[د. صالح التويجري]

خطبة الجمعة 12/10/1427هـ صالح التويجري بريدة
منذ زمن بعيد كنا صغارًا..أحداثًا،.. نخطو إلى مرحلة الرجولة في سن المراهقة؛ حيث تتراءى الأشياء في عين الفتى بألوان فاقعة وروائح نفاذة؛ على نحو لم يعهده فيما خلف من أيامه الغضة، حينها كان ينتهي إلى مسامعنا بقية حديث لا نتبينه إلا في غموض، وأصوات تشبه أصوات المتخاصمين...وبينما هي تعتلج كألسنة اللهب، تضيع كأنما سديم سابح، أو تشربها غور سحيق، ثم يمضي موكب الحياة لا يلوي على شيء؛ والناس يركبون؛ كدود على عود
وفي دخان هذه النازلة تتراقص شياطين الإنس - في سفه - تلغو في بيضاء ذلك النهار لتجعله كالليل، ولم يكن عجب أن تجيب النفوس إلى ذلك، وفي طباعها هذا الميل إلى الانحدار مع أهوائها، كالماء الجاري يطلب الهبوط غير مفتقر إلى رياضة، ولو ذهبتَ ترفعه إلى أعلى لما أمكنك إلا بشق النفس !
هذا إلى أن مباشرة الهدم أيسر من معالجة البناء في عالمي القيم والمادة سواء، وليس ذلك إلا لأن البناء عملية إيجابية باهظة التكاليف، وهي من حجر وطين، فكيف إذا كانت من خلق ودين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}(الصافات:106) أما الهدم فعملية سلبية يقوض فيها هادم واحد جهد ألف بنَّاء، وإنما الشأن كما قيل:

خلق الخلق لعبادته وحده ودخول تحت امره ونهيه (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ) وقال عز من قائل (يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) وما ارسلت الرسل وانزلت الكتب الا لاخراج العباد من داعية اهوائهم الى عبادة خالقهم في كل تفاصيل الحياة والرجوع الى شرعه في كل الاحوال والانقياد الى احكامه وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متواترة على هذا المقصد (فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم) .
.. ان اصل المخالفات هو اتباع الهوى و الاغراض العاجلة والشهوات الزائلة وقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق كما في قوله سبحانه(فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) وقال عز وجل (فاما من طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي الماوى ) وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى ) فقد حصر الامر في شيئين الوحي والهوى فلا ثالث لهما و الاسترسال في اتباع الهوى يحدث في ذلك من الفوضى والتهارج والتقاتل والهلاك مالا يخفى0
و الاسلام لا يتم إلا باسلام النفس وانقيادها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك امرت وانا اول المسلمين) ذلك ان حقيقتة هي الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة فاسلام القياد لرب العالمين والقبول والرضا بحكمه وشرعه في كل نواحي الحياة فرض لازم وهو مقتضى الاسلام ومن عارض شرع الله برأيه فليس بمستسلم لله بل هو عبد لهواه وهو المقصود بقول الله سبحانه وتعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) وقال سبحانه (فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).
وهو شرط الايمان قال سبحانه (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لايؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) 0
و الشريعة الاسلامية جاءت بمصالح الخلق فلم توضع على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم (ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن ) يقول شيخ الاسلام بن تيميه .. إن الناس لايفصل بينهم النزاع الا كتاب منزل من السماء ولو ردوا لعقولهم فلكل واحد منهم عقل 0
وقال ايضا:واتباع الاهواء في الديانات أعظم من اتباع الاهواء في الشهوات فان الاول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وهؤلاء هم من عناهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابي حذيفة رضي الله عنه : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم اليها قذفوه فيها قلت يارسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بالسنتنا 0 وقال صلى الله عليه وسلم : وانه سيخرج في أمتى أقوام تجارى بهم تلك الاهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لايبقى منه عرق ولا مثقل الا دخله .)وان تطاول الاقزام وغرتهم نرجسية الذات وتشاهد اللصوص لتضييع الحقائق فلن يعدوا قدرهم
اذ لا اجتهاد مع النص ولا قول لاحد مع قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) : بل ان كراهة شرع الله وابتغاء ما سواه محبط للعمل كما في سورة محمد صلى الله عليه وسلم ( ذلك بانهم كرهوا ما أنزل الله فاحبط اعمالهم .) ولقد جعل الله للعقول في إدراكها حدا تنتهي اليه ولا يمكن ان تحيط بكل شيء فالاحاطة للباريء وحده الذي يعلم الاشياء على التمام والكمال والمآل اما العباد فادراكهم قاصر ولا يتفقون في النظريات لذلك تراهم يرتضون اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ثم يصيرون بعد غد الى راي ثالث ولو كان ما يقضي به العقل كله حقا لكفى في اصلاح معاش الخلق ومعادهم
و الواجب على المسلم الحذر من هذا المزلق الخطير وهو رد شيء من شريعة الله او كراهتها او تقديم الهوى والعقل على الوحي ولقد اتفق اهل السنة على ان من فعل عددا من الكبائر دون الشرك فانه لايكفر ومن استحلها كفر وان لم يفعلها اذا علمت من الدين بالضرورة ومن أراد النجاة في الدنيا والاخرة فليلزم قول الحق سبحانه (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) 0
ولئن كان العقل محمودا في الانسان ولولاه لما اختص بالتكليف دون سائر الحيوان وقد خاطب الله العقل في ايات كثيرة من كتابه وامر بالتفكر والتعقل بل علل له كما قوله (لعلكم تعقلون ) الا ان الخالق سبحانه كما خلق العقل في الانسان فقد فاوت بين الناس وركب في طبائعهم الهوى والشهوة وجعل الوحي حاكما على كل ذلك ابتلاءا منه سبحانه وتعالى فمن اخضع ذلك لله وحده فهو المسلم المستسلم المنقاد ومن تمرد بعقله وأعجب برأيه فهو المتوعد بالعقاب وقد ذكر العلماء أوصافا لاهل الاهواء مقدمي عقولهم القاصرة على الشريعة الكاملة وهي اوصاف انطبقت ولا زالت تنطبق منذ القرون الاولى ومنها اتباع المتشابه كما قال تعالى (فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) من خلال ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم من الصحابة ومن تبعهم وتجده يخص بالمدح من وافق هواه كالفلاسفة واهل الكلام واهل الاهواء ومنها عدم تعظيم النصوص الشرعية والتهاون والتهوين في مخالفتها بل يصل الحال ببعضهم الى الاستخفاف بها والتندر بمن تمسك بها وجعله تحت مجهر النقد واسقاطه عند العامة ومنها عدم ظهور السنة في عباداتهم وسلوكهم وهيئاتهم ومع هذا فان أحدهم يجعل نفسه مقارنا لكبار علماء السنة فهو كمن قال الله فيه (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولاكتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وان الله ليس بظلام للعبيد )0بارك الله لي ولكم




الحمد لله
ومهما تنمرت الثعالب ولبست قفاز الحرير خداعا فلتعرفنهم في لحن اقوالهم وولعهم بطرح المتشابه واقتناص حالات تاريخية وحكايات شاذة وتتبع لاقوال المذاهب بقراءة مبتسرة وقصور عن استيعاب مقاصد الشريعة ناهيك عن شطحاتهم السلوكية وقفزاتهم المتعارضة وما اعترى عقولهم من لوثة
كناطح صخرة يوما ليوهنها************ فلم يضرها واوهى راسه الوعل فلقد تكفل الله بحفظ القرآن الكريم، و سيبقى محفوظا حتى قيام الساعة، ولن يستطيع احد تحريفه او تغييره او تبديله، مهما ملك من القدرات ، وهذه حقيقة بدهية، قال تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون».

وكل مسلم يؤمن ان كل كلمة وكل حرف في المصحف هو كلام الله، وان القرآن الذي بين أيدينا من سورة الفاتحة الى سورة الناس هو القرآن الذي انزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وانه وصلنا بدون تغيير او تبديل، او زيادة او نقصان، او حذف او اضافة.
والمشكلة المعاصرة ليست في الايمان بأن القرآن كله كلام الله، ولكنها في كيفية فهم آيات القرآن واحكامه وحقائقه وتوجيهاته، وفي التعامل معه، وفي النظر الى الحياة من خلاله!

المشكلة هي: كيف نقرأ القرآن؟ وكيف نفهم القرآن؟ وكيف «نصنف» الناس على أساس القرآن؟ وكيف «نحدد» موقفنا من الآخرين على اساس القرآن؟ وكيف نزن الأفكار والمبادئ والقيم بميزان القرآن؟

نعترف بأن هناك عدة «قراءات» للقرآن! ولا نعني بالقراءات تلك القراءات القرآنية العشر التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم واجاز للمسلمين القراءة بها، والتي يتعلمها طلبة العلم في الجامعات والمساجد ومراكز تحفيظ القرآن، فتلك القراءات صحيحة، كلها كلام الله. انما نعني بالقراءات المختلفة:«الأفهام» الخاطئة، التي يفهمها بعض «المزاجيين» واصحاب الأهواء من القرآن عندما يقرؤون آياته! والدلالات الخاطئة التي يستدلون عليها بآيات القرآن والاحكام الخاطئة التي يزعمون استخراجها من آيات القران.

فا لخلاف في فهمها ومعرفة معناها، واستخراج احكامها ودلالاتها!!
كل صاحب هوى ومزاج يريد قرآناً يتفق مع هواه ومزاجه، ويبحث عن آيات تحقق له ما يريد، واذا لم يجد آية صريحة -وهو لن يجدها- يتلاعب بآيات يظن انها تشهد له، فيلوي أعناقها، ويُقَوِّلها ما لم تقل ويجعل دليله على رأيه الخاطئ كتاب الله، ويدعي التزامه به!!
واذا اعتلت الافعال جاءت عليلة كحالاتها اسماؤها والمصادر

وان ناقشته وفندت كلامه، وبينت خطأه وبراءة القرآن من فهمه، زعم انك متطرف متشدد اصولي، وان القرآن بريء منك!

هناك طوائف عديدة في الأمة يريدون «قرآناً خاصاً» يتفق مع أفهامهم واهوائهم، وهم لا يطلبون تحريف القرآن وتغيير آياته، إنما يطلبون «قراءة» معاصرة ، و«فهماً معاصراً» لمعانيها، يتفق مع «العولمة والأمركة والأسرلة» التي تروم توجيه العالم ويطالبون باعدام القراءة الاصولية للقرآن والفهم المتشدد له.

فا لقراءة المزاجية التي تصدر عن اصحاب الاهواء المختلفة ويفهمون بها القرآن فهماً حضارياً عالمياً منفتحاً متقدماً متطوراً بزعمهم ويدعو الى «تغيير» الخطاب القرآني، ليتفق مع قيم العصر الحديث، ويتفاهم مع العالم الجديد يريد اصحاب هذه القراءة قرآناً «يتفهم» التطورات والتغييرات، ويهادن المخالفين، ويتصالح مع اليهود والأمريكان، ويرضى بما عليه سفهاء الاحلام و«ينسحب» من حياة الأمة، ويسمح لكل مسلم ان يأخذ منه ما يشاء، ويدع ما يشاء. فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .وبرغم خرق المكاسب وفجاجة النتائج سيجد هؤلاء مطبلون وغثائية ولكنها رصيد مزيف فان الامة قد تتغافل شيئا من الوقت ولكنها في الازمات تعرف من أي الارصدة يكون السحب فالعلماء الربانيون والفقهاء المجتهدون والنصحة المؤتمنون يحتاون من الامة منزلة عظمى ولوكره الكافرون والمنافقون متبعوا الشهوات والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون ولقد تصدى لاهل الهواء علماء الامة في صدر الاسلام والى اليوم

قال ابن بطة العكبري في مقدمته لكتابه الإبانة : ( أني لما رأيت ما قد عم الناس وأظهروه وغلب عليهم فاستحسنوه من فظائع الأهواء وقذائع الآراء وتحريف سنتهم وتبديل دينهم حتى صار ذلك سببا لفرقتهم وفتح باب البلية والعمى على أفئدتهم وتشتيت ألفتهم وتفريق جماعتهم فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم واتخذوا الجهال والضلال أربابا في أمورهم من بعد ما جاءهم العلم من ربهم (و) استعملوا الخصومات فيما يدعون وقطعوا الشهادات عليها بالظنون واحتجوا بالبهتان فيما ينتحلون وقلدوا في دينهم الذين لا يعلمون فيما لا برهان لهم به في الكتاب ولا حجة عندهم فيه من الإجماع وأيم الله لكثير مما ألقت الشياطين على أفواه إخوانهم الملحدين من أقاويل الضلال وزخرف المقال من محدثات البدع ( بالقول ) المخترع بدع تشتبه على العقول وفتن تتلجلج في الصدور فلا يقوم لتعرضها بشر ولا يثبت لتلجلجها قدم إلا من عصم الله بالعلم وأيده بالتثبت والحلم، جمعت في هذا الكتاب طرفا مما سمعناه وجملا مما نقلناه عن أئمة الدين وأعلام المسلمين مما نقلوه لنا عن رسول رب العالمين ( ) مما حض عليه من اتبعه من المؤمنين وما أمر به من التمسك بستنه وسلوك طريقته والاقتداء بهديه والاقتفاء لأثره **هذا وصلوا ثم الدعاء
.

[نبع الحنان]

... :: د. صالح التويجري :: ...

بارك الله فيك شيخنا الفاضل
سعدنا بسماع الخطبة منكم شيخنا
وسعدنا أكثر برؤيتها مكتوبه هنا

نحن سعداء كثيرا بتواصلكم معنا شيخنا الغالي
فلا حرمنا الله منكم ومن علمكم

مع محبتي
نبع الحنان