[أبو سليمان الحامد]

من المعلوم من الدين بالضرورة أن الحج فريضة على المسلم المستطيع – ذكرا كان أو أنثى - مرة واحدة في حياته , وما سوى ذلك فهو تطوع , ويدل على ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : " الحج مرة, فمَنْ زَادَ فهو تطوع " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بسند صحيح .
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أيّها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم " رواه مسلم .
ولكني أردت استنباط هذا المعنى من القرآن الكريم , فتأملت بعض الآيات فوجدت فيها دلالة خفية على أن الحج ليس واجبا على جميع الناس وقتاً واحدا كسائر الفرائض كالصلاة والصوم .
بل يحج أناس هذا العام , ثم يحج غيرهم العام القابل , وهذا معناه أن الحج ليس فرضا على المكَلَّفٍ إلا مرةً واحدةً في حياته , لكي يفسح المجال لغيره ليحج في عام قادم .
وهكذا ينقسم المسلمون وقت الحج إلى حجاج , وغير حجاج .
ولكن لا يقال مثل هذا المعنى في رمضان .
ففي رمضان كل المسلمين صائمون إلا أهل الأعذار .

والأدلة من القرآن ما يلي :

الدليل الأول :

قال تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (196) سورة البقرة
والشاهد قوله سبحانه : " ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ "
المراد به : من كان أهله خارج مكة , وهو ليس من أهلها كما نص عليه المفسرون
انظر : تفسير ابن كثير : 1 / 307 , تفسير القرطبي 2/268 .
والدلالة من الآية على ما أريد : أن الآية دلت على أن هناك غائبين عن المسجد الحرام ولم يحجوا , وهم أهلُ الحاجّ وذَوُوهُ , وحينئذ فالحج ليس واجبا على جميع الناس كل عام , بل هناك ناسٌ يَحُجُّون , وهناك أناس يخلفونهم في أهليهم وديارهم .

الدليل الثاني :
قوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة
والشاهد هنا قوله تعالى : " فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " .
وجه الدلالة : أن الآية فيها شرط , بأنّ ( مَنْ فَرَضَ فِيهَنَّ الحج ) أي من عقد النية في الحج ودخل في النسك فعليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال .
هذا منطوق الآية .
ومفهومها : أن من لم يفرض الحج فليس عليه بأس من فعل شيء من ذلك .
ولكن هل المفهوم صحيح ؟
الجواب : المفهوم صحيح من وجه , وغير صحيح من وجه .
فهو صحيح بأن هناك من لم يفرض الحج , وهذا مغزى الاستدلال من الآية هنا , حيث يدل هذا المفهوم على أن هناك من المسلمين من جلسوا في ديارهم ولم يفرضوا الحج لأن فرض الحج ليس واجباً على المسلمين كلهم في وقت واحد .
وصحيح أيضاً بأن غير الحاج ليس عليه أن يتجنب الرفث , لأن الرفث هنا هو الجِماع بقول كثير من المفسرين كما قال تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } (187) سورة البقرة , والجماع وأمور النساء محرمة على الحاج .
وكذلك الجدال مباح في غير الحج , بدليل قوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (125) سورة النحل .
وأما المفهوم غير الصحيح فهو ما يتعلق بالفسوق , فالفسوق ليس مباحا في حال , لا على الحاج ولا على غير الحاج , وإنما جاء التنصيص عليه هنا لأهمية اجتنابه للحاج كما قال صلى الله عليه وسلم في حق الصائم : " فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب " وفي رواية : " ولا يجهل " متفق عليه .
فنص على تحريم الصخب والجهل وهما بمعنى الغضب والصراخ المذموم , وهما مذمومان في كل وقت , ولكن نص عليهما في الصوم لعظيم شأنه .

الدليل الثالث:
قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران .
والشاهد هنا قوله تعالى : " وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ " .
وجه الاستشهاد من وجهين :
الوجه الأول : أن الصيغة صيغة أمر وإيجاب , والأمر حين يطلق فهو يدل على مرة واحدة فقط , فحين يقوم المكَلَّفُ بالمأمور به مرة واحدة فقد أجاب الطلب , وحقق المراد .
وهذه المسألة خلافية عند الأصوليين [ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 173 , المسودة في أصول الفقه لابن تيمية : 20 ].
الوجه الثاني ( أي وجه الاستدلال الثاني ) :
قوله : ( حِجُّ البيت ) قُرِئَ بوجهين :
فقرأ حمزةُ والكسائي وحَفْصٌ عن عاصم بكسر الحاء ( حِجّ )
وقرأ الباقون بالفتح ( حَجّ ) .
ولم أجد القراء اختلفوا في لفظ الحج في القرآن إلا في هذه الآية فقط , واتفقوا على فتح الحاء في سائر القرآن حيثما ورد لفظ الحج .
ووجه الدلالة هنا موجود في قراءة الكسر ( حِجّ ) حيث نص أهل اللغة على أن المصدر الصحيح للفعل ( حَجَّ ) إنما هو الفتح ( حَجّاً ) وأشار سيبويه إلى أنه سُمِع الكسر في المصدر فقال : " حجّ حِجّاً مثل : ذَكرَ ذِكْراً " [ كتاب سيبويه : 4 / 10 ]
وقد وجدت علماء آخرين نصوا على أن اسم المرة من الحج يأتي بوجهين : ( حَجَّة ) و ( حِجَّة ) بفتح الحاء وكسرها [ نص على ذلك ابن خالويه في كتابه : ليس في كلام العرب : 35 , والجوهري في الصحاح : 1/ 304 ( حجج ) والفيروزبادي في القاموس المحيط ( حجج ) ]
فتقول : حَجَجْتُ حَجَّةً واحدة , وحِجَّةً واحدة .
س : ما علاقة هذا الكلام النحوي بمسألتنا ؟
الجواب : علاقته أن كلمة ( حِجّ ) في نظري أصلها : ( حِجَّة ) والتقدير : ولله على الناس حِجَّة البيت , فيكون المراد بها مرة واحد , وتُحْمَلُ قراءة الفتح على قراءة الكسر , أي أن القراءتين يراد بهما المرة الواحدة سواء قرأت بالفتح أو الكسر , لأن الخلاف لم يأت إلا هنا , وهو موضع الوجوب في القرآن . فدل على أنه أريد المرة الواحدة .
قد يسأل سائل ويقول : أين التاء في حجة ؟ الآية قالت : حِجّ البيت , ولم تقل : حجة البيت .
الجواب : التاء تكون محذوفة , وسهّل حذفها وجود الإضافة كما حُذِفَت التاء من إقامة الصلاة في قوله تعالى : " { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ } (73) سورة الأنبياء
وقوله تعالى : {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النــور
وأصلها في الآيتين : وإقامة الصلاة , لأنه مصدر : أقام إقامة مثل : أجاب إجابة وأناب إنابة . وسهل حذف التاء لوجود الإضافة .
ومن ذلك قول الشاعر :
إن الخليط أجد البين فانجردوا ,,, وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدوا
فقال : عِد الأمر , وأصلها : عدة الأمر , وسهل حذف التاء لوجود الإضافة .

هذا ما لدي حول هذا الموضوع , في محاولة لتدبر كتاب الله تعالى واستخراج مكنونات الفوائد منه , فما أصبت فمن الله وما أخطأت فمن نفسي والشيطان , وأستغفر الله عن الزلل والخطأ .
والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .

كتبه : علي بن سليمان الحامد
1430 هـ

[أبو سليمان الحامد]

شكرا جزيلا أختي الكريمة على المرور العطر .

[احلام 99]

شكرا اخي

[لسـ المواطن ـان]

أخي الكريم

قد ساقني طرحك إلى أن اشتري ملف علاق .. وأطلق عليه اسم " الجامع " يحوي العديد من هذه المقالات الرائعة والمفيدة .. لتكون مرجع يستفاد منه .. لك ولأعضاء كرام .
دمت على الحياد .

[برق1]

زدت معرفة بحكمتك وثاقب ذهنك , شكرا أستاذي على هذه اللفتات ذات الجدّة والإقناع
ألا يرد أن من لم يعقدوا الحج لا يلزم كونهم مسموحا لهم مطلقا , بل يحتمل أنهم أهل الأعذار أو غير البالغين .... الخ

[غربة غريب]

بارك الله فيك وسلمك ربي وزادك علماً وفضلاً

[الربو]

جزاك الله خير

[أبو سليمان الحامد]

شكرا لكم إخوتي في الله على إطلالتكم , وأسأل الله تعالى أن يجعلني عند حسن ظنكم .

وبالنسبة للملف العلاقي أخي لسان المواطن فأنا أسألك : هل ما زال الملف العلاقي موجودا في الأسواق ؟؟

أخاف ما تحصله لأنه صار قديم ,

أشكرك أخي الكريم على كلماتك الراقية .

اقتباس المشاركة الأساسية كتبها برق1 زدت معرفة بحكمتك وثاقب ذهنك , شكرا أستاذي على هذه اللفتات ذات الجدّة والإقناع ألا يرد أن من لم يعقدوا الحج لا يلزم كونهم مسموحا لهم مطلقا , بل يحتمل أنهم أهل الأعذار أو غير البالغين .... الخ

شكرا أخي برق

وإيرادك جميل ومحتمل بلا شك , ولكن ألا ترى أن أهل الأعذار قد خرجوا بقوله تعالى : " من استطاع إليه سبيلا "

ثم تأمل معي سياقين لفريضتين :
الأول : قوله تعالى : " فمن شهد منكم الشهر فليصمْه " ,, فالآية علقت الصوم بإدراك الزمن , وهو أمر لا يتعلق بالناس , وإنما بالزمن الذي يعيشون فيه .

ولذلك كان فرض الصوم على الجميع بوقت واحد , فمن انطبق عليه الحكم بأنه شهد الزمان فليصم , وهل يستطيع أحد أن يهرب من الزمن ؟؟
ولهذا جاء الحكم باستثناء أهل الأعذار " ومن كان مريضا أو على سفر "

الثاني : قوله تعالى : " فمن فرض فيهن الحج " تعليق حكم الحج هنا على من فرضَه ,, أي أن الحكم متعلق بالمكلّف , وليس بالزمان , فدل على أن الحكم ليس عاما لجميع الناس , لأنه ليس كل الناس سيفرضون الحج , ولهذا لم يأتِ استثناء أهل الأعذار ,, لأن من فرض الحج فيجب عليه إتمامه ...

هذا ما استطعت تأملَه , واستنباطي للحكم ليس قطعيا , ولكنه اجتهاد , وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصا صوابا .

وشكرا لكم .

[لسـ المواطن ـان]

اقتباس أخاف ما تحصله لأنه صار قديم ,

لا موجود ما وجدت الطوابير .. !