|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
23-11-2006, 09:13 PM | #1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Nov 2006
المشاركات: 8
|
((؟؟مابين بــريــدة ؟؟إلى بيروت ؟؟وعبر كـابل؟؟))
يوميات ليبرالي. .
الأصدقاء الصادقون: يوميات ليبرالي. . مابين بريدة إلى بيروت عبر كابول .. . . : ( 1 ) : . . .. حدثتني جدران مدينة الرياض عن ذكرياتي.. عن خمس عشرة سنة مضت عن الطفولة والصبا وأيام كنا لا نخشى على الحب ناهياً.. عن فتى أذكره يقال له "الصيني" ليس نسبة إلى الصين بل إلى ثوبه المتطفح قذارة، والتي ترى خرائط زحل والمريخ مرسومة على ذاك الثوب البالي والعجيب في هذا الثوب أنه لم يلمس يوماً جسد صاحبه! يمتد من اليسار لليمين متراً ومن الأمام للخلف مثله، إذا هبت الريح عليه بدأت تسمع (طقطقة) ثوبه وأجزم أنه لم يخلعه إلا تحت التخدير الكامل لجسده أو بلّه تحت نفود (الحويزة). البداية كانت عندما كان عمر "مسيطيح" 15 عاماً وكان يجوب أزقة حي (العجيبة) و(الجردة) يدور بعربته ذات الثلاث عجلات، وينادي بأعلى صوته: (التيم يا ولد الْحق على التيم البارد) -والتيم مشروب مثل السفن أب انقطع الآن- سألته يا "مسيطيح" ليش بس تيم؟ قال لأنه يتماشى مع لون بدلتي الخضراء وسروالي الأبيض المخطط بالأخضر!. وبالمناسبة حينما يركع مسيطيح ليأتي بعلبة التيم من حافظته يضحك عليه كل من يقف خلفه ولا تسألوني عن السبب...! رأيته مرة وعليه (زنوبا) فقلت له: مبروك وعمرة متقبلة غريبة ما قد شفتك إلا حافي؛ فقال: لا يروح بالك بعيد ما كثر الله إلا المساجد!! فقلت له إذا سماك الله سارق فأقل شيء خذ لون واحد مو وحدة خضراء والثانية زرقاء! فقال أهم شيء إنها تروح المتعلقات تحت (رجليني)، فقلت: أي متعلقات؟ قال خبرك الفجر أقوم (أروس) – جملة يعرفها المزارعون-، ثم في الظهر أطلع (أخرف) النخل ثم بعد المغرب أروح (أحلب) البقر لذا دائماً تلقى (رجليني) ناشب فيها كل ما هب ودب، قلت له: طيب يا "مسيطيح" وش تتمنى؟ قال: بصراحة ودي أصير (متمدن). قلت وشلون؟ قال: ودي أعرف أشغل (الراديو) وأكلم بالتلفون وألبس ثوب بكبك واشتري سيكل 24، وأتمشى بشارع الخبيب –هذا الشارع هو القلب النابض لبريدة- قلت له: ليش أنت ما تعرف تكلم ولا تسمع الرادو ولا عندك سيكل؟ قال: لا.. بس بندر ولد خالي دايم يكلمني عنها.. غربت الشمس فافترقنا.. .. . . : ( 2 ) : . . .. تفارقنا سنوات بعد ذاك الحديث وتغيرت معالم.. رحل عن تلك المدينة رجال وبقيت فيها بيوت واطئة... خرجت ذات مساء من الجامع الكبير -كان إمامه الشيخ عبد الله القرعاوي والذي أبعد عنه سنوات ثم عاد له الآن، أعقبه في الإمامة الشيخ الراحل محمد السعوي –رحمه الله-، لم تصدّق عيني ما رأت.. لقد رأت صاحبنا :مسيطيح" لكن بهيئة أخرى فركت عيني أهو هو..؟! نعم إنه هو.. ما شاء الله "مسيطيح" وش جابك الحمد لله على السلامة، لم يبتسم، لم يبادلني الشعور، رد بكلام مقتضب، ثم سمعته يتعوذ! قلت له: ما بك..؟! قال ما تخاف الله تصلون مع إمام يصلي بالمكرفون بعدين أنتم يا عيال المدارس المفترض ما أسلم عليكم تدرسون بمدارس الحكومة ودروسكم كلها صور وبلاوي، وسمعت إن عندكم دروس تلهون فيها (بخصية إبليس) –المقصود حصة الرياضة- وتركبون هالسيارات اللي صنعوها كفرة فجرة، وترى سبب ها الحوادث عقوبة من الله لأنكم ركبتم صناعة الكفار.. وقفت فاغراً فيّ من هول ما سمعت لم أصدق أبداً أن هذا هو "مسيطيح" الأول، تركت هواجس النفس وسألته: طيب أنت وش جابك تصلي مع إمام يصلي بالمكرفون؟ قال أنا جيت أنصحه الله يعافيه ولا يبلانا، قلت: طيب وين رايح الحين؟ قال بروح لسيارتي.. سيارتك غريبة.. ألم تقل: إن السيارات حرام وهي من صنع الكفرة؟ قال: بلى ولكن سيارتي من صنع ربي تعال معي لتراها.. خرجنا من الباب الشمالي ومررنا ما بين محلات (السقوطات) وبين دكاكين الجامع متجهين جهة الغرب متجاوزين شارع الصناعة، كان صاحبي يسبقني وكانت الريح تهب علي ريحاً ممزوجة ما بين دهن العود وسنان حمار فكانت ريحاً نتنة لم أحتملها، لكنها كانت تضيع تحت صفير (زبيريات) صاحبي، فقلت في نفسي أمس (زنوبا) مسروقة واليوم (زبيريات).. يا مغير الأحوال.. تبعت صاحبي حتى وصلنا إلى أزقة حي الخريصي -وهو حي قديم تجدد بعضه ولا يزال البعض شاهداً على تاريخ رجالاته ببيوته الطينية الموحشة- فجأة توقف مسيطيح ثم مال إلى جهة اليسار ليدخل إلى أحد البيوت المتهدمة فتبعته يدفعني حب الاستطلاع ويربكني الخوف، دخلنا إحدى هذه الغرف، فرأيت حماراً أشهب مربوطاً على سارية البيت، ففزعت وسميت وقلت: ما هذا يا مسيطيح؟ فقال: هذه سيارتي نحن لا نركب ما صنعه الكفار!! عندها أدركت سر الريحة الكريهة المنبثقة من صاحبي، سألته: هل تذكر حديث الطفولة؟ أما كنت تحلم بسيكل 24؟ فقال أعوذ بالله أنا أركب حصان إبليس سكت وفي النفس لهفة لمعرفة المزيد... تركني صاحبي واجماً في مكاني وقال ألقاك غداً هنا.. في نفس الوقت .. . . : ( 3 ) : . . .. أويت إلى فراشي مهموم القلب، موجع الفؤاد أفكر بصاحبي وما حل به.. يا إلهي ما الذي غيره واختار له هذا الطريق! أتعبني التفكير وطار النوم من عيني، لجأت لكتاب كان يجلب لي النوم وهو أخبار الحمقى والمغفلين لكن كيف لي أن أقرأ سطوراً وأنا عشت اليوم مع أحد أبطال هذا الكتاب.. رأتني والدتي وقالت لي: ما بك يا ولدي؟ قلت لا شيء مسحت على جسدي وهي تتمتم بكلمات لم أسمعها... ذهبتُ إلى ذاك المكان في الوقت المعين لألتقي صاحبي وكلي همّ وأمل أن أعرف المزيد فحديثه ذو شجون.. وقلبي ذو استطلاع.. تأخر "مسيطيح" عن الوقت المحدد حتى هممت بالرجوع، لكن كيف لي أن أذهب وأنا لم أنم تلك الليلة أنتظر هذه اللحظة؟!، قطع حبل أفكاري نهيق حماره الأشهب بين أزقة حي الخريصي خلف جامع الشيخ صالح الخريصي -رحمه الله- سلمت عليه، فردّ علي (السلام على من اتبع الهدى)، فقلت له: هذه تحية لا تقال لمسلم، قال: كيف أثق بك وأجزم وأنت تدرس بهذه المدارس الحكومية؟ تركته يربط حماره (ويعلّفه) نظر إلي وقال: كيف بك إذا لقيت ربك وأنت تركب ما صنعه الكفار؟ بل هل تجزم أن الله سيتقبل صلاتك وأنت تصلي خلف إمام يصلي بمكرفون وهو بدعة لم يفعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما تخاف الله؟ أما...؟ انتهى صاحبي من حديثه وكنت مطأطئ الرأس فرفعت بصري له وبادرته بالسؤال: "مسيطيح" ما الذي غيرك؟ أما كنت تلبس الأخضر والأبيض فإذا سألتك عن سرها قلت لي لأني ريداوي - نسبة لنادي الرائد ذو اللون الأحمر والأبيض والأسود- فأضحك لأني أعلم أنه يسمع به دون أن يراه؟ ألم تقل لي إنك تريد أن تكون (متمدناً) كما حدثك قريبك (بندر) وتريد أن تلبس ثوباً بكبك؟ قال: ذاك زمن الطفولة أما الآن فنحن الغرباء في آخر الزمان!!.. فحدثني حديث القابض على الجمر فقال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القابض على جمرة كالقابض على الدين.." فقلت أستغفر الله لا تفتري على رسول الله وأحسن قراءة الحديث.. (القابض على دينه كالقابض على الجمر..) فقال الحمد لله أنك تعرف إذاً لماذا تعيش عيشة الخنا والفجور؟ فقلت: أي فجور يا أخي؟ قال تلفونات ومسجلات ومدارس ومراكب الشيطان و...؟ قلت هذا حل أحله الله لي.. تركنا حماره ينهق... ومشينا في طريق مقمر.. يثب الخوف فيه قبلنا... حدثني فيه كيف هجر بيتهم وترك والده وأهله وهو الآن قابض على دينه مع أهل الصفة.. قلت له: أين تدرس؟ فقال في الدينية وأنا الآن في الصف الخامس...(والدينية عبارة عن مدرسة غير حكومية لها مناهجها الخاصة تهتم بالتعليم الشرعي انتهى بها المطاف في الجهة الغربية الجنوبية من حي الهلال قرب مقبرة الموطأ والتي تسمى الآن مدرسة الشيخ صالح البليهي لتحفيظ القرآن وهي الآن حكومية.. هذه المدرسة لها نظام يختلف كلياً عن المدارس الحكومية، فمثلاً يبدأ الطالب بأول (ردية) عكس جيدة ثم ينجح لأولى جيدة ثم للثانية ثم الثالثة وهكذا وينتهي بالصف الثامن فإذا تخرج الطالب من الصف الثامن فإنه يلتحق بحلقة الشيخ المحدث الراحل عبد الله الدويش رحمه الله، وهو شيخ الشيخ سليمان العلوان -فك الله أسره- وحلقة الشيخ الدويش في أول غرفة من جهة اليمين أول ما تدخل هذه المدرسة يليها الإدارة والتي تَعاقب عليها في نهاية عمرها كلاً من الشيخ محمد الرشودي إمام جامع الفاخرية وصالح البجادي والذي أيضاً يسكن في نفس الحي.. هذه المدرسة لا يوجد بها طاولات وكراسي فهي عبارة عن فصول مفروشة وهناك رف في آخر الفصل يضع الطلاب عليه حقائبهم يخلعون أحذيتهم قبل دخول الفصل وغالباً ما يجلسون على شكل حلقة دائرية وأحياناً على شكل صفوف، فإذا أراد الطالب الكتابة؛ فإن عليه أن يرفع إحدى رجليه ليتكأ عليها ويكتب أو يكون على هيئة السجود ويكتب على الأرض ولا يخرج الطلاب من الفصول إلا حينما يضرب المراقب _ والمراقب مثل الوكيل_ بعصاه الطويلة ضربات سريعة متتابعة وقوية على إحدى الحيطان أو الأعمدة وتنتهي الدراسة فيها قرابة الساعة 11 صباحاً.. تُدعم هذه المدرسة من أهل الخير مثل التاجر المعروف فهد العشاب –رحمه الله- وهو أحد رجالات هذا التيار الإخواني المعروف في بريدة وهم غير جماعة الإخوان الشهيرة بل تختلف اختلافاً جذرياً عنهم، والحقيقة أن هذه المدرسة يتخرج منها الطالب وقد أتقن كثيراً من العلوم الشرعية فمثلاً الطالب لا ينتقل من الصف الرابع إلا وقد أتقن وحفظ الأصول الثلاثة وكتاب التوحيد والأربعين النووية وغيرها.. لكنها تحفظ الطالب أكثر من أن تربيه..أغلقت هذه المدرسة سنة1408 هـ تقريبا).. عوداً على صاحبنا قلت له أين تسكن...؟ فقال لا تستعجل سترى.. أخذ بيدي واليد الأخرى على أنفي فقد أزكمتني رائحته العفنة فحاذينا جامع الشيخ الخريصي وذهبنا إلى بيت هناك خربة لا نور فيها موحشة فهز بابها ودخلنا عبر ممر صغير مظلم وفي آخره تريك قديم يضيء هذا الممر بإضاءة باهتة، مررنا على غرفة لا تكاد ترى فيها شيئاً قلت له يا "مسيطيح" ألا تضيء لنا الطريق؟ أين الكهرب؟ فقال: أعوذ بالله منك ..كهرب..!! هذا ترف وهو من صنع الكفار وهذا التريك الذي تراه متدلياً في بعض النواحي هو أنيسنا وهو ما بقي لنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. استدرك كلامه وماذا ستنفعك هذه الأضواء في قبرك..؟! سكتُّ ليس لأنه ليس لدي جواب، لكن عندما يقول لك شخص أحمق يا حمار فإنك لن تستطيع أن ترد عليه وتقول أنا لست حماراً لأن الحمار يمشي على أربع وأنا أمشي على ثنتين وله أذنان طويلتان وأنا أذناي صغيرتان.. بل تلزم الصمت وأنا لزمت الصمت مع "مسيطيح".. استقر بنا المقام داخل غرفة تقع بجانب مربض الحمير والخيول وقعت عيني على كتب متكدسة يعلوها الغبار حاولت أن استبين عناوينها لكن لم يتضح لي إلا اسم ابن تيمية وابن القيم والإمام أحمد واختفت أسماء كثيرة تحت طبقات الغبار، فعرفت أنها لا تُقرأ، وفي الزاوية الأخرى رأيت كتباً نظيفة يبدو للمشاهد أنها تُقرأ بشكل يومي لا أذكر منها الآن إلا ذم الهوى والمستطرف في كل فن مستظرف.. وأدركت سر اهتمام "مسيطيح" بها الآن لأنها مصرف الشبق عنده.. سألته وهل أنت وحدك هنا؟ لم أنتظر الجواب فالجواب كان مشاهداً أمامي إذ سمعت صهيل الخيل ورفسه في الممر المظلم، وما هي إلا لحظات حتى دخل رجل أشعث أغبر كهيأة صاحبنا لم يُسلّم.. بل قال من هذا يا "مسيطيح"؟ وأشار عليّ؛ فأجاب هذا مَن كلمتك عنه وهو ابن أحد العوائل الذين غرتّهم الحياة الدنيا كنت واجماً حينها لا أدري ماذا أقول.. ربط فرسه وقال يا ولد المدارس نحن الغرباء القابضون على الجمر ونريد أن نغيّر حال المجتمع لكن لا نريد أن ننغمس في أسواقهم وبيوتهم ومنكراتهم، وقد كان عندنا واحد مثلك هنا يشتري لنا ما ينقصنا ويتعاهدنا بالصدقة والمعونة، لكن له الآن شهور لم يزرنا.. سألت "مسيطيح" وماذا ينقصكم؟ هل تريدون الطعام؟ قال لا قلت أجل ما المراد قال عاهدني ألاّ تخبر أحداً.. سكت ولم أعاهده فقال أريدك أن تنزل لشارع الخبيب وهذا الشارع تكثر فيه الجاليات يمتد من الشمال للجنوب وهو قلب بريدة النابض كرر صاحبي أريدك أن تنزل للخبيب تجد هناك مكتبة اسمها (النهضة) لديه والعياذ بالله مجلات فاجرة عليها صور البغايا اشتر لنا منها أكبر كمية لأننا نريد أن ننكر عليهم، قلت أما قلت لي الصور حرام والبيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة؟ قال نحن ننتقيها لأسباب غير أسبابكم، نحن نريد أن نعرف حتى ننكر ضحكت في داخلي وصمت وقلت لا أعرفها ولا أعرف شكلها قاطعني بانصرافه من الغرفة وجلجلة ثوبه الصيني القذر، ثم عاد وفي يده حزمة من المجلات الساقطة، فقال مثل هذه نريد.. تأملتها تحت ضوء التريك فكانت تعلوها الخرائط ولها رائحة كريهة صفحاتها ملتصقة رميتها استقذاراً فنهق الحمار وقطع الحديث.. .. . . : ( 4 ) : . . .. بيتنا في حي الفاخرية شرق بريدة وهي ثاني أكبر معقل للإخوان بعد حي الخبيبية الواقع غرب بريدة، يأمّنا في الصلاة الشيخ محمد الفهد الرشودي ومسجدنا جامع طيني له مصابيح ومن دون مكرفون، يصعد المؤذن السويد إلى أعلى المسجد ليؤذن فلا نكاد نسمعه، خطبة الجمعة يلقيها الشيخ من دون مكرفون وعلى الطريقة التقليدية القديمة يلقيها مرتلة، أمّا المصلون في (الخلوة) فقد حُفر حفرة صغيرة تحت المنبر تطل على الخلوة ليسمع المصلون صوت الإمام والشيخ محمد الرشودي يعتبر أباً وشيخاً للإخوان، ويدرّس في هذا المسجد منذ فترة طويلة وعلى الطريقة التقليدية أيضاً، فعندما ننتهي من صلاة الفجر ويقرأ الناس وردهم يقوم ويتكئ على المحراب من الجهة الأخرى ثم يتحلق الطلاب حوله، كل طالب يقرأ بفن معين فهذا يقرأ نونية ابن القيم وذاك في السيرة وهذا في العقيدة وهكذا والشيخ لا يزيد على تعليق بسيط وتصحيح للقراءة وعندما ينتهي الطالب من قراءة ما تيسر له فله حق الانصراف، والشيخ محمد من أعجب من رأيت زهداً وتواضعاً وحلماً، تراه من أول وهلة فتحبه.. حيي عابد ورع، له حلقة بعد الفجر وفي الضحى وبعد العصر وبعد المغرب وقبل العشاء. إذا رأيت هذا المسجد فالذاكرة ترجع بك سنوات كثيرة للخلف خاصة في رمضان ففي هذا المسجد أكثر من 17 غرفة هي للغرباء والمعتكفين كلها تمتلئ في رمضان وفي الليل لهم دوي كدوي النحل، جماعة هذا المسجد يختمون القرآن مرتين في هذا الشهر الكريم. أذكر الشيخ سليمان العلوان عندما كان يأتي طالباً للعلم في هذا المسجد عند الشيخ الرشودي والشيء بالشيء يذكر رأيت الشيخ الرشودي يحضر حلقة الشيخ سليمان العلوان بعدما عُرف واشتهر في مسجده في (حي الصناعة). هناك مسجد آخر في حي الخبيبية يؤمه الشيخ محمد العمر وبيت الشيخ المحدث عبد الله الدويش يقع في الجهة الشمالية من مسجد العمر يقصده كثير من طلاب العلم، وللأمانة أقول: إن الإخوان ليسوا على درجة واحدة فبعضهم المتشدد الذي يحرّم كل شيء: سيارة وكهرباء ومدارس وغيرها.. والبعض الآخر أقل حدة لا يرى في هذه الأشياء بأس وهم الأغلب لذا يكثرون في ثلاثة أحياء: الخبيبية وهو في الغرب والفاخرية وهو في الشرق وحي الخريصي وهو في الوسط. صليت المغرب في مسجدنا وكان ذلك في العشرين من رمضان وحينما أردت الانصراف إذا بشخص يناديني ويربت على كتفي التفت فإذا هو "مسيطيح" سلمت عليه.. ما جاء بك إلى هنا تبسّم ثم قال بئس الرجل الذي لا يعرف الله إلا في رمضان.. كررت سؤالي فأشار لي نحو الحجرات التي بالخلف، عندها عرفت أنه جاء ليعتكف وقال حينما تريدني تجدني هناك، تركني ومشى يحفر في الرمل خطوات -والمسجد ذو أرض رملية-، خرجت من المسجد وذهبت للبيت وكلي أمل أن أعرف مصير "مسيطيح" فكل يوم يخرج علي بشكل آخر.. صلينا التراويح وبعد الصلاة أمسكني وتبادلنا أطراف الحديث على ذاك الرمل الخشن الرطب ثم قال لي هل معك (عبس) -وهي نواة التمر- قلت له لماذا؟ قال بس أريدها ضروري تعجبت منه وحيث إنه لا يخرج من المسجد بسبب اعتكافه خرجت أبحث له عن مراده وحب الاستطلاع يغلي في قلبي تُرى ماذا يريد بها؟!! وجدت له مراده فقال لي اجلس..وبدأ يرسم بالأرض انتابني هم.. هل بدأ صاحبنا يقرأ الكف؟. لا مستحيل رسم رسمة على الأرض ثم جمع حصيات وقال أريدك أن تلعب معي (أم تسع) _وهي لعبة قديمة_ شعرت بالغضب والقهر والمرارة رجل معتكف عمره أكثر من 22 عاماً وهذا فكره.. سبحان الله!! دست برجلي على رسمته وخرجت غاضباً.. "مسيطيح" شخصية غريبة جداً متقلب ذو تعصب أعمى إذا اقتنع بفكرة تقول سيموت من أجلها، ولا يمكن أن يتنازل عنها، تلقاه بعد أيام فإذا هو على العكس تماماً.. قربت صلاة القيام تلفتُّ أبحث عن ذاك المعتكف فلم أجده ذهبت لغرفته فوجدته نائماً حاولت أن أوقظه لكنه أبى وقال (ليصلين أحدكم نشاطه) قلت في نفسي مثل هذا لماذا يعتكف؟!! سمعت شاباً يهمس في أذني صاحبه أحذرك أن تصلي بجانب هذا يقصد "مسيطيح" فإن له رائحة تتأذى منها القطط. بعد حادثة (أم تسع) تذكرت حدثاً حصل لـ"مسيطيح" أيام مراهقته فقد رأيته ذات يوم بهيئة غير هيئته المعتادة القذرة.. رأيته وعليه ثوب جديد وشماغ جديد له مرزام لو ذبح به طير لكان ممن أراح ذبيحته وعليه (طاقية) لونها أصفر لم يغيرها لأن الشماغ يغطيها، علمت أن هناك سراً وراء هذه الهيئة خاصة وأنه يتقلد سبحة نصراوية وكان متجهاً من شارع الصناعة غرب الجامع الكبير إلى (قبة رشيد)، سألته: "مسيطيح" اليوم صاير كشخة وش السالفة؟ قال: زيك عارف غزل ووناسة نطرد وراء هالضباء!! قلت صاير عبد الحليم على غفلة!! لكن الكارثة أن صاحبنا بهذه الكشخة يغازل وهو حافي.. تخيل هالشكل ثوب جديد وشماغ مشخص فيه وسبحة نصر وحافي، لذا هرب منه الرجال قبل النساء ضحكت ومشيت وتذكرت أن من فعل هذا قادر على أن يعتكف ويلعب (أم تسع) و(أم ثلاث) في المسجد ولا يصلي التراويح والقيام مع الجماعة ولو أن صلاة الفجر لا يسبقها سحور لجزمت أن صاحبنا سينام عنها. حدثَني عن شيخ الإسلام وكيف أنه لم يتزوج وأغلب حديثه عن المرأة والجنس شيء لم يتغير فيه حتى هذا الوقت، قلت له هل تقرأ لابن تيمية؟ قال نعم قلت له ماذا قرأت له فذكر لي المجلد العاشر والحادي عشر من الفتاوى ولا أدري لماذا اختارهما دون غيرهما ..يقرأ لك من الكتاب صفحة عن ظهر غيب ولو سألته أي سؤال فيه تحريك للعقل لما أجاب، وهنا تذكرت حمار الفروع إلا أن صاحبنا يحفظ صفحات معينة ليثبت للمستمع كم هو قارئ وعالم.. لكن هيهات.. .. . . : ( 5 ) : . . .. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. كان هذا صوت المؤذن ينادي لصلاة الجمعة.. توضأت وخرجت للصلاة في الجامع المركزي في حي الصفراء وكان يؤمه الأستاذ محمد المشوح.. والمشوح هذا هو الذي يعمل الآن في المحاماة وله ثلاثية في شمال الرياض.. صليت تحية المسجد وشرعت بقراءة سورة الكهف ثم دخل الخطيب وأذن المؤذن، تأملت في شكل الإمام فلم يكن هو الإمام الرسمي المعروف بدأ الخطبة بصوت أجش ممزوجاً بغضب علا صوته، ثم قال إلى متى وأنتم تعلّمون أولادكم في هذه المدارس؟! إلى متى وأنتم تقودون ما صنعه الكفار؟!! إلى متى وأنتم تحملون هذه الدراهم التي كلها صور، أما آن لكم أن تتوبوا وترجعوا و...؟!! تأملت صاحب هذا الصوت جيداً فعرفت أنه من أهل الصفة كما يسمون أنفسهم وأنه من أصحاب ذاك البيت الطيني ذي التريك المتدلي من ساريته الجنوبية... عرفت بعد الصلاة أن هذا الإمام دخل من دون إذن وقد سبق الإمام الرسمي بدقائق واعتقد المؤذن أن الإمام هو من وكله بهذا.. رجعت للبيت وتبادلنا أطراف الحديث مع أهلي وكالعادة نجتمع بعد صلاة الجمعة في بيت جدي.. قالت لي والدتي ذات يوم يا ولدي: إذا صليت الفجر رح للسوق واشتري لنا تمر قلت سمي وأبشري يمه.. صليت الفجر ثم ذهبت أنا وصاحبٌ لي لسوق التمر وهذا السوق قريب من سوق الخضار شرق مدرسة الأندلس وفيه تتعالى الأصوات.. [الحق على السكري يا ولد... الحق على الزين يا ولد..البرحي البرحي] بين هذه الأصوات الشاردة والتي تهرب منها الطيور في السماء ميزت صوتاً مبحوحاً لم تستنكره أذناي تأملت الصوت بحثت عن مصدره فإذا هو "مسيطيح" معتلياً (تندة) السيارة بثوبه الصيني القذر ورائحته الكريهة يحرّج على بضاعته ويقسم أيماناً على جودتها، ناديته "مسيطيح" وش جابك والله إنك يا "مسيطيح" صاحب مفاجآت.. قال: تبي تشتري وإلا لا؟ قلت نعم لكن قبل كل شيء مبروك السيارة، قال الله يبارك فيك، قلت كل عمرك تقول إنها مركب الشيطان وإنها من صنع الكفار؟!! قال ترى ماني فاضي لك ولنقاشاتك، أنا جاي بترزق الله تبي تشتري حياك وترى لازم أشوفك الليلة عندي لك علوم.. اشتريت حاجتي وغادر الطائر.... .. . . : ( 6 ) : . . .. الوقت قبل غروب الشمس في يوم صائف.. المكان طلعة (الحبلين).. كنتُ وكان مسيطيح بجانبي نمشي متوجهين جهة الغرب والشمس تتحين المغيب.. نظر إليها صاحبي وتأمل، وقال لي: آه.. كم تمنيت أن تكون هذه الشمس حصاني ومركبي! قلت له: ولم..؟ قال: ألا تراها تشرق في أقصى الشرق من جهة (الفاخرية) مروراً بحي (الخريصي) وتغيب هناك خلف (نفود الخبيبية)؟! تبسّمت، وعرفت أن هذه حدود الكون عنده، فلم ير أبعد من ذلك.. في منتصف (الطلعة) أخذنا جهة اليسار نحو (البوطة)، ذهب مسيطيح إلى (ساقي) ليتوضأ منه صلينا المغرب وافترقنا.. ****** شهور مرت قبل أن أسمع هذا الخبر (السلطات السعودية.. تقبض على منفذي إحراق فيديو البلجون..) تلقّيته كخبر عادي.. إلا أن صديقي فهد بادرني: هل تعرف من قاموا بالعملية..؟ قلت له: لا.. قال: مجموعة من المتشددين، ومن بينهم صاحبك مسيطيح.. أصابتني دهشة، واختنقت بعبرتي.. مسكين هذا الرجل. من الذي غرّر به؟! من الذي أوصله إلى هذا التطرف..؟ تأملت وفكّرت وعرفت أن صاحبي مسيطيح متوقَّع منه أن يفعلها.. لسبب بسيط.. إنه يهوى الشهرة وكثيراً ما بحث عنها.. تذكرت قصة طريفة ...كنا ذات يوم نسير سوياً، فرأى عصفوراً، تأمّله وقال: آه.. كم أتمنى أن أكون مثل هذا الطائر!! قلت له: هل تريد أن تكرر مقولة أبي بكر؟ فقال: لا، ولكن أريد أن أطير فوق البيوت من أجل أن أرى ما فيها من المنكرات لأغيّرها... تذكرت هذه القصة وصاحبنا في السجن.. والله غالب على أمره. .. . . : ( 7 ) : . . .. (هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد...) بهذه الكلمات ختم الشيخ سلمان العودة درسه في بلوغ المرام في الجامع الكبير ببريدة.. أخذت كتابي وتوجهت إلى الباب الشمالي قرب مكتبة الجامع الزجاجية.. وقفت قليلاً ورجعت بي الذاكرة سنوات للوراء... هنا ربت على كتفي مسيطيح ذات مساء وقال لي: (كيف تصلي خلف إمام يصلي في ميكرفون..)؟! آه.. إنها سنين العمر نقطعها بالمتغيرات.. أغلق الفرّاش أنوار الجامع وكأنه ينبهني ألاّ أحد موجود غيرك.. عندها فتحت الباب الخشبي وله صرير، وخرجت عبر (الوسعة) أجُرّ خطوات كنت ذات مساء أجرّها خلف صاحبي مسيطيح ليريني سيارته (حماره).. تُرى أين مسيطيح الآن..؟ سنة وشهور مرت وهو في السجن نتيجة لسطحيته وأفكاره الشاذة.. إنه غرور النفس..!! أبو زياد.. أبو زياد.. !! التفتّ.. من يكون..؟ آه إنه هو. كذّبت عينيّ، وصدّقت أذنيّ.. الصوت صوت مسيطيح والهيئة تختلف.. لم يكن كما عهدته رث الثياب تعلوه رائحة حماره، بل كان مرتباً متعطراً.. صافحني بابتسامة لم أعهدها منه. قال لي: هل ممكن توصلني؟ قلت: على الرحب والسعة. تفضّل.. ركبنا سوياً وتجوّلنا. سألته عن غيبته ..عن السجن.. عن الأيام الخوالي.. عن ذكريات البيت الطيني.. قال لي: الحديث ذو شجون.. سأحدثك عن السجن وأيام قبله.. بدأ حديثه وله شجن.. وكأنه يتحسر على تلك الأيام. قلت له: ما بالك؟ حدثني.. قال: إنك لا تشعر بما أشعر به.. إنها تجربة السجن، والتي أرتني كم أنا ضال وتائه!! قلت له: المهم أن تصل إلى الطريق الصحيح.. قال: أنت تعرف أصحابي فلان وفلان وفلان.. وكلهم من أهل ذاك البيت الطيني. اجتمعنا ذات ليلة على ضوء (التريك) وبدأنا نتذكر حال السلف، ونتذكر المنكرات من حولنا؛ فهذه حلق تحفيظ القرآن، وهذه مدارس حكومية، وهذه تسجيلات إسلامية، وغنائية، وكلها بدع مستحدثة.. وأخذنا الغم والهم من كل جانب فقال أحدنا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان.. عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع...."الحديث.. ونحن قادرون على تغيير هذا المنكر باليد. نظرنا حولنا فرأينا كم هي المنكرات التي نحتاج تغييرها باليد.. اخترنا أهدافاً معينة سهلة، وأحرقناها كان الوقت فجراً.. عدنا بعد العملية وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ينتظرنا في بيت الطين كما انتظر أصحابه حينما اغتالوا اليهودي كعب بن الأشرف.. أيام وبعدها اقتادنا الأمن بعدما تعرفوا على هويتنا.. السجن.. آه إنه طموح النفس وهواها.. اقتادونا والسلاسل لها صرير وهي دليل للعنابر الأخرى ان هناك ضيوفا جددا، عندها تذكرنا سلاسل عبدالله بن حذافة السهمي.. هذا حديث النفس لحظتها.. سنوات قضيناها في السجن قرأنا.. خالطنا.. تعلمنا فيها.. رأيت يا أبا زياد كم أنا تافه وشاذ تعرفت على نفسي أكثر.. قبل أيام خرجت، وها أنذا أكفر بالماضي وأنكره.. وصفحة حياتي بدأت من السجن.. قلت له: من تنكّر لتاريخه حتماً سيتنكر لحاضره، أما التغير يا مسيطيح ليس في المبادئ لكن من ضيّق على نفسه دائرته سهل الخروج منها... .. . . : ( 8 ) : . . .. هكذا بكل سهولة فجر مسيطيح ورفاقه، وبكل سهولة أيضاً دخل صدام حسين الكويت.. كان الغزو حديث الناس.. بريدة تلك المدينة الهادئة صمتت على هدير الطائرات وضجيج الشوارع وصوت الدعاة.. وذاك المذياع الصغير في أذني صاحبي مسيطيح يتابع آخر الأخبار.. وينام على رائحة (الشانيل).. سنوات من العذاب بين حياتين.. تشرق الشمس فتنشر دفأها على تلك المحلات الصغيرة.. وأبجديات الأخبار يتلصصها الكبار من مقاتلات الـ(f15) وصوت ماجد سرحان يحيي العرب من لندن، ومنارة الجامع تشهد على صمت الطيور.. وأخبار الأفغان ملء الأسماع.. والقلب عصي طيع بين الكويت والأفغان.. وفي كل بيت لامة.. وكلٌّ لبس لامة الحرب. كانت الهجرة نحو الشرق البعيد هناك نحو جبال الهندكوش.. تذكرة مدفوعة الحساب.. وعودة البطل ينتظرها سكان الحي القديم.. كانت قوافل الراحلين تزيد يوماً بعد يوم.. والرحلة تبدأ من تشوهات الحرب وحنين السرب المغادر.. لم يكن مسيطيح بعيداً هذه المرة عن تلك الضجة.. (فموضتة) بطولات هناك.. سألني كيف الطريق..؟ لم أكن أعلم حينها هل هو جادّ أم مازح؟! لكن كل الذي أعلمه أن ما يجول في خاطره حتماً سيفعله. قلت له: لا أدري.. سأل هو بدوره حتى رتب كل الشيء: الرفقة.. التذكرة.. الجواز.. .. . . : ( 9 ) : . . .. (طن.. طن.. على الركاب المغادرين إلى إسلام آباد التوجه نحو البوابة 7) أخذ مسيطيح شنطته، وتبع أصحابه أحمد وفيصل يجر خطوات ثقيلة خلفهم نحو بوابة الخروج 7. مسيطيح.. مسيطيح كان هذا الصوت صوت ابن خالته بندر ذاك الفتى المدلل، والذي تمنى ذات يوم أن يكون (متمدّناً) مثله.. بندر: مرحباً مسيطيح.. مسيطيح: لا تقل: مرحباً، ولكن قل: السلام عليكم.. بندر: السلام عليكم. وش أخبارك، إيش اللي جابك؟ مسيطيح: أنا ذاهب للجهاد.. وأنت إلى أين ستذهب؟ أصاب بندر الحياء؛ فكيف يردّ عليه؟ وشتان بين وجهته ووجهة مسيطيح!! تردد قليلاً ثم قال: وجهتي إلى تركيا، وطأطأ بندر رأسه منتظراً نصيحة مسيطيح.. إلا أن مسيطيح فاجأه قائلاً: لو لم أقطع كرت صعود الطائرة لكنت صاحبك.. بهذه السهولة أراد أن يغير وجهته، فقط المانع كرت صعود الطائرة..!! (طن.. طن.. النداء الأخير على الركاب المتوجهين إلى إسلام آباد التوجّه نحو بوابة السفر رقم 7) ودع مسيطيح بندر وافترقا.. المقعد رقم a33 بجانب النافذة.. كانت هذه أول مرة يركب فيها صاحبنا الطائرة، والراكب الجديد غالباً يختار النافذة إلا أن مسيطيح استأذن من فيصل في أن يأخذ مكانه بجانب الممر.. سأله فيصل: وما الفرق؟ قال: لو حصل مكروه فسأكون قريباً من الممر، وهذا أسهل للهرب.. لكن الذي أقوله: إن هدفه لم يكن هذا بل ليكون قريباً من مرور المضيفة، والتي تلبي فضوله ورغباته الجنسية بمشاهدته لها وكأنها تذكره بتلك المجلات في تلك الزريبة الطينية.. الكل نائم تحت الضوء الخافت استعداداً ليوم طويل شاق إلا مسيطيح، والذي يتلصص النظر لتلك المضيفة!! فكّر ملياً وقال: يا ليتني كنت مع بندر بلا جهاد بلا تعب.. (طن.. طن.. على الركاب ربط أحزمة مقاعدهم استعداداً للهبوط). يا الله!! هذا مطار إسلام آباد ببساطته وحيويته.. كم استقبل من أبطال وخونة.. أهلاً بالعرب.. أهلاً بأحفاد الرسول والصحابة.. أهلاً بالمجاهدين الأبطال.. كانت هذه كلمات المستقبلين هناك.. أحم.. أحممم الأخ مسيطيح؟ نعم أنا هو.. تفضل استلم جوازك استلم مسيطيح جوازه من موظف الجوازات، وذهب لاستلام عفشه.. أخيراً وجد شنطته ذات اللون الأخضر.. لو سمحت ممكن تفتح الشنطة.. كانت هذه كلمات موظف الجمارك.. ارتبك مسيطيح قليلاً ثم فتحها.. آه يا للعار!! ما هذا يا مسيطيح.. ما الذي جلبته معك.. اندهش موظفو الجمارك وضحكوا حتى سمعهم من في المطار لقد وجدوا داخل الشنطة (كرتونين) جالكسي.. و(مصفف شعر) و(نيفيا).. وثلاث (حبات من عطر شانيل). تهامسوا فيما بينهم بلغة أردية.. (لعله أخطأ الطريق فربما أراد الذهاب لكازبلانكا أو بانكوك وليس للجهاد..) .. رأى هذا المطار فظن أن أفغانستان وباكستان كلها هنا، فما إن يرى أحداً بهيئة أفغانية أو لحية كثة إلا ويلحقه ليسلم عليه ظاناً أنه سياف.. خمسة عشر عاماً أو تزيد، هي موطئ مسيطيح هناك في إسلام أباد.. انفتح الباب الزجاجي أمامه فرأى أن كثبان (الخبيبية) و(البوطة) ماثلة أمامه جبالاً خضراء تعانق السماء.. هذه المدينة.. مدينة السلام تشعرك بحنينها لرجال وطئوا ثراها مغادرين في قوافل الشهداء.. منها نبتت زهرة الحياة وإليها عادت روح الشيطان في خصام مرير انتقل إلى كابول.. مسيطيح وصرير جزمته الـ (ألدو) على أرصفة هذه المدينة الصاخبة.. .. . . : ( 10 ) : . . .. لم تكن هذه المدينة إلا لوحة سريالية رسمها القادمون من بطحاء مكة وساماً هناك لمطلع الشمس.. مشى عليها قطار الشهداء والخونة.. ولكل وجهة هو موليها... دكاكين صغيرة وصخب الشوارع ملء السمع... وأشعة الشمس تجوب تلك الأزقة الباردة.. وتشوهات مدينة تنبئك عن حضارة كانت ذات يوم هنا.. وأين من ذلك كله.. أين (مسيطيح)؟! كان هذا سؤال وجّهه فيصل لأحمد.. بحثا عنه هنا وهناك فلم يجداه.. سألا عنه.. وأخيراً وجداه في أحد المتاجر أمام البائعة وهو يساومها على منظر للكعبة.. ولا أدري ما السر وراء ذلك..!! طبعاً كانت كنية صاحبنا (أبا عميرة) والكنية هناك شيء أساس.. ُيستغنى بها عن الاسم الحقيقي.. عربات وأحصنة.. وجبال شاهقة.. وعينا (أبي عميرة) تجوب تلك المواخير وأعمدة الإضاءة في الشوارع كأنه لم يرها من قبل.. تضايق فيصل من هذا الاستطلاع الغبي فغمزه بيده... بدأ (مسيطيح) يشرح لأحمد أنواع الحمير التي يراها أمامه، ويشير بيده (هذا حمار هذه حمارة).. (هذا جحش.. هذه جحشة).. سرح صاحبنا بفكره وعلامة الألم بادية في عينه.. عندها التفت إلى فيصل من الناحية الأخرى، وقال: آه كم تمنيت أني بعت حماري الأشهب هنا.. لكنت كسبت فيه أضعاف سعره.. إنه تاريخ طويل يحفره (مسيطيح) في ذاكرته.. ... أدار المذياع صاحب السيارة وكان الصوت صوت (BBC) من لندن وأخبار الغزو تصدح بها جنبات المركبة، وأنظار العالم كلها هنا نحو الخليج.. ماذا فعل صدام..؟ وألف تساؤل في ذهن صاحبنا، وهو يتناول قطعة من (السنكرز).. التفت من كان في المقدمة نحو الثلاثة، وقال: الطريق أمامنا طويل والوجهة نحو بيشاور، بادره (مسيطيح) قائلاً: لا بأس، ويا ليت نريح في أي حديقة في الطريقة.. التفت أحمد نحو اليسار وفيصل نحو اليمين خجلاً من هذا الاقتراح.. حديقة يستريح بها..!! الوقت ظهراً.. وحَمَامَات بيضاء على تلك المئذنة الشاهقة البعيدة، والتي تنبئك عن وصولك لبيشاور.. تزحزح (مسيطيح) قليلاً من مقعده ثم وجه سؤالاً لقائد المركبة: ما أفضل المطاعم عندكم والتي تختص برز البيشاور..؟ تنهد قليلاً صاحب السيارة وقال: لا شيء.... تعرج (علي أكبر) بسيارته من هنا وهناك، وعبر أزقة هذه المدينة الوادعة.. حتى وصل لمضافة (بيت الأنصار)، وهي التي تختص بالقادمين العرب، وبالذات من أهل الخليج. استقبلهم الحارس فعرف من سحنة وجوههم وأسمائهم أنهم عرب من الخليج. دخلوا فاستقبلهم المسؤول في المضافة وكنيته(أبو عبد الله).. سألهم عن كناهم، ومن أين قدموا فأخبروه بكل شيء... وقدموا له التوصيات..والتي اصطحبوها معهم من بلادهم. .... تأملهم قليلاً، وقال أيكم (مسيطيح)..؟ لم يكمل سؤاله حتى قاله له صاحبنا.. أنا هو.. قال له لماذا أتيت إلى هنا..؟ فقال: أريد أن أجاهد. سأله سؤالاً آخر: وهل تملك الخبرة لدخول الجبهة؟ قال: نعم. أنا من ضمن من قاموا بإحراق (فديو البلجون)( وجمعية الملك عبد العزيز الخيرية ببريدة). ضحك أبو عبد الله قليلاً وقال: احفظ سرك ولا تتباهى فقد تندم يوماً ما.. وجه سؤالاً للكل: هل اخترتم كنى لكم؟ فقالوا: نعم.. وكانت كنية (مسيطيح) (أبا عميرة).. أخبرهم أبو عبد الله عن أماكنهم، وقال لهم: ستنتظرون أياماً حتى يأتي من يقلكم لداخل أفغانستان.. والقوانين هنا: لا خروج من هذا البيت إلا بإذن.. وعليكم السمع والطاعة في كل شيء.. سأل (مسيطيح): أين دورة المياه؟ وأكمل سؤاله بطلب اشمأز منه الحضور حينما قال: وهل هو عربي أم افرنجي...؟ ذهب (أبو عميرة) لغرفته، و تقع في الجهة الجنوبية، وفتح شنطته وأخرج عطر (الشانيل) وعطّر غرفته الصغيرة.. وأخرج قطعة من (الجالكسي)، وتأملها ثم التهمها بنهم المودّع... .. . . : ( 11 ) : . . .. أعوام مضت وحفريات في الذاكرة لن تمحوها الأيام رغم قسوتها وشتائها وحنين لتلك الجبال الشاهقة وأدخنة مخابز التميس شاهدة لتلك الرياح الراحلة أنها مرت من هنا.. تخنقني العبرة وأنا أرجع بذاكرتي لأيام الطفولة وأيام كان (مسيطيح) بعربته ينادي (الحق على التيم يا ولد).. ورجلاه الحافيتان.. وبعدها حماره الأشهب.. لك الله أيتها الذاكرة البائسة.. ... (حي على الفلاح.. الصلاة خير من النوم) كان يؤديها (أبو أسيد).. بصوت عذب يذكرك بصوت (علي ملاّ) حينما ترددها جبال مكة وبطحاءها.. و(أبو عميرة) غارق في نومه حينما كان غيره جالس من عناء ليلة طويلة قائماً في محرابه، وله تسابيح وعبرات تشق عنان السماء ليسمعها الملأ الأعلى.. نحسبهم كذلك والله حسيبهم.. أتى فيصل لـ(مسيطيح) ليوقظه لصلاة الفجر.. (مسيطيح).. (أبو عميرة).. هيا الصلاة يا لله قم.. (مسيطيح).. أنا؟! فيصل: (يا خوي، قم قامت عليك) وشف فيك؟!.. رفع (مسيطيح) يديه بشدة وشبك بين أصابعه فاتحاً نصف عينه اليسرى. قال: هل أقيمت الصلاة؟ قال: لا .. ولكن (يالله يمديك تتوضأ).. انقلب على جنبه الأيمن ونام.. حاول فيه مرة ومرة وبعد عناء ومشقة قام.. ذهب فيصل للصف الأول والذي لم يجد فيه مكاناً فقد ازدحم من الشباب المصلين.. أقيمت الصلاة وقرأ الإمام (إن الله اشترى من المؤمنين...)التوبة.. حتى نهاية السورة، ثم سلم الإمام من الصلاة والتي لم يدرك منها صاحبنا غير ركعة واحدة.. ويا للغرابة لم يكن يقضي من الصلاة أحد غيره.. قام أمير المضافة (أبو عبد الله) بعد الصلاة... فحمد الله، وأثنى عليه ثم تحدث عن فضل الجهاد وأهميته، وألا نصرة إلا مع الإخلاص لله.. و...، ثم قال في الأخير: أيها الأخوة، اليوم هو اليوم الأخير لكم في هذا المكان، وغداً -بإذن الله- الرحيل، وعلى كل شخص منكم أن يرتب أموره.. أما أغراضكم فهي محفوظة عندنا هنا.. ولا يأخذ أحد منكم شيئاً إلا جزءاً من مال يسير قد تحتاجونه، أما بقية أغراضكم فهي محفوظة هنا من جوازات وأوراق وأموال... كان هذا اليوم بالنسبة للمضافة يوم مختلف فهذا يودع ذاك، وهذا يسأل صاحبه أي معسكر ستختار؟.. والحديث بينهم ذو شجون... لم يبق (مسيطيح) شيئاً من الشوكولاته التي اصطحبها منه.. كانت آخر قطعة تناولها في تلك الليلة والتي لم ينم فيها.. لا أدري خوفاً أم قلقاً..؟ لأنه فكر كثيراً بالرجوع.. بعد صلاة الفجر من اليوم الثاني اجتمع كل من في المضافة (مضافة بيت الأنصار) على شكل طابور.. وهم يرتدون الزي الأفغاني.. ثم بدأ المنادي ينادي كل شخص بكنيته ويخيّره بين معسكر الفاروق أو الصديق.. والفرق بين المعسكرين معروف لمن ذهب هناك، فالأول معروف بشدة التدريبات وقسوتها، والثاني أخف وأقل.. (أبو عميرة) النجدي كان هذا صوت المنادي.. نعم أنا هنا.. حدد أي المعسكرين تريد؟.. فقال الصديق.. وكان ضمن مجموعة لا بأس بها، وهي الأغلب اختارت الصديق.. .. . . : ( 12 ) : . . .. أخذ حقيبته الخضراء وتوجه مع مجموعة نحو المركبة التي ستقلهم للمعسكرات، ركب صاحبنا في الحوض الخلفي.. وبين عينيه وجل وخوف وحديث النفس يملأ الأعضاء ارتعاشاً.. ساعات طويلة بين سفوح وقمم تلك الجبال الخلاّبة والوجهة نحو الحدود.. نحو (ميرم شاه)، وهي منطقة حدودية بين باكستان وأفغانستان، نزل الركب في مضافة (ميرم شاه) وقد كانت مشوهة فهي ليست كمضافة (بيت الأنصار).. نزلوا في هذه المضافة للراحة من عناء يوم شاق واستقبال ساعات هي أشق وأصعب.. نزل (أبو عميرة) النجدي في صحن المضافة وهو صغير... دار حديث بين الشباب ... ضحك وذكريات حتى صلوا العشاء، وبعدها جاءت الأوامر من القائد أن يخلدوا للنوم؛ فوراءهم يوم شاق وقاسٍ. نام الكل ما عدا صاحبنا فلم يلتذ جفنه بهناء النوم وراحته، جلس ليلته يتأمل النجوم ويفكر.. إلى أين أنا قادم..؟! ما المصير..؟! كيف بي لو قتلت قبل أن أتدرب..؟! هل سأمكث في هذه الديار مدة طويلة..؟ كان الهم يغالبه، ولحظة الحنين للرجوع توجع قلبه.. ماذا سيقول الناس له حينما يرجع دون أن يكمل مشواره؟ هل سيُستقبل استقبال الأبطال.. أم سيناديه الأطفال أيها الفار..؟! (أشهد أن محمد رسول الله...) هذه أول عبارة يسمعها (أبو عميرة) من المؤذن، فقد كان سابحاً في خياله مع تلك الهواجس؛ إنها لبّ القلب وخياله.. آه ما أجمل هذه المناظر وهذه الشلالات!! إنها صنع السماء. كان يسائل النفس: يا ترى، هل هذه المناظر التي كنت أشاهدها أيام بيت الصفة على صفحات المجلات..؟! وأين أجد خيل (بيل) حينما امتطى صهوته للدعاية لـ (مالبورو)..؟! آه هل سأجد قبعته أم خيله؟! فالجبال هي الجبال والسماء هي السماء.. لم يقطع حبل أفكاره إلا حينما توقف السائق ليدفع لبعض القبائل من أجل العبور مع هذه الطرق.. ومعروف أن السلطة هناك لتلك القبائل... بدأت ملامح المعسكر تتراءى أمامهم بعد مسيرة طويلة ومشي بالأقدام تجاوزت أكثر من (4) كيلومترات تقريباً.. هذا هو معسكر الصديق، المعسكر الذي لطالما سمع عنه، ولطالما تحدث الغادي والرائح عنه.. هذا هو المعسكر الذي رأى بعضاً من صوره على بعض المجلات، كما سماها له السابقون.. وقفوا أمام باب المعسكر، فعرّف القائد بنفسه، وأعطاه كلمة سر، وأخبره أن هؤلاء مجموعة جديدة، فتبسم الحارس، ودخلوا نحو الساحة الكبيرة.. ومن ثم استقبلهم شخص يقال له: (أبو دجانة)، سلم عليهم، ثم قال: انتظروا قليلاً فأمير المعسكر قادم إليكم.. ها هو (أبو سلمان) الأمير قادم، وله وقار وهيبة يمليها عليه لحية سوداء كثيفة وشعر مجعّد وبنية قوية.. السلام عليكم، مرحباً بالشباب على كل شخص أن يعرّف بنفسه. (أبو عبد الله) من أرض الجزيرة (أبو محمد) من أرض الكنانة (أبو يعقوب) من بلاد الرافدين (أبو عميرة النجدي) من السعودية..توقف الأمير قليلاً، وقال: في المرات القادمة، لا تذكر الاسم، بل قل: من الجزيرة أو من أرض الحرمين، وذلك لدواعٍ أمنية.. حسناً. وزّعهم يا( أبا دجانة).. كان هذا أمر من الأمير لـ (أبي دجانة). قام هذا الرجل بتوزيعهم في المعسكر، ثم وضعوا أمتعتهم وأغراضهم، ومن ثم خرجوا للساحة مرة أخرى. جمعهم الأمير، وألقى فيهم كلمة عن وجوب السمع والطاعة، وأن هذا المعسكر لتهيئة الشباب للذود عن حياض الأمة و... و.. لم يسأل هذا الأمير عن مدة بقائهم كما يُفعل كل مرة.. أذّن العصر.. قال لهم الأمير: هذا يوم راحة لكم.. توزّعوا، فمنهم من ذهب للتمشية، ومنهم من ذهب لمكانه لتهيئته، ومنهم من ذهب للمصلى أما صاحبنا ((أبو عميرة)) فذهب نحو حارس المعسكر ليسأله، ويتحدث إليه. لم يستقبله الحارس بأريحية؛ إذ إن هذا الفعل يُعدّ انتهاكاً للخصوصية.. هذه الفعلة غيّرت مسار (مسيطيح)؛ إذ وضع الأمير والقواد علامة استفهام حول هذا الغريب الجريء.. استدعاه أمير المعسكر تلك الليلة، وسأله عدة أسئلة أبانت له شخصية (أبي عميرة) وأنها شخصية تتمتع بحب الاستطلاع، مضاف إليها بلاهة وسذاجة تمزجه بصورة بريئة .. أنقذته من عدة مآزق مر بها في حياته.. في الأخير أخبره الأمير بالتعليمات ولزوم السرية، وألاّ يفعل شيئاً دون إذن؛ فهناك أشياء لا يمكن الوصول لها بسهولة خاصة لمستجد مثل صاحبنا، ومنها بعض الحراسات. خرج (مسيطيح) من عند الأمير وفي قلب الأخير شيء من هذا القادم الغريب لم تكشف له الأسئلة عن بياض.. ... الساعة التاسعة والنصف و(مسيطيح) يحدث نفسه: هل أنا في حلم أم في واقع؟! إنه يوم طويل شاق ينتظره غداً.. بدأ الرعب يزداد مع قرب الفجر.. ونهايات الأسئلة يكشفها قرب الفجر.. صلى (أبو عميرة) صلاة الفجر مع الجماعة، وبعد الصلاة بقي الجميع في أماكنهم لقراءة وردهم اليومي، ثم تحلقوا على شكل مجموعات لقراءة القرآن وتفسيره. كانت عينا صاحبنا يداعبهما النعاس؛ لأنه لم ينم تلك الليلة إلا (6) ساعات وهذا وقت غير كاف له.. اصطف الكل في الطابور الصباحي، وبدأت التعليمات خاصة للقادمين الجدد.. وبدأ التدريب على الجري في البداية في الساحة ثم في الجبل، وبعدها درس نظري على كيفية التعامل مع الأسئلة بداية في الكلاشنكوف يتطور الشخص بعدها ليصل إلى مراحل عالية جداً من الخبرة في طريقة استعمال المضاد للطائرات و(الآر بي جي) وغيرها... جاء وقت الإفطار في الساعة التاسعة تقريباً.. وكان (مسيطيح) أو (أبو عميرة) ينتظره بشوق بعد ساعات من التدريب والذي لم يعتد عليه إلا أن خيبة أمل ارتسمت على محياه، وهو يشاهد الإفطار أمامه.. قطعة من الخبز شبيهة بالكعكة، وكوب شاهي واحد لأربعة أشخاص أو خمسة، وقطعة من جبنة أو حلاوة.. التهم صاحبنا ما بين يديه.. وعيناه على الشاهي والذي لم يشربه أحد من هذه المجموعة، وغالباً يبقى الشاهي؛ إذ إن كل شخص يتركه لصاحبه من باب الإيثار... لكن أي إيثار يبقى عند (مسيطيح)؟! فبمجرد أن وصله الشاهي من صاحبه التفت نحو الجهة الأخرى وقال: يا (أبا مصعب)، هل تريد الشاهي..؟ تبسم (أبو مصعب) وقال: بالهناء والعافية. فلم يكمل أبو مصعب عبارته هذه إلا و(مسيطيح) يضع الكوب فارغاً على الأرض.. اجتمع الكل في الساحة، ومن ثم تفرقوا على شكل مجموعات. كل مجموعة مع قائد؛ إذ إن هناك دروساً نظرية وتطبيقية حتى صلاة الظهر.. الكل كان يسأل عن طريقة تركيب السلاح وطريقة استخدامه.. ما عدا (أبا عميرة) فكان كل مرة يسأل: هل يمكن أن يُفيد هذا السلاح في كسر ساق عجل!! سؤال غريب لا أملك الإجابة عنه.. ارتاب الكل من هذه الأسئلة.... لكن وعلى الرغم من ذلك كله كان هناك أناس من بعض الدول العربية غير الخليجية تصغي لهذه الأسئلة بانتباه.. وهم في الحقيقة في غاية الذكاء وعرفوا أنهم بإمكانهم توظيف هذا الشخص لأغراض سيئة.. هؤلاء الأشخاص هم بعض مجموعات التكفير وغيرها، والتي كانت موجودة هناك.. حاول بعضهم التقرب من صاحبنا، وفعلاً بدأ الحديث معهم، وكان الحديث عابراً حذراً في البداية إلا أنه مع مرور الوقت تحول إلى حديث ذي شجون، وانتهى الحديث بينهم أن هناك فتحاً قريباً لجزيرة العرب حيث الحكام الضلاّل وغيرها من الأفكار الغريبة.. اقتنع (مسيطيح) ببعض هذه الأفكار.. لكن أي حلم سيبقيه هنا... اليوم الثلاثاء.. وثلاثة أيام مرت بثقلها وهمّها في قلب (مسيطيح) جلس ليلته تلك خافت الطرف كليل الفؤاد بعد مسيرة شاقة وطويلة في تلك الليلة تخللها صعود وهبوط بين هذي الجبال وتلك السفوح والوديان، كل ذلك كان في ليلة سوداء لا بدر ولا سحب.. كل ما هنالك أصوات رشاشات بين الفينة والأخرى، ونقنقة ضفادع عند ذلك النهر والذي بقي فيه (مسيطيح) أكثر من نصف ساعة واجماً في مكانه.. ومقبرة الشهداء في خوست تبهر العين وتملأ الفؤاد.. وحنين لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. يا لوعورة الطريق وقهر الرجال.. ومسيرة القلب تلتهمها الذاكرة والأيام.. كانت تلك هواجس وتأملات (مسيطيح) بعد ليلة العقاب.. آه و لِمَ العقاب...؟! وهل استحق كل هذا هل بمجرد أن هرّبت بطريقتي الخاصة بعض البسكويتات يكون هذا العقاب؟!!.. ويح قلبي!! كيف لو هرّبت ما هو أشد من ذلك؟! هل سيكون جزائي الجبهة...؟! نام (مسيطيح) بين هذه الشوارد والأفكار، وكان هذا العقاب نقطة أخرى أيضاً في حياة الرجل.. فقد بدأ يدبّ الوهن والملل في قلبه.. وبدأ يفكر بالرحيل نعم الرحيل.. لا خيار آخر... ذهب نحو رجل ممن تقرب منهم أو تقربوا منه من التكفيريين وهو (أبو الخطاب الجزائري).. وأخبره بعزمه على الرحيل، وأن الأرض ضاقت عليه بما رحبت.. صعق صاحبه بما سمع.. الرحيل!!.. كيف لك أن تذهب وأنت لم تأت إلا قبل أربعة أيام..؟! أجابه: لا مكان لي هنا.. لم أتوقع هذه الشدة في التدريبات، وهذه القسوة. ظننت الوضع أسهل من هذا بكثير.. حاول صاحبه أن يثنيه عن عزمه، لكن هيهات وجنون الرحيل يغذي عزمه.. يا لهذه المسافات الطويلة بيني وبين حبيبة القلب (بريدة).. أين أنا من فهد وأحمد و.. و.. ما أطول تلك السنين في هذه الغربة..!! آه هل قلت: سنين. نعم هي كالسنين في قلب (مسيطيح).. ذهب (أبو عميرة) لأمير المعسكر وسأله متى أقرب رحلة ؟.. تفاجأ الأمير لهذا السؤال .. لك أيام قليلة فما الداعي للمغادرة ؟!.. قال: فقط مللت أريد العودة. قال الأمير: لك ذلك تجهزْ فيوم الجمعة هو يوم المغادرة.. لم يمانع الأمير على رحيل (مسيطيح) خاصة بعد موقفه مع الحارس.. ... سارت الأمور بشكل طبيعي.. تدريب يومي ودرس بعد المغرب أو محاضرة لشخص سواء من داخل المخيم أو من خارجه.. وبعد العشاء اجتماع أسري ثم العشاء ثم النوم وهكذا.. كاد صاحبنا أن يُعاقب مرة أخرى.. والسبب أنه يلزم كل شخص أن يلبس اللبس الأفغاني إلا أن (أبا عميرة)خرج ذات صباح في لبس رياضي ضيق اكتفى القائد بأمره أن يستبدلها رأفة به ونظراً لقرب رحيله.. هذه أول جمعة تمر على (مسيطيح) داخل أفغانستان وهي الأخيرة أيضاً.. لم يتذوق طعمها، ومعروف لمن ذهب هناك أن يوم الجمعة هو يوم راحة في أغلب الأحيان؛ فلا تدريب ولا مسيرات ولا غيرها.. يوم مفتوح لمن أراد غسل ملابسه أو التمشية أو غيرها.. يوم أيضاً تنتظره البطون الجائعة؛ فهي بالكاد لا تعرف الرز واللحم إلا في هذا اليوم.. يوم يعني الكثير لكثير من المتدربين حيث تكثر الجلسات والسوالف وتمضية الوقت في المرح واللعب... كل هذا سمع به صاحبنا، والذي لم يدرك من هذا اليوم إلا ساعاته الأولى فقرابة الساعة الحادية عشر ستنطلق الرحلة من المعسكر نحو خط العودة.. و(مسيطيح) يلح على الركب والقائد أن تتأخر الرحلة من أجل إدراك وجبة الغداء والتي تمناها طويلاً طويلاً.. لكن هيهات.. كان الوداع للراحلين مملوء بالمرارة والحزن ما عدا (أبا عميرة)؛ إذ إنه لم يطل البقاء ليختلط بالآخرين كالبقية؛ فكان وداعهم له شيئاً من الروتين.. لكن آخر من ودعه صاحبه (أبو الخطاب الجزائري).. وكان الوداع بينهما تبادل أرقام.. ... .. . . : ( 13 ) : . . .. بدأت المسيرة بين الجبال مروراً بمناطق حكمتيار ثم ركوب السيارات المتجهة نحو (ميرم شاه) على الحدود حيث هناك المبيت، ثم بعدها نحو مضافة (بيت الأنصار) في (بيشاور).. وكاد (مسيطيح) أن يوقعهم بكوارث مع بعض القبائل والتي تتناثر عبر الطريق ببعض تصرفاته الحمقاء لولا وجود بعض العقلاء... ... بنفسية مهزومة ومكلومة حاول (مسيطيح) أن يهرب من مضافة (بيت الأنصار) بعد أن أخذ كل أماناته من جواز وملابس وغيرها.. وفعلاً تحقق له ما أراد، تجاوز شارع (عبد الله رود) الشارع العربي الشهير. لا يدري أين المفر؟! وإلى أين سيذهب؟!.. كل الطرق جديدة، وكلها في اتجاه واحد أمام عينيه.. الأهم أن يهرب من نقطة التوقف التي يضع قدميه عليها.. انتهى به المقام في أحد الأزقة الضيقة قرب مطعم شعبي قديم، وقد غص بالزبائن، وفاحت منه رائحة مخلوطة بين الطعام وملابس الزبائن لتشعرك بالغثيان، ومنظر القطط الشاردة القذرة تزاحم (مسيطيح) أمام بوابة المطعم.. انسجم مع هذا المنظر، فبالكاد لا يكاد أحد يعرفه وسط هذه الزحمة.. طلب طعامه وجلس على إحدى الطاولات يشاركه بقية من خوفه وبضعة رجال.. لم تستقر عينا (مسيطيح) على طعامه بل أخذ يقلبها في الرائح والغادي وحديث قلبه أنه الفار من العدالة فلا مكان للطمأنينة.. ... الشمس تتحين المغيب وأصوات العربات تضج بها الشوارع والأزقة تستعد ليوم هادئ.. و(مسيطيح) يجوب تلك الشوارع الهادئة.. لم يصدق أذنيه وهو يسمع صوت الأذان يضج به الفضاء.. آه إنه حلم القرية الصغيرة وعصافير (البوطة) تجوب الخاطر.. ومساءات من ليله الحزين.. ما أبعد الصبح والإشراق..؟! كيف لي أن أمضي وبقية من مأمنٍ هنا.. والخوف يملأ عليّ المكان؟!!.. يا لحماقتي وغبائي كيف هربت ولماذا هربت.. وهل هذا انتقام منهم أو مني؟!!.. وقف على صوت أجش يناديه من خلفه بهمس أيها العربي.. التفت (مسيطيح)، فرأى وجهاً لا يحمل أي ملامح للراحة أو الكره.. نعم ..سأله: هل أنت عربي..؟ نعم أنا عربي.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟ زيارة وتمشية... هل تعرف أين تسير الآن..؟ الأكيد أني في بيشاور لكن أين فلا أدري!قال: هل أنت سعودي؟ أجابه (مسيطيح) نعم.. قال صاحب الصوت الأجش كثير ما يأتي إلينا أناس من بلادكم لكن القليل من يأتي إلى هذا المكان.. سأله: لماذا هذا المكان بالذات؟!.. قال: هنا مرتع (المافيا) وهنا تنام..اضطرب (مسيطيح) حينما سمع هذه العبارة (مافيا)، أراد الهرب لكن من ذا الذي يهرب في غابة مملوءة بالأسود!!.. سأله: هل تريد مكاناً آمناً؟ موضعك مريب ومثير وأخشى عليك من العصابات.. نعم أريد.. لكن من أنت..؟! أنا (عبد العليم) مكثت فترة طويلة في مكة.. ارتاح (مسيطيح) لهذا الجواب.. فقال: نعم أريد مكاناً. .حسناً اتبعني.. مشى الغريبان في طريق موحش وبين بيوت طينية متهدمة ذكّرت صاحبنا بحبه الأول أيام الصفة.. أخذ (عبد العليم) جهة اليمين مع أحد الأزقة الصغيرة وقال له: إياك أن ترفع صوتك أو تتكلم.. امش بخطا ثابتة.. لا تلفت الأنظار، فنحن في قلب الخطر.. ارتبك قليلاً أو كثيراً ثم قال في نفسه: يا لحظي العاثر، كالمستجير من الرمضاء بالنار.. توقف (عبد العليم) فجأة ثم قال له: المكان الآمن الذي حدثتك عنه مشغول وفيه آخرون، ما عليك الآن إلا أن تذهب من هذا الاتجاه لتأخذ أول منعطف نحو اليمين وبعدها تمشي أكثر من (500) متر لتجد هناك بيتاً على يمينك لون بابه أخضر.. تجد مقابلاً له ممراً، سرْ معه ليوصلك إلى فندق هناك. أخبرهم أنك أتيت عن طريقي.. تبقى فيه هذه الليلة ومن ثم تنطلق متى ما أردت لإسلام أباد.. حسناً. وأنت لماذا لا تذهب معي..؟ لا أستطيع يا (أبا عميرة) لظروف أمنية. تفرقا، وألف استفهام يدور في خلد هذا الهارب الغريب، يا ترى من هذا ومن هو عبد العليم، ولماذا قدم لي تلك الخدمات كلها؟!!.. هل أنا الخمسين على طاولة الكيرم أم الوزير في الشطرنج؟!!.. لا أدري، وقد أكون رقماً رخيصاً ليس لي معنى.. لكن كل الذي أعرفه أن الأمر مريب.. كيف المخرج هل هو كمين؟!.. هل أنا ضحية وطريد؟!.. هل أخالف ما قاله لي وأذهب مع هذا الطريق؟!.. كيف لو كان صادقا؟!ً.. أخذ (مسيطيح) الاحتمال الأخير واعتبره صادقاً وتوجه عبر هذه الممرات وهذه الأزقة الضيقة.. لم يصدق عينيه وهو يشاهد هذا المنظر البديع أمامه.. ياه.. هل هي حورية؟ إنها من أجمل ما رأيت في حياتي، وقف يتأملها قليلاً وهي تدخل أحد البيوت، وتشير له بنظرة ماكرة خبيثة.. احمم هل هذه الإشارة لي..؟ ليس معقولاً أن تدعوني هذه المرأة الجميلة.. وماذا جذبها فيني؟!.. وعجائز.. (الوسعة) في بريدة تتأفف مني.. هل أغرتها هذه الشنطة التي أحمله؟!ا.. فُتح الباب مرة أخرى فإذا هي نفس الفتاة بشالها الأسود وثوبها السماوي. تفضل أيها الغريب.. ثارت في نفسه أسئلة حائرة بالأمس كنت مع المجاهدين، والآن أنا أمام هذه الغانية.. لم تتركه في حاله بل جذبته برفق إلى الداخل وهو لم يمانع كثيراً.. ... أفاق بعد ساعات طويلة على ضحكات غادرة.. ويا لحظه العاثر حين علم أنه بين كواسر المافيا ولم تكن هذه الفتاة إلا الطعم.. ولم يكن عبد العليم إلا الباحث عن الطرائد.. ولم يكن (مسيطيح) إلا ضحية من عشرات الضحايا.. رأى شنطته الخضراء وهي مبعثرة أمامه وجوازه مرمي على أحد الطاولات وهو يرسف بسلاسله بكى كما الطفل الصغير استناح واستنجد بهم، ولكن لا مجيب.. يومان أو ثلاثة لا يدري فأوقاته كلها ليل.. وضحكاتهم تجلجل بين جدران هذا البيت الموحش.. وكلام لا يُفهم.. وطعام قذر يُقدّم له بين فترة وأخرى من تحت الباب.. وبعد أيام يدخل عليه رجل ضخم الجثة موحش الوجه يسأله: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ومن أين أنت؟ كان الحوار بالعربي لأنه الوسيلة الوحيدة.. أنا من السعودية وأتيتُ للجهاد.. قال: جهاد وأنت في وكر الرذيلة.. بل أنت كذاب أيها العربي؛ فلقد أتيت من أجل نسائنا وسننتقم منك.. بكى ثم بكى واستنجد به وحلف له أيماناً مغلظة أنا قصتي كذا.. وكذا.. قال: أين ستذهب قال للمطار. سحب هذا البدين رشفة من حشيشة ملفوفة بطريقة محبوكة جداً.. ثم قال: هل تريد حشيشاً أجاب (مسيطيح): أنا لا أدخن. قال له: هذا حشيش مو دخان!! قال (مسيطيح): شلون حشيش لا أعرفه. ضحك هذا الرجل ضحكة ماكرة وقال ستعرفه الآن.. أرغمه على استنشاق البقية الباقية من سيجارته.. ... ما الذي يحدث أمامي؟ ومن هذا الرجل القوي الغريب، والذي أغلظ القول لهذه العصابة حينما رأى هذا الأسير... اعتذروا له في الأخير، وقالوا له: لقد أخطأنا الهدف..وبدوره هو اعتذر لـ(مسيطيح) بحرارة منقطعة النظير وهو يقول: (نرجو أن تسامحنا فأنت ممن اغبرت قدماه في سبيل الله.. أعطوه زيادة على ما معه من مال، وتمسحوا بجسده فهو من أحفاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام). فرح كثيراً صاحبنا لهذا الإطراء.. واعتذر هو بدوره منهم ، ثم أوصلوه إلى المطار، حجزوا له مع أول رحلة مغادرة إلى الرياض. ودّعوه وودعهم.. ... أربع ساعات ونصف إلى خمس ساعات هي مدة بقاء (مسيطيح) معلقاً بين السماء والأرض على تلك الرحلة من (إسلام أباد) إلى (الرياض).. نادته المضيفة وهو مسند رأسه على المقعد (pleasa,May I help you) قال: إيش.. ممكن تتكلمي عربي ؛لأني ما أعرف (أردو).. تبسمت المضيفة العربية، وقالت (هل أستطيع أن أخدمك بشيء) ظن (مسيطيح) أن هذا تلميح لغزل.. بادلها الابتسامة وقال: لا، شكراً.. لكن هل تريدين رقمي؟! قالت: (إيش بتؤول= بتقول) قال: ولا شيء آسف.. تجهمت هذه المضيفة في وجهه والتفت القريبون من مقعده ورموه بنظرة احتقار.. (طن.. طن.. على الركاب ربط أحزمة مقاعدهم استعداداً للهبوط).. أخذ (مسيطيح) شنطته من المكان المخصص فوق مقعده وصف في الطابور الطويل.. آه هذه هي الرياض ودرجة الحرارة 40 درجة مئوية.. كان الطابور طويلاً أمام الجوازات وبعدها الجمارك.. اجتاز المرحلة الأولى.. أدخل حقيبته الخضراء عبر الكاشف، همس الجندي المسؤول للضابط بكلمات فهم منها (مسيطيح) أن في الأمر ريبة ما.. الأخ الكريم لو سمحت ممكن جوازك. كان هذا سؤالاً وجهه الضابط لـ(مسيطيح)..نعم تفضل .. استلمه منه ضابط الجمارك ثم قال له: اتبعني. كانت الشنطة في يد الضابط توجها نحو مكتب مرتب صغير.. سأله الضابط بأدب: من أين أنت قادم..؟ قال: (مسيطيح) من الجهاد.. قال الضابط: يعني من باكستان؟ قال: نعم.. تبسم قال له الضابط: هل ممكن تذكر لي طريقك من أول ما ذهبت حتى رجعتك..؟ بدأ صاحبنا يقص عليه كل شيء.. إلا قضية الفتاة والعصابة. قال الضابط: هل أنت متأكد.. قال: نعم.. قال: أرجوك. قل: كل شيء، فالوضع سيكون في صالحك.. وبعد إلحاح أخبره (مسيطيح) بكل حكايته. تبسم الضابط وقال: افتح شنطتك.. افتح السحاب الفلاني. اقطع هذا الخيط، وفي الأخير يكتشف صاحبنا أن الشنطة كانت ملغمة حشيش، وأن الاحتفاء به من العصابة هناك لم تكن سوى تورية وخدعة، وأن هناك عصابة أخرى في الداخل تنتظره.. اتخذت الإجراءات اللازمة وأقفل الملف.. .. . . : ( 14 ) : . . .. عشرة أعوام دُونها القلب والروح.. وجراح تلوكها الألسن.. وبقايا مدرعات جاثمة في صحرائنا.. تذكرنا أن بعضنا يمضغ قلب الجسد الواحد.. هناك حيث يقف القلب عند حرب الخليج وضجيج السماوات تلفح بقايا الـ( F15) ... وصغار يستمتعون بلعبهم على ضجيج أغنية (حنا جنود الله) لا يدرون عن عالم مهيب.. يا لدموعي وهذه الذكريات.. سنوات.. انفجرَ فيها جسد الوطن في تفجيرات استهدفت بقية من زجاج متماسك.. فتتطاير الأشلاء لتطال أبرياء ينتظرهم حلم السنوات القادمة.. أين أنا من ذلك كله..؟ غبتَ هناك يا قلبي حيث الضباب المعتم، تختفي وراءه الحقيقة الكاملة أو الجزئية.. وأنت تبحث عنها في لهفة المشتاق فرجعتَ خائب الخطوات مكلوم الفؤاد.. وأين أنت يا صاحبي؟ أين أنت يا (مسيطيح)؟ هل كنت طريد الحضارة أم المتطفل عليها بنرجسية توهم الذئاب أنك عبد مطيع؟!..، لك الله وسنوات الغربة تنهش من قلبي وفي عينيك ذاكرة الطفولة.. .. . . : ( 15 ) : . . .. آه ما أجمل منظر الغروب.. كنت أسير في يوم صيفي جميل وشمس بيروت تختفي من عيون الغارقين خلف زورق صغير.. على يميني البحر الأبيض المتوسط.. وعلى يساري تلك الجامعة العريقة على قمة الجبل.. تلك الجامعة التي نامت موجعة القلب أيام الحرب الأهلية في لبنان، وتحت قدمي ذلك الجسر والذي تمخر الزوارق الصغيرة من تحته قادمة من فضاء البحر الهادئ نحو الجبل الساكن، والذي تربض عليه الجامعة الأمريكية.. على ذلك الرصيف.. كم عاشق وملتاع مشى..!! وكم قلب أثقلته الهموم والسنون وطئ على موضع قدمي..!! نحو الجنوب أسير بقدمين يا ليتهما كانتا عاريتين.. وهناك هناك منظر الغادين والرائحين.. وصخرة الروشة تلتهم نظرات العاشقين والغرباء.. نزلت في المقهى الأخير من مقاهي الروشة العتيقة والتي أحب الجلوس فيها قبل غروب الشمس، كنت حينها قادماً من ساحة البرج قريباً من مقهى كوكب الشرق الشهير، والذي سقط على رواده عام 1934م.. أدرت كرسي الجلوس نحو الغرب.. نحو البحر.. نحو الصخرة.. نحو المغيب.. حيث تلتقي السماء بالأرض.. بدأت أتأمل كنت وحدي وكثيراً ما أكون وحدي في سفري.. التفت نحو اليمين للخلف قليلاً، ورفعت يديّ منادياً (الجرسون) ليأتي لي بشاهي منعنع.. ويا للهول..!! يا للمفاجأة..!! لم أصدق ما أشاهده أمامي، هذا أحمد. معقول ما الذي جاء بك؟ سألته، تبسم بعدما احتضنني واحتضنته وهو من أصدقاء الطفولة.. أبداً والله تمشية. طيب هل أنت وحدك؟ لا والله أنا و(مسيطيح).. إيش.. (مسيطيح) معاك..؟! سألته قال: نعم لنا ثلاثة أيام وسنعود بعد يومين ..طيب أين (مسيطيح)؟! أممم هو في دورة المياه لك الكرامة... هاهو (مسيطيح) قادم .. يا الله لم أصدق ما أرى ..؟! لقد تغير كثيراً بعد تلك السنوات الرهيبة.. أين لحيتك أين شاربك..؟! تبسم وقال: الأول تغير .. لقد حدثت بعدك أحداث وأمور.. كانت أحداث تفجيرات الخبر في 25/6/96 بداية النهاية وبداية الوجه الآخر لي .. كنت حينها مع مجموعة من الشباب، وكنا متحمسين لقضية التغيير والفتح الموعود لأرض الجزيرة و... و... ولكن كانت بيدي عمرو لا بيدي .. حينها تم اعتقال عشرات الشباب ممن ثبتت صلتهم بالمتورطين، ومنهم لم تثبت لهم أي صلة وكنت أحدهم.. في أثناء السجن قرأت بعض الكتب والروايات والتي كانت نقطة تحول.. خرجت من المعتقل بعدما لبثت فيه بضعة أشهر، وقررتُ أن أسير في اتجاه آخر مغاير تماماً.. وها أنذا أمامك.. سألته: وما الذي جاء بك إلى هنا؟ تبسم وقال هل تعرف زيزي؟ سألته: من زيزي؟ قال: بطلة ستار أكاديمي.. قلت: بصراحة لا أتابعه.. قال: وين أنت عايش، العالم كله يتابع ستار أكاديمي؟ تبسمت وقلت: لا يشرفني أن أكون من ضمن هؤلاء الناس أو العالم..قلتُ: طيب وبعدين إيش فيها (زيزي) قال: والله أمس رحت حضرت الحفل وسلمت عليها، ولا أخفيك أن سبب مجيئي إلى هنا نسبة 70% من أجل ستار أكاديمي، وبالذات لـ (زيزي)، قلت في نفسي والحسرة تملأ الفؤاد .. وكثير من السؤال اشتياق.. سنوات يقضيها الفتى بمراهقة متأخرة.. ودعته وأحمد .. وكان (مسيطيح) يمشي على نغم أغنية نجوى (خيروني ابن العم خيروني ابن الخال... ) والذي انبعث من المقهى المجاور بصوت حزين... مشى نحو الشرق.. ذهبت لكرسيي.. وتأملت صخرة الروشة وزورقاً يمخر الماء من تحتها .. هنا غابت الشمس .. وغاب (مسيطيح).. والحمد لله رب العالمين منــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــقـــــــــــــــــــــول آخر من قام بالتعديل المـــــارد; بتاريخ 23-11-2006 الساعة 09:52 PM. |
الإشارات المرجعية |
|
|