[أبو تراب الحزمي]

فاجأنا موتك أبا تراب فكان رزأً

وقالوا الإمام قضى نحبه وصيحة من قد نعاه عَلَت
فقلت فما واحد قد مضى ولاكنه أمة قد خلــت

وقع مني الخبر موقع الصاعقة، إذ لم أعلم به إلا بعد أيا من وقوعه، ولئن لم يمن للمسلم إلا التسليم بقضاء الله وقدره، إلا أن النفس البشرية تضعف عند بعض الأمور، فيصيبها نوع من عدم التوازن عندما تفاجأ على غرة، أو توضع في موقع لم تحسب له حساباً. نعم! لقد التائت عليّ الكلمات وأنا أتلقى نبأ وفاة شيخنا العلامة الحبر أبي تراب الظاهري…
وليس في وصف أبي تراب الظاهري – برّد الله ضجيعه – بأنه أمة وحده شيئ من استرسال القلم بدواعي الشجن لحادثة الموت وفوت الأماني بطلب البقاء، فإن سيرة هاذا الرجل تنطق بأنه واحدٌ في هاذا العصر، فلا يشبهه أحد من علماء زمانه. وما ظنّك بعالم قرأ كتب العربية في فنونها كلها، لا أستثني فناً ولا علما. أقول قولي هاذا غير شاك ولا متردد…

لقد ولد أبو تراب في عام 1343، وتوفي في 21 صفر 1423، فهاذه ثمانون عاماً، قضى منها سبعة عقود في القراءة والنظر والكتابة، وفي تحميج العيون في الليالي ذوات العدد على الكتب الصفراء (والتي هي بحق صانعة الرجال).
لقد كان شيخنا عبد الجليل بن عبد الحق الهاشمي بالعلم لصيقاً، وبالعربية حفياً، وللتراث عاشقاً ومحبا…
ما تقول في رجل نشأ في كنف أمه وأبيه، وجدته لأمه وجده لأبيه وجده لأمه، وكانوا أهل صلاح وتقوى، صوّامين قوّامين، تلاّئين للقرآن،…تعلم من جده لأبيه الفارسية والخط، وعلمه والده المحدث عبد الحق الهاشمي الصرف والنحو والمعاني والبيان، والشعر وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، وسمع منه سنن الدارقطني، وقرأ عليه الأم والرسالة للشافعي، وتفسير ابن كثير والطبري، ورأ عليه أيضاً بعض كتب العقائد والفقه…

وتروح أيام وتجيئ أيام…وأبو تراب يتقلب بين العديد من الأعمال والوظائف، ومع هاذا يظل بالكتاب لصيقاً؛ لا يدير وجهه عنه.
لقد ألقى شيخنا الدنيا خلف ظهره ودَبْرَ أذنيه، ولم يبال بإقبالها وإدبارها، وفرغ للعلم والمعرفة…وقد أعانه على أمره عقل فذ، ونفس متوثبة، وأشياء كثيرة مركوزة في الطبع، مذخورة في أصل الخلقة مما يصطفي الله بها خلقه من الأنبياء وأصحاب الرسالات وصنّاع الحضارات.

يكفي أن تلقي نظرة عابرة على إحدى كتب ومؤلفات أبي تراب (والتي تبلغ الخمسين) حتى تستشعر مدى خسارتنا الفادحة في رحيل هاذا المغوار…

حاول أن تتصفح كتاب (كبوات اليراع) - الذي من اسمه يدل على محتواه – لتوقن مقدار الجهد المبذول، والعناء المصروف ليعيدنا شيخنا إلى عهد أبي العلاء وأبي عبيد، والجاحظ، والخليل ومدرسة الكوفة والبصرة…
تفاجأ وأنت تقلب صفحات كتابه ( الموزون والمخزون) بقوله – على سبيل التحدي – في كلمة الإهداء:
(( إلى من أهدي كتابي هاذا..أهدي هاذه الكلمة الحيدرية:
أَلْصِقْ رَوانِفَكَ بالجَبُوبِ، وخُذِ المِزْبَرَ بشناترك، واجعلْ حُنْدُرْتَيْكَ إلى قَيْهَلي، حتى لا أَنْغي نُغْيَةً إلا أَودعتها بِحُماطةِ جُلْجُلانك…فهل وعيتموها أيها الأصحاب ؟ ))

لقد تعلق شيخنا منذ النأنأة بمدرسة الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم الظاهري، وكرع من تراثه حتى الثمالة، واستفاد من قوة حجته، بل وعمل بنصيحته عندما قال في رسالته (مراتب العلوم) ص83:
((وإن لم تمكن المرء الإحاطة بجميعها (يقصد المعارف بأنواعها) فليضرب بجميعها بسهم ما وإن قلّ))

قال أبو تراب الحزمي، أعظم الله أجره في وفاة شيخه:
والذي نفسي بيده لقد جاوز شيخنا القنطرة في جميع العلوم، فهو بحق نسيج وحده…وفي العلم بحرٌ لا تكدره الدلاء…

أقوال العلماء والأدباء في أبي تراب:
لأبي تراب – رحمه الله – حشدٌ من المعجبين والمحبين؛ فهاذا صديقه الشيخ عبد الله خياط –رحمه الله – يقول عنه في تقريظه لكتاب (شواهد القرآن)..
(( كم في الزمان من نوادر، ولست أعني نوادر الأشياء، أو نوادر الحوادث، أو نوادر التحف، أو غير ذالك مما يطلق عليه نادر، ولاكني أعني النادر من الرجال في زمنٍ قلّ فيه النوادر الأفذاذ الذين يرسمون الطريق فيُدلج الساري على ما يرسمون… بعد هاذه الفذلكة أو المقدمة أشير إلى النادر الذي أعنيه، والفقيه الذي يدور حديثي عنه، والأديب الذي برع في أدبه من طرازٍ آخر غير ما عهده الناس واصطحبوه من أدب عصريّ.
إنه الأستاذ (أبو تراب الظاهري) عفا الله عنه…)).

وينتهج المربي الكبير الشيخ عثمان الصالح طرائق قددا، ليعبر عن مدى حبه لأبي تراب فلا يجد إلا أن يقول:
((أيها الأديب الحَبْر، ويا أيها الحاذق الواعي في الشعر والنثر، أيها العميق في أدبنا، والعالم بلغتنا، والمنافح عنه بقلبه ولسانه، وفكره وجنانه، وفي ذالك أقول:
يصوغ (أبو تراب) جَمَّ تِبْرٍ به ازدانت مليحات الغواني
سهرتَ على صياغة كلّ لفظٍ (شواهده) صحيحات المباني……))

ويسطر الأديب الكبير الشاعر الظريف محمد مصطفى حمام رحمه الله كليمات عميقة الدلالة على ما يحمله أبو تراب من ينابيع تزخر بالعلم…فيقول عنه:
(( أخونا الأستاذ أبو تراب الظاهري له قدره عند الجميع عالما وكاتبا وشاعراً وباحثاً لغوياً…
وأبو تراب المحقق المدقق الذي يتعقب أوهام الكبار، والذي يقف من غلطات الكتّاب موقف شرطة من المخالفين للقوانين…))
وفي (تباريح التباريح) لشيخنا العلامة أبي عبد الرحمان ابن عقيل الظاهري وصفٌ بديع للقائه الأول مع شيخه أبي تراب فيقول:
((ولما عدمت المشارك [أي في علم ابن حزم] رحلت إلى الشيخ أبي تراب الظاهري في الحجاز، وكان صيته قد ملأ الآفاق، وكان قد قرّظني بكلمة إعجاب…وبعد طول التسآل عمدت إلى شقة أبي تراب في عمارة باعشن، فصادفت الظاهري يتوكأ على العكاز في السلالم مهدفاً إهداف النواعير!!.
إلا أن زيه زي عصري فليحته رسمية تلوح كالختم قد تَحَيَّفَها التهذيب.
وكان لباسه من أخمصه إلى قدمه لباساً أنيقاً، وكنت أحسبه من المعممين!!.
والتقينا ونسيت صورة اللقاء لشدة فرح الجانبين بلقاء الطرف الآخر، إلا أنه كان يتوقع أنني على سن أعلى من السن التي رآني عليها.
وكان صاحب مزاج لا يتفجر علمه في المجالس إلا في صفاء أريحيّ يخضع لحريته الإرادية، وكان لا يستحضر مذخور قراآته الكثيرة الكثيرة إلا بالمناسبات…))
قال أبو تراب الحزمي:
وبعد: فالكلام عن شيخنا أبي تراب الظاهري لن ينتهي بنهاية هاذه الكلمة، وسيظل هاذا الرجل أثراً ضخماً في ضمير هاذه الأمة: حراسة للعربية وذوداً عنها، وبصراً بها، وإضاءة لها…
فيا أبا تراب، أي علم باذخ طويت بموتك، وأي دليل هادٍ غاب برحيلك، وأي ضوء ساطع طفئ بغيابك، وأي حزن أسود نشب بالقلب بفقدك:
ما في الصحب أخو وجدٍ نطارحه حديث نجد ولا صب نجاريه

وكتب..محبك الذي لم يقع بصره على بصرك
أبو تراب الحزمي…عفا الله عنه وعن شيخيه: أبي تراب وأبي عبد الرحمان