[أبو سليمان الحامد]

تأملات في صورة العصر

قال الله تعالى : {وَالْعَصْرِ , إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ , إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} سورة العصر .
هذه السورة العظيمة على إيجازها وقلة كلماتها تحمل معانيَ عظيمة , وحكماً بالغة لكل متأمل ومتدبر لكتاب الله تعالى , وقد حفظنا قديما قول الشافعي رحمه الله عن هذه السورة :" لو ما أنزل الله على عبادة إلا هذه السورة لكفتهم "
وقد رأيت أن أقف عندها وقفات لغوية دلالية موجزة , لعل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها .
· قوله تعالى : " والعصر " هنا قَسَمٌ من الله تعالى بالزمان المطلق المسمى هنا ( العصر ) , والقسم من الله تعالى شأنه عظيم , فالمُقْسِمُ عظيمٌ سبحانه , وله جل جلاله أن يُقْسِمَ بما شاء من خلقِه , والقسم تأكيد للكلام , فكيف إذا جاء من الخالق سبحانه الذي قوله الحق ولا يقول إلا الحق ؟ . وحين يأتي القسم هنا بالزمن العام والمطلق وهو ( العصر ) فإن ذلك تمهيداً للجواب لأن يكون مطلق الحكم عامّ الدلالة .
· قوله تعالى : " إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ " هذا جواب للقسم , وهو مبدوء بحرف التوكيد ( إنّ ) ومتبوعة بحرف التوكيد الآخر وهو اللام الموجودة في الخبر ( لفي ..) فالقسم وجوابه محشود بعدة مؤكدات : القسم , إنّ , اللام .
· قوله ( الإنسان ) مبدوء بالألف واللام ( أل ) وهي هنا للجنس , أي أن جنس الإنسان , والجنس هنا دال على العموم , وليس المراد به إنسان معين .
· قوله ( لفي خُسر ) أي خسارة فادحة , والمصدر هنا ( خُسر ) جاء مسبوقا بحرف الظرفية ( في ) فدل على أن هذا الإنسان موغل في الخسارة ومستقر فيها .
· قوله تعالى : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ). هنا استثناء عظيم أعطى معنى كبيراً , ومدلولا شريفا لهذه السورة الكريمة .
فإن قلت : الاستثناء عادة يأتي بعد الجمع نحو : جاء القوم إلا خالداً , فأين الجمع هنا المستثنى منه ؟ فالجواب : المستثنى منه مفرد في اللفظ لكنه جمع في المعنى , وهو لفظ ( الإنسان ) فإنه دال على الجنس كما سبق بيانه , والجنسية عموم , فصح الاستثناء منها .
وقد جاء المستثنى يحمل أربع صفات , كل صفة تشكل دائرة كبيرة أكبر من التي بعدها , وبقدر اكتساب هذا الإنسان من هذه الدوائر تكون نجاته من الخسارة , وبقدر إفلاسه منها يحصل على الخسران المبين , فإن خسر الدائرة الأولى كانت خسارته كاملةً غيرَ منقوصة , ولن ينفعه ما اكتسب بعدها من دوائر , وإن كسب الأولى وخسر الثانية , فقد لحقه خسرانٌ مبين , ولكنه أقل من الأول , وهكذا ..
فالدائرة الأولى هي : الإيمان ( إلا الذين آمنوا ) والمراد به الإيمان المطلق بكل ما أمر بالإيمان به : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
فإذا جمع هذا الإيمان العظيم في قلبه , فقد نجا من الخسارة المطلقة , ولكنه يجب أن يحقق ما بعدها لكي ينجو من الخسارة كلها .
الدائرة الثانية : ( وعملوا الصالحات ) وهي : العمل الصالح , لأن الإيمان عمل القلب , والعمل الصالح عمل الأركان والجوارح , فوجب الجمع بينهما .
وجاء جمع الصالحات لكي يعلم المؤمن أنه أمام أعمال كثيرة تستحق الجهد والنصب ليحصل على الربح الكبير .
وهاتان الدائرتان تمثلان الجانب الشخصي للإنسان , فالإيمان والعمل الصالح أمر خاص بك أيها الإنسان , ولكن ماذا عن عمل الجماعة ؟
الدائرة الثالثة والرابعة تمثلان دور الجماعة المؤمنة .
فالدائرة الثالثة : التواصي بالحق .. فلا صوت يعلو على صوت الحق , ولكنه يحتاج إلى تكاتف من أهله , وتناصحٍ فيما بينهم , وتناصر في ميادينه , لأن ميدان الحق ميدان صراع مع الباطل وأهله , فسالِكُ طريقِ الحقِّ محتاج للنصرة والمعونة من إخوانه .
وجاء الحق هنا بعد الإيمان والعمل الصالح لبيان أن المراد بالحق الصحيح هو ما كان داخلا في الإيمان بالله تعالى وطاعته , وأن ما عداه فهو باطل وإن ظهر للناس أنه حق ( قال فالحقُّ والحقَّ أقولُ ) ( ذلك بأن الله هو الحقّ ) .
الدائرة الرابعة : التواصي بالصبر , فهو الزاد لتحقيق ما سبقه من دوائر وشروط , وقُدِّمَ الحقُّ على الصبر لأن الحقَّ غايةٌ والصبرَ وسيلةٌ , كما قدمت العبادة على الاستعانة في الفاتحة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فالعبادة غاية والاستعانة وسيلة لها .
والصبر هنا عام لكل أنواع الصبر , وقد أمر المؤمنون بالاستعانة به مع العبادة {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } (45) سورة البقرة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة .
وقُدِّمَ الحق على الصبر ؛ لأن الحق عام والصبر خاص , فالصبر حقّ , وهو داخل في الحق قبله , فالتواصي بالصبر من الحق , ولعل هذا من عطف الخاص على العام .
ولعلنا نلحظ أيضا أن العطف هنا بين هذه الأربع جاء بدون إعادة الموصول : أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر , وهي كلها داخلة في حيز موصول واحد وهو كلمة ( الذين ) ليدل على أن هذه الصفات الأربع يجب أن تكون مجتمعة ليحصل الربح .
ولو قال : إلا الذين آمنوا والذين عملوا .. والذين تواصوا .. لأصبحت كل صفة مستقلة بذاتها ...

فهذه أربعة أمور وشروط يجب أن تتحقق في الباحث عن الربح , والهارب من الخسارة , جاءت مرتبة حسب أهميتها , وموزعة حسب وجودها في حياة المؤمن فردا أم جماعة , شاملة لكل أوجه الخير والهدى والنور .
ومن تأمَّل في هذه الأربع مرةً أخرى وجدَ فيها العبور الحضاري لكل أمة تنشد التقدم , حيث الصدق مع النفس أولا , والعمل الجاد المثمر فرديا وجماعيا , ولا يمكن لأي حضارة أن تنهض إلا بهذه المقومات الأساسية ,ولذا كان الإسلام دين الفرد والأمة , فهو دين الفرد بإيمانه وصدقِه مع الله تعالى وصدقه مع نفسه , وبقيامه بالأعمال المنوطة به على الوجه الأكمل دين زيف أو تخاذل .
وهو دين الجماعة بتشكيل الصف الواحد , والتواصي على الحق أينما كان , وحيثما وجد , ولئن حقق الناس هذا المعيار الحقيقي للمقوم الحضاري فليجنوا ثمرته خيرية دائمة على الناس جميعاً ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) .

والسورة كلها تدور على الحق , فالإيمان بالله حق , والعمل الصالح حق , والتواصي بالحق حق , والتواصي بالصبر حق , ولهذا سمى الله تعالى نفسه الحق {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } (6) سورة الحـج , وكتابه الحق : {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} (76) سورة يونس , {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} (51) سورة الحاقة , وجاء القرآن بالحق {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (105) سورة الإسراء , ودين الله حق {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (9) سورة الصف , ووعد الله حق { وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (122) سورة النساء .
ومن كان من أهل هذا الحق فليعلم أن الحق منتصر على الباطل لا محالة , وأن الباطل مآله إلى الخسران والبوار " {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (18) سورة الأنبياء , وهنا تأتي الخسارة المنصوص عليها في أول سورة العصر , فأهل الباطل مهما علا شأنهم فإنهم في خسارة , وأهل الحق هم الرابحون المنتصرون بإذن الله , ولكن هل يعي أهل الحق ذلك ؟؟
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المفلحين الرابحين في التجارة معه , وأن يهدينا للتي هي أقوم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

كتبه : أبو سليمان علي الحامد
الخميس :23/3/1433 هـ

( لا مانع من نقله والاستفادة منه )

[مـغـتـرب]

سورة لها حسها الجميل
وكما ذكرت بارك الله فيك قول الشافعي رحمه الله في هذه السورة حيث أوجز عظمتها
تفصيل مبارك منك شيخنا الفاضل
هناك تعقيب بسيط حصلت عليه بعد بحث بسيط حول هذه السورة

اقتباس يقول الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة وعزاه للطبراني في الأوسط، ولفظه: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ثم يسلم أحدهما على الآخر.

وقد عقّب عليه بأنه لا يدل على مشروعية قراءة السورة المذكورة بصفة جماعية بعد الصلاة، ولوكان ذلك من السنة لنقل إلينا كما نقلت الأذكار بعد الصلاة وغيرها، كما أنه لا يدل على مشروعية المصافحة بعد السلام من الصلاة أيضا.

السؤال هنا ماذا نستنبط من هذا الأثر..خصوصا أن المصدر قد صحح سنده؟

المصدر (هنا)

[أبو سليمان الحامد]

أشكرك أخي مغترب على الإطلالة والفائدة الجليلة .

اقتباس السؤال هنا ماذا نستنبط من هذا الأثر..خصوصا أن المصدر قد صحح سنده؟

لا شك أن الفوائد من هذا النص جليلة وعظيمة , ويكفي أن نعلم حرص الصحب الكرام رضي الله عنهم على العلم واتباع الحق والتناصح فيما بينهم , ومنها نعلم أهمية هذه السورة على قصر حروفها وكلماتها .. وغير ذلك من الفوائد ...

شكرا لك أخي الكريم .

[غيث السماء]

...

تم نقله جزاكم الله خيرا

...

[فــ ـهـ ــد]

اقتباس المشاركة الأساسية كتبها غيـــث وعطـــاء ... تم نقله جزاكم الله خيرا ...

نقل اي موضوع مع نسبه لصاحبه من ادبيات النقل والله يجعله اجره لكاتبه وناقله

جزاك الله خير استاذنا
والله اننا بحاجه لنتعلم معنى الصبر حتى نواجه قسوة حياتنا

شكرا لك

[صعب المحال..]

جزاك الله خيرا ..
وبارك الله فيييك أخي // كبير المحايدين
دائما مواضيعك رائعه
دمت بحفظه




..

[أبو سليمان الحامد]

الأخت غيث

الأخوان : فهد وصعب المحال

شكرا لكم جميعا على إطلالتكم النبيلة

تقبلوا تحياتي .

[ام الوريدات]

جزاك الله خير

[أبو سليمان الحامد]

^^^^

وإياك

شكرا لك .

[معاني17]

*

شيخنا ..
أراك تزور الساحة غبّا !
اشتقنا لدروسك , وفرائدك ..
لعل المانع خير .

*

[أبو سليمان الحامد]

بارك الله فيكم أحبتنا الكرام , وشكر الله سعيكم

اقتباس المشاركة الأساسية كتبها معاني17 * شيخنا .. أراك تزور الساحة غبّا ! اشتقنا لدروسك , وفرائدك .. لعل المانع خير . *

شكرا لمشاعرك عزيزي , ولكن ( زر غِبّاً تزدد حباً ) ..

[مسكين قلبي كم يعاني]

جزاك الله خير

[فهد - الرسي]

بارك الله فيك

[شخت البؤس]

جزاك الله خير الجزاء يا كبير المحايدين

وفقك الله