الإيمان باليوم الآخر رؤية حضارية !!
لم يكن العلم الشرعي كجزء من أخص وأهم أجزاء الموروث المحمدي (= العلماء ورثة الأنبياء ) ورِث ليكون على هيئة تصورات عقلية محضة بعيدة عن عالم الواقع وصناعة الحياة ، فترى بعض من اشتغل بتحصيل العلم يحمل نفسة كلفة ومشقة بحفظ متون عديدة في فنون وسائلية ويجهد عقله وفكره في الغوص بجزئيات من المسائل العويصة التي هي إلى الألغاز أقرب ، وهو على هذا مهمل لمقصود العلم الشرعي المحمود في كونه أتى لصناعة حضارة الأمة عن طريق تجسيد المقولات التصورية بأفعال لها حقيقتها في الواقع تشكل بمجموعها حضارة شمولية تقوم بصناعة الحياة على نور إلهي يضيء للبشرية طريقها ويتمكن المسلمون بتحقيق الوعد الرباني بالاستخلاف والتمكين !!
وبالنظر الآني لواقع الحياة نرى احتداماً وتدافع على المستوى الحضاري قد دالت به الأيام لصالح الأمة الغربية بعد رحلة شاقة ومضنية على مستوى التصورات والنظر إلى الكون والإنسان والإله جعل نهاية مطافها إلى علمانية شاملة تندس المقدس وتؤله الطبيعة والإنسان (= كاتجاهين مختلفين سائدين في الغرب ) وتقضي بموت الإله المتخفي في سراديب الماوراء ، فنظرتها إلى الكون والحياة والإنسان محصورة على نطاق ما تدركه بحواسها كنتيجة لأعمال تجاربية أقيمت على مادة جامدة خامدة من الشعور والإرادة ؛ فانحطت بالكائن الإنساني الراقي بكلمة من الله وتكريمه له إلى مستوى مادي مصلحي مهول ، فأصبحت تنظر إليه (كذات) بمعايير دنيوية بحتة لا تتجاوز عالم الحواس مما جعله يكون كأي سلعه مادية خالية من التراكيب المعقدة ، وتنظر إلى علاقته بجنسه من منظور دارويني بحت يؤصل الصراع في العلاقة مع الآخر في حين لم تتحقق المصالح الدنيوية المادية كنظرة براجماتية تلغي القيم والمبادئ الإنسانية التي اكتسبها من تكريم الله ومن إيمانه بمصدر هذه القيم المتجاوز لعالم الحواس .
وفي هذا السياق تأتي حضارة هذه الأمة الخالدة من إيمانها باليوم الآخر المتجاوز للنطاق الدنيوي المادي الذي أكسب الإنسان تكريما إلهيا مغروسا في الفطرة (( ولقد كرمنا بني آدم ...)) فسرت فيه الحياة بروح من الله ترفعه إلى عالم سماوي نال فيه شرف الإنسانية بعيدا الدنيا وشهواتها ، ومن إيمانه بوحي من الله أكسبه قيما راسخة ومتجذرة ترفع من قيمته وتعلي منزلته وتجعل النظر إلى الذات الإنسانية وإلى علاقته مع غيره محكومة بوحي ومبادئ وفطر تجاوزت مصدريتها النطاق البشري المادي المصلحي إلى نطاق غيبي يرضخ فيه الإنسان ويسلم ، فعاش هذا المخلوق في ظل حضارة هذه الأمة مكرما ينظر إليه من منظار شرف الإنسانية ورقيها في حال توافق وانسجام بين الدنيا والآخرة ، وكان موجب ذلك هو الإيمان باليوم الآخر متى جسد واقعا في الحياة .
إن قيم هذا الدين الراسخة التي تتشكل في أذهاننا كأصول للدين وقواعد له ستظل حبيسة الكتب والأذهان متى باعدنا بينه وبين حياتنا الواقعية فأهملنا توظيفها توظيفا حضاريا يعيد لهذه الأمة عزتها وتمكينها على مستوى التصورات وعلى مستوى تجسيدها واقعا في الحياة تورث التمكين والاستخلاف (( وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة ...))
|