|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
31-12-2008, 04:22 PM | #1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Dec 2008
البلد: السعودية، ، الرياض.
المشاركات: 72
|
قصة مؤلمة، أدخل لتزتنزف الدمع من عينيك!! الجزء الثاني.
بعد دقائق قليلة... كانت أم سلمان جالسة بجوار ابنها... وتحمل فنجاناً صغيراً من القاز... الذي أخذته من جارتها... وتدنيه من فمه. وحين لم يفتح سلمان فمه... فتحته أمه قسراً... وألقت بجرعة لا بأس بها في جوفه... وأسلمته لنوم عميق. الحقيقة أن القاز... هذا هو ذاته الكيروسين... وهو أحد مشتقات النفط... وهو قابل للاشتعال... الأمر المدهش... أن يتخذه البشر علاجاً... والأمر الأكثر دهشة... أن يجزموا أن فيه علاجهم... ولكن... هكذا أوحت لهم عقولهم... وبهذا أجبرهم واقعهم. مرت ساعات الليل هادئة... وأصبح الصباح... وحصل الأمر (الطبيعي)... بالنسبة لأم سلمان... لقد شُفي سلمان شفاءً كاملاً... (بفضل الله... ثم بفضل جرعة القاز)... فرحت الأم... وحمدت الله على نعمته... ودعت الله أن يجزي أم محمد خير الجزاء. وانتهت همومٌ من نوع... وبدت هموم من نوع آخر... إنه القلق... القلق الذي يساورها خوفاً على زوجها المهاجر لطلب الرزق. 8- بعد يومين الغيوم التي تهدد القرية... منبسطة في السماء... لتدخل الرعب إلى قلوب الناس... مع كل زخة مطر صغيرة... بسبب البرد الذي سيصحبه. لحسن الحظ... لم تُكشِّر أيما غيمة عن أنيابها اللامعة بالبرق... حتى الآن. قارب وقت العصر... والأم وولدها جالسان في وادي ( تالق)... بين جبلي (مِرَّان) و (رهوة). لقد خرجت أم سلمان للوادي منذ ساعة تقريبا... وهو واديٍ قريب جداً من القرية. إن قُرب الأم من القرية يجعلها تحس بغير قليل من الأمن... والرعاة من أهل القرية ليسو بعيدين عن هذا الموقع. الأم جالسة في الظل... تتمتع أيما تمتع بالنظر إلى لهو ولدها البريء... وتراقب أغنامهم القريبة هناك في المرعى. سلمان يلهو سعيداً بلعبته المفضلة... والوحيدة... الحثو بالتراب... وبين الفينة والأخرى... ينطلق مسرعاً نحو الأغنام... ليعيدها لموقعها الطبيعي. مع الأسف... بدأت السماء تبسط رهبتها من جديد... وبدأت الغيوم تجتمع بصورة مذهلة... وبدأت الرهبة تحل قلب الأم من جديد... سارعت سعدة مع ولدها في جمع الأغنام... استعداداً للرحيل... حمعوا الأغنام... وانطلقوا. وَصَلُوا بعد قليل لمنزلهم... وهتَّانٌ من المطر يبلل كل شيء في الخارج. أظلم الليل... وأظلمت معه الحياة... وأظلمت الغرفات التي يسكنها سلمان وأمه... وأظلم قلب الأم خوفاً وقلقاً... وبدأت قوة المطر تزداد... وتزداد... وتحول الهتان لمطر غزير... وازداد معه تسرب الماء... عن طريق السقف... إلى داخل المنزل... والأم هنا وهناك... تقفز بسرعة لتضع الآنية القديمة... تحت قطرات الماء المتسربة. حليب الماعز في قدر صغير على النار... وسلمان ينتظر غليانه بكل لهفة... وما أن اطمأنت الأم على إنْهاء مشكلة التسرب... حتى حملت الحليب وأحضرته إلى السفرة... ذات الصنف الواحد... وبدأت هي وطفلها يتعشيان الحليب والتمر. وبعد فترة ليست بالقصيرة... انتهى هطول المطر... وبدأت مهمة جديدة... على الأم القيام بها فوراً... وتحت جنح الظلام. تلفعت سعدة بمروطها البالية... وخرجت يدهدِهُها البرد والظلام... لقد تركت الأم ابنها في أحضان الدفء المنبعثة من الموقد... وما أن لفح وجهها زمهرير البرد القارس... حتى تذكرت ودون مقدمات... زوجها التائه في حيث لا تعلم... والله وحده من يعلم. حتى وصلت للمزرعة... عليها أن تشرع في تقسيم ماء السيول... الناتج من هطول المطر... بدقة متناهية... على الحقول المتعطشة للماء. بدأت أم سلمان في ممارسة الأعمال الشاقة... أولى بمعدات الحفر الخفيفة أن تقوم بها... بدلاً من هذه المرأة التي أكل منها الحزن ما أبقاه الفقر والجوع... ولكن ذلك لم يحصل. كانت قدماها العاريتان... تغوصان في الماء الساقع... إلى الركبتين... وكانت المسحاة في يدها... تسحب الطين لتفتح فرجة كي يدخل الماء... ويرتوي الزرع... منظر ليلي مذهل... لكل عاقل لو رآه... ولكن ذهول المرأة تلك... أكثر من ذهول ذلك العاقل... عندما رأت طفلها سلمان... يتخبط في الماء البارد... ليصل إليها. ألقت سعدة المسحاة... عند سماعها صوت ولدها المبحوح الباكي... وهو ينادي: - يا أمي... يا أمي اتجهت نحوه في قلق بالغ... وصلت إليه... وإذا به يكاد يُخرج آخر أنفاسه من البرد... حملته في لوعة... واتجهت للمنزل... كانت من سرعتها تتعثر في خطواتها... وصلت للمنزل... ودخلت... ووضعت ابنها في فراشه... وأحضرت المزيد من الحطب... وبدأت في إيقاده. لم تلبث ساعات قليلة... حتى بدأت صحة الطفل في التدهور الواضح... وارفعت درجة حرارته ارتفاعاً كبيراً... وعاد صديقها القلق... ليساور عليها قلبها من جديد. طلع الفجر... وواصلت الأم صلاتها في خشوع تام... ثم عادت تقلب النظر في وجه طفلها... كان أصفر شاحباً. أحضرت الأم العلاج... الذي تدّخرة بحرص كما يُدّخر الذهب... سكبت منه في فنجان صغير... وأسقته ابنها جرعة صغيرة... من «القاز»... أخذاً بنصيحة أم محمد... التي نقلتها عن الراعي علي. أشرقت الشمس... وخرجت سعدة لتقوم بواجبها اليومي... وتتابع آخر تطورات صنيع مطر البارحة... لم يطل بقاءها في الخارج... لقد عادت للمنزل... والأمل يداعب قلبها... بأن طفلها أصبح أفضل حالاً... بعد تناوله لجرعة القاز. لكن مع الأسف... كانت النتائج عكسية جداً... وصحة الطفل تتجه نحو الأسوأ. 9- بعد عشرين يوما مرت أيام عدة... واستمر الوضع السيء فترة أطول... لم يعد الطفل قادراً على البقاء في الحياة أكثر مما مضى... وبدأ المرض الذي سببه البرد يجثم بعنف على رئته الغضة... وأم سلمان تقاسي لأجل ذلك الأمرَّين... وزوجها الغائب طال غيابه أكثر من المقرر... يجب أن تعمل شيئاً من أجل تدفئة الصغير... أنزلت قميصها... لفته حوله... واستترت بشيء يسير من الخَوْصْ... لقد قررت احتمال البرد... في سبيل أن يحصل سلمان على كمية أكثر من الدفء... شيء واحد لا تستطيع تحمُّله... السؤال الحائر: - ماذا حل بك يا أبا سلمان؟... هل من المحتمل أن يكون الدهر قد ضربك ضربة قاصمة؟... أودت بحياتك... وهل سيكون انتظاري لك... بابٌ من أبواب العبث؟... ومن أبواب انتظار رجل كان زاداً لسبع ضار في يوم سابق... أو ربما قتيلاً في أيما واد أو شعب في أثناء تلك الهواجس المرعبة... وحيث لا يُسمع مما في الخارج... سوى صوت صافرة الليل... المطربة الوحيدة في أحوالٍ كتلك... سَمعت أم سلمان طرقاً على الباب... رفََّّ قلبها... وهف... وطفرت آمالها من خلف حناياها: - هل أذِنَ الحظ السعيد... بقدومك يا أبا سلمان... ووصول الغنائم قامت أم سلمان مسرعة... فتحت الباب... ولكن... أمر مؤسف... لم ينشق الباب عن وجه زوجها... وإنما عن وجه رجلٍ آخر... يبدو أكثر بؤساً ونكداً من زوجها: - يا ترى مَن يكون هذا الرجل؟ ارتجف قلب سعدة... عندما حدَّثتها نفسها : - هل يكون هذا الرجل... هو حامل الخبر المفجع... عن أبي سلمان... أم تراه... يحمل خبراً ساراً عن موعد وصوله القريب ؟ قال الرجل: - «أهل الدار» - «أهلها الله» عادت سعدة للداخل... وسحبت الخمار عن جسد ولدها... وتلفعت به... ثم سارت للباب بقلق... وقالت: - «من أنت؟ » - «عابر سبيل... جائع وبردان... اعملوا المعروف... واكسبوا الثواب» تنفست أم سلمان الصعداء... لم يكن الطارق سوى عابر سبيل... قد يكون حاله أسوأ من حال زوجها... وربما خرج من عند أهله بحثاً عن طعام أو كساء... لا أحد يدري... العادة والأصول هنا تقول: - لابد من إغاثة الغريب... وتقديم العون له... أياً كان ذلك الغريب والأمر على كل حال... لا يحتمل الخطر... فلن يكون بداخل المنزل أي دافع يدفع مثل هذا الغريب... لفعل الشر. قالت سعدة: - «تفضل... ادخل يارجل» دخل الرجل مُسَلِّماً... وبعد أن جلس بجوار الموقد... نظر إلى سلمان نظرةً غير ذات معنى... وقال: - «يا بنت الأجواد... هل من طعام؟ » - «نعم... خير الله واجد» قامت أم سلمان... وبعد لحظات... أصبح إناء التمر ماثلاً أمام الرجل... ليسد جوعته... وكان اللهب في الموقد المجاور... ينفث الحياة في يد الرجل... الذي كاد الموت يستولي على بدنه البارد. قالت أم سلمان وهي واقفة تنظر إلى الرجل بقلق شديد: - «أسألك بالله يا رجل... هل تعرف أي خبر عن زوجي؟... هل أصابه مكروه؟» قال الرجل في استغراب: -«زوجك!... وأين هو أبوكم؟... أليس هنا؟» - «كلا يا جار... لقد سافر منذ فترة... رحل منذ عشرين يوماً... لطلب الرزق... قال إنه سيعود بعد عشرة أيام... لقد تأخر كل هذا التأخر... ولا ندري... هل عرض لك في الطريق... أو رأيته؟» - «وما اسمه» - «إنه أبو سلمان... صالح بن شيمان» قال الرجل في عدم اكتراث: - «أوه... أبو سلمان... لقد عرفته» نظر إليها باهتمام مصطنع... ثم أردف وهو يطأطيء رأسه للأرض. - «لقد دفناه منذ فترة... مات... مات من الجوع والعطش... أوه... حاله كحال الكثير من أمثاله... ماتوا تلك الليلة... أنا نفسي كدت أموت... رحمه الله... بعد أن دفناه... شع من قبره نور ساطع... رآه جميع الناس... إنه من أهل الجنة» ثم أردف وهو يمضغ التمر بنهم... ويبدو غير مهتم بسرد القصة: - «رأيته في المنام تلك الليلة... ووجهه منير وكأنه البدر» ثم صمت ليكمل بلع طعامه. جَمُدت أم سلمان مكانها... وذرفت عيناها بدموع غزيرة... أشبه بشلال صغير... وانتهى الرجل في أثناء ذلك من طعامه... وقام مستأذناً للرحيل. بقيت الأم المسكينة... جامدة في مكانها... ولم تكلِّف نفسها مؤونة تشييع الرجل للخارج... ولم تكلف نفسها أيضاً سؤاله عن مكان موت زوجها... أو سبب موته... أو أحداث تلك الفاجعة... لقد بقيت مكانها. مر الوقت قاتلا راكدا... يدحرج نفسه بثقل وكدر... ولم تكلِّف سعدة نفسها عمل أي شيء... حتى الذهاب إلى فراش النوم... لقد بقيت جامدة صلبة... تقاسي كل أنواع الوحشة والحزن... وبقيت تنظر في نقطة ثابتة... وساعات الليل تمر من أمامها بثقلها الثقيل... وتتلكأ في مضغ قلبها الجزع. ويدنو منتصف الليل... وتغير أم سلمان جلستها... لتضع كفها على خدها... وتزفر زفرة طويلة. يجب عليها الآن... أن تبدأ رحلة عناء جديدة... وتبدأ رحلة البحث عن الحقيقة... وأسبابها... غداً ستترك ابنها عند جارتها... وتذهب... لتضرب على وجهها في الأرض... للبحث والسؤال... أو لعلها ستصرخ في رجال القرية... ليهبوا للبحث عن حقيقة الخبر المفجع... أو ليبحثوا عن قبر زوجها... كي تبكي عليه... وتبلله بالدموع... أو ربما تغرقه بها... أو ستبقى في بيتها... تبكي وتبكي... حتى تموت. 10- بعد ثلاث ساعات طَرْقٌ على الباب... بدأ خفيفا... ثم تزايدت قوته... أم سلمان جالسة مكانها... دموعها تنهمر... وأفكارها تروح وتجيء... لم يكن لذلك الطرق أي معنى عندها... لقد مات من تنتظره. هذا الطارق... ربما كان عابراً آخر... أو ربما كان أحد سكان القرية... جاء حاملاً خبر الوفاة... الذي أصبح بالنسبة لها خبراً قديماً. استمر الطرق على الباب... واستمرت هي في المعاندة... غير راغبة في القيام لفتح الباب... ولكنها في النهاية قررت أن تفتح الباب... خشية أن يُزعج الطرق ابنها المحموم النائم. قامت متثاقلة... قررت أن تطلب من الطارق الانصراف... غير مأسوفٍ عليه. وصلت للباب... أوشكت أن تقول: - إذهب... هذا ليس وقت زيارة... ولا وقت نقلٍ للأخبار السيئة ولكنها لم ترد أن تكلف نفسها مؤونة الكلام... لذا... مدت يدها... وفتحت الباب... نظرت دون مبالاة... لوجه الطارق... ولكنها تفاجأت بما رأت... تسمرت أمام الباب في دهشة... لقد أطل الباب... عن وجه من حسبته كان ميتا... عن وجه زوجها أبو سلمان. إنه سليم معافى... كانت ابتسامته العريضة مرتسمة على جميع تقاطيع وجهه المكدود... وكانت عيناه تبرقان وداً وحناناً... وملامح وجهه تدل على شوقٍ جامح... ويحمل في يمينه كيساً متوسط الحجم... ويبدو لمدقق النظر... أن الكيس مليء بالهدايا والأمتعة... قال ومعالم النشوة تبدو عليه: - «السلام عليكم... السلام عليكم» لم تردَّ أم سلمان بكلمة... ولم تنبس ببنت شفة... صكت وجهها في ذعر... وبدت تنتحب في بكاء مدهش... ظن أبو سلمان أن دموعها دموع فرح... ولكن لأول مرة يدري أن للفرح بكاءً ولطماً للوجوه... بالطبع لم يكن ذاك بكاء فرح... وإنما هو شيء آخر... لا يعرف كنهه إلا المرأة التي عايشت تلك الحادثة المدهشة. أمسك أبو سلمان كتفيها برفق بالغ... وقال وهو يسير بجوارها للداخل: - «ماذا بك يا أم سلمان؟... خير إن شاء الله... هل حصل مكروه؟... هل أصيب سلمان بمكروه؟» وقفت أم سلمان... أعادت النظر في وجهه... ثم قالت: - «مكروه؟!...مكروه؟... هل لازلت حياً... هل أنت زوجي؟... هل أنا في حلم؟... هل هو حلم سرعان ما سينقضي؟» ضمها إلى صدره بحنان... لقد أدرك شيئاً مما يجول في خاطرها... ثم قال: - «لا عليك... يبدو أن غيابي طال عنكم... ولا بد أنكم قلقتم عليّ كثيرا» سار أبو سلمان... زوجته مستندة على ذراعه... ودُوارُ السقوط يدور برأسها... وعندما جلسا على قطعة الفراش البالية... طبع على جبينها قبلة حانية... وقال في رفق: - «أين سلمان؟... هل هو بخير؟» - «إنه نائم... سيكون بأحسن حال» - «ماذا بك إذن؟» زفرت سعدة زفرات ارتياح عميقة... وقالت: - «إني لا أكاد أصدق عيني... هل صحيح أنك الآن بجواري؟... آه يا زوجي... كم عانينا بعد فراقك... ولكن العناء الذي تلقته قلوبنا منذ ساعات ثلاث... لا يمكن لبشر أن يحتمله قال في قلق: - «وأي عناء تقصدين» - «عناء رهيب... أُغلقت أبواب الدنيا أمامنا... بسبب ترهات رجل معتوه... أو مريض - ماذا حدث؟... لم أفهم - رجل جاءنا... منذ ساعات... لا أدري!... مالذي دفعه لقول ذلك... يبدو أنه مجنون... بل هو مجنون... لا محالة... أعوذ بالله... لقد زعم أنك مت... وزعم أيضاً أنه دفنك بيده» بدأ البكاء من جديد يهز أطراف سعده... قال لها أبو سلمان مشفقا: - «لا عليك... الحمد لله... أنا كما ترين... بأتم صحة وعافية... بالفعل... ربما كان مجنونا... ولكن قولي لي... أين سلمان... أريد أن أراه.. أوه كم اشتقت لكما... الحياة بعيداً عنكما أشبه بكابوس مخيف... مخيف للغاية» لم تشأ الأم أن تفصح عن مرض الطفل... أرادت تأجيل الخبر للغد... لا تريد أن تفجع زوجها بالخبر السيئ حال حضوره... تأثير الخبر قد يهوِّن كثيراً من وقع الفاجعة على قلب المسافر المكدود... لكن إصرار أبي سلمان على رؤية ولده لم يُمكِّن الأم من الوقوف في طريقه. قام أبو سلمان في عزم وفرحة... واتجه لفراش طفله. الفراش لا يعدو كونه جزءاً من الأرض الصلبة... غطيت بقطعة من الحصير البالي المتهالك... وعندما جلس أبو سلمان بجوار طفله... تصفح الملامح البريئة... تحت ضوء السراج اليتيم... ثم أودع جبينه قبلة عطشى. طُبعت القبلة بردا وسلاما على جبين الطفل النائم... وما لبث أن استيقظ. الأم جالسة في مكانها... الذعر يتداركها... خشية وقع خبر مرض سلمان على قلب أبيه السافر... تتوقع أن تسمع نحيبه في كل لحظة. ولكنها لم تسمع شيئا من ذلك... سمعت سلمان يقول لوالده: - «أبي هل أحضرت معك ثياباً جديدة» - «نعم يا ولدي... ثياب جديدة... وكل شيء» كانت الدهشة في أثناء ذلك تكاد تفرض سيطرتها على قلب الأم... أي صحة وعافية بدأت تدب في هذا الطفل الذي كادت تيأس من بقائه... نظرت سعدة للسماء نظرة امتنان... وقالت بإيمان صادق: - «اللهم لك الحمد... يا من أنت على كل شيء قدير» في أثناء ذلك... نهض الطفل من فراشه... وارتمى في حضن أبيه... وبعد عناق حار... أطلق الطفل سراح والده وهو ينظر إلى الجعبة هناك... من المحتمل أن يكون الوالد أحضر فيها أمتعة وهدايا. تناول الوالد الجعبة... وأخرج منها قطعتين من القماش... ونظر إلى زوجته... وقال: - «خذي يا أم سلمان... هذا القماش... خيطيه ثوباً لك... وهذا... خيطيه لسلمان... اللهم لك الحمد... سأراكم هذا العيد بملابس جديدة... لقد أعانني الله على تأدية بعض واجبي نحوكم» نظرت أم سلمان للأعلى... ولازالت تخالط تقاسيم وجهها... دهشتُها لشفاء سلمان... وقالت في خشوع تام: - اللهم ربنا ولك الحمد ... يا من أنت على كل شيء قدير ثم أدارت وجهها تجاه زوجها وقالت : - «ولكن... أنت... أين قماشك أنت يا أبا سلمان... قماشك الذي سأخيطه لك... كي تلبسه في العيد» - «لا تشغلي بالك بي» - «كيف!!» - «المسألة بسيطة جداً... ستغسلين ثوبي القديم... وسألبسه... لاشك أنه سيعيش على ظهري فترة أطول» ابتسمت أم سلمان... ولم تنبس ببنت شفة. لحظات سريعة... وتقوم أم سلمان بسرعة خاطفة... وتُحضر شيئاً من التمر... وتضعه بين يدي أبي سلمان... وتقول: - «هيا... هيا... سَمِّ الله... وكُل على بركة الله... لاشك أن التعب بلغ منك مبلغه» - «بل أكل التَّعبُ مني وشرب... هـ... هـ... هـ...» - «إذن تناول طعامك... وحدثنا عن قصتك» بدأ أبو سلمان في الأكل والحديث: - «لقد عملت ليل نهار... يا زوجتي... الحياة بين أحضان الغربة صعبة... صعبة جداًً... ويزيدها صعوبة... تلك المخاوف الجسام... التي يبث رعبها في القلوب... قُطَّاع الطرق... ذات يوم... نمت في مغارة... وذات يوم... نمت بين حشائش كثيفة... في الوادي... وذات يوم... نمت في بئر... صدقيني... في بئر... خوفاً على نفسي من اللصوص... أو السباع... أحسن الأيام حالاً... عندما قُدِّر لي أن أبيت في أحد المساجد... كانت بحق نومة هانئة... أحسست بعدها بعظم ديننا... الذي يجعل من بيت ربنا... مأوى لفقرائنا... كان ذاك المسجد في قرية بني سُلَيْم... وعندما صلينا الفجر... أرهبَ الناسَ وجودي بينهم في المسجد... لا لشيء... إلا لقلة ذات اليد... إن معنى وجودي لديهم... إلزام أحدهم بتقديم الطعام والدفء... ومن أين لآل سليم طعام زائد... أو غطاء زائد... في أيام كهذه... وبعد انتهاء الصلاة... بقيت في المسجد... واجتمع آل سليم خارج المسجد... ونظر إليهم كبيرهم... ثم دقق النظر في شاب لتوه تزوج كما يبدو... وقال له: - «الدُّور عليك الآن يا (دفَّار)... وضِيفة الضيف في قسمك» يبدو أن دفار هذا لقب له وليس اسماً... قال الشاب: - «ولكن يا عمي... أنا متزوج لتوي... ألا يمكن أن يقوم مقامي أحدكم» نظر إليه الشيخ نظرة تأنيب حارة... لذا قال دفار: - «مرحباً بالضيف... والجود من الموجود» دخل دفار عليَّ المسجد... وقال لي في لطف: - «أهلاً بالضيف... أنت اليوم عندنا» لقد أحسست بمدى الحرج الذي سببْتُه لهذا العريس... كم تمنيت أن يستضيفني رجل غيره... ولكن هكذا كان نصيبي... لم أملك إلا أن قلت له: - «لا... لا... أنا مستعجل... غاية العجل لم يكن بي من عجل... وعلى ماذا العجلة؟... أحسست أن جبلاً ثقيلاً انزاح عن صدر الشاب... لقد كان مهتماً للثلاثة الأيام... التي كنت سأقضيها لديه... قال في نشوة: - «إذن سأزوِّدك بشيء من الطعام» - «لابأس بشيء من ذلك» أثناء دقائق... كان التمر... ومزودة الماء... ماثلة أمامي... تزودت وانصرفت... دون أن أسأل عن عمل عند أيِّهم. وفي قرية أخرى... وصلت لها بعد عصر ذلك اليوم... ووجدت رجلاً عجوزاً له أملاك كثيرة... وقد رزق بثلاث بنات... فقط... ماتت زوجته منذ فترة... كما قال لي... ووقف نفسه على تربية بناته... وعندما كبرت به السن... وتزوَّجَت بناته... أصبح وحيداً عاجزاً... ولم يعد عنده من يعينه على أعباء الحياة... بناته يأتينه كل يوم للاطمئنان على صحته... وأبناء بناته يقومون بالواجب في سقي المزرعة والقيام بشؤونها... ولكن... عند هطول الأمطار التي عمت المنطقة منذ أيام... كان نصيب مزرعة ذلك الرجل منها سيئاً... فقد أُتلفت المحاصيل... وهُدّمت الجدران. عرضت عليه العمل في بناء الجدران المتهدمة... وطلبت مقابل ذلك مالاً... لم أطلب منه الكثير... طلبت منه فقط... ما يكفي لشراء القماش... وكان تعاقدنا على نصف شهر من العمل... بدأ العمل... ومرت ثلاثة أيام... كُنت أقوم بحمل الحجارة الكبيرة على عاتقي... واجهت من التعب والإعياء الشيء الكثير... وفي بداية اليوم الرابع... كنت منهمكا في العمل... ودحرجت حجرة كبيرة... وحاولتُ رفعها بيدي... ولكن... أُصِبْتُ بفتق في ظهري... كان مؤلماً أشد الألم... لم أستطع تحمله... لقد سقطت على وجهي... وبدأت أتألم. رآني الرجل من كوةٍ في داره... جاء إلي مهتما... وساعدني في الوقوف... ولكني لم أقف... نادى إحدى بناته... ساعتها كانت موجودة في المنزل... جاءت الفتاة... وحملوني للمنزل... وأدخلوني للداخل... بقيت أقاسي الأمرَّين... يوماً آخر... ولكن في اليوم التالي تحسنت صحتي... وعدت للوضع الطبيعي... كنتِ أنتِ وسلمان لا تغيبان عن بالي... قلت للرجل ساعتها: ترقبوا الجزء الثالث: على مدونة الدكتور عبدالوهاب آل مرعي صاحب رواية اليهودي والقتاة العربية http://almarea.maktoobblog.com/ |
الإشارات المرجعية |
|
|