض إسلامياً، وأحال إليه مقولة الكبيسي، واختلاف المفاهيم لا يقتضي منا إسقاط المفهوم الذي يقتضيه الإسلام، ذلك أنه مشروع لكل مضطهد مسلوب الحق والحرية. وعلينا بوصفنا أمة ذات حضارة لها مصطلحاتها ومفاهيمها وتصوراتها الربانية: للكون والحياة والإنسان، ألا نرقب الرؤية الغربية للأشياء، فالإرهاب كما يراه الغربيون يعني أي مواجهة ضده، وإن كانت دفاعاً مشروعاً عن النفس والمال والعرض والوطن والدين.
والغرب وراء مغريات«العولمة» بوصفها وجهاً جديداً للاستعمار، لايريد للعالم الإسلامي أن يمتلك من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية ما يبلغ به حد التكافؤ وحماية الحقوق.
وحين يريد إحكام السيطرة على العالم، يشرعن لنفسه التدخل العسكري، وينفرد بتحديد المفاهيم، والناتج الطبعي لهذا الاستبداد: أنه لايرى بأساً من امتلاك السلاح النووي لدولة صغيرة، لا يبلغ سكانها سكان حي من أحياء القاهرة . ف «إسرائيل» تمتلك رؤوساً نووية رادعة، وقادرة على تدمير العالم الإسلامي، والغرب حفي بهذه القدرة الرادعة، داعم لها، فيما لايرى من حق أي دولة إسلامية امتلاك الأقل من القوة غير التقليدية.
يتجلى ذلك في موقفه المعلن من«العراق»، ومن «باكستان» وفي مواقف سرية ضاغطة، يمارسها لتحجيم القوة التقليدية: آلياً وبشرياً عند دول المواجهة لإسرائيل.
ومع ما يقترفه«العراق» من تجاوزات لانقره عليها، إلا أننا نستغرب إلحاح الغرب في نزع القوة بكل أشكالها، وإلحاحه في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، مع وجود دولة مغتصبة، رفضت عشرات القرارات، ولم يكن منه أدنى موقف، بل أتيحت ل «إسرائيل» فرصة التمتع المطلق بحق«الفيتو» فيما لم يستخدم هذا الحق ولو لمرة واحدة لصالح العرب.
أفلا يكون هذا الفعل إرهاباً منظماً؟
تمارسه دول مسؤولة عن العدل والحرية والديمقراطية والاستقرار كما تزعم. وإذ لا نقدر على المواجهة وحمل الغرب على الإذعان للحق والعدل فإن علينا- ونحن نطالب العراق بالامتثال لقرارات الأمم المتحدة- أن نلح على الدول المتحكمة كي تنصاع للحق، وتنظر إلى فظائع الصهيونية وإلى الإرهاب الممارس عالمياً على يد منظمات غربية.
و«الكبيسي» الذي يدعو إلى تكوين القوة المرهبة، يعي تماماً كم هو الفرق بين الإرهاب غير المشروع، حتى في المنظور الإسلامي والإرهاب المشروع الذي تمتلكه أصغر دولة في الشرق الأوسط هي«دولة إسرائيل»، إن قوتها النووية مرهبة ومخيفة للعالمين العربي والإسلامي، وهي في ذاتها دولة إرهابية مغتصبة، تمارس تحت سمع العالم وبصره ودعمه أبشع عملية إبادة للإنسان وإفساد في الأرض«والله لا يحب الفساد»، ومع ذلك لا نبرح الحديث عن الإرهاب العالمي كما يراه الغرب منسوباً إلى الإسلام، ونحاول استرضاءه بشكل مذل، إن الدفع بالتي هي أحسن، واتقاء الأعداء مطلب إسلامي، غير أن ما نمارسه عين المذلة والهوان، والضعة لا التواضع، وإذ يكون من مصلحتنا مشاطرة العالم في محاربة الإرهاب، يكون من حقنا بل من واجبنا الإلحاح في طرح الممارسة الصهيونية، لكونها عين الإرهاب، ووضع أمريكا أمام مسؤوليتها، لأنها راعية السلام.
إن الإرهاب الذي يدعو إليه«الكبيسي» يعني إخافة الاعداء وحفظ التوازن، فالأمة الإسلامية لايمكن أن تحمي مشروعها الرباني إلا بالقوة، والله أمرها بإعداد القوة، لإرهاب عدوالله وعدوها، والجنوح للسلم والتصالح والتعاذر والتُّقاة لا تقتضي أن نكون أذلة، لانملك ما ندفع به عن أنفسنا، ومن أراد السلام فليستعد للحرب.
وسلام الشجعان لا يتحقق إلا بعد أن نصنع السلاح الذي يحمينا، ونزرع الطعام الذي يغذينا، وننسج اللباس الذي يكسونا، ونتقن العلم الذي يغنينا، فذلك سبيل السلام والعزة التي أرادها الله لأوليائه، ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعدل والمساواة والحرية، لأنها أركان الحياة الكريمة في الدنيا، مثلما أن الصلاة والزكاة والحج أركان الحياة السعيدة في الآخرة.ومشاطرة العالم في محاربة الإرهاب الحقيقي الإرهاب الذي تتفق كل الحضارات على مفهومه لا يعني الكف عن إعداد القوة المرهبة: حسياً ومعنوياً وإجرائياً، وحين تغل أيدينا عن صناعة السلاح وإنتاج المطعم والملبس وإشاعة العدل والحرية، وحين يحل الظلم محل العدل والعبودية محل الحرية، والفقر محل الغنى بفعل الآخر ومباركته فإن من حقنا ألا نذعن، فكل خطوة في سبيل إهانتنا ستتبعها خطوات أدهى وأمر، و«من يهن يسهل الهوان عليه»، وإذا سايرنا الغرب على مفهومه للإرهاب، عشنا أذلة، والله لايريد لعباده الذلة والمهانة.
ومن حق المجتمع الإنساني المتمدين أن نشاطره في المفاهيم المشتركة، وأن نسهم معه في صناعة المدنية والحضارة ومطاردة الإرهاب الحقيقي، الذي يسيء العلاقات، وينسف الاتفاقات، ويؤثر على المصالح المشتركة،.
ويشرعن للقوى الكبرى حق التدخل، ومتى أريد منا أن نكون: أذلة لا نملك السلاح، فقراء لا نملك الإنتاج، مستعبدين لا نملك حق تقرير المصير كان حقاً علينا ممارسة ما يعيد لنا إنسانيتنا بالأسلوب الذي نريد وبالطريقة التي نمتلك.
ومن أبسط حقوقنا تعريف الإرهاب، وتحديد مفهومه، وتحديد النوع الذي نحاربه ونشاطر الغرب في محاربته.
أما التوفر على القوة المرهبة لعدونا، وأما الدفاع المشروع عن حقوقنا، فليس من حق أحد أن يسلبنا إياه، باسم محاربة الإرهاب، وإذا تسلط الغرب على مصالحنا وعلى إخواننا العزل وعلى قضايانا المصيرية، فليس من الحكمة أن نسترضيه بالتنازلات، ولا أن نسايره باسم الوفاق العالمي، وفي سبيل الحصول على حقوقنا المشروعة يجب علينا فقه الواقع والتقدير والتوقيت، فالله قد خفف عنا، وعلم أن فينا ضعفاً، ولهذا فليس علينا تكليف أنفسنا فوق وسعها، ولنا- والحالة تلك- أن نجادل بالتي هي أحسن، وأن نتعمد أهون الضررين:-




وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العار أن تموت جباناً


وكيف تليق بنا المسايرة والغرب يصف الفدائيين الذين يختارون الموت الشريف على الحياة المهينة بالإرهابيين، وما هم إرهابيون، إنهم يدافعون عن أرضهم وعن حرياتهم وعن أعراضهم.
والغرب الديمقراطي الحامي للحرية ولحقوق الإنسان، كما يدعي، لا يتردد في وصفهم بالإرهابيين، فهل خرجوا من ديارهم لممارسة المقاومة، أم انهم أخرجوا منها، إنهم يقاومون على أرضهم المغتصبة، ويدافعون عن أعراضهم المنتهكة، ومع ذلك فالعدو بعدده وعتاده يمارس مع الأطفال والشيوخ والعجائز أبشع صور الإذلال، والغرب يشايعه، ويبارك خطواته، فيما يوظف البعض منا طاقاته البلاغية لاسترضائه وترسيخ مفاهيمه.
أما الثانية: فقد وقع في خطأ آخر، ما كان له أن يفوت عليه، وهو العنوان«العنز التي تناطح الجبل» فالأمة الإسلامية وإن كانت في وضع موجع، ليست عنزاً إلى جانب جبل، ولو أن العالم الإسلامي لملم أطرافه، وسحب يداً واحدة من الغرب، وصفّى خلافاته الوهمية، وارتد إلى الداخل: يصنع إنسانه، ويحرث أرضه، ويكف شره عن جاره، ولم يكن مسرحاً للعب السياسة، ولم يختلف حكامه مع شعوبه، ولم يبذر مقدراته، ولم ينازع الغرب مصالحه المشروعة، ولم يستعن به على الأقربين، لكان مع وضعه مهيب الجانب، ولا تجوز الاستهانة بالأمة، مهما بلغت من الضعف، ذلك أنه ضعف من صنع أيدينا، وضعف عارض، وليس سمة ملازمة، وكيف يكون الضعف طبيعة، والإسلام سبق الحضارات في البحث والعلم والصناعة والفكر الاقتصادي والسياسي والعدل والمساواة والحرية وسائر القيم، وما من عمل أو نظام أسعد به الغرب إنسانه إلا أبانه الإسلام وسبق إليه، والإحباط واليأس والمرارة تزيد في الارتكاس، وتعطي للآخر فرصة الإيغال في الإذلال والإهانة، إن الغرب يزرع فينا اليأس والإحباط، ويمارس حرباً نفسية منظمة، أدت ثمارها.
أما الثالثة: فأسلوب المعالجة الهزلي الموغل في الهزلية، فالقضية التي ندب الأستاذ«مشعل السديري» نفسه لمواجهتها مسألة فكرية عقدية مصيرية، وليس من الحصافة أن تعالج بهذا الأسلوب الهزلي، وبخاصة أن الكاتب يواجه مفكراً إسلامياً جاداً، ومع احتفائنا بسخرية الكاتب إلا أن لكل مقام مقالاً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:48 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
منخنقات: المعية.. والضدية وتفخيخ الأسئلة..!
د. حسن بن فهد الهويمل


عندما تتأزم الأمور، وتزلق المشاهد، يرتبك خطاب النخب والمتنخوبين والعلماء والمتعالمين، وتدخل الأمة في نفق الشك وجنون الارتياب، وتستفحل ظاهرة الأسئلة المريبة، أسئلة الاستكشاف والتصنيف، لا أسئلة الاستعلام والتعلم، ومثل ذلك عرض لمرض، ومؤشر على خلل في البنية الفكرية واستفحال للمراء العقيم باسم الجدل والمنطق. والخلي من هذه الريب تنتابه غفلة المؤمن، فلا يقيم وزنا للتحفظات ولا للمراجعات، قبل التفوه بأي اجابة، ومن ثم يبادر السائل بالجواب. والجواب الآمن يتعرض لأكثر من علامة استفهام، ويؤخذ بأكثر من مدخل، ويخضع لأكثر من تفسير. ومثلما يختل الأمن النفسي، يختل الأمن الفكري، مما يدفع بالمفكر الى كتم تفكيره ومسايرة الآخرين حبا للسلامة وايثارا للعافية، اذ هناك فتن يجسدها «الهرج» وأخرى تتبدى في «التهريج» واللسان آلية الحرب الباردة المحفزة والمنشطة لخلايا الحرب الساخنة. والمشاهد العربية تتصدع عن أسئلة مفخخة، تستدرج الشجي والخلي. وحين يعيش العالم والأديب والمفكر في حالة من الخوف والترقب، يتصوح نبت المعارف، ثم لا يكون عالم بصير، ولا ناصح خبير، ولا قدوة حسنة. ووابل الأسئلة التربصية تعمق الخيفة والتردد، وتحبس القول السديد في الحناجر. والرقابة غير المشروعة، وغير المؤسساتية، وغير المنظورة رقابة غوغائية، وهي أخطر على الفكر من أي رقابة، يتحرك ذووها وفق أصول وضوابط وصلاحيات مستمدة من شرعية السلطة، ومتطلبات الحرية المنضبطة. وحماية الأجواء الفكرية من التلوث أهم من حماية البيئة.
وكم يتعرض المثقفون وأنصافهم والفارغون لأسئلة لا تخطر على بال، يبده احدهم بها متوتر او متربص او متعصب، لا يطلب علما، وانما يسبر حالا، ويكشف عن انتماء، وقد لا تتاح للمكره على الاجابة فرصة التأمل، ولا مندوحة التعويل على مقولة العالم المتضلع: «فيها قولان»، ولا الركون الى نصف العلم «لا أدري»، فالسائل يريد صريح العبارة، ومحدودية الموقف، ليشكل رؤيته عن المسؤول، ويصوغ اسلوب التعامل معه وسمة الموقف منه.
فعندما يقول لك قائل: هل أنت مع امريكا او ضدها؟. أو يقول لك آخر: هل أنت مع الارهاب أو ضده؟ وهل أنت مع ضرب القاعدة او ضرب العراق؟
وحين يستوضح ثالث عن موقفك من الحزب القائم في الاذهان، او الحرب المتدخلة في الأوطان، أو المذهب الشائع على كل لسان، أو التيار السياسي الثائر على كل سائد، أو المعتقد الديني الخارج عن الاجماع والاجتماع، او المنحى الفكري العابث بكل مسلمة، او العالم الناقم البرم، او المعارض المتشنج، او التصريح السياسي، أو الفتوى القنواتية، او التغيير في المناهج، او حتى عن الكتاب الذي لم يقرأه، أو المقولة التي لم يفهمها، أو الفتيا المتداولة في الأوراق، او الموقع المعلوماتي الزاخر بالبهتان، أو ما شئت من فيوض القلم واللسان.
ويتقاطر آخرون بطرح ثنائي يدور حول «المعية أؤ الضدية» تحس أمام كل ذلك بأنك مستهدف، وانك تقترب من مأسدة مخيفة، تتحول معها سمعتك الى حديث مجالس ومادة مواقع، واستنطاقك يلوي على مشروع تصنيفي تصفوي، يدخل بك الى الفئوية لتكون مع السائل أو ضده، محرما عليك الوسطية، او الحيادية، او التوقف، حتى الاستبانة والتثبت، وهما منهج اسلامي {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إن جّاءّكٍمً فّاسٌقِ بٌنّبّأُ فّّتّبّيَّنٍوا}.
وهناك تكون عدوا لدودا لمن يكره الحزبي المعين أو المعارض المعروف او يحبه، أو يكره «أمريكا» أو يعذّر لها، أؤ يأخذ بتلك المقولة، أو بتلك الفتيا، أو يتبع ذلك العالم أو ذاك الحركي، او يخالفهما. واشكاليتك تتضاعف حينما لا تكون مهتما بهذه المواقف المتشنجة، أو حينما تكون ممن خاف الفتنة فاعتزل المشاهد وما فيها من أشياء وأناسي، واهتم بخويصة نفسه.
والتصنيف واستمراء الأعراض لا يصدران الا من مبتدىء او عاطفي لا يؤمن بالتعددية المعتبرة، أو من متسطح لا يعرف دواخل الامور وقوانين اللعب، او ممن تحقر صلاتك الى صلاته وصيامك الى صيامه، ولكنه يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ودم المسلم المعصوم عنده أهون من اراقة الماء العكر.
ومن شاء ان يطمئن قلبه فليدخل على «المواقع الانترنتية» ليرى ماهو أسوأ من مذبحة «قانا» أو «حلبجة» مما يبعث على الاستياء والخوف، فمثل هذا الصنيع ناتج أخلاقيات خطيرة نُشىء عليها خليون، كانوا من قبل شبابا على فطرة الله التي فطر الناس عليها يكتظ بهم الشارع العربي من المحيط الى الخليج.
واشكالية المشاهد في فترات التوتر والاهتياج انها تعيش صرعة التصنيف، فكل متكلم أو كاتب لابد أن يكون منتميا لطائفة فكرية أو دينية أو سياسية، سبقت تسميتها، وفرغ الفضوليون من تصنيفها، وليس لأحد بعد هذا حق الاجتهاد أو الاختيار. والمسألة اما ان تكون: معي او تكون ضدي على الطريقة «البوشية».
ولكن ان تستعرض المسميات الفكرية والسياسية والدينية في سائر المشاهد العربية، من مثل «القومية» و«العلمانية» و«القطبية» و«الاخوانية» و«السرورية» و«العقلانية» و«الحداثية» و«الليبرالية» و«الحبشية» و«الجامية» و«الراديكالية» وما لا نهاية له من تلك المسميات التي فرقت كلمة الأمة، وجعلت أهلها شيعا يضرب بعضهم سمعة بعض، وقد يتطور الخلاف ليكون الضرب في الرقاب. وما عرفنا ذلك في طفولتنا، ولا في شبابنا، ولا في كهولتنا، ولما فوجئنا وفجعنا به، لم يكن في مقدورنا، وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيبا ان نأخذ بحجز المتدافعين، ونردهم الى جادة الصواب.
ولو نظرنا في صراعات تلك الطوائف، وتصفياتها للسمعة، وتراشقها ببذيء الكلام، وساقط القول، لهالنا الامر. وما من احد من هؤلاء واولئك الا هو هارب من النار، ولكنه ركب رأسه، واعجب برأيه، وجعل اصابعه في أذنيه، واستغشى ثيابه، وأصر، واستكبر استكبارا، فوقع في الهلكة. والذين يرسخون مفهوم «الحدية» و«الثنائية» يقترفون خطيئة كبرى، لانهم يضيقون واسعا، ويوسعون رقعة الخلاف والتنازع والشحناء. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتفادى دائما الحدية، وفي «حجة الوداع» ما سئل عن شيء الا قال: افعل ولا حرج. أو كما قال. والصحابة يختلفون، ولا يعادي بعضهم بعضا، واذا احتدم الخلاف بينهم، انتهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصوب آراءهم، او سكت عن الاجابة، فعل ذلك عند امره بصلاة العصر في بني قريظة، وعند اختلاف عمر مع قارىء القرآن. وقد يحسم الموقف، كما في قوله: «أفتَّان أنت يا معاذ؟»، وقد يتولى الله فض المنازعات، كما في اقتتال «الطائفتين». وما من مخطىء بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بحق الاسلام أو بحق نفسه الا ويسمع من يقول بحضرة الرسول: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، والرسول الحريص على جمع الكلمة والرؤوف الرحيم بأمته، يؤلف القلوب، ويؤاخي بين المؤمنين، ولا يرضى ان يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه، وتلك نظرة ثاقبة لآثار حرب الشائعات. وحين لحق بالرفيق الأعلى، وتوقف وحي السماء، واندس «السبئيون» لتمزيق وحدة الأمة، وقعت الواقعة، ونال الأمة ما حذرها منه، وأخبر به بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقوله : «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه». وحين اختلفوا عنده في مرض وفاته، صاح بهم: «قوموا عني»، فهو يكره الاختلاف والتنازع، ويعرف أثرهما على قوة الأمة وهيبتها، ولهذا أمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، ونهى عن منازعة الأمر أهله، الا ان يرى المؤمن كفرا بواحا عنده من الله فيه برهان، وصدق الله: {وّالًفٌتًنّةٍ أّّشّدٍَ مٌنّ القّتًلٌ} وما نشاهده اليوم تدافع مستميت للفتنة، وعشق متيم للصراع، وكل من أراد استقطاب الغوغاء اقترب من المسكوت عنه، وكل من عشق الأضواء لغم كلماته، ثم أرسلها لتصنع له العجائب.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 09:10 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)