بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:54 PM   #29
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
من الكتبَة الجوف إلى المشهد اليباب..!
د. حسن بن فهد الهويمل


2-2
وكيف يتأتّي التأصيل للمعارف والتحرير للمسائل من لدن قرّاء يتخطّفون الثقافة من أنهر الصحف، وأفواه الإعلاميين، ولا يدرون ما مكوِّنات المذاهب، وما حواضنها، ولا يعرفون شيئاً من تاريخها، ولا من تحوُّلاتها، ولا يتعرّفون على مناهجها، ولا تربطهم صلة بالمفكرين ومناطاتهم، والسياسيين ومراميهم. وضعف المحصول، ونقص التجربة تضعف المناعة، وتسهل الانقياد، وتجعلهم أجرؤ على الفتيا والمبادرة بالأحكام على ثوابت الأُمّة، ولمَّا يتصوَّروها حقَّ التصوُّر، وما يدرون أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره. وكم من مخاصم غير مبين، لا يعي القضية، ولا يدري ما الكتاب وما الإيمان، لا يتحرَّج من القول في كبرى القضايا، ومع هذه التوقُّعات المخيفة، فإنّ عثرات الجهلة تتطلّب التوعية الرفيقة، والإصلاح المتأنِّي، والدعوة إلى كلمة سواء، فقد يكون لبعضهم عذر ونحن نلوم. ولأنّه لا فرق بين الأمن النفسي والأمن الفكري، فإنّه لا بدَّ من الرقابة الفكرية التي لا تقل أهمية عن الرقابة الغذائية، وحرية التفكير والتعبير في الإسلام حرية مشروطة، وليست كما يتصوّر البعض ويطالبون، وضوابط الإسلام لا تنقص الحرية أشياءها.
واتساع الخرق على الراقع مردُّه إلى التطبيق الخاطئ للحرية، وإلى توفُّر إمكانيات التواصل، وضعف الوازع الديني، وتعثُّر الوازع السلطاني بتلويحات (حقوق الإنسان)، فكلُّ الوسائل تعضد المتسرعين، وتبلِّغ عنهم ما لا يرضي الله من القول. وتلميع مصطلحات الغرب وإشاعتها والرّكون إليها، أدخلت الأُمّة في مرحلة التيه، وهي بضاعة الكتبة الجوف.
ومن المؤذي حسّاً ومعنى، أنّ هذه (التقنية) المتاحة لم يستثمرها الفارغون بما يفيد، فالقنوات والمواقع وسائر الإعلام إمكانيات مذهلة أساء الجيل الخائب استثمارها، وإن جوَّد استعمالها. والداخل على الساحات، والمستمع إلى القنوات، والقارئ لسائر المطبوعات الإعلامية والإبداعية والنقدية، يغثيه من يمدُّونها بالغيِّ واللّغو والجهر بالسوء. وما عُهدت أُمّة الكلم الطيب والقول السديد، تخوض في آيات الله بغير علم، وتلغ في أعراض عباده، ولا تتحرّج من إشاعة قالة السوء عن الغافلين. لقد سمعت عائشة رضي الله عنها اعتذارية حسان:




حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِريبَةٍ
وَتُصبِحُ غَرثى مِن لُحومِ الغَوافِلِ


فقالت له: (لكنك لست كذلك)، وفي رواية (لكن أبَوْها).
وما علم المخفون لأسمائهم بالسيطرة على تقنية المعلومات أنّهم لا يخفون على الله، الذي سأل مستنكراً: - {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (12)سورة الحجرات, والمروِّجون للإفك عبر الساحات كالمروِّجين له في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ممن كشف الله سوآتهم في القرآن الكريم. والمعارض أو المتحفِّظ أو المستنكر لأيِّ عمل على أيِّ مستوى، يجب أن يتثبّت وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يضع اسمه صريحاً، وإن أخفاه فليكن صادقاً معتدل الرأي منطقيّ الحجة، متبيِّناً، بحيث لا يصيب أحداً بجهالة، وليكن له برسول اللين والرأفة والرحمة قدوة، إذ قل أن يذكر مخطئاً بعينه.
وبتجاوزنا للمرجفين في المواقع، وهم شريحة من الكتبة الجوف إلاّ أنّهم من نوع آخر، نقف عند شريحة أخرى أربى من أختها، وهم الذين يلتقطون المصطلحات الغربية بكلِّ ما تقتضيه من مفاهيم، وما تستدعيه من إجراءات، ثم لا يُراعون مقتضيات حضارة الانتماء، وتلك الشريحة أشد خطراً، وأفدح تأثيراً، وهم بهذا الفعل: إمّا أن يكونوا فارغين لا يجدون طريقهم إلى الحضور، إلاّ بمثل هذه الإثارات، وإمّا أن يكونوا مدخولين في أفكارهم عن جهل، أو عن تعمُّد وسبق إصرار، ولكي تستبين طريق المقترفين نذكِّر بثلاثة كتب تمس أهلية الكبار فضلاً عن الكتبة الجوف، فكتاب (خيانة المثقفين) مجموعة مقالات رصد فيها الكاتب جنحاً مصمية لمن نعدّهم من الأخيار، وكتاب (النخبة ضد الأهل) مجموعة مقالات تعقب فيها الكاتب طرفاً من التجاوزات، وكتاب (أوهام النخبة) تناول معرفي تطبيقي لخمسة أوهام تكاد تكون قاصمة القواصم، وما الأدنين من الكتبة الجوف ببعيدين عن أولئك.
ولما لم تكن هناك معرفة تأصيلية بما يجد من أفكار ومذاهب، فإنّ المشهد معرّض للتصوح ورعي الهشيم، والذين يستبقون الطوارئ ولا يفرِّقون بين الجمرة والتمرة، لا شك أنّهم فارغون ومجازفون بأنفسهم وبمثمّنات أُمّتهم. وإذا تسوّدوا المشاهد، أصبحت أقرب إلى سراب القيعان، وذلك ما نراه، وما نسمعه. ومن المضحكات المبكيات، وشرُّ البلايا ما يُضحك، ظن المتنخوبين الذي أرداهم أن حَمَلة العلوم الشرعية لا يصلحون إلاّ للوعظ، والإفتاء في الحيض والنفاس، وأنّ مثقفي السماع هم وحدهم القادرون على تداول الشأن الفكري والسياسي. وإذ لا نزكي على الله أحداً، فإنّ بإمكان الفقهاء أن يخوضوا معترك السياسة بآليات الفكر السياسي الإسلامي ومناهجه، إذ للإسلام نظريته السياسية القادرة على المنافسة، وأمام هذه التجاوزات لسنا بحاجة إلى مزيد من المجاملة والتعذير، كما أنّنا لسنا بحاجة إلى مزيد من جَلَد الذات والتخذيل، وكل ما نقوله تأثم يحوك في القلب، وإن كنا نكره إشاعته، وإطلاع الناس عليه، وسياق الأُمّة بدعاً في السياقات، وإن سبق هذا السياق بدايات للتمرُّد وعزمات للتمنُّع، غير أنّ الطائفتين كانتا على شيء من الوعي، في مقابل حاضر تبعي مرتجل. ولو نظرنا على سبيل المثال، (المسار السياسي) في ظل الانقلابات العسكرية والهواجس الثورية، لوجدناه قابلاً للرصد والتقويم، وإن عبرت أزلامه إلى المشاهد على صهوات الدبابات وعلى جثامين الأبرياء، وليست على أكتاف الجماهير. فسنوات الغليان، كما يسميها عرَّاف السياسة (محمد حسنين هيكل)، وهو من المنجِّمين الذين يكذبون وإن صدقوا، هذه السنوات مكّنته من أن يرصد التحوُّلات السياسية المحكومة بقوانينها، وأيّ لعبة سياسية لها خلفيّاتها المعرفية، كما يجسِّدها صاحب كتاب (موسوعة قواعد اللعبة السياسية)، وإذ لم تكن التحوُّلات قفزات غير منضبطة وغير متوقّعة، بمعنى أنّ للتنبؤات مكانها، فإنّها خاضعة للحسابات والتقديرات، ومن ثم أخرج (هيكل) كتابه الثاني (الانفجار)، بوصف الجزء الأول (سنوات الغليان)، إرهاصات للنتائج التي رصدها في الجزء الثاني (الانفجار).
وهذا الرصد الوثائقي الشامل والدقيق مكن له واقع يتفاعل مع الأحداث التي توجِّهها مؤسسات ضالعة في صناعة اللعب ومتابعتها وتهيئة الأجواء الملائمة لها. والرصد في ظل الظروف والإمكانيات يتجه صوب النتائج المتوقّعة سلفاً، والحراك السياسي سواء أكان مرتبطاً باللعب السياسية، أم لم يكن، يقوم على أحداث ينسل بعضها من بعض بشكل طبيعي ومتوقّع. أمّا ما يحدث الآن فمختلف جداً إنّه الجنون المنظّم كما يسميه أحد المحللين، ولو نظرنا - على سبيل المثال أيضاً - (المسار الفكري) لوجدنا المفكرين منشقين على أنفسهم، ولكنهم يحيلون إلى مرجعيات غربية أو شرقية هضموها كما الخراف في جوف الأسد، وامتلكوا القدرة على الوصول إليها في مظانها وفهمها وتمثُّلها، وليس مهماً أن تكون النتائج سلبية أو إيجابية، وإنّما المهم أن يكون في مقدور الحراك الفكري أن يخلف لنا مدارس واتجاهات، وأن يستطيع التأسيس لمذاهب وتيّارات.
ولعلّنا نضرب الأمثال بالفتانين أمثال، (طه حسين) من خلال مجمل أعماله، وبخاصة كتابيه (مستقبل الثقافة في مصر) و(في الأدب الجاهلي) وهو في مجمل مؤلّفاته يمثِّل (الفرنكفونية) بأبشع صورها، ويستخدم المنهج (الديكارتي) القائم على الشك المنظم، وينزع إلى الرؤى الاستشراقية في دراسة الأدب، وعلى الرغم من تجاوزاته وإنحيازاته، فقد خلَّف لنا ثروة من الدراسات، والدراسات المضادة، التي أحدثت نقلة في تاريخ الأدب العربي القديم خاصة. والمشاهد الأدبية والثقافية والفكرية فاضت أوعيتها بمختلف الظواهر، والمناهج، والتيارات، وليس حراك الأمس ومخاضاته كاضطرابات اليوم وتجشؤاتها الفارغة.
ولنا أن نقول مثل ذلك عن الحراك (الفلسفي) الخالص، نجد تجلَّيات الفلسفة وتحوُّلاتها عند (زكي نجيب محمود) و(عبد الرحمن بدوي)، إذ عول كلُّ واحد منهما على فلسفة غربية: وضعية أو وجودية، وأثرَيا بعراكهما المكتبة العربية بمئات الكتب والدراسات، بل أستطيع أن أتجاوز ذلك إلى طائفة من الأكاديميين الذين أحدثوا بمذهبيتهم نقلة مادية ومنهجية، ظلّت تمد المشاهد الأدبية والنقدية بمزيد من التحوُّلات التي ترحب لها الصدور، وتحتفي بها الأقلام، وإن أبعدت النجعة، نجد ذلك عند (أمين الخولي) في علم البلاغة، وعند (شكري عياد) في علم اللغة، وعند (محمد مندور) في منهجية النقد، وعند آخرين يبتدرون المذاهب بقوة.
ولك أن تقول مثل ذلك عن تيار (الحداثوية) عند أساطينها الضالين المضلين، فهل أحد ينكر دور (أدونيس) و(عصفور) و(أبي زيد) و(أبي ديب)؟ على الرغم من التناقض معهم والتناقض فيما بينهم. فأين مكان المتعالقين من أولئك الجبابرة؟ وعلى مستوى الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، نمر بمحطات مضيئة، وأخرى معتمة، ونقف على منجز أدبي أو فكري، لا نقبل به، ولكننا نحترم اقتداره.
وعلى النقيض من ذلك جلُّ مشاهدنا القائمة، إنّها صاخبة ومتناقضة، ولكنها خالية خاوية، وبرهان ذلك أنّ القضايا المتداولة مجترّة ومكرّرة، والمجترُّون لا يتقنون أدبيات الحوار، ولا أهمية الأولويات، ولا محترسات المرحلة المتردِّية، واقرؤوا التخبيصات المضحكة عن (الليبرالية) و(التنوير) و(المجتمع المدني) و(العولمة) و(العلمانية)، والحكومة بين (الدينية والمدنية) عند الطائفتين، وهذا الخواء يذكِّرني بذلك الثرثار، الذي أغثى الخليفة، فلما أحسّ بطول الكلام قال: - أأسكت يا أمير المؤمنين، قال له: - وهل قلت شيئاً؟. إنّ سمة المرحلة المعاشة تقوم على الانفعال والافتعال، فما الذي حفز المسيطرين على المشاهد، وشغلهم بالتوافه، وصرفهم عن جلائل الأعمال. أهو فراغ ذاتي، أم حيلة ذكية، أطلقها الماكرون وصدّقها المغفلون؟ ولست قاطعاً أمراً قبل أن استعرض الجدل الفارغ حول القضايا التي لا تحتاج إلى دليل، علماً أنّها استوت على سوقها منذ (رفاعة الطهطاوي)، وتقليبها من القول المعاد. ولا أحسبها خفية على ذوي الألباب الذين يرصدون ويقوِّمون، وإن لاذوا بالصمت تغليباً للسلامة، وأملاً في انكشاف الغمّة.
وصراع الديكة غير الممتع يتولّى كبره الإعلام العربي، بكلِّ صنوفه، وتعضده المواقع والساحات بكل تعدُّدها. لقد مارس الكتبة الجوف هذا الفعل المؤذي في ظل فهم للحرية على غير أصولها. وإذا أردت أن تقبض قبضة من أثر الخلاف تبدّت لك عشرات الآثار، التي لم تكن تحسب لها أدنى حساب، لقد جاءت قفزات مربكة في المشهد النقدي، وأخرى في المشهد الفكري، وكلُّها لا تمت إلى التجديد، ولا تمد بسبب إلى الإصلاح، ولا تُعَد من التطوُّر، ولا التحوُّل، ومن عدّها محسوبة على حتمية التجديد فقد ضل سواء السبيل.
والذين ينافحون عن سائر المصطلحات السياسية والفكرية والأدبية، لا يعرفونها حق المعرفة، ولا يتمثّلونها صادق التمثُّل، ولا يصبرون عليها، فكلّ يوم تراهم مع ظاهرة أو شخصية أو منهج أو آلية. واللغة الجنائزية على ألسنتهم، إذ كلّما فرغوا من الحديث عن شيء أماتوه، وكأنّ ما بين أيديهم لعب أطفال تلقى في سلال المهملات، وما على المتردِّد إلاّ أن يحصي (البعديات)، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وأن يستذكر الإماتات القسرية (موت النقد)، و(موت النحو)، و(موت الإنسان)، وهي وإن كانت إطلاقات مجازية، إلاّ أنّها تقليد مقيت، مستلهم من مقولة (نيتشة) ب(موت الإله).
وكلُّ هذه البعديات والوفيات والاشتغال بالمعاد والثانوي، مؤشِّر على الفراغ والخواء، وكلُّ فارغ مغمور يركض برجله إلى دوائر الضوء، مقتفياً أثر المستغربين:-
(ومن كان الغراب له دليلاً
يمر به على جيف الكلاب
وما من متهافت على لعاعات الشهرة الزائفة يعرف قدر نفسه، وحاجة أُمّته و(الفاضي يعمل قاضياً)، ويزعم أنّه قادر على فكِّ الاشتباك، وإنهاء النزاع وتقرير الأحكام والمصائر، وما هو إلاّ عبء على الإشكاليات، لا يزيدها إلاّ ّارتكاساً في الوحل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:56 PM   #30
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
من بعث الحرية من مرقدها؟! (1- 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


دخلت في النافلة ذات يوم، وما ان شرعت في الركعة الثانية، حتى أقيمت المكتوبة، فاخترت الإتمام على الإبطال، لوجود اختلاف بين المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء، حول القطع بعد الشروع في النافلة، والإتمام بعد الإقامة للمكتوبة، ولما قضيت الصلاة، وانتشرت مع الناس، لحق بي شباب حدث، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يعرف أحدنا الآخر، وبادرني بالتأنيب، لتفويتي تكبيرة الإحرام، ولم يقدم بين يدي نجواه سلاماً، أو سؤالاً عن الطقس، وذلك أضعف المجاملة.
كان منفعلاً، كما لو كان ينذر قومه من عدو قادم تحت جنح الظلام، وما كان مني استياء ولا تذمر، بل سألت برفق: أمجتهد أنت أم مقلد؟ وكان جوابه: شيخي - عفا الله عنه - يقطع بوجوب قطع النافلة إذا أقيمت الفريضة. ولما لم أعرف شيخه، تمعر وجهه، وأربدت ملامحه، ولسان حاله يقول: قول أقبح من فعل. وحرصاً مني على لملمة أطراف الحديث، قلت له: المسألة يا بني خلافية، وفسح الدين، وثراء معارفه في اختلاف العلماء، وما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأياً على رأي في قضية الصلاة في (بني قريظة)، لان أدلة الطرفين احتمالية.
ولم يرق له هدوئي، وأخذي الأمر بالحوار، وتعويلي على الاختلاف المعتبر، وإنما تصورني غامطاً للحق، مستخفاً بشيخه، مأخوذاً بمآثم الاعتزاز. ولحظتها لم أفكر بتوعيته، بل اردت الخلاص والنفاذ بجلدي، لا عليَّ ولا لي. ولكنه استوقفني مردداً: اتق الله، ولا ترد الحق، وعليك الإذعان والقبول. وعند هذا الحد تأكد لي أن جواد الحكمة لن ينجو بي، فما كان لي بد من ركوب حمار الجهل، ولم أتردد في مواجهته بما هو عليه من جهل مركب، وسوء في الأدب.
تداعت أحداث تلك الواقعة الساذجة في نظر البعض على ذاكرتي، وأنا أرقب المشهد الفكري والسياسي، وما يعتمل فيه من أحداث وقضايا، يتناولها كتاب وإعلاميون بالمستوى ذاته من المعرفة والتفكير، وبالأخلاقيات المتدنية نفسها، ولو أن هذا الشاب الورع كان متضلعاً من فقه الأحكام، ملماً بشيء من اختلاف الفقهاء، متمثلاً لأدبيات المناظرة، مدركاً أن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، لما شغلته مثل هذه الواقعة، ولما كان متنطعاً إلى حد الهلاك والإهلاك. وتلك الأمثال نضربها للناس بين يدي حديثنا عن أخطر قضية، ليعلموا أن الجهل المركب ليس وقفاً على طائفة دون أخرى، وإنما هو قسمة بين الفرقاء، والكيِّس من وقف أمام المرايا المقعرة، وعرف ما هو بحاجة إليه من علم، وفهم، وحسن استقبال، وطرائق أداء ولو لم يتلق النوازل إلا العالمون المجربون، لما كنا في أمر مريج.
وهلاك الأمة من أغيلمة يبتدرون الأمور، دون معرفة ببواطنها، ودون فهم لمقتضياتها، ودون فقه بأحكامها.
و(عيٌّ صامت خير من عيِّ ناطق). (ولو سكت من لا يعلم سقط الاختلاف) - كما ينقل (أبوحيان) في (الامتاع والمؤانسة) - وإذا تصدى لهؤلاء الأغيلمة ناصح أمين، لجُّوا في عتو ونفور، وأخطر القضايا، وحجر الزاوية في التجمع الإنساني (الحرية) فهماً وممارسة، وهي حق لكل مولود، ولا حياة كريمة بدونها، فطائفة من المتحدثين لا تعرف منها إلا ترك الحبل على الغارب، والتمرد على كل السلطات، والغاء حمى الله. والقول فيها كالقول في سائر القضايا الهامة والخطيرة، يحتاج إلى بصر حاد، وبصيرة حاذقة، ومعرفة عميقة، وتفقه في الحال والمآل، وسداد رأي، وعمق تجربة. وما عقدت العزم على الحديث عنها إلا لأن طائفة من المقوين معرفة وتجربة، يعذِّرون لكل منحرف في فكره، متفحش في قوله، متمرد على الحق باسم حرية التعبير والسلوك. ولأن الحرية داخلة في العقائد والأفكار والسياسات والفنون، وسائر شؤون الحياة، فقد كانت مناط كل منقول يسوؤه الانضباط، ويضيق بالأطر على الحق.
ومبعث إشكاليتها من متعلقاتها وعلاقاتها وحدودها ومجالاتها ومرجعياتها. والوقوف على الجدل الدائر حول أنواع الحريات ومستوياتها وارتباطها بالقيم والمبادئ ذكرني بذلك الشاب المتوقد حماساً، الفارغ معرفة، الناقص تجربة. والحرية المكتنفة بكل وسائل التناول وثيقة الصلة ب(الديموقراطية) و(الليبرالية)، و(المجتمع المدني)، وسائر المنظمات العالمية ك(حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة)، وقضايا الإسكان، والنسل والأجناس والاقتصاد. وهي فوق ذلك أوثق صلة بعلاقة الإنسان بخالقه، وتلك العلائق المتباينة تتطلب التزود من شتى المعارف، وإتقان مختلف الطرائق. غير أن مبلغ الموقظين لها من العلم لا يتجاوز بها مواجهة السلطة بكل تنوعاتها، وهي مواجهة رفض لا مواجهة جدل.
ومن لم يأتها من أبوابها، ويروض جماحها، يجني على نفسه، وعلى من حوله، مثلما جنت (براقش) بعوائها على أهلها. ولأن الإسلام مجموعة من الأوامر والنواهي، فإن الحرية معه مقيدة وليست طليقة، ومن أرادوها كما هي عند غير حضارتهم، فقد اقترفوا إثم التمييع للإسلام باسم التسامح، وافتروا التشدد على الوقافين عند حدود الله. وأخطر منعطفاتها أنها ذات علاقة أوثق بالمؤسسة السياسية والدينية، ولهذا فإن دعاة (التنوير) و(الإصلاح) و(الثورة) يتوسلون بها، ويسمونها تسميات شتى، قد لا تناسب الأزمنة والأمكنة والأحوال. والضيق من الأطر على الحق، ومن الاخذ على يد السفهاء، والعمل على تحجيم الوازع السلطاني أفضى بالحرية إلى (الفوضوية)، حتى أصبحت الفوضوية ظاهرة بإزائها، تدرس وتقوَّم، كما تدرَّس الحرية، راجع (تاريخ الفلسفة السياسية). ومثلما اختلفوا طوعا أو كرها حول مفاهيم (الحرية)، اختلفوا حول قضايا أخرى ك(المجتمع المدني) و(الدولة المدنية) و(الدولة الدينية) وسائر المصطلحات ذات العلاقة بالفكر السياسي ك(الولاء) و(البراء) و(سد الذرائع) و(الأطر)، و(التسامح) و(التطرف) و(المرجعية) و(السمع والطاعة) و(المأسسة)، و(إنكار المنكر). فكل مهتاج أعزل قليل المعرفة والتجربة، يحدد المفاهيم، ويرسم الحدود، ويقرر المواقف، ويعد المحيد عن شيء من ذلك تفريطاً في الدين، وخيانة للأمة، وتخلية للثغور.
وكأن الله قد جمع لهذا الخلي العلم والفهم والوعي والتجربة والقوة والبصر والبصيرة. وما هو في نظر نفسه إلا المجدد للدين المندثر، والهادي للبشرية التائهة، والعامر للكون المتصحر. والمتابع الحصيف لتحولات الحرية عبر أحقاب التاريخ، يراها كامنة في النفوس، كأي معهود ذهني، لا تحتاج إلى تفسير، ولا إلى تحديد. فالفطرة السليمة تأخذها بحقها، وتتمتع بها بمقدار، بحيث لا تقصر بحق ذاتها، ولا تعتدي على حق غيرها، على حد - (الحلال بيِّن والحرام بيِّن)، و(البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر).
والإمعان في الحدِّيات والتصفيات والتصنيفات آتٍ من أدعياء مستغربين يقولون بقول المهيمن، دون أن يتعرفوا على محققات هيمنته، ليكونوا مثله في حمل الغير على التماهي معهم. أو هو آتٍ من غلاة متطرفين يحرفون الكلم من بعد مواضعه. و(الاستغراب) إما أن يكون استكناها لما عند الغرب، واستثماراً لمحققات غلبته، أو يكون تقليداً لخناه وفحشه، ورؤيته المادية للكون والحياة، وعزوفاً عن معارفه (وتقنيته). ومثلما كان (الاستشراق) يجب أن يكون (الاستغراب)، ولكن ذلك لم يكن، ولن يكون في ظل إمكانيات ذهنية وعملية لا ترقى إلى مستوى الأحداث، و(الماضوي) المنقطع للتراث لا يختلف عن (الحداثوي) المنقطع عن التراث.
إن مكمن الخطأ في خطأ الفهم، ومربط الفشل في جهل ما عليه الذات من معرفة وإمكانيات، وما عليه الآخر من مكائد وتطلعات، وما أحوجنا إلى تأصيل التواصل مع المغاير عقيدة وحضارة ومدنية. وظاهرة استقبال هذا المغاير على غير هدى ولا كتاب منير، حفز طائفة من المفكرين على تصور شرعة ومنهاج للتفاعل مع منجز الحضارات المادية المهيمنة، وتفادي الانفعال والافتعال. ولعل أفضل من كتب في ذلك المفكر العربي (حسن حنفي)، ومن بعده تلاحقت الكتابات المراوحة بين الرصد والتحليل والتوصيات، ولتحديد مفهوم (الاستغراب) ومرجعياته، نحيل إلى (دليل الناقد الأدبي) (للرويلي والبازعي).
و(الحرية) التي انفلتت من قمقمها كما العفاريت، نادى بها الرسل والمصلحون والقادة والمفكرون، كما نادى بها (سقراط) والحكماء. لكنها تختلف في طبيعتها ومحققاتها في الأزمنة والأمكنة، وبين الأناسي والحضارات، والديانات، والأنظمة السياسية في كل عصر ومصر. وهو ما لا يفهمه المقلّبون لها على سفود الوقوعات العارضة. ومن تلبس بها على أنها فعل الممكن، وتحقيق المراد، ونبذ السلطة، فقد تحول بها إلى العبودية، ومثلما تعس عبدالدرهم والدينار والخميصة والخميلة، فقد يكون عبد الشهوات أتعس منهم. وكيف لا يفرق الفارغون بين الحرية المنضبة والفوضوية المتفلتة، كما يراها (قودوين) و(برودون) في كتابه (ما الملكية) و(ماكس شتيرنر) و(باكونين)، لقد تحولت عندهم الفوضوية بوصفها فلسفة (اللاسلطة)، إلى فوضوية مستحكمة، بدأت بإلغاء الدولة بوصفها رأس الآفات والشرور، وانتهت إلى ما بعد الفوضوية.
وليس بمستغرب على عصر المفاجآت أن يكون للفوضوية من يناصرها، ويدعو إليها، ويؤلف فيها، ويعدها ممارسة مشروعة. وكل المشتغلين بالحرية من غير العارفين، لا يلتمسونها إلا في مسارح الفكر والفلسفة الغربية، ظناً منهم أن ما سبق من حضارات، لم تفهمها حق فهمها، كما هو الشأن عند سائر المفكرين الغربيين ومذاهبهم، وذلك ظنهم الذي أصابهم بجنون العظمة. وما القول ب(نهاية التاريخ والإنسان الأخير) عند (فرانسيس فوكوياما) إلا مخاض الغرور الذي يساور الإنسان الغربي، فهو لا يبعث (أيديولوجية) مندثرة، وإنما يعلن عن (المشروع الأمريكي) الذي يغني عن التفكير، والمصيخ للمشاهد العربية، يلمس تأثير تلك الدعوى (الفوكيامية). على أن من المستشرقين من جد في البحث عن الحقيقة، فعلى سبيل المثال، وفي مجال الرصد المعرفي والتاريخي للحرية نجد (منجوميري وت) بحث في إشكالية حرية الإرادة في الإسلام، وذلك قبل ستين عاماً أو تزيد، وكان منطلقه من مذاهب إسلامية، ضلت في فهم الحرية، ووقعت في متاهات التأويل، ومنشأ الضلال تفويض الأمر إلى العقل، وتعطيل النص، وتأليه الهوى، واتباع الشهوات، وتلك شنشنة الأغيلمة.
وقصور التصور عند المغثين الغثائيين يحملهم على الخيفة من مصادرة الحرية على يد كل سلطة تمارس حقها المشروع، وفق مقتضيات (العقد الاجتماعي)، عند (جان جاك رسو) أو (البيعة) في الفكر السياسي الإسلامي، ومؤدى اللغط ألا فرق عندهم بين السلطة المشروعة، والتسلط المستبد. واين وجدت السلطة فالتمس الحديث عن الحرية، فهي قائمة على أشدها في كل تجمع قل أو كثر، لقد خلق الله من كل شيء زوجين، وأعطى كل شيء خلقه المناسب لدوره في الحياة، وفرض السلطة لضبط الحياة، ولهذا خص بها الرجال، وزادهم بسطة في الجسم، فيما زاد النساء بسطة في العواطف، وجعل الرجال قوامين على النساء بالتفضيل والإنفاق، فكان الحديث عن (تحرير المرأة) منطلقاً من تلك القسمة الربانية، وكانت السلطة لا التسلط الشغل الشاغل لكافة المشاهد، يقولها الرجال بأفواههم، ولم تؤمن بها قلوبهم، ولو كانوا صادقين، لكانت المسؤوليات قسمة بين الرجال والنساء في (أمريكا) على الأقل فكم رئيسة أمريكية قادت البلاد، من (جورج واشنطن) إلى (جورج الابن)؟ وما الذي غيَّبها أهو الدستور، أم الفطرة والتكوين؟.
وكم هو الفرق بين جدل الاستبانة للحق، ومراء التفلت على الضوابط المشروعة. وإذا أراد الله بقوم سوءاً ألزمهم الجدل، ومنعهم من العمل.
وإشكالية السلطة أنها قائمة ما قامت السماوات والأرض، وكيف يتصور العقلاء غيابها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية، والتأمير مطلوب بين الرجلين في السفر، و(البيعة) بإزاء (العقد الاجتماعي) أخذ الحق، وأداء الواجب، وما لم تحفظ الجماعة التوازن بين الحقوق والواجبات، حل التسلط محل السلطات. ومع ذلك فإن الإنسان العقال يفضل جور النظام على حالة (اللانظام)، والمصير إلى الفوضوية مرده الجدل حول طبيعة السلطة ومشروعيتها.
وأيا ما كان الفهم والتصور، وأسلوب الأداء على ضوء ذلك، فإن الحرية ستظل إشكالية العصر في غيابها الكلي، أو الجزئي، أو في حضورها النظري أو الفعلي. واستدعاؤها والخوض في خواصها ومحققاتها مدعاة لمزيد من تضارب الآراء، وما لم يكن الخائضون في لججها على بينة من أمرهم فإنهم لا يزيدون النظارة إلا خبالاً.
والمتابع لفيوض القول والقول المضاد تروعه النقائض، ويزعجه تباين الآراء، ومرد ذلك كله إلى فهم (الحرية) مفصولة من أجوائها وحواضنها، فهي مع (الديموقراطية) ذات سمة لا تكون كما هي مع (الديكتاتورية)، وهي في الإسلام تختلف باختلاف العلاقة. فالإنسان بوصفه طرفاً يكون بإزاء مؤسسة سياسية أو مجتمعية أو دينية، ولكل علاقة حدودها ومجالاتها. والحرية بإزاء الإنسان تختلف باختلاف الحضارات. والخليون يتصورونها واحدة في ظل الحضارات كافة والمجتمعات والوقوعات، إن الحلقة المفقودة في الجدل فقد المحقق للحرية أو تغييبه، فلا حرية دون عقد مهيمن، والعقد مع وقف التنفيذ إجهاض للحرية، وإغراء بمزيد من المقاومة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:56 PM   #31
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
من بعث الحرية من مرقدها ..!! (2 -2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ولقد يظنُّ البعض أنّ استدعاء الحرية وتداولها من لدن مفكِّري الغرب دون غيرهم، وأنّهم وحدهم الذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، ومجال بحث معرفيٍّ لتحرير مسائلها وتأصيل قواعدها، وأنّ الأمة الإسلامية لم تتطرّق لها، ولم تمارسها إلاّ في أضيق نطاق، وبشكل متسطّح، ولقد سيء للتاريخ السياسي الإسلامي، وقصرت فترته المضيئة على عهديْ (أبي بكر) و(عمر)، وتولّى تناقل هذه الفرية طائفة من الحركيين الإسلاميين، وكان (سيد قطب) - رحمه الله - ممن أشاع ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، الأمر الذي حدا بالعلاّمة (محمود محمد شاكر) إلى الرد القاسي عليه، حيث عدَّ هذا الحكم الجائر جناية على التاريخ السياسي الإسلامي. ومثلما قيل عن (النظرية الأخلاقية)، وإخفاق الحضارة الإسلامية في إنجاز نظرية أخلاقية مماثلة لما أنجزه الغرب، قيل عن (الحرية)، وعن فقر الحضارة الإسلامية في استيعابها بوصفها نظرية. والعودة إلى الدفاتر القديمة تؤكِّد أنّ المبهورين بحضارة الغرب كما (الاسطوانة المشروخة)، فعند كلِّ ظاهرة يُبدئون الاتهام ويعيدونه، ويمعنون في جلد الذات، والتهوين من الحضارة الإسلامية ورموزها، والمزعج أنّ منشأ الافتراءات قِسْمة بين (مستشرقين) متحاملين، و(مستغربين) غسلت أدمغتهم، وطمست عيونهم.
والمتوقّع ممن عاداك في الدين أن يفتري عليك الكذب، وأن يشيع عنك قالة السوء، والمستنكر أن يتولى كبر ذلك الإفك أبناء الحضارة، فهم إمّا مفترون للكذب، أو مشيعون للإفك، ومشايعون لماكر متربِّص، وما أضر بهم إلاّ أنَّهم مروِّجون لسحت الآراء. ولو أنّهم إذ سمعوا البهتان، عادوا إلى تراثهم يسائلونه، لكان خيراً لهم، ويكفي لإسقاط المفتريات الرجوع إلى علم الكلام، وموسوعات الملل والنِّحل عند (ابن حزم) و(الشهرستاني)، وتعقُّب منجزات أقسام العقائد والمذاهب المعاصرة في جامعات العالم الإسلامي، وبخاصة (جامعة الأزهر) و(جامعة الإمام)، إضافة إلى قراءة ما كُتب في الفكر السياسي الإسلامي عند (ابن تيمية) و(ابن خلدون) و(الماوردي) و(الغزالي)، وعشرات غيرهم، ولو أنّهم فعلوا ذلك، واصطحبوا من المصطلحات الإسلامية ما يغني عن الاستجداء: - (فالليث ليس يسيغ إلاّ ما افترس) لكان خيراً لهم.
وليس غريباً أن تعتورَ الأمّة سهامُ الأعداء، ولكن الغريب أن يكون التشكيك والتخذيل من الأقربين، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس، وأخوَف ما نخاف أن تصدق فينا مقولة: - (حصوننا مهدّدة من الداخل)، ولا يكون الأمر كذلك حتى تكون التبعيّة والغثائيّة على أشدّهما، وحتى تسْتشري قابلية نوال الآخر، ولقد أدْركَتْ طائفة من المفكرين الإسلاميين ما يشكِّله المستغربون من خطورة على الثوابت، فكان التحرُّف للمواجهة، والتحيُّز للفرقة الناجية، وهذه المواجهات المتواصلة منذ (التآمر السبئي)، كشفت ما يروجِّه (الفلاسفة) و(المتكلمون) و(المتعلمنون) و(المتحدثنون) و(المتغربنون)، وما يتلقّاه التبعيُّون من دعم ومباركة من قوى البغي، تبدوان تارة، وتختفيان أخرى، وتلك من ظواهر المكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله، فكم من طابور في الداخل يفوق بأثره السيئ طوابير العدو الأربعة خارج الأسوار، ولقد عرف في التاريخ الوسيط مصطلح (الطابور الخامس).
ولكيلا يظلّ الوهم والتوهيم قائمين حول غياب (الحرية) في التراث الإسلامي، نشير إلى تداولها في وقت مبكر، استجابة لمتطلَّبات التجمُّع الإنساني، إذ تنازعتها معارف شتى، كالأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومقتضيات البيعة، وتداول السُّلطة وحقوق المستأمنين والأقليّات وسائر وجوه الحياة. وكان منشأ المشكلة مرتبطاً بإرادة الإنسان، هل هو مخيَّر أم مسيَّر؟ وهل يشاء بإرادة حرّة أم بمشيئة محكومة بمشيئة ربّانية؟ {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} الإنسان: 30). وربط المشيئة وخلق أفعال العباد بالخالق، هل تسقط المسؤولية؟.
وحجّة القائل إنّه قتل بقدر الله، أُسقطت بشرعية القصاص، لأنّ القصاص ينفذ بقدر الله. ونشوء مذهب (الجبرية) و(القدرية) مدفوع بعقلنة الجدل حول إرادة الإنسان، وجاء جدل (المرجئة) و(المعتزلة) ومفهوم (العدل)، وهو أصل من الأصول الخمسة عند المعتزلة معمِّقاً الخلاف، ومدار ذلك كلّه على (حرية الإرادة)، وتنزيه الخالق من خلق الشر والمعاصي على حدِّ قولهم، وكيف يكون خلق للأفعال والأقوال، ثم يكون رقيب عتيد، وحساب شديد، ومثل هذا الجدل العقلي المحيِّر، لا يحسمه إلاّ الإيمان. فالقضاء والقدر سرُّ الله في خلقه، وحسم الخلاف حوله عقلاً غير ممكن، وعلينا استذكار قصة موسى والعبد الصالح.
وهنا أود أن أشير إلى الجذور الخفيّة لبعض الظواهر المعاصرة ذات العلاقة بتنوُّعات (الحرية) وتحوُلاتها. ومثلما ربط البعض جوانب اللقاء والافتراق بين (البنيوية) و(نظرية النظم) عند (الجرجاني)، فقد نجد أنّه من السهل التماس الجذور الفلسفية ل(البنيوية) وذلك باستدعاء ما ذهب إليه (ديموقريطس) و(أبيقور) من (الميكنة الذرية للكون)، إذاً هناك ترابط وتناسل بين المذاهب المادية والعقلية، فكلُّ مذهب ينسل من مذهب سالف، ليعمق التيه والضلال.
ومؤدَّى القول ب(الميكنة الذرية) أنّ الحركة والتغيُّر وليدة التقاء الذرات وانفصالها، ولم أتذكّر بالضبط تفاصيل ما قاله (فؤاد زكريا) عن الجذور الفلسفية ل(البنيوية) في دراسة سبق أن استوعبتها، وأحلت إليها، ولست أذكر الآن تفاصيلها، ولا النتائج التي توصّل إليها الباحث، لغياب الكتاب في غياهب المكتبة. وغبش التذكُّر يقترب مما أرمي إليه. وهذه (الميكانيكية) لا إرادية في نظر (ديموقريطس) غير أنّ (أبيقور) حاول أن يلتمّس شيئاً من (الحرية)، وذلك بإمكانية الانحراف الذري، الذي يوفِّر قدراً من الحرية على حد تصوُّره.
وما دمنا في ظلال الماديات الصرفة، فإنّ السؤال الأكثر تعقيداً هو: هل هذا الانحراف الافتراضي آلي أم إرادي؟ وحينئذ: ما القدر من القصد والإرادة التي يتوفّر عليها الإنسان بوصفه مجموعة من الذرات المتحركة ميكانيكاً وبانتظام على حد زعمهم؟ على أنّ تلك المحاولات الغبية، يُراد منها تخليص الكون من (العلّة العلية)، التي عالجها (مارتن هيدغر) في كتابه (مبدأ العلّة)، لقد عدت إلى حقلي: - (الله) و(الإنسان) في مكتبتي، أملاً في استشراف أمداء الحرية، فأصبت بالدوار، وما ازدادت المسألة عندي إلاّ غموضاً، وتعقيداً، وإيماناً، وتصديقاً لموقف السلف الصالح، من خلق أفعال العباد، و(نهاية إقدام العقول عقال)، وكم من عبقري لا يُفري فريه صاح في نهاية النفق: - اللهم إيماناً كأيمان العجائز.
وحتى الذين تخلَّصوا من (الميكانيكية) العمياء، تورّطوا في (الجبر اللاهوتي) وجل البحوث العلمية البحتة ربطت الكون بقوانين لا تتبدّل ولا تتحوّل. وهناك فرق بين السنن الكونية التي أشار إليها القرآن الكريم و(الحتمية العلمية) التي يراها الفلاسفة الماديون. والارتباط بالقوانين العلمية كما هو في الفلسفة الوضعية تسلب الإنسان حريته وإرادته. لقد بلغ التيه بالفكر الغربي إلى القول بموت (الميتافيزيقا)، وللجوء إلى الفلسفة الوضعية بشقّيها. ولأنّ بعض مفكري الأمّة العربية مسكونون بقابلية التبعية فقد ألّف (زكي نجيب محمود) كتابه (خرافة الميتافيزيقا)، ثم خفّف من الحدّة ب(الموقف من الميتافيزيقا)، وعلى كلِّ الأحوال فإنّ الحرية تشكِّل المحور الرئيس في جدل الفلاسفة والمفكرين والمتكلِّمين، ولم يكن فلاسفة الإسلام أقل شأناً من نظرائهم، بل أكاد أقطع بأنّهم الذين أمدّوا الغرب بأصول المعارف.
والفلاسفة الذين أوغلوا في استكناه الحرية وأمدائها يريدون للإنسان أن يكون حرّاً في إرادته، وهنا يقعون في الحرج في كلتا الحالتين: حالة الاستقلال المادي، وحالة العلّة العلية. والمفكرون والفلاسفة والمتكلمون في الفكر الإسلامي تفرّقت بهم السبل في (مباحث الحرية)، ومن ثم نشأت الملل والنِّحل المدفوعة بحرية التفكير والتعبير والتأويل، ولقد حسمت حرية التفكير بآية {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، المحددة لآية {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } (البقرة: 284)، وكلُّ طائفة تنشئ لعقيدتها (نظرية معرفية)، تسهم في تحقيق مرادها، ومثلما يرى البعض أنّ لإنسان مبرمج مادياً، فإنّه عند آخرين مبرمج عملياً، والدخول على شفرته كما الدخول على سائر الشفرات المادية يؤدي إلى الحيدة به عن المسار المرسوم، ولمّا لم نكن بصدد الفصل بين المتخاصمين، والترجيح بين الأقوال، فإنّنا نشير إلى مبلغ علمائنا في هذا الشأن، واتساع حضارتنا لمباحث الحرية على كلِّ الوجوه، وكلُّ ما نتطلّع إليه أن نقول للذين تزدري أعينهم ما نحن عليه: - (إن بني عمك فيهم رماح). وستظلُّ الحرية مدار الجدل الفكري، وهي كائنة قبل أن يكون الغرب شيئاً مذكوراً، وحين كان، وصل بالحرية مشارف الفوضوية، ثم عاد بها إلى منابعها الأولى، ولم يزل يتذبذب بمفاهيمها، والناس من ورائه يبتدرونها، كما لو كانت من وحي السماء.
ومشكلة الإرادة في علم الكلام امتداد لمشكلة الحرية التي عالجها عدد من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين. وتقصاها (زكريا إبراهيم) و(عبدالله العروي) وآخرون، ولكن المسافة بين البحث العقلي الخالص والبحث العقلي المحيل لنصوص معتبرة شاسعة جداً. ولسنا بحاجة إلى أن نجرّ الحديث إلى تلك المتاهات، ولكننا نريد فقط أن نثبت أنّ مشكلة الحرية أزلية وقائمة، وما المنجز الغربي إلاّ حلقة في سلسلة طويلة، وهو تابع للمنجز العربي، وليس سابقاً عليه، بحيث نتصوّر أنّنا عالة عليهم، كما يظن المستغربون، وفضل أولئك في تحويل الظاهرة إلى نظرية، وما من قيمة معرفية إلاّ ونجد في تراثنا شذرات لا تغني عن الاستفادة، ولكنها تحول دون الزهادة بما أفاء الله به على عباده.
ومفكرو الإسلام أدلوا بدلوهم مع سائر الدلاء، وليسوا بأقل الناس وعياً، بحيث تحال النتائج إلى الغرب، وبحوثهم العويصة في قضية (القضاء والقدر) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرية، وما نقصد الحديث عنه لا يتعلّق بحرية القصد والإرادة والبحث في (العلّةش العلية) المنفصلة عن المادة، وإنّما يتعلّق بالحرية في إزاء السلطات التشريعية والتنفيذية والدينية، أو قل بإزاء السلطة السياسية، ولقد كان ل(الثورة الفرنسية)، ولما تلاها من ثورات دموية، أثرها في تكريس الحديث عن (الحرية السياسية)، فالجدل السياسي غير الجدل الفكري، وإن التقيا في النهاية عند نقطة الحق الإلهي، والحق السياسي، إذ إنّ المفكر بإزاء نظام ربّاني مستمد من الحاكمية والتحكُّم الربّاني، ولارتباطه بكلِّ هذه السلطات، فإنّه يريد أن يعرف حدود الحرية.
ولأنّ لكل حضارة موقفاً من الحرية، فإنّ المفكرين الواعين يتعاملون معها وفق ضوابط الحضارة وحدودها، والذين يحلو لهم بعث الحرية من مرقدها، وأخذها تنظيراً وتطبيقاً دون قيد، لا يعرفون حدود ما أنزل الله، لا يصطحبون تلك الضوابط، وذلك مكمن الإشكالية. وغياب الضوابط تغيب معه الخصوصية والسِّمة، ولكيلا ينفلت الأمر، يجب أن تمتد الأيدي إلى الظاهرة والشرط، وتفادي هيمنة الحضارة المادية.
وحين لا يجد التبعيُّون بدّاً من الاستسلام للمهيمن، فإنّهم يظنون أنّ الحرية بمفاهيمها وحدودها ومجالاتها إنّما هي حرية غربية، وأنّ ما سوى حضارة الغرب من حضارات عالة على الغرب ومنجزه الفكري والسياسي. إنّ تصوُّر الحرية مفردة من مفردات (الديموقراطية) أو (الليبرالية)، إجهاض لمفاهيم أخرى، ومن حقِّ الحضارة الإسلامية أن تطرح مشروعها السياسي، مصحوباً بأهم مفرداته، وهو (الحرية)، وألاّ يكون للمؤمن خِيَرةٌ، فهو مطالب بالتسليم { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(( لأحزاب: 36).
والحديث عن الحرية بوصفها شعاراً ثورياً، كالحديث عنها بوصفها محوراً معرفياً أو فلسفياً، وإذا كانت مطلقة في ظلال (الديموقراطية) و(الليبرالية)، فإنّها مقيّدة في ظلال الإسلام. وسلبيات الإطلاق تقابل بإيجابيات الضوابط، وإذ تقطع كلّ الحضارات بأنّ الحياة نظام، فإنّ الحرية بدون ضوابط كالحياة بدون نظام، وإذ رتب الغرب شؤونه على مقتضيات (الديموقراطية)، فإنّ على الأمة الإسلامية أن ترتب شؤونها على مقتضيات الإسلام. والغرب نجح بصدقه والتزامه، واستجابته لمؤسساته، ولن تنجح الأمّة الإسلامية إلاّ بذات الصدق، والالتزام والاستجابة للمؤسسات التي تحقِّق مقتضيات الإسلام ومقاصده، وقد تكون لنا عودة إلى بحر الحرية اللجيِّ، في مجال الفكر السياسي الإسلامي، وعلم الكلام، ليعرف المستغربون، أنّ من قصد بحر الإسلام استقلّ سواقي غيره.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:59 PM   #32
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
المأزق .. التصوُّر والخروج
د. حسن بن فهد الهويمل


من البدهيّات أن نقول: إنّ العالم العربي يعيش في مأزق، منذ أن فتح العسكر ثكناتهم للإغارة على الأُمّة باسم الثورة، ومنذ أن اتخذ المستكبر أرض العروبة مسرحاً للعبه ومختبراً لتجريب أسلحته. وهي مآزق من جهات شتى صنعها اللاعبون، وروَّضها الإعلاميون، وباركها الانقلابيون. ومن البدهيّات أيضاً كون المؤسسات: السياسية والفكرية والدينية والطائفية والحزبية تعيش في أزمة، بل أزمات خانقة، وهَنَت معها عزائمها، وخارت قواها، واستفحلت مشاكلها. ولكي نتفادى الوقوع في التخذيل والتيئيس والإحباط وجلد الذات، نفتح بصيص الأمل للنفاذ من موبقات المآزق، والانعتاق من غوائل الأزمات، فالسياسة (فن الممكن)، والثبات على الحال محال، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
ومع استحكام الأمور، وضيق الصدور، فإنّ أملنا بالانفراج. وحين نستدعي مؤشرات المآزق والأزمات، لا نكتفي بمثولها الحسِّي، فهي حاضرة في الذِّهن، والقول فيها من الكلام المعاد، وإنّما نريد أن يعرف المتفائلون الغافلون والقانطون اليائسون حجم الموبقات، وسمة الضالعين، والخطوة الأولى في طريق الحل. ولا شكّ أنّ تشخيص الداء بداية الخلوص من عقابيل المرض. ولو كان بإمكان أحد أن يضمن السلامة بإغلاق بابه على نفسه، لكان من السهل تفادي كثير من الفتن، ولكن المآزق كالأوبئة تلقي بها الريح في أماكن القوم لتعم بها البلوى.
ومن الناس من يعجبك قوله، وهو لا يريد إلاّ الشماتة والتشفِّي، وكأنّه في معزل يعصمه من الطوفان. ومنهم من يكتم استياءه كمؤمن آل فرعون، ويلوذ بالفرار تحت وطأة اليأس والقنوط. ومهما تلبَّسنا بالمسؤوليات أو تجرَّدنا من التبعات فإنّ كلَّ عاقل قادر عليه كفل من المسؤولية، وبيده طرف من الواجب. ومن فكَّر بالفرار أو الاعتزال عاش الوَهَن، وتحمَّل الثَّمن، وما الناس إلاّ كالمستهمين على السفينة، إن نجت نجوا جميعاً، وإن غرقت غرقوا جميعاً، المحسن والمسيء سواء، وإن بُعثوا على نيّاتهم. فاليد الجماعية أوكت، والفم الجمعي نفخ، ولا مجال للبحث عن المشاجب، أو التخلُّص من تأنيب الضمائر بالتنصُّل.
إنّ بداية الحل أن نعرف ونعترف ونتعرَّف: نعرف الخطأ أو التقصير، ونعترف بأنّنا طرف في الفعل السلبي، ونتعرَّف على الحلول الممكنة. والمأزق العربي لم يكن وليد الساعة، بحيث يكون الشاهد مداناً، والغائب بريئاً. إنّ هناك تراكمات من التصرُّفات، توارثتها الأجيال، ولم تتردَّد في الإضافة عليها، والارتكاس في حمأتها. وكلُّ جيل يتّهم من سَلَف، ويورث الحطام من خَلَف، وما علمت أنّ جيلاً احتمل الوضع، وفكَّر في الخلاص، وأخذ بجدولة الحلول، كما تجدول الديون. والتحرّف للحل المرحلي والتحيُّز للفرقة الناجية بعيداً عن الادعاء والتنصُّل هو السبيل القاصد. وعندما لا تتيسّر الخطوة الأولى في طريق الحل، فلا أقل من إيقاف التدهور، والمصير إلى تشخيص الداء، وتقويم الإمكانيات، وعندئذ تكون الخطوة الواثقة في طريق الحل.
إنّ الحاجة ماسة إلى تفكيك المشاكل للتشخيص لا للمحاكمة، وللعلاج لا للتخلُّص، ثم التفكير في منهج الحل وآليته، وخطة العمل والتقدير والتوقيت، وإعادة الثقة بالنفس وبالإمكانيات. إنّ في وسع أيِّ مقتدر أن يبدأ التفكير، وإشاعة ما يهتدي إليه. وإذْ لا نحبذ المبادرات الفردية فإنّ التعويل على المؤسسات القائمة لا يعني أنّ بالإمكان حسم المشاكل بين عشيّة وضحاها. إنّ أخطر ما تعانيه مؤسسات المجتمع المدني نزع الثقة منها، وتعمُّد المخالفة لها، وقديماً قيل: (لا رأي لمن لا يُطاع). ولن يبلغ أيُّ عمل تمامه (إذا كنت تبنيه وآخر يهدم). إنّ الخطوة الأولى أن تقوم المؤسسة المدنية شكلاً ومضموناً، بمعنى أن تمارس دورها مدعومة بثقة المواطن وحسن ظنه بها. وحين تقوم الثقة مقام الشك، والطاعةُ مقام المخالفة، يجب أن نعرف أنّ الحل الفوري والنجاح الناجز ليسا ثمناً فورياً للثقة والطاعة، وأنّ الخطأ العارض ليس مشرعاً للتمرُّد والعصيان ونزع الثقة. وإذاً لا بدّ من هيمنة النظام، وتفعيل المؤسسة، وتقويم الأداء، والشفافية والمساءلة والنقد. وبدون ذلك ستظلُّ المآزق والأزمات لوازم في أعناق الأُمّة، كما الطائر في عنق الإنسان.
والمتيقّن أنّ المقترفات ليست لها بداية محدّدة، ولا فئة معيّنة، ولهذا لا يمكن أن نضع نهاية محدّدة لتلافيها. والفريضة الغائبة هي البداية الواثقة، وعندئذ يكون الرِّهان على التصفية للمبادئ، والتربية للفاعلين، وتحييد المشاكل. وسواء كانت المآزق من صُنع القوى الخارجية، أو من صُنع الأنظمة الداخلية، أو من صُنع الأفراد أو المنظّمات، فإنّ التفكير في الخروج لا يكون في الشقاق وتبادل الاتهامات، ولا يكون بالأثرة والاستبداد، وتمسُّك كلُّ طائفة بحلِّها المرتبط بحاجاتها الآنية الذاتية. إنّ لكلِّ (قطر) ظروفه وطبيعته وإمكانياته، وليس من السهل أن يتخلّى عن مثمناته، كشرط للخروج من المأزق. إنّ على قادة الفكر وزعماء الإصلاح وروّاد النهضة أن يعرفوا أنّ الحل المرحلي والجزئي والإقليمي بداية متواضعة ومقبولة للخروج من نفق الأزمات، وإنّ معوّقات الحل تكمن في المثاليات والعنتريات والإسقاطات وتصدير المبادئ وفرض الأنظمة. إنّنا لكي نواجه قدرنا بأسلوب حضاري بوصفنا أُمّة عربية كما الجسم وتداعياته، علينا أن نعتمد الشفافية والمصداقية والقبول بالتعدُّدية والتنوُّع، وتقويم الأداء، والتعرُّف على الإمكانيات المتاحة، وقدرات الآخر المتربّص، وتفادي استفزاز الرأي العام، أو المساس بمسلّماته. وإن كان ثمة خطأ في المسلّمات فإنّ علينا أن نستلّها كما الشعرة من العجين، لا أن نجتثّها بعنف وصلف وبدون مبالاة.
والإشكالية الأكثر تعقيداً أنّه حين يجمع أهل الحل والعقد في كلِّ أنحاء الوطن العربي على أنّ هناك مأزقاً وأزمة تتجاذبهما تيارات وأحزاب يكون الاختلاف حول أساليب الحل. فكلُّ طائفة أو تيار أو حزب له رؤية في طبيعة الأزمة والمأزق، بل كلُّ مرحلة زمانية لا تتجاوز العقد من الزمن لها أولوياتها وقضاياها، ولو نظرنا إلى كلِّ حقبة لتصوّرنا أنّنا أمم داخل أُمّة، وهذا التنوُّع والتباين يلقي بظلاله على الحلول المرحلية أو الجذرية. ولا شكّ أنّ الاختلاف الفكري والسياسي والطائفي والمرحلي بحد ذاته يشكِّل تأزيماً للأزمة، وتعميقاً للمأزق. والبداية الصحيحة أن نفكر بإشكالية الاختلاف، وألاّ تكون عقبة في طريق الحل الشامل. ولو ضربنا مثلاً ب(قضية فلسطين) لوجدنا أنّنا جميعاً نتفق على ضرورة الحل، ولكنّنا لا نستطيع أبداً الاتفاق على أسلوب موحَّد لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي. إنّ هناك (تطبيعاً) له مستوياته ومفاهيمه، و(هرولة) مذلَّة لا مبرّر لها، واختراقات صهيونية موهنة، وقضية كالمعلّقة، كانت ولمَّا تزل مقياس الأداء، ومع أهميتها وخطورتها وأثرها السيئ الممتد من المحيط إلى الخليج، فإنّ لكلِّ قطر رؤيته، ولكلِّ زعيم خطابه، ومن ثم أصبحت القضية كما المرايا المتجاورة تكرّر ولا تنوّع.
وإذا كانت الأقطار العربية مختلفة حول نقطة البداية وأسلوب الأداء، وهذا متوقَّع، فإنّ الفصائل الفلسطينية أكثر اختلافاً، وهذا غير متوقّع. والمؤلم أنّ الاختلاف العربي - العربي يُدار باللسان، والاختلاف الفلسطيني - الفلسطيني يُدار بالسنان. ولكي نتخلَّص من هذه الإشكاليات الضاغطة لا بدّ من البحث في القواسم المشتركة وتوسيع رقعتها، والتعاذر فيما لا نستطيع تلافيه في ظلِّ الظروف القائمة. والاعتراف بالوضع المأزوم بداية الحل السليم، إنّ هناك إرادة قُطرية تختلف عن الإرادة العربية، وإرادة عربية ليست مناسبة لبعض الأقطار العربية فكلُّ قطر عربي له مصالحه الخاصة، وظروفه الخاصة، وإمكانياته الخاصة، وأخلاقياته الخاصة، وخوفه المبرّر من جيرانه، ولهذا فهو غير قادر على التخلُّص من تلك الخصوصيات المعوّقة في أكثر الأحيان، كما أنّه ليس مستجيباً للتخلُّص من الأحلاف والارتباطات. وفي ظلِّ هذه الظروف المتوهّمة في البداية، وجد كلُّ قطر نفسه مضطراً لأن يضع (الاستراتيجية) أو (التكتيك) الملائم لأوضاعه، لقد كنّا نضيق من التغريد خارج السرب، واليوم نبكي على السرب وإن غرّد خارجه أكثر من طائر. هذه الأوضاع المحبطة لم يصنعها الإنسان العربي على عينه، وإنّما قضيت في غفلة منه، لكي تتجذّر المأزقية. ولكي نتخلَّص من التملُّص، لا بدّ أن نقدِّر الظروف الخاصة، وأن نجد الحل المناسب لها. إنّ هناك دولة تملك القدرة على التعلمن والتعولم، وأخرى لا تملك ذلك، وهناك دولة تستطيع أن تدغدغ مشاعر الجماهير بسراب الديمقراطية، وأخرى لا تستطيع ذلك، وفسحة القول يملكها قطر ولا يملكها آخر، وكلُّ نظام له خطابه الذي رضيه، وتعامل من خلاله، وإذْ لا يكون إكراه في الدين، فمن الأوْلَى ألاّ يكون إكراه على التناظر. في البدء يكون (التكتيك) لإصلاح الذات نظاماً وأُمّة، ثم يكون التفكير في (الاستراتيجية) المتمثّلة بالتكتُّل ووحدة الصف والهدف، والخلطة المطلقة.
وبدون التنازلات الموزونة تدخل الأُمّة في مأزق المآزق وتأزيم الأزمة. إنّ لكلِّ قطر أزماته، فأزمات السكن والخبز والبطالة والتعليم وقضايا المرأة والمجتمع المدني، مضافة إلى الطائفية والتعدُّدية الفكرية، تختلف من قطر لآخر. وبلد ينعم بالرخاء والاستقرار والأمن يختلف عن بلد آخر تنقصه مقوّمات الحياة الكريمة. هذه المعضلات المؤرِّقة قابلة للحلحلة، وليست قابلة للحسم النهائي. نحن لا نريد الرّهان على الحلول الفورية والشاملة والحاسمة، فليس لدينا خاتم سليمان، ولا عصى موسى، ولا طب عيسى، ولا بلاغة محمد، إنّنا نعرف حجم الإمكانيات، وأضعف الأداء أن ننطلق وفْقَها مستصحبين العوائق الإقليمية والعربية، وحينئذ ستكون الخطوات متقاربة، لا نريد القفز على الحواجز، ولا الغباء، ولا التغابي في مواجهة الواقع، ولا التسابق في سرقة الأضواء الزائفة، نريد معرفة الذات بكلَِّ إمكانياتها، ومعرفة الآخر بكلِّ مكائده واقتداره. وتفادي الصراعات الجانبية بين الأقطار العربية، والصراعات المفتعلة بين الأُمّة العربية والغرب. ومتى استُهلكت الأُمّة العربية في صراعاتها الهامشية استنزفت الجهد والوقت والإمكانيات، وأتاحت الفرصة للطرف المعادي ليظفر بما يريد، وليس هناك وباءٌ يماثل الانفعال والافتعال، وليس أدلّ على ذلك من القمم العربية فهي التي تكشف المخبّأ، وتضع المتستِّرين على الخطيئات في موقف حرج، فكلُّنا أشقاء حين لا يكون لقاء.
لقد كانت هناك جامعة عربية مع ما فيها من ضعف، وغياب أو تغييب عند القضايا المصيرية أو الحساسة، وكانت مع هذا الوَهَن مبعث أمل وتفاؤل، واليوم تعدَّدت المجالس والمنظّمات والتكاملات والتكتُّلات الثنائية والثلاثية والجِهَويَّة، فدول الخليج والمغرب العربي والقارة الأفريقية، لكلِّ طائفة مجلس يوهِن المجالس الأخرى، ويفتّ في عضدها، مع أنّها مجالس لا تقدِّم ولا تؤخِّر، وكلٌّ يعمل على شاكلته، ويتغنّى بليلاه، والقرارات والتوصيات المطمئنة المبهجة قرارات للاستهلاك الإعلامي. هذا التعدُّد في الأحْلاف والمنظّمات قطع السبيل على تكامل عربي من المحيط إلى الخليج، وكلُّ تكتُّل ثنائي أو ثلاثي أو رباعي يقدِّم بين يديْ تشكُّله كلمات المجاملة والتطمين، غير أنّه يفقد ذاته في صخب التنازع.
لقد أدرك الاستكبار الغربي أنّ العزة العربية في الاعتصام وعدم التفرُّق الحسِّي والمعنوي والديني والدنيوي والسياسي والاجتماعي، ومن ثم حاول أن يخلق بالقوة مجتمعات عربية من أنواع شتى، بحيث نوّع في أشكال الحكم، وفي الدساتير والأنظمة والقضاء، وفي المناهج التعليمية، وفي الأبعاد الاجتماعية، وفي المستويات الاقتصادية، وفي الهموم والتطلُّعات، حتى اللهجات والأزياء وأنماط الحياة، وهو جاد في افتعال ملفّات حزبية وطائفية وعرقية وإقليمية واقتصادية وحدودية، يفتحها متى شاء، ويرفعها متى شاء، وله طابوره الخامس الذي يحرِّك الملفّات بأيدٍ وطنية.
ونحن إذْ نتّفق على التسليم بالمأزقية والمأزومية، فإنّنا نأنف من تحمُّل المسؤولية والاعتراف بقابلية الخنوع والخضوع، ثم لا نجد أكثرنا متفقاً في التوقيت والتقدير وأساليب الحل، وبعض المتسوّدين غارق في الادعاء، فهو القادر على حل المشاكل بمجرّد الأخذ بفلسفة ثورته وتطبيق نظريته الثالثة، وهذا الأنموذج الحي يتكرّر بأقنعة وملابس أخرى.
إنّ تجربة الانقلابات العسكرية تجربة خائبة، أتت على الحرث والنسل، وحوّلت الأنظمة من حكومات مدنية إلى ثكنات عسكرية، استبدلت الجدل بالتي هي أحسن بصمت الأفواه ودوي الفوهات، وفوق ذلك كلّه تعمَّد العسكريون مخادعة أنفسهم وشعوبهم بأنّهم يمتلكون شرعة ومنهاجاً، وأنّ مبادئهم خير بديل لما هو قائم، وأنّ عليهم أن يصدِّروا مبادئ ثوراتهم، ولكي يمهِّدوا الطريق أمام دبّاباتهم وعرباتهم العسكرية عمدوا إلى تخوين الحكومات القائمة، ووصفها بالعمالة والرجعية والملكية المتعفّنة، وإلى زرع خلايا لزعزعة الجبهات الداخلية، وإفساد العلاقة بينها وبين السلطة الشرعية. وليس أحد من الرّاصدين للأحداث ينكر شيئاً من هذا، حتى الإبداع الشعري والسّردي واكب الخطاب الثوري، ومهّد له الطريق، وخدّر الجماهير النائمة على معسول الكلام، ولقد أحسن الشاعر العراقي وصف الحالة المزرية للوعود الكاذبة بقوله يخاطب جياع الشعب:




نامي على الخطب الطوا
ل من الغطارفة العظام
نامي على زَبَدْ الوعود
يداف في عسل الكلام
نامي على مهد الأذى
وتوسدي خد الرغام


والذي يقرأ ديوان (الجواهري) بمجلّداته الأربعة الضخام يرصد للتحوّلات المذلَّة، ويقف على الانكسارات والإحباطات، فالقصائد التي استقبل بها (الجواهري) انتفاضات الشعوب العربية المستعمرة تجسِّد الكبرياء العربية، والأنفة من الذّل والمهانة. وقصائد الغربة والشتات تجسِّد خريف الكبرياء. وبعد هذه العقود العجاف لا بدّ من مبادرات تنهي زمن التيه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:00 PM   #33
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حبُّ الوطن .. المفهوم والتفهيم..! «1-2»
د. حسن بن فهد الهويمل


من الممارسات الممتعة التي كنا قد ألفناها في طفولتنا المبكِّرة، وسلَّمنا لها، لما لها من فوائد، ولما فيها من لطائف: (تَفَقُّد المصلين) بعد صلاة الصبح، ومتابعة الذين يتكرِّر منهم الغياب. وتسميع (سؤال منكر ونكير) من عوامِّ المصلين على الإمام. فالذين لا تفوتهم صلاة الفجر جماعة، يتندَّرون على لداتهم، حين يُسألون، أو حين يُضربون، أو حين يُعاقبون بمصادرة شيء من ملابسهم. والذين يحفظون مبادئ الدين، يتجمّعون للتندُّر على من لا يحفظونها، أو يرتبكون حين يسألهم الإمام الأسئلة البدهية المعروفة:
- من ربك؟
- من نبيك؟
- وما دينك؟
والعوام يُرتج عليهم، وإن كانوا يعرفون (الرب والنبي والدين)، حتى أنّ البعض منهم يبلغ به الارتباك حداً يطلب معه الإرشاد. فإذا قال له الإمام:
- من ربك؟
- قال المأموم: أرشدني عفا الله عنك.
- فيقول له الإمام: قل ربي الله.
- فيقول: قل ربي الله.
- فيقول له الإمام: قلها أنت.
- فيقول المأموم: قلها أنت.
وقد يأخذه الحمق فيصيح بالمأموم:
- : قم لا ألهمك الله رشدك.
- فيصيح المأموم: قم لا ألهمك الله رشدك.
متصوِّراً أنّ هذا هو ما يحتاجه الميت في قبره. وقد يقع قريباً من ذلك مع (المطوفين). والمأموم يعرف بالفطرة والمعايشة ذلك كله. ولكنه حين يفاجأ بالبدهيات، يتصوّر أنّ وراء الأمر ما وراءه، وإنّ المعهود الذهني لا يكفي للإجابة. وكأنيِّ بهذا العامِّي وأمثاله لو سمع لغط القوم حول المواطنة، لاضطربت عنده المفاهيم، وحَسِب أنّ للوطنية مفهوماً جديداً، لم يعهده من قبل. نعم هناك اضطراب في المفاهيم، وتباين في الآراء، وتفاوت في الأداء، واستفحال في (الأُممية)، وتململ حول مفهوم الدولة وتعويلها. ذلك الحراك كلُّه لا تجهضه ردود الأفعال، وإنّما تروّض شوارده بتثبيت المؤسسة الدينية، وتستدرك شطحاته بتأصيل المؤسسة التربوية، وتطرد غربته بإشاعة المؤسسات الإعلامية.
فالحديث المتقحم عن (حب الوطن) وممارسة الحشوية، قد يثيران تساؤلات التخوُّف وكلمات التندُّر في آن. ومتى اضطربت المفاهيم حول المواطنة، أو مسمَّى الدولة، أو ضَعف الفعل وقلَّ الولاء، وجب تشخيص الداء أولاً واستجلاء الأسباب، قبل تلقين الولاء. فالناس لا يختلفون حول الحب، لأنّه جِبِلَّة، ولكنهم يتفاوتون في إجراءات التفعيل والأداء، وتحديد السمة والدافع بين الدينية، والقومية، والقطرية، والأُممية. وقد تضعف نفوس طائفة من المواطنين فيؤثرون العاجلة، ويتهافتون على لعاعات الدنيا، كالمرتشين والمطففين والغشاشين وسراق الوقت ومقلصي الجهد. أمّا الذين تخطفهم دعاة السوء من الشباب، أو الذين استحوذ عليهم اللاعبون المحترفون، فليست إشكاليتهم في حب الوطن أو كرهه، ولكنها في تكريس المفاهيم الخاطئة على حين غرة أو غفلة من حراس الثغور، وفي وقوعهم فرائس لذوي النوايا السيئة، أو أنّهم من فلول الُّلعب السياسية المتفلِّتين على الاحتواء. ولقد أدرك (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه الفهم الخاطئ للدين عند خصومه الذين تقرَّبوا إلى الله بقتله، وقال: إنّهم من النار فرّوا. وإشكالية المشاكل في كيفية أطرهم على الحق، وصدِّهم عن الإيغال في الدين بدون رفق، وإنقاذهم من التنطُّع في الدين، والمروق منه كما السهم يمرق من الرمية. وإشكالية الوطن تنبعث من ثلاث فئات: من الموغلين في الدين كما أغيلمة قريش. ومن المنتمين إلى أساطين الُّلعب السياسية دون وعي. ومن المتّسمين بالإسلام مع وقف التنفيذ، على حد: (قالت الأعراب آمنّا ....). وبعض تلك الظواهر لا تُعالَج بالممارسات الانفعالية، ولا بالتلقين، لأنّ الموغل، والمنتمي، والمتسمي، يمارس كلُّ واحد خطيئته بقناعة. وليس هو باحثاً عن الحق. والمنقب في صفحات التاريخ الحديث تروعه قوافل الشباب المغرّر بهم، ممن خدروا بالخطابات الانقلابية المسكونة بهواجس الثورات الأوربية، القائمة على تصفية الأنظمة والأديان، وممن أصابتهم حمَّى الشعارات الجوفاء، يوم أن كانت أوطانهم فريسة الأسلحة المشتراة بخبز الجياع وعرق الكادحين. حتى لقد صار الوطن يوم ذاك وثناً جاهلياً، كما العجوة التي يعبدها الجاهلي، حتى إذا جاع أكلها، أو كما الحجر الذي تبول عليه الثعالب. وحين تثار قضايا الحب، تتداخل المفاهيم حول حقيقة (الحب) ومقاصده. ومخزون الأذهان من الخطابات الثورية قد يَحمل على تقويل الصادقين المتحمِّسين من أجل حمل الكافة على الحب الإيجابي ما لم يقولوا. وهروباً من التوثين الثوري، تستيقظ مفاهيم الولاء والبراء، وتؤخذ بغير حقها، ثم تكون فرصة للمغرضين والمزايدين.
و(الحب) جِبِلَّة، لا يُسأل عن كمونها، وإنّما يُسال عن توظيفها {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} «آل عمران: 31». والمحب لا يتشكَّل حبه بالتلقين، وإنّما ينمو كما البذرة بالمعايشة والقدوة والتربية السليمة، ويتأصَّل بتمتُّع الإنسان بكافة حقوقه، ولهذا قال الشاعر العربي: (وما حب الديار شغفن قلبي)، فالمواطنة في النهاية (مقايضة). فالإنسان يُولَد على الفطرة، ويُولد معه حب فطري جِبِلِّي، يميل به صوب ثدي الأم وحضنها، ثم ينمو هذا الحب، ويتحوَّل من الفطري الخالص إلى الفطري والكسبي، ويمتد من الأم إلى الأب، ومنهما إلى أشياء كثيرة، حتى يمر الطفل بما يُعرف ب(الاستقطاب حول الذات).
ولقد اختلف الفلاسفة والنفسيون والعلماء حول حدود الحب ومجالاته، كما اختلفوا في التفريق بين (الحب الجِبِلِّي) و(الحب الكسبي) و(الحب العقدي) المحكوم بضوابطه الشرعية. وإذ يكون من لوازم الإيمان الحب في الله، والكره في الله، فإنّ الرجل يكره الكفر والكافرين، ولكن قد يكون والداه أو أحدهما كافرين فلا يمنع إلاّ من طاعتهما في الكفر، وقد يأخذ بالرخصة، ويتزوج (كتابية) باقية على دينها، فيختلط الحب العقدي المعروف بالولاء والبراء بالحب الجِبِلِّي، وهنا يقع الحدِّيون في معضلات الحب وأنواعه، وإمكان التفريق بين حبّ في الله وحب جِبِلِّي غريزي.
ومن غبش الحب في الإسلام، أنّه يكون حباً تعبُّدياً أو حباً جِبِلِّياً. والقليل من المتعاملين من يملك القدرة على فرز الخلطة بينهما، وتحديد المحظور والمباح، ويدخل في ذلك التعظيم والاحترام وضوابطهما وصور ذلك، والجمع بين أحاديث الأمر والنهي، وتعارض القول والفعل، وإذ يكون القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء، فإنّ التماس الضابط لا يتأتّى إلاّ للراسخين في العلم. وأزمة الدول الإسلامية الملتزمة تكمن في مواجهة (البروتوكولات) الرسمية، كتنكيس الأعلام، وأيام الحداد، وتبادل التهاني في المناسبات، وأشياء يعرفها (الدبلوماسيون)، والأزمة تزداد تأزيماً حين تكون الدولة عضواً في الأُسرة الدولية بفاعلية وأهمية، فهل تساير أو تتحفَّظ؟ وهل تُعَد المسايرة داخلة في الاضطرار أو لا تكون؟، ويجب أن نعرف كيف يحترم اليهود شعائرهم (السبتية)، والتزامهم بمقتضياتها، وقيام دولتهم على نصوص توراتية، وتحميس الرأي العام الأمريكي من خلال نصوص إنجيلية، والتزامهم (السبتي) قد يخل ب(البروتوكولات) الرسمية، وما أحد عاب عليهم ذلك. وإشكاليتنا تستحكم حين لا نفرِّق بين العادات والعبادات. والبدع والمستحدثات الدنيوية. والأفكار والعقائد، وحين يتقحم القضايا من لا يعرف حدود ما أنزل الله.
والقول في الوطن والمواطنة بغير علم ولا كتاب منير يجر ألْسنة وأقلاماً إلى مزالق الفتن، وقد يعرضها لنواقض الإيمان جهلاً لا إصراراً. والكلام في (الحب الوطني) يفضي بالمتحدِّث إلى المجال والحد والمباح والمحظور، وتقليب هذه القضايا في ظروف اشتد فيها ضرب الأدلّة بعضها ببعض قد يدفع إلى سحب ملفّات ساخنة تزيد في الإشكالية بسطة. والحب المترجم بالفعل الذي جسَّده آباؤنا مع (الملك عبد العزيز)، لم يتلقّوه تلقيناً، بل شربوه مع لبن أُمهاتهم، وأحسب الأسوياء من الأبناء والأحفاد كسلفهم، وظواهر المفاهيم الخاطئة والفتاوى الحدِّية لا يجهضها إلاّ تجفيف الحواضن، وتجهيز خطاب أقوى، يسبق إلى الأدمغة الفارغة، ومادة (التربية الوطنية) وُلدت مبتسرة، ومن ثم لم تنهض بالمهمة المرجوّة. ولا أتوقّع أنّ هناك إخلالاً ظاهراً في الحب، بحيث يستدعيه البعض، وإن كان ثمة حاجة إلى تجديد مفهوم المواطنة على وجهها في النفوس المضطربة، فإنّ ذلك شأن التعليم والإعلام، وسائر المؤسسات الثقافية. وطريق ذلك في فهم الإشكالية، وتصوُّر الحل، وتقديم التطمينات بين يدي الحديث.
لقد وثَّن الثوريون (الوطن) و(اللغة)، وكانت ردّة الفعل في نفي (الوطن) وإحلال (الأُممية)، ونفي (الوحدة العربية) وانتظار ما لا يأتي من تطلُّع إلى الخلافة الإسلامية. وكلُّ تطرُّف في المفاهيم يقابله تطرُّف مناقض، وبين التطرُّفين تضيع الحقيقة، إنّ علينا تنقية الأجواء من دخن الخطابات الثورية المحيلة إلى الثورة الأُم، واعتماد خطاب إصلاحي شمولي يتفادى الذوبان والشذوذ معاً، بحيث يتعصرن ولا يتغربن.
وقد يكون من المناسب في ظل الغلو الأُممي معالجة المفاهيم حول (النزعة الأُممية) وحدود الأخوة الإسلامية، إذ لا تعارض بين الوطنية الإقليمية والأُممية الإسلامية، إذا أخذنا بحقِّهما، وفق الضوابط الشرعية، وبخاصة حين يتناغم فقه الأحكام مع فقه الواقع. ولقد عالجتُ كثيراً من هذه القضايا في كتابي (أبجديات سياسية على صور الوطن) في الفصلين الأول والثاني، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في الابتعاد عن الغلاة وحدِّياتهم الصارمة ورؤيتهم التي تشكّلت في وقت القوة أو في ظروف جهاد الدفع.
والحب بكلِّ أنواعه ومجالاته صعب وطويل سلمه، والقول فيه رجم بالغيب، ومفهومه يشكِّل عقبة في طريق الوفاق. ولقد كانت للفلاسفة تهويمات حول مفهومه، وبعض الخائضين في شأنه العقدي والجنسي والإنساني والجمالي والجلالي يحيلون إلى مقولات هلامية (لجلال الدين الرومي). و(زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحب) يحاول أن يطمئن المتلقِّي فيقول: (إنّ الحب حَلٌّ لا مشكلة وتفسير لا أحجَّية)، غير أنّ المشكلة في التمثُّل والتطبيق والمجال، وكم نرى ونسمع مقولات معسولة عن المواطنة من أُناس يخونون أماناتهم. والإسلام لا يحصر المسؤولية بل يعمِّمها (كلُّكم راعٍ) فالموظف الذي يختلس الوقت أو المال، والمواطن الذي يخالف النظام، أو يتحايل عليه، لا يكونان مواطنين أسوياء، وإذا كان الوفاء للوطن درجات، فإنّ الخيانة دركات فالمختلس للوقت أو للمال أقلُّ خيانة ممّن يقتل النفس التي حرّم الله، أو يدمِّر ثروات الوطن، وأخطر الجنايات نقض العهد، والخروج على جماعة المسلمين، وأخطر المشاكل الفراغ الدستوري، ويقظة الفتن النائمة. ومكمن الداء ليس قصراً على الفئة الضالة، ولكنها أيضاً في الفئة المقصِّرة في مواجهتها، أو الخائنة للأمانة. وما الفساد الإداري، وضعف مخرجات التعليم، والتستُّر والتحايل على الأنظمة إلاّ لون من التقصير الضائع دمه بين شرائح المجتمع.
والتساؤل القائم: هل الإنسان مجبول على الحب أم على الكره؟ ولكي نقر في الأذهان ما نود أن يحسم المشكلة نقول: لا شيء يتميَّز إلاّ بضده، بمعنى: لا نعي النور إلاّ بتجربة الظلمة، ولا نتذوَّق الصحة إلاّ بتجرُّع مرارة المرض. ولا نعرف الحب إلاّ حين نعيش الكره. فالحب ليس قائماً بذاته، إنّه ضديه بمعنى أنّ الحب للشيء لا يتحقّق إلاّ بالكره لمقابله، فأنت لا تحب شيئاً حتى تكره ضدَّه، فإذا أحببت الحياة فأنت بالحتم تكره الموت، وأنت حين تحب الله، يجب أن تمتثَّل أمره {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} «آل عمران: 31»، وجذر الحب في القرآن الكريم يدور حول (الامتثال والأداء)، وليس حول الهيام والادعاء. إذ متى كان هناك حب كان إلى جانبه كره. والذين يجنحون إلى المفاهيم (الغاندية)، ويتوسّعون في مفهوم (التسامح) كما هو عند (جودت سعيد)، يذرون المقابل كالمعلقة، وعيب المشهد الثقافي أنّه يفصل الحب عن مقتضاه القائم على (الامتثال والأداء)، ولغط المختصمين توجّهه تقلُّبات الطقس السياسي، حتى لا يَجد المرء حرجاً من مناقضة نفسه بين عشيَّة وضحاها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:01 PM   #34
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حب الوطن.. المفهوم والتفهيم..! 2-2
د. حسين بن فهد الهويمل


والحب والكره صفتان قد يستقرّان شعوراً، ولا يتحقّقان فعلاً. كأن يحب الرجل (أُمَّه)، ولكنه لا يبادرها بما يسعدها، ويكره الإنسان عدوَّه، ولكنه لا يكيد له. والحب يأتي درجات بعضها فوق بعض، مثلما أنّ الكره يأتي دركات بعضها دون بعض، (ومن الحب ما قتل)، كما يقال، فهو إمّا أن يكون سلبيّاً فيؤذي، أو إيجابيّاً فينفع، والمحب الجاهل أضرُّ من العدوِّ العاقل، والحب يتنوَّع فمنه حب الشعور، وحب الفعل، والحب من الذات، والحب من الغير. بمعنى أنّ البعض يحب العمل المثمر من الغير، وقد لا يجد الرغبة في ممارسته، وقد تحب فعل الخير، ولكنّك لا تبادر إليه. إذاً: هل التقصير في حقِّ الوطن يحال إلى الكره له؟ لا أظنُّ ذلك، فالإنسان قد يمارس المعصية، وهو محبٌّ لربه. وفي الحديث: - (لا تلعنه فإنّه يحب الله ورسوله). إنّ مواجهة المرتشي والسارق والمتلاعب لا تكون بشعار حب الوطن، ولكنّها بالتربية القائمة على الترغيب والترهيب، وعلى مبدأ الثواب والعقاب، والتذكير بأنّ مثل ذلك مخلٌّ بالواجب الوطني لا بالحب الوطني. والأنظمة والقوانين والدساتير حين لا تحفظ التوازن بين الحقوق والواجبات، لا يتحقّق معها الحب المطلوب. وما انتفاع الوطن من التلويح باليد أو الهتاف بالأصوات، إذا لم يكن هناك واجبات مدفوعة وحقوق مصونة؟ وكلّما كانت دون المؤمل من الوطن موانع تحول دون استيفاء الحق، تفشَّت السلبيات واللامبالاة. وما الهجرات الجماعية والشّتات إلاّ مؤشِّر خلل في علاقة المواطن بوطنه. ولا بدّ أن نفرِّق يين مقصِّر في الواجب ومضطرب في فهم الحب. الحب قائم على كلِّ الأحوال، والإشكالية في التقصير أو الخيانة أو الفهم الخاطئ، وتلك كلُّها تعالَج بالتشخيص أولاً، ثم باتخاذ طرق التخلُّص منها.
والحب على كلِّ مستوياته وأنواعه ومجالاته يُعَدُّ إشكالية عصيّة التصوُّر فضلاً عن الحل، سواء كان حسِّيّاً أو معنويّاً، شرعيّاً أو جبليّاً، وهو مع هذه الممانعة يمكن أن يكون حلاً. والنظر إليه من زاويتين هامّتين:
- الحب الرُّوحي.
- والحب الحسِّي.
ف(الماديون) نظروا إليه من الجانب الجسدي، وحصروه في زاوية الشهوانية، وكان أكثرهم تطرُّفاً (فرويد). و(اللاهوتيون) نظروا إليه من الجانب الروحي، وكان أكثرهم غلوَّاً (المتصوّفة الباطنيين)، ولقد عُرف في الشعر العربي (الحب العذري)، والغوص في أعماق الجدل القائم بين الروحي والمادِّي دخول في المتاهات. وما من متطوّع لفك الاشتباك بين الفئتين إلاّ ويصاب بلوثة التطرُّف، والبحث عن (ماهية الحب) دخول في الجدل السوفسطائي العقيم. فالحب والسعادة والجمال كما السهل الممتنع، والأكثر وضوحاً هو الأصعب تحديداً. وإذ شُغل الدارسون للحب بأربعة خطابات، يعبِّرون عنها باللغة بوصفها وعاء الفكر ومستقرّ الحضارة هي:
- اللغة الأخلاقية.
- واللغة (البيولوجية).
- واللغة الاجتماعية.
- واللغة الصوفية.
فإنّ لغة جديدة أكثر حدّة وصخباً، إنّها (اللغة السياسية)، التي تناسلت منها قيم ومفاهيم، ومن أشدّها تأبياً المراوحة بين (القطرية) و(الأُممية) و(القومية) و(الطائفية) وهذه المفاهيم أعطت اللغة السياسية أبعاداً جديدة، انعكس أثرها على عدد من الروابط.
ولقد اصطدمت (اللغة الوطنية) كفرع من فروع (اللغة السياسية) بالولاء الأُممي، في وقت لم تكن (الأُممية) على اتفاق حول القضايا المصيرية فضلاً عن الثانويات، وهو اصطدام استدعته تناقضات تشكَّلت منها خطابات تذكي الفرقة والتناحر، متجسّدة بالهتافات الغوغائية، والإبداعات الشعرية، والشعارات الفارغة. ولو تقصَّينا مستويات الخطاب واتجاهاته في الستينيات والسبعينيات لوجدناه (قوميّاً) في الأولى، (قطريّاً) في الثانية، (أُمميّاً) في الثالثة. وهو في كلِّ الأحوال يوقد من شجرة مجتثّة غير زيتونة، فهي إمّا شرقية أو غربية. ولو أُخِذ (الحبُّ) بمفهومه الشرعي، لما تخوَّف الناس منه، ولما تحفَّظوا عليه. فحبُّ الأوطان تتنازعه الغرائز والمكتسبات، وتحكمه النصوص، والدين يحترم ذلك كله، وفي الذِّكر الحكيم ربطٌ واضح بين (الدين) و(الوطن)، حتى لقد أصبح الإخراج من الدِّيار معادلاً للإخراج من الدين. وكأنّ الخروج من الدِّيار مساوٍِ لقتل الأنفس، ولقد شُرع جهاد الدّفع لكلِّ من أُخرج من دياره، بل ربط القسط والبر بذلك، فالذين لا يُخرجون المسلمين من ديارهم، ولا يقاتلونهم في الدين، ولا يظاهرون الأعداء عليهم، يستحقون البر والصلة والسلم.
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}(الممتحنة: 9) فقد ربط النص المحكم بين المقاتل في الدين والمخرج من الوطن. كما تركَّزت مقاومة (موسى) عليه السلام على الإخراج من الدِّيار، بوصفها مقترفاً معادلاً للإخراج من الدين أو القتال عليه. وكان مكر المشركين واستفزازهم لإخراج الرسول من وطنه، ولقوة الحب الفطري للوطن جاء الخروج من باب التحدِّي {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ؟} (النساء: 66)، وفي المقابل جاء التحذير من أمر الله لمن كانت المساكن المرتضاة أحب من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وكذلك مصائر الظالمي أنفسهم، لأنّهم رضوا بالاستضعاف والبقاء في الأرض دون هجرة إلى أرض الله الواسعة، وبهذا امتاز الإسلام بحفظ التوازن فلا إفراط ولا تفريط.
وعلى الرغم من اتضاح الرؤية فإنّه يوجد خلط غريب حول تصوُّر الحب أو محقّقاته، بمعنى: كيف يتحقَّق حب الوطن؟ وما الشعائر والطقوس التي تؤكِّد قيامه في الأنفس وفي الواقع؟ وهذا الاضطراب ناتج اختلاط المفاهيم الثورية بالشرعية، وفقد التأصيل المعرفي لدى المتداولين لمثل هذه القضايا، والمصير إلى الحصرية في تحوُّل المقتضيات. وقضايا الأُمّة الكبرى من الثَّبات بحيث لا تخضع للظروف الطارئة. والحكومات الانقلابية وشعراؤها وكتّابها هم الذين استنُّوا طرائق سيئة في تجلية الحب، فكان التساؤل والتحفُّظ، واستغرابنا للتساؤل والتحفُّظ ناشئ من عدم استحضارنا لما هو عليه الحب الثّوري الموثِّن. وهنا تبدو إشكاليات الحب المربكة مع أنّ خطابنا مؤطّر بالشرعي، إلاّ أنّ إقحام الشعارات والشكليّات، والقول في شرعيتها وأهليّتها في تجسيد الحب تُوقع في الاختلاف، وكان الأجدى أن نتحدث عن ترجمة الحب ومحقّقاته، وألاّ تعصف بنا أعاصير الادعاءات الكاذبة. لقد زهد العقلاء والمجربون بالشعارات، وخاب ظنهم بالهتافات، وقال قائلهم:- هاتوا برهانكم، ولا برهان إذا كان المواطن يدفع أغلى الأثمان للفرار ببدنه من وطنه.
إنّ ترجمة الحب في بذل الوسع، والتوازن بين الأخذ والعطاء، وكفّ النفس عن الأثرة، وكفّ اليد عن العبث، وتغليب المصلحة العامة، والنُّصح لله ولرسوله ولأولي الأمر، والصدق والأمانة، ورأب الصَّدع، وجمع الكلمة، ولزوم الجماعة، وإقرار النِّعم بالشكر، وصناعة الذات لبناء الوطن، والاستجابة لندائه الفعْلي والأخلاقي، وحماية الثغور: الحسِّية والمعنوية، ومراعاة الحقوق والواجبات. فمن جاع، أو خاف، أو طُورد، أو سُلِب الحرية، لن يكون حبه وولاؤه كمن أمِن من الخوف، وطعِم من الجوع. إنّ الحب الجبلي الذي يخامر المواطنين لوطنهم لا مزيد عليه، ولكن الحب بحاجة إلى ترجمة سليمة تُخرج الناس من سلبيّات الشعارات إلى إيجابيّات الممارسات، ومن الفهم الخاطئ للأُممية والقطرية إلى الفهم الصحيح والأداء السليم، وإذا جسَّدناه بالشعارات والهتافات أضعناه، وما أضرَّ بالانقلابيين إلاّ لغة الزّيف والتمثيل، والتعويل على الشعارات، أو تناول مفاهيم الحب بشكل حدِّي يؤدِّي إلى تنازع وهمي لا قيمة له. إذ الشِّعارات ليست فرضاً إنّها خيارات، والعدول عنها لا يعني الإخلال بمتطلَّبات الولاء، والمصير إليهما لا يعني العبودية، إذ المسألة برمّتها خاضعة للبرهنة عن القيم المعنوية، وتحديدها والأخذ بأيسرها.
وما أغنى (الشاه) حين ألزم شعبه الوقوف له، كلّما خرج على الشاشة، لقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، حتى لم يجد قبراً يأوي إليه. والأعتى والأمَرّ من كلِّ ذلك اضطراب المفاهيم حول الشرعي والعرفي، واختلاف المندفعين والمتعالمين حول مشروعية الطقوس والشِّعارات، والخلط بين العادات والعبادات، وعدم التفريق بين البدعة في الدين، والبدعة الحسنة في الدنيا. ولست بصدد تزكية أحد المختصمين، ولكنني أودُّ سؤال أهل الذِّكر، واعتماد ما يصل إليه اجتهادهم فالشِّعارات نفذت أو لم تنفذ لن ترد معتدياً، ولن تملأ بطن جائع. وفوق ذلك فإنّ تحرير مفهوم البدع إشكالية نودُّ أن نتأمَّلها، ليسهل القبول بالمستجدّات من أمور الدنيا، ولاسيما أنّنا أُعطينا الضوء الأخضر: (أنتم أدرى بأمور دنياكم). وليس هناك ما يمنع من تمثُّل بعضها مسايرة لواقع الأمم، ولكيلا نكون نشزاً، ولا بدعاً بين الأُمم. إنّنا بحاجة إلى التعايش مع الآخر، والاندماج معه فيما لا يمس ثوابتنا، إذ لا مناص من ذلك، والاعتزال متعذِّر المنال فهو كالغول والعنقاء والخل الوفي. وواجب المتصدّرين للحظر والإباحة، وسدّ الذرائع، ودرء المفاسد أن يعرفوا الفرق بين العادات والعبادات، والفعل قربة إلى الله، والفعل لإنجاز أمر دنيوي. ولن يتحقّق ذلك إلاّ بالد إلى ذوي الاختصاص، وأهل الذِّكر الذين يفرِّقون بين العرفي والديني والبدعة الشرعية، والتجديد الدنيوي. ومع اتخاذ كلِّ الترتيبات والتحفُّظات، فإنّه ليس من الحكمة أن نصادم الرأي العام، الذي يحيل إلى فتاوى العلماء، ولا أن نكرهه على ما يحوك في النفوس، ويتردّد في الصدور، لوقوعه تحت طائلة الاختلاف الشرعي المعتبر، وإن كان ثمة تغيير في الفتيا تبعاً لتغيير الزمان والمكان، ودوران العلة، فإنّ علينا أن نهيئ الأجواء بالتحوُّل المرحلي، وكم كنت أودُّ استحضار (العلّة) المنصوص عليها، كما في حكم المؤلَّفة قلوبهم فهي التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، والتفريق بينها وبين الحكمة المستلهمة من التشريع، فالعلمانيون يخلطون بين هذا وذاك، لتعطيل الشريعة.
والمتابع الواعي لخطاب المواطنة عند الانقلابيين يعذر المتحفّظين، والمصيخ لخطاب الأُممية عند المنكرين للمواطنة القطرية يعذر المتأقلمين. فالتطرُّف في الحب يقابله شمول في التوقُّف. وشعراء الانقلابات الثورية يستفزُّون الرأي العام، لأنّهم يقولون منكراً من القول وزورا، فهم لم يقفوا عند حد المعقول والمقبول، بل أوغلوا في التصنيم، ونقلوا الحب الشرعي المفروض إلى الحب الوثني المرفوض. والذين تقحموا الموضوع من بني جلدتنا دون رصد دقيق للخطابات المتعدّدة يتصوّرون الأمر عفوياً، ويظنون أنّ التردُّد في القبول اعتراض ذاتي مدان، وما هو كذلك، إنّ هناك معهودات ذهنية، تتضخّم كما الأشباح في الأجواء المخيفة، ولنا أن نتذكّر الموقف من تعليم (المرأة)، لقد كان الاعتراض مربوطاً بما هي عليه أوضاع المرأة في بعض البلاد الإسلامية، من تبرُّج، واختلاط، وخلوة، وهو ناتج التعليم والعمل. وحين وضعت الدولة نظاماً صارماً بلغ بالمرأة أوج التعليم، وأبقى على عفّتها وطُهرها، أقبل المعارضون ببنائهم، واستعجلوا الدولة في التوسُّع. والذين سخروا من المعارضين ومن تراجعهم لا يستشعرون المعهودات التي حرّكت كوامن الخوف، إنّ المعارضين محقُّون، والدولة محقَّة، والإشكالية في نظر المعارضين إلى واقع عربي مدان، وفي إحالة الدولة إلى نظام صارم حفظ للمرأة عفّتها. وبين المعهود والموعود نشأ الاختلاف، ثم كان بالموعود الاتفاق.
وأحسبنا قد عدنا إلى دوامة المعهود والموعود في الشأن الوطني، إنّ إبداعات شعرية وسردية تؤله الوطن، ولا تمجِّده، وولاءات أُممية أضاعت الوطن وعرضت الجبهة الداخلية للتفكُّك، حملت المعتدلين على الاستبانة، لتطمئن قلوبهم. ويقيني أنّ المتداولين لهذه القضية في الندوات والكتابات والمؤتمرات، لا يخرجون عن المشروع، ولكن التوفيق بين وجهات النظر وأسلوب التناول أثار بعض التساؤلات عن كلِّ حديث عن الحب الوطني. وفي النهاية فإنّ التحفُّظ أو الاندفاع لا يمثل المعيار ولا المقياس، فكم من صامت أبرّ من البررة، وكم من مهذار متزلّف، يريق ماء وجهه عبر القنوات، ويَعْرض نفسه بأبخس الأثمان، أعق من العققة. والوطن هو الوطن، ولا وجود بدون وطن، يُقتدى بالنفس والنفيس، وحيث يكون الأمن، والرخاء، والاستقرار، والحرية، والكرامة، واحترام القيم، يكون الوطن. وحيث يكون الصدق، والإخلاص، واحترام الأنظمة، وحماية كافة الثغور، ولزوم الجماعة، تكون المواطنة. وما هو بادٍ للعيان من تجاوزات في تحرير مسائل الوطن والمواطنة، لا يَضْبطُ إيقاعَه إلاّ ثلاث مؤسسات: الدينية والتربوية والإعلامية، وواجب بقية المؤسسات أن تلتقط الخيط لا أن تمارس التلقين.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:02 PM   #35
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
وما علي إذا لم يفهم المناوئون
د. حسن بن فهد الهويمل


ثارت ثائرة الكاتب (علي بن فايع الألمعي) حين أيقظه حديثي عبر برنامج (إضاءات) على المفهوم الصحيح لمقاصد (الأدب الإسلامي) ومقتضياته، وكتب بروح الشمت المشيِّع لفعاليات (الأدب الإسلامي) إلى مثواه الأخير (جريدة الوطن 4-4- 1427هـ). وتبين لي أنه من أولئك النفر الذين يسهل اختراقهم، ويمكن تشكيل وعيهم، ولم يكن بهذه الاستجابة ألمعيَّا. وهذه النوعية من الناس مصابة بقابلية الاستجابة الفورية، وبسرعة الانقياد، وقد تستمع القول فتتبع أسوأه. لقد فهم (الأدب الإسلامي) على غير مراد أهله وخاصته، وتصور أنه يقوم على التصفية والتصنيف والإقصاء، بحيث لا يبرح ثنائية (الكفر) و(الإسلام)، وأن ذويه يحملون درة (عمر)، يشجون بها رؤوس المخالفين لمرادهم المفرط في الغلو، وما هو - علم الله - كذلك، ولكنه التوهيم الذي فعل فعله بأدمغة لا تحمي أجواءها من اللوثة والتلوث.
والأستاذ (الألمعي) مهذب في خلقه، ومؤدب في حديثه، كما يبدو من تعقيبه، واحترامي لإثارته، حملني على الرد، لتصحيح مفهومه، والكاتب محق حين يسأل عما قلت في برنامج (إضاءات)، لأنه كسر مسلماته التي لم يُدرك خطأها، ولربما ظن أن ما قلت تحولاً في المفاهيم، وفراراً من الزحف، وبداية انقسام خطير. وأخذه للمعلومة من مصدرها بدون حائل غيَّر كثيراً من تصوراته، وما ضلت المشاهد إلا بالشائعات والافتراءات والتقول على الخصوم بعض الأقاويل.
لقد كان برنامج (إضاءات) منبراً حيادياً، قلت من خلاله ما أعتقد، ووصول خطابي إلى الذين يصرون على رؤيتهم التي تشكلت في غياب استبدادهم يثير التساؤل، وكم كان بودي أن يستمع الخصوم والمتحفظون، ماذا يراد ب(الأدب الإسلامي) وما حدوده ومجالاته، وما مدى صلته بالأدب العربي؟. وعبر فترات متقاربة، التقيت بأدباء ومفكرين في سائر الأقطار العربية والإسلامية, وحاولت أن أبسط لهم القول عن مفهوم (الأدب الإسلامي) ومقتضياته، ومدى صلته بالآداب الأخرى، وموقفه من كل الأبعاد اللغوية والفنية والدلالية، وما من مستمع يلقي السمع، وهو شهيد إلا ويبارك الخطوات، ثم لا يجد غضاضة في أن يعيد صياغة مفهومه وموقفه. ويا ليت قومي يعلمون أن المراد من وراء هذا الاتجاه إشاعة الكلمة الطيبة، ولو كنت فيما أرى على خلاف ما أقول، لاستبان ذلك زملاء وطلاب، كنت معهم مشرفاً على رسائل (الدكتوراه) و(الماجستير)، ومناقشاً لها، أو محكماً في بحوث الترقية ومواد المجلات المحكمة؛ وأعمال المرشحين للجوائز العالمية، أو محاضراً ومنتدياً. وعبر هذه المهمات لم اختلف مع أحدٍ من أولئك بالشكل الذي يتصوره البعض، فكيف يتصور صاحبنا أن (الأدب الإسلامي) خلق آخر؟ واختلاف (الأدب الإسلامي) مع حداثة الفكر والفوضوية الأخلاقية عين التعالق مع الكلمة الطيبة.
والأستاذ (الألمعي) يحسب أن إشاعة الكلمة الطيبة من السهولة بمكان، بحيث تمر مرَّ السحاب لا ريث ولا عجل، وما يدري أنها لن تشيع إلا إذا أجهضت الكلمة الخبيثة. ولأن للكلمة الخبيثة أنصارها ومنتجيها والمستفيدين منها فإن (الأدب الإسلامي) وأنصاره مكرهون على الصراع أو الصدام، بعد استنفاد وسائل الدفع بالتي هي أحسن، وكلمة (خبيثة) دركات، فهي تطلق على الرديء المباح، وعلى الفاسد المحرم، وقد ترد في سياق يمنحها المشروعية على حد: (حاكي الكفر لا يكفر). و(أدب الاعتراف) و(الواقعية) و(الفوضوية) أضلت أفهاماً، وأزلت أقداماً، ولمَّا تزل مصدر اختلاف في المواقف والمفاهيم، ولا ينجو من مزالقها إلا العالمون بالمحظور والمباح. ولما كانت (الحرب خدعة) فإن الذين لا يحترمون المصداقية يفترون الكذب، ويمعنون في التضليل، ويخوفون أولياءهم من هذا المصطلح الذي أرست قواعده (آيات الشعراء)، ومن أصدق من الله قيلا، وأملي من كل الطيبين ألا تغشاهم المفتريات، فيصدقون ما يقال.
إن (الأدب الإسلامي) هدف كل مسلم، ومطلب كل شريف، ومن ذا الذي يود إشاعة الرذيلة، وتدنيس المقدس، وإفساد الأخلاقيات. ولهذا فقد أنس (الألمعي) بهذا القول الذي قلته، وتبقى مع كل ذلك مساحة للاختلاف، فلكل أديبٍ أو مفكر رؤيته وحدود تصوره، فما يراه (الألمعي) مسموحاً به، قد لا أراه أنا، ومن هنا ينشأ الاختلاف المشروع. وإشكالية التفريق بين الثابت والمتحول، والفكر والعقيدة، والعادة والعبادة، قائمة على أشدها وستظل مجال تباين وتنازع، فقد يكون الثابت عندي متحولاً عند غيري. على أن الحل ممكن، لو عرفنا حتمية الرد لله ولرسوله والتسليم بقضائهما، وأنه لا خيرة عندئذ (إن الحكم إلا لله).
وإذ نتفق على حق الحرية، وحق الإمتاع واللهو المباح على حد (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، فإننا نختلف حول الحدود والمجالات والمقادير والأنواع، وهذه الضوابط لم يتفق عليها الفقهاء والأصوليون، فضلاً عن الأدباء والنقاد، الأمر الذي جعل الجميع على موعد مع الاختلاف. ومن الخير لنا أن ترحب صدورنا، وأن تحسن مقاصدنا، وأن نقبل الرأي الآخر، متى كان في إطار اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
و(الألمعي) ومن معه تصوروا أن لقائي يشكل تحولاً في الآراء والمواقف، وعلم الله أنني لم أزل على العهد وعلى الوعد، وأنني لم أتحول قيد أنملة، وما كنت لأساوم على موقفي، ولا أن أتملق النظارة، فما عدت في هذه السن وفي تلك المكانة محتاجاً إلى استرضاء الآخر على حساب مواقفي. وإشكالية (الألمعي) أنه يحتفظ بصورة مزورة عني، ولما رآني على حقيقتي راعه الأمر، ورابه الموقف، وظن بي الظنون. (الأدب الإسلامي) في نظري منذ أن باركت خطوات المؤسسين والمناصرين له، لا يعدو إشاعة الكلمة الطيبة، والدليل على ذلك أن فنّياته وأشكاله ومجازاته واستعاراته وكافة محسناته لا تختلف عما هي عليه في (الأدب العربي) منذ العصر الجاهلي، حتى كتابة هذه الأسطر. ولأجل تقريب وجهات النظر كانت لي محاضرة في (مصر) عن (علاقة الأدب الإسلامي بالأدب العربي)، ولتعميم الفائدة نشرتها في هذه الجريدة، وهي في موقعها على (الإنترنت)، وخلاصة القول إن (الأدب الإسلامي) جزء من (الأدب العربي) وإن كان ثمة اختلاف فإنه في الانحراف الفكري أو السقوط الأخلاقي الذي وسعه (الأدب العربي) وتحاماه (الأدب الإسلامي)، ولمَّا يزل (الأدب العربي) مطية مذللة لكل خطاب، وما اعتراه من تسييس و(أدلجة) و(حدثنة) يوجب على الخيرين انتباذ مكان قصي تمارس من خلاله الكلمة الطيبة.
وما فعله الأستاذ (الألمعي) من إحالة للتراث واستنجاد ب(أبي محمد بن حزم) رحمه الله في كتابه (طوق الحمامة) حجة واهية، فالتراث العربي له وعليه، ولا تخلو فترة من فتراته من علماء وأدباء وشعراء ومؤلفين وموسوعيين يقترفون ما هم مقترفون، والعصمة والتزكية ليست إلا للرسل. ف(ابن حزم) رحمه الله عالم موسوعي، وفقيه متبحر، ومحدث حافظ، ولديه حس أدبي، وهو و(ابن عبدالبر) من أوائل من تلقيت كتبهم بالقبول الحسن. ولعل (الألمعي) يقرأ شيئاً من (نزهة المجالس) ل(ابن عبدالبر)، ومع هذا فإن (ابن حزم) لم يخل من الخصوم في الفقه والحديث وعلم الكلام والأدب، حتى وصفه البعض بالجهمي الجلد، وله رؤية شاذة في كثيرٍ من الفنون.
والتمترس خلف الموروث الإنساني مؤشر فهم ناقص، إذ كل عالم راد ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم والمؤيد. وإذا اختلفنا في شيء من أمر الدين أو الأخلاق أو السلوكيات أو مضامين القول، فإنه لا يرد إلى التراث البشري، وإنما يرد إلى الله والرسول. ولست على أي جبهة مدافعاً عن تجاوزات بعض المشايعين ل(الأدب الإسلامي) فهم قد يردون قولاً مشروعاً، وقد يضيَّقون واسعاً، فكل أديب مسؤول عما يفعل وعما يتصور. فالمبادئ لا تحتمل أخطاء المطبقين، والتاريخ الإسلامي يختلف عن تاريخ المسلمين. ولسنا بقادرين على أن يكون كل منتمٍ للأدب الإسلامي على حق، يتصرَّف وفق مقتضيات (الأدب الإسلامي) إن دفاعي عن مفهوم الأدب ومقتضاه، وليس عن الأديب الإسلامي ومقترفه. والمتبدي من خلال رد (الألمعي) أن نَفَسَه مع الحداثة دون تحفظ، وأساطين الحداثوية من خلال قولهم المنحرف كما المنافقين الذين قال الله لهم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. ولسنا نطلق الكفر على معين، ولكننا نحكم بكفر القول حين يدنس المقدس أو يستهزئ أو يرد ما علم من الدين بالضَّرورة، والحداثة حداثة فكر وحداثة فن، والحكم بعد التصور، والتجديد غير الحداثة، فأنا مع التجديد، ولست مع الحداثوية
وحين أرد على (الألمعي) قوله لا أدافع إلا عن نفسي، ولا أحتج إلا برؤيتي، ولا أقدم (الأدب الإسلامي) إلا من خلال تصوري ومفهومي. ولكنني مع هذا أثق بالاخوة والزملاء في الرابطة، فسوادهم الأعظم على وعي تام بالمقتضيات والأهداف، وليس فيهم من هو على شاكلة ما يتصوره الكاتب. ومع تجاوزاته فإنني أحمد له البوح بما يعتمل في صدره. وهو قد وصفني ب(الشراسة) و(العناد)، وأحسبها كلمات لا تليق بي، ولا تحسن منه، ولكنني سأمضي، وكأنه لم يقل، ولم أسمع، مردداً قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.
وأحب أن أطمئن الأخ أن أنصار (الأدب الإسلامي) لن ينشقوا على أنفسهم، وأن لهم آراءهم المختلفة، وأنهم كغيرهم يدركون تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر. وقولي إن (الأدب الإسلامي) يقوم على إشاعة الكلمة الطيبة قول يؤمن به كل المنتمين لهذا الأدب وهو ما يرحب له صدر (الألمعي). ومهمة (الأدب الإسلامي) لم تنتهِ، ولن تنتهي كما يتصور الكاتب، إنها مرتبطة بالبلاغ والدعوة، وأملي أن يحسن الكاتب ظنه بإخوانه، فليس لهم أهداف، ولا غايات دنيئة، ومعاذ الله أن أكون المبشر بالنهاية. وكل الذي أقوله لأخي: عليك الثبات على المبادئ. ولا تمل مع الريح حيث مالت.
وإذا كان من أنصار (الأدب الإسلامي) من له هدف أو نيَّة دنيئة فذنبه على جنبه، وهو وحده الذي سيحاسب على ما في صدره. وليس بغريبٍ أن تسوء بعض النوايا، فالمنافقون خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلون، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولا نزكي على الله أحداً، فالله أعلم بما في نفوسنا. نعم نحن في الدنيا نحاسب على الظواهر، ولا نقدر على شق صدور الناس لنعلم ما فيها، وفي الآخرة وحدها (يحصَّل ما في الصدور). فعلى أخي (علي) أن يُعرض عن اتهام الناس في نواياهم، وأن يستغفر لذنبه، وأن يكف عن التوهين، وأن يعرف أنه يتحدث في قضايا ذات مساس بالدين، وعليه أن يقرأ آيات الجدل مع الذين يخوضون في آيات الله بغير علم، وآيات التأنيب للمستهزئين، فهي الروادع والمؤطرة. ودون ذلك وفوقه أحسب له ثناءه الذي لا استحقه، وإعجابه الذي لا أراه، ولو كانت القضية ثنائية بينية لما كتبت الرد، ولكن الأمر يمس قضايا حساسة.
وحول رغبته في أن أُسأل عن كتاب (الانحرافات العقدية في شعر الحداثة) ليكون في هذا السؤال إحراج لي، وكشف عن تناقض مواقفي. أحب أن أصحح مفهومه، فالكتاب لم أكن مشرفاً عليه، ولا مشاركاً في تأليفه، ولست مسؤولاً عما فيه من أخطاء، إن كان ثمة أخطاء، وكل دوري فيه دعوتي بأن أكون مناقشاً خارجياً. فالكتاب رسالة دكتوراه تقدم به الدكتور (سعيد بن ناصر الغامدي) إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام، والمشرف عليه (سماحة المفتي)، والمناقشون معالي رئيس مجلس الشورى، وفضيلة الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل، وهم من هم في علمهم وورعهم وحرصهم على سلامة المقاصد، ولقد دعيت للاشتراك في المناقشة. والباحث بذل جهداً في تقصي الانحرافات العقدية في شعر الحداثة، وناقشها على ضوء رؤيته المستمدة من الشريعة، ولما يزل عمله مشروع أخذ ورد، ولقد جادلته أكثر من ساعة، وما ازددت إلا إعجاباً بدفاعه عن رؤيته. ولاشك أن في شعر الحداثة انحرافات فكرية، تصل إلى حد الإلحاد. وأعيذ (الألمعي) من أن يتحمل أوزاراً ليس له دور فيها، وأتمنى ألا يكون معذراً لشعراء يدنسون المقدس، ويتطاولون على الذات الإلهية. وإذا كان الباحث قد تجاوز أو أخطأ فعلى الأستاذ (الألمعي) أن يضع يده على ذلك لتداركه، ولقد كان لي إسهام يسير في رد كثيرٍ من أحكام البحث، طاوعني الباحث في بعضها، واحتفظ برؤيته في البعض الآخر، ومن ألف فقد استهدف. والباحث مع كل ما تتسم به الرسالة من الحدة والغيرة المحتدمة على محارم الله مثال الجد والاجتهاد، ومع الثناء والتقدير لا نزكيه، ولا نبرر أي خطأ وقع فيه، وفات علينا. وأحسبه سعيداً لو وضعت يده على الهفوات، وممتناً من كل من يهدي عيبه إليه، وما من مؤلفٍ عاد إلى عمله إلا تمنى التعديل والتبديل والحذف والتقديم والتأخير. وواجب (الألمعي) أن يهدي عيوب صاحبه إليه، وحق كل متحدث على مستمعيه أن يرشدوه إذا ضل. وأحب أن أؤكد للأخ أنني على العهد، ولم أتراجع، ولن أتراجع، ولكنها حقائق دامغة، سمعها فكشفت عن تحامل الخصوم. فما كان منه إلا أن حملها على التراجع، وما هي كذلك. وأنا من قبل ومن بعد لم أخف قناعتي، ولست محتاجاً أن أداهن، ولا أن أجامل، فأنا غني بالله عن كل مجاملة تجر مصلحة عاجلة.
وامتناني من كلمات الثناء والإشادة لا تحول دون عتبي على كلمات اللمز والغمز، ولما أزل مطمئناً كل الاطمئنان على أن البقاء للأصلح، وان الله يحاسب على النيات. وكل الشكر للمثير ف:




(لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود)
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:03 PM   #36
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الاستفزاز بالمعار والمعاد ..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


يقال:- إنّ التاريخ يعيد نفسه. إذ كلّما تشابهت الأحداث والوقائع تبدَّت هذه المقولة، كما لو كانت حتماً مقضيّاً. والتاريخ الراصد للأحداث ينبعث من مرقده، كلّما وقعت حوافر الأحداث على حوافر الأجْداث. وإذ تتكرر الوقائع والأقوال والآراء، يتكرر الأناسي بألسنتهم وألوانهم وأفكارهم. وقديماً قيل:- (يخلق من الشبه أربعين). ومثلما ارتبكت (ملِكَةُ سبأ) أمام عرشها، فقد يرتبك المفاجَؤون بالأحداث والأناسي، حتى يقول قائلهم:- كأنّه هو.
وبعض الذين يكتبون في قضايا الدين والفكر والسياسة والأدب والتربية يُبْلَوْن بآفة السرقة أو التقمُّص، ثم لا يحسنون التستُّر، فيكونون بمجاهرتهم كما الهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد. وقد يبلغ الأمر بالبعض منهم حد التقنُّع والتماهي، بحيث يغدو المتقنّع بمن سلف أو عاصر مسكوناً به، يقول ما قال. ولو بعث القِناع من جدثه، لقال لسان حاله ومقاله:- (هذه بضاعتنا ردَّت إلينا). ولست أقصد بالظاهرة مصطلح (القِناع) بصورة: المسرحية والاحتفالية والمأتمية، كما لا أقصد بها ما يسمَّى ب(قصيدة القناع) التي شاعت في المشهد النقدي الحديث، فالمصطلح وقصيدة القناع ظاهرتان مشروعتان منضبطتان. حتى لقد تعاقب الدارسون على التماس الأقنعة في الإبداع الشعري والسَّردي. وما أعنيه بالتقنُّع تجوُّزاً اختلاس الأفكار والآراء، وتبنِّيها على أنّها من عند أنفس المتقنِّعين. فبعض الذين يصفهم القراء بالمفكرين، لا يجد أحدهم حرجاً من أن يكون نسخة مشوّهة لمن سبق من مستشرقين أو مستغربين، أو متعلمنين، أو متحدثنين، يقول مثل قولهم. والخبيرون ببواطن الأمور يدركون التشابه، ثم لا يكونون كبني إسرائيل الذين تشابه البقر عليهم.
وحين أشهد بما أعلم، لا أجد الاتهام خاضعاً للمراء ولا للاستفتاء، فهو كالنهار الذي لا يحتاج إلى دليل. ولقد قلت، ولمّا أزل أقول: إنّ كثيراً من الأدباء والمفكِّرين لا يكررون أنفسهم وحسب، ولكنّهم يكررون غيرهم من خلال تبنِّي مواقفهم واختلاس أفكارهم، على حد:- (فندلاً زريق المال ندل الثعالب) وإن كان المُختلَس مُنكراً من القول وزوراً. ودافع المختلسين ما يعيشونه من صدمة الانبهار، وقابلية الخنوع والاستجداء والانكسار، ومحبو الظهور ينشدونه من خلال القول في (المسكوت عنه) أو في (اللا مفكّر فيه). وكم هو الفرق بين التأثُّر المشروع والاستنساخ الحرفي الممنوع. ومن ذا الذي يعي براءة النصوص من تأثير ما سبق؟ ومصطلح (التناص) كما يراه الألسنيون، يختلف كثيراً عن التبعية والتلفيق والترديد الببغائي. وما افترقت هذه الأُمّة على ثلاث وسبعين فرقة إلاّ بسبب ما تُلقيه الأفكار والمناهج والآليات المجلوبة، دون تمثُّل واقتدار على أمنية المتلقِّي. وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردَّ له، وإلاّ فإنّ طريق النجاة أن ينسخ الله ما يلقي شياطين الإنس، مثلما نسخ ما يلقي الشيطان في أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم. ولنزول هذه الآيات أسباب اضطربت حولها الآراء، ولقد تقصّاها (الألباني) - رحمه الله - في (نصب المجانيق). وما من قارئ متسرّع لا يُحكم قوله إلاّ كان هالكاً مهلكاً لمن حوله. والخلط الفوضوي بين الحق والباطل وسنّة التدافع والتداول هي الطاقة النووية لاستمرار الاختلاف بكلِّ أنواعه.
والمثقَّف الشمولي المتابع لكثير من المتدَاول من الآراء والأفكار حول مجمل القضايا الكبرى يدرك أنّها بضاعة مختلَسة، أمّا الذين قعدت بهم هممهم فإنّهم لا يعرفون القوم من لحن القول، ولا يعرفون أنّ أصحابهم نقلة ليس غير، ومن ثم لا يزالون ينفخونهم بأفواههم ويوكونهم بأيديهم، حتى يوقظهم الخبيرون. وقد يقضي الله أمره قبل استدراكهم للحقائق. وتلافياً لما يمكن اتخاذه ذريعة للنقل الحرفي أقول: - إنّ هناك فرقاً واضحاً بين المتأثّر بالأفكار والسارق لها، والمستعين بالمناهج والمدّعي ابتكارها. والمشهد الثقافي العربي مرَّ بمحطات مضيئة، وأخرى معتمة. ف(العقاد) أنِسَ ب(المذهب النفسي) وأحسن استثماره، و(محمد مندور) أعجب ب(اللانسونية) فاستكملها تنظيراً وتطبيقاً، وما كان أحد منهما مختلساً ولا متقنّعاً. والمشاهد لن تفقد الفائدة، فقد يكون لصوص الكلمة أو الفكرة أو المنهج من المنشطات للمشاهد، فالدخول في الجدل حول مشروعية الاستفادة بين الفرقاء، يستدعي الاستزادة من المعارف، لتحصين الحمى، وطرد الحائمين حولها، وهذا بحدِّ ذاته منعشٌ للحركة الفكرية والأدبية، وكم من رويبضات تكلّمت فأيقظت حراس الفضيلة. وما يخشاه الكرماء اكتناف الجدل بمراء غير محق، أو امتداده من الموضوعي إلى الشخصي، أو تقحم المشهد بمن لا علم له ولا خلاق، فيكون ذلك مؤذناً باعتزال المحقين وترك المشهد لمن لا يحسن القول، ولمن لا يملك المعرفة، وبودِّي لو أُعيدت قراءة الموجات السياسية منذ ثورة (حسني الزعيم)، والموجات الفكرية منذ (الطهطاوي) والموجات الاجتماعية منذ (قاسم أمين) لتستبين شواهد المبادرات ووثائق الإغارات.
وعلى ضوء مقولة:- (التاريخ يعيد نفسه) أقام المفكِّر العربي (برهان غليون) منهجه في كتابه العميق (نقد السياسة: الدولة والدين)، ومع جاذبية الخطة وثبات الخطوات، إلاّ أنّ فجوات واضحة لمَّا تزل بعد لم تجسر. ولسنا بصدد تحديد الموقف من الفرضيّات والمعالجات وتقويم النتائج، وإنّما نريد أن نوضح اتكاءه على فرضية عودة التاريخ، فالمفكِّر يستهل رصده للحركة السياسية العربية بالقول عن (الثورة الدينية) بوصف الرُّسل يمثِّلون ذلك المفهوم، حسب رؤيته، ولهذا خرج من الحديث عن (الثورة الدينية) إلى (الثورة السياسية). وما نقصده من هذا الاستدعاء القول ب(عودة التاريخ)، وسواء كانت عودة إلى الجذور أو تعالقاً مع المستجد السياسي العالمي ك(العلمانية ونقد الدين). وتكرار الأنظمة كتكرار الأفكار. والإشكالية في النمطيّة والتناظر، ووقوع الحافر على الحافر، وتلك سمة المشاهد كافة،. والحديث التاريخي أو السياسي أو الفلسفي عن أُم الثورات (الثورة الفرنسية) يمثِّل الاجترار، ولا يخلص إلى الاختيار، فكلُّ منظِّر لثورة قائمة أو قادمة لا يبدئ القول، ولكنه يعيده.
وليس مهماً أن يكون المفكِّر (غليون) موفّقاً في المآل، أو لا يكون، وإنّما المهم تعالقه مع هواجس عودة التاريخ، وتجانس الأحداث. ولسنا بهذا نلتمس الإدانة أو القمع لسارقي الأفكار والمبادئ والمناهج، وإنّما نريد أن يعرفوا قدر أنفسهم، وأن يعرفهم الرأي العام على حقيقتهم. والذين استولت عليهم ظواهر الغرب ومبادئه وتياراته، وسحرت أعينهم عصيُّه وحباله، لم يقدروا على الغوص في الأعماق، وتلمُّس الجذور، والاستقلال في الحديث. فهم بلا شك عاجزون عن التخلُّص من هيمنتها، وقدرهم أن يظلُّوا شركاء في اجترار الآراء دون المبادرة المطلوبة. فالذين أغثونا بالحديث عن سائر الظواهر الفكرية والسياسية والأدبية وتبنِّيها، ليسوا متأثِّرين ولا معجبين، ولكنّهم أدعياء مبهورون، يسطون على طبيخ الغرب المغِبَّ، وليس لهم إلاّ مهمة التسخين، ولقد قال (مارون عبود) عن بعض آراء (طه حسين): إنّها تسخين لما غبَّ من أفكار الغرب.
والذين يغثوننا بترديد مقولات العلمانيين والحداثيين و(الليبراليين)، ويستفزُّون الرأي العام باجترارها، لا يلوون على معرفة، ولا يحيطون بحكم. والراصد للخطاب العلماني عند أساطينه في الوطن العربي لا يستغرب القول عن الحاكمية والشمولية والدينية والحرية وسائر قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع. وهذا الصنف من الكتبة ما هم من التأصيل في شيء، ولهذا يقعون في نواقض الإيمان، وهم لا يشعرون، وإذا روجعوا في شيء من ذلك أظهروا سلفية ناصعة، وآفتهم من الفهم السقيم.
والمسخ والتقنُّع يمس الكبار، حتى لقد يبلغ الأمر بالمتابع إلى اتهام نفسه، ذلك أنّ البراءة من التأثُّر من المستحيلات، ونحن هنا لا نستدعي إلاّ السارقين في وضح النهار. ولو ضربنا الأمثال ب(محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(صادق جلال العظم) وقطيع (الماركسيين) المتعفِّنين من قبل، والمهتاجين العزل على كلِّ الصعد وبعض رؤاهم لوجدناهم يسطون على مناهج المستشرقين ورؤيتهم ومواقفهم. وسرقتهم للأفكار لا تمس اقتدار بعضهم، ولا مكانتهم المعرفية، إذ إنّ اللصوص لا يكونون بالضرورة صعاليكَ، يسدون بما يأخذون رمقهم، حتى أنّ التسوُّل اليوم أصبح تجارة رابحة.
وإذا كان الفلاسفة والمتصوّفة المتغنصون قد جنحوا عن مقتضيات النص الشرعي، وأعملوا العقل في تصوُّر الكون والحياة والإنسان والخلاق متوسّلين بنظرية (التأويل)، فإنّ مفكِّري العصر الحديث اتخذوا الطريق نفسه متوسّلين بنظرية (التفكيك). والاختلاف بين الطرفين أنّ الأوائل اشتغلوا بعالم الغيب، والمحيل منهم إلى النص أفقده سلطانه بالتأويل الجائر، والأواخر اشتغلوا بعالم الشهادة، وقالوا بموت (الميتافيزيقا)، والمحيل منهم إلى النص عطّل دلالته بالمنهج التفكيكي، و(علم الدلالة) من كبرى القضايا الألسنية. وازدراؤنا لا يمس الورثة المتصرّفين بالموروث وفق المناهج والآليات المستجدّة، ولكنه يمس اللصوص الذين يسطون على بنات الأفكار، وهم لا يعرفون ما الكتاب وما المعرفة. ف(التأويل) آلية ومنهج قديم، يستطيع أصحاب الملل والنِّحل من خلاله إجهاض النص، وتحميله ما لا يحتمل، ولقد عوَّل العلمانيون على ذلك من خلال مقولتهم:- (الشريعة لا تفسِّر نفسها) و(التفكيك) إجهاض، ولكنه من نوع آخر، وحجّة المسترفدين انفتاح لنص، ودعوى الانفتاح فرضية عائمة، يقول بها النّقلة البله، ولو طلبت من أحدهم أن يضرب لك مثلاً من النص المفتوح أو المغلق، ومثلاً من مناطات المتأوّلين والمفكّكين لم يحر جواباً. والذين اتخذوا المنهجين بوعي أو بدون وعي سرّاق مناهج، وليسوا مسترفدين معترفين بفضل السابق. ولقد كنت حريصاً على تقصِّي مقتضيات مصطلحيْ (التأويل) و(التفكيك) ومدى التقائهما وافتراقهما وانعكاس أثرهما السيئ على النصوص القطعية الدلالة والثبوت. ولو تلمَّسنا مناطات المشكِّكين لوجدنا أنّ معوّل (أبي زيد) على تلبُّس الوحي باللغة، ومعوّل (أركون) على توحيد (الرسم القرآني) وذلك بعض السطو المخجل. وقبل هذين جاء تعويل (طه حسين) على التاريخ والأسطورة في تكذيب مجيء (إبراهيم) عليه السلام ل(مكة).
والمتقصّون لحركة الفلاسفة والمتصوّفة والمفكرين وعلماء الكلام وافتراقهم معرفياً وسلوكياً والتقائهم، يدركون أنّ التأثير الشرقي لا يختلف عن التأثير الغربي على مُفكِّري العصر الحديث. والإشكالية فيما يعانيه الدارسون من تداخل في المفاهيم. فالمفكِّر والفيلسوف والمتكلِّم والمثقَّف والمتصوّف كلُّ أولئك يحيلون إلى مفاهيم لا تأخذ دقّة المصطلحات الجامعة المانعة، والمأخذ على كثير من الفلاسفة الأوائل والمفكرين الأواخر أنّ أولئك عوَّلوا على فلاسفة اليونان، وتقمَّصوا مناهجهم، واستعانوا بآلياتهم، وأنّ هؤلاء عوّلوا على فلاسفة الغرب وتقمَّصوا مناهجهم واستعانوا بآلياتهم، وذلك مكمن المسخ والتكرار. واختلافنا مع من سلف ك(ابن رشد) و(ابن سينا) و(الكندي) و(الفارابي) لا يمس اقتدارهم، كما يدَّعي الأدعياء، كما أنّ التضييق عليهم ليس لتفوُّقهم المعرفي، وإنّما هو لتوظيف هذا التفوُّق فيما يجهض النص، ويقصيه، ويفوض العقل، ويحكمه فيما شجر بين العلماء من خلاف غيبي. وفي المقابل أوذي (ابن تيمية) وسُجن، والحضارة الإسلامية وسعت ذلك كله، ولم تكن ضيقة العطن كما يدّعيه المستشرقون ويردِّده المستغربون.
والذين يظنون أنّ علماء السَّلف يرفضون المذاهب الحديثة يترسَّمون خطى الأعداء من مستشرقين ومستغربين، ويقعون تحت طائلة المسخ، فالسلفيُّون لا يرفضون مجمل المذاهب، ولكنّهم لا يقبلون تطبيقها على القضايا المحسومة بالنص القطعي الدلالة والثبوت، ولا يجدون مبرراً لقفو ما ليس لهم به علم، لعلمهم أنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً. ولهذا لو نظرنا إلى موقف (ابن تيمية) من المنطق والفلسفة والكيمياء لوجدناه ضد التمثُّل المطلق لهذه المذاهب، ولم يكن ضد الظاهرة المعرفية من حيث هي، لو أنّها تعاملت مع الظواهر الحياتية، وتفادت تناول عالم الغيب من خلال علم المنطق والمنهج الفلسفي.
والقول بالاستلاب لا يحتاج إلى دليل لأنّه في حكم المتواتر، وكم تمر بالإنسان رؤى وتصوُّرات يقف أمامها متسائلاً عن مصدريّتها، فهو قد سمع بها من قبل من فم مفكِّر غربي أو عربي مستغرب، ولشذوذها وغرابتها تظلُّ عالقة في ذهنه، حتى إذا جاءت على لسان كاتب متأخّر، تداعت الذكريات، لتكشف عن سوءة السَّرقات. والمتابع للحراك الأدبي والفكري والسياسي يألف تكرار الملامح، ومن ثم يظل يبحث عن سرِّ التشابه، وأسباب المعاد والمعار من القول. والشعراء الجاهليون ضاقوا ذرعاً بوقوع الحافر على الحافر في الألفاظ والتراكيب والمعاني والصور، فأين نحن من (ابن حذام) الذي أشار إليه (امرؤ القيس)؟ وأين نحن من اعتراف (عنترة بن شداد) بالقول المعاد والمعار؟ وأين نحن من تساؤله:- (هل غادر الشعراء من متردم)؟. غير أنّ ما نومئ إليه من المسخ والنسخ يختلف كثيراً عما ذهب إليه أصحاب (الأشباه والنظائر) من قبل، وأصحاب (التناص) من بعد. إنّ هناك تبنِّي أفكار وسرقة صفحات، بل هناك استنساخ كتب بكاملها. والمتعقبّون لذوي الرسائل العلمية والبحوث الأكاديمية والكتب المترجمة يضبطون لصوصاً في وضح النهار، وما سرّاق الأفكار والمذاهب والمواقف منهم ببعيد.
والمؤرِّخون للظواهر والمذاهب والتيارات يعيدون إلى الذاكرة بشاعة المسخ، ولكي نختصر الوقت والجهد يجدر بنا أن نمسك كلَّ دعيٍّ، وهو متلبِّس بالخطيئة لنلقي به وبقوله في مزبلة التاريخ.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:04 PM   #37
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
السِّجل الدموي للقرن العشرين..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


هذا العنوان منتزع من سياقه في كتاب يرصد للأحداث العالمية المتلاحقة بكلِّ ما تنطوي عليه من وحشية وفوضوية. والدم المسفوح ليس قصراً على الأنفس المعصومة، وإنّما هو للمبادئ والقيم والمواقف النبيلة. وما كُتب القتال في الإسلام إلاّ لحفظ الضرورات الخمس، أمّا اليوم فإنّه خيار الأقوياء، لضمان التفوُّق وتدفُّق المصالح. ولقد هُديت إليه، وأنا أحضِّر لمقال حول (الحرية) و(الفوضوية) في سبيل توعية من اتخذ المضلِّين عضدا، وإيقاظ المخدّرين بالتضليل الإعلامي، والسبّاقين إلى نشر الغسيل، وافتراء الكذب على الأهل والعشيرة.
ولقد كنت أظنُّ الكتاب رصداً لظاهرة (الفوضوية) بوصفها نظرية قائمة لها قواعدها وأساليب أدائها، وهي التي أنشأها الباحثون عن البدائل للنُّظم السياسية القائمة ظناً منهم أنّ بإمكان البشرية أن تعيش دون سلطة سياسية. وما كان لي أن أوغل في النَّيل من الكتبة الذين يستبقون السيئات، ويعمِّمون الأحكام، ويركنون إلى الذين ظلموا، ويعدُّون (الحداثوية) تجديداً، و(التنوير) إصلاحاً، و(الأدلجة) مذمّة على الإطلاق، و(الصحوة) إرهاباً، و(الأسلمة) تطرُّفاً، و(الغربنة) تحضُّراً. ومن تردّد أو تساءل عن شيء من ذلك فهو ماضوي ظلامي صحوي متطرِّف أو متعاطف. ومع كلِّ التحامل والإقصاء فهم منا، ونحن منهم، ومن الخير لنا ألاّ نجعلهم ينفضون من حولنا، وهم الثروة الحقيقية للبلاد. ومتى تفرّقت السُّبل بصفوة الصفوة، وأصبحوا شيعاً وقبائل يضرب بعضهم سمعة بعض، وهن عظم الأُمّة، واشتعل رأسها شيباً، من هول الفاجعة بفقدهم. والصدامُ معهم صدامٌ مع الذات:




(إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها
تذكرت القربى ففاضت دموعها)


وليس فيضان الأحبار بأقل من فيضان الدماء. وما لا مراء فيه أنّنا بِمِرائنا الظاهر والباطن نخدم أعداءنا، ونفتح لهم أجواءنا ليُصفِّروا ويفرِّخوا وينقِّروا ما شاء لهم أن يُنقروا، وها هم أولاء يمعنون في إدانة مناهجنا متسلِّحين بما تجود به طائفة من أبنائنا عن حسن نية أو سوء طوية، والله وحده المحصِّل لما في الصدور، وتقرير الخطأ لا يحتم تحديد الأهداف والنوايا.
والقرن العشرون الذي ثوى في أرض التاريخ، كما الجثامين التي تواري سوآتِها لحودُها، مزعج بانقلاباته الرعناء، وشعاراته الجوفاء، وحروبه المجانية، ولعبه الدنيئة، ولهاث كتبته وراء تزكية الحضارات المادية، والجدل عنها في الحياة الدنيا. لقد انطوى هذا القرن الدموي على مقترفات لا مجال لاحتمالها، ولا مجال لتبريرها والتعذير لمقترفيها. ولهذا هبّ المفكرون الغربيون للحديث عما أعدّته الإنسانية المعذّبة للقرن الحادي والعشرين، أو ما يمكن أن تعدّه. والمفجع أنّ هذا القرن استهل سنواته الأولى بما هو أدهى وأمر، وجاءت التصرُّفات الرعناء والتدخُّلات العسكرية التي اقترفت جناية الفراغ السياسي، ولم تسيطر على الأوضاع، فكان القتل، وكان التدمير، وواكبه صمت مريب أو تبرير غريب.
والكتاب الذي نحن بصدد الانطلاق منه لا الانطلاق به، يرصد الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين، وكاتبه بارع في المتابعة والرصد والتحليل والخروج بنتائج، قد لا تكون في صالح الأمم المغلوبة، ولكنها إن لم تكن ذات فائدة مباشرة، فهي على الأقل تمكن من وعي الحراك السياسي داخل المنظومة الواحدة وخارجها، مما هو مؤثّر على سائر المسارات. ولكن المتصدرين للتنظير والتوجيه والتحكُّم في المصائر لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يذعنون للحق:



(ومن البلية عذل من لا يرعوى
عن غية وخطاب من لا يفهم)


والملفت للنظر أنّ الأباعد يجأرون بالشكوى، ويمعنون في الاعتراض على المقترفات، فيما يسكت الأقربون، وإن نطقوا لجُّوا في الخصام فيما بينهم، وقد ينبري منهم من يعذر، ويبرر، ويشرعن لانتهاك السيادة الوطنية، معلياً من شأن المعتدي، جاعلاً منه أسوة لمن شقي بمقترفاته.
ومن خلال متابعتي لهذا الكتاب ولغيره من الكتب المترجمة مثل (الاستعداد للقرن الحادي والعشرين) ل(بول كيندي) الذي تناول التحديات والانفجارات السكانية، وثورة العلم والاتصالات، وتأثيراتها، وأخلاقيات المتسوِّدين في المشاهد وخططهم، وحسابات الربح والخسارة في مجال الصراع، ومستقبل أوروبا، ومعضلة أمريكا. تبيَّن لي أنّ الكُتَّاب الغربيين محكومون بالخلفيات الثقافية، والهيمنة الحزبية، وتوجيه المؤسسات الراعية والممولة. وبعض أولئك يخفي عمالته، والجشعون منهم يسوِّقون إمكانياتهم، مثلما فعل (روجيه جارودي) حين حاضر وكتب عن خطر السعودية على الإسلام، بعد أن بَجَرت حقائبه من أفضالها وزكّى نفسه من مؤسساتها، وهؤلاء وأولئك على كلِّ الأحوال خبيرون ببواطن الأمور، متضلِّعون من مختلف المعارف، يخادعون، ولا ينخدعون. وقلَّ أن تجد مفكِّراً غربياً مستقلاً، لا يشغله إلاّ البحث عن الحقيقة وإحقاق الحق، ومن ثم فإنّ الركون إلى بعض تلك الشخصيات مصيرٌ إلى تلك الخلفيات، وتيك الحزبيات. والقارئ الحذر يأنس بالقول، ويستضيء به، ولا يركن إليه، على حد: (كنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه). ومن لم يعرف الجاهلية يوشك أن يعود إليها.
وما اتخذته من خطة ومنهج وآلية للحديث عن منطلقات أولئك الكتَّاب، لا يضع في المقاصد نقد الدراسات المشيِّعة للقرن الماضي، والمستقبلة لتاليه، والمراوحة بين الشماتة والتشاؤم والتنبؤ والمناصحة والمخاتلة والمخادعة، وإنّما استقراني للواقع من خلال الرؤى والتصوُّرات. فكتاب (بريجنسكي) (الفوضى) ليس على شاكلة كتاب (هذه هي الفوضوية) ل(هنري آرفون)، ولا على شاكلة كتاب (الفوضوية) ل(رجب بوديوس) إذ هما في سبيل تحرير النظرية والتأريخ لها. أما (بريجنسكي) فهو ناقد لهمجية القوة وغطرستها على شاكلة (غطرسة القوة) ل(ج. ويليام فوليرايت) و(الغرب وكتابة التاريخ بدم الآخر) ل(طه كبسة). ولن أتقصى كتباً مماثلة، يبدو فيها التحامل والاهتياج، وإن صدقت العزمات، وخلصت النوايا، مثل كتاب (صناعة الشر) ل(أحمد شاهين)، و(حضارة الدم وحضارتنا) ل(نزار بشير)، و(صناعة العداء للإسلام) ل(رجب البناء)، وكتب أخرى ليست إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. ويقيني أنّ بعض الكتَّاب العرب آنيون تحرِّكهم الوقوعات الطارئة، وتصرِّفهم الأحداث العارضة، بحيث تنتهي إسهاماتهم التأليفية بانتهاء تلك الأحداث الوقتية. وذلك ديدن الإعلاميين الذين يقفون على أبواب المسارح السياسية ليتعرّفوا على الأحداث ويعرِّفوا بها. والذين لا يؤسِّسون أعمالهم على (استراتيجيات) صنّاع القرار، يمرون كما الطيف، ويذوون كما باقات الزهور.
وبالعودة إلى السجل الدموي للقرن العشرين تتبدّى لنا وحشية الحضارات التي تدَّعي التأسُّس على (الديمقراطية)، وحقوق الإنسان، والمرأة، والأقليات، والأجناس، والملونين، والطبقات، وحق الشعوب في تقرير المصير، وحق السيادة، ويكفي أن نتذكّر معتقل (جوانتنامو) وسجن (أبي غريب) لنجد أنفسنا تترنم دون وعي بقول الشاعر:



(قتل أمرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن قضية فيها نظر)


والثابت على مستوى الممارسة أنّ الحرية والعدالة والمساواة وسائر الحقوق حق للشعب الأقوى داخل أرضه، ومن خلال مؤسساته، أمّا الشعوب الأضعف فإنّها محكومة بالمصالح و(الاستراتيجيات)، وسياسة الاستعمار القائمة على مبدأ (فرِّق تسُد)، وعلى النظرية (الميكافيلية). ومع أنّنا نتحفّظ على الخطابات المتوتِّرة، وعلى خيار القطيعة، والجهر بالسوء وإن ظلمنا، إلاّ أنّنا لا نلوم المتميّزين من الغيظ، والمقاومين بالقول والفعل لدفع الظلم وانتزاع الحق، ولا يشفع لنا تداخل المقاومة مع الإرهاب جمع الظواهر في سلة واحدة. فالواقع لا يُحتمل، وليس من العدل أن نطفئ لظى الرفض على مبدأ عفا الله عما سلف. وإذ نميل إلى الوفاق والتعايش، وفتح صفحات جديدة، فإنّ ذلك لا يمكن أن يتحقق من طرف الضعيف المغلوب. إنّ على القوي الغالب أن يشيع الطمأنينة، وأن يفتح باب التفاؤل، وأن يضع أوزار الحرب، ويطفئ لهيب الوطيس، وأن يثبت بالممارسة حسن النوايا وسلامة المقاصد، وتوحيد المكاييل أو التقريب فيما بينها على الأقل، وكل ذلك لم يكن ولا أحسبه كائناً في المنظور القريب. ويكفي أن نقدم للتاريخ وللمخدّرين ببريق الادعاء (قضية فلسطين)، وهمجية الصهيونية، ووحشية أحزابها، ممن يستمرئون القتل بكلِّ برودة أعصاب بمباركة الأقوياء وحماة الحرية وحقوق الإنسان. وإطفاء لظى الكراهية لا تكون بالقول دون الفعل، وإن جنّد للدعاية وتحسين الصورة من لا يملك سحر البيان. واستياؤنا من أولئك الذين يسبون قومهم، ويشمتون بعثراتهم، ويموؤون كالقطط الأليفة على موائد الكائدين والماكرين والمتربِّصين.
ولكيلا نكون أدعياء فإنّنا نستحضر وثائق الإثبات من أفواه الخصوم، ليكون الشاهد من أهلها، ولسنا فيما نستعيد من مقترفات شامتين ولا محرضين، ولكننا نريد من المتهافتين على التزكية والتمجيد للغرب دون تحديد أن يستبينوا النصح قبل ضحى الغد، وما كان بودِّنا ألاّ نطاع، فنكون كما شاعر (غزية) الذي غوى بغوايتها حرصاً منه على جمع الكلمة. والغرب بوصفه (ليلى) العاشقين له وعليه، وعلّة العلل تغييب ما عليه. ولسان حال العاشقين يقول:



(تعشقتها شمطاء شاب وليدها
وللناس فيما يعشقون مذاهب)


ولست أشك أنّ المأزق العربي يكمن في تناقض المواقف، وتناحر الفرقاء، واختلاف الاتجاهات السياسية والفكرية، والإخفاق الذريع في إدارة الصراع العربي العربي، والصراع العربي الإسرائيلي، إضافة إلى ضعف المؤسسات العربية أو غيابها، وفشل كافة المشاريع القومية والوحدوية، وتنامي العداء والشك، وصراع المصالح الإقليمية، وافتقاد المناخات الملائمة لأيِّ حوار يتوسّل بالمصير المشترك.
ومشروعية اليأس والإحباط تقوم على مرور ستة عقود على الانقلابات المتلاحقة، والاتفاقات المتعددة، وخطابات الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية الشعارية المخدِّرة، وكلُّ هذه الخطابات التجييشية والتخديرية ما زادت الأُمّة إلاّ خسارة وارتكاساً في حمأة الذل والمهانة. وسقوطها لم يكن بالتقادم، وإنّما كان بالوقوعات ك(غزو العراق للكويت) وخطابات التخوين وتصدير الثورات. والنُّخب التي تدير حوار المشاهد بثقة باذخة، واعتزاز زائف، لا تحس بما يدور وراء (الكواليس)، ولا ما يتداول في (اللوبيات)، فهي الحاضرة الغائبة، والصاخبة الفارغة، والعائلة المستكبرة. ومهما صرخت في وجهها فإنّها تعيش غياب الوعي، وتعزف عن قراءة التاريخ. فأين منها (أفغانستان) و(العراق) و(السودان) و(الصومال) و(لبنان) وسائر الدول النامية؟ فهل من مدّكر يعيد قراءة التاريخ الحديث؟ ليفيق على نكسات الأُمّة، ويبصر أشلاءها المبعثرة، وأوضاعها المتردِّية، ومهانتها في المحافل الدولية، وغيابها عند قضاء الأمور المصيرية، وما من عاقل باستطاعته احتمال مزيد من هذه الأوضاع. والمستمع الشهيد لمراء النُّخب العربية يتصوّر أنّها الآمرة الناهية، وأنّها تعيش في أوج عزّتها وهيبتها. والمتقري لصورة الغرب في ذهنية النخبويين العرب يراها في ذروة العدالة والإيثار والتحضُّر والمواساة والمساواة، وهي صورة تخلط بين الاقتدار والقيم، ومن لم يفرِّق بين (خضراء الدِّمن) و(حقول الأزهار)، يرضى من اللحم بعظم الرقبة، ليكون ك(أم الحليس).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:05 PM   #38
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
السِّجل الدموي للقرن العشرين 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل


لقد كان (بريجنسكي) أكثر واقعية ومصداقية من الكثرة الغثائية المجادلة عن جنايات الغرب، وهو الغربي المستثمر لمكاسب السياسة الغربية، وهو الأدق في تصوُّر الواقع الغربي وتحدِّياته، فلقد فصَّل الحديث عن (سياسة الجنون المنظم) و(الموت الملاييني). ولمّا لم يكن عاطفياً ضد الحضارة الغربية، فقد عوَّل على التاريخ الحديث، ليشهد بما علم، وهو اتكاء ذكي، ينجيه من التخوين والتجهيل الذي تتبادله النُّخب العربية فيما بينها. لقد تعقّب الحروب، وما أسفرت عنه من قتلى بالملايين، معظمهم من الشباب الأمريكي الذي يدفع دمه ثمناً للنفط أو للأمن الصهيوني، ومثلهم معهم من الأسرى والمعاقين والمشرَّدين والمساجين والمفقودين والمرضى النفسانيين، وكلُّ أولئك ضحايا حروب غير معلنة وغير مشروعة، أذكاها، أو رعاها الغرب، حتى إذا فرضت الأمر الواقع بين الأعراق أو الطوائف أو المناطق، عاد يبلسم الجراح، ويدعو للإصلاح، فكان البرُّ الرحيم في نظر البسطاء الساذجين، ولو أنّه تخلَّى عن تدخُّلاته، وخلَّى سلاح المتنازعين بينهم لسوَّوا خلافاتهم فيما بينهم.
فأيُّ حضارة تلك التي تستمرئ القتل العشوائي والتدمير المجاني، وتمكن من استفحال المجاعات والأوبئة والاضطرابات والثورات الدموية، وتقطع آلاف الأميال بسلاح الدمار إلى بلاد فيها ما يلهيها ويشقيها على يد أبنائها. أليست ذات وجه قبيح مستقذر تخفيه وراء زيف الأقنعة؟ وحين تضع الحرب أوزارها، يستحر القتل التصفوي، وهو ما يُعرف بإعدامات (أعداء الشعوب). إنّ إحصائيات القتل العسكري والإعدامات الثورية يشيب من هولها الوليد، والوعي السياسي عبر التاريخ الحديث لم يكن إلاّ ومضات خافتة، لا تتمكن الشعوب معها من التقاط أنفاسها، وما من (طوباوية) يتفوّه بها ثائر إلاّ كانت كما اللهب للفراش. والحروب الباردة تجر الأقدام والأقلام إلى التفسُّخ والتحلُّل والتمييع لحدود الله، والتلميع لأعدائه، والمؤذي أنّ الناهضين بالمهمات البلاغية هم أبناء الحضارة المستباحة. هذا الواقع المدان بكلِّ المقاييس لم يحرك شعرة في مفرق الراقصين على الجراح، ولم يعدل شيئاً في ساقط الكلام الذي يلوون به ألسنتهم.
والحضارة المعشوقة إن لم تكن حاضرة بالسيف واللسان فهي وراء المجازر بالتبرير والتغرير والإمداد بالغي وحق (الفيتو). وإذ تكون لها الكبرياء المادية فإنّها دون ذلك فيما سواها، ولو عرفنا لها مجال الكبرياء، وأَبنَّا للملأ وجهها الآخر بكلِّ قبحه ودمامته، لكنَّا عدولاً في أحكامنا. ولسنا بدعوتنا تلك دعاة حرب ولا قطيعة، وشنآننا لا يحملنا على الظلم، وكيف لا يكون عدل مع النفس ومع الغير وحضارتنا تدعو إلى ذلك في الحكم بين الناس كافة مؤمنهم وكافرهم، ومشنوؤهم ومحمودهم. وما قامت السماوات والأرض إلاّ على العدل.
وكتاب (بريجنسكي) يستمد مصداقيته من التوثيق في الزمان والمكان والحدث، ومن لغة الأرقام التي لا تكذب أهلها. ولو قرئ التاريخ الحديث بأبصار حادّة تعضدها البصائر الجادّة، لأصبح الذين يتمنّون التماثل والتماهي بالأمس يقولون غير قولهم التمجيدي الباذخ. ولمَّا كانت حضارة التناقض لا تنازع في شيء مما هي عليه، وليس في المنظور القريب من يوازيها، فإنّ مقاييس التميُّز لا تكون في العتاد والعدّة والعدد، وإنّما هي في القيم والمبادئ. والذين يتولون شطراً من المفاضلة والتصدير، ليسوا من أبنائها، وإنّما هم من ضحاياها، وتلك إشكالية المغلوب، إنّه يصنع الهزيمة والانكسار، كما يصنع الفقراء الفقر بسوء التقدير والتدبير.
و(بريجنسكي) الذي رصد الأحداث السياسية والعسكرية، وتقصى الأحلاف والمؤامرات لم يكن أكثر من شاهد على العصر، لعيضه بأكثر من حدث، أملاً في استقبال العصر الجديد بآلية جديدة، وتفكير جديد، يحقنان الدماء، ويؤلفان بين الفرقاء، ويعيدان للإنسان المتوحش إنسانيته، وللإنسان المستباح حريته. وإذ يجعل من (أمريكا) رأس الحربة فإنّه يشير إلى تجاوزات (فرنسية) و(ألمانية) و(روسية) ولكنها تجاوزات وقتية، وإن كانت قاصمة، فما فعله (الفرنسيون) في (الجزائر)، وما فعله (الإيطاليون) في (ليبيا)، وما أشعلته (ألمانيا) من حرب عالمية وصمة عار في جبين الحضارة الغربية. ولو أنصف المؤرِّخون وأحصوا القتلى تحت راية الإسلام خلال أربعة عشر قرناً في مقابل ما قتل في الحربين العالميتين، وما بينهما، وما بعدهما من حروب شرسة ذات غايات دنيئة لأدرك الجميع أنّ الإسلام دين دعوة انتشر بالقدوة، ولم يبلغ المشارق والمغارب بالسيف. وما لا ننكره اعتزال أمريكا في مطلع القرن المنصرم، ووقوفها على الحياد الإيجابي ردحاً من الزمن، واشتغالها بصناعة الحضارة المادية، وتحقيق العلم بظاهر الحياة الدنيا، إذ كانت إذ ذاك دولة العدل والحرية والمدنية. ولكن هذا الاعتزال الإيجابي انقلب على عقبيه، فخسرت الشيء الكثير. والعداء المستشري لأمريكا سيكلفها الشيء الأكثر. وإن كانت طائفة من عشاق الأضواء قد استحوذ عليها حب عذري يمتلئ هيبة وإجلالاً.
والتناقض الذي لم يتبيَّنه المخدوعون والمخادِعون تناوله الكاتب الغربي الممتلئ معرفة وإنصافاً في الفصل الثاني (الرسالة غير المتناغمة) وهو حديث رصدي لسياسة أمريكا الخارجية، فهي في مطلع القرن تُعرف برسالتها عن (الحرية) بكلِّ مغرياتها، وفي منتصفه قدّمت رسالتها العسكرية متلبّسة بردود أفعال متناقضة. وتلاحق التدخُّلات العسكرية، واللُّعب السياسية، والقمع المتعمّد للإرادة الإنسانية ب(الفيتو) واكبه انهيارات في سائر القيم تَمثَّل في تدنِّي التعليم والعناية الصحية وتدهور البنية التحتية والثراء الفاحش للبيض والفقر المدقع للسود وانتشار الجريمة والعنف وثقافة المخدرات وظهور اليأس الاجتماعي واستفحال الإباحية والفساد الأخلاقي، وانخفاض الوعي الديني والتعدُّدية المهدّدة بالتفتُّت. وخير تجسيد للسياسة الخارجية توحي به مذكّرات وزراء الخارجية الأمريكية، وهو ما سنقرؤه، ونستقرئه - فيما بعد - لنستبين انعكاس سوء التدبير على سائر الحيوات الخارجية والداخلية من دول يفترض أن تكون راعية للعدالة الإنسانية كما تدّعيها، وكما يشيعها المتعشّقون لها.
وفي الفصل الثالث حديث عن (خصوم بلا حدود) وهذا في نظري نتيجة التخبُّط، وفيه تساؤل مُلح عن احتمال عجز أمريكا عن توجيه سلطة عالمية فعالة: - فهل من بديل؟ لقد أوجس الأمريكان خيفة من الحرب التجارية مع (اليابان) ولم تخفهم الحرب العسكرية بعد امتلاكهم لقوة الردع، وحرب النجوم، وضمان التفوُّق العسكري. والخوف من تحوُّل القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية، تقلّص النفوذ السلمي، ومن ثم تتحوّل أمريكا إلى مجرَّد شرطي يملك أفتك الأسلحة، ويقوم بممارسة التأديب لكلِّ حراك إنساني تتوقّع أنّه يهدِّد سيادتها على العالم لا على نفسها، إذ ليس بمقدور العالم الثالث أن تصل يده إليها. ولأنّ مهمات الشرطي قد تفسح المجال لحراك اقتصادي فإنّ دول (شرق آسيا) رحّبت بالتفوُّق العسكري الأمريكي الذي ألهاها عن كلِّ مهمة إنسانية، ولربما تكون غطرسة القوة من حوافز التكتُّلات الأوربية والشرق آسيوية، وعندئذ ينفلت زمام القطب الواحد. وليس أدل على ذلك من تألُّق السياسة الفرنسية في عهد (ديجول) لقد ركز على الحرية والكرامة الإنسانية، حتى لقد شد أنظار العالم إلى الجمهورية الخامسة.
ويختم المؤلِّف حديثه عن (معضلات الاضطراب العالمي) مستبعداً أن تكون أمريكا شرطياً أو مصرفياً للعالم، وذلك التوقُّع إحساس يجتال المكتوين بنارها من أبنائها الفارين بجلودهم من التجنيد، وبأثريائها الفارين بأموالهم من الضرائب التصاعدية، وإذ تمتلك الأمم المتحدة قدراً من السلطة العالمية التي تمنحها مشروعية التدخُّل، ولو من خلال القرارات غير المنفّذة، فإنّ أمريكا تمارس المهمات نفسها دون مشروعية. وهذا تصرُّف يقدح فيما تُدلُّ به، ويُدلُّ به المبهورون من حرية وعدالة ومساواة وصدق وانضباط وخضوع طوعي للقانون الدولي والأعراف الدولية. وهل تستطيع شعارات الحرية والعدالة والمساواة إزالة وضر النجاسة العينية في (الماسونية) و(الصهيونية) على سبيل المثال؟.
وسخريّة الكاتب في مغامرات أمريكا جعلته يفترض خيارات مستقبلية تتمثَّل بتوقُّع (اتحاد عالمي) بدلاً من الهاجس الأمريكي ب(حكومة عالمية). ولعلَّ حفلات الأعراس بانهيار الاتحاد السوفيتي انقلبت إلى مآتم، فالاضطلاع بمهمات القطب الواحد باهظة الثمن، لقد أدّت إلى اضطلاع أمريكا بمهمات (الشرطي) و(المصرفي) في آن، ولتخفيف الأعباء وصرف الأنظار انبعثت اللُّعب السياسية، وأمعنت في فتح ملفات (الحدود) و(الأعراق) و(الطائفيات) و(تعارض المصالح) و(تعدُّد الأحلاف) وتلك الملفات أنتجت ما وصفه المؤلف بحمامات الدم والاضطراب العالمي. ما نريده من الكتبة الممجِّدين أن يقرؤوا أمريكا من الداخل، وأن يتعرّفوا على مغامراتها في الخارج، وألاّ يقولوا عليها إلاّ الحق.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:06 PM   #39
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
وفي الناس بوقات له وطبول ..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


يقول المتنبي وهو يمدح مثلَه الأعلى:




(إذا كانَ بعضُ الناسِ سَيفاً لِدَولَةٍ
فَفي الناسِ بوقاتٌ لَها وَطُبولُ)


والعلاقة خارج السياق اللغوي بين الصفتين، أنّ السيوف مع صغرها وخفتها تحسم المواقف. والبوقات والطبول مع كبرها وصخبها لا تزيد المستمع إلاّ ترفاً واسترخاء، وهي في النهاية إضافة فارغة لتفويت الفرص، وتضييع الوقت. وكم نسمع، ونرى في مشاهدنا العربية منذ الصدمة الأولى للمدنية الغربية على يد (الطهطاويين) وعقبهم من لا يتجاوز بنفسه مهمة البوق والطبل لمدنية الغرب وحضارته، وما يكتنفهما من ممارسات مخلّة بالقيم الإنسانية. والناس حين يسمعون بالطّبل والبوق، أو يستمعون إليهما، يتبادر إلى أذهانهم الفراغ والصراخ، الفراغ من المحتوى، والصراخ المحقّق لمقولة (العرب ظاهرة صوتية). وكلّما كبر الطَّبل أصبح له دويٌّ كدويِّ النَّحل، مع الفارق المذهل بين مملكة النحل وطحن القرون.
وإذ نسلِّم بسنن الله التي يحكم بها الكون، ويدبره، لا نقيد أنفسنا بالإذعان، ولا نرغبها بالاستسلام، ولا نزين لها الركون للواقع المؤلم الذي يعيشه عالمنا العربي، عالم الاستهلاك والإهلاك والتعالي كالدخان. فالله جلَّ وعلا قضى وقدَّر، وأجرى القلم بما هو كائن، وهذه السُّنن النافذة ذات أنواط: سنن مناطها المادة الخالصة. وأخرى مشوبة، وهي بالمعنوية ألصق ك:
- الصراع.
- والتداول.
- والتدافُعْ.
ومع نفاذ تلك السنن، فإنّ لله وعداً لا يُخلفه، وله إرادة كونية لا ترد {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} «الإنسان: 30». وإرادة شرعية {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} «الزمر: 7» وفي ظلِّها تكون مشيئة الإنسان {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} «الكهف: 29»، وأمام كلِّ هذه السنن والإرادات يظل الإنسان تحت طائلة التكليف والمحاسبة والثواب والعقاب. وبالعمل تتحدُّد أمانة التكليف، التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان ظلماً وجهلاً. ومن ثم فليس له أن يستسلم، ولا أن يحتج بالقدر. والذين يفغرون أفواههم أمام مدنية الغرب، ويذهلون عما يملكون من استعداد ذاتي، وقدرة على الفعل والتفاعل، يسلِّمون بأزلية التفوُّق الغربي وحق الهيمنة. ولا يجدون حرجاً من الخنوع، واستبعاد القدرة والمبادرة. ولا يتردَّدون في التسابق لتسويق قيم الحضارة الغربية ومبادئها المناقضة لقيم الحضارة الإسلامية، كما يستعذبون الذب المتواصل عن عواجيز أصحابها، والشرعنة لمصطلحاتها ومناهجها وآلياتها، التي يرون أنّها وحدها القادرة على معالجة تخلُّفهم. ولأنّهم مأخوذون باتباع أهل الكتاب حذو القذة بالقذة، فإنّهم يستحضرون ما فعله الغرب من نفي لهيمنة كنائسهم وقسِّيسيهم. وحين تكون حضارة الغرب وإنسانها عند هؤلاء المرجع والمثل الأعلى. فإنّها تعشو عيونهم عن مقترفات تلك الحضارة، وكأنّ الله قد حولَّهم إلى أبواق وطبول، يهتفون بمواكبها القادمة لإذلالهم، وإفساد أخلاقهم، وتفريق كلمتهم، ومناصرة أعدائهم الذين اغتصبوا أرضهم، وشرّدوا أهلها. وحجُّتهم أنّ من هذه الحضارة الإبرة والصاروخ، والورق والأحبار، والمأكل والمشرب، والعلاج والشفاء، والمواصلات والاتصالات. وكأنّ شيئاً من هذه الإمكانيات لا يكون لنا منها شيء إلاّ بثمن من عقيدتنا، وقدر من تراثنا، وشيء من المساس بمكانة عظمائنا. وفي مقابل ذلك نجد من ينفي حضارة الغرب، ولا يراها إلاّ جاهلية جهلاء، لربطه الحضارة وجوداً وعدماً بالقيم العقدية الإسلامية، وذلك بعض الخلاف بين (سيد قطب) و(مالك بن نبي) - رحمهما الله -، وهو خلاف عميق لتوسله بشواهد معرفية، ليست على شاكلة ما نسمعه من طائفتي الإفراط والتفريط في زماننا الردئ.
والبوقات والطبول حين يتوّلون الغرب، ويوالونهم لا يفرِّقون بين الحضارة والمدنية، ويظنون أنّ الأخذ بالقيم المادية، لا يتأتّى إلاّ بتقمُّص القيم الحضارية. والجهل المطبق لم يمكنهم من التفريق بين مقتضيات (المدنية) و(الحضارة)، ولو أنّ البوقات والطبول أحسنوا الفهم، وأدركوا الفرق بين الماديات المشتركة والمعنويات الخاصة، لأمكن الأخذ بالأسباب، والتصرُّف بأمور الدنيا وفق المقاصد. وإذ هيئت أسباب التفوُّق المادي للغرب بالتخلُّص من هيمنة الكنيسة، وسلطان الكهنة، والدخول في العلمنة الشاملة، تصوّرت طائفة من التنويريين أنّ إقالة العثرة العربية لا تكون إلاّ بمثل ما أقيلت به عثرة الغرب، من نفي للدين، واستدبار لأهل الذِّكر. وهذه الهواجس والتطلُّعات غير الممكنة أطالت زمن التيه، وأدّت إلى فوات الفرص، وما استبق (اليابان) خيرات الغرب بنفي دينه والتخلِّي عن قيمه. لقد كان بإمكاننا تبادل المنافع في الجانب المادي، وإعادة النظر في التطبيق الحضاري الإسلامي. فالحضارة الإسلامية حضارة شمولية مرنة ومنفتحة لأكثر من تأويل، متى استطاع أهلها تمثُّلها، والأخذ بفسحها. ومن عثرات البوقات والطبول أنّهم يخلطون بين مفهومي (عالمية الرسالة) و(شمولية الإسلام)، وهو خلط يفوِّت على المتابع فهم المصطلحات على وجهها، وما أردى المشاهد، وأطال فيها المكاء والتصدية والصوت والدوي، إلاّ اضطراب المفاهيم، وتقحم المبتدئين. والمحبطون الذين تحوّلوا إلى بوقات وطبول لحضارة الغرب فوّتوا على الأُمّة الاستفادة من مدنيته، بحيث ظللنا استهلاكيين أُميين. ويا ليتهم إذ قنعوا به، خلعوا أقنعة التمويه، واعتمدوا القول الصراح، لنعرف من نكون، وما موقعنا بين الأمم، إذ ليس من مصلحة الأُمّة أن يكون فيها من يقولون: آمنّا، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم. وإشكالية الأُمّة العربية منذ حملة (نابليون) إلى حملة (بوش) إنّها مضطربة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وأزمتنا القاتلة أنّنا اصطفينا من سائر الحضارات والمدنيات حضارة الغرب، لاستهلاك منتجها، وتصنيم مبادئها، وتعظيم رموزها، فيما اصطفتنا للذل والهوان، وتمكين الأقلية اليهودية من الرقاب، تقتل الأبناء، وتذل النساء، ولماَّ نجد بداً من التحدُّث عن كلِّ شيء في الوجود من خلال التفكير الغربي، والرؤية الغربية، والتجربة الغربية، والمرجعية الغربية. ولقد أدّى هذا الانصياع الطوعي أو الاضطراري إلى نسيان التراث العربي، ونشوء القطيعة معه، والزهادة فيه. فالذين يتحدثون عن اللغة على - سبيل المثال -، يحيلون إلى المستجد من المناهج والآليات، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة والاستزادة، ولكن المانع أن ندع تراثنا اللغوي المتمثّل بالمدارس النحوية واللغوية العريقة والعميقة، سواء منها ما يتعلَّق بنظام اللغة، أو بجذورها، أو بمادئها أو بدلالاتها المتعدِّدة في حقول الحقيقة والمجاز والسياق. ومن أولئك من لا يكتفي بالعدول عن التراث جهلاً أو تجاهلاً، بل ينال منه، ويسخر به، وقد يحكم بموته. ولك أن تقول مثل ذلك عن سائر القضايا والتيارات والمذاهب الفنية المتعلِّقة بالإبداع القولي. وما (الحداثوية) إلاّ عين الانقطاع، وبدون القطيعة لا تكون الحداثة حداثة. هذا التعويل المطلق وغير المشروط حكم علينا بالاستغراب المدان. وحين نشجب التهافت، فإنّنا لا نمنع من الاستكناه والاستثمار والاستفادة والتفاعل والتعايش السلمي، وتبادل المصالح والوفاء بالعهود والمواثيق. والمتهافتون لكي يمنحوا استغرابهم المعقولية، يتهمون خصومهم بالمقاطعة والمقاومة والانعزال. وما اعتقده أنّنا أحوج ما نكون إلى مدنية الغرب، وإلى شيء من مناهجه وأساليب تعامله، ولكن تلك الحاجة لا تستدعي إلغاء الذات وما يحييها.
وما من مفكِّر إسلامي يعي واقعه، إلاّ هو على بيِّنة من أمر العلاقة بين الحضارات، ولا يتم التصوُّر السليم لحوار الحضارات إلاّ إذا استثمرت القواسم المشتركة، وليس هناك حضارة في الوجود ليست لها قواسم مشتركة مع أيِّ حضارة، وليست هناك حضارة مستغنية عن مستجد الحضارات الأخرى، وكيف يحقُّ لنا إغلاق أبوابنا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: - الحقُّ ضالة المؤمن، وأنتم أدرى بأمور دنياكم. فكلّ نافع لا يخالف المقتضى الإسلامي حقٌّ مطلوب، وإن كان يهودي الانتماء أو نصرانية، ورد شيء منه بحجة انتمائه أو مصدريّته تقليص للشمولية. والذين ينفون تراثهم بحجة جلب المصالح، ليسوا على شيء من الوعي بتداخل الحضارات وتوارثها، وما هم في حقيقة الأمر إلاّ بوقات وطبول لمن سامهم الخسف. والمتهافتون على منجزات الغرب، يظنون كلَّ الظن أنّ حضارتهم عاقر، قد بلغت من الكبر عتيا، وأنّها غير قادرة على المبادرات. ولقد أدّت دعاية الغرب أثرها، واستحوذت على ملكات معطّلة، لا تملك إلاّ الضجيج الفارغ، والاستهلاك النَّهم. والآخذون بمناهج الغرب في الفنون يوازيهم من يأخذ بمبادئه وسائر شؤونه. ولعلّ الانفتاح على الشرق مؤذن بيقظة جزئية، وإن كانت تلك المبادرة متأخرة، فالشرق له حضارته ومدنيته، والسعي لتعدُّد المصادر مؤذن بقمع الهيمنة الغربية، وإزالة الغشاوة عن عيون المبهورين.
والذين يتحدثون عن الفكر السياسي، ليسوا بأحسن حالاً ممن يتحدثون عن سائر الفنون والمعارف، إذ يظنون أنّ الغرب وحده الذي أسّس للسياسة، وأنشأها من العدم، وسنّ لها السنن، وقعّد لها القواعد، وأصّل لها الأصول، فكان أحقّ بها وأهلها، وأنّ التاريخ الإسلامي لا ينفك من ذكر الغزوات والسرايا والحروب والقصور والجواري والغلمان، وأنّ الحضارة الإسلامية لم تتعرّض للقوانين السياسية. والقائلون بهذا عالة على مفتريات الاستشراق، ولو أنّهم نقّبوا في غيابة التاريخ، ونشروا صحف التراث، لأدركوا أنّ الحضارة الغربية أتى عليها حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً، وأنّ الحضارة الإسلامية وضعت أسساً للفكر السياسي، لم تَسْبِق إليه أيُّ حضارة. ويكفي أن نشير إلى أنّ قضية (الإمامة) وحدها عولجت بأكثر من عشرين كتاباً، ظهر أوّلها في القرن الثاني الهجري، ولقد دقَّت رؤية الفقهاء، وتنازعتهم مصادر التشريع، واختلفت مذاهبهم في الشأن السياسي: تنظيراً وتطبيقاً، حتى لقد نسلت نحلة (الإرجاء) من الفعل السياسي، وكانت لكلِّ طائفة رؤية سياسية، تختلف عن سائر الرؤى. هذا التراث المنسي في غمرة الانبهار حَفز المنصفين من المستشرقين على القول بفضل الحضارة الإسلامية في سائر حقول المعرفة.
ولمّا كانت الحضارة الإسلامية قد بدأت بالمشافهة والرواية، فقد اهتم العلماء بالرصد التاريخي للخلافة الراشدة التي تمثِّل جذور الفكر السياسي. وبوادر النظم والإجراءات تدل على وعي مبكر بأهمية الخلافة وتداول السُّلطة ومهمّاتها.
والفقه الإسلامي عالج المسؤولية السياسية ضمن ما عالج من قضايا، وقد واكب الفقهاءَ موسوعيون، تناولوا موضوعات ذات مساس قوي بالسياسة ك(الخراج) و(الجند). ولعلّنا نشير إلى يقظة (ابن تيمية) الذي عاش مرحلة الضعف والتفكُّك وحروب التتار، فألّف في السياسة الشرعية ومتعلّقاتها من (ولاء وبراء) و(جهاد) تقتضيه المرحلة، ما يدل على وعي تام بمقوّمات الدولة، وشروط الخليفة، وأهمية الجهاد. ولم يقتصر تناول الشؤون السياسية على الفقهاء، وإنّما اهتم بها الفلاسفة: ك(الفارابي) و(ابن سيناء) و(ابن الصائغ)، وبعض هؤلاء وضعوا نظريات، ولم يعالجوا وقوعات، واستشفوا حضارات سادت ثم بادت. فكان لهم الفضل في حفظ التراث الإنساني، وليس ببعيد ما يتداوله فلاسفة الحكم في العصر الحديث كما تناوله (العقاد) في كتاب مستقل. وأمام هذا الفيض لم تلتفت البوقات والطبول إلى شيء من ذلك، لا قدحاً ولا مدحاً ولا إضافة، وما أضرّ بالأُمّة إلاّ انتزاع العلم الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى، وهو من أشراط الساعة، وها نحن نسمع ونرى من يتحدث عن (الجهاد) و(الولاء) و(البراء) و(الخلافة) وغيرها، وهو لا يعرف الدليل، وإذا عرفه لا يفقهه، ومع هذا يتصدّى لكبار الفقهاء المؤصلين، بكلام لا يضبطه أصل، ولا تحكمه قاعدة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:06 PM   #40
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
وفي الناس بوقات له وطبول 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


والعدول المريب كالصمت المريب، فالذين نسوا ما ذكروا به، تعالقوا مع مستجدات الغرب دون تحفُّظ، واتخذوه عضداً دون مواربة، والذين وهنوا وضعفوا، قطعوا العلائق معه، ظناً منهم إنّها السبيل القاصد للنجاة، ولم يحسنوا إبلاغ ما أمروا به، بل لم يحسنوا تمثُّل ما أمروا به. ولم يكتف المائلون كلَّ الميل بالتعالق، وإنّما أوغلوا في إثارة الرأي العام بإكراهه على التماهي مع الآخر، وفي التدافع المخيف على بؤر التوتُّر، يلوكون قضايا الأُمّة الساخنة بكلِّ برودة أعصاب، ويميلون مع الريح حيث مالت، وما هم إلاّ كمن أراق ما معه من ماء، حين خدعه سراب القيعان. وأمام الإثارة والتدافع والإكراه هممت أن ألوذ بالصمت، للخلوص من فتنة الهرج والمرج وصيحة العامة التي استعاذ منها العلماء الناصحون المجرّبون. ولولا أنّ الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس، لما أجريت القلم على القرطاس. ولتهدئة الأجواء دعوت إلى (مرحلة التكتُّل والتكتُّم)، للتمكُّن من مراجعة النفس، ورأب الصَّدع، وبثِّ الطمأنينة، والعدول عن كشف السوءات، ونشر الغسيل. فما عدنا نحتمل مزيداً من المجاهرة بالسوء.
ولقد حذَّرت من عدوٍّ لا يدع لفظاً نتفوّه به، إلاّ رصده وحلّله واستثمره في شرعنة التدخُّل في شؤوننا الخاصة. وها هو اليوم بعد أن فاضت أوعيته من لغطنا، يدس أنفه في كلِّ قضايانا، وكأنّنا نستنجده ونستغيثه، وكأنّ أوضاعنا في حالة من التخلُّف والظلم، بحيث تقتضي الوصاية، وتستدعي التدخُّل السريع. وأكاد أجزم بأنّ الذي مهَّد له الطريق، وشرعن له الوجود العسكري هم أولئك البوقات والطبول. ويكفي أن ندلِّل على تلك الجنايات بالقول الآثم حول مناهجنا ودورها في صناعة الإرهاب، حتى لقد أضطر البعض إلى التصدِّي لهذه الاتهامات، وهو السبب الرئيس في قيامها.
ولعلّنا نستذكر التقرير السيئ الذي أصدره (مركز الحريات الدينية)، بوصفه هجوماً كاسحاً للمناهج الدينية في (المملكة العربية السعودية)، إذ يصفها بالتعصُّب والتحريض. هذا التقرير الذي أحدث زلزلة في الأوساط الإسلامية، وبخاصة في (مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية) وجاء على لسان رئيسه (نهاد عوض)، ولكي يعزِّر رئيس بيت الحرية الأمريكي (بيتر إيكرمان)، رؤيته الظالمة، عوّل على مقولات كتبها (سعوديون) عن المناهج، حيث جاء فيها ما معناه: (إنّ المناهج تشجِّع على العنف تجاه الآخرين، وتدفع بالطلاب إلى الاعتقاد بأنّه للحفاظ على دينهم فإنّ عليهم تصفية الآخرين بدنياً). هذه المقولات التي لم يحسب لها قائلوها أي حساب، التقطها الغرب عبر مؤسساته المتربِّصة، وعزَّز بها رأيه، وسند موقفه، وعرَّض المملكة لاتهام جائر، سوف يضطرها إلى بذل الجهد والوقت والمال لتبرئة مناهجها، وهذا الجهد سيلهيها عن مهماتها العربية والإسلامية، بوصفها دولة مؤثرة في المحافل الدولية. والذين أوغلوا في النَّيل من المناهج، يظنون أنّهم في معزل من المتابعة والرَّصد، وانتزاع الشاهد من الأهل. والإشكالية القاصمة، أنّ محدودي المعرفة يظنون أنّ القول في (الجهاد) قول ناجز، لا تحكمه العهود والمواثيق والدوافع وأمر الخليفة، وعلى ضوء تلك المفاهيم الخاطئة جعلوا تناوله في المناهج جزءاً من الإرهاب، وتلك من قواصم المشاهد الفكرية، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، وليس وقفاً على القتال، وإسقاطه من المناهج لا يسقطه من القرآن وكتب السلف، وتناوله لا يحمل على الإرهاب، فالذين درسوه من الآباء والأجداد كانوا أكثر جنوحاً للسِّلم. وأوفي للعهد، لا يؤذون ذمِّياً ولا معاهداً، ولا يُسْلمون مستجيراً، بل يبلغونه مأمنه.
إنّ هناك بوقات وطبول لا تقيم وزناً للكلام، ولا تعرف أنّ هناك من يرصد الأنفاس، ويحصي التحركات، ويوظف كلّ ذلك للنَّيل من سيادة الأُمّة، والذين تابعوا التقرير والتصديات له، لم يسائلوا أولئك الذين عزَّزوا موقف (بيت الحرية) من أبناء البلاد، مع أنّ مناهج التعليم ومواده لا علاقة لها بالإرهاب، إذ الإرهاب بقايا لعب سياسية معروفة، ولقد استوفيت الحديث عن الإرهاب: أسبابه وانتمائه ووسائل مواجهته في كتابي (أبجديات سياسية على سور الوطن)، ولم أعد بحاجة إلى تكرار ما سبق.
وحين نناشد الكف عن تمجيد الآخر، وتجريح الذات، ونسعى إلى المصالحة مع القائم فإنّنا لا نزكِّي على الله أحداً، ولا نبرِّئ عاملاً من الخطأ، ولا منهجاً من الحيف، ولا نمنع مصلحاً من الإصلاح، ولا ناقداً من النَّقد، وإنّما نريد أن نعرف الفرق بين النصيحة والفضيحة.
فمن ادعى العصمة أو القدسية فقد عصى أبا القاسم.
ومن حسب نفسه فوق المساءلة والنَّقد مسَّه طائف من جنون العظمة وعنف الغطرسة.
ومن اتخذ إلهه هواه أضلَّه عن الذكر وعن الاستقامة على الحق.
ومن صادر قول المخالف أغلق باب الاجتهاد، وحمل الناس على فهمه المحدود. ومن تقحّم عوالم العلماء الأفذاذ، ومنح نفسه حق الاجتهاد، وهو من غير أهله، أيقظ الفتنة، وأضلَّ الناس على جهل.
ومن تصوَّر ألاّ معقِّب لقوله، ولا مُسائل عن فعله، أخذته العزّة الزائفة بالإثم الموبق.
فالله وحده الذي لا معقِّب لقوله، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل. وطلب الكف عن المكاء والتصدية لا يمس النقد الموضوعي، ولا الشفافية الإيجابية، ولا الصدع بالمساءلة. فالأدواء قائمة في الأنفس وفي الواقع، والمواجهون لها لا بدَّ أن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر، وإن لم يفعلوا شملهم الخُسر، ولهذا قيل: - لم يبق لي قول الحق صديقا. فالناطق بالحكمة وفصل الخطاب لا يسلم من الاتهام والتقريع، ومجتمع لا تُقال فيه كلمة الحق مجتمع يتآكل كما قوالب الثلج، وبئست أُمّة لا يبادر عقلاؤها ومجرِّبوها أطر مبتدئيها على الحق.
وإذ لا نجد بدّاً من نقد الذات، فإنّنا مضطرون إلى نقد النَّقد، ذلك أنّ طائفة من الكتّاب يتجاوزون النَّقد إلى الجلد، والنصيحة إلى الفضيحة، والموضوعية إلى الذاتية. والنَّقد الذي نتحفّظ عليه إنّما هو التجريح القائم على نفي الذات، وإقصاء الحضارة واليأس والقنوط.
وكم هو الفرق بين العرض اليسير والحساب العسير. ونقد التقويم وانتقاد التحطيم. والتذكير باللين والسخرية المرة.
وليس الأمر وقفاً على القسوة واللين، ولكنه يتعدّى إلى افتراء الكذب، وتمكين المتربِّص من الرِّقاب، كما حصل مع (بيت الحرية) ومفترياته، والذين يهرفون بما لا يعرفون، تراهم مضطرين في آرائهم ومواقفهم، يرمون خصومهم بما في أنفسهم، ويتخذون من اضطراب المفاهيم ذريعة لتقلبهم، وتقليب المصطلحات المنقولة.
فالذين يتوسّلون ب(الأدلجة) ليجعلوا منها سمة مذمة، يطلقونها على خصومهم دون فهم لها، ودون رصد لتحوُّلاتها التاريخية. فالحياة بدون أفكار كالأجسام بدون أرواح، والإنسان بدون دين إن هو إلاّ كالأنعام بل هو أضل، والتديُّن فطرة إنسانية، وهو عين (التأدلج)، وما عِلْم الأفكار إلاّ الدين وعلومه، والمتسطحون المتعالمون إذا أرادوا توهين خصم وصفوه ب(المتأدلج)، وما دروا أنّ (الأدلجة) قيمة فكرية وتاريخية لا تعمر القضايا، ولا تحيا إلاّ من خلالها.
و(أدلجة) الأدب، وتسييسه بهذه الطريقة العنيفة الهوجاء، وبتلك السمة، لم يكن من عند الإسلاميين، وإنّما هو من (الماركسيين)، حتى لقد ضاق نقّّاد الأدب المكبوتون بالإلزام (الماركسي)، واتخذوا ما يسمّى بالنقد الهروبي، وهو (النقد الشكلاني) للخلاص من (الأدلجة) القسرية، وجاء (الحداثيون) ليفسدوا ما بقي من مذهب الفن للفن. وسبقُ الإسلام إنّما هو في جعل الأدب في خدمة الحياة والعقيدة، دون المساس بخصوصية الإبداع والإمتاع، والنقد الإسلامي يفرق بين الأدب الخالص والمواعظ، والنظم العلمي. و(الاستشراق) بوصفه الجسر المعرفي للتواصل بين حضارتين تعيشان صراعاً أزلياً، يراوح بين صراع الأفكار وصراع السلاح، وهو معدود من آليات الصراع، التي لا تكاد تنفك من الإسهام الفاعل لصالح الآخر، وتحييد الصراع الفكري، محاولة أطلقها الماكرون وصدّقها المغفلون. ولأنّ طريق السيطرة يمر على جسر الأفكار، فقد حاول الغرب تحييد ذلك من جانب المغلوب، والهيمنة لا تتحقّق إلاّ بالفهم الدقيق أولاً، ثم التوجيه صوب الأهداف.
إنّ الغرب لكي يحكم قبضته لا بدّ أن يمكِّن ل(أيديولوجيته) على حساب أفكارنا وثوابتنا، وواجبنا أن نفرق بين طغيان الأفكار، وتفشِّي المدنية، فالصراع الفكري شيء، وانتشار المدنية شيء آخر. فالمدنية تدخل ضمن التبادل المشروع بين خامات الشرق، وصناعات الغرب، وفي ذلك توازن أراده الله لعمارة الكون. وما تدري الأبواق والطبول أنّ ما يبذله الغرب للدعاية والتسويق لهذه المنتجات المدنية يكاد يفوق أثمانها، وأنّ حرصنا على تسويق ما أفاء الله به علينا من كنوز الأرض، دون حرصهم على تسويق منتجاتهم. وما دروا أنّ ذلك كله من سنن الله:
ف(الناس للناس من بدو وحاضرة .. بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم).
وما دروا أنّ هذه المدنية المبهرة، ليست من صناعة الغرب وحده، وليست من اكتشافه وحده، وأنّ الأخذ منها لا يقتضي الإذعان لفكره، ولا يعني تمثُّل حضارته، والتخلِّي عن الدين وثوابته، والفكاك من التمسُّك بقيم الحضارة الإسلامية، والدفاع عنها، وإبلاغها لكافة شعوب العالم. ومن تصوَّر أنّه لا يمكن الجمع بين (الصاروخ) و(المصحف) ولا بين (المسجد) و(المعمل) ولا بين (الحجاب) و(العمل) فقد أضاع الاثنتين: حضارته، ومدنية الغرب، وأحسب أنّ الأبواق والطبول قد شبت عن الطّوق، وعرفت أنّه لا جفوة بين العلم والدين، ولا بين المعاصرة والالتزام. وكيف يُتصور ذلك، وأبناؤنا يذهبون إلى كافة أنحاء العالم، يتلقّون مختلف العلوم الحديثة، ويعودون صالحين مصلحين دعاة ومرشدين.
والدين الإسلامي لا يمنع من إعداد القوة الحسية والمعنوية، ومن تصوّر أنّ التمسُّك بكتاب الله وسنّة رسوله عائقاً من غزو الفضاء، وحرب النجوم، فقد أخذه ما أخذ التنويريين في الغرب، وما درت البوقات والطبول أنّ المصلحين الغربيين نفوا ديناً مزيفاً، وأنّ المصلحين المسلمين جدَّدوا ديناً رانت عليه أهواء المذاهب الضالة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:08 PM   #41
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
حيوات الظرفاء وذوي العاهات..!
د. حسن بن فهد الهويمل


مللت من قفو الصحف والمجلات، والتنقل بين المواقع والقنوات، لاستشراف معارك كلامية حامية الوطيس، وقودها الأعراض وقالة السوء. وأدمى مقلتي استشراء المغالطات، وتحريف الكلم من بعد مواضعه. وضقت ذرعاً من أغيلمة تسودت المواقف والمواقع بما هي عليه من ضعف وجرأة وسوء أدب، حتى لكأن أحدهم ممن تبرأ منه (الشنفرى) بقوله:
(وَلَستُ بِعَلَّ شَرُّهُ دونَ خيرِهِ
ألَفَّ إذا ما رُعتَهُ اهتاجَ أعزَلُ)
وكلما أحسست باستفحال البذاءات والتطاول على الأوفياء وذوي الكفاءات، واستشراء قول الزور، أو نظرت إلى الواقع العربي المرير، والكرامة العربية المعفرة تحت أقدام الأوغاد الممجدين بأقلام المسحوقين، لذت بمكتبتي، وجالست كتب التراث اللاهية غير العازمة، (وخير جليس في الزمان كتاب)، والموسوعيون الجادون إذا أضناهم عناء البحث، وأرهقتْهم معاضلة العَصِيِّ من المسائل، وأوغلوا في مفازات الجد العنيف، وللوا وجوههم شطر السخرية والساخرين لتخفيف العناء وبرد الأكباد، فكان أن جمعوا الأخبار، وألفوا الحكايات، وتعقبوا الظرفاء وذوي العاهات، وليس هناك أنكى من سخرية ذوي العاهة. والتراث العربي زاخر باللهو البريء والعبث الماجن، ومطارحات الأدباء مجال رحب للتسلية. نجد ذلك عند (الجاحظ)، وجحوظ العين عاهة، وعند (أبي حيان) الممرور النكد الذي أحرق كتبه، ورعى مع الأنعام، وعند آخرين عنوا بذوي العاهات، وبالحمقى والمغفلين وبالمفلوكين. ورصد مثل هذه الظواهر يوفر مادة معرفية، لو أهملت لضاعت مع ما ضاع مما أهمله التاريخ، وعناية الأدباء الساخرين بالسخرية وبذوي العاهات، كشفت عن خصائص نفسية وحسية، لو تعقبها علماء النفس، لخروجوا بنتائج مثيرة، واكتشاف السمات والخصائص لذوي العاهات، وجد فيها أصحاب المناهج الحديثة مادة مشوقة ثرية، لا تقل فوائدها عما وسعته كتب التاريخ وتاريخ الطبقات والمدن وسائر العلوم.
وتراث الأمة العربية يفيض بما لا يخطر لأحد على بال، واستعراض فهارس المخطوطات والمطبوعات يثير الانتباه، وإشكالية القارئ المعاصر في تعالقه مع المستجد الذي حال بينه وبين تلك الثروات المعرفية التي لا تقدر بثمن، والمحروم من قطع صلته بثرات أمته، ولا سيما الجانب الهازل منه، فما وسعته تلك الكتب، يروِّح عن الأنفس الكئيبة، ويستل السخائم، ويُذْهب الحزن. و(الجنون) في العصر الحديث أصبح معادلاً طبيعياً للعقل والعبقرية، ولم يعد ظاهرة غير طبيعية، ويبدو أن (الوجوديين) تداولوه، وأن (الحداثيين) بسطوا القول فيه، وكنت أمني نفسي بتقصي أسباب العناية بالجنون كمصدر من مصادر الإبداع، وعلاقاته ومعانيه (الفيسيولوجية) و(الميتافيزيقية) و(السيكولوجية) وتصنيفاته، ولا سيما أن عدداً من المبدعين صنفوا مجانين أمثال (ديكنز) و(فان جوخ).
ولما ضقت من لغط المشاهد ونتن المواقع، نظرت إلى حقل ذوي العاهات والأدب الساخر والظرفاء في مكتبتي، فوجدت الكتب الممتعة الجادة والهازلة، يتصدرها كتاب الجاحظ (البرصان والعرجان والعميان والحولان)، وكان لهذا الكتاب منزلة في نفسي وذكرى، فلقد نزل إلى المكتبات، وأنا طالب في قسم الدراسات العليا في (كلية اللغة العربية) بجامعة الأزهر، حيث أشادت به الصحف المصرية، وقدمت مقتطفات منه، فما كان مني إلا أن تحاملت على نفسي، واشتريته على الرغم من شح ذات اليد، وصعوبة النقل والخوف من عين الرقيب يوم أن كانت له عين كعين زرقاء اليمامة. فالطالب لا يقدر على توفير متطلبات الدرس من المراجع، ولا سيما أن طائفة من الأساتذة في قسم الدراسات العليا، يقرر الواحد منهم أكثر من عشرة كتب من مؤلفاته المجمَّعة على غير نظام، كمراجع لمادة واحدة، ولقد فعلها الأستاذ الدكتور (محمد عبد المنعم خفاجي) رحمه الله، وما أن ظفرت به، قرأت أطرافاً منه في (مقاهي النيل) يوم أن كانت لها مذاقات عذاب، ولقد تحدث عن (الصُّلْع) و(القُزْع) وأمتع باستطراده المعرفي الواسع. وهذا المخطوط من أندر كتب الجاحظ، لفقده، إذ لم يوجد منه إلا مخطوطة واحدة في المغرب بعد العناء في البحث، اكتشفها الدكتور (عبد الهادي التازي) ولقد سرد قصة العثور عليها، وتحدث عن دور العلماء المشارقة الذين طافوا مكتبات المغرب للبحث والتنقيب عن نوادر المخطوطات، ومن أهم المهتمين بالتراث العربي علامة الجزيرة الشيخ (حمد الجاسر) رحمه الله، الذي نشر مقدمته في مجلة (العرب) عام 1388هـ.
الجاحظ جعل متكأه كتاب (الهيثم بن عدي)، الذي تقصى عاهات الأشراف، للتنقص والتندر، وهو معدود من الشعوبيين، و(الجاحظ) وإن اتهم بالشعوبية، إلا أنه ميال إلى السخرية، ليس غير، ولم يكن كما (الهيثم بن عدي) الشعوبي القح الذي عمد إلى جمع مثالب البيوتات العربية، ك(المثالب الكبير)، و(المثالب الصغير)، ولست معنياً بمقاصد (الجاحظ) أو (ابن عدي)، فما أريد إلا إمتاع نفسي بقراءة أطراف من هذه الكتب التي تتحدث عن ذوي العاهات والظرفاء، وتجلي السخرية العفوية في تصرفاتهم، وتكشف عن أمزجتهم ونظرتهم للمجتمع من حولهم، وتميز بعضهم بالذكاء الخارق والخفة والتفاؤل، و(الشعوبية) مصطلح مأخوذ من آية (الشعوب والقبائل)، حيث ذهب بعض المفسرين، وليس للمصطلح علاقة بمصطلح (شعبوي)، والحديث عن (الشعوبية) عاد أثناء (حرب الخليج) الأولى، فألفت الكتب، وعقدت الندوات, ونبش عفن التراث، ثم طويت صفحته، وهكذا شأن مسارح الدُّمى، ولقد شهدت ستة (مرابد) في بغداد، لم ينفك واحد منها من الحديث عن (الشعوبية)، والحديث عن ذوي العاهات يذكرنا بنوادر المخطوطات والرسائل، مثل (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، و(رثاء الحيوان في الشعر العربي) و(القول في البغال)، (العققة والبررة) و(المردفات من قريش) و(شري الرقيق وتقليب العبيد) ومؤلفات عن (البئر، والريح، والشاء، والضب) وكلها ممتعة ومفيدة.
ويلي (الجاحظ) بالاهتمام بذوي العاهات (الصفدي)، الذي ألف كتابين هامين هما: (نَكْتِ الهميان في نُكَتِ العميان) و(الشعور بالعور)، وكل الحكايات والقصص ترتبط بنوع العاهات، وذووا العاهة يختلفون عن الظرفاء والطفيليين والحمقى والمغفلين والمجانين والفلاكة والمفلوكين، وإن كانت نوادرهم متقاربة، وقد امتاز في الحديث عن أولئك (الخطيب البغدادي) و(ابن الجوزي) وله ثلاثة كتب و(الحصري القيرواني) و(النيسابوري) صاحب (عقلاء المجانين) و(أحمد الدلجي). وفي العصر الحديث تغيرت الاهتمامات والمقاصد، فلقد صدر أكثر من كتاب عن ذوي العاهات، ولكنها دراسات عازمة، تجلي أثر العاهة في الإبداع أو في النبوغ، ومما صدر في هذا الشأن كتاب (العلماء والشعراء والأدباء العميان) ل(خازن عبود)، وهو كتاب يعتمد المنهج التاريخي أما الدراسات المعمقة والساعية وراء استجلاء خصوصيات ذوي العاهات، فمنها كتاب (الخيال والتصوير في شعر المكفوفين) للدكتور (محمد بن أحمد الدوغان)، وهناك فرق بين من يسدعي ذوي العاهات لإبراز خصوصياتهم السلوكية، وانعكاس العاهة في التصرف والتصور، ومن يستدعيهم للتندر والاستمتاع، وسعي الموسوعيين أمثال (الجاحظ) و(ابن الجوزي) و(البغدادي) و(الصفدي)، للتندر والسخرية، وقد تكون هناك دوافع أخرى, كما هي عند (ابن عدي) و(أبي حيان) الذي تحدث عن المثالب، وهو حديث مسف، وثقيل على النفس بفحشه المقذع، وحقده الدفين.
والعاهة لا تكون معوقاً، كما أنها ليست عيباً يعاب به المعاق، ولا يجوز النيل من ذوي العاهات بعاهاتهم، فالله الذي ابتلى من يشاء، وعافى من يشاء، قادر على أن يعافي المبتلى، ويبتلي المعافى، والماعق يحس بالضعف والدونية، فيحاول إثبات قدرته، بتحديه للأصحاء، وكم من مُعوِّق فاق الأسوياء، ومن الكتب الحديثة التي أبرزت أثر العاهة في التحدي كتاب (عظماء ومشاهير معاقون غيَّروا مجرى التاريخ) للأستاذ (أحمد الشنواني)، وقد استهله بالكلمة المأثورة (كل ذي عاهة جبار)، ولقد ذكر أطرافاً من سيرهم ومنجزاتهم، فمن العميان (المعري) و(أحمد التطيلي) و(طه حسين) و(عبد الله البردوني)، ومن غير العرب (هوميروس) و(هلين كيلر) و(جون ملتون)، وممن يعانون الصمم (بيتهوفن) و(هيلين كيلر)، فهي صماء وعمياء. ولأن العبقرية صنو الجنون، فقد أصيب عدد من العباقرة بالجنون، ك(نيتشه)، ومنهم من ينتابه القلق والهستيريا ك(كانط) و(هتلر) و(نابليون). وكشف خبايا حيوات المشاهير المعاقين ممتع، لأنه يكشف عن سير أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وبعضها حيوات مضطربة وغير سوية.
وكما أشرت فإن هناك دراسات جادة عن ذوي العاهات والظرفاء، ليست على شاكلة كتب التراث، ومن أجود ما قرأت في هذا الصدد (الصورة البصرية في شعر العميان)، وهي دراسة علمية، كما يشير مؤلفها الدكتور (عبد الله المعافري الفيفي)، تتقصى الخيال والإبداع عند عدد من العميان، ك(بشار) و(المعري) و(التطيلي) و(الحصري) و(العكوك) و(البردوني) ومن بعده كتاب (الدوغان)، ومن قبل هذين (الصورة في شعر بشّار بن برد) للدكتور (عبد الفتاح نافع)، والدراسات الحديثة لذوي العاهات تقوم على المنهجية والتقصي لخصوصيات المعاقين في الإبداع الفني. ومع أنني لست حفياً بهذا النوع الجاد، إلا أن متكأ الدارسين ينطلق من انعكاس العاهة على الأداء، وكتب التراث تعوِّل على السخرية والفكاهة، وتحاول إبراز ما يمتاز به المعوق في قوله أو فعله، وأثر العاهة على نفسه وعلاقاته بالآخرين، أما الحديث عن الظرفاء فهو أميل إلى جمع الأخبار، وذلك ما كنا نبغي في ظل الظروف الضاغطة في السياسة والإعلام.
ولقد كنت من قبل أحسب أن كتاب (مذاهب ذوي العاهات) للأستاذ (عباس محمود العقاد) من هذا الصنف، ولكن تبين لي بعد الرجوع إليه أنه يقصد بذوي العاهات منشئي المذهب الشيوعي من اليهود المتصهينين، فالكتاب يركز على الشيوعية والشيوعيين، وهذا المذهب الذي شغل (العقاد) ردحاً من الزمن، وحمله على إنجاز أكثر من كتاب، ثوى في مزبلة التاريخ، بعد أن شغل العالم والعلماء سبعة عقود، ويعد كتابه هذا من أعنف كتبه، فهو مجموعة مقالات قصيرة عن الشيوعيين الذين سحروا أعين الناس واستمالوهم، و(العقاد) يقصد العاهات النفسية والخلقية، وهي بعض ما تقصاها (يوسف ميخائيل أسعد) في كتابه (العبقرية والجنون) وهي بلا شك ماثلة للعيان عند ذوي المذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة، وسيكون لنا حديث مبسوط عن (ثقافة الإلحاد)، نبرز من خلاله ارتباط العاهات النفسية بالإلحاد.
وتقصي أحوال المعاقين وحيواتهم، والاستمتاع بقراءة هذا النوع من الكتب، يثير عند الإنسان مشاعر متعددة، لأنه يقف به على خصائص نفسية، وتصرفات غريبة، ومواقف مثيرة، قد تقوده إلى امتلاك مفاتيح لشخصيات انعكست آثار العاهات على نفوسهم، ثم تجلت في تصرفاتهم، وما كان لي أن أجنح إلى الجد في تقصي تلك الظواهر، وإلا فإن الدراسات الأدبية لإبداع العميان تنطوي على نتائج مثيرة. والذين تلمسوا أثر العمى على أسلوب (طه حسين) أبدعوا في التقصي والتجلية.
وكما أشرت فإن الهروب إلى هذا اللون من المؤلفات للراحة، لا يتوافر إلا في كتب التراث عند (الجاحظ) و(الصفدي) و(أبي حيان) و(ابن الجوزي)، وما تنطوي عليه هذه الكتب لا يقل إمتاعاً عما عند الظرفاء العرب، في كتاب (ظرفاء العرب) بأجزائه الثلاثة، وكتاب (التطفيل) للبغدادي). ومما يلفت النظر تخطي المنطق والمعقول والمسموح به في رواية القصص والحكايات عن الظرفاء والمغفلين، ولقد خُصَّ بعض أولئك بدراسات مستقلة ك(أبي العيناء) الذي جمعت نوادره في كتابين أحدها لمعالي الشيخ (محمد بن ناصر العبودي)، و(عبد الحميد الديب) شاعر البؤس الذي كتب عن نوادره (محمد رضوان) و(عبد الرحمن عثمان) و(أبي الشمقمق) الذي كتب عنه الدكتور (محمد بن سعد الشويعر) على ما أذكر، و(الأعمش الظريف) للدكتور (أحمد بن محمد الضبيب)، والحديث عن الظرفاء والحمقى والمغفلين والمفلوكين والمتطفلين يتداخل مع الحديث عن ذوي العاهات، ولكنه دخول من طرف خفي، ولو استدعينا الكتَّاب السَّاخرين ك(المازني) و(السعدني) و(مارون عبود) لبعدت علينا الشقة.
بقي أن أقول إن هذا الزمن الضاغط بفضل أدعيائه الكتاب ومتغطرسيه الساسة بحاجة إلى الترويح عن النفس، وتخفيف معاناتها مما تلاقيه من إحباطات على كل المستويات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:08 PM   #42
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
التوازن في فكر العقاد..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل


أعرف جيداً إلى أي مدى اختلف مع (العقاد ت 1964م)، رحمه الله في سائر مواقفه واتجاهاته وإطلاقاته الحمالة، وكلماته المعاصرة، وعباراته المفتوحة على كل الاحتمالات. وأعرف جيداً أنه ليس من أهل الذكر الذين يُسألون في أمر العقائد والعبادات والمعاملات. ولست بحاجة إلى المزايدة مع أي إنسان يلتقط مخالفة من هنا أو جنحة من هناك، مما أفاض به خصومه المنافسون، أو الحاقدون، منذ حملة (مصطفى صادق الرافعي)، رحمه الله في كتابه (على السفود) الذي لم يصرح فيه باسمه، لا يغاله في الذم البذيء، وحتى استدراكات الشيخ (صالح بن سعد اللحيدان) حفظه الله في كتابه (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين على ضوء العبقريات)، وشتان بين جور (الرافعي) وموضوعية (اللحيدان)، وإن كنت أختلف مع الأول كل الاختلاف، وأختلف مع الآخر بعض الاختلاف، وأحسبه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. ومقدمة (اللحيدان) من ألطف المقدمات، وإن كان فيها شيء من اللذعات الحادة، كما أنه حين خاض معترك النقد جار بعض الشيء عليه، وليته تذكر فقرات جميلة، قالها في المقدمة، مثل قوله: (العقاد في عبقرياته أجاد، وبذل، ومنح الثقافة جديداً من الطرح المتميز)، ومثل (قوله: (والعبقريات من أجمل ما كتب عن أولئك الأفذاذ في الجملة)، ولست معه حين يقول: (يفقد استخراج وجه الدلالة من النص)، على أن محور اختلافي مع الشيخ (اللحيدان) يتركز في استخدامه مناهج المحدِّثين وآلياتهم في (علم التاريخ)، وأحسب أن المؤرخين يختلفون عن المحدثين.
فهذا (البخاري) رحمه الله، تختلف مقاييسه، ويختلف شرطه في الرواية باختلاف الحقول التي ألَّف فيها، فهو في (الصحيح) بوصفه داخلاً على علم الحديث غيره في (الأدب المفْرد)، بوصفه داخلاً في علم الأخلاق، وهو في (التاريخ الكبير والصغير) غيره في الاثنين، فهل كان (البخاري) لا يعي أمره؟ لقد كان واعياً وهو يدوِّن الحديث الصحيح، وهو الأوعى، وهو يدوِّن الأدب والتاريخ، إذ لم يستخدم مناهج علم الحديث وآلياته في علم الأدب أو في علم التاريخ، ولهذا التباين جاء الضعيف في كتابيه، ولم يأت في الصحيح إلا المعلقات، وقد ميزها في لغة الإسناد. وقد تقصى (الألباني) رحمه الله الضعيف في كتاب (الأدب المفرد) فوجد الأحاديث الضعيفة تنيف على المائتي حديث وأثر. ومحاكمة (العقاد)، وهو يشتغل في حقل التاريخ بآليات المحدِّثين ومناهجهم إجحاف بحقه، لا يليق بمثله من مثل متعقب أمين.
ولقد كنت، ولما أزل أمني النفس بقراءة كتاب الشيخ (اللحيدان)، قراءة نقدية تزيل لبس التداخل المنهجي، ومهما اختلفنا معه، فإن عمله يعد إضافة مهمة، لا يجوز تجاوزها دون مراجعة متأنية، تحق الحق، وتبطل الخطأ العارض، وكلنا خطاؤون، ومن ألف فقد استهدف. و(العقاد) سيظل الشغل الشاغل للمشهد الفكري والأدبي، ونزعته الدينية لم تعط حقها، فيما أعطي من دونه فوق ما يستحق، وهو بمواقفه مشروع جدل عميق.
وأذكر أنني قلت في قاعة المحاضرات، في سنوات مضت، يوم أن كان الطلاب فيها يراجعون أساتذتهم، ويعترضون عليهم، ولا يترددون في التحفظ على بعض آرائهم: (إن العقاد أفضل عندي من الرافعي، فهو الأزكى والأذكى) لأن إسلامياته تخاطب الفكر الغربي، فيما يخاطب حماس (الرافعي) العاطفة الدينية، ومشكلة الاثنين أن المشهد سلط الضوء على (العقاد)، وتابعه في كل دقيق وجليل، وكثر خصومه، لتأثيره على المشهد الثقافي، فيما غفلوا عن (الرافعي)، وحمدوا له صموده في وجه (طه حسين)، ورضوا عن كل طرحه، وما زلت مع الطلبة في جدل لا يلين، حتى أذعنوا، وسلموا طوعاً أو كرهاً، وما زلت أتمنى انبعاث هذا اللون من الحوار بين الأستاذ وطلابه، ولقد تذكرت في هذا الصدد ما كان يدور بين (طه حسين) وطلابه الذين ضاقوا ذرعاً بتعويله على مناهج الغرب، بعد عودته من بعثته متفرنساً، وكان ممن كاد لهم، وتعسف في معاملتهم العلامة (محمود محمد شاكر)، حين اختلف معه حول دراسة الشعر الجاهلي، فما كان من (شاكر) إلا أن ترك الجامعة وقص مأساته في كتابه (المتنبي) السفر الأول. وكذلك فعل مع الدكتور (نجيب محمد البهبيتي) صاحب النظريات التاريخية للأدب العربي، التي هزت كثيراً من الثوابت والمسلمات، وذلك في كتبه (المعلقة العربية الأولى) و(المعلقات سيرة وتاريخاً)، و(المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين)، و(تاريخ الشعر العربي)، وكتابه (أبو تمام الطائي حياته وحياة شعره)، الذي روى في مقدمته قصة خلافه مع أستاذه، وما لقيه من تحديات أخرجته من مصر.
وإذ لا نريد هذا اللون من الاختلاف، ولا نسوي أنفسنا بعمالقة الأدب والفكر، فإننا نود أن يكون الأستاذ في القاعة مستهدفاً بالأسئلة المحرجة، لكي يستعد للمواجهة، ويتضلع من المعارف الواقية من لذعات المستدركين، وحين أخص من خصال العقاد الحميدة (التوازن)، فلأن المشهد الفكري يميل كل الميل مع الهوى، ويذر سائر القضايا كالمعلقة، والناس أمام الظواهر والقضايا والتيارات والمذاهب، بين إفراط وتفريط، وما أضر بالفكر العربي إلا التطرف في الآراء، والتشنيع على الخصوم، والحدة في الجدل، والحيدة في الأحكام، وتجريد الخصوم من أي فضيلة، و(العقاد) عنيف مع خصومه، ومتحامل على بعضهم، ويكفي أن نضرب المثل بموقفه من (شوقي)، وإن أنصفه بعد حملة (الديوان) في كتابه (دين وفن وفلسفة)، والذين تأثروا به مسهم طائف من عنفه، نجد ذلك عند العلامة (أحمد عبد الغفور عطار) رحمه الله، وبخاصة حين ألف عن العقاد، وأسرف في النيل من خصومه، ك(الرافعي)، ومع اختلافنا الشديد مع (الرافعي) فإننا لا نمضي مع المسرفين في الذم والتجهيل.
وعنف العقاد شيء، وتوازنه في الآراء الفكرية شيء آخر، وما كنت لأتحدث عن توازنه لولا ما أشاهده من الجور والحيف والتطرف في الآراء، وليست تلك الظاهرة حديثة، لقد واكبت الفكر العربي منذ النشأة الأولى، نجد ذلك في (التهافت)، و(تهافت التهافت) بين (الغزالي) و(ابن رشد)، ونجده عند (ابن حزم) وعند (أبي حيان)، وقد عالجها البعض على أنها لون من الحسد، وما هي كذلك، فالحسد شيء، والعنف والصلف والتعصب شيء آخر.
ومن الصعوبة بمكان التفريق بين بواعث الحسد والتعصب المذهبي الذي قد يأخذ البعض بالإثم، ولقد كانت لي إلمامة عجلى بكتاب (تحاسد العلماء) للأستاذ (عبد الله العوجان)، وهي رسالة قيمة، تناولت أحوال النفس من حسد وغضب وحقد وبغضاء وتنافس، وأحسبه لم ينج من الخلط العجيب والتعصب المذهبي العنيف، ولو أنصف الخصوم لاستبعد كثيراً مما ساقه، والحدة قائمة بين كل الأطراف، والاختلاف المشروع لا يحال إلى الحسد، ولكنه يحال إلى الجهل بأدبيات المناظرة والحوار. و(العقاد) خاض معارك سياسية وأدبية ملتهبة، تقصاها ابن أخيه (عامر العقاد)، في كتابيه (العقاد معاركه في السياسة والأدب)، و(معارك العقاد الأدبية)، وله معارك فكرية وفلسفية مبثوثة في الكتب التي أنشأها دفعة واحدة، أو في الكتب التي جمع فيها مقالاته المتجانسة.
ومن أبرزها على سبيل المثال لا الحصر:
- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
- الشيوعية والإنسانية.
- لا شيوعية ولا استعمار.
- دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية.
- أفيون الشعوب.
- مذاهب ذوي العاهات.
- الفصول.
- دين وفن وفلسفة.
وخصوم (العقاد) حين يعمدون إلى توهين فكره، يلتقطون بعض الجمل الحمَّالة، ومفكر ك(العقاد) له أنساقه الثقافية، ورؤيته الشمولية، فهو حين يتحدث عن فلسفته والمبادئ التي اهتدى إليها، يحدد ما يريد، ويجسد رؤيته، بحيث لا تلتبس على المنصفين، ولكنه حين يتحدث عن الآخرين من خلال مواقف مجتزأة، لا يعول على الدقة والتحديد، استمع إليه يصف مبادئه بقوله:
(أحسب أن مبادئي في الحياة هي المبادئ الدينية على أساسها الأصيل)، و(العقاد) الذي خاض معارك متعددة ومتنوعة قد تحتدم مشاعره، بحيث لا يستبين المجتزئ رؤيته الواضحة، وحق مثله علينا أن نقرأه لا أن نجتزئ كلمة من هنا وكلمة من هناك، ثم نطلق أحكامنا جزافاً، ف(العقاد) أمة وحده، التطمت في عالمه مذاهب مادية ووضعية (لاهوتية) و(ناسوتية)، وجاءت آراؤه متوازنة، وكلماته حادة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 05:30 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)